الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
27 - كِتَاب الْمُحْصَرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُحْصَرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْجَمِيعِ، وَذَكَرَ أَبُو ذَرٍّ أَبْوَابًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلِلْبَاقِينَ بَابٌ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أَيْ: وَتَفْسِيرُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} فَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَفِي اقْتِصَارِهِ عَلَى تَفْسِيرِ عَطَاءٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتَارَ الْقَوْلَ بِتَعْمِيمِ الْإِحْصَارِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ حَابِسٍ حَبَسَ الْحَاجَّ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى أَفْتَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا لُدِغَ بِأَنَّهُ مُحْصَرٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: الْحَصْرُ الْكَسْرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي سَنَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ. وَأَثَرِ عَطَاءٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ: الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ. وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي تَفْسِيرِ الثَّوْرِيِّ رِوَايَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ: فإنْ أُحْصِرْتُمْ، قَالَ: مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ حُبِسَ عَنِ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ يُجْهِدُهُ أَوْ عَدُوٍّ يَحْبِسُهُ فَعَلَيْهِ ذَبْحُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَجَّةً بَعْدَ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا حَصْرَ إِلَّا بِالْعَدُوِّ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ فَيَحِلُّ بِعُمْرَةٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِالْمَرَضِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالطَّرِيقِ كُسِرَتْ فَخِذِي، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ - وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالنَّاسُ - فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ فِي أَنْ أُحِلَّ، فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ وَسَمَّى الرَّجُلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ إِتْمَامَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَجَعَلَ التَّحَلُّلَ لِلْمُحْصَرِ رُخْصَةً، وَكَانَتِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ مَنْعِ الْعَدُوِّ فَلَمْ نَعْدُ بِالرُّخْصَةِ مَوْضِعَهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَصْرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ. أَخْرَجَهُ فِي بَابِ مَا يَفْعَلُ مَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَتْ: لَا أَعْلَمُ الْمُحْرِمَ يُحِلُّ بِشَيْءٍ دُونَ الْبَيْتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ: لَا إِحْصَارَ الْيَوْمَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ - مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ السِّكِّيتِ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ - أَنَّ الْإِحْصَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَرَضِ، وَأَمَّا بِالْعَدُوِّ فَهُوَ الْحَصْرُ، وَبِهَذَا قَطَعَ النَّحَّاسُ، وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُحْصِرَ وَحُصِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ فِي جَمِيعِ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّصَرُّفِ، قَالَ تَعَالَى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ مَنْعِ الْعَدُوِّ إِيَّاهُمْ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَحُجَّتُهُمْ فِي أَنْ لَا إِحْصَارَ إِلَّا بِالْعَدُوِّ اتِّفَاقُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَيْتِ، فَسَمَّى اللَّهُ صَدَّ الْعَدُوِّ إِحْصَارًا، وَحُجَّةُ الْآخَرِينَ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: حَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ) هَكَذَا ثَبَتَ هَذَا التَّفْسِيرُ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي خَاصَّةً، وَنَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ مَعَانِيَ أُخْرَى فَذَكَرَهَا، وَهُوَ بِمَعْنَى مَحْصُورٍ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِمَّا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَثِيرًا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْمَادَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْجَامِعَ بَيْنَ مَعَانِيهَا الْمَنْعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 - بَاب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
1806 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.
1807 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى وَكَانَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ"
1808 -
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا
1809 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا"
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ) قِيلَ: غَرَضُ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: التَّحَلُّلُ بِالْإِحْصَارِ خَاصٌّ بِالْحَاجِّ بِخِلَافِ الْمُعْتَمِرِ؛ فَلَا يَتَحَلَّلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ، فَلَا يُخْشَى فَوَاتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِمَا أَخْرَجَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مُعْتَمِرًا، فَوَقَعْتُ عَنْ رَاحِلَتِي فَانْكَسَرْتُ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ فَقَالَا: لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ كَالْحَجِّ، يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ.
قَوْلُهُ: (أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ) هَذَا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، لَكِنَّ رِوَايَةَ جُوَيْرِيَةَ الَّتِي بَعْدَهُ تَقْتَضِي أَنَّ نَافِعًا حَمَلَ ذَلِكَ عَنْ سَالِمٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِمَا حَيْثُ قَالَ فِيهَا: عَنْ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ، هَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو يَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُمَا، وَتَابَعَهُمْ مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِنَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ عَقَّبَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بِرِوَايَةِ مُوسَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى هُنَا عَلَى الْإِسْنَادِ، وَسَاقَهُ فِي الْمَغَازِي بِتَمَامِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى القَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أخرجه مسلم، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى مُخْتَصَرًا، قَالَ فِيهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَهَلَّ فَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ.
وَفِي قَوْلِهِ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ نَافِعٍ، وَابْنِ عُمَرَ فِيهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلُ سِيَاقِ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ سَوَاءً، وَأَخْرَجَهُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، وَاللَّيْثِ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، وَأَعْرَضَ مُسْلِمٌ عَنْ تَخْرِيجِ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ، وَوَافَقَ عَلَى طَرِيقِ تَخْرِيجِ اللَّيْثِ، وَأَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَقْدِي أَنَّ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَا نَافِعًا بِمَا كَلَّمَا بِهِ أَبَاهُمَا وَأَشَارَا عَلَيْهِ بِهِ مِنَ التَّأْخِيرِ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْقِصَّةِ فَشَاهَدَهَا نَافِعٌ وَسَمِعَهَا مِنَ ابْنِ عُمَرَ لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ مَوْصُولٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ نَافِعٌ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ عُرِفَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا وَهِيَ وَلَدَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ. وَهُمَا ثِقَتَانِ لَا مَطْعَنَ فِيهِمَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ الْمَذْكُورَةِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ الْمَذْكُورَةِ عَبْدُ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي مُكَبَّرًا - أَصَحُّ. قُلْتُ: وَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَلَّمَ أَبَاهُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ نَافِعًا حَضَرَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكَبَّرِ مَعَ أَخِيهِ سَالِمٍ وَلَمْ يَحْضُرْ كَلَامَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُصَغَّرِ مَعَ أَخِيهِ سَالِمٍ أَيْضًا، بَلْ أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، فَقَصَّ عَنْ كُلٍّ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُهُ.
قَوْلُهُ: (مُعْتَمِرًا) فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْحَجَّ. فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ فَذَكَرَهُ، وَلَا اخْتِلَافَ، فَإِنَّهُ خَرَجَ أَوَّلًا يُرِيدُ الْحَجَّ فَلَمَّا ذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الْفِتْنَةِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُهُمَا إِلَّا وَاحِدًا. فَأَضَافَ إِلَيْهَا الْحَجَّ فَصَارَ قَارِنًا.
قَوْلُهُ: (فِي الْفِتْنَةِ) بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ فَقَالَ: لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ. وَلِمُسْلِمٍ رِوَايَةٌ فِي
يَحْيَى الْقَطَّانِ الْمَذْكُورَةِ حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنِ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ الْحَجَّ عَامَ حَجَّ الْحَرُورِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ) هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ جَوَابًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَهُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، كَمَا أَوْضَحَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، إِذَنْ اصْنَع كَمَا صَنَعَ. زَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ فِي بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ: كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ.
قَوْلُهُ: (فَأَهَلَّ) يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْإِهْلَالِ وَالتَّلْبِيَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ). قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ وَأُحْصِرْتُ تَحَلَّلْتُ مِنَ الْعُمْرَةِ كَمَا تَحَلَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعُمْرَةِ. وَقَالَ: عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعُمْرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ، أَيْ: مِنَ الْإِهْلَالِ وَالْإِحْلَالِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَرْدُودٍ.
قَوْلُهُ: (بِعُمْرَةٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَاضِيَةِ: فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الْمَنْزِلُ الَّذِي نَزَلَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الدَّارِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ دَاخِلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ أَعْلَنَ بِهَا وَأَظْهَرَهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ.
قَوْلُهُ: (عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ بَابَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ - عَنْ مَالِكٍ، فَزَادَ فِيهِ: ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أَيِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْصَارِ وَالْإِحْلَالِ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ سَاعَةً، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ الْمَاضِي فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّارِ الْمَنْزِلُ الَّذِي نَزَلَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ. وَلَوْ كَانَ إِيجَابُهُ الْعُمْرَةَ مِنْ دَارِهِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ ظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ.
قَوْلُهُ في رواية جويرية: (فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى دخل يَوْمَ النَّحْرِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: فَنَحَرَ وَحَلَقَ وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِطَوَافِ الْقُدُومِ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ) أَيْ: أَلْزَمْتُ نَفْسِي ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ مَنْ يُرِيدُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَإِلَّا فَالتَّلَفُّظُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) أَيِ: الْبَيْتُ - أَيْ: مُنِعْتُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ لِأَطُوفَ - تَحَلَّلْتُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ يَعْنِي: الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فِي جَوَازِ التَّحَلُّلِ مِنْهُمَا بِالْإِحْصَارِ، أَوْ فِي إِمْكَانِ الْإِحْصَارِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ إِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَجِّ، فَكَأَنَّهُ رَأَى أَوَّلًا أَنَّ الْإِحْصَارَ عَنِ الْحَجِّ أَشَدُّ مِنَ الْإِحْصَارِ عَنِ الْعُمْرَةِ لِطُولِ زَمَنِ الْحَجِّ وَكَثْرَةِ أَعْمَالِهِ، فَاخْتَارَ الْإِهْلَالَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْإِحْصَارَ بِالْحَجِّ يُفِيدُ التَّحَلُّلَ عَنْهُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقِيَاسَ وَيَحْتَجُّونَ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ بِأَنْ مَنْعَهُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي نُسُكِهِ
حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ بِأَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَحْلِقَ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرَ مِنْهُ. وَفِيهِ جَوَازُ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لَكِنَّ شَرْطَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ صَحَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ تَمَامِ الطَّوَافِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَذَّ فَمَنَعَ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِنَ يَقْتَصِرُ عَلَى طَوَافٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِنَ يُهْدِي، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْخُرُوجِ إِلَى النُّسُكِ فِي الطَّرِيقِ الْمَظْنُونِ خَوْفُهُ إِذَا رَجَى السَّلَامَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ: (أنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ) قَدْ تَقَدَّمَ اسْمُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مَنِ الَّذِي تَوَلَّى مُخَاطَبَتَهُ مِنْهُمْ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ فِي آخِرِ قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ زِيَادَةٌ، وَهِيَ: وَأَهْدَى شَاةً قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هِيَ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُفَسِّرُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بِأَنَّهُ بَدَنَةٌ دُونَ بَدَنَةٍ، أَوْ بَقَرَةٌ دُونَ بَقَرَةٍ، فَكَيْفَ يُهْدِي شَاةً.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْبَابِ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، فَجَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، وَذَكَرَ الْكَلَابَاذِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلٍ عَتِيقٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ وُجِدَ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْمَذْكُورِ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ، وَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ فِي بَابِ الذَّبْحِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيَّ، فَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَهُوَ يَقْتَضِي سَبْقَ كَلَامٍ يَعْقُبُهُ قَوْلُهُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا بَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ؛ لِأَنَّهُمَا اقْتَصَرَا مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ بَحَثْتُ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَسَّرَ اللَّهُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ، فَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لِابْنِ السَّكَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا الصَّغَانِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَحَدُ شُيُوخِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عِكْرِمَةَ، فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ عَمَّنْ حُبِسَ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَرِجَ أَوْ كُسِرَ أَوْ حُبِسَ فَلْيُجْزِئْ مِثْلَهَا وَهُوَ فِي حِلٍّ.
قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَحَدَّثْتُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا، فَعُرِفَ بِهَذَا السِّيَاقِ الْقَدْرُ الَّذِي حَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالسَّبَبُ فِي حَذْفِهِ أَنَّ الزَّائِدَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَعَ كَوْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بِهِ، وَقَالَ فِي آخَرِهِ: قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا صَدَقَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ فِي سِيَاقِهِ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَتَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى زِيَادَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا، يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ، يَقُولُ: رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، وَمُعَاوِيَةَ أَصَحُّ، انْتَهَى. فَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَرْطِ كِتَابِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي حَذَفَهُ لَيْسَ بَعِيدًا مِنَ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عِكْرِمَةُ سَمِعَهُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمَا
- وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ - ثِقَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ وَبِغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ
1810 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ:، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِحْصَارَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْعُمْرَةِ، فَقَاسَ الْعُلَمَاءُ الْحَجَّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَقْيِسَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ قِيَاسُ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْإِحْصَارُ وَهُوَ حَاجٌّ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ فِي الِاعْتِمَارِ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْإِحْصَارُ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَبِمَا بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ
(1)
لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ حَاجٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَقَدْ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنْ قَالَ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، نَحْوَهُ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ يُونُسَ، وَتَارَةً عَنْ مَعْمَرٍ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُعَلَّقٍ كَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ وَيَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَغَيْرِهِ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ عَنْهُ عَنْ مَعْمَرٍ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ الِاشْتِرَاطَ فَثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ، فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ السَّرَّاجِ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَأَشَارَ ابْنُ عُمَرَ بِإِنْكَارِ الِاشْتِرَاطِ إِلَى مَا كَانَ يُفْتِي بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَوْ بَلَغَ ابْنَ عُمَرَ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ فِي الِاشْتِرَاطِ لَقَالَ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: أَمَا تُرِيدِينَ الْحَجَّ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي شَاكِيَةٌ. فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ عُرْوَةَ لَمْ أَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ عِنْدِي خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
(1)
في هامش طبعة بولاق: كذا بالنسخ، ولعل الأولى حذف "لم".
قَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَوْصُولًا بِذِكْرِ عَائِشَةَ فِيهِ، وَقَالَ: وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَهُوَ ثِقَةٌ. قَالَ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَمَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ. قُلْتُ: وَطَرِيقُ أَبِي أُسَامَةَ أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا فِي الْحَجِّ، بَلْ حَذَفَ مِنْهُ ذِكْرَ الِاشْتِرَاطِ أَصْلًا إِثْبَاتًا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَنَفْيًا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْبَيْهَقِيُّ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَالزُّهْرِيِّ فَرَّقَهُمَا، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَلِقِصَّةِ ضُبَاعَةَ شَوَاهِدُ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَلِّبِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ - أَيْ: فِي الضَّعْفِ -، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي. قَالَ: فَأَدْرَكَتْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. قُلْتُ: وَعَنْ ضُبَاعَةَ نَفْسِهَا، وَعَنْ سُعْدَى بِنْتِ عَوْفٍ وَأَسَانِيدُهَا كُلُّهَا قَوِيَّةٌ. وَصَحَّ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاطِ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ إِنْكَارُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنِ الْأَصِيلِيِّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ فِي الِاشْتِرَاطِ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَسْنَدَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مَعْمَرٍ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ صَحِيحٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، انْتَهَى.
وَقَوْلُ النَّسَائِيِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْعِيفُ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرٌ فَضْلًا عَنْ بَقِيَّةِ الطُّرُقُ؛ لِأَنَّ مَعْمَرًا ثِقَةٌ حَافِظٌ فَلَا يَضُرُّهُ التَّفَرُّدُ، كَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ لِمَا رَوَاهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: (أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ) قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطْنَاهُ سُنَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: تَمَسَّكُوا وَشَبَهُهُ. وَخَبَرُ حَسْبُكُمْ فِي قَوْلِهِ: طَافَ بِالْبَيْتِ وَيَصِحُّ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّ سُنَّةً خَبَرُ حَسْبُكُمْ، أَوِ الْفَاعِلُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِيهِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا تَفْسِيرًا لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: مَنْ نَصَبَ سُنَّةً فَإِنَّهُ بِإِضْمَارِ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: إِنْ حَبَسَ أَحَدًا مِنْكُمْ حَابِسٌ عَنِ الْبَيْتِ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ طَافَ بِهِ، الْحَدِيثَ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنَ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا مَشْرُوعِيَّتُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهِ، فَقِيلَ: وَاجِبٌ؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَهُوَ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ. وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَغَلِطَ مَنْ حَكَى عَنْهُ إِنْكَارَهُ، وَقِيلَ: جَائِزٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ فِي الْجَدِيدِ فَصَارَ الصَّحِيحُ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا مَشْرُوعِيَّةَ الِاشْتِرَاطِ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِضُبَاعَةَ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْتُ إِذَا أَدْرَكَتْنِي الْوَفَاةُ انْقَطَعَ إِحْرَامِي. حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّرْطَ خَاصٌّ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ لَا مِنَ الْحَجِّ. حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَقِصَّةُ ضُبَاعَةَ تَرُدُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ سِيَاقِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ حَزْمٍ فِي التَّعَقُّبِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الِاشْتِرَاطَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ فِي الِاشْتِرَاطِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - بَاب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ
1811 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ.
1812 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ، قَالَ: وَحَدَّثَ نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ، وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمِسْوَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الشُّرُوطِ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَلَفْظُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَدِيثِ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا. فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، فَخَرَجَ فَنَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ هُنَا بِالْمَعْنَى، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: فِي الْحَصْرِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ يَخْتَصُّ بِحَالِ مَنْ أُحْصِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فِي بَابِ إِذَا رَمَى بَعْدَمَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي قَبْلُ بِبَابٍ مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ: فَنَحَرَ بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَدْرٍ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ - وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَيَالِيَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَا: لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ، إِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَقَالَ: خَرَجْنَا. فَذَكَرَ مِثْلَ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ رَجَعَ، وَكَذَا سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَدْرٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ، وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي بَدْرٍ أَيْضًا، فَقَالَ فِيهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ فِيهِ حُكْمٌ وَسَبَبٌ، فَالسَّبَبُ الْحَصْرُ، وَالْحُكْمُ النَّحْرُ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ
وَقَالَ رَوْحٌ: عَنْ شِبْلٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ.
1813 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ. ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئ عَنْهُ، وَأَهْدَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، أَيْ: قَضَاءٌ لِمَا أَحُصِرَ فِيهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَوْحٌ) يَعْنِي: ابْنَ عُبَادَةَ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ رَوْحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُرَادُهُ بِالتَّلَذُّذِ وَهُوَ بِمُعْجَمَتَيْنِ الْجِمَاعُ. وَقَوْلُهُ: حَبَسَهُ عُذْرٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ حَبَسَهُ عَدُوٌّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَاوٌ. وَقَوْلُهُ: أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ أَيْ: مِنْ مَرَضٍ أَوْ نَفَادِ نَفَقَةٍ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا بِإِسْنَادٍ آخَرَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَفِيهِ فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ هَذِهِ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَذْبَحُ الْمُحْصَرُ الْهَدْيَ حَيْثُ يَحِلُّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَذْبَحُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَفَصَّلَ آخَرُونَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُنَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هَلْ نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: لَمْ يَنْحَرْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَوَافَقَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي: إِنَّمَا نَحَرَ فِي الْحِلِّ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ نَحَرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقُوا، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَلَقُوا فِي الْحِلِّ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَا حَلَقُوا فِي الْحَرَمِ لِمَنْعِهِمْ مِنْ دُخُولِهِ أَنْ لَا يَكُونُوا أَرْسَلُوا الْهَدْيَ مَعَ مَنْ نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْ مَعِي بِالْهَدْيِ حَتَّى أَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، فَفَعَلَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ، عَنْ نَاجِيَةَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْرَائِيلَ، لَكِنْ قَالَ: عَنْ نَاجِيَةَ عَنْ أَبِيهِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ هَذَا وُجُوبُهُ، بَلْ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ نَحَرَ فِي مَكَانِهِ وَكَانُوا فِي الْحِلِّ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ) هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرُوا الْهَدْيَ وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ، ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ. وَسُئِلَ مَالِكٌ
عَمَّنْ
أَحُصِرَ بِعَدُوٍّ فَقَالَ: يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ حَيْثُ حُبِسَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَنَى بِهِ الشَّافِعِيَّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِهِ: وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجُ الْحَرَمِ هُوَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ، وَعَنْهُ أَنَّ بَعْضَهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضَهَا فِي الْحَرَمِ، لَكِنْ إِنَّمَا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِلِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قَالَ: وَمَحِلُّ الْهَدْيِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْحَرَمُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَحَيْثُمَا أُحْصِرَ ذَبَحَ وَحَلَّ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَالَّذِي أَعْقِلُهُ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْمَغَازِي شَبِيهٌ بِمَا ذَكَرْتُ لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ مُتَوَاطِئِ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَلَوْ لَزِمَهُمُ الْقَضَاءُ لَأَمَرَهُمْ بِأَنْ لَا يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قُتِلَ بِخَيْبَرَ أَوْ مَاتَ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مُعْتَمِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدِ الْحُدَيْبِيَةَ وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَلْفَيْنِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا إِنْ صَحَّ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَازِمٌ بِأَنَّ جَمَاعَةً تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ قَضَاءً، وَلَكِنْ كَانَ شَرْطًا عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يَعْتَمِرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قَابِلٍ فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ طَافَ لَهُمَا) أَيْ: لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّهُ يَجِبُ لَهُمَا طَوَافَانِ.
قَوْلُهُ: (وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَنَّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: مُجْزِيًا فَقِيلَ: هُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْصِبُ بِـ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ، أَوْ هِيَ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ الْكَاتِبِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمُوَطَّأِ اتَّفَقُوا عَلَى رِوَايَتِهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّوَابِ.
5 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَهُوَ مُخَيَّرٌ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
1814 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ.
[الحديث 1814 - أطرافه في: 1815، 1816، 1817، 1818، 4159، 4190، 4191، 4517، 5665، 5703، 6808]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَهُوَ مُخَيَّرٌ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) أَيْ: بَابُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَا، وَقَوْلُهُ: مُخَيَّرٌ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَوْ الْمُكَرَّرَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ بَابِ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ فَقَالَ: وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ، وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ وَصَلَ هَذِهِ الْآثَارَ هُنَاكَ، وَأَقْرَبُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى التَّصْرِيحِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً، وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بِإِسْنَادِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الصَّوْمُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الصِّيَامُ، وَالصِّيَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بِالثَّلَاثِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: جَعَلَ الشَّارِعُ هُنَا صَوْمَ يَوْمٍ مُعَادَلًا بِصَاعٍ، وَفِي الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَدْلُ مُدٍّ، وَكَذَا فِي الظِّهَارِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ، وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ وَثُلُثٍ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ وَالتَّقْدِيرَاتِ. وَقَسِيمُ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الصَّوْمُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَقَدْ أَفْرَدَ ذَلِكَ بِتَرْجَمَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ) فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الموطآت.
قَوْلُهُ: (مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) صَرَّحَ سَيْفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِسَمَاعِهِ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَبِأَنَّ كَعْبًا حَدَّثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ هَذِهِ: كَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ عُفَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. قُلْتُ: وَلِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادَانِ آخَرَانِ فِي الْمُوَطَّأِ أَحَدُهُمَا عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَفِي سِيَاقِهِ مَا لَيْسَ فِي سِيَاقِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ أَصْحَابُ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَمْ يَذْكُرُوا مُجَاهِدًا، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَالِكًا وَهَمَ فِيهِ.
وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنَ وَهْبٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَتَابَعَهُمَا جَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَثْبَتُوا مُجَاهِدًا بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَرُدُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ. وَطَرِيقُ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَطَرِيقُ ابْنُ وَهْبٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَطَرِيقُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَسَائِرُهَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ. وَالْإِسْنَادُ الثَّالِثُ لِمَالِكٍ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ قَالَ: حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي الْفِدْيَةِ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا لَمْ يَرْوِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُهُ، وَلَا رَوَاهَا عَنْهُ إِلَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ مَعْقِلٍ. قَالَ: وَهِيَ سُنَّةٌ أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: سَأَلْتُ عَنْهَا عُلَمَاءَنَا كُلَّهُمْ، حَتَّى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، فَلَمْ يُبَيِّنُوا كَمْ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ. قُلْتُ: فِيمَا أَطْلَقَهُ ابْنُ صَالِحٍ نَظَرٌ، فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَ كَعْبٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَفَضَالَةُ الْأَنْصَارِيُّ عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ مِنْ قَوْمِهِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ أَيْضًا.
وَرَوَاهُ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ - أَبُو وَائِلٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَطَاءٌ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ.
وَجَاءَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالشَّعْبِيِّ أَيْضًا عَنْ كَعْبٍ وَرِوَايَتُهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً؛ وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَعْبٍ هَذَا فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي وَالطِّبِّ وَكَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، مَدَارُ الْجَمِيعِ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ مَعْقِلٍ، فَيُقَيَّدُ إِطْلَاقُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي وَائِلٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ) فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ
أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ فَآذَاهُ الْقَمْلُ وَفِي رِوَايَةِ سَيْفٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ. الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ أَهَلَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ
(1)
أَنَّهُ لَقِيَهُ وَهُوَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْمَغَازِي: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى رَأْسِي، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْكَفَّارَاتِ: فَقَالَ: ادْنُ. فَدَنَوْتُ. فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَقَدْ حَصَرَنَا الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ، فَجَعَلَتِ الْهَوَامُّ تَتَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ كَعْبٍ: أَحْرَمْتُ فَكَثُرَ قَمْلُ رَأْسِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَانِي وَأَنَا أَطْبُخُ قِدْرًا لِأَصْحَابِي. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بَعْدَ بَابَيْنِ: رَآهُ وَإِنَّهُ لَيَسْقُطُ الْقَمْلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلِأَحْمَدَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ: قَمِلْتُ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ كُلَّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِي فِيهَا الْقَمْلُ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا زَادَ سَعِيدٌ: وَكُنْتُ حَسَنَ الشَّعْرِ، وَأَوَّلُ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ بَعْدَ بَابٍ جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} الْآيَةَ.
وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَقَعَ الْقَمْلُ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي حَتَّى حَاجِبَيَّ وَشَارِبِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَدَعَانِي، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: لَقَدْ أَصَابَكَ بَلَاءٌ، وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، ادْعُ إِلَيَّ الْحَجَّامَ، فَحَلَقَنِي.
وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبٍ: أَصَابَتْنِي هَوَامٌّ حَتَّى تَخَوَّفْتُ عَلَى بَصَرِي. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ كَعْبٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: فَحَكَّ رَأْسِي بِأُصْبُعِهِ فَانْتَثَرَ مِنْهُ الْقَمْلُ زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ: إِنَّ هَذَا لَأَذًى. قُلْتُ: شَدِيدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ فَرَآهُ، وَفِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَرَآهُ أَنْ يُقَالَ: مَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَرَآهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ فَاسْتَدْعَى بِهِ إِلَيْهِ فَخَاطَبَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِحَضْرَتِهِ، فَنَقَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَنْقُلْهُ الْآخَرُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ السَّابِقَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: فَقَالَ: ادْنُ. فَدَنَوْتُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْنَاءَ كَانَ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ إِذْ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ.
قَوْلُهُ: (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا سُؤَالٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِالْمَشَقَّةِ الَّتِي نَالَتْهُ خَفَّفَ عَنْهُ.
وَالْهَوَامُّ - بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ -: جَمْعُ هَامَّةٍ، وَهِيَ مَا يَدِبُّ مِنَ الْأَخْشَاشِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يُلَازِمُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ غَالِبًا إِذَا طَالَ عَهْدُهُ بِالتَّنْظِيفِ، وَقَدْ عُيِّنَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا الْقَمْلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى قَتْلِ الْقَمْلِ، وَتُعُقِّبَ بِذِكْرِ الْحَلْقِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِدْيَةَ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهِ، وَهُمَا وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ حَلَقَ وَلَمْ يَقْتُلْ قَمْلًا.
قَوْلُهُ: (احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ) قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إِلْحَاقِ الْإِزَالَةِ بِالْحَلْقِ سَوَاءٌ كَانَ
(1)
في هامش طبعة بولاق: في بعض النسخ"عند الطبراني"
بِمُوسَى أَوْ مِقَصٍّ أَوْ نُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَأَخْرَجَ النَّتْفَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يُلْحَقُ جَمِيعُ الْإِزَالَاتِ بِالْحَلْقِ إِلَّا النَّتْفَ.
قَوْلُهُ: (أَوْ أَطْعِمْ) لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيَانُ قَدْرِ الْإِطْعَامِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَاةً بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ، وَالْأَوَّلُ تَقْدِيرُهُ: تَقَرَّبْ بِشَاةٍ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَالثَّانِي تَقْدِيرُهُ: اذْبَحْ شَاةً. وَالنُّسُكُ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى الذَّبْحِ الْمَخْصُوصِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ الْبَابِ مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ صَرِيحَةٌ فِي التَّخْيِيرِ، حَيْثُ قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجَزَأَ.
وَكَذَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا: إِنْ شِئْتَ وَإِنْ شِئْتَ وَوَافَقَتْهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَخْرَجَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ، لَكِنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ - الْآتِيَةَ بَعْدَ بَابٍ - تَقْتَضِي أَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النُّسُكَ وَلَفْظُهُ: قَالَ: أَتَجِدُ شَاةً؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَصُمْ أَوْ أَطْعِمْ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَمَعَكَ دَمٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَنَحْوُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ كَعْبٍ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا أَجِدُ هَدْيًا: قَالَ: فَأَطْعِمْ. قَالَ: مَا أَجِدُ. قَالَ: صُمْ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ نُسُكًا لَا يَصُومُ، يَعْنِي: وَلَا يُطْعِمُ، لَكِنْ لَا أَعْرِفُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: النُّسُكُ شَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَتِ الشَّاةُ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمُ طَعَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ قَالَ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ مِثْلَهُ. فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى تَرْجِيحِ التَّرْتِيبِ لَا لِإِيجَابِهِ. وَمِنْهَا: مَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الصِّيَامَ أَوِ الْإِطْعَامَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا لِفَاقِدِ الْهَدْيِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ اسْتَخْبَرَهُ: هَلْ مَعَهُ هَدْيٌ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ وَاجِدَهُ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا. وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُؤَالِهِ عَنْ وِجْدَانِ الذَّبْحِ تَعْيِينُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَجِدُهُ لَأَخْبَرَهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَ غَيْرُهُمَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ بِسَبَبِ الْأَذَى أَفْتَاهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ بِالذَّبْحِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ نَزَلَتِ الْآيَةُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الذَّبْحِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَخَيَّرَهُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا ذَبْحَ مَعَهُ، فَصَامَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يُطْعِمُهُ.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ: أَتَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَقَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ. وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ قَالَ: وَكَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَنْسُكُ بِهِ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِهِ، بَلِ السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ خُوطِبُوا شِفَاهًا بِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى الذَّبْحِ وَالْإِطْعَامِ. وَعُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ كَعْبًا افْتَدَى بِالصِّيَامِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ افْتَدَى بِالذَّبْحِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ: صُمْ أَوْ أَطْعِمْ أَوِ انْسُكْ شَاةً. قَالَ: فَحَلَقْتُ رَأْسِي وَنَسَكْتُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عَطَاءِ عن كَعْبٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خِرْ لِي. قَالَ: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الْأَخِيرِ، وَفِيهِ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
6 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ صَدَقَةٍ} وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
1815 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا، فَقَالَ: يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، أَوْ قَالَ: احْلِقْ. قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {أَوْ صَدَقَةٍ} وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ) يُشِيرُ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْآيَةِ مُبْهَمَةٌ فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الصَّوْمُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَيْفٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ أَوِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ: (يَتَهَافَتُ) بِالْفَاءِ، أَيْ: يَتَسَاقَطُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
قَوْلُهُ: (فَاحْلِقْ رَأْسَكَ أَوِ احْلِقْ) بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ: (بِفَرَقٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَلَامُ الْعَرَبِ بِالْفَتْحِ، وَالْمُحَدِّثُونَ قَدْ يُسَكِّنُونَهُ، وَآخِرُهُ قَافٌ: مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ اقْتَضَى أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ.
قَوْلُهُ: (أَوْ نُسُكٍ مِمَّا تَيَسَّرَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ: أَوِ انْسُكْ بِنُسُكٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّبْحُ.
7 - بَاب الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ
1816 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ) أَيْ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيُّونَ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ وَصَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ تُضَاهِي قَوْلَهُمْ. قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَرَّ فِي الْجَنَائِزِ، وَأَنَّهُ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ. وَلِشُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ
حَفْصِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ، أَخْرَجَهُ عَنْ عَفَّانَ. وَعَنْ بَهْزٍ فَرَّقَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ - هُوَ ابْنُ مُقَرِّنٍ (بِالْقَافِ) وَزْنَ مُحَمَّدٍ لَكِنْ بِكَسْرِ الرَّاءِ، لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، يَلْتَبِسُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَزْنُ مُحَمَّدٍ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُزَنِيٌّ، لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ كَعْبٍ تَابِعِيٌّ، وَالْآخَرَ صَحَابِيٌّ، وَفِي التَّابِعِينَ مَنِ اتَّفَقَ مَعَ الرَّاوِي عَنْ كَعْبٍ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمْ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مُحَارِبِيٌّ، وَالْآخَرُ يَرْوِي عَنْ أَنَسٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالثَّالِثُ أَصْغَرُ مِنْهُمَا، أَخْرَجَ لَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
قَوْلُهُ: (جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ. وَلِأَحْمَدَ، عَنْ بَهْزٍ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ يَعْنِي: مَسْجِدَ الْكُوفَةِ. وَفِيهِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَمُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ، وَالِاعْتِنَاءُ بِسَبَبِ النُّزُولِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ يَبْلُغُ بِكَ وَأَرَى الْأُولَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ: أَظُنُّ، وَأَرَى الثَّانِيَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، هَلْ قَالَ: الْوَجَعَ أَوِ الْجَهْدَ؟ وَالْجَهْدُ - بِالْفَتْحِ -: الْمَشَقَّةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالضَّمُّ لُغَةٌ فِي الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، وَكَذَا حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، فَيَتَعَيَّنُ الْفَتْحُ هُنَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْجَهْدِ الْمَاضِي فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ حَيْثُ قَالَ: حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: لَا) زَادَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ) كَرَّرَهَا مَرَّتَيْنِ
(1)
، وَلِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ وَلِأَحْمَدَ، عَنْ بَهْزٍ، عَنْ شُعْبَةَ: نِصْفَ صَاعِ طَعَامٍ وَلِبِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ: نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ، وَرِوَايَةُ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تَقْتَضِي أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يُطْعِمُ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ إِحْدَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: الْمَحْفُوظُ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَالِاخْتِلَافُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ تَمْرًا أَوْ حِنْطَةً لَعَلَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَلَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْمَغَازِي لَا فِي الْأَحْكَامِ إِذَا خَالَفَ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ التَّمْرِ، فَقَدْ وَقَعَ الْجَزْمُ بِهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، وَدَاوُدَ عن الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعُرِفَ بِذَلِكَ قُوَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ
(1)
في طبعة بولاق: كذا في نسخ الشرح التي بأيدينا، وليس في نسخ البخاري التي وقفنا عليها تكرار، وفي القسطلاني ما نصه" زاد مسلم نصف صاع كررها مرتين"
سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ فِيهِ: قَالَ سُفْيَانُ: وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْفَرَقِ مُدْرَجٌ، لَكِنَّهُ مُقْتَضَى الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ، فَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا: أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ: أَوْ يُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ فَهُوَ تَحْرِيفٌ مِمَّنْ دُونَ مُسْلِمٍ، وَالصَّوَابُ مَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ لِكُلِّ مِسْكِينَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَلَى الصَّوَابِ.
8 - بَاب النُّسْكُ شَاةٌ
1817 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
1818 -
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ، مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: النُّسُكُ شَاةٌ) أَيِ: النُّسُكُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: {أَوْ نُسُكٍ} وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ كَعْبٍ: أَمَرَنِي أَنْ أَحْلِقَ وَأَفْتَدِيَ بِشَاةٍ. قَالَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَبِي عُمَرَ: كُلُّ مَنْ ذَكَرَ النُّسُكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا فَإِنَّمَا ذَكَرُوا شَاةً، وَهُوَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
قُلْتُ: يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ أَصَابَهُ أَذًى فَحَلَقَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهْدِيَ بَقَرَةً وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَلَقَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رَأْسَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْتَدِيَ، فَافْتَدَى بِبَقَرَةٍ وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: افْتَدَى كَعْبٌ مِنْ أَذًى كَانَ بِرَأْسِهِ فَحَلَقَهُ بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قِيلَ لِابْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: مَا صَنَعَ أَبُوكَ حِينَ أَصَابَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ؟ قَالَ: ذَبَحَ بَقَرَةً، فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُورُ عَلَى نَافِعٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي الْوَاسِطَةِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ وَقَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهَا مِنْ أَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ كَعْبٌ وَفَعَلَهُ فِي النُّسُكِ إِنَّمَا هُوَ شَاةٌ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ ذَبَحَ شَاةً لَأَذًى كَانَ أَصَابَهُ وَهَذَا أَصْوَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، فَقَالَ: أَخَذَ كَعْبٌ بِأَرْفَعِ الْكَفَّارَاتِ، وَلَمْ يُخَالِفِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ ذَبْحِ شَاةٍ، بَلْ وَافَقَ
وَزَادَ. فَفِيهِ أَنَّ مَنْ أُفْتِيَ بِأَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَرْفَعِهَا كَمَا فَعَلَ كَعْبٌ. قُلْتُ: هُوَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَثْبُتْ؛ لِمَا قَدَّمْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَرَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، وَشِبْلٌ هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ.
قَوْلُهُ: (رَآهُ وَأنَّهُ يَسْقُطُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِابْنِ السَّكَنِ، وَأَبِي ذَرٍّ لَيَسْقُطُ بِزِيَادَةِ لَامٍ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُرَادُ الْقَمْلُ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ رَوْحٍ بِلَفْظِ: رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلٍ رَأَى قَمْلَهُ يَتَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِهِ
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ. . . إِلَخْ) هَذِهِ الزِّيَادَةُ ذَكَرَهَا الرَّاوِي لِبَيَانِ أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ اسْتِبَاحَةَ مَحْظُورٍ بِسَبَبِ الْأَذَى، لَا لِقَصْدِ التَّحَلُّلِ بِالْحَصْرِ، وَهُوَ وَاضِحٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى رَجَاءٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَيْأَسَ مِنَ الْوُصُولِ فَيَحِلَّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ يَئِسَ مِنَ الْوُصُولِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ فَتَمَادَى عَلَى إِحْرَامِهِ ثُمَّ أَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْبَيْتِ لِيُتِمَّ نُسُكَهُ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ مَا مَعْنَاهُ: يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَعْرِفُ أَوَانَ حَيْضِهَا، وَالْمَرِيضَ الَّذِي يَعْرِفُ أَوَانَ حُمَّاهُ بِالْعَادَةِ فِيهِمَا، إِذَا أَفْطَرَا فِي رَمَضَانَ مَثَلًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ يَنْكَشِفُ الْأَمْرُ بِالْحَيْضِ وَالْحُمَّى فِي ذَلِكَ النَّهَارِ أَنَّ عَلَيْهِمَا قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْ كَعْبٍ الْكَفَّارَةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْحَلْقِ، قَبْلَ أَنْ يَنْكَشِفَ الْأَمْرُ لَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مَا عَرَفَاهُ بِالْعَادَةِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ) قَالَ عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّ النُّزُولَ بَعْدَ الْحُكْمِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ النُّزُولَ قَبْلَ الْحُكْمِ. قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ بِوَحْيٍ لَا يُتْلَى ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الْمُتَقَدِّمَ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى حَدَّثَنَا رَوْحٌ فَيَكُونُ إِسْحَاقُ قَدْ رَوَاهُ عَنْ رَوْحٍ بِإِسْنَادِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ بِإِسْنَادِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعَنْعَنَةُ لِلْبُخَارِيِّ فَيَكُونَ أَوْرَدَهُ عَنْ شَيْخِهِ الْفِرْيَابِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ كَمَا يَرْوِي تَارَةً بِالتَّحْدِيثِ وَبِلَفْظِ قَالَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ شَبِيهًا بِالتَّعْلِيقِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ وَلَفْظُهُ مِثْلُ سِيَاقِ رَوْحٍ فِي أَكْثَرِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْفِرْيَابِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ؛ لِإِطْلَاقِ الْفِدْيَةِ فِي الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدِهَا بِالسُّنَّةِ، وَتَحْرِيمِ حَلْقِ الرَّأْسِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالرُّخْصَةِ لَهُ فِي حَلْقِهَا إِذَا آذَاهُ الْقَمْلُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْجَاعِ.
وَفِيهِ تَلَطُّفُ الْكَبِيرِ بِأَصْحَابِهِ وَعِنَايَتُهُ بِأَحْوَالِهِمْ وَتَفَقُّدُهُ لَهُمْ، وَإِذَا رَأَى بِبَعْضِ أَتْبَاعِهِ ضَرَرًا سَأَلَ عَنْهُ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ حَلْقَ رَأْسِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّ إِيجَابَهَا عَلَى الْمَعْذُورِ مِنَ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: لَا يَتَخَيَّرُ الْعَامِدُ بَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَاحْتَجَّ لَهُمُ الْقُرْطُبِيُّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ كَعْبٍ: أَوِ اذْبَحْ نُسُكًا قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِهَدْيٍ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَهَا حَيْثُ شَاءَ. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ إِذْ لَا يَلْزَمُ من تَسْمِيَتُهَا نُسُكًا أَوْ نَسِيكَةً أَنْ لَا تُسَمَّى هَدْيًا أَوْ لَا تُعْطَى حُكْمَ الْهَدْيِ، وَقَدْ وَقَعَ تَسْمِيَتُهَا هَدْيًا فِي الْبَابِ الْأَخِيرِ حَيْثُ قَالَ: أَوْ تُهْدِي شَاةً وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَاهْدِ هَدْيًا وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: هَلْ لَكَ هَدْيٌ؟ قُلْتُ: لَا أَجِدُ فَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَوِ اذْبَحْ شَاةً وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا مَكَانٌ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَتَعَيَّنُ مَكَّةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النُّسُكُ بِمَكَّةَ وَمِنًى، وَالْإِطْعَامُ بِمَكَّةَ،
وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: الدَّمُ وَالْإِطْعَامُ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالصِّيَامُ حَيْثُ شَاءَ؛ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَرَمِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْإِطْعَامَ بِالصِّيَامِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ حَدِيثَ كَعْبٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَفِيهِ بَحْثٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ}
1819 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عن أبي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
10 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
1820 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {فَلا رَفَثَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا السَّنَدِ. وَلَيْسَ بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ اخْتِلَافٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَأَبُو حَازِمٍ الْمَذْكُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزَّةَ الْأَشْجَعِيَّةِ، وَصَرَّحَ مَنْصُورٌ بِسَمَاعِهِ لَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ مِنْ شُعْبَةَ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِالِاخْتِلَافِ عَلَى مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ زَادَ فِيهِ رَجُلًا، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حَفِظَهُ فَلَعَلَّهُ حَمَلَهُ مَنْصُورٌ، عَنْ هِلَالٍ، ثُمَّ لَقِيَ أَبَا حَازِمٍ فَسَمِعَهُ مِنْهُ، فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَصَرَّحَ أَبُو حَازِمٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا عَنْ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ.
وَقَوْلُهُ: كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَيْ: عَارِيًا مِنَ الذُّنُوبِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ: مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ: مَنْ حَجَّ وَيَجُوزُ حَمْلُ لَفْظِ حَجَّ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَتُسَاوِي رِوَايَةَ: مَنْ أَتَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ إِتْيَانَهُ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْعُمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي بَابِ فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّفَثِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
بسم الله الرحمن الرحيم
28 - كِتَاب جَزَاءِ الصَّيْدِ
1 - بَاب قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} قَوْلُهُ: (بَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَثْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ الْبَسْمَلَةَ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. . . إِلَخْ بِحَذْفِ مَا قَبْلَهُ. قِيلَ: السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَبَا الْيَسَرِ - بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ - قَتَلَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَتْ، حَكَاهُ مُقَاتِلٌ فِي تَفْسِيرِهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثًا، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى شَرْطِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَطَأِ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَعَمِّدًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الْمُخْطِئَ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَعَكَسَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ فَقَالَا: يَجِبُ الْجَزَاءُ فِي الْخَطَأِ دُونَ الْعَمْدِ فَيَخْتَصُّ الْجَزَاءُ بِالْخَطَأِ، وَالنِّقْمَةُ بِالْعَمْدِ، وَعَنْهُمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَامِدِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَإِنْ عَادَ كَانَ أَعْظَمَ لَائِمَةً وَعَلَيْهِ النِّقْمَةُ لَا الْجَزَاءُ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ غَيْرَهُمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ مُخَيَّرٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُقَدِّمُ الْمِثْلَ، فَإِنَّ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ فِيمَا لَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الصَّيْدِ، وَاتَّفَقَ الْأَكْثَرُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَطَائِفَةٌ: يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَهُوَ كَذَبِيحَةِ السَّارِقِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ أَيْضًا: إِنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ السَّلَفُ لَا يُتَجَاوَزُ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَحْكُمُوا فِيهِ يُسْتَأْنَفُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يُجْتَهَدُ فِيهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الِاخْتِيَارُ فِي ذَلِكَ لِلْحَكَمَيْنِ فِي كُلِّ زَمَنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ، وَالْخِيَارُ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْحَكَمَيْنِ لَا تَحْكُمَا عَلَيَّ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: الْوَاجِبُ فِي الْجَزَاءِ نَظِيرُ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ الْقِيمَةُ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا فِي الْمِثْلِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: فِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَفِي الصَّحِيحِ صَحِيحٌ، وَفِي الْكَسِيرِ كَسِيرٌ. وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ: فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ صَحِيحٌ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّيْدِ مَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْحَلَالِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْوَحْشِيِّ، وَأَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُتَوَلِّدِ، فَأَلْحَقَهُ الْأَكْثَرُ بِالْمَأْكُولِ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ هُنَا.
2 - باب إِذَا صَادَ الْحَلَالُ فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ في غَيْرُ الصَّيْدِ، نَحْوُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ، يُقَالُ {عَدْلُ ذَلِكَ} مِثْلُ، فَإِذَا كُسِرَتْ عِدْلٌ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ، {قِيَامًا} قِوَامًا. {يَعْدِلُونَ} يَجْعَلُونَ عَدْلًا.
1821 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ. وَحُدِّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ يضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
[الحديث 1821 - أطرافه في: 1822، 1823، 1824، 2570، 2854، 2914، 4149، 5406، 5407، 5490، 5491، 5492]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا صَادَ الْحَلَالُ فَأُهْدِيَ لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدُ، أَكَلَهُ) كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ فَجَعَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهْ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ نَحْوَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ) الْمُرَادُ بِالذَّبْحِ مَا يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ خَصَّصَهُ بِمَا ذَكَرَ تَفَقُّهًا، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ حُكْمَ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ حُكْمُ الْمَيْتَةِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ حَتَّى يَجُوزَ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ أَكْلُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ جَزُورًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَأَمَّا أَثَرُ أَنَسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الصَّبَّاحِ الْبَجَلِيِّ سَأَلْتُ أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ عَنِ الْمُحْرِمِ يَذْبَحُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَيِ: الْمَذْبُوحُ. . . إِلَخْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، قَالَهُ تَفَقُّهًا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْخَيْلَ؛ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمِنْ يُبِيحُ أَكْلَهَا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: عَدْلُ مِثْلُ، فَإِذَا كُسِرَتْ عِدْلُ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ) أَمَّا تَفْسِيرُ الْعَدْلِ بِالْفَتْحِ بِالْمِثْلِ وَالْكَسْرِ بِالزِّنَةِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ الْعَدْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْفَتْحِ هُوَ قَدْرُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالْعِدْلُ بِالْكَسْرِ قَدْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ إِلَى أَنَّ الْعَدْلَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَدْلُ هُوَ الْقِسْطُ فِي الْحَقِّ، وَالْعِدْلُ بِالْكَسْرِ الْمِثْلُ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: {قِيَامًا} قِوَامًا)، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَصْلُهُ الْوَاوُ فَحُوِّلَتْ عَيْنُ الْفِعْلِ يَاءً كَمَا قَالُوا فِي الصَّوْمِ: صُمْتُ صِيَامًا، وَأَصْلُهُ صِوَامًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
قِيَامُ دُنْيَا وَقِوَامُ دِينٍ.
فَرَدَّهُ إِلَى أَصْلِهِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَالْمَعْنَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ بِمَنْزِلَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ أَمْرُ أَتْبَاعِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ قِيَامُ الْبَيْتِ وَقِوَامُهُ الَّذِي يُقِيمُ شَأْنَهُمْ.
قَوْلُهُ: {يَعْدِلُونَ} يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا) هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَمُنَاسَبَةُ إِيرَادِهِ هُنَا ذِكْرُ لَفْظِ الْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} وَفِي قَوْلِهِ: يَعْدِلُونَ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا أَيْ: مِثْلًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا
هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) فِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ مُسْلِمٍ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) هَكَذَا سَاقَهُ مُرْسَلًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ هِشَامٍ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، وَقَوْلُهُ: بِالْحُدَيْبِيَةِ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ) الضَّمِيرُ لِأَبِي قَتَادَةَ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ أَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ: وَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ وَفِي هَذَا السِّيَاقِ حَذْفٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ وَهِيَ بَعْدَ بَابَيْنِ بِلَفْظِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ هُنَاكَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: خَرَجَ حَاجًّا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبَيَّنَ الْمُطَّلِبُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مَكَانَ صَرْفِهِمْ، وَلَفْظُهُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا الرَّوْحَاءَ.
قَوْلُهُ: (وَحُدِّثَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْقَةَ أَيْ: فِي غَيْقَةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ قَافٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ هَاءٌ. قَالَ السُّكُونِيُّ: هُوَ مَاءٌ لِبَنِي غِفَارٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقَالَ يَعْقُوبُ: هُوَ قَلِيبٌ لِبَنِي ثَعْلَبَةَ يَصُبُّ فِيهِ مَاءُ رَضْوَى، وَيَصُبُّ هُوَ فِي الْبَحْرِ.
وَحَاصِلُ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَبَلَغَ الرَّوْحَاءَ - وَهِيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا - أَخْبَرُوهُ بِأَنَّ عَدُوًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِوَادِي غَيْقَةَ يُخْشَى مِنْهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا غِرَّتَهُ، فَجَهَّزَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ إِلَى جِهَتِهِمْ لِيَأْمَنَ شَرَّهُمْ، فَلَمَّا أَمِنُوا ذَلِكَ لَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ وَأَصْحَابُهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحْرَمُوا، إِلَّا هُوَ فَاسْتَمَرَّ هُوَ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ إِمَّا لَمْ يُجَاوِزِ الْمِيقَاتَ، وَإِمَّا لَمْ يَقْصِدِ الْعُمْرَةَ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُونَ: كَيْفَ جَازَ لِأَبِي قَتَادَةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ؟ وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجْهُهُ. قَالَ: حَتَّى وَجَدْتُهُ فِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِيهَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَحْرَمْنَا، فَلَمَّا كُنَّا بِمَكَانِ كَذَا إِذَا نَحْنُ بِأَبِي قَتَادَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي وَجْهِ. الْحَدِيثَ. قَالَ: فَإِذَا أَبُو قَتَادَةَ إِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ يُرِيدُ مَكَّةَ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا تَقْتَضِي أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا قَتَادَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ حَتَّى نَزَلُوا بِعُسْفَانَ فَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ، وَيُحْتَمَلُ جَمْعُهُمَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ إِنَّمَا أَخَّرَ الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَسَاغَ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَقِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ أَنْ يُؤَقِّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَوَاقِيتَ. وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا بَعَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْلِمُونَهُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَصَدُوا الْإِغَارَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحَةِ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا أَبِي مَعَ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ: فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ:
وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ هَكَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَالرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ فِي مُسْلِمٍ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَيَّ فَشُدِّدَتِ الْيَاءُ مِنْ إِلَيَّ. قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَلَيْهِ لَفْظَةُ بَعْضٍ ثُمَّ احْتَجَّ لِضَعْفِهَا بِأَنَّهُمْ لَوْ ضَحِكُوا إِلَيْهِ لَكَانَتْ أَكْبَرَ إِشَارَةٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟ قَالُوا: لَا. وَإِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ عَلَى الصَّيْدِ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ. انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِصِحَّتِهَا وَصِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَلَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَلَالَةٌ وَلَا إِشَارَةٌ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الضَّحِكِ لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا ضَحِكُوا تَعَجُّبًا مِنْ عُرُوضِ الصَّيْدِ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّ مُجَرَّدَ الضَّحِكِ لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ، صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَكْفِي فِي رَدِّ دَعْوَى الْقَاضِي، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هُوَ مُجَرَّدُ ضَحِكٍ، وَقَوْلُهُ: يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَيَّ فِيهِ مَزِيدُ أَمْرٍ عَلَى مُجَرَّدِ الضَّحِكِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي رُؤْيَتِهِ فَاسْتَوَوْا فِي ضَحِكِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ لَمْ يَكُنْ رَآهُ فَيَكُونُ ضَحِكُ بَعْضِهِمْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ بَاعِثًا لَهُ عَلَى التَّفَطُّنِ إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ الْقَاضِي مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ عَنْ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّيْدِ بِلَفْظِ: إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ؛ فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقُلْتُ: هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ. فَقَالُوا: هُوَ مَا رَأَيْتَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَجَاءَ أَبُو قَتَادَةَ وَهُوَ حِلٌّ فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحِدُّوا أَبْصَارَهُمْ لَهُ فَيَفْطِنَ فَيَرَاهُ اهـ. فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَحِكُوا إِلَيْهِ؟ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوَابَ مَا قَالَ الْقَاضِي.
وَفِي قَوْلِ الشَّيْخِ: قَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَحَذْفِهَا لَمْ يَقَعْ فِي طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ إِسْنَادٍ وَاحِدٍ مِمَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَكَانَ مَعَ مَنْ أَثْبَتَ لَفْظَ بَعْضٍ زِيَادَةُ عِلْمٍ سَالِمَةٌ مِنَ الْإِشْكَالِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ، وَبَيَّنَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ أَنَّ قِصَّةَ صَيْدِهِ لِلْحِمَارِ كَانَتْ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَنَزَلُوا فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ وَلَفْظُهُ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا، وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ دُونَ أَبِي قَتَادَةَ بِقَوْلِهِ: فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وَهُمْ بِعُسْفَانَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ الْحَدِيثَ. وَالْقَاحَةُ - بِقَافٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ - مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ السُّقْيَا كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فَنَظَرْتُ) هَذَا فِيهِ الْتِفَاتٌ، فَإِنَّ السِّيَاقَ الْمَاضِي يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: فَنَظَرَ؛ لِقَوْلِهِ: فَبَيْنَا أَبِي مَعَ أَصْحَابِهِ فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ أَبِي: فَنَظَرْتُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْمَوْصُولَةَ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا بِحِمَارِ وَحْشٍ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رُؤْيَتَهَ لَهُ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ رُؤْيَةِ أَصْحَابِهِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ، وَلَفْظُهُ: فَرَأَوْا حِمَارًا وَحْشِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ أَبُو قَتَادَةَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ فَرَكِبَ.
قَوْلُهُ: (فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَغَضِبْتُ، فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَرَادَةُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَتَنَاوَلَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ: وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي
سَوْطِي. فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ. فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُ وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهُمَا كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: فَاخْتَلَسَ مِنْ بَعْضِهِمْ سَوْطًا وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَقْوَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ رَأَى فِي سَوْطِ نَفْسِهِ تَقْصِيرًا فَأَخَذَ سَوْطَ غَيْرِهِ، وَاحْتَاجَ إِلَى اخْتِلَاسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ مِنْهُ اخْتِيَارًا لَامْتَنَعَ.
قَوْلُهُ: (فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ) بِالْمُثَلَّثَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ أَيْ: جَعَلْتُهُ ثَابِتًا فِي مَكَانِهِ لَا حَرَاكَ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ: فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ: حَتَّى عَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا. فَقَالُوا: لَا نَمَسُّهُ، فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَوَقَعُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنَا وَخَبَّأْتُ الْعَضُدَ مَعِي.
وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ: فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَى بَعْضُهُمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَجَعَلُوا يَشْوُونَ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: فَظَلِلْنَا نَأْكُلُ مِنْهُ مَا شِئْنَا طَبِيخًا وَشِوَاءً ثُمَّ تَزَوَّدْنَا مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ) أَيْ: نَصِيرُ مَقْطُوعِينَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْفَصِلِينَ عَنْهُ؛ لِكَوْنِهِ سَبَقَهُمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: وَخَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: وَخَشِينَا أَنْ يَقْتَطِعَنَا الْعَدُوُّ وَفِيهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: وَأَنَّهُمْ خَشُوا أَنْ يَقْتَطِعَهُمُ الْعَدُوُّ دُونَكَ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ سَبَبَ إِسْرَاعِ أَبِي قَتَادَةَ لِإِدْرَاكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَشْيَةٌ عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَنَالَهُمْ بَعْضُ أَعْدَائِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ الْآتِيَةِ فِي الصَّيْدِ: فَأَبَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَأْكُلَ، فَقُلْتُ: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكْتُهُ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ فَفِي هَذَا أَنَّ سَبَبَ إِدْرَاكِهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ عَنْ قِصَّةِ أَكْلِ الْحِمَارِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَرْفَعُ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، أَيْ: أُكَلِّفُهُ السَّيْرَ، وَشَأْوًا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ، أَيْ: تَارَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَرْكُضُهُ تَارَةً، وَيَسِيرُ بِسُهُولَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (تَرَكَتْهُ بِتِعْهِنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا) السُّقْيَا - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَقْصُورَةٌ -: قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَتِعْهِنُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَبِفَتْحِهَا بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ، وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِ بِالْكَسْرِ وَبِهِ قَيَّدَهَا الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبِلَادِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، وَلِغَيْرِهِ بِفَتْحِهِمَا، وَحَكَى أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنَ الْعَرَبِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّ التَّاءَ وَيَفْتَحُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ الْهَاءَ، قِيلَ: وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرَاتِهِمْ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَأَغْرَبَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فَضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَبِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُ التَّاءَ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُسَكِّنُونَ الْعَيْنَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: بِدِعْهِنَ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الْمُثَنَّاةِ. وَقَوْلُهُ: قَائِلٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ الْقَيْلُولَةِ، أَيْ: تَرَكْتُهُ فِي اللَّيْلِ وبِتِعْهِنَ وَعَزْمُهُ أَنْ يَقِيلَ بِالسُّقْيَا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِلٌ أَيْ: سَيَقِيلُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَابِلٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِعْهِنَ مَوْضِعٌ مُقَابِلٌ لِلسُّقْيَا، فَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الثَّانِي الضَّمِيرُ لِلْمَوْضِعِ وَهُوَ تِعْهِنُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصْوَبُ وَأَكْثَرُ فَائِدَةً.
وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ مِنَ الْقَائِلَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالسُّقْيَا مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَكَأَنَّهُ كَانَ بِتِعْهِنَ وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اقْصِدُوا السُّقْيَا. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ: وَهُوَ قَائِمٌ بِالسُّقْيَا فَأَبْدَلَ اللَّامَ فِي قَائِلٍ مِيمًا، وَزَادَ الْبَاءَ فِي السُّقْيَا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الصَّحِيحُ قَائِلٌ بِاللَّامِ. قُلْتُ: وَزِيَادَةُ الْبَاءِ تُوهِي الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ الْمَذْكُورَ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ) فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَسِرْتُ فَأَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ، وَيُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَوْلُهُ: (إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ) الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هُنَا الْأَصْحَابُ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: أنَّ أَصْحَابَكَ
قَوْلُهُ: (فَانْتَظِرْهُمْ) بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ مِنَ الِانْتِظَارِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَانْتَظَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنْهُ، وَمِثْلُهُ لِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ: فَانْتَظِرْهُمْ فَفَعَلَ
قَوْلُهُ: (أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ: فَضْلَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قِطْعَةٌ فَضَلَتْ مِنْهُ فَهِيَ فَاضِلَةٌ، أَيْ: بَاقِيَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ بَعْدَ بَابَيْنِ.
3 - بَاب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلَالُ
1822 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ، فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ له: أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا. فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابَكَ أَرْسَلُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يَقْتَطِعَهُمْ الْعَدُوُّ دُونَكَ فَانْظُرْهُمْ، فَفَعَلَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ، وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلَالُ) أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِشَارَةً لَهُ إِلَى الصَّيْدِ فَيَحِلُّ لَهُمْ أَكْلُ الصَّيْدِ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الطَّاءِ مِنْ فَطِنَ وَفَتْحُهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (وَأُنْبِئْنَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ: أُخْبِرْنَا.
قَوْلُهُ: (فَبَصُرَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَنَظَرَ بِنُونٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَدُخُولُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِحِمَارِ وَحْشٍ مُشْكِلٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: ضُمِّنَ نَظَرَ مَعْنَى بَصُرَ، أَوِ الْبَاءُ بِمَعْنَى إِلَى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا تَتَنَاوَبُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا اصَّدْنَا) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ لِلْأَكْثَرِ بِالْإِدْغَامِ، وَأَصْلُهُ اصْطَدْنَا فَأُبْدِلَتِ الطَّاءُ مُثَنَّاةً، ثُمَّ أُدْغِمَتْ، وَلِبَعْضِهِمْ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ، أَيْ: أَثَرْنَا مِنَ الْإِصَادِ وَهُوَ الْإِثَارَةُ. وَلِبَعْضِهِمْ: صِدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ.
4 - بَاب لَا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ
1823 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ،
سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَاحَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثٍ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِي وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِنَّا مُحْرِمُونَ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَأْكُلُوا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَمَامَنَا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُلُوهُ حَلَالٌ. قَالَ لَنَا عَمْرٌو: اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ فَسَلُوهُ عَنْ هَذَا، وَغَيْرِهِ، وَقَدِمَ عَلَيْنَا هَاهنا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ) أَيْ: بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ بَيْنَ الْإِعَانَةِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الصَّيْدُ إِلَّا بِهَا فَتَحْرُمُ، وَبَيْنَ الْإِعَانَةِ الَّتِي يَتِمُّ الصَّيْدُ بِدُونِهَا فَلَا تَحْرُمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ الْمُسْنَدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا: حَدَّثَنَا صَالِحٌ.
قَوْلُهُ: (بِالْقَاحَةِ) بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ: وَادٍ عَلَى نَحْوِ مِيلٍ مِنَ السُّقْيَا إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ، وَيُقَالُ لِوَادِيهَا وَادِي الْعَبَادِيدِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى أَنَّهَا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثٍ، أَيْ: ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، قَالَ عِيَاضٌ: رَوَاهُ النَّاسُ بِالْقَافِ إِلَّا الْقَابِسِيَّ فَضَبَطُوهُ عَنْهُ بِالْفَاءِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. قُلْتُ: وَوَقَعَ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِالصِّفَاحِ بَدَلَ الْقَاحَةِ، وَالصِّفَاحُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الصِّفَاحَ مَوْضِعٌ بِالرَّوْحَاءِ، وَبَيْنَ الرَّوْحَاءِ وَبَيْنَ السُّقْيَا مَسَافَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّوْحَاءَ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي ذَهَبَ أَبُو قَتَادَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُ إِلَى جِهَةِ الْبَحْرِ، ثُمَّ الْتَقَوْا بِالْقَاحَةِ وَبِهَا وَقَعَ لَهُ الصَّيْدُ الْمَذْكُورُ، وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ هُوَ وَرُفْقَتُهُ لِلرَّاحَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَتَقَدَّمَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السُّقْيَا حَتَّى لَحِقُوهُ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، هَكَذَا حَوَّلَ الْمُصَنِّفُ الْإِسْنَادَ إِلَى رِوَايَةِ عَلِيٍّ لِلتَّصْرِيحِ فِيهِ عَنْ سُفْيَانَ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَقَدِ اعْتَبَرْتُهُ فَوَجَدْتُهُ سَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِ عَلِيٍّ خَاصَّةً، وَهَذِهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ غَالِبًا إِذَا تَحَوَّلَ إِلَى إِسْنَادٍ سَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ) هُوَ نَافِعٌ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو النَّضْرِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ صَالِحٍ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، وَكَذَا وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: سَمِعْتُ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ وَلَمْ يَكُنْ مَوْلًى أَيْ: لِأَبِي قَتَادَةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ، فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى لِأَبِي قَتَادَةَ حَقِيقَةً، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، فَقَالَ: هُوَ مَوْلَى عَقِيلَةَ بِنْتِ طَلْقٍ الْغِفَارِيَّةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ نُسِبَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ. قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نُسِبَ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَانَ زَوْجَ مَوْلَاتِهِ، أَوْ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا وَقَعَ لِمِقْسَمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يَتَرَاءَوْنَ) يَتَفَاعَلُونَ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِي: وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ بِلَفْظِ: فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ وَالسَّوْطَ، فَسَقَطَ مِنِّي السَّوْطُ فَقُلْتُ: نَاوِلُونِي.
فَقَالُوا: لَيْسَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، إِنَّا مُحْرِمُونَ وَفِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا مُحْرِمُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ.
قَوْلُهُ: (فَتَنَاوَلْتُهُ) زَادَ أَبُو عَوَانَةَ
(1)
بِشَيْءٍ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ: ذِكْرُ التَّنَاوُلِ بَعْدَ الْأَخْذِ تَكْرَارٌ، أَوْ مَعْنَاهُ تَكَلَّفْتُ الْأَخْذَ فَأَخَذْتُهُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ) بِفَتَحَاتٍ هِيَ التَّلُّ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا) قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ أَنَّهُمْ أَكَلُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَكَلُوا أَوَّلَ مَا أَتَاهُمْ بِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ كَمَا فِي لَفْظِ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي حَازِمٍ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَجَعَلُوا يَشْوُونَ مِنْهُ ثُمَّ قَالُوا: رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَكَانَ تَقَدَّمَهُمْ فَلَحِقُوهُ فَسَأَلُوهُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَمَامَنَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كُلُوهُ حَلَالٌ) كَذَا وَقَعَ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو عَوَانَةَ فَقَالَ: كُلُوهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لَنَا عَمْرٌو) أَيِ: ابْنُ دِينَارٍ، وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَتِهِ، وَالْقَائِلُ سُفْيَانُ، وَالْغَرَضُ بِذَلِكَ تَأْكِيدُ ضَبْطِهِ لَهُ وَسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ صَالِحٍ، وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقَوْلُهُ: هَاهُنَا يَعْنِي: مَكَّةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ كَانَ مَدَنِيًّا فَقَدِمَ مَكَّةَ فَدَلَّ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا نَصُّهُ: فِي قَوْلِ سُفْيَانَ: قَالَ لَنَا عَمْرٌو. . . إِلَخْ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ سُفْيَانَ رَوَى ذَلِكَ عَنْ صَالِحٍ، فَكَيْفَ يَقُولُ لَهُ عَمْرٌو وَلِمَنْ مَعَهُ: اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ؟ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا فِي تَجْدِيدِ سَمَاعِ سُفْيَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ سُفْيَانَ حَدَّثَ بِذَلِكَ عَنْ صَالِحٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا. وَزَعَمَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْكُوفَةَ. قَالَ: وَكَأَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ صَالِحٍ فَصَدَّقَهُ وَأَكَّدَهُ بِمَا قَالَ. وَقَوْلُهُ: اذْهَبُوا إِلَيْهِ؛ أَيْ: إِلَى صَالِحٍ بِالْمَدِينَةِ، اهـ. وَهَذَا أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَمَا سَمِعَهُ سُفْيَانُ مِنْ صَالِحٍ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَقْدَمْ عَمْرٌو الْكُوفَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِسُفْيَانَ وَهُمَا بِمَكَّةَ، وَمَا حَدَّثَ بِهِ سُفْيَانُ، لِعَلِيٍّ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ صَالِحٍ، وَعَمْرٍو بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَالَ لَنَا عَمْرٌو: اذْهَبُوا. . . إِلَخْ، كَيْفِيَّةَ تَحَمُّلِهِ لَهُ مِنْ صَالِحٍ وَأَنَّهُ بِدَلَالَةِ عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 -
بَاب لَا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلَالُ
1824 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ
(1)
في هامش طبعة بولاق: في نسخة "زاد أبوداود "
لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا. قَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلَالُ) أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ: فَاتَّفَقُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى تَحْرِيمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الصَّيْدِ لِيُصْطَادَ، وَعَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْمُحْرِمِ، لَكِنْ قَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِاصْطِيَادُ بِدُونِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ الْحَلَالُ عَلَى الصَّيْدِ بِإِشَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ دَلَّ الْحَلَالُ حَلَالًا عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ. قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ إِنَّمَا وَقَعَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ هَلْ يَحِلُّ لَهُمْ أَكْلُهُ أَوْ لَا؟ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْجَزَاءِ. وَاحْتَجَّ الْمُوَفَّقُ بِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ نَظَرٌ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ انْفِصَالِ الدَّالِّ عَنْهُ، فَصَارَ كَمَنْ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا عَلَى امْرَأَةٍ فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالدَّلَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَمَوْهَبٌ جَدُّهُ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، رَوَى هُنَا عَنْ تَابِعِيٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ قَلِيلًا.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ حَاجًّا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي عُمْرَةٍ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ كُلُّهُمْ عَلَى الْجَادَّةِ لَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ أَرَادَ: خَرَجَ مُحْرِمًا، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ غَلَطًا. قُلْتُ: لَا غَلَطَ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ السَّائِغِ. وَأَيْضًا فَالْحَجُّ فِي الْأَصْلِ قَصْدُ الْبَيْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ قَاصِدًا لِلْبَيْتِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْعُمْرَةِ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ. ثُمَّ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيِّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَدْ جَزَمَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ بِالرَّفْعِ، وَوَقَعَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّوْضِيحِ: حَقُّ الْمُسْتَثْنَى بِإِلَّا مِنْ كَلَامٍ تَامٍّ مُوجَبٍ أَنْ يُنْصَبَ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُكَمَّلًا مَعْنَاهُ بِمَا بَعْدَهُ، فَالْمُفْرَدُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} وَالْمُكَمَّلُ نَحْوَ: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} وَلَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِلَّا النَّصْبَ، وَقَدْ أَغْفَلُوا وُرُودَهُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ مَعَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ وَمَعَ حَذْفِهِ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّابِتِ الْخَبَرِ قَوْلُ أَبِي قَتَادَةَ: أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَـ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، وَأَبُو قَتَادَةَ مُبْتَدَأٌ وَلَمْ يُحْرِمْ خَبَرُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ امْرَأَتَكَ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسِرْ مَعَهُمْ فَيَتَضَمَّنُهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ بِهَا لَكِنَّهَا شَعَرَتْ بِالْعَذَابِ فَتَبِعَتْهُمْ ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ.
قَالَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهَا فِي الْمُخَاطَبِينَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَحْذُوفِ الْخَبَرِ
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ أَيْ: لَكِنِ الْمُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافَوْنَ، وَمِنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} أَيْ: لَكِنْ قَلِيلٌ مِنْهُمْ لَمْ يَشْرَبُوا. قَالَ: وَلِلْكُوفِيِّينَ فِي هَذَا الثَّانِي مَذْهَبٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلُوا إِلَّا حَرْفَ عَطْفٍ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، اهـ. وَفِي نِسْبَةِ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ لِابْنِ أَبِي قَتَادَةَ دُونَ أَبِي قَتَادَةَ نَظَرٌ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: قَوْلُ أَبِي قَتَادَةَ، حَيْثُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - إِلَى أَنْ قَالَ - أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ. وَقَوْلُ أَبِي قَتَادَةَ: فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِهِ مِنْ قَوْلِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا. وَمِنْ تَوْجِيهِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ أَبُو طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا) فِي هَذَا السِّيَاقِ زِيَادَةٌ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى إِفْرَادِ الْحِمَارِ بِالرُّؤْيَةِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُمُرِ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ أَتَانًا، أَيْ: أُنْثَى، فَعَلَى هَذَا فِي إِطْلَاقِ الْحِمَارِ عَلَيْهَا تَجَوُّزٌ.
قَوْلُهُ: (فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ الْآتِيَةِ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِبَةِ: فَرُحْنَا وَخَبَّأْتُ الْعَضُدَ مَعِي وَفِيهِ: مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا وَلَهُ فِي الْجِهَادِ قَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا وَفِي رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ قَدْ رَفَعْنَا لَكَ الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا.) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ: هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوِ اصْطَدْتُمْ؟ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَشَرْتُمْ أَوِ اصْطَدْتُمْ أَوْ قَتَلْتُمْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا) صِيغَةُ الْأَمْرِ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْجَوَازِ لَا عَنِ الْوُجُوبِ، فَوَقَعَتِ الصِّيغَةُ عَلَى مُقْتَضَى السُّؤَالِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَذَكَرَهُ فِي رِوَايَتَيْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ كَمَا تَرَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ غَيْرُهُ، وَوَافَقَهُ صَالِحُ بْنُ حَسَّانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونِي وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ نَفْسِهِ إِلَّا الْمُطَّلِبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَوَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي صَالِحٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّيْدِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ إِسْحَاقَ، وَمِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَتَفَرَّدَ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِزِيَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِرِوَايَتَيْ أَبِي حَازِمٍ كَمَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُلْتُ: إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ.
قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْجَوْزَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَعْمَرٌ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحْفُوظَةً احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ لَحْمِ ذَلِكَ الْحِمَارِ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَبُو قَتَادَةَ أَنَّهُ اصْطَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ امْتَنَعَ، اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَكْلِ مِنْهُ إِلَى أَنْ أَعْلَمَهُ أَبُو قَتَادَةَ بِأَنَّهُ صَادَهُ لِأَجْلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَإِنَّ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَمَّا إِذَا أُتِيَ بِلَحْمٍ لَا يَدْرِي أَلَحْمُ صَيْدٍ أَوْ لَا فَحَمَلَهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى الْآكِلِ.
وَعِنْدِي بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ وَقْفَةٌ، فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الَّذِي تَأَخَّرَ هُوَ الْعَضُدُ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا، أَيْ: لَمْ يُبْقِ مِنْهَا إِلَّا الْعَظْمَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ
فِي الْهِبَةِ: حَتَّى نَفِدَهَا أَيْ: فَرَّغَهَا، فَأَيُّ شَيْءٍ يَبْقَى مِنْهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْآتِيَةَ فِي الصَّيْدِ: أَبَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كُلُوا؛ فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ فَأَشْعَرَ بِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا غَيْرُ الْعَضُدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي حُكْمِ مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْرِمِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ تَمَنِّي الْمُحْرِمِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْحَلَالِ الصَّيْدُ لِيَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ لَا يَقْدَحُ فِي إِحْرَامِهِ، وَأَنَّ الْحَلَالَ إِذَا صَادَ لِنَفْسِهِ جَازَ لِلْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِنْ صَيْدِهِ، وَهَذَا يُقَوِّي مِنْ حَمْلِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} عَلَى الِاصْطِيَادِ، وَفِيهِ الِاسْتِيهَابُ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الصَّدِيقِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: عِنْدِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ؛ بَيَانًا لِلْجَوَازِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ، وَأَلْحَقَ الْمُصَنِّفُ بِهِ الْحِمَارَ فَتَرْجَمَ لَهُ فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالُوا: تَجُوزُ التَّسْمِيَةُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا نُودِيَ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ رُبَّمَا أَدْمَنَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ يُمَيِّزُ اسْمَهُ إِذَا دُعِيَ بِهِ. وَفِيهِ إِمْسَاكُ نَصِيبِ الرَّفِيقِ الْغَائِبِ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ أَوْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ ظُهُورُ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا. وَفِيهِ تَفْرِيقُ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الطَّلِيعَةِ فِي الْغَزْوِ، وَتَبْلِيغُ السَّلَامِ عَنْ قُرْبٍ وَعَنْ بُعْدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ رَدِّ السَّلَامِ مِمَّنْ بَلَغَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَنْفِيهِ.
وَفِيهِ أَنَّ عَقْرَ الصَّيْدِ ذَكَاتُهُ، وَجَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ اجْتِهَادٌ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا فِي حَضْرَتِهِ. وَفِيهِ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ تَضَادَّ الْمُجْتَهِدَانِ، وَلَا يُعَابُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَكَأَنَّ الْآكِلَ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْمُمْتَنِعَ نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ الطَّارِئِ. وَفِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى النَّصِّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَرَكْضُ الْفَرَسِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَالتَّصَيُّدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْوَعِرَةِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْفَارِسِ، وَحَمْلُ الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَالرِّفْقُ بِالْأَصْحَابِ وَالرُّفَقَاءِ فِي السَّيْرِ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الضَّحِكَ فِي مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَحِلُّ. وَفِيهِ جَوَازُ سَوْقِ الْفَرَسِ لِلْحَاجَةِ وَالرِّفْقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَأَسِيرُ شَأْوًا وَنُزُولُ الْمُسَافِرِ وَقْتَ الْقَائِلَةِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ.
(تَكْمِلَةٌ) لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ إِلَّا إِنْ صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا فَيَجُوزُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ
1825 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ.
[الحديث 1825 - طرفاه في: 2573، 2596]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا أَهْدَى) أَيِ: الْحَلَالُ (لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ) كَذَا قَيَّدَهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِكَوْنِهِ حَيًّا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَذْبُوحًا مُوَهَّمَةٌ، وَسَأُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. . . إِلَخْ) لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى مَالِكٍ فِي سِيَاقِهِ مُعَنْعَنًا، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ الصَّعْبِ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ
وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَهْدَى الصَّعْبُ وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ الْأَوَّلُ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ الصَّعْبَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ أَهْدَى وَالصَّعْبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَأَبُوهُ جَثَّامَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَثْقِيلِ الْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (حِمَارًا وَحْشِيًّا) لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَتَابَعَهُ عَامَّةُ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: لَحْمُ حِمَارِ وَحْشٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ بَيَّنَ الْحُمَيْدِيُّ صَاحِبُ سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حِمَارُ وَحْشٍ ثُمَّ صَارَ يَقُولُ: لَحْمُ حِمَارِ وَحْشٍ فَدَلَّ عَلَى اضْطِرَابِهِ فِيهِ، وَقَدْ تُوبِعَ عَلَى قَوْلِهِ: لَحْمُ حِمَارِ وَحْشٍ مِنْ أَوْجُهٍ فِيهَا مَقَالٌ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: لَحْمُ حِمَارٍ وَقَدْ خَالَفَهُ خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: حِمَارُ وَحْشٍ كَالْأَكْثَرِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: رِجْلُ حِمَارِ وَحْشٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ حَسَنُ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا خُولِفَ، وَيَدُلُّ عَلَى وَهَمِ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: الْحِمَارُ عَقِيرٌ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ عَوَانَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الَّذِي أَهْدَاهُ الصَّعْبُ لَحْمُ حِمَارٍ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَهْدَى الصَّعْبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حِمَارٍ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُ: عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ يَقْطُرُ دَمًا وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ تَارَةً: حِمَارُ وَحْشٍ وَتَارَةً: شِقُّ حِمَارٍ وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ: إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا زَيْدُ بْنَ أَرْقَمَ، هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ رَدَّ الْحَيَّ وَقَبِلَ اللَّحْمَ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْجَمْعِ نَظَرٌ لِمَا بَيَّنْتُهُ، فَإِنْ كَانَتِ الطُّرُقُ كُلُّهَا مَحْفُوظَةً فَلَعَلَّهُ رَدَّهُ حَيًّا لِكَوْنِهِ صِيدَ لِأَجْلِهِ، وَرَدَّ اللَّحْمَ تَارَةً لِذَلِكَ، وَقَبِلَهُ تَارَةً أُخْرَى، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: إِنْ كَانَ الصَّعْبُ أَهْدَى لَهُ حِمَارًا حَيًّا، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ حِمَارَ وَحْشٍ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ.
وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ فَتَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْقَبُولُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى وَقْتٍ آخَرَ وَهُوَ حَالُ رُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَازِمٌ فِيهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْجُحْفَةِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّعْبُ أَحْضَرَ الْحِمَارَ مَذْبُوحًا ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهُ لَهُ، فَمَنْ قَالَ: أَهْدَى حِمَارًا، أَرَادَ بِتَمَامِهِ مَذْبُوحًا حَيًّا، وَمَنْ قَالَ: لَحْمُ حِمَارٍ أَرَادَ مَا قَدَّمَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَالَ: حِمَارًا أَطْلَقَ وَأَرَادَ بَعْضَهُ مَجَازًا. قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْدَاهُ لَهُ حَيًّا، فَلَمَّا رَدَّهُ عَلَيْهِ ذَكَّاهُ وَأَتَاهُ بِعُضْوٍ مِنْهُ ظَانًّا أَنَّهُ إِنَّمَا
رَدَّهُ عَلَيْهِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ مِنَ الصَّيْدِ حُكْمُ الْكُلِّ، قَالَ: وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بِكَوْنِ الْحِمَارِ حَيًّا، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَكَذَا نَقَلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ مَذْبُوحٌ. انْتَهَى.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَحْسُنْ إِطْلَاقُهُ بُطْلَانَ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَلَا سِيَّمَا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: حَدِيثُ مَالِكٍ أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ: لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
قَوْلُهُ: (بِالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمَدِّ: جَبَلٌ مِنْ عَمَلِ الْفُرُعِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قِيلَ: سُمِّيَ الْأَبْوَاءُ لِوَبَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّيُولَ تَتَبَوَّؤُهُ، أَيْ: تحمله.
قَوْلُهُ: (أَوْ بِوَدَّانَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَآخِرَهَا نُونٌ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْجُحْفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ كَانَ بِالْجُحْفَةِ، وَوَدَّانُ أَقْرَبُ إِلَى الْجُحْفَةِ مِنَ الْأَبْوَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْأَبْوَاءِ إِلَى الْجُحْفَةِ لِلْآتِي مِنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا، وَمِنْ وَدَّانَ إِلَى الْجُحْفَةِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ، وَبِالشَّكِّ جَزَمَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَدَّانَ، وَجَزَمَ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو بِالْأَبْوَاءِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي. وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَكَذَا لِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ. قَالَ عِيَاض: ضَبَطْنَاهُ فِي الرِّوَايَاتِ: لَمْ نَرُدَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَأَبَى ذَلِكَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَ مِنَ الْمَجْزُومِ يُرَاعَى فِيهِ الْوَاوُ الَّتِي تُوجِبُهَا لَهُ ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَهَا. قَالَ: وَلَيْسَ الْفَتْحُ بِغَلَطٍ، بَلْ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ. نَعَمْ تَعَقَّبُوهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَوْهَمَ صَنِيعُهُ أَنَّهُ فَصِيحٌ، وَأَجَازُوا أَيْضًا الْكَسْرَ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَوْجُهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ لَمْ نَرْدُدْهُ بِضَمِّ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ) زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنَدَ النَّسَائِيِّ: لَا نَأْكُلُ الصَّيْدَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مُحْرِمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُ الِامْتِنَاعِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، لِحَدِيثِ الصَّعْبِ هَذَا، وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ قَالَ لِنَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ رِجْلُ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا الظَّاهِرَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ أَنَّهُ: أُهْدِيَ لَهُ لَحْمُ طَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَقَفَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّ الْبَهْزِيَّ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَبِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَعَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُهْدِي مِنْهُ لِلْمُحْرِمِ، وَأَحَادِيثُ الرَّدِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ. قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي الِاقْتِصَارِ
عَلَى الْإِحْرَامِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ لِلصَّعْبِ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ إِذَا صِيدَ لَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ مُحْرِمًا، فَبَيَّنَ الشَّرْطَ الْأَصْلِيَّ وَسَكَتَ عَمَّا عَدَاهُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ حَدِيثُ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: إِنَّا حُرُمٌ؛ لَا نَأْكُلُ الصَّيْدَ فَبَيَّنَ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا، وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ تَفْصِيلٌ آخَرُ بَيَّنَ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ إِحْرَامِهِ فَلَا، وَعَنْ عُثْمَانَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُصَادُ لِأَجْلِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى مُحْرِمٍ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: حَدِيثُ الصَّعْبِ يُشْكِلُ عَلَى مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا صِيدَ مِنْ أَجْلِ الْمُحْرِمِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَعَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: فَرَدَّهُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِإِرْسَالِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا وَطَرْحُهُ إِنْ كَانَ مَذْبُوحًا، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِضِدِّهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَانِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَصْلًا إِذْ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ. وَفِي حَدِيثِ الصَّعْبِ الْحُكْمُ بِالْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي. وَفِيهِ جَوَازُ رَدِّ الْهَدِيَّةِ لِعِلَّةٍ، وَتَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ: مَنْ رَدَّ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْمُهْدِي، وَأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْمِلْكِ إِلَّا بِالْقَبُولِ، وَأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى تَمَلُّكِهَا لَا تُصَيِّرُهُ مَالِكًا لَهَا، وَأَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يُرْسِلَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ عَلَيْهِ اصْطِيَادُهُ.
7 - بَاب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ
1826 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ....
[الحديث 1826 - طرفه في 3315]
1827 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ
[الحديث 1827 - طرفه في 1828]
1828 -
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَتْ حَفْصَةُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُور
1829 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
[الحديث 1829 - طرفه في 3314]
1830 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَاتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوهَا" فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا".
[الحديث 1830 - أطرافه في: 3317، 4930، 4931، 4934]
1831 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ" وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ"
[الحديث 1831 - طرفه في 3306]
قَوْلُهُ: (بَابٌ مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ) أَيْ: مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَأَحَالَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ سَالِمٍ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَتَمَامُهُ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ وَسَاقَ لَفْظَهُ مِثْلَهُ سَوَاءً. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ: الْحَيَّةُ بَدَلَ الْعَقْرَبِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ الطَّائِيُّ الْكُوفِيُّ، لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ رِوَايَةٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا لَهُ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَقَدْ خَالَفَ نَافِعًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ فِي إِدْخَالِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَافَقَ سَالِمًا، إِلَّا أَنَّ زَيْدًا أَبْهَمَهَا وَسَالِمًا سَمَّاهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ) كَذَا سَاقَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ، وَأَحَالَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى تَفْسِيرِ الْمُبْهَمَةِ فِيهِ بِأَنَّهَا الْمُسَمَّاةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ مُسَدَّدٍ بِإِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ، وَبَقِيَّتُهُ كَرِوَايَةِ حَفْصَةَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَزَادَ فِيهِ أَشْيَاءَ، وَلَفْظُهُ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ: مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحَيَّةِ قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ فِي أَوَّلِهِ خَمْسًا وَزَادَ: الْحَيَّةَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ ذِكْرَ الصَّلَاةِ لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْمَذْكُورَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَسَأَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِدُونِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَخْرَجَهُ عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ حَفْصَةُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عَنْ حَفْصَةَ وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ
طُرُقِ نَافِعٍ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ وَقَالَ مُسْلِمٌ بَعْدَهُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ إِلَّا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَهُ مِنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَهُ أَيْضًا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِهِ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا نَقْتُلُ مِنَ الدَّوَابِّ إِذَا أَحْرَمْنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُبْهَمَةَ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ هِيَ حَفْصَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَأَسْقَطَ حَفْصَةَ مِنَ الْإِسْنَادِ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ أَيْضًا، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ لِابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ: سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ، وَعُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يُنْكِرُ طَرِيقَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا وَاللَّهِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَعْمَرًا يَرْوِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَاللَّهِ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَذْكُرْ عُرْوَةَ. قُلْتُ: وَطَرِيقُ مَعْمَرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهَا أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْهُ، وَرَوَاهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَذْكُرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَطَرِيقُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ رَوَاهَا أَيْضًا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَقَدْ تَابَعَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (خَمْسٌ) التَّقْيِيدُ بِالْخَمْسِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ اخْتِصَاصَ الْمَذْكُورَاتِ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْخَمْسِ يَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: أَرْبَعٌ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهَا بِلَفْظِ: سِتٌّ فَأَمَّا طَرِيقُ أَرْبَعٍ فَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْهَا فَأَسْقَطَ الْعَقْرَبَ، وَأَمَّا طَرِيقُ سِتٍّ فَأَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، فَأَثْبَتَهَا وَزَادَ الْحَيَّةَ، وَيَشْهَدُ لَهَا طَرِيقُ شَيْبَانَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الْعَدَدِ، وَأَغْرَبَ عِيَاضٌ فَقَالَ: وَفِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ ذِكْرُ الْأَفْعَى، فَصَارَتْ سَبْعًا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَفْعَى دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْحَيَّةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: فَالْأَفْعَى؟ قَالَ: وَمَنْ يَشُكُّ فِي الْأَفْعَى؟ اهـ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، وَزَادَ السَّبُعَ الْعَادِي، فَصَارَتْ سَبْعًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ زِيَادَةُ ذِكْرِ الذِّئْبِ وَالنَّمِرِ عَلَى الْخَمْسِ الْمَشْهُورَةِ، فَتَصِيرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تِسْعًا، لَكِنْ أَفَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الذِّئْبِ وَالنَّمِرِ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي لِلْكَلْبِ الْعَقُورِ. وَوَقَعَ ذِكْرُ الذِّئْبِ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَالذِّئْبَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الذِّئْبِ لِلْمُحْرِمِ وَحَجَّاجٌ ضَعِيفٌ. وَخَالَفَهُ مِسْعَرٌ، عَنْ وَبَرَةَ فَرَوَاهُ مَوْقُوفًا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَهَذَا جَمِيعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الدَّوَابِّ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهُوَ مَا دَبَّ مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْهَا الطَّيْرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}
الْآيَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الدَّوَابِّ الْخَمْسِ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الطَّيْرِ أَيْضًا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الْآيَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صِفَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ: وَخَلَقَ الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَلَمْ يُفْرِدِ الطَّيْرَ بِذِكْرٍ. وَقَدْ تَصَرَّفَ أَهْلُ الْعُرْفِ فِي الدَّابَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْحِمَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْفَرَسِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِي الْحَلِفِ.
قَوْلُهُ: (كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ) قِيلَ: فَاسِقٌ صِفَةٌ لِـ كُلٍّ، وَفِي يُقْتَلْنَ ضَمِيرٌ رَاجَعٌ إِلَى مَعْنَى كُلٍّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: كُلُّهَا فَوَاسِقُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: خَمْسُ فَوَاسِقَ قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِإِضَافَةِ خَمْسٍ لَا بِتَنْوِينِهِ، وَجَوَّزَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْوَجْهَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: رِوَايَةُ الْإِضَافَةِ تُشْعِرُ بِالتَّخْصِيصِ فَيُخَالِفُهَا غَيْرُهَا فِي الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَرِوَايَةُ التَّنْوِينِ تَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْقَتْلُ - مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا وَهُوَ الْفِسْقُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ فَاسِقٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يُونُسَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْخَمْسِ فَوَاسِقَ تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ جَارِيَةٌ فِي وَفْقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ لُغَةً: الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ: خَرَجَ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَهُوَ خُرُوجٌ مَخْصُوصٌ. وَزَعَمَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا شِعْرِهِمْ فَاسِقٌ، يَعْنِي: بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فِي وَصْفِ الدَّوَابِّ الْمَذْكُورَةِ بِالْفِسْقِ فَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَقِيلَ: فِي حِلِّ أَكْلِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
وَقَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفَتْوَى: فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَلْحَقَ بِالْخَمْسِ كُلَّ مَا جَازَ قَتْلُهُ لِلْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ وَفِي الْحِلِّ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي أَلْحَقَ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا قَدْ يُجَامِعُ الْأَوَّلَ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّالِثِ يَخُصُّ الْإِلْحَاقَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِفْسَادُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: قِيلَ لَهُ: لِمَ قِيلَ لِلْفَأْرَةِ: فُوَيْسِقَةٌ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَهَا وَقَدْ أَخَذَتِ الْفَتِيلَةَ لِتُحْرِقَ بِهَا الْبَيْتَ.
فَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ تَسْمِيَةِ الْخَمْسِ بِذَلِكَ لِكَوْنِ فِعْلِهَا يُشْبِهُ فِعْلَ الْفُسَّاقِ، وَهُوَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ بِلَفْظِ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ وَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنْ لَا إِثْمَ فِي قَتْلِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَا فِي الْحَرَمِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ لِلْحَلَالِ، وَفِي الْحِلِّ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ الْحِلِّ صَرِيحًا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَيُعْرَفُ حُكْمُ الْحَلَالِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ، فَهُوَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ - وَكَذَا الْحَرَجُ فِي طَرِيقِ سَالِمٍ - دَلَالَةٌ عَلَى أَرْجَحِيَّةِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَمَرَ وَكَذَا فِي طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: ليقتل المحرم وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاتِهِ إِذْ ضَرَبَ شَيْئًا، فَإِذَا هِيَ عَقْرَبٌ فَقَتَلَهَا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ لِلْمُحْرِمِ، لَكِنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِعُمُومِ نَهْيِ الْمُحْرِمِ عَنِ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلنَّدْبِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: أَذِنَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ.
قَوْلُهُ: (الْغُرَابُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: الْأَبْقَعُ وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ، وَأَخَذَ بِهَذَا الْقَيْدِ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ وَجَدْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ قَدْ صَرَّحَ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ شَذَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ أَصَحُّ. وَفِي جَمِيعِ هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، أَمَّا دَعْوَى التَّدْلِيسِ فَمَرْدُودَةٌ بِأَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ شُيُوخِهِ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا مَا هُوَ مَسْمُوعٌ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، بَلْ صَرَّحَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ. وَأَمَّا نَفْيُ الثُّبُوتِ فَمَرْدُودٌ بِإِخْرَاجِ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الزِّيَادَةِ بَلِ الزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ مِنَ الثِّقَةِ الْحَافِظِ، وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. نَعَمْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَلْتَحِقُ بِالْأَبْقَعِ مَا شَارَكَهُ فِي الْإِيذَاءِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِخْرَاجِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُ: غُرَابُ الزَّرْعِ، وَيُقَالُ لَهُ: الزَّاغُ، وَأَفْتَوْا بِجَوَازِ أَكْلِهِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْغِرْبَانِ مُلْتَحِقًا بِالْأَبْقَعِ. وَمِنْهَا الْغُدَافُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ بِخِلَافِ تَصْحِيحِ الرَّافِعِيِّ، وَسَمَّى ابْنُ قُدَامَةَ الْغُدَافَ غُرَابَ الْبَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ الْأَبْقَعُ، قِيلَ: سُمِّيَ غُرَابُ الْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَانَ عَنْ نُوحٍ لَمَّا أَرْسَلَهُ مِنَ السَّفِينَةِ لِيَكْشِفَ خَبَرَ الْأَرْضِ، فَلَقِيَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى نُوحٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَشَاءَمُونَ بِهِ، فَكَانُوا إِذَا نَعَبَ مَرَّتَيْنِ قَالُوا: آذَنَ بِشَرٍّ. وَإِذَا نَعَبَ ثَلَاثًا قَالُوا: آذَنَ بِخَيْرٍ. فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سَمِعَ الْغُرَابَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غ يْرُكَ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: الْمُرَادُ بِالْغُرَابِ فِي الْحَدِيثِ الْغُدَافُ وَالْأَبْقَعُ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ، وَأَمَّا غُرَابُ الزَّرْعِ فَلَا. وَكَذَا اسْتَثْنَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَمَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ إِنْ صَحَّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَمُجَاهِدٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَبَاحَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ قَتْلَ الْغُرَابِ فِي الْإِحْرَامِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي مُحْرِمٍ كَسَرَ قَرْنَ غُرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ أَدْمَاهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ عَطَاءً عَلَى هَذَا، انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ غُرَابَ الزَّرْعِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اخْتِلَافٌ آخَرُ فِي الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ؛ هَلْ يَتَقَيَّدُ جَوَازُ قَتْلِهِمَا بِأَنْ يَبْتَدِئَا بِالْأَذَى، وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِكِبَارِهَا؟ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ - كَمَا قَالَ ابْنُ شَاسٍ - لَا فَرْقَ وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْغِرْبَانِ الْأَعْصَمُ، وَهُوَ الَّذِي فِي رِجْلَيْهِ أَوْ فِي جَنَاحَيْهِ أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ أَوْ حُمْرَةٌ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي قِصَّةِ حَفْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِزَمْزَمَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَبْقَعِ. وَمِنْهَا الْعَقْعَقُ، وَهُوَ قَدْرُ الْحَمَامَةِ عَلَى شَكْلِ الْغُرَابِ، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعُقُّ فِرَاخَهُ فَيَتْرُكُهَا بِلَا طُعْمٍ، وَبِهَذَا يظَهَرَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْغِرْبَانِ، وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهِ أَيْضًا. وَوَقَعَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانِ الْحَنَفِيِّ: مَنْ خَرَجَ لِسَفَرٍ فَسَمِعَ صَوْتَ الْعَقْعَقَ فَرَجَعَ كَفَرَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَبْقَعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: حُكْمُ غُرَابِ الزَّرْعِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ أَكَلَ الْجِيَفَ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْحِدَأُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ بِغَيْرِ مَدٍّ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ الْمَدَّ فِيهِ نُدُورًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْحِدَأَةُ بِزِيَادَةِ هَاءٍ بِلَفْظِ: الْوَاحِدَةِ، وَلَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ هِيَ كَالْهَاءِ فِي التَّمْرَةِ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ فِيهَا حِدَوَةً بِوَاوٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ حَدِيثِهَا بِلَفْظِ: الْحُدَيَّا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ مَقْصُورٌ، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: الْوَجْهُ فِيهِ الْهَمْزَةُ، وَكَأَنَّهُ سُهِّلَ ثُمَّ أُدْغِمَ، وَقِيلَ: هِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ: حُدَيَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْغُرَابِ. وَمِنْ خَوَاصِّ الْحِدَأَةِ أَنَّهَا تَقِفُ فِي الطَّيَرَانِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لَا تَخْتَطِفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ
الْيَمِينِ، وَقَدْ مَضَى لَهَا ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فِي قِصَّةِ صَاحِبَةِ الْوِشَاحِ.
(تَنْبِيهٌ): يَلْتَبِسُ بِالْحِدَأِ الْحَدَأَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: فَأْسٌ لَهُ رَأْسَانِ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَقْرَبُ) هَذَا اللَّفْظُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقَدْ يُقَالُ: عَقْرَبَةٌ وَعَقْرَبَاءُ، وَلَيْسَ مِنْهَا الْعُقْرُبَانُ بَلْ هِيَ دُوَيْبَّةٌ طَوِيلَةٌ كَثِيرَةُ الْقَوَائِمِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: وَيُقَالُ: إِنَّ عَيْنَهَا فِي ظَهْرِهَا، وَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ مَيِّتًا وَلَا نَائِمًا حَتَّى يَتَحَرَّكَ. وَيُقَالُ: لَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَسَعَتْهُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي ذِكْرِ الْحَيَّةِ بَدَلَهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَمَنْ جَمَعَهُمَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى عِنْدَ الِاقْتِصَارِ وَبَيَّنَ حُكْمَهُمَا مَعًا حَيْثُ جَمَعَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَتْلِ الْعَقْرَبِ. وَقَالَ نَافِعٌ لَمَّا قِيلَ لَهُ: فَالْحَيَّةُ؟ قَالَ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ يَشُكُّ فِيهَا؟ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَّهُ سَأَلَ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا فَقَالَا: لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَلَا الْعَقْرَبَ. قَالَ: وَمِنْ حُجَّتِهِمَا أَنَّهُمَا مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَيَلْزَمُ مَنْ أَبَاحَ قَتْلَهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْهَوَامِّ، وَهَذَا اعْتِلَالٌ لَا مَعْنًى لَهُ، نَعَمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِي قَتْلِ صَغِيرِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ الَّتِي لَا تَتَمَكَّنُ مِنَ الْأَذَى.
قَوْلُهُ: (وَالْفَأْرُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ فِيهَا التَّسْهِيلُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهَا جَزَاءٌ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ: هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَخِلَافُ قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ - لَمَّا ذَكَرُوا لَهُ هَذَا الْقَوْلَ -: مَا كَانَ بِالْكُوفَةِ أَفْحَشُ رَدًّا لِلْآثَارِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لِقِلَّةِ مَا سَمِعَ مِنْهَا، وَلَا أَحْسَنُ اتِّبَاعًا لَهَا مِنَ الشَّعْبِيِّ لِكَثْرَةِ مَا سَمِعَ. وَنَقَلَ ابْنُ شَاسٍ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافًا فِي جَوَازِ قَتْلِ الصَّغِيرِ مِنْهَا الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْأَذَى. وَالْفَأْرُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْجُرَذُ - بِالْجِيمِ بِوَزْنِ عُمَرَ -، وَالْخُلْدُ - بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ -، وَفَأْرَةُ الْإِبِلِ، وَفَأْرَةُ الْمِسْكِ، وَفَأْرَةُ الْغَيْطِ، وَحُكْمُهَا فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَجَوَازِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ إِطْلَاقُ الْفُوَيْسِقَةِ عَلَيْهَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَتَقَدَّمَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَطَعَتْ حِبَالَ سَفِينَةِ نُوحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) الْكَلْبُ مَعْرُوفٌ، وَالْأُنْثَى كَلْبَةٌ، وَالْجَمْعُ أَكْلُبٌ وَكِلَابٌ وَكَلِيبٌ بِالْفَتْحِ، كَأَعْبُدٍ وَعِبَادٍ وَعَبِيدٍ. وَفِي الْكَلْبِ بَهِيمِيَّةٌ سَبْعِيَّةٌ كَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ. وَفِيهِ مَنَافِعُ لِلْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ. وَفِيهِ مِنِ اقْتِفَاءِ الْأَثَرِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ وَالْحِرَاسَةِ وَخِفَّةِ النَّوْمِ وَالتَّوَدُّدِ وَقَبُولِ التَّعْلِيمِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَهُ لِلْحِرَاسَةِ نُوحٌ عليه السلام وَقَدْ سَبَقَ الْبَحْثُ فِي نَجَاسَتِهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ جُمْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا، وَهَلْ لِوَصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَقُورًا مَفْهُومٌ أَوْ لَا؟ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ: الْأَسَدُ. وَعَنْ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فَقَالَ: وَأَيُّ كَلْبٍ أَعَقْرُ مِنَ الْحَيَّةِ؟ وَقَالَ زُفَرُ: الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ هُنَا الذِّئْبُ خَاصَّةً. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ هُوَ الْعَقُورُ. وَكَذَا نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُنَا الْكَلْبُ خَاصَّةً، وَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ. وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ لِلْجُمْهُورِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ. فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ عَنْ أَبِيهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فَاشْتَقَّهَا مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ، فَلِهَذَا قِيلَ لِكُلِّ جَارِحٍ: عَقُورٌ.
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَهُمَا مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ التَّحْرِيمِ بِالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَكَذَلِكَ يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْكَلْبِ وَمَا شَارَكَهُ فِي صِفَتِهِ وَهُوَ الذِّئْبُ.
وَتُعُقِّبَ بِرَدِّ الِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ مُخَالِفِيهِمْ أَجَازُوا قَتْلَ كُلِّ مَا عَدَا وَافْتَرَسَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّقْرُ وَغَيْرُهُ، بَلْ مُعْظَمُهُمْ قَالَ: يَلْتَحِقُ بِالْخَمْسِ كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ إِلَّا مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَيْرِ الْعَقُورِ مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِاقْتِنَائِهِ، فَصَرَّحَ بِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ الْقَاضِيَانِ حُسَيْنٌ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَوَقَعَ فِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فَقَالَ فِي الْبَيْعِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَقَالَ فِي التَّيَمُّمِ وَالْغَصْبِ: إِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ. وَقَالَ فِي الْحَجِّ: يُكْرَهُ قَتْلُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ، وَعَلَى كَرَاهَةِ قَتْلِهِ اقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَزَادَ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى إِلْحَاقِ غَيْرِ الْخَمْسِ بِهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى فَقِيلَ: لِكَوْنِهَا مُؤْذِيَةً فَيَجُوزُ قَتْلُ كُلِّ مُؤْذٍ، وَهَذَا قَضِيَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهِ، وَهَذَا قَضِيَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ قَسَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْحَيَوَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُسْتَحَبُّ كَالْخَمْسِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يُؤْذِي، وَقِسْمٌ يَجُوزُ كَسَائِرِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يَحْصُلُ مِنْهُ نَفْعٌ وَضَرَرٌ فَيُبَاحُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الِاصْطِيَادِ وَلَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَقِسْمٌ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ فَيُكْرَهُ قَتْلُهُ وَلَا يَحْرُمُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ أَوْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ فَلَا يَجُوزُ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْخَمْسِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِهَا الْحَيَّةَ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ، وَالذِّئْبَ لِمُشَارَكَتِهِ لِلْكَلْبِ فِي الْكَلْبِيَّةِ، وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ مَنِ ابْتَدَأَ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى مِنْ غَيْرِهَا، وَتُعُقِّبَ بِظُهُورِ الْمَعْنَى فِي الْخَمْسِ وَهُوَ الْأَذَى الطَّبِيعِيُّ وَالْعُدْوَانُ الْمُرَكَّبُ، وَالْمَعْنَى إِذَا ظَهَرَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الرِّبَا.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالتَّعْدِيَةُ بِمَعْنَى الْأَذَى إِلَى كُلِّ مُؤْذٍ قَوِيٍّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَصَرُّفِ أَهْلِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَاءِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِحُرْمَةِ الْأَكْلِ فَفِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِيمَاءُ النَّصِّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْفِسْقِ، فَمَنْ فَسَرَّهُ بِأَنَّهُ الْخُرُوجُ عَنْ بَقِيَّةِ الْحَيَوَانِ بِالْأَذَى عَلَّلَ بِهِ، وَمَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْقَتْلِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ عَلَّلَ بِهِ، وَقَالَ مَنْ عَلَّلَ بِالْأَذَى: أَنْوَاعُ الْأَذَى مُخْتَلِفَةٌ، وَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِالْعَقْرَبِ عَلَى مَا يُشَارِكُهَا فِي الْأَذَى بِاللَّسْعِ وَنَحْوِهِ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ كَالْحَيَّةِ وَالزُّنْبُورِ، وَبِالْفَأْرَةِ عَلَى مَا يُشَارِكُهَا فِي الْأَذَى بِالنَّقْبِ وَالْقَرْضِ كَابْنِ عُرْسٍ، وَبِالْغُرَابِ وَالْحِدَأِ عَلَى مَا يُشَارِكُهُمَا بِالِاخْتِطَافِ كَالصَّقْرِ، وَبِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى مَا يُشَارِكُهُ فِي الْأَذَى بِالْعُدْوَانِ وَالْعَقْرِ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ. وَقَالَ مَنْ عَلَّلَ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَجَوَازِ الْقَتْلِ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْخَمْسِ لِكَثْرَةِ مُلَابَسَتِهَا لِلنَّاسِ بِحَيْثُ يَعُمُّ أَذَاهَا، وَالتَّخْصِيصُ بِالْغَلَبَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ.
(تَكْمِلَةٌ): نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاسِقَ لَا مِلْكَ فِيهَا لِأَحَدٍ وَلَا اخْتِصَاصَ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْخَمْسِ مِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَا فِي الْمَعْنَى، فَلْيُتَأَمَّلْ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ قَتْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُعَلَّلٌ بِالْفِسْقِ وَالْقَاتِلُ فَاسِقٌ فَيُقْتَلُ، بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْمَذْكُورَاتِ طَبِيعِيٌّ، وَالْمُكَلَّفُ إِذَا ارْتَكَبَ الْفِسْقَ هَاتِكًا لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِإِقَامَةِ مُقْتَضَى الْفِسْقِ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّهُ بَحْثٌ قَابِلٌ لِلنِّزَاعِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(الحَدِيثُ الثَّالِثُ) حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ هُوَ النَّخَعِيُّ خَالُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الْأَعْمَشِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (فِي غَارٍ بِمِنًى) وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَقْصُودِ الْبَابِ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْحَيَّةِ لِلْمُحْرِمِ، كَمَا دل قَوْلُهُ: بِمِنًى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحَرَمِ، وَعُرِفَ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ فِي الْحَرَمِ بِمِنًى وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ عَقِبَ حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُصَنِّفُ: إِنَّمَا أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ - يَعْنِي فِيهِ - بَأْسًا، وَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَمَحَلُّهُ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (رَطْبٌ) أَيْ: لَمْ يَجِفَّ رِيقُهُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا) بِالنَّصْبِ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ أَيْ أَنَّ اللَّهَ سَلَّمَهَا مِنْكُمْ كَمَا سَلَّمَكُمْ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُقَابَلَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الْحَيَّةِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ وَبِمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنِ اسْتِثْنَاءِ مَا صَغُرَ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْأَذَى.
(الحديث الرابع) قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِلْوَزَغِ: فُوَيْسِقٌ) اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَمَّاهُ فُوَيْسِقًا، وَهُوَ تَصْغِيرُ تَحْقِيرٍ مُبَالَغَةً فِي الذَّمِّ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ) هُوَ مَقُولٌ عَنْ عَائِشَةَ وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَضِيَّةُ تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ فُوَيْسِقًا أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُبَاحًا، وَكَوْنُهَا لَمْ تَسْمَعْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فَقَدْ سَمِعَهُ غَيْرُهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْوَزَغَ، زَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ قَتَلَهُ يَتَصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخَمْسِ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَطَاءً سُئِلَ عَنْ قَتْلِ الْوَزَغِ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ: إِذَا آذَاكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ. وَهَذَا يُفْهِمُ تَوَقُّفَ قَتْلِهِ عَلَى أَذَاهُ.
8 - بَاب لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ
1832 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ -: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخُرْبَةٍ. خُرْبَةٌ بَلِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: لَا يُقْطَعُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ بَابٍ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ خُزَاعِيٌّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ لُحَيٍّ، بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: الْكَعْبِيُّ أَيْضًا، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، لَا عَدِيَّ قُرَيْشٍ وَلَا عَدِيَّ مُضَرَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: فِي خُزَاعَةَ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَدِيٍّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: ابْنُ صَخْرٍ، وَقِيلَ: هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: كَعْبٌ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَقِيلَ: مَطَرٌ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَحَمَلَ بَعْضَ أَلْوِيَةِ قَوْمِهِ، وَسَكَنَ الْمَدِينَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَعْرُوفِ بِالْأَشْدَقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَعَ شَرْحِ بَعْضِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِهِ تُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ وَهِيَ لَمَّا بَعَثَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى مَكَّةَ بَعْثَهُ لِغَزْوِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَتَاهُ أَبُو شُرَيْحٍ فَكَلَّمَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ فَجَلَسَ فِيهِ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ فَحَدَّثَ قَوْمَهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ فِي قِتَالِ بَنِي بَكْرٍ حَتَّى أَصَبْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَنَا وَهُوَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضْعِ السَّيْفِ، فَلَقِيَ الْغَدَ رَهْطٌ مِنَّا رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ فِي الْحَرَمِ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ وَتَرَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يَطْلُبُونَهُ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ أَشَدَّ مِنْهُ، فَلَمَّا صَلَّى قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي بَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَذَكَرنَا أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَأَنَّهُ جَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ جَيْشًا لِغَزْوِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ الْقِصَّةَ عَنْ مَشَايِخِهِ فَقَالُوا: كَانَ قُدُومُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَقِيلَ: قَدِمَهَا فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي وُلِّيَ فِيهَا يَزِيدُ الْخِلَافَةَ، فَامْتَنَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ بَيْعَتِهِ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ وَكَانَ مُعَادِيًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ قَدْ وَلَّاهُ شُرْطَتَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى قِتَالِ أَخِيهِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَنَهَاهُ فَامْتَنَعَ، وَجَاءَ أَبُو شُرَيْحٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجَيْشُ ذَا طُوًى خَرَجَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَهَزَمُوهُمْ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ فَسَجَنَهُ أَخُوهُ بِسِجْنِ عَارِمٍ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ ضَرَبَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنِ اتُّهِمَ بِالْمَيْلِ إِلَى أَخِيهِ فَأَقَادَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ عَمْرٌو مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ وَمَغَازِي الْوَاقِدِيِّ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو شُرَيْحٍ رَاجَعَ الْبَاعِثَ وَالْمَبْعُوثَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ) هِيَ جَمْعُ بَعْثٍ بِمَعْنَى مَبْعُوثٍ، وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَيْشُ الْمُجَهَّزُ لِلْقِتَالِ.
قَوْلُهُ: (إِيذَنْ)
أَصْلُهُ ائْذَنْ بِهَمْزَتَيْنِ فَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (أَيُّهَا الْأَمِيرُ) الْأَصْلُ فِيهِ يَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ حُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي مُخَاطَبَةِ السُّلْطَانِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُخَاطَبُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ وَالْغِلْظَةُ لَهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَةِ نَفْسِهِ وَمُعَانَدَةِ مَنْ يُخَاطِبُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْحُدُودِ قَوْلُ وَالِدِ الْعَسِيفِ: وَائْذَنْ لِي.
قَوْلُهُ: (قَامَ بِهِ) صِفَةٌ لِلْقَوْلِ، وَالْمَقُولُ هُوَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى. . . إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: الْغَدَ بِالنَّصْبِ أَيْ: ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. . . إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ حِفْظِهِ لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَقَوْلُهُ: سَمِعَتْهُ أَيْ: حَمَلَتْهُ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذِكْرُ الْأُذُنَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: وَوَعَاهُ قَلْبِي تَحْقِيقٌ لِفَهْمِهِ وَتَثَبُّتِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ زِيَادَةٌ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُ لَيْسَ اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ فَقَطْ بَلْ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَوْلُهُ: حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَيْ: بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَعَاهُ قَلْبِي أَنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ) هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَكَلَّمَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الثَّنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ، وَالْخُطْبَةُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ: حَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا وَقَضَاهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَكَّةَ أَنْ لَا يُقَاتَلَ أَهْلُهَا وَيُؤَمَّنَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهَا وَلَا يُتَعَرَّضَ لَهُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ قَضَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا، أَوْ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُنْسَبُ لِأَحَدٍ وَلَا لِأَحَدٍ فِيهِ مَدْخَلٌ، قَالَ: وَلِأَجْلِ هَذَا أَكَّدَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ اللَّهِ فَيَجِبُ امْتِثَالُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ النَّاسِ يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حُرْمَتَهَا مُسْتَمِرَّةٌ مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ مِمَّا اخْتُصَّتْ بِهِ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَحِلُّ. . . إِلَخْ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِامْتِثَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لَزِمَتْهُ طَاعَتُهُ، وَمَنْ آمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَزِمَهُ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ خَوْفَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ خِلَافُهُ، وَجَوَابُهُمْ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِلْأَحْكَامِ وَيَنْزَجِرُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَجَعَلَ الْكَلَامَ مَعَهُ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مِنْ خِطَابِ التَّهْيِيجِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بَلْ يُنَافِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَوْ قِيلَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مُطْلَقًا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَذَا الْغَرَضُ وَإِنْ أَفَادَ التَّحْرِيمَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمَكَّةَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً) أَيْ: لَا يَقْطَعَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: يَعْضُدَ بِضَمِّ الضَّادِ، وَقَالَ لَنَا ابْنُ الْخَشَّابِ هُوَ بِكَسْرِهَا، وَالْمِعْضَدُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُقْطَعُ بِهَا. قَالَ الْخَلِيلُ: الْمِعْضَدُ الْمُمْتَهَنُ مِنَ السُّيُوفِ فِي قَطْعِ الشَّجَرِ، وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: أَصْلُهُ مِنْ عَضَدَ الرَّجُلَ إِذَا أَصَابَهُ بِسُوءٍ فِي عَضُدِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ بِلَفْظِ: لَا يَخْضِدَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْخَضْدِ الْكَسْرُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْقَطْعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: خَصَّ الْفُقَهَاءُ الشَّجَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْ قَطْعِهِ بِمَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صُنْعِ آدَمِيٍّ، فَأَمَّا مَا يَنْبُتُ بِمُعَالَجَةِ آدَمِيٍّ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْجَمِيعِ الْجَزَاءُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَزَاءِ مَا قُطِعَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا جَزَاءَ فِيهِ بَلْ يَأْثَمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَسْتَغْفِرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْخَذُ بِقِيمَتِهِ هَدْيٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْعَظِيمَةِ بَقَرَةٌ وَفِيمَا دُونَهَا شَاةٌ. وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ بِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا قَطَعَ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ الْحِلِّ وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ قَطْعَ السِّوَاكِ مِنْ فُرُوعِ الشَّجَرَةِ، كَذَا نَقَلَهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنْهُ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَخْذَ الْوَرَقِ وَالثَّمَرِ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّهَا وَلَا يُهْلِكُهَا، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا، وَأَجَازُوا قَطْعَ الشَّوْكِ لِكَوْنِهِ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ فَأَشْبَهَ الْفَوَاسِقَ، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِ الشَّوْكِ لَكَانَ فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّجَرِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّوْكِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ شَجَرِ الْحَرَمِ كَذَلِكَ، وَلِقِيَامِ الْفَارِقِ أَيْضًا فَإِنَّ الْفَوَاسِقَ الْمَذْكُورَةَ تُقْصَدُ بِالْأَذَى بِخِلَافِ الشَّجَرِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنَ الْأَغْصَانِ وَانْقَطَعَ مِنَ الشَّجَرِ بِغَيْرِ صُنْعِ آدَمِيٍّ وَلَا بِمَا يَسْقُطُ مِنَ الْوَرَقِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَحَدٌ) هُوَ فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ: تَرَخَّصَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّخْصَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ فَقَالَ أُحِلَّتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّهَا لِي وَلَمْ يَحِلَّهَا لِلنَّاسِ وَفِي مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: فَلَا يَسْتَنَّ بِي أَحَدٌ فَيَقُولَ قَتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْفَاعِلُ اللَّهُ، وَيُرْوَى بِضَمِّهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
قَوْلُه: (سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ مِقْدَارَهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ. فَأَذِنَ لَهُمْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ، فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ غَدٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ، وَرَأَيْتُهُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَتْلَ مَنْ أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِمْ - كَابْنِ خَطَلٍ - وَقَعَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُبِيحَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الْقِتَالُ، خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَاحْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ قِصَّةِ ابْنِ خَطَلٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا) أَيِ: الْحُكْمُ الَّذِي فِي مُقَابَلَةِ إِبَاحَةِ الْقِتَالِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ لَفْظِ الْإِذْنِ.
وَقَوْلُهُ: (الْيَوْمَ) الْمُرَادُ بِهِ الزَّمَنُ الْحَاضِرُ، وَقَدْ بَيَّنَ غَايَتَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي بَعْدَ بَابٍ بِقَوْلِهِ: فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ قَدْ لَزِمَهُ الْإِبْلَاغُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِبْلَاغِ الْغَائِبِ عَنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ فَرْضُ الْعَمَلِ بِمَا أَبْلَغَهُ كَالَّذِي لَزِمَ السَّامِعَ سَوَاءٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ فَائِدَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: لِأَبِي شُرَيْحٍ) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الْقَائِلِ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بَعْضُ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ.
قَوْلُهُ: (لَا يُعِيذُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: لَا يُجِيرُ وَلَا يَعْصِمُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا فَارًّا) بِالْفَاءِ وَتَثْقِيلِ الرَّاءِ، أَيْ: هَارِبًا، وَالْمُرَادُ
مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَتْلِ فَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ مُسْتَجِيرًا بِالْحَرَمِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَغْرَبَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ فِي سِيَاقِهِ الْحُكْمَ مَسَاقَ الدَّلِيلِ، وَفِي تَخْصِيصِهِ الْعُمُومَ بِلَا مُسْتَنَدٍ.
قَوْلُهُ: (بِخُرْبَةٍ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى ضَبْطِهِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَبِالزَّايِ بَدَلَ الرَّاءِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ جَعَلَهُ مِنَ الْخِزْيِ، وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ لَمَّا حَكَى هَذَا الْوَجْهَ، فَأَبْدَلَ الْخَاءَ الْمُعْجَمَةَ جِيمًا، جَعَلَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَذِكْرُ الْجِزْيَةَ وَكَذَا الذَّمُّ بَعْدَ ذِكْرِ الْعِصْيَانِ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ.
قَوْلُهُ: (خُرْبَةٌ: بَلِيَّةٌ) هُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُصَنِّفُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَغَازِي فِي آخِرِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْخُرْبَةُ الْبَلِيَّةُ وَسَبَقَ فِي الْعِلْمِ فِي آخِرِهِ يَعْنِي: السَّرِقَةَ وَهِيَ أَحَدُ مَا قِيلَ: فِي تَأْوِيلِهَا، وَأَصْلُهَا سَرِقَةُ الْإِبِلِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ سَرِقَةٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ: الْخُرْبَةُ الْفَسَادُ فِي الْإِبِلِ، وَقِيلَ: الْعَيْبُ، وَقِيلَ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْعَوْرَةُ وَقِيلَ: الْفَسَادُ، وَبِفَتْحِهِ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْخِرَابَةِ وَهِيَ السَّرِقَةُ. وَقَدْ وَهَمَ مَنْ عَدَّ كَلَامَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ هَذَا حَدِيثًا، وَاحْتَجَّ بِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا كَرَامَةَ لِلَطِيمِ الشَّيْطَانِ يَكُونُ أَعْلَمَ مِنْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَزَعَمَ أَنَّ سُكُوتَ أَبِي شُرَيْحٍ عَنْ جَوَابِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهِ فِي التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ فَقُلْتُ لِعَمْرٍو قَدْ كُنْتُ شَاهِدًا وَكُنْتَ غَائِبًا. وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا، وَقَدْ بَلَّغْتُكَ. فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ، وَإِنَّمَا تَرَكَ مُشَاقَقَتَهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الشَّوْكَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا: لَيْسَ قَوْلُ عَمْرٍو جَوَابًا لِأَبِي شُرَيْحٍ،؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَعَهُ فِي أَنَّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّ أَبَا شُرَيْحٍ أَنْكَرَ بَعْثَ عَمْرٍو الْجَيْشَ إِلَى مَكَّةَ وَنَصْبَ الْحَرْبِ عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ، وَحَادَ عَمْرٌو عَنْ جَوَابِهِ، وَأَجَابَهُ عَنْ غَيْرِ سُؤَالِهِ. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِدْ فِي جَوَابِهِ، وَإِنَّمَا أَجَابَ بِمَا يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: صَحَّ سَمَاعُكَ وَحِفْظُكَ، لَكِنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ خِلَافُ مَا فَهِمْتَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّرَخُّصَ كَانَ بِسَبَبِ الْفَتْحِ وَلَيْسَ بِسَبَبِ قَتْلِ مَنِ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ اسْتَجَارَ بِالْحَرَمِ، وَالَّذِي أَنَا فِيهِ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي.
قُلْتُ: لَكِنَّهَا دَعْوَى مِنْ عَمْرٍو بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ فَعَاذَ بِالْحَرَمِ فِرَارًا مِنْهُ حَتَّى يَصِحَّ جَوَابُ عَمْرٍو، نَعَمْ كَانَ عَمْرٌو يَرَى وُجُوبَ طَاعَةِ يَزِيدَ الَّذِي اسْتَنَابَهُ، وَكَانَ يَزِيدُ أَمَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَنْ يُبَايِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ وَيَحْضُرَ إِلَيْهِ فِي جَامِعَةٍ، يَعْنِي: مَغْلُولًا، فَامْتَنَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَاذَ بِالْحَرَمِ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ بِذَلِكَ: عَائِذُ اللَّهِ، وَكَانَ عَمْرٌو يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَاصٍ بِامْتِنَاعِهِ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ يَزِيدَ وَلِهَذَا صَدَّرَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ مَا ذَكَرَ اسْتِطْرَادًا، فَهَذِهِ شُبْهَةُ عَمْرٍو وَهِيَ وَاهِيَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ، وَعَمْرٍو فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: جَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي ثِقَتَهُ وَضَبْطَهُ لِمَا سَمِعَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْكَارُ الْعَالِمِ عَلَى الْحَاكِمِ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالْمَوْعِظَةُ بِلُطْفٍ وَتَدْرِيجٍ، وَالِاقْتِصَارُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى اللِّسَانِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ بِالْيَدِ، وَوُقُوعُ التَّأْكِيدِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَجَوَازُ الْمُجَادَلَةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَجَوَازُ النَّسْخِ، وَأَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَا يَكُونُ فِيهَا مُجْتَهِدٌ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ. وَفِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَ مَنْ قَالَ: فُتِحَتْ صُلْحًا، بِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ جَائِزًا لَهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْمَغَازِي. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَةُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِي قِصَّةِ أَبِي شُرَيْحٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
9 - بَاب لَا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ
1833 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.
وَعَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا؟ هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، قِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِاصْطِيَادِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ التَّنْفِيرُ - وَهُوَ الْإِزْعَاجُ - عَنْ مَوْضِعِهِ، فَإِنْ نَفَّرَهُ عَصَى سَوَاءٌ تَلِفَ أَوْ لَا، فَإِنْ تَلِفَ فِي نِفَارِهِ قَبْلَ سُكُونِهِ ضُمِنَ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَفَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّنْفِيرِ تَحْرِيمُ الْإِتْلَافِ بِالْأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَلَا تَحِلَّ وَهُوَ أَلْيَقُ بِقَصْدِ الْأَمْرِ الْآتِي، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ الْبَيْعِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِلَفْظِ: فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَمِثْلُهُ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ خَالِدٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي الْإِخْبَارُ عَنِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ لَا الْإِخْبَارُ بِمَا سَيَقَعُ لِوُقُوعِ خِلَافِ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ، كَمَا وَقَعَ مِنَ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى.
وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ، أَوْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَيْ: لَا يُحِلُّهَا اللَّهُ بَعْدِي؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يَنْقَطِعُ بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ خَالِدٍ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ بِأَوْضَحَ مِمَّا هُنَا.
قَوْلُهُ: (هَلْ تَدْرِي مَا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا. . . إِلَخْ) قِيلَ: نَبَّهَ عِكْرِمَةُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْإِتْلَافِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَقَدْ خَالَفَ عِكْرِمَةَ، عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ فَقَالَا: لَا بَأْسَ بِطَرْدِهِ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى قَتْلِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ حَمَامًا كَانَ عَلَى الْبَيْتِ فَذَرَقَ عَلَى يَدِ عُمَرَ، فَأَشَارَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ فَأَكَلَتْهُ، فَحَكَمَ عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ بِشَاةٍ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُثْمَانَ نَحْوُهُ.
10 - بَاب لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ
وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَسْفِكُ بِهَا دَمًا
1834 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا،
فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا. قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ. قَالَ: قَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ: الْقِتَالِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ كَذَلِكَ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ: الْقَتْلِ، بَدَلَ الْقِتَالِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اخْتِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَبْلَ بَابٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِتَالَ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ وَرَدَ تَحْرِيمُ سَفْكِ الدَّمِ بِهَا بِلَفْظِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ) كَذَا رَوَاهُ مَنْصُورٌ مَوْصُولًا، وَخَالَفَهُ الْأَعْمَشُ فَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، وَمَنْصُورٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ، فَالْحُكْمُ لِوَصْلِهِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ) هُوَ ظَرْفٌ لِلْقَوْلِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (لَا هِجْرَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْفَتْحِ، وَأَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) الْمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ انْقَطَعَ بِفَتْحِهَا إِذْ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَلَكِنْ بَقِيَ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى حَالِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:(فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) أَيْ: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْغَزْوِ فَأَجِيبُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَكِنْ جِهَادٌ عَطْفٌ عَلَى مَدْخُولِ لَا هِجْرَةَ أَيِ: الْهِجْرَةُ إِمَّا فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا إِلَى الْجِهَادِ، وَإِمَّا إِلَى نَحْوِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْأُولَى فَاغْتَنِمُوا الْأَخِيرَتَيْنِ، وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ بِشَارَةً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مَكَّةَ تَسْتَمِرُّ دَارَ إِسْلَامٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَامٌ، وَكَأَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَصْبُ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَرَامًا كَانَ التَّنْفِيرُ يَقَعُ مِنْهُ لَا إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ فَصَلَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ مِنَ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ. . . إِلَخْ، فَجَعَلَهُ حَدِيثًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ كَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (حَرَّمَهُ اللَّهُ) سَبَقَ مَشْرُوحًا فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَرَّمَ اللَّهُ بِحَذْفِ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: بِتَحْرِيمِهِ، وَقِيلَ: الْحُرْمَةُ الْحَقُّ أَيْ: حَرَامٌ بِالْحَقِّ الْمَانِعِ مِنْ تَحْلِيلِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِالْحَرَمِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ حَدِّ الْقَتْلِ فِيهَا عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ فِيهَا، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمِنْ قَتَلَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بِهَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُحِلَّتْ فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ فِيهَا مُطْلَقًا، وَنَقَلَ التَّفْصِيلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنْ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَيُوعَظُ وَيُذَكَّرُ حَتَّى يَخْرُجَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلِّ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَأَبْطَلَ
مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مِنْ خَصَائِصِ مَكَّةَ أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهَا، فَلَوْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْقِتَالِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُقَاتَلُونَ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَصْبِ الْقِتَالِ بِمَا يَعُمُّ أَذَاهُ كَالْمَنْجَنِيقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَحَصَّنَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ بِالتَّحْرِيمِ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَجَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْحِلِّ وَاسْتَجَارَ بِالْحَرَمِ فَلِلْإِمَامِ إِلْجَاؤُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ الْحَرْبَ بَلْ يُحَاصِرَهُ وَيُضَيِّقَ عَلَيْهِ حَتَّى يُذْعِنَ لِلطَّاعَةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِيَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي حَلَّتْ لَهُ بِهِ وَهُوَ مُحَارَبَةُ أَهْلِهَا وَالْقَتْلُ فِيهَا. وَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى هَذَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّأْكِيدَ ذَكَرَ الشَّيْءَ ثَلَاثًا. قَالَ: فَهَذَا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْقِتَالِ؛ لِاعْتِذَارِهِ عَمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ مُسْتَحَقِّينَ لِلْقِتَالِ وَالْقَتْلِ؛ لِصَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلَهُ مِنْهُ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو شُرَيْحٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ لَمْ يُؤْذَنْ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَالَّذِي وَقَعَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الْقِتَالِ لَا الْقِتَالَ الْخَاصَّ بِمَا يَعُمُّ كَالْمَنْجَنِيقِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ؟ وَأَيْضًا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ الْبُقْعَةِ بِتَحْرِيمِ سَفْكِ الدِّمَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَأْصَلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ أَيْ: يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ دُخُولُهُ حَتَّى يُحْرِمَ، وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أَيْ: وَطْؤُهُنَّ، وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أَيْ: أَكْلُهَا، فَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ: وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى اعْتِذَارُهُ عَنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ مُقَاتِلًا بِقَوْلِهِ: لَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا، وَمَنْ تَبِعَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِلَّا مُحْرِمًا، إِلَّا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُكْثِرُ التَّكْرَارَ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ) الْهَاءُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمْ يَحِلَّ بِلَفْظِ: لَمْ بَدَلَ لَا وَهِيَ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ: قَبْلِي.
قَوْلُهُ: (لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْخَلَا مَقْصُورٌ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالْمَدِّ، وَهُوَ الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ، وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ وَاحْتِشَاشُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ رَعْيِهِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ مِنَ الِاحْتِشَاشِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِمَصْلَحَةِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ، بِخِلَافِ الِاحْتِشَاشِ فَإِنَّهُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَلَا يُتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي تَخْصِيصِ التَّحْرِيمِ بِالرَّطْبِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ رَعْيِ الْيَابِسِ وَاخْتِلَائِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبْتَ الْيَابِسَ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَكِنْ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ الْيَابِسِ مِنَ الْحَشِيشِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَةِ أَخْذِ
مَا اسْتَنْبَتَهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ مِنْ بَقْلٍ وَزَرْعٍ وَمَشْمُومٍ فَلَا بَأْسَ بِرَعْيِهِ وَاخْتِلَائِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْعَبَّاسُ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَمَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْإِذْخِرَ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الْبَدَلِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِكَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً وَاقِعًا بَعْدَ النَّفْيِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْمُخْتَارُ النَّصْبُ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَبَعُدَتِ الْمُشَاكَلَةُ بِالْبَدَلِيَّةِ، وَلِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا عَرَضَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا. وَالْإِذْخِرُ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ طَيِّبُ الرِّيحِ لَهُ أَصْلٌ مُنْدَفِنٌ وَقُضْبَانٌ دِقَاقٌ، يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَالْحَزَنِ، وَبِالْمَغْرِبِ صِنْفٌ مِنْهُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْبَيْطَارِ، قَالَ: وَالَّذِي بِمَكَّةَ أَجْوَدُهُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَسْقُفُونَ بِهِ الْبُيُوتَ بَيْنَ الْخَشَبِ وَيَسُدُّونَ بِهِ الْخَلَلَ بَيْنَ اللَّبِنَاتِ فِي الْقُبُورِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ بَدَلًا مِنَ الْحَلْفَاءِ فِي الْوَقُودِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ: فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ، أَيِ: الْحَدَّادُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقَيْنُ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ ذِي صِنَاعَةٍ يُعَالِجُهَا بِنَفْسِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَغَازِي: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَالْبُيُوتِ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ: فَإِنَّهُ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَيْضًا: فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا صَبْرَ لَهُمْ عَنِ الْإِذْخِرِ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ هُوَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُلَقِّنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الِاسْتِثْنَاءَ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِهِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِدُخُولِ الْإِذْخِرِ فِي عُمُومِ مَا يُخْتَلَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَعَلَى جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا حُكْمًا؛ لِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالتَّنَفُّسِ مَثَلًا، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَشَغَلَهُ الْعَبَّاسُ بِكَلَامِهِ، فَوَصَلَ كَلَامَهُ بِكَلَامِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: يَجُوزُ الْفَصْلِ مَعَ إِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا الْإِذْخِرَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ وَحْيٍ؟ وَقِيلَ: كَأَنَ اللَّهَ فَوَّضَ لَهُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ أَحَدٌ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَجِبْ سُؤَالَهُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: سَاغَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْإِذْخِرَ؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيمِ مَكَّةَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ دُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الِاخْتِلَاءِ، فَإِنَّهُ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّسُولِ بِاجْتِهَادِهِ، فَسَاغَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ اسْتِثْنَاءَ الْإِذْخِرِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِلَازِمٍ بَلْ فِي تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا لِلضَّرُورَةِ كَتَحْلِيلِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِذْخِرَ لَا غِنًى لِأَهْلِ مَكَّةَ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ يُشْتَرَطُ حُصُولُهَا فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الْإِذْخِرُ مِثْلَ الْمَيْتَةِ لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا فِيمَنْ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ مُطْلَقًا بِغَيْرِ قَيْدِ الضَّرُورَةِ. انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُهَلَّبِ بِأَنَّ أَصْلَ إِبَاحَتِهِ كَانَتْ لِلضَّرُورَةِ وَسَبَبِهَا، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَالْحَقُّ أَنَّ سُؤَالَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَلَى مَعْنَى الضَّرَاعَةِ، وَتَرْخِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَحْتَاجُ إِلَى أَمَدٍ مُتَّسِعٍ فَقَدْ وَهَمَ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَجَوَازُ مُرَاجَعَةِ الْعَالِمِ فِي الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَشَاهِدِ، وَعَظِيمُ مَنْزِلَةِ الْعَبَّاسِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعِنَايَتُهُ بِأَمْرِ مَكَّةَ لِكَوْنِهِ كَانَ بِهَا أَصْلُهُ وَمُنْشَؤُهُ، وَفِيهِ رَفْعُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِبْقَاءُ حُكْمِهَا مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَأَنَّ الْجِهَادَ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْإِخْلَاصُ وَوُجُوبُ النَّفِيرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ.
11 - بَاب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ
وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ
1835 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنِي طَاوُسٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا.
[الحديث 1835 أطرافه في 1938، 1939، 2103، 2278، 2279، 5691، 5694، 5695، 5699، 5700، 5701]
1836 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه قَالَ احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ"
[الحديث 1836 - طرفه في: 5698]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ) أَيْ: هَلْ يُمْنَعُ مِنْهَا أَوْ تُبَاحُ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ لِلضَّرُورَةِ؟ وَالْمُرَادُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَحْجُومُ لَا الْحَاجِمَ.
قَوْلُهُ: (وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ) هَذَا الِابْنُ اسْمُهُ وَاقِدٌ، وَصَلَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَصَابَ وَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِرْسَامٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَكَّةَ فَكَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلضَّرُورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْجَمَةِ، وَلَيْسَ فِي أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: فَاعِلُ يَتَدَاوَى إِمَّا الْمُحْرِمُ، وَإِمَّا ابْنُ عُمَرَ، فَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ فِي بَابِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحِجَامَةِ عُمُومُ التَّدَاوِي. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمَ شَجَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الشَّعْرِ ثُمَّ يُدَاوِيَهَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لَنَا عَمْرٌو أَوَّلُ شَيْءٍ) أَيْ: أَوَّلُ مَرَّةٍ، فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَمِعْتُهُ) هُوَ مَقُولُ سُفْيَانَ وَالضَّمِيرُ لِعَمْرٍو، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَمْرٌو مَرَّتَيْنِ فَذَكَرَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَسَمِعَهُ مِنْهُمَا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمًا، زَادَ أَبُو عَوَانَةَ: قَالَ سُفْيَانُ: ذَكَرَ لِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ فَذَكَرَهُ. قَالَ: ثُمَّ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ طَاوُسٍ بِهِ، فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: إِنَّمَا كُنْتَ حَدَّثْتَنَا عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: اسْكُتْ يَا صَبِيُّ، لَمْ أَغْلَطْ، كِلَاهُمَا حَدَّثَنِي.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ سُفْيَانَ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِ عَمْرٍو سَمِعَهُ مِنْهُمَا لَمَّا خَشِيَ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ حَالَةَ الْغَضَبِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ حُدِّثَ بِهِ فَجَمَعَهُمَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو أَوَّلًا فَحَفِظْنَاهُ، قَالَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ فَقَالَ: قَالَ عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قُلْتُ: وَكَذَا جَمَعَهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، مُسَدَّدٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الطِّبِّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقُتَيْبَةُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ. وَتَابَعَ سُفْيَانَ عَلَى رِوَايَتِهِ
لَهُ عَنْ عَمْرٍو لَكِنْ عَنْ طَاوُسٍ وَحْدَهُ زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَلَهُ أَصْلٌ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْهُ.
(تَنْبِيهٌ): زَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِالسِّيَاقِ الْمَذْكُورِ أَنَّ عُمَرًا حَدَّثَ بِهِ سُفْيَانَ أَوَّلًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَهُ بِهِ ثَانِيًا عَنْ عَطَاءٍ بِوَاسِطَةِ طَاوُسٍ.
قُلْتُ: وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى طَرِيقِ مُسَدَّدٍ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الَّذِي شُرِحَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ بَقِيَّةِ الطُّرُق الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا تُعْرَفُ مَعَ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ رِوَايَةٌ أَصْلًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُحْرِمٌ) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: صَائِمٌ (بِلَحْيِ جَمَلٍ) وَزَادَ زَكَرِيَّا: عَلَى رَأْسِهِ وَسَتَأْتِي رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ فِي الصَّوْمِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَاتُ مُوَافِقَةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ دُونَ ذِكْرِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ وَاسْمُ أَبِي عَلْقَمَةَ، بِلَالٌ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ سَمِعَ أَنَسًا، وَهُوَ عَلْقَمَةُ بْنُ أُمِّ عَلْقَمَةَ وَاسْمُهَا مَرْجَانَةُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الطِّبِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ - عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (بِلَحْيِ جَمَلٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَسُكُونُ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ: مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. وَقَدْ وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ: بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ ذَكَرَ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِهِ فِي رَسْمِ الْعَقِيقِ، قَالَ: هِيَ بِئْرُ جَمَلٍ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ، يَعْنِي: الْمَاضِي فِي التَّيَمُّمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ عَقَبَةُ الْجُحْفَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ السُّقْيَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِلَحْيَيْ جَمَلٍ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِالْإِفْرَادِ. وَوَهَمَ مَنْ ظَنَّهُ فَكَّيِ الْجَمَلِ، الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ كَانَ آلَةَ الْحَجْمِ، وَجَزَمَ الْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ صَائِمًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (فِي وَسَطِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: مُتَوَسِّطُهُ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْيَافُوخِ فِيمَا بَيْنَ أَعْلَى الْقَرْنَيْنِ. قَالَ اللَّيْثُ: كَانَتْ هَذِهِ الْحِجَامَةُ فِي فَأْسِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الَّتِي فِي أَعْلَاهُ فَلَا؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا أَعْمَتْ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ جَازَتْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ، وَعَنِ الْحَسَنِ فِيهَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ جَازَ قَطْعُ الشَّعْرِ وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْفِدْيَةَ بِشَعْرِ الرَّأْسِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِذَا أَمْكَنَ مَسْكُ الْمَحَاجِمِ بِغَيْرِ حَلْقٍ لَمْ يَجُزِ الْحَلْقُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ وَبَطِّ الْجُرْحِ وَالدُّمَّلِ وَقَطْعِ الْعِرْقِ وَقَلْعِ الضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ تَنَاوُلِ الطِّيبِ وَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ
1837 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
[الحديث 1837 - أطرافه في 4258، 4259، 5114]
قَوْلُهُ: (بَابُ تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ، وَظَاهِرُ صَنِيعِهِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ
النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَقَدْ تَرْجَمَ فِي النِّكَاحِ بَابَ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمُرَادُهُ بِالنِّكَاحِ التَّزْوِيجُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِفْسَادِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالْجِمَاعِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَصَحَّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَاءَ عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ كَانَ الرَّسُولَ إِلَيْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْوَاقِعَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وَلَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ، فَكَانَ الْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ لِلْوَطْءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُعَارَضَةِ السُّنَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ حَدِيثَ عُثْمَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ فَمُتَعَقَّبٌ بِالتَّصْرِيحِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُنْكِحُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَبِقَوْلِهِ فِيهِ: وَلَا يَخْطُبُ.
13 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَا تَلْبَسْ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ
1838 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ. تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَلَا وَرْسٌ. وَكَانَ يَقُولُ: لَا تَنْتَقِبْ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ. وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ.
1839 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى) أَيْ: عَنْهُ (مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ) أَيْ: أَنَّهُمَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ هَلْ تُعَدُّ طِيبًا أَوْ لَا؟ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ الطِّيبِ أَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ الَّتِي تُفْسِدُ الْإِحْرَامَ، وَبِأَنَّهُ يُنَافِي حَالَ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ
إِلَّا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَلَا تَبَرْقَعُ وَلَا تَلَثَّمُ، وَتُسْدِلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا إِنْ شَاءَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَنْعِ الطِّيبِ إِجْمَاعًا. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ أَصْلَ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ؟ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ مَعَ سَائِرِ مَبَاحِثِهِ فِي بَابِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَزَادَ فِيهِ هُنَا: وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَوَقْفِهَا، وَسَأُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ فِي آخِرِ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: ابْنُ عُقْبَةَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مُوسَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ السَّلَفِيِّ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنِ ابْنِ بَشْرَانَ عَنْهُ عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي عَبَّادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَجُوَيْرِيَةُ) أَيِ: ابْنُ أَسْمَاءَ، وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ إِسْحَاقَ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ) أَيْ: فِي ذِكْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. وَالْقُفَّازُ - بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ زَايٌ -: مَا تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي يَدِهَا فَيُغَطِّي أَصَابِعَهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ مُعَانَاةِ الشَّيْءِ كَغَزْلٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ لِلْيَدِ كَالْخُفِّ لِلرِّجْلِ. وَالنِّقَابُ الْخِمَارُ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْأَنْفِ أَوْ تَحْتَ الْمَحَاجِرِ، وَظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّ الرِّجْلَ فِي الْقُفَّازِ مِثْلُهَا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْخُفِّ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُحِيطٌ بِجُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَأَمَّا النِّقَابُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ عَلَى الرَّاجِحِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ الْعُمَرِيَّ (وَلَا وَرْسَ) وَكَانَ يَقُولُ: لَا تَتَنَقَّبُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ يَعْنِي: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ الْمَذْكُورَ خَالَفَ الْمَذْكُورِينَ قَبْلُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ فَوَافَقَهُمْ عَلَى رَفْعِهِ إِلَى قَوْلِهِ: زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ وَفَصَلَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، وَحَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا وَرْسٌ قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ - يَقُولُ: وَلَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَرَوَاهُ يَحْيَى القَطَّانُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ إِلَخْ) هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ كَمَا قَالَ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَالِكًا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ فَقَطْ، وَفِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَظَهَرَ الْإِدْرَاجِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْحُكْمَ بِالْإِدْرَاجِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ النِّقَابِ وَالْقُفَّازِ مُفْرَدًا مَرْفُوعًا وَلِلِابْتِدَاءِ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْفُوعَةِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا، وَقَالَ فِي الِاقْتِرَاحِ: دَعْوَى الْإِدْرَاجِ فِي أَوَّلِ الْمَتْنِ ضَعِيفَةٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الثِّقَاتِ إِذَا اخْتَلَفُوا وَكَانَ مَعَ أَحَدِهِمْ زِيَادَةٌ قُدِّمَتْ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ حَافِظًا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ أَحْفَظَ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي نَافِعٍ أَحْفَظُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ، وَقَدْ فَصَلَ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، وَأَمَّا الَّذِي اقتصر عَلَى الْمَوْقُوفِ، فَرَفَعَهُ فَقَدْ شَذَّ بِذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الَّذِي ابْتَدَأَ فِي الْمَرْفُوعِ بِالْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَشْيَاءَ مُتَعَاطِفَةً فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمَعَ الَّذِي فَصَلَ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَهُوَ أَوْلَى، أَشَارَ إِلَى
ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ قَالَ بِلَفْظِ: قَالَ وَثَانِيًا بِلَفْظِ: كَانَ يَقُولُ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ مَرَّةً، وَهَذَا كَانَ يَقُولُهُ دَائِمًا مُكَرِّرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَرْوِيَّيْنِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ حَذْفِ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ بِلَفْظِ: لَا تَتَنَقَّبُ مِنَ التَّفَعُّلِ، وَالثَّانِي مِنَ الِافْتِعَالِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الثَّانِي بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى سَبِيلِ النَّفْيِ لَا غَيْرَ، وَالْأَوَّلَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ نَفْيًا وَنَهْيًا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ) أَيْ: تَابَعَ مَالِكًا فِي وَقْفِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تَنْتَقِبُ أَيْ: لَا تَسْتُرُ وَجْهَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مَنْعِهَا مِنْ سَتْرِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بِمَا سِوَى النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ.
قَوْلُهُ: (مَسَّهُ وَرْسٌ. . . إِلَخْ) مَفْهُومُهُ جَوَازُ مَا لَيْسَ فِيهِ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ، لَكِنْ أَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ أَنْوَاعَ الطِّيبِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَصْبُوغِ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِك، وَالْوَرْسُ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ فِي مُفْرَدَاتِهِ: الْوَرْسُ يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْيَمَنِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَلَيْسَ بِنَبَاتٍ، بَلْ يُشْبِهُ زَهْرَ الْعُصْفُرِ، وَنَبْتُهُ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْبَنَفْسِجَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْكُرْكُمَ عُرُوقُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَصَتْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ كَفَنِ الْمُحْرِمِ وَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ بَيَانُ اخْتِلَافٍ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا قَوْلُهُ: وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بِلَفْظِ: وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَهُوَ مِنَ الْحَنُوطِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَهُوَ الطِّيبُ الَّذِي يُصْنَعُ لِلْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ:(يُبْعَثُ مُلَبِّيًا)
(1)
أَيْ: عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا. وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ إِحْرَامِهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ تَمَسَّكُوا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظَةٍ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِيمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: إِنَّ فِي ثُبُوتِ ذِكْرِ الْوَجْهِ مَقَالًا، وَتَرَدَّدَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي صِحَّتِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ذِكْرُ الْوَجْهِ غَرِيبٌ وَهُوَ وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ مَنْصُورٌ: وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: وَلَا تَكْشِفُوا وَجْهَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظِ: وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظِ: وَلَا يُمَسُّ طِيبًا خَارِجَ رَأْسِهِ قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: خَارِجَ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِالتَّطَيُّبِ لَا بِالْكَشْفِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ رُوَاتُهُ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنَ التَّطَيُّبِ إِلَى التَّغْطِيَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الْحَيِّ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي يَمُوتُ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَتَحَقَّقُ وَجُودُهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَكُونُ خَاصًّا بِذَلِكَ الرَّجُلِ; وَلَوِ اسْتَمَرَّ بَقَاؤُهُ عَلَى إِحْرَامِهِ لَأُمِرَ بِقَضَاءِ مَنَاسِكِهِ، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَةُ الْمُصَنِّفِ بِنَفْيِ ذلك.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ: لَوْ أُرِيدَ تَعْمِيمُ هذا الْحُكْمِ فِي كُلِّ مُحْرِمٍ لَقَالَ: فَإِنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا جَاءَ: إِنَّ الشَّهِيدَ يُبْعَثُ
(1)
لفظ المتن"يبعث يهل "
وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ كَوْنُهُ كَانَ فِي النُّسُكِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُحْرِمٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ لِوَاحِدٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّضِحَ التَّخْصِيصُ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّائِمِ يَمُوتُ هَلْ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِالْمَوْتِ حَتَّى يَجِبَ قَضَاءُ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْهُ أَوْ لَا يَبْطُلُ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ لَيْسَ لِكَوْنِ الْمُحْرِمِ لَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، بَلْ هُوَ صِيَانَةٌ لِلرَّأْسِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَطَّوْا وَجْهَهُ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُغَطَّى رَأْسُهُ اهـ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: يُغَطِّي الْمُحْرِمُ مِنْ وَجْهِهِ مَا دُونَ الْحَاجِبَيْنِ أَيْ: مِنْ أَعْلَى. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دُونَ عَيْنَيْهِ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَزِيدَ الِاحْتِيَاطِ لِكَشْفِ الرَّأْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَكْمِلَةٌ): كَانَ وُقُوعُ الْمُحْرِمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ مِنْ عَرَفَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ إِطْلَاقُ الْوَاقِفِ عَلَى الرَّاكِبِ، وَاسْتِحْبَابُ دَوَامِ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ بِالتَّوَجُّهِ لِعَرَفَةَ، وَجَوَازُ غَسْلِ الْمُحْرِمِ بِالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُعَدُّ طِيبًا. وَحَكَى الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ سِدْرِ الْحَرَمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمُحْرِمِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَهَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَزَعَمَ أَنَّ اسْمَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَزَاهُ لَابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَسَبَبُ الْوَهْمِ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ لَمَّا ذَكَرَ تَرْجَمَةَ عُمَرَ ذَكَرَ أَوْلَادَهُ وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَوْلَادَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ فِيهِمْ وَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: وَقَعَ عَنْ بَعِيرِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهَلَكَ، فَظَنَّ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ أَنَّ لِوَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ صُحْبَةً، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ فَإِنَّ وَاقِدًا الْمَذْكُورَ لَا صُحْبَةَ لَهُ، فَإِنَّ أُمَّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا أَبُوهُ فِي خِلَافَةِ أَبِيهِ عُمَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهَا، وَذَكَرَهَا الْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي التَّابِعِينَ، وَوَجَدْتُ فِي الصَّحَابَةِ وَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ آخَرَ، لَكِنْ لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ بَعِيرِهِ فَهَلَكَ، بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَبَطَلَ تَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ بِأَنَّهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
14 - بَاب الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا
1840 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ. وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ) أَيْ: تَرَفُّهًا وَتَنَظُّفًا وَتَطَهُّرًا مِنَ الْجَنَابَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ
أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ، وَرُوِيَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا مِنَ احْتِلَامٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ) وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَيَنْزِعُ ضِرْسَهُ، وَإِذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ طَرَحَهُ وَيَقُولُ: أَمِيطُوا عَنْكُمُ الْأَذَى، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِأَوْسَاخِكُمْ شَيْئًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَحُكُّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَفَطِنْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ يَحُكُّ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهِ. وَأَمَّا أَثَرُ عَائِشَةَ فَوَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ وَاسْمُهَا مَرْجَانَةُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَسْأَلُ عَنِ الْمُحْرِمِ: أَيَحُكُّ جَسَدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلْيُشَدِّدْ. وَقَالَتْ عَائِشةُ: لَوْ رُبِطَتْ يَدَايَ وَلَمْ أَجِدْ إِلَّا أَنْ أَحُكَّ بِرِجْلِي لَحَكَكْتُ اهـ. وَمُنَاسَبَةُ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ لِلتَّرْجَمَةِ بِجَامِعِ مَا بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْحَكِّ مِنْ إِزَالَةِ الْأَذَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الْمُوَطَّآتِ، وَأَغْرَبَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ فَأَدْخَلَ بَيْنَ زَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، نَافِعًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ خَطَئِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدٍ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ كَذَا قَالَ: مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ حُنَيْنًا كَانَ مَوْلًى لِلْعَبَّاسِ وَهَبَهُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَوْلَادُهُ مَوَالٍ لَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرِ.
قَوْلُهُ: (بِالْأَبْوَاءِ) أَيْ: وَهُمَا نَازِلَانِ بِهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ: قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْأَبْوَاءِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى أَبِي أَيُّوبَ) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ابْنُ أَخِيكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَيَسْأَلُكَ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ) أَيْ: قَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَكَذَا هُوَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُمَا الْعُودَانِ - أَيِ: الْعَمُودَانِ - الْمُنْتَصِبَانِ لِأَجْلِ عُودِ الْبَكَرَةِ.
قَوْلُهُ: (أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ. . . إِلَخْ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، لِأَبِي أَيُّوبَ: يَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ؟ وَلَمْ يَقُلْ: هَلْ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ أَوْ لَا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمِسْوَرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ تَصَرَّفَ فِي السُّؤَالِ لِفِطْنَتِهِ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: سَلْهُ هَلْ يَغْتَسِلُ الْمُحْرِمُ أَوْ لَا؟ فَجَاءَ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ، فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَغْتَسِلُ، فَأَحَبَّ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَّا بِفَائِدَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ، وَكَأَنَّهُ خَصَّ الرَّأْسَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّعْرِ الَّذِي يُخْشَى انْتِتَافُهُ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (فَطَأْطَأَهُ) أَيْ: أَزَالَهُ عَنْ رَأْسِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ جَمَعَ ثِيَابَهُ إِلَى صَدْرِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَتَّى رَأَيْتُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ
قَوْلُهُ: (لِإِنْسَانٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، ثُمَّ قَالَ أَيْ: أَبُو أَيُّوبَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ - أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَأَخْبَرْتُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا أَيْ: لَا أُجَادِلُكَ. وَأَصْلُ الْمِرَاءِ اسْتِخْرَاجُ مَا عِنْدَ الْإِنْسَانِ، يُقَالُ: أَمْرَى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا اسْتَخْرَجَ مَا عِنْدَهُ. قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَجَادِلَيْنِ يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ الْآخَرِ مِنَ الْحُجَّةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مُنَاظَرَةُ الصَّحَابَةِ فِي الْأَحْكَامِ،
وَرُجُوعُهُمْ إِلَى النُّصُوصِ، وَقَبُولُهُمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ تَابِعِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْ كَانَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ يُرَادُ بِهِ الْفَتْوَى لَمَا احْتَاجَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لِلْمِسْوَرِ: أَنَا نَجْمٌ وَأَنْتَ نَجْمٌ فَبِأَيِّنَا اقْتَدَى مَنْ بَعْدُنَا كَفَاهُ. وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عُدُولٌ. وَفِيهِ اعْتِرَافٌ لِلْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ، وَإِنْصَافُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَفِيهِ اسْتِتَارُ الْغَاسِلِ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَالِاسْتِعَانَةُ فِي الطَّهَارَةِ، وَجَوَازُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ حَالَةَ الطَّهَارَةِ، وَجَوَازُ غَسْلِ الْمُحْرِمِ وَتَشْرِيبِهِ شَعْرَهُ بِالْمَاءِ وَدَلْكِهِ بِيَدِهِ إِذَا أَمِنَ تَنَاثُرَهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى وُجُوبِ الدَّلْكِ فِي الْغُسْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْغُسْلَ لَوْ كَانَ يَتِمُّ بِدُونِهِ لَكَانَ الْمُحْرِمُ أَحَقَّ بِأَنْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَخْلِيلَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ بَاقٍ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُكْرَهُ، كَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ خَشْيَةَ انْتِتَافِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ أَصْلَبُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، قَالَهُ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15 - بَاب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ
1841 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ.
1842 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسْ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ) أَيْ: هَلْ يُشْتَرَطُ قَطْعُهُمَا أَوْ لَا؟ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سُئِلَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْجَيَّانِيُّ: الصَّوَابُ مَا رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قُلْتُ: تَصَحَّفَتْ عَنْ فَصَارَتِ ابْنَ.
وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ لِلْمُحْرِمِ لَا الْحَلَالِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ لُبْسِهِ السَّرَاوِيلَ عَلَى فَقْدِ الْإِزَارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ فَأَجَازَ لُبْسَ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ وَالْإِزَارَ عَلَى حَالِهِمَا. وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ قَطْعَ الْخُفِّ وَفَتْقَ السَّرَاوِيلِ، فَلَوْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَالدَّلِيلُ لَهُمْ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُلْحَقُ النَّظِيرُ بِالنَّظِيرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْأَوْلَى قَطْعُهُمَا عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ. انْتَهَى.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَكْثَرِ جَوَازُ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ بِغَيْرِ فَتْقٍ كَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَاشْتَرَطَ الْفَتْقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَطَائِفَةٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْعُ السَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ وَكَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ لُبْسُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُهُمْ فِي الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ أَجَازَ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ عَلَى حَالِهِ قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي حَالَةِ لَوْ فَتَقَهُ لَكَانَ إِزَارًا؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَكُونُ وَاجِدَ الْإِزَارِ.
16 - بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ
1843 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا لِقُوَّةِ دَلِيلِهَا وَتَصْرِيحِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ الْعَمَلُ بِهِ.
17 - بَاب لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ.
1844 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ: لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إِلَّا فِي الْقِرَابِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ) أَيْ: إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى) أَيْ: وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرِ عِكْرِمَةَ هَذَا مَوْصُولًا. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تُوبِعَ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ السِّلَاحِ عِنْدَ الْخَشْيَةِ وَخُولِفَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُحْرِمُ السَّيْفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، لِلْحَجَّاجِ: أَنْتَ أَمَرْتَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي الْحَرَمِ. وَقَوْلُهُ لَهُ: وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَكُنِ السِّلَاحُ يَدْخُلُ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَرْتَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي يَوْمٍ لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَنْ كَرِهَ حَمْلَ السِّلَاحِ فِي الْعِيدِ وَذَكَرَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ مَرْفُوعًا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِإِسْنَادِهِ هَذَا، وَوَهَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَزَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْحَجِّ بِطُولِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
18 - بَاب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ،
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ
وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ
1845 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.
1846 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ.
[الحديث 1846 - أطرافه في: 3044، 4286، 5808]
قَوْلُهُ: (بَابُ دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَكَّةَ هُنَا الْبَلَدُ، فَيَكُونُ الْحَرَمُ أَعَمَّ.
قَوْلُهُ: (وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيْدٍ - يَعْنِي: بِضَمِّ الْقَافِ - جَاءَهُ خَبَرٌ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَرَجَعَ فَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَطَّابِينَ وَغَيْرَهُمْ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ خَصَّ الْإِحْرَامَ بِمِنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ إِلَى مَكَّةَ - لِغَيْرِ قَصْدِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا؛ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَفِي قَوْلٍ يَجِبُ مُطْلَقًا، وَفِيمَنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْوُجُوبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ. الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْمِغْفَرِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَوَقَعَ لِي مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي فَوَائِدِ أَبِي الْحَسَنِ الْفَرَّاءِ الْمَوْصِلِيِّ وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ ضَعْفِهِ ضَعْفٌ، وَقِيلَ: إِنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّاذِّ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي أُوَيْسٍ، وَمَعْمَرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَرِوَايَةَ أَبِي أُوَيْسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَأَنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْخُنَا مَنْ أَخْرَجَ رِوَايَتَهُمَا، وَقَدْ وَجَدْتُ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ فِي فَوَائِدِ ابْنِ الْمُقْرِي وَرِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ.
ثُمَّ نَقَلَ شَيْخُنَا عَنِ ابْنِ مُسْدِيٍّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ حِينَ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا مَالِكٌ: قَدْ رُوِّيتُهُ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ طَرِيقًا غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَأَنَّهُ وَعَدَ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ وَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا، وَأَطَالَ ابْنُ مُسْدِيٍّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَنْشَدَ فِيهَا شِعْرًا، وَحَاصِلُهَا أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي ذَلِكَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْمُجَازَفَةِ.
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ مُسْدِيٍّ يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْقِصَّةِ وَلَمْ يُصِبْ فِي ذَلِكَ، فَرَاوِي الْقِصَّةِ عَدْلٌ مُتْقِنٌ، وَالَّذِينَ اتَّهَمُوا
ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ أَخْطَئُوا لِقِلَّةِ اطِّلَاعِهِمْ، وَكَأَنَّهُ بَخِلَ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ مِنْ إِنْكَارِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَهُ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَوَجَدْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ اثْنَيْ عَشَرَ نَفْسًا غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شَيْخُنَا وَهُمْ: عُقَيْلٌ فِي مُعْجَمِ ابْنِ جُمَيْعٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ فِي الْإِرْشَادِ لِلْخَلِيلِيِّ، وَابْنُ أَبِي حَفْصٍ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، لِلْخَطِيبِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي فِي أَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْصَارِيَّانِ فِي فَوَائِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِ مَالِكٍ، لِابْنِ عَدِيٍّ، وَبَحْرٌ السِّقَاءُ ذَكَرَهُ جَعْفَرٌ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ لِلْجِيزِيِّ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ ذَكَرَهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ، عَنْ مَالِكٍ.
وَالْمُخَرَّجِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إِطْلَاقَ ابْنِ الصَّلَاحِ مُتَعَقَّبٌ، وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ صَحِيحٌ، وَأَنَّ كَلَامَ مَنِ اتَّهَمَهُ مَرْدُودٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي طُرُقِهِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا طَرِيقَ مَالِكٍ، وَأَقْرَبُهَا رِوَايَةُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ فَقَدْ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ فِي مُسْنَدِ مَالِكٍ وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَتَلِيهَا رِوَايَةُ أَبِي أَوَيْسٍ أَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ رَفِيقَ مَالِكٍ فِي السَّمَاعِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: انْفَرَدَ بِهِ مَالِكٌ - أَيْ: بِشَرْطِ الصِّحَّةِ - وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: تُوبِعَ أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ. وَعِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ سَالِمَةٌ مِنَ الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ أَحَد رَوَاهُ غَيْرَ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَوْلُهُ: كَثِيرٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ تُوبِعَ فِي الْجُمْلَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ.
قَوْلُهُ: (عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ: زَرَدٌ يُنْسَجُ مِنَ الدُّرُوعِ عَلَى قَدْرِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: هُوَ رَفْرَفُ الْبَيْضَةِ قَالَهُ فِي الْمُحْكَمِ وَفِي الْمَشَارِقِ هُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ فَضْلِ دُرُوعِ الْحَدِيدِ عَلَى الرَّأْسِ مِثْلُ الْقَلَنْسُوَةِ، وَفِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مَالِكٍ: يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ وَالْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ، وَقَدْ جَزَمَ الْفَاكِهِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِذَلِكَ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، رَأَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ مُخْبِرًا بِقِصَّتِهِ، وَيُوَشِّحُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ فِي الْمَغَازِي: فَقَالَ: اقْتُلْهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي اسْمِ قَاتِلِهِ، فَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاكِمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا أُؤَمِّنُهُمْ لَا فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ: الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ - بِالنُّونِ وَالْقَافِ مُصَغَّرٌ - وَهِلَالُ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ - قَالَ - فَأَمَّا هِلَالُ بْنُ خَطَلٍ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ: أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَذَكَرَهُمْ، لَكِنْ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ بَدَلَ هِلَالٍ، وَقَالَ: عِكْرِمَةُ، بَدَلَ الْحُوَيْرِثِ، وَلَمْ يُسَمِّ الْمَرْأَتَيْنِ، وَقَالَ: فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَسَبَقَ سَعِيدٌ، عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ فَقَتَلَهُ الْحَدِيثَ.
وَفِي زِيَادَاتِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَّا أَرْبَعَةً مِنَ النَّاسِ: عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ الْكِنَانِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمَّ سَارَةَ. فَأَمَّا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْبِرِّ وَالصِّلَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ نَفْسِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَلَاذِرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، وَتُحْمَلُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا قَتْلَهُ فَكَانَ الْمُبَاشِرَ لَهُ مِنْهُمْ أَبُو بَرْزَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ شَارَكَهُ فِيهِ، فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُرَيْثٍ، وَأَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّى قَاتِلَهُ سَعِيدَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ هُوَ الَّذِي قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: فَأُخِذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ مِنْ تَحْتِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقُتِلَ بَيْنَ الْمَقَامِ وَزَمْزَمَ وَقَدْ جَمَعَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ أَسْمَاءَ مَنْ لَمْ يُؤَمَّنْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأُمِرَ بِقَتْلِهِ عَشْرَةَ أَنْفُسٍ: سِتَّةَ رِجَالٍ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ. وَالسَّبَبُ فِي قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَعَدَمِ دُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ مَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ قَالَ: لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ، إِلَّا نَفَرًا سَمَّاهُمْ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدَّقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى يَخْدُمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا، فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ تَيْسًا وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَنَامَ وَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ وَابْنَ خَطَلٍ، وَقَالَ: أَطِيعَا الْأَنْصَارِيَّ حَتَّى تَرْجِعَا، فَقَتَلَ ابْنُ خَطَلٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهَرَبَ الْمُزَنِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَمِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ كَانَ أَهْدَرَ دَمَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْفَتْحِ غَيْرِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَكَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَوَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ أَبِي زُنَيْمٍ، وَقَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ اسْمِهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى عَبْدَ الْعُزَّى، فَلَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ هِلَالٌ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ بِأَخٍ لَهُ اسْمُهُ هِلَالٌ، بَيَّنَ ذَلِكَ الْكَلْبِيُّ فِي النَّسَبِ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ، وَقِيلَ: غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ، وَاسْمُ خَطَلٍ عَبْدُ مَنَافٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ فِهْرِ بْنِ غَالِبٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مَالِكٌ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ، عَنْ مَالِكٍ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا اهـ. وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ جَازِمًا بِهِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمئِذٍ مُحْرِمًا وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: لَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ إِلَّا مُحْرِمًا إِلَّا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَزَعَمَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّ بَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْمِغْفَرِ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ مُعَارَضَةٌ، وَتَعَقَّبُوهُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، ثُمَّ أَزَالَهُ وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَا رَآهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الدُّخُولِ، وَهَذَا الْجَمْعُ لِعِيَاضٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُجْمَعُ بِأَنَّ
الْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ مَلْفُوفَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ الْمِغْفَرِ وِقَايَةً لَرَأْسِهِ مِنْ صَدَأِ الْحَدِيدِ، فَأَرَادَ أَنَسٌ بِذِكْرِ الْمِغْفَرِ كَوْنَهُ دَخَلَ مُتَهَيِّئًا لِلْحَرْبِ، وَأَرَادَ جَابِرٌ بِذِكْرِ الْعِمَامَةِ كَوْنَهُ دَخَلَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُحْرِمًا، وَلَكِنَّهُ غَطَّى رَأْسَهُ لِعُذْرٍ، فَقَدِ انْدَفَعَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِ جَابِرٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عِيَاضٌ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مُقَابِلِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ الْقَاصِّ: دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، لَكِنْ زَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ وَغَيْرِهِ إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَوَازُ دُخُولِهَا لَهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ غَلَبُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَكَّةَ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ فِيهَا.
وَقَدْ عَكَسَ اسْتِدْلَالَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ تَبْقَى دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَبَطَلَ مَا صَوَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَفِي دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَكَاهُ الْقَفَّالُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَالَحَهُمْ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَأْمَنْ غَدْرَهُمْ دَخَلَ مُتَأَهِّبًا، وَهَذَا جَوَابٌ قَوِيٌّ، إِلَّا أَنَّ الشَّأْنَ فِي ثُبُوتِ كَوْنِهِ صَالَحَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ مِنَ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتُدِلَّ بِقِصَّةِ ابْنِ خَطَلٍ عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ قَوَدًا مِنْ قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ حَدٍّ وَاجِبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَ مَنْ قَالَ لَا يُقْتَلُ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُ، وَأَجَابَ عَنْهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُ سَاعَةَ الدُّخُولِ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَذْعَنَ أَهْلُهَا، وَإِنَّمَا قُتِلَ ابْنُ خَطَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ الْمَرَادَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّتْ لَهُ مَا بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ قُيِّدَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ نَزْعِهِ الْمِغْفَرَ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِأَحَدٍ فِيهِ الْقَتْلَ غَيْرِي أَيْ: قَتْلَ النَّفَرِ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ؛ ابْنِ خَطَلٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْقِتَالَ وَالْقَتْلَ مَعًا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَقَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الْقِتَالِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ خَطَلٍ كَانَ حَرْبِيًّا وَلَمْ يُدْخِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمَانِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلِ اسْتَثْنَاهُ مَعَ مَنِ اسْتثْنى، وَخَرَجَ أَمْرُهُ بِقَتْلِهِ مَعَ أَمَانِهِ لِغَيْرِهِ مَخْرَجًا وَاحِدًا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرَهُ. انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهِ فِي جَوَازِ قَتْلِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ ذِمِّيًّا، لَكِنَّ ابْنَ خَطَلٍ عَمِلَ بِمُوجِبَاتِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ أَنَّ سَبَبَ قَتْلِهِ السَّبُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ صَبْرًا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى ابْنِ خَطَلٍ صَيَّرَتْهُ كَالْأَسِيرِ فِي يَدِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُ بِمَا جَنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَتَلَهُ قَوَدًا مِنْ دَمِ الْمُسْلِمِ الَّذِي غَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، تَرْجَمَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ لُبْسِ الْمِغْفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ السِّلَاحِ حَالَ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَتَى يَحِلُّ لِلْمُعْتَمِرِ مِنْ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ
أَحَدٌ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُحْرِمًا، فَخَشِيَ الصَّحَابَةُ أَنْ يَرْمِيَهُ بَعْضُ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِشَيْءٍ يُؤْذِيهِ، فَكَانُوا حَوْلَهُ يَسْتُرُونَ رَأْسَهُ وَيَحْفَظُونَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ رَفْعِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْفَسَادِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحْرَّمَةِ وَلَا النَّمِيمَةِ.
19 - بَاب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
1847 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي: تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ تَرَاهُ؟ فَنَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ.
[الحديث 1848 - أطرافه في: 2265، 2973، 4417، 6893]
1848 -
وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 1848 - أطرافه في: 2265، 2973، 4417، 6893]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ) أَيْ: هَلْ يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ بِإِسْقَاطِ الْفِدْيَةِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَظْهَرَ الْمُصَنِّفُ لِلرَّاجِحِ بِقَوْلِ عَطَاءٍ رَاوِي الْحَدِيثِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْفِدْيَةُ وَاجِبَةً لَمَا خَفِيَتْ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لَبَيَّنَهَا صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَفَرَّقَ مَالِكٌ - فِيمَنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ نَاسِيًا - بَيْنَ مَنْ بَادَرَ فَنَزَعَ وَغَسَلَ وَبَيْنَ مَنْ تَمَادَى، وَالشَّافِعِيُّ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالْحُكْمِ وَقَدْ تَمَادَى، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْفِدْيَةِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ احْتِيَاطٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُزَنِيِّ مُخَالِفٌ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ الرَّجُلُ فِي الْجُبَّةِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا انْتَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ قَبْلَ نُزُولِ الْحُكْمِ فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرِ الرَّجُلُ بِفِدْيَةٍ عَمَّا مَضَى، بِخِلَافِ مَنْ لَبِسَ الْآنَ جَاهِلًا فَإِنَّهُ جَهِلَ حُكْمًا اسْتَقَرَّ وَقَصَّرَ فِي عِلْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِهِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ تَعَلُّمِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ. . . إِلَخْ) ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَوْسَطِ وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَمَّا حَدِيثُ يَعْلَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ غَسْلِ الْخَلُوقِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ فَتَصَحَّفَتْ عَنْ فَصَارَتِ ابْنُ وَأَبِيهِ فَصَارَتْ أُمَيَّةَ، أَوْ سَقَطَ مِنَ السَّنَدِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَتْ لِصَفْوَانَ صُحْبَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الدِّيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
20 - بَاب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ
وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ
1849 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ قَالَ ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي.
1850 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تَمَسُّوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ) يَعْنِي: لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَعَ عَنْ بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَمَاتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا يُنْهَى عَنِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَنْ أَيُّوبَ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ وَكُلُّهَا بِمَعْنًى، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا وَالْبَاقِي سَوَاءٌ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
21 - بَاب سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ
1851 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَدْ سَبَقَ.
22 - بَاب الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ
1852 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَته؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.
[الحديث 1852 - طرفاه في 6699، 7315]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنِ الْمَيِّتِ) كَذَا ثَبَتَ لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ: الْجَمْعِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ النَّذْرِ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ) يَعْنِي: أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْحُكْمَيْنِ، وَفِيهِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّانِي نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ إِنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أَبِيهَا فَكَانَ حَقُّ التَّرْجَمَةِ أَنْ يَقُولَ: وَالْمَرْأَةُ تَحُجُّ عَنِ الرَّجُلِ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ الْمَرْأَةَ بِخِطَابٍ دَخَلَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اقْضُوا اللَّهَ قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي جَوَازِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ إِلَّا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَاقْضِ اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النُّذُورِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (إنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا وَلَا عَلَى اسْمِ أَبِيهَا، لَكِنْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ غَايِثَةَ أَوْ غَاثِيَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْضِ عَنْهَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي حَرْفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الصَّحَابِيَّاتِ، وَتَرَدَّدَ هَلْ هِيَ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْمُثَلَّثَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَجَزَمَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ بِأَنَّهُ اسْمُ الْجُهَنِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ الْهُذَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَتِ امْرَأَةُ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ أَنْ يُسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمِّهَا تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تَحُجَّ الْحَدِيثُ لَفْظُ أَحْمَدَ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهَذَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْمَرْأَةَ سَأَلَتْ بِنَفْسِهَا، وَفِي هَذَا أَنَّ زَوْجَهَا سَأَلَ لَهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ السُّؤَالِ إِلَيْهَا مَجَازِيَّةً، وَإِنَّمَا الَّذِي تَوَلَّى لَهَا السُّؤَالَ زَوْجُهَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ الْحَجَّةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا كَانَتْ نَذْرًا، وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عَمَّتَهُ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَعَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ نَذْرًا، الْحَدِيثَ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ سَأَلَتْ عَلَى لِسَانِهِ عَنْ حَجَّةِ أُمِّهَا الْمَفْرُوضَةِ، وَبِأَنْ تَكُونَ عَمَّتُهُ سَأَلَتْ بِنَفْسِهَا عَنْ حَجَّةِ أُمِّهَا الْمَنْذُورَةِ، وَيُفَسَّرُ مَنْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهَا عَمَّةُ سِنَانٍ وَاسْمُهَا غَايِثَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ تُسَمَّ الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَمَّةُ وَلَا أُمُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ) كَذَا رَوَاهُ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي النُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ بِلَفْظِ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَأَنَّهَا مَاتَتْ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْأَخِ سَأَلَ عَنْ أُخْتِهِ، وَالْبِنْتِ سَأَلَتْ عَنْ أُمِّهَا، وَسَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظِ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ هُنَاكَ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ يُعَلُّ بِهِ الْحَدِيثُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ سَأَلَتْ عَنْ كُلٍّ مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَأَنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ. قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ صُومِي عَنْهَا. قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا وَلِلسُّؤَالِ عَنْ قِصَّةِ الْحَجِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ نَذْرِ الْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ فَإِذَا حَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ عَنِ
النَّذْرِ، وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنِ النَّذْرِ ثُمَّ يَحُجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: يُجْزِئُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ: أَفَيُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ. . . إِلَخْ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَاسِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِيَكُونَ أَوْضَحَ وَأَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَأَقْرَبَ إِلَى سُرْعَةِ فَهْمِهِ، وَفِيهِ تَشْبِيهُ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَشْكَلَ بِمَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ أَطْيَبُ لِنَفْسِ الْمُسْتَفْتِي وَأَدْعَى لِإِذْعَانِهِ. وَفِيهِ أَنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ الْمَالِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا، وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِلْحَاقُ بِهِ. وَفِيهِ إِجْزَاءُ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ: فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا إِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ فَلْيَحُجَّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الدَّيْنِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ قَاضِيَةً بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُجَهِّزَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ دُيُونِهِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَيَلْتَحِقُ بِالْحَجِّ كُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ خَلَّفَ مَالًا، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ حَقَّ اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْعِبَادِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَجَّ عَنْهُ وَالْجَامِعُ عِلَّةُ الْمَالِيَّةِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَتَحَتَّمْ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونَ خَلَّفَ مَالًا كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِمَّا خَلَّفَهُ أَوْ تَبَرُّعًا.
23 - بَاب الْحَجِّ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
1853 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَنَّ امْرَأَةً ح
1854 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَجِّ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ) أَيْ: مِنَ الْأَحْيَاءِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَلِمَنْ قَالَ: لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مُطْلَقًا، كَابْنِ عُمَرَ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا النَّفْلُ فَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَخَالَفَهُمَا مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَلَمْ يَقُولُوا فِيهِ عَنِ الْفَضْلِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَنِي
حُصَيْنُ بْنُ عَوْفٍ الْخَثْعَمِيُّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُجَّ الْحَدِيثَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَمِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، اهـ. وَإِنَّمَا رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةَ عَنِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى مَعَ الضَّعَفَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ، فَكَأَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَ أَخَاهُ بِمَا شَاهَدَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْخثْعَمِيَّةِ وَقَعَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَحَضَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَنَقَلَهُ تَارَةً عَنْ أَخِيهِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْقِصَّةِ، وَتَارَةً عَمَّا شَاهَدَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَحْمَدَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الرَّمْيِ، وَأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ شَاهِدًا، وَلَفْظُ أَحْمَدَ عِنْدَهُمْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ فَقَالَ: هَذِهِ عَرَفَةُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ فَقَالَ: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَاسْتَفْتَتْهُ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ. قَالَ: وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ. قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنْ عَلَيْهِمَا الشَّيْطَانَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ حَاضِرًا لِذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا كَانَ مَعَهُ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَسُقِ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى إِسْنَادِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى لَفْظِهِ كَعَادَتِهِ، وَبَقِيَّةُ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَعِيرَ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ حُجِّي عَنْهُ أَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ فِي الِاسْتِئْذَانِ يَوْمَ النَّحْرِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ غَدَاةَ جَمْعٍ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
24 - بَاب حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ
1855 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ) تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ قَبْلَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الْفَضْلُ) يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَبِهِ كَانَ يُكْنَى.
قَوْلُهُ: (رَدِيفَ) زَادَ شُعَيْبٌ: عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) فِي
رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا - أَيْ: جَمِيلًا - وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا.
قَوْلُهُ: (يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَدَفَعَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: فَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: وَكَانَ الْفَضْلُ غُلَامًا جَمِيلًا، فَإِذَا جَاءَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ هَذَا الشِّقِّ صَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَإِذَا جَاءَتْ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهَا - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - رَأَيْتُ غُلَامًا حَدَثًا وَجَارِيَةً حَدَثَةً، فَخَشِيتُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهُمَا الشَّيْطَانُ
قَوْلُهُ: (إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُعَيْبٍ: أنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَلَى أَنَّ السَّائِلَةَ كَانَتِ امْرَأَةً، وَأَنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ أَبِيهَا، وَخَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، فَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، أَمَّا إِسْنَادُهُ فَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْفَضْلِ أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي أَحَدُ ابْنَيِ الْعَبَّاسِ: إِمَّا الْفَضْلُ، وَإِمَّا عَبْدُ اللَّهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَأَمَّا الْمَتْنُ فَقَالَ هُشَيْمٌ: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي أَوْ أُمِّي وَخَالَفَ الْجَمِيعَ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَنْ أُمِّهَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ كُلُّهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي سِيَاقِ غَيْرِهِ، فَإِذَا كُرَيْبٌ قَدْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَوْفٍ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَإِذَا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ قَدْ رَوَى عَنْ أَبِي الْغَوْثِ بْنِ حُصَيْنٍ الْخَثْعَمِيِّ أَنَّهُ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَجَّةٍ كَانَتْ عَلَى أَبِيهِ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ مَاجَهْ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَقْوَى إِسْنَادًا، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ هُشَيْمٍ فِي أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ رَجُلٌ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَيُوَافِقُهُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَيُوَافِقُهُمَا مُرْسَلُ الْحَسَنِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَحُجَّ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ أُمِّهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ مَعَهُ، فَسَأَلَتْ أَيْضًا، وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ أَبُو الرَّجُلِ وَأُمُّهُ جَمِيعًا. وَيُقَرِّبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْرَابِيٌّ مَعَهُ بِنْتٌ لَهُ حَسْنَاءُ، فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ يَعْرِضُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَيَأْخُذُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي فَيَلْوِيهِ، فَكَانَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الشَّابَّةِ: إِنَّ أَبِي لَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِهِ جَدَّهَا؛ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ مَعَهَا، وَكَأَنَّهُ أَمَرَهَا أنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْمَعَ كَلَامَهَا وَيَرَاهَا رَجَاءَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَرْضَهَا سَأَلَ أَبُوهَا عَنْ أَبِيهِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَسْأَلَ أَيْضًا عَنْ أُمِّهِ. وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ حُصَيْنُ بْنُ عَوْفٍ الْخَثْعَمِيُّ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَبُو الْغَوْثِ بْنُ حُصَيْنٍ فَإِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي الْغَوْثِ حُصَيْنٍ فَزِيدَ فِي الرِّوَايَةِ ابْنُ، أَوْ أَنَّ أَبَا الْغَوْثِ أَيْضًا كَانَ مَعَ أَبِيهِ حُصَيْنٍ فَسَأَلَ كَمَا سَأَلَ أَبُوهُ وَأُخْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ، وَهُوَ
أَبُو رَزِينٍ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وكَسْرِ الزَّايِ - الْعُقَيْلِيُّ بِالتَّصْغِيرِ وَاسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ، فَفِي السُّنَنِ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ، قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ وَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى، وَمَنْ وَحَّدَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيِّ فَقَدْ أَبْعَدَ وَتَكَلَّفَ.
قَوْلُهُ: (شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: شَيْخًا حَالٌ وَلَا يَثْبُتُ صِفَةٌ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْضًا، وَيَكُونَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِأَنْ أَسْلَمَ، وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَثْبُتُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُعَيْبٍ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّحْلِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَإِنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ أَنْ يَمُوتَ وَكَذَا فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: وَإِنْ شَدَدْتُهُ بِالْحَبْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهُ وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَوِ الْأَمْنِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى لَوْ رُبِطَ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ كَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى مَحْمِلٍ مُوَطَّأٍ كَالْمِحَفَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَفَأَحُجُّ عَنْهُ) أَيْ: أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَنُوبَ عَنْهُ فَأَحُجَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُعَيْبٍ: فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: هَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، وَاسْتَدَلَّ الْكُوفِيُّونَ بِعُمُومِهِ عَلَى جَوَازِ صِحَّةِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ نِيَابَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فَخَصُّوهُ بِمَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي السُّنَنِ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تَكُونُ بِالْغَيْرِ كَمَا تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَعَكَسَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِنَفْسِهِ لَمْ يُلَاقِهِ الْوُجُوبَ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنَ السَّائِلِ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ تَصْرِيحٌ بِالْوُجُوبِ، وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا كَالصَّلَاةِ، وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ فُرِضَتْ عَلَى جِهَةِ الِابْتِلَاءِ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَّا بِإِتْعَابِ الْبَدَنِ فَبِهِ يَظْهَرُ الِانْقِيَادُ أَوِ النُّفُورُ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ فِيهَا بِنَقْصِ الْمَالِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالنَّفْسِ وَبِالْغَيْرِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قِيَاسَ الْحَجِّ عَلَى الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ مَالِيَّةٌ بَدَنِيَّةٌ مَعًا فَلَا يَتَرَجَّحُ إِلْحَاقُهَا بِالصَّلَاةِ عَلَى إِلْحَاقِهَا بِالزَّكَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: مَنْ غَلَّبَ حُكْمَ الْبَدَنِ فِي الْحَجِّ أَلْحَقَهُ بِالصَّلَاةِ، وَمَنْ غَلَّبَ حُكْمَ الْمَالِ أَلْحَقَهُ بِالصَّدَقَةِ. وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَجَّ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يُجِيزُوا ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّ حَصْرَ الِابْتِلَاءِ فِي الْمُبَاشَرَةِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْآمِرِ مِنْ بَذْلِهِ الْمَالَ فِي الْأُجْرَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا حُجَّةَ لِلْمُخَالِفِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ. . . إِلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّ إِلْزَامَ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالْحَجِّ الَّذِي وَقَعَ بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ صَادَفَ أَبِي بِصِفَةِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَهَلْ أَحُجُّ عَنْهُ؟ أَيْ: هَلْ يَجُوزُ لِي ذَلِكَ، أَوْ هَلْ فِيهِ أَجْرٌ وَمَنْفَعَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ التَّصْرِيحَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِجْزَاءِ فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ: إِنَّ أَبِي عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَلِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْخَثْعَمِيَّةِ كَمَا اخْتُصَّ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بِجَوَازِ إِرْضَاعِ الْكَبِيرِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ صَاحِبُ الْوَاضِحَةِ بِإِسْنَادَيْنِ مُرْسَلَيْنِ فَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: حُجَّ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِ الْإِسْنَادَيْنِ مَعَ إِرْسَالِهِمَا. وَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ
الْجُهَنِيَّةِ الْمَاضِي فِي الْبَابِ: اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ وَادَّعَى آخَرُونَ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالِابْنِ يَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ جُمُودٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَأَى مَالِكٌ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْخثْعَمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَرَجَّحَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِهِ مِنْ جِهَةِ تَوَاتُرِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ قَوْلُ امْرَأَةٍ ظَنَّتْ ظَنًّا، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: قَدْ أَجَابَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُؤَالِهَا، وَلَوْ كَانَ ظَنُّهَا غَلَطًا لَبَيَّنَهُ لَهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا أَجَابَهَا عَنْ قَوْلِهَا أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهَا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ لِأَبِيهَا. اهـ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: حَجَّ عَنْ أَبِيكَ، فَإِنْ لَمْ يَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ يَزِدْهُ شَرًّا فَقَدْ جَزَمَ الْحُفَّاظُ بِأَنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِلْمُخَالِفِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ قَبْلَ الْعَضْبِ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلِلْجُمْهُورِ ظَاهِرُ قِصَّةِ الْخثْعَمِيَّةِ وَأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَالَ: يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ وَلِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَجْرُ النَّفَقَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أَذَاعُوا فِي الْمَعْضُوبِ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَيْئُوسًا مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى إِيجَابِ حَجَّتَيْنِ. وَاتَّفَقَ مَنْ أَجَازَ النِّيَابَةَ فِي الْحَجِّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي الْفَرْضِ إِلَّا عَنْ مَوْتٍ أَوْ عَضْبٍ، فَلَا يَدْخُلُ الْمَرِيضُ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَى بُرْؤُهُ وَلَا الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّهُ تُرْجَى إِفَاقَتُهُ، وَلَا الْمَحْبُوسُ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَى خَلَاصُهُ، وَلَا الْفَقِيرُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِغْنَاؤُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ الِارْتِدَافِ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا قُبَيْلَ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَارْتِدَافُ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ، وَتَوَاضُعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْزِلَةُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ، وَبَيَانُ مَا رُكِّبَ فِي الْآدَمِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَجُبِلَتْ طِبَاعُهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الصُّوَرِ الْحَسَنَةِ. وَفِيهِ مَنْعُ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ وَغَضُّ الْبَصَرِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ إِلَّا عِنْدَ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ غَطَّى وَجْهَ الْفَضْلِ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ الْفَضْلَ لَمْ يَنْظُرْ نَظَرًا يُنْكَرُ، بَلْ خَشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَئُولَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، وَجَوَازُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَسَمَاعِ صَوْتِهَا لِلْأَجَانِبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالِاسْتِفْتَاءِ عَنِ الْعِلْمِ وَالتَّرَافُعِ فِي الْحُكْمِ وَالْمُعَامَلَةِ. وَفِيهِ أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَيَجُوزُ لَهَا كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْفَضْلِ حِينَ غَطَّى وَجْهَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ: هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا النِّيَابَةُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْعِلْمِ حَتَّى مِنَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحُجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَأَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ مِنَ السَّبِيلِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ أَبِيهَا قَدْ يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِمَا وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِمَا مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ وَخِدْمَةٍ وَنَفَقَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِكَوْنِ الْخثْعَمِيَّةِ لَمْ تَذْكُرْهَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَرْكِ السُّؤَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِاسْتِفَادَةِ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْحَجِّ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهَا قَدِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ، عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ الْخثْعَمِيَّةِ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الْحَجِّ خَارِجٌ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى رِفْقًا مِنَ اللَّهِ فِي اسْتِدْرَاكِ مَا فَرَّطَ فِيهِ الْمَرْءُ بِوَلَدِهِ وَمَالِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ السَّعْيِ، وَبِأَنَّ عُمُومَ السَّعْيِ فِي الْآيَةِ مَخْصُوصٌ اتِّفَاقًا.
25 - بَاب حَجِّ الصِّبْيَانِ
1856 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
1857 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا، فَرَتَعَتْ فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
1858 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ"
1859 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
[الحديث 1859 - طرفاه في: 6712، 7330]
قَوْلُهُ: (بَابُ حَجِّ الصِّبْيَانِ) أَيْ: مَشْرُوعِيَّتُهُ، وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ فِيهِ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا حُجَّ بِهِ كَانَ لَهُ تَطَوُّعًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِهِ عَلَى جِهَةِ التَّدْرِيبِ، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: نَعَمْ فِي جَوَابِ: أَلِهَذَا حَجٌّ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِذَلِكَ، بَلْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ قَالَ: أَيُّمَا غُلَامٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:(أَحَدُهَا)
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ - بفتح المثلثة والقاف، ويجوز إسكانها، أي الأمتعة - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَرْدَفَهُ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِهِ الْآخَرِ الْمُصَرِّحِ فِيهِ بِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ قَدْ قَارَبَ الِاحْتِلَامَ. ثُمَّ بَيَّنَ بِالطَّرِيقِ الْمُعَلَّقَةِ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَفِي بَابِ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
وقوله فيه: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ نَسَبَهُ الْأَصِيلِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ ابْنُ مَنْصُورٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ يَعْقُوبَ أَيْضًا، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، لَكِنْ يُرَجِّحُ كَوْنَهُ ابْنَ مَنْصُورٍ أَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يُعَبِّرُ عَنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا بِصِيغَةِ أَخْبَرَنَا. وَرِوَايَةُ يُونُسَ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
الْحَدِيثَ، وَهُوَ الثَّانِي.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ الْكِنْدِيُّ حَفِيدُ شَيْخِهِ السَّائِبِ وَقِيلَ: سِبْطُهُ، وَقِيلَ: ابْنُ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ أَيِ: ابْنُ سَعِيدِ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ أُخْتِ النَّمِرِ وَالنَّمِرُ رَجُلٌ حَضْرَمِيٌّ.
قَوْلُهُ: (حُجَّ بِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ حَاتِمٍ: حَجَّتْ بِي أُمِّي وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ السَّائِبِ: حَجَّ بِي أَبِي وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبَوَيْهِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمٍ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْجُعَيْدِ) بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا، وَالْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ الْمُزَنِيِّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ السَّائِبُ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ مَقُولَ عُمَرَ وَلَا جَوَابَ السَّائِبِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَدْرِ الْمُدِّ، فَسَيَأْتِي فِي الْكَفَّارَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ السَّائِبُ وَقَدْ حُجَّ بِي فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا غُلَامٌ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلسَّائِبِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَجْلِ السَّائِبِ، وَالْمَقُولُ: وَكَانَ السَّائِبُ. . . إِلَخْ كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَسَيَأْتِي لِلسَّائِبِ تَرْجَمَةٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
26 - بَاب حَجِّ النِّسَاءِ
1860 -
وقَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَذِنَ عُمَرُ رضي الله عنه لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ.
1861 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه".
1862 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا"
[الحديث 1862 - أطرافه في: 3006، 3061، 5633]
1863 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ مَا مَنَعَكِ مِنْ الْحَجِّ قَالَتْ أَبُو فُلَانٍ تَعْنِي زَوْجَهَا كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا قَالَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي
حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1864 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ: أَرْبَعٌ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: يُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي: أَنْ لَا تُسَافِرَ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا صَوْمَ يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ: بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَجِّ النِّسَاءِ) أَيْ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَجِّ الرِّجَالِ أَوْ لَا؟ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ.
الأول: قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ أَذِنَ عُمَرُ) أَيِ: ابْنُ الْخَطَّابِ (لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَلَمْ يَسْتَخْرِجْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ولَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَنَقَلَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنِ الْبَرْقَانِيِّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو مَسْعُودٍ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَاقَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلًا، وَجَعَلَ مُغَلْطَايْ تَنْظِيرَ الْحُمَيْدِيِّ رَاجِعًا إِلَى نِسْبَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مُرَادُ الْبَرْقَانِيِّ، بِإِبْرَاهِيمَ جَدِّ إِبْرَاهِيمَ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَظَنَّ الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ عَيْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ جَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَقَوْلُهُ: وَقَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيِ: ابْنُ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ، وَقَوْلُهُ: أَذِنَ عُمَرُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عُمَرَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَإِدْرَاكُهُ لِذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ عُمُرَهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ أَثْبَتَ سَمَاعَهُ مِنْ عُمَرَ، يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي عُمَرُ لَكِنَّ الْوَاقِدَيَّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَانَ، وَابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ الْأَغَرِّ الْمَكِّيِّ كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَزْرَقِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ حَفِظَ أَصْلَ الْقِصَّةِ وَحَمَلَ تَفَاصِيلَهَا عَنْ أَبِيهِ، فَلَا تَتَخَالَفُ الرِّوَايَتَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَصْلِ الْقِصَّةِ دُونَ بَقِيَّتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ) زَادَ عَبْدَانُ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ عُثْمَانُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَدْنُو أَحَدٌ مِنْهُنَّ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، وَهُنَّ فِي الْهَوَادِجِ عَلَى الْإِبِلِ، فَإِذَا نَزَلْنَ أَنْزَلَهُنَّ بِصَدْرِ الشِّعْبِ فَلَمْ يَصْعَدْ إِلَيْهِنَّ أَحَدٌ، وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُثْمَانُ بِذَنَبِ الشِّعْبِ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ فَكَانَ عُثْمَانُ يَسِيرُ أَمَامَهُنَّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ خَلْفَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَعَلَى هَوَادِجِهِنَّ الطَّيَالِسَةُ الْخُضْرُ فِي إِسْنَادِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَجْنَ فِي هَوَادِجَ عَلَيْهَا الطَّيَالِسَةُ زَمَنَ الْمُغِيرَةِ أَيِ: ابْنُ شُعْبَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ زَمَنَ وِلَايَةِ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ لَمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ قَبْلَهَا.
وَلِابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَجَّا بِنِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلْنَ بِقُدَيْدٍ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ ثَمَانٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُنَّ اسْتَأْذَنَّ عُثْمَانَ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: أَنَا أَحُجُّ بِكُنَّ،
فَحَجَّ بِنَا جَمِيعًا إِلَّا زَيْنَبَ كَانَتْ مَاتَتْ، وَإِلَّا سَوْدَةَ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ وَاقِدِ بْنِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَكُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْجُجْنَ، إِلَّا سَوْدَةَ وَزَيْنَبَ فَقَالَا: لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ صَحِيحٌ.
وَأَغْرَبَ الْمُهَلَّبُ فَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ لِقَصْدِ ذَمِّ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فِي خُرُوجِهَا إِلَى الْعِرَاقِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي قِصَّةِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَهُوَ إِقْدَامٌ مِنْهُ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالْعُذْرُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَأَوَّلَتِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ كَمَا تَأَوَّلَهُ غَيْرُهَا مِنْ صَوَاحِبَاتِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْجَوَازُ فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ فِي عَصْرِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: مَنَعَ عُمَرُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ أُمِّ دُرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنَعَنَا عُمَرُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرَ عَامٍ فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ حَجِّ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّالِثِ.
(تَكْمِلَةٌ): رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَجَجْنَ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ عُمَرُ مِنَ الْحَصْبَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَيْنَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ وَأَنَا أَسْمَعُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَهُ. فَأَنَاخَ فِي مَنْزِلِ عُمَرَ، ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى:
عَلَيْكَ سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ
…
يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
الْأَبْيَاتَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهُمْ: اعْلَمُوا لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ. فَذَهَبُوا فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنِّي لِأَحْسَبُهُ مِنَ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ، عَنْ حَبِيبٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (أَلَا نَغْزُو أَوْ نُجَاهِدُ) هَذَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ مُسَدَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو كَامِلٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ شَيْخِ مُسَدَّدٍ بِلَفْظِ: أَلَا نَغْزُو مَعَكُمْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْغَزْوُ وَالْجِهَادُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْغَزْوَ الْقَصْدُ إِلَى الْقِتَالِ، وَالْجِهَادَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ. قَالَ: أَوْ ذَكَرَ الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ اهـ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْأَلِفَ تَتَعَلَّقُ بِـ نَغْزُو، فَشَرَحَ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْغَزْوِ بِالْوَاوِ، أَوْ جَعَلَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ حَبِيبٍ بِلَفْظِ: أَلَا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ حَبِيبٍ مِثْلُهُ وَزَادَ فَإِنَّا نَجِدُ الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ حَبِيبٍ لَوْ جَاهَدْنَا مَعَكَ. قَالَ: لَا جِهَادَ، وَلَكِنْ حَجٌّ مَبْرُورٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ، عَنْ حَبِيبٍ بِلَفْظِ: نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ فَظَهَرَ أَنَّ التَّغَايُرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنَ الرُّوَاةِ فَيَقْوَى أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ) تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي تَوْجِيهِهِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ وَهَلْ هُوَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ خِطَابِ النِّسْوَةِ.
قَوْلُهُ: (الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: حَجُّ الْبَيْتِ حَجٌّ مَبْرُورٌ وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ بِلَفْظِ: اسْتَأْذَنَهُ نِسَاؤُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: يَكْفِيكُنَّ الْحَجُّ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ
حَبِيبٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: زَعَمَ بَعْضُ مَنْ يُنَقِّصُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْجَمَلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يَقْتَضِي تَحْرِيمَ السَّفَرِ عَلَيْهِنَّ. قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ،؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُنَّ جِهَادًا غَيْرَ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْهُ اهـ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا فِي جَوَابِ قَوْلِهِنَّ: أَلَا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْكُنَّ كَمَا وَجَبَ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِنَّ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَفَهِمَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنْ هَذَا التَّرْغِيبِ فِي الْحَجِّ إِبَاحَةَ تَكْرِيرِهِ لَهُنَّ كَمَا أُبِيحَ لِلرِّجَالِ تَكْرِيرُ الْجِهَادِ، وَخَصَّ بِهِ عُمُومَ قَوْلِهِ: هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وَكَأَنَّ عُمَرَ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا فَأَذِنَ لَهُنَّ فِي آخَرِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَهُ يَحُجُّ بِهِنَّ فِي خِلَافَتِهِ أَيْضًا. وَقَدْ وَقَفَ بَعْضُهُنَّ عِنْدَ ظَاهِرِ النَّهْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ وُجُوبُ الْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالرِّجَالِ، لَا الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى جَوَازِ حَجِّ الْمَرْأَةِ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا وَلَا مَحْرَمًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الَّذِي يَلِيهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ بِهِ، وَلِعَمْرٍو بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ نَزَلْتَ؟ قَالَ: عَلَى فُلَانَةٍ. قَالَ: أَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ؟ مَرَّتَيْنِ. لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ أَوْ أَبُو مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: وَالْمَحْفُوظُ فِي هَذَا مُرْسَلُ عِكْرِمَةَ. وَفِي الْآخَرِ رِوَايَةُ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ) كَذَا أَطْلَقَ السَّفَرَ، وَقَيَّدَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي الْبَابِ فَقَالَ: مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ، وَمَضَى فِي الصَّلَاةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقَيَّدًا بِمَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَنْهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ مُقَيَّدًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَنْهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَيْضًا، وَقَدْ عَمِلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْمُطْلَقِ لِاخْتِلَافِ التَّقْيِيدَاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّحْدِيدِ ظَاهِرَهُ، بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى: سَفَر، فَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُ إِلَّا بِالْمَحْرَمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحْدِيدُ عَنْ أَمْرٍ وَاقِعٍ، فَلَا يُعْمَلُ بِمَفْهُومِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مَوَاطِنَ بِحَسَبِ السَّائِلِينَ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْيَوْمَ الْمُفْرَدَ وَاللَّيْلَةَ الْمُفْرَدَةَ بِمَعْنَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، يَعْنِي: فَمَنْ أَطْلَقَ يَوْمًا أَرَادَ بِلَيْلَتِهِ، أَوْ لَيْلَةً أَرَادَ بِيَوْمِهَا وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ جَمْعِهِمَا أَشَارَ إِلَى مُدَّةِ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، وَعِنْدَ إِفْرَادِهِمَا أَشَارَ إِلَى قَدْرِ مَا تُقْضَى فِيهِ الْحَاجَةُ.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلًا لِأَوَائِلِ الْأَعْدَادِ، فَالْيَوْمُ أَوَّلُ الْعَدَدِ، وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ التَّكْثِيرِ، وَالثَّلَاثُ أَوَّلُ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَنِ لَا يَحِلُّ فِيهِ السَّفَرُ فَكَيْفَ بِمَا زَادَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الثَّلَاثِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا دُونَهَا فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَقَلُّهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْبَرِيدِ، فَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ السَّفَرُ طَوِيلَ السَّيْرِ وَقَصِيرَهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ امْتِنَاعُ سَيْرِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْمَنْعَ الْمُقَيَّدَ بِالثَّلَاثِ مُتَحَقِّقٌ وَمَا عَدَاهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَنُوقِضَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُطْلَقَةَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ سَفَرٍ فَيَنْبَغِي الْأَخْذُ بِهَا وَطَرْحُ مَا عَدَاهَا فَإِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَتَرْكُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ هُنَا، وَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّقْيِيدُ، بِخِلَافِ حَدِيثِ الْبَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ.
وَفَرَّقَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ بَيْنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فَمَنَعَهَا دُونَ الْقَرِيبَةِ، وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَجِدْ زَوْجًا أَوْ مَحْرَمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ سَفَرِ الْفَرِيضَةِ، قَالُوا: وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ إِلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ إِلَّا كَافِرَةً أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَسِيرَةً تَخَلَّصَتْ. وَزَادَ غَيْرُهُ أَوِ امْرَأَةً انْقَطَعَتْ مِنَ الرُّفْقَةِ فَوَجَدَهَا رَجُلٌ مَأْمُونٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْحَبَهَا حَتَّى يُبَلِّغَهَا الرُّفْقَةَ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ عُمُومُهُ مَخْصُوصًا بِالِاتِّفَاقِ فَلْيُخَصَّ مِنْهُ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّهُ سَفَرُ الضَّرُورَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ، وَلِأَنَّهَا تَدْفَعُ ضَرَرًا مُتَيَقَّنًا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَلَا كَذَلِكَ السَّفَرِ لِلْحَجِّ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ: لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَنَصَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ يُخَصُّ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَسْفَارِ؟ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ أَوِ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ، وَفِي قَوْلٍ: تَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثِقَةٌ. وَفِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُهَذَّبِ: تُسَافِرُ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَاجِبِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
وَأَغْرَبَ الْقَفَّالُ فَطَرَدَهُ فِي الْأَسْفَارِ كُلِّهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ. قُلْتُ: وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى نَفْيِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ آنِفًا. وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْمَحْرَمُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، أَوْ شَرْطٌ فِي التَّمَكُّنِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الذِّمَّةِ؟ وَعِبَارَةُ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ: الشَّرَائِطُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَجُّ عَلَى الرَّجُلِ يَجِبُ بِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ إِذَا أُمِنَ الطَّرِيقُ أَوَّلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، لِاتِّفَاقِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَنِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ نَكِيرِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا أَبَاهُ مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، لَا مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفِ السَّفَرِ عَلَى الْمَحْرَمِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقِبَ الْآخَرِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ أَنَّهُ خَصَّهُ بِغَيْرِ الْعَجُوزِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي شُهُودِ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي قَالَهُ الْبَاجِيُّ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، يَعْنِي: مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ الْأَغْلَبِ. وَتَعَقَّبُوهُ بِأَنَّ لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةً، وَالْمُتَعَقِّبُ رَاعَى الْأَمْرَ النَّادِرَ وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ. قَالَ: وَالْمُتَعَقِّبُ عَلَى الْبَاجِيِّ يَرَى جَوَازَ سَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْأَمْنِ وَحْدَهَا فَقَدْ نَظَرَ أَيْضًا إِلَى الْمَعْنَى، يَعْنِي: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْبَاجِيِّ، وَأَشَ رَ بِذَلِكَ إِلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مَرْفُوعًا: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا زَوْجَ مَعَهَا الْحَدِيثَ. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَجُودِ ذَلِكَ لَا عَلَى جَوَازِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ.
وَمِنَ الْمُسْتَظْرَفِ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمَحْرَمَ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، وَمِنْ مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُهُ أَنَّهُ حَجَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا قَوْلَ هَذَا وَبِالْعَكْسِ. وَأَمَّا مَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا مَنْعِ بَيْعِهِنَّ، خِلَافًا لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَقَعُ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَا جَائِزًا. انْتَهَى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الْمَذْكُورَةَ تُقَوِّي الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَامَّيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} عَامٌّ فِي
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى السَّفَرِ إِذَا وُجِدَتْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم: لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ عَامٌّ فِي كُلِّ سَفَرٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَجُّ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ خَصَّ الْحَدِيثَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ خَصَّ الْآيَةَ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ، وَقَدْ رُجِّحَ الْمَذْهَبُ الثَّانِي بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَيِّدٍ لِكَوْنِهِ عَامًّا فِي الْمَسَاجِدِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى السَّفَرِ بِحَدِيثِ النَّهْيِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) أَيْ: فَيَحِلُّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الزَّوْجِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ: لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا وَضَابِطُ الْمَحْرَمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا، فَخَرَجَ بِالتَّأْبِيدِ أُخْتُ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتُهَا، وَبِالْمُبَاحِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَبِنْتُهَا، وَبِحُرْمَتِهَا الْمُلَاعَنَةُ، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ مِنْ حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ مُسْلِمَةً لَهَا أَبٌ كِتَابِيٌّ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهَا عَنْ دِينِهَا إِذَا خَلَا بِهَا. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا يَحْتَاجُ أَنْ يَزِيدَ فِي هَذَا الضَّابِطِ مَا يُدْخِلُهُ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِمَا إِذَا كَانَا فِي قَافِلَةٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَا وَحْدَهُمَا فَلَا؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَحْرَمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الْمَحْرَمَ فَقَالَ الْقَائِلُ: إِنَّ امْرَأَتِي حَاجَّةٌ. فَكَأَنَّهُ فَهِمَ حَالَ الزَّوْجِ فِي الْمَحْرَمِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا فَهِمَهُ، بَلْ قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَهَا.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ابْنَ الزَّوْجِ فَكَرِهَ السَّفَرَ مَعَهُ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْكَرَاهِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّحْرِيمِ فَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّنْزِيهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ: لَا يَحِلُّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ الْكَرَاهَةَ التَّنْزِيهِيَّةَ؟
قَوْلُهُ: (وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) فِيهِ مَنْعُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقُومُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ مَقَامَهُ فِي هَذَا كَالنِّسْوَةِ الثِّقَاتِ؟ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ بِهِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ مِنَ الْمَحْرَمِ، وَكَذَا فِي النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ. وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ بِنِسَاءٍ مُفْرَدَاتٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمًا لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّجُلِ وَلَا امْرَأَتِهِ وَلَا عَلَى تَعْيِينِ الْغَزْوَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ: إِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا، أَيْ: كَتَبَتْ نَفْسِي فِي أَسْمَاءِ مَنْ عُيِّنَ لِتَلِكَ الْغَزَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا تَأَخَّرَ الرَّجُلُ مَعَ رُفْقَتِهِ الَّذِينَ عُيِّنُوا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ. كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ بِلَازِمٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ حَجُّوا قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ حَجَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَوْ أَنَّ الْجِهَادَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَى الْمَذْكُورِينَ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ، كَمَا لَوْ نَزَلَ عَدُوٌّ بِقَوْمٍ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ وَيَتَأَخَّرُ الْحَجُّ اتِّفَاقًا.
قَوْلُهُ: (اخْرُجْ مَعَهَا) أَخَذَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرَ مَعَ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَالْوَلِيِّ فِي الْحَجِّ عَنِ الْمَرِيضِ، فَلَوِ امْتَنَعَ إِلَّا بِأُجْرَةٍ لَزِمَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِهَا فَصَارَ فِي حَقِّهَا كَالْمُؤْنَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا لِكَوْنِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَلَهَا مَالٌ وَلَا يَأْذَنُ لَهَا فِي الْحَجِّ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْطَلِقَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ مَنْعَ
زَوْجَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ فِي الْأَسْفَارِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ وَاجِبًا، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ حَزْمٍ جَوَازَ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا وَلَا عَابَ سَفَرَهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا لَمَا أَمَرَ زَوْجَهَا بِالسَّفَرِ مَعَهَا وَتَرْكِهِ الْغَزْوَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مَا رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ النَّذْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَارِضَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَرَضَ لَهُ الْغَزْوُ وَالْحَجُّ رَجَّحَ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ امْرَأَتَهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي السَّفَرِ مَعَهَا بِخِلَافِ الْغَزْوِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: ولَهُ طَرِيقَانِ: مَوْصُولٌ وَمُعَلَّقٌ وَآخَرُ مُعَلَّقٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ) هُوَ ابْنُ أَبِي قَرِيبَةَ بِقَافٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَاسْمُ أَبِي قَرِيبَةَ زَيْدٌ، وَقِيلَ: زَائِدَةُ، وَهُوَ غَيْرُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَبُو فُلَانٍ، تَعْنِي زَوْجَهَا) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَبُو سِنَانٍ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي بَابِ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ إِلَخْ) أَرَادَ تَقْوِيَةَ طَرِيقِ حَبِيبٍ بِمُتَابَعَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَصْرِيحُ عَطَاءٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طَرِيقُ ابْنِ جُرَيْجٍ مَوْصُولَةً فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ) وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ (عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ)، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى عَطَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَيَعْقُوبَ بْنَ عَطَاءٍ وَافَقَا حَبِيبًا، وَابْنَ جُرَيْجٍ، فَتَبَيَّنَ شُذُوذُ رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَشَذَّ مَعْقِلٌ الْجَزَرِيُّ أَيْضًا فَقَالَ: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَيُومِئُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ لَيْسَتْ مُطَّرَحَةً لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِعَطَاءٍ فِيهِ شَيْخَانِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ خَالِيَةٌ عَنِ الْقِصَّةِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْمَتْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً كَذَلِكَ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ أَحَدُهَا: سَفَرُ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ، ثَانِيهَا: مَنْعُ صَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَسَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ، ثَالِثُهَا: مَنْعُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، رَابِعُهَا: مَنْعُ شَدِّ الرَّحْلِ إِلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ يُحَدِّثُهُنَّ) وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ: أَوْ قَالَ: أَخَذْتُهُنَّ بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ: حَمَلْتُهُنَّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَآنَقْنَنِي) بِفَتْحِ النُّونَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ بِوَزْنِ أَعْجَبْنَنِي، وَمَعْنَاهُ: أَيِ الْكَلِمَاتُ، يُقَالُ: آنَقَنِي الشَّيْءُ (بِالْمَدِّ)، أَيْ: أَعْجَبَنِي. وَذِكْرُ الْإِعْجَابِ بَعْدَهُ مِنَ التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ ذُو مَحْرَمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مُحَرَّمٌ الْأَوَّلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَالثَّانِي بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ أَيْ: عَلَيْهَا.
27 - بَاب مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ
1865 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ.
[الحديث 1865 - طرفه في: 6701]
1866 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ
بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ قَالَ وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ) أَيْ: وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَإِذَا وَجَبَ فَتَرَكَهُ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا مَاذَا يَلْزَمُهُ؟ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ) هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ مَرْوَانَ هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ أَوْ مَرْوَانُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ثَابِتٌ) هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ حُمَيْدٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا صَرَّحَ حُمَيْدٌ فِيهِ بِالْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنَسٍ، وَقَدْ حَذَفَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ جَمِيعًا عَنْ حُمَيْدٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ غَالِبَ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِوَاسِطَةٍ، لَكِنْ قَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِبَيَانِ سَمَاعِهِ لَهَا مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ وَافَقَ عِمْرَانُ القَطَّانُ، عَنْ حُمَيْدٍ الْجَمَاعَةَ عَلَى إِدْخَالِ ثَابِتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنَسٍ، لَكِنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَتْنِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: نَذَرَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسُئِلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ.
قَوْلُهُ: (رَأَى شَيْخًا يُهَادَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْمُهَادَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَمْشِيَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِهِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ يَتَهَادَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ ابْنَيْهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الشَّيْخِ وَلَا عَلَى اسْمِ ابْنَيْهِ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ الرَّجُلُ الَّذِي يُهَادَى قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ، كَذَا قَالَ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْخَطِيبِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، وَثَوْرٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْخَطِيبُ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَأَى رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: مَا بَالُهُ؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَتَكَلَّمَ الْحَدِيثَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، فَيَحْتَاجُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ إِلَى مُسْتَنَدٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الَّذِي أَجَابَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُؤَالِهِ وَلَدَا الرَّجُلِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ ابْنَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَأَمَرَهُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَرْكَبَ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ فَرَكِبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِمَّا لِأَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا فَنَذْرُ الْمَشْيِ يَقْتَضِي الْتِزَامَ تَرْكِ الْأَفْضَلِ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) هُوَ الْجُهَنِيُّ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: (نَذَرَتْ أُخْتِي) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ، وَابْنُ الْقَسْطَلَانِيِّ،
وَالْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: هِيَ أُمُّ حِبَّانَ بِنْتُ عَامِرٍ، وَهِيَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَنَسَبُوا ذَلِكَ لِابْنِ مَاكُولَا فَوَهَمُوا، فَإِنَّ ابْنَ مَاكُولَا إِنَّمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، وَابْنُ سَعْدٍ إِنَّمَا ذَكَرَ فِي طَبَقَاتِ النِّسَاءِ أُمَّ حِبَّانَ بِنْتَ عَامِرِ بْنِ نَابِي - بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ - ابْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ - بِمُهْمَلَتَيْنِ - الْأَنْصَارِيَّةَ، قَالَ: وَهِيَ أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَابِي، شَهِدَ بَدْرًا، وَهِيَ زَوْجُ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، وَكَانَ ذُكِرَ قَبْلُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي الْأَنْصَارِيُّ وَأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَلَا رِوَايَةَ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُغَايِرٌ لِلْجُهَنِيِّ، فَإِنَّ لَهُ رِوَايَةً كَثِيرَةً وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَلَيْسَ أَنْصَارِيًّا، فَعَلَى هَذَا لَمْ يُعْرَفِ اسْمُ أُخْتِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، وَقَدْ كُنْتُ تَبِعْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ مَنْ ذَكَرْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ الْآنَ عَنْ ذَلِكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ - بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ - عَنْ يَزِيدَ: حَافِيَةً، وَلِأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، وَزَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: وَهِيَ امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَالْمَشْيُ يَشُقُّ عَلَيْهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، وَشَكَا إِلَيْهِ ضَعْفَهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ: مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَعَلَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هُوَ أَحَدُ أَوْجُهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ: فَلْتَرْكَبْ وَلْتهْدِ بَدَنَةً. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ) هُوَ يَقُولُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الرَّاوِي، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ بَيَانُ سَمَاعِ أَبِي الْخَيْرِ لَهُ مِنْ عُقْبَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ) كَذَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ، وَوَافَقَهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ جَعَلَا شَيْخَ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَخَالَفَهُمَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ فَجَعَلَ شَيْخَ ابْنَ جُرَيْجٍ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ أَبِي أَيُّوبَ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لِاتِّفَاقِ أَبِي عَاصِمٍ، وَرَوْحٍ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ هِشَامٌ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ وَافَقَ هِشَامًا وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَوَافَقَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ حُفَّاظٍ رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، فَإِنْ كَانَ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْأَكْثَرِيَّةِ فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ صَنِيعِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ أَنَّ لِابْنِ جُرَيْجٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَقَدْ عَبَّرَ مُغَلْطَايْ وَتَبِعَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عَنْ كَلَامِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْمُحْصَرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَا مَعَ ذَلِكَ إِلَى هُنَا عَلَى أَحَدٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَحَدِيثِهِ فِي الَّتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا، وَحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ حُجَّ بِهِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اثْنَا عَشَرَ أَثَرًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
29 - كِتَاب فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ
1 - بَاب حَرَمِ الْمَدِينَةِ
1867 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
[الحديث 1867 - طرفه في 7306]
1868 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي فَقَالُوا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ"
1869 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي قَالَ وَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ"
[الحديث 1869 - طرفه في 1873]
1870 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَالَ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَدْلٌ فِدَاءٌ"
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَضَائِلُ الْمَدِينَةِ. بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ سِوَى قَوْلِهِ: بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الشَّبَوِيِّ بَابُ مَا جَاءَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ. وَالْمَدِينَةُ عَلَمٌ عَلَى الْبَلْدَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدُفِنَ بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} فَإِذَا أُطْلِقَتْ تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا الْمُرَادُ، وَإِذَا أُرِيدَ غَيْرُهَا بِلَفْظَةِ الْمَدِينَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ، فَهِيَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَكَانَ اسْمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَثْرِبَ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} وَيَثْرِبُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ مِنْهَا سُمِّيَتْ كُلُّهَا بِهِ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِيَثْرِبَ بْنِ قَانِيَةَ مِنْ وَلَدِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ نَزَلَهَا، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَيْبَةَ وَطَابَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَكَانَ سُكَّانُهَا الْعَمَالِيقَ، ثُمَّ نَزَلَهَا طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قِيلَ: أَرْسَلَهُمْ مُوسَى عليه السلام كَمَا أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ نَزَلَهَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ سَبَأٍ بِسَبَبِ سَيْلِ الْعَرِمِ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِيِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَاصِمٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ، وَلِيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَاصِمٍ سَأَلْتُ أَنَسًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا) هَكَذَا جَاءَ مُبْهَمًا، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا فَعَيَّنَ الْأَوَّلَ وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَزْنُ فَاعِلٍ، وَذَكَرَهُ فِي الْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ: عَيْرٍ بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ. وَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ كُلِّهَا عَلَى إِبْهَامِ الثَّانِي. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِلَى ثَوْرٍ فَقِيلَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ أَبْهَمَهُ عَمْدًا لَمَّا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَهْمٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ ذَكَرُوا عَيْرًا، وَأَمَّا ثَوْرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ بِكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانَهُ بَيَاضًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ قَوْلُ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ: لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عَيْرٌ وَلَا ثَوْرٌ. وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ عَيْرًا وَوَافَقَهُ عَلَى إِنْكَارِ ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَعْرِفُونَ جَبَلًا عِنْدَهُمْ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ، وَنَرَى أَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا مَعْنًى لِإِنْكَارِ عَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ شَوَاهِدَ، مِنْهَا قَوْلُ الْأَحْوَصِ الْمَدَنِيِّ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ:
فَقُلْتُ لِعَمْرٍو تِلْكَ يَا عَمْرُو نَارُهُ
…
تَشِبُّ قَفَا عَيْرٍ فَهَلْ أَنْتَ نَاظِرُ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي الْمُثَلَّثِ: عَيْرٌ اسْمُ جَبَلٍ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، لِبِشْرِ بْنِ السَّائِبِ: أَتَدْرِي لِمَ سَكَنَّا الْعَقَبَةَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لِأَنَّا قَتَلْنَا مِنْكُمْ قَتِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُخْرِجْنَا إِلَيْهَا. فَقَالَ: وَدِدْتُ لَوْ أَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ مِنَّا آخَرَ وَسَكَنْتُمْ وَرَاءَ عَيْرٍ، يَعْنِي: جَبَلًا. كَذَا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ. وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ فِي إِنْكَارِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ لِعَيْرٍ وَثَوْرٍ مَسَالِكَ: ما مِنْهَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ لَا أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا فِي الْمَدِينَةِ، أَوْ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِطَرَفَيِ الْمَدِينَةِ عَيْرًا وَثَوْرًا ارْتِجَالًا.
وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ كَلَامَ أَبِي عُبَيْدٍ مُخْتَصَرًا ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ عَيْرًا جَبَلٌ بِمَكَّةَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ بِمَكَّةَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَوَصْفِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْرٌ كَانَ اسْمَ جَبَلٍ هُنَاكَ إِمَّا أُحُدٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ بَعْدَ حِكَايَةِ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: قَدْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ الْعَالِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ حِذَاءَ أُحُدٍ عَنْ يَسَارِهِ جَانِحًا إِلَى وَرَائِهِ جَبَلٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ لِطَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ - أَيِ: الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ - فَكُلٌّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَبَلَ اسْمُهُ ثَوْرٌ، وَتَوَارَدُوا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَعَلِمْنَا أَنَّ ذِكْرَ ثَوْرٍ فِي الْحَدِيثِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ عَدَمَ عِلْمِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِ بَحْثِهِمْ عَنْهُ. قَالَ: وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ. انْتَهى.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِهِ:
حَكَى لَنَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مَزْرُوعٍ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ رَسُولًا إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ مَعَهُ دَلِيلٌ وَكَانَ يَذْكُرُ لَهُ الْأَمَاكِنَ وَالْجِبَالَ، قَالَ: فَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُحُدٍ إِذَا بِقُرْبِهِ جَبَلٌ صَغِيرٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا يُسَمَّى ثَوْرًا. قَالَ: فَعَلِمْتُ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ هَذَا كَانَ مَبْدَأَ سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حُسَيْنٍ الْمَرَاغِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ فِي مُخْتَصَرِهِ لِأَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ خَلَفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَنْقُلُونَ عَنْ سَلَفِهِمْ أَنَّ خَلَفَ أُحُدٍ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ جَبَلًا صَغِيرًا إِلَى الْحُمْرَةِ بِتَدْوِيرٍ يُسَمَّى ثَوْرًا، قَالَ: وَقَدْ تَحَقَّقْتُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ التِّينِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَبْهَمَ اسْمَ الْجَبَلِ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ غَلَطٌ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، بَلْ إِبْهَامُهُ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْجِزْيَةِ فَسَمَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا جَبَلَانِ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا لَكِنْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرٍو بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَسَعْدٍ وَجَابِرٍ وَكُلُّهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ الزَّرَقِيِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ، وَأَبِي حُسَيْنٍ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَاللَّابَتَانِ جَمْعُ لَابَةٍ - بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ - وَهِيَ الْحَرَّةُ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ السُّودُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا فَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا وَفِي رِوَايَةٍ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَفِي رِوَايَةٍ: مَأْزِمَيْهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّ الْجَمْعَ لَوْ تَعَذَّرَ أَمْكَنَ التَّرْجِيحُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَرْجَحُ لِتَوَارُدِ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا، وَرِوَايَةَ جَبَلَيْهَا لَا تُنَافِيهَا، فَيَكُونُ عِنْدَ كُلِّ لَابَةٍ جَبَلٌ، أَوْ لَابَتَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ وَالشِّمَالِ، وَجَبَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَتَسْمِيَةُ الْجَبَلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَضُرُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: مَأْزِمَيْهَا فَهِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْمَأْزِمُ - بِكَسْرِ الزَّايِ -: الْمَضِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ نَفْسِهِ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ قَالَ: لَوْ كَانَ صَيْدُهَا حَرَامًا مَا جَازَ حَبْسُ الطَّيْرِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ.
قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ صَادَ مِنَ الْحِلِّ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْمَدِينَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِرْسَالُهُ لِحَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. لَكِنْ لَا يُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ عِنْدَهُمْ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ أَبِي عُمَيْرٍ كَانَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ قَطْعِ النَّخْلِ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ قَطْعُ شَجَرِهَا حَرَامًا مَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي، وَحَدِيثُ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ فِي الْجِهَادِ، وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْمَغَازِي وَاضِحًا، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا كَوْنَ الْهِجْرَةِ كَانَتْ إِلَيْهَا، فَكَانَ بَقَاءُ الصَّيْدِ وَالشَّجَرِ مِمَّا يَزِيدُ فِي زِينَتِهَا وَيَدْعُو إِلَى أُلْفَتِهَا، كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مِنْ زِينَةِ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ زَالَ ذَلِكَ، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى الْفَتْوَى بِتَحْرِيمِهَا سَعْدٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَقَطْعُ شَجَرِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْرُمُ، ثُمَّ مَنْ فَعَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي
رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الْأَقْيَسُ. وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُمْ فِيهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ كَمَا فِي حَرَمِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْجَزَاءُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَخْذُ السَّلَبِ؛ لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَفِي رِوَايَةِ لِأَبِي دَاوُدَ: مَنْ وَجَدَ أَحَدًا يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَلْيَسْلُبْهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَمْ يَقُلْ بِهَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
قُلْتُ: وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مَعَهُ وَبَعْدَهُ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَلِمَنْ قَالَ بِهِ اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّتِهِ وَمَصْرِفِهِ، وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَنِيعُ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَسَلَبِ الْقَتِيلِ، وَأَنَّهُ لِلسَّالِبِ لَكِنَّهُ لَا يُخَمَّسُ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ السَّلْبِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِ أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَرْدُودَةٌ فَبَطَلَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ سَعْدٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَسْخِ أَخْذِ السَّلَبِ مَا يُسْقِطُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ. وَيَجُوزُ أَخْذُ الْعَلَفِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي مُسْلِمٍ: وَلَا يُخْبَطُ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي مَقْصُورٌ عَلَى الْقَطْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْسَادُ، فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ كَمَنْ يَغْرِسُ بُسْتَانًا مَثَلًا فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ قَطْعُ مَا كَانَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ شَجَرٍ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ. قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّجَرِ مِمَّا لَا صُنْعَ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ، كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ شَجَرِ مَكَّةَ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَطْعُهُ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ وَجَعْلُهُ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّسْخُ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا، وَنَحْوُهُ عِنْدَهُ عَنْ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا) زَادَ شُعْبَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: أَوْ آوَى مُحْدِثًا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ، إِلَّا أَنَّ عَاصِمًا لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ) فِيهِ جَوَازُ لَعْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ، لَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لَعْنِ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُحْدِثَ وَالْمُؤوِيَ لِلْمُحْدِثِ فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ. وَالْمُرَادُ بِالْحَدَثِ وَالْمُحْدِثِ الظُّلْمُ وَالظَّالِمُ عَلَى مَا قِيلَ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ عِيَاضٌ: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْمُرَادُ بِلَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى ذَنْبِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَعْنِ الْكَافِرِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، أَوْرَدَ مِنْهُ طَرَفًا، وَقَدْ مَضَى فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ الْمُرَادَ بِإِيرَادِهِ هُنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحديث الثالث: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ اسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَقَدْ سَمِعَ إِسْمَاعِيلُ مِنْهُ، وَرَوَى كَثِيرًا عَنْ أَخِيهِ عَنْهُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ هَكَذَا، وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ زَادَ فِيهِ: عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِ حُرِّمَ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: حَرَّمَ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ الْمُبْتَدَأُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَ عَلَى لِسَانِي مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ وَنَحْوُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي اللَّابَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا
حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: حَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بَرِيدًا بَرِيدًا، لَا يُخْبَطُ شَجَرُهُ، وَلَا يُعْضَدُ إِلَّا مَا يُسَاقُ بِهِ الْجَمَلُ.
قَوْلُهُ: (وَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي حَارِثَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: ثُمَّ جَاءَ بَنِي حَارِثَةَ وَهُمْ فِي سَنَدِ الْحَرَّةِ أَيْ: فِي الْجَانِبِ الْمُرْتَفِعِ مِنْهَا، وَبَنُو حَارِثَةَ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ: بَطْنٌ مَشْهُورٌ مِنَ الْأَوْسِ، وَهُوَ حَارِثَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَكَانَ بَنُو حَارِثَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْحَرْبُ فَانْهَزَمَتْ بَنُو حَارِثَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَسَكَنُوهَا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، فَرَجَعَ بَنُو حَارِثَةَ فَلَمْ يَنْزِلُوا فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَسَكَنُوا فِي دَارِهِمْ هَذِهِ، وَهِيَ غَرْبِيُّ مَشْهَدِ حَمْزَةَ.
قَوْلُهُ: (بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ أَعَادَهَا تَأْكِيدًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْجَزْمِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَقِينَ عَلَى خِلَافِهِ رُجِعَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ يَزِيدُ بْنُ شَرِيكِ بْنِ طَارِقٍ التَّيْمِيُّ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، كُوفِيُّونَ فِي نَسَقٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَخَالَفَهُمْ شُعْبَةُ فَرَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ.
قَوْلُهُ: (مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ) أَيْ: مَكْتُوبٌ، وَإِلَّا فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَشْيَاءُ مِنَ السُّنَّةِ سِوَى الْكِتَابِ، أَوِ الْمَنْفِيُّ شَيْءٌ اخْتُصُّوا بِهِ عَنِ النَّاسِ. وَسَبَبُ قَوْلِ عَلِيٍّ هَذَا يَظْهَرُ مِمَّا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ: أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ فَعَلْنَاهُ. فَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُ أَهُوَ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ شَيْئًا خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ، إِلَّا شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. أَلَا لَا يُقْتَلْ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا وَحِمَاهَا كُلَّهُ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا السِّلَاحُ لِقِتَالٍ وَالْبَاقِي نَحْوُهُ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنِ الْأَشْتَرِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي كِتَابِي هَذَا. قَالَ: وَكِتَابٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى قَوْلِهِ فِي عَهْدِهِ: مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، إِلَى قَوْلِهِ: أَجْمَعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ عَنِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مَا خَصَّنَا بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبًا فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الصَّحِيفَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ، فَنَقَلَ كُلُّ رَاوٍ بَعْضَهَا، وَأَتَمُّهَا سِيَاقًا طَرِيقُ أَبِي حَسَّانَ كَمَا تَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ)
كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي فِي الْجِزْيَةِ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ قَالَ فِيهَا الْجِرَاحَاتُ وَأَسْنَانُ الْإِبِلِ
قَوْلُهُ: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا) يُقَيَّدُ بِهِ مُطْلَقُ مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَدِينَةِ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.
قَوْلُهُ: (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِمَا فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الصَّرْفُ الْفَرِيضَةُ وَالْعَدْلُ النَّافِلَةُ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْعَكْسِ، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ الصَّرْفُ التَّوْبَةُ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ، وَعَنْ يُونُسَ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: الصَّرْفُ الِاكْتِسَابُ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: الْعَدْلُ الْحِيلَةُ، وَقِيلَ: الْمِثْلُ، وَقِيلَ: الصَّرْفُ الدِّيَةُ وَالْعَدْلُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ الصَّرْفُ الْوَزْنُ وَالْعَدْلُ الْكَيْلُ، وَقِيلَ: الصَّرْفُ الْقِيمَةُ وَالْعَدْلُ الِاسْتِقَامَةُ، وَقِيلَ: الصَّرْفُ الدِّيَةُ وَالْعَدْلُ الْبَدِيلُ، وَقِيلَ: الصَّرْفُ الشَّفَاعَةُ، وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهَا تُعَادِلُ الدِّيَةَ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقِيلَ: الصَّرْفُ الرِّشْوَةُ وَالْعَدْلُ الْكَفِيلُ، قَالَهُ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَأَنْشَدَ:
لَا نَقْبَلُ الصَّرْفَ وَهَاتُوا عَدْلًا
فَحَصَلْنَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَدْلٌ فِدَاءٌ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِ الْأَصْمَعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ لَا يُقْبَلُ قَبُولَ رِضًا، وَإِنْ قُبِلَ قَبُولَ جَزَاءٍ، وَقِيلَ: يَكُونُ الْقَبُولُ هُنَا بِمَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ بِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى الْفِدْيَةِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدًى يَفْتَدِي بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ بِأَنْ يَفْدِيَهُ مِنَ النَّارِ بِيَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ لِمَا تَدَّعِيهِ الشِّيعَةُ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَعْلَمَهُ بِهَا سِرًّا تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُمُورِ الْإِمَارَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) أَيْ: أَمَانُهُمْ صَحِيحٌ فَإِذَا أَمَّنَ الْكَافِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ التَّعَرُّضُ لَهُ. وَلِلْأَمَانِ شُرُوطٌ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الذِّمَّةُ الْعَهْدُ، سُمِّيَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يُذَمُّ مُتَعَاطِيهَا عَلَى إِضَاعَتِهَا. وَقَوْلُهُ: يَسْعَى بِهَا
(1)
أَيْ: يَتَوَلَّاهَا وَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، شَرِيفٍ أَوْ وَضِيعٍ، فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرًا وَأَعْطَاهُ ذِمَّةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ أَخْفَرَ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ - أَيْ: نَقَضَ الْعَهْدَ، يُقَالُ خَفَرْتُهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ: أَمَّنْتُهُ، وَأَخْفَرْتُهُ: نَقَضْتُ عَهْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَتَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) لَمْ يُجْعَلِ الْإِذْنَ شَرْطًا لِجَوَازِ الِادِّعَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنَعُوهُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ بَيْعِهِ، فَإِذَا وَقَعَ بَيْعُهُ جَازَ لَهُ الِانْتِمَاءُ إِلَى مَوْلَاهُ الثَّانِي وَهُوَ غَيْرُ مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ، أَوِ الْمُرَادُ مُوَالَاةُ الْحِلْفِ فَإِذَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ عَنْهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَلَاءَ الْعِتْقِ لِعَطْفِهِ عَلَى قَوْلِهِ: مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالدَّعِيِّ الَّذِي تَبَرَّأَ عَمَّنْ هُوَ مِنْهُ وَأَلْحَقَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ أَجَابَ عَنِ الْإِذْنِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ لِلتَّقْيِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَانِعُ، وَهُوَ إِبْطَالُ حَقِّ مَوَالِيهِ. فَأَوْرَدَ الْكَلَامَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفَرَائِضِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ): رَتَّبَ الْمُصَنِّفُ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَرْتِيبًا حَسَنًا، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِ الْمَدِينَةِ حَرَمًا، وَفِي حَدِيثِهِ الثَّانِي تَخْصِيصُ النَّهْيِ
(1)
في هامش طبعة بولاق: وقوله يسعى الخ لعل وقعت له نسخة نصها ذمة المسلمين واحدة يسعى أدناهم فمن أخفر الخ.
عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ بِمَا لَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيَانُ مَا أُجْمِلَ مِنْ حَدِّ حَرَمِهَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَبَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّهُ مَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ زِيَادَةُ تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ وَبَيَانُ حَدِّ الْحَرَمِ أَيْضًا.
2 - بَاب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ
1871 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ) أَيِ: الشِّرَارُ مِنْهُمْ، وَرَاعَى فِي التَّرْجَمَةِ لَفْظَ الْحَدِيثِ، وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ الشِّرَارِ مِنَ النَّاسِ ظَاهِرَةٌ مِنَ التَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْإِخْرَاجُ، وَلَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ تُنَقِّي بِالْقَافِ لَحُمِلَ لَفْظُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَبْوَابٍ الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو الْحُبَابِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَّا إِسْحَاقَ بْنَ عِيسَى الطَّبَّاعَ فَقَالَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ خَطَأٌ. قُلْتُ: وَتَابَعَهُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ وَقَالَ: هَذَا وَهَمٌ، وَالصَّوَابُ: عَنْ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ.
قَوْلُهُ: (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) أَيْ: أَمَرَنِي رَبِّي بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا أَوْ سُكْنَاهَا، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ بِمَكَّةَ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ بِالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (تَأْكُلُ الْقُرَى) أَيْ: تَغْلِبُهُمْ. وَكَنَّى بِالْأَكْلِ عَنِ الْغَلَبَةِ؛ لِأَنَّ الْآكِلَ غَالِبٌ عَلَى الْمَأْكُولِ. وَوَقَعَ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ قُلْتُ لِمَالِكٍ: مَا تَأْكُلُ الْقُرَى؟ قَالَ: تَفْتَحُ الْقُرَى. وَبَسَطَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: مَعْنَاهُ: يَفْتَحُ أَهْلُهَا الْقُرَى فَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَسْبُونَ ذَرَارِيَّهُمْ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكَلْنَا بَلَدَ كَذَا، إِذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا. وَسَبَقَهُ الْخَطَّابِيُّ إِلَى مَعْنَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرُوا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالْآخَرُ أَنَّ أَكْلَهَا وَمِيرَتَهَا مِنَ الْقُرَى الْمُفْتَتَحَةِ، وَإِلَيْهَا تُسَاقُ غَنَائِمُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَكْلِهَا الْقُرَى غَلَبَةَ فَضْلِهَا عَلَى فَضْلِ غَيْرِهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَضَائِلَ تَضْمَحِلُّ فِي جَنْبِ عَظِيمِ فَضْلِهَا حَتَّى تَكَادَ تَكُونُ عَدَمًا. قُلْتُ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ احْتِمَالًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ: لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: تَأْكُلُ الْقُرَى إِلَّا رُجُوحُ فَضْلِهَا عَلَيْهَا وَزِيَادَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا، كَذَا قَالَ. وَدَعْوَى الْحَصْرِ مَرْدُودَةٌ لِمَا مَضَى، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَقَدْ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى، قَالَ: وَالْمَذْكُورُ لِلْمَدِينَةِ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأُمُومَةَ لَا تَنْمَحِي إِذَا وُجِدَتْ مَا هِيَ لَهُ أُمٌّ، لَكِنْ يَكُونُ حَقُّ الْأُمِّ أَظْهَرَ وَفَضْلُهَا أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ إِنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ يُسَمِّيهَا يَثْرِبَ، وَاسْمُهَا الَّذِي يَلِيقُ بِهَا الْمَدِينَةُ. وَفَهِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا كَرَاهَةَ تَسْمِيَةِ الْمَدِينَةِ يَثْرِبَ وَقَالُوا: مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَفَعَهُ: مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقَالَ لِلْمَدِينَةِ: يَثْرِبُ وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.
قَالَ: وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ يَثْرِبَ إِمَّا مِنَ التَّثْرِيبِ الَّذِي هُوَ التَّوْبِيخُ وَالْمَلَامَةُ، أَوْ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَقْبَحٌ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الِاسْمَ الْحَسَنَ وَيَكْرَهُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ. وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ
الزَّجَّاجُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ مَا اسْتَعْجَمَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ يَثْرِبَ بِاسْمِ يَثْرِبَ بْنِ قَانِيَةَ بْنِ مهلايلَ بْنِ عيلَ بْنِ عِيصَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَرَبِ، وَنَزَلَ أَخُوهُ خَيْبُورُ خَيْبَرَ فَسُمِّيَتْ بِهِ، وَسَقَطَ بَعْضُ الْأَسْمَاءِ مِنْ كَلَامِ الْبَكْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (تَنْفِي النَّاسَ) قَالَ عِيَاضٌ: وَكَأَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصْبِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْمُقَامِ مَعَهُ بِهَا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ إِيمَانُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - زَمَنَ الدَّجَّالِ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلًّا مِنَ الزَّمَنَيْنِ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الْآتِيَةُ بَعْدَ أَبْوَابٍ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَلِّلًا بِهِ خُرُوجَ الْأَعْرَابِيِّ وَسُؤَالَهُ الْإِقَالَةَ عَنِ الْبَيْعَةِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَمَا يَنْزِلُ بِهَا الدَّجَّالُ فَتَرْجُفُ بِأَهْلِهَا فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا.
قَوْلُهُ: (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى كُورٌ بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ الزِّقُّ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِيرِ حَانُوتُ الْحَدَّادِ وَالصَّائِغِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقِيلَ: الْكِيرُ هُوَ الزِّقُّ وَالْحَانُوتُ هُوَ الْكُورُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الْكِيرُ الزِّقُّ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادٍ لَهُ إِلَى أَبِي مَوْدُودٍ قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كِيرَ حَدَّادٍ فِي السُّوقِ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ حَتَّى هَدَمَهُ. وَالْخَبَثُ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ - أَيْ: وَسَخُهُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّارُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فِيهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، بَلْ تُمَيِّزُهُ عَنِ الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ وَتُخْرِجُهُ كَمَا يُمَيِّزُ الْحَدَّادَ رَدِيءَ الْحَدِيدِ مِنْ جَيِّدِهِ. وَنِسْبَةُ التَّمْيِيزِ لِلْكِيرِ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ الْأَكْبَرَ فِي اشْتِعَالِ النَّارِ الَّتِي يَقَعُ التَّمْيِيزُ بِهَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ الْبِلَادِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لِأَنَّ الْمَدِينَةَ هِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ مَكَّةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُرَى فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي صَحَائِفِ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ، وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ فَتَحُوا مَكَّةَ مُعْظَمُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَالْفَضْلُ ثَابِتٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ إِحْدَى الْبُقْعَتَيْنِ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي خَاصٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمِنَ الزَّمَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} وَالْمُنَافِقُ خَبِيثٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٌ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَمَّارٌ وَآخَرُونَ، وَهُمْ مِنْ أَطْيَبِ الْخَلْقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ تَخْصِيصُ نَاسٍ دُونَ نَاسٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَوْ فُتِحَتْ بَلَدٌ مِنْ بَلَدٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ الْفَضْلُ لِلْأُولَى لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ أَفْضَلَ مِنْ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فُتِحَ مِنْ جِهَةِ الْبَصْرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
3 - بَاب الْمَدِينَةُ طَابَةٌ
1872 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رضي الله عنه: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: هَذِهِ طَابَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ الْمَدِينَةُ طَابَةُ) أَيْ: مِنْ أَسْمَائِهَا؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَقَدْ مَضَى مُطَوَّلًا فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ طَابَةُ وَفِي بَعْضِهَا طَيْبَةُ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سِمَاكٍ بِلَفْظِ: كَانُوا يُسَمُّونَ الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ، فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَابَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّابُ وَالطِّيبُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الشَّيْءِ الطَّيِّبِ، وَقِيلَ: لِطَهَارَةِ تُرْبَتِهَا، وَقِيلَ: لِطِيبِهَا لِسَاكِنِهَا، وَقِيلَ: مِنْ طِيبِ الْعَيْشِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَفِي طِيبِ تُرَابِهَا وَهَوَائِهَا دَلِيلٌ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ بِهَا يَجِدُ مِنْ تُرْبَتِهَا وَحِيطَانِهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً لَا تَكَادُ تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِخَطِّهِ: قَالَ الْحَافِظُ: أَمْرُ الْمَدِينَةِ فِي طِيبِ تُرَابِهَا وَهَوَائِهَا يَجِدُهُ مَنْ أَقَامَ بِهَا، وَيَجِدُ لِطِيبِهَا أَقْوَى رَائِحَةٍ، وَيَتَضَاعَفُ طِيبُهَا فِيهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ الْعُودُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ. وَلِلْمَدِينَةِ أَسْمَاءٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلْمَدِينَةِ عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ، هِيَ: الْمَدِينَةُ، وَطَابَةُ، وَطَيْبَةُ، وَالْمُطَيَّبَةُ، وَالْمِسْكِينَةُ، وَالدَّارُ، وَجَابِرَةُ، وَمَجْبُورَةُ، وَمُنِيرَةُ، وَيَثْرِبُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ لِلْمَدِينَةِ عَشْرَةَ أَسْمَاءٍ، هِيَ: الْمَدِينَةُ، وَطَيْبَةُ، وَطَابَةُ، وَالْمُطَيَّبَةُ، وَالْمِسْكِينَةُ، وَالْمِدْرَى، وَالْجَابِرَةُ، وَالْمَجْبُورَةُ، وَالْمُحَبَّبَةُ، وَالْمَحْبُوبَةُ، وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى مِثْلَهُ وَزَادَ: وَالْقَاصِمَةُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلْمَدِينَةِ يَا طَيْبَةُ، وَيَا طَابَةُ، وَيَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْبَلِي الْكُنُوزَ، أَرْفَعُ أَجَاجِيرَكِ عَلَى الْقُرَى. وَرَوَى الزُّبَيْرُ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمَّى اللَّهُ الْمَدِينَةَ الدَّارَ وَالْإِيمَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ لَهَا أَرْبَعِينَ اسْمًا.
4 - بَاب لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ
1873 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ - أَيْ: تَسْعَى أَوْ تَرْعَى - بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا أَيْ: مَا قَصَدْتُ أَخْذَهَا فَأَخَفْتُهَا بِذَلِكَ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ عَدَمِ صَيْدِهَا. وَاسْتَدَلَّ أَبُو هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - أَيِ: الْمَدِينَةُ - حَرَامٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَدِينَةُ لِأَنَّهَا بَيْنَ لَابَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ، وَلَهَا لَابَتَانِ أَيْضًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ الْآخَرَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ لِاتِّصَالِهِمَا بِهِمَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ دُورِهَا كُلِّهَا دَاخِلُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: تَرْتَعُ أَيْ: تَرْعَى، وَقِيلَ: تَنْبَسِطُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَنَقَلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِجْزَاءَ فِي صَيْدِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ.
5 - بَاب مَنْ رَغِبَ عَنْ الْمَدِينَةِ
1874 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِ
يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا.
1875 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: فَهُوَ مَذْمُومٌ، أَوْ بَابُ حُكْمِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا.
قَوْلُهُ: (تَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ، لَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ نَسْلِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ مِنْ نَوْعِهِمْ، وَرُوِيَ يَتْرُكُونَ بِتَحْتَانِيَّةٍ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ) أَيْ: عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَيْثُ صَارَتْ مَعْدِنَ الْخِلَافَةِ وَمَقْصِدَ النَّاسِ وَمَلْجَأَهُمْ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهَا خَيْرَاتُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ مِنْ أَعْمَرِ الْبِلَادِ، فَلَمَّا انْتَقَلَتِ الْخِلَافَةُ عَنْهَا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ إِلَى الْعِرَاقِ وَتَغَلَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَعْرَابُ تَعَاوَرَتْهَا الْفِتَنُ وَخَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَصَدَتْهَا عَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ. وَالْعَوَافِي جَمْعُ عَافِيَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ أَقْوَاتِهَا، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ عَافٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اجْتَمَعَ فِي الْعَوَافِي شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِأَقْوَاتِهَا مِنْ قَوْلِكَ عَفَوْتُ فُلَانًا أَعْفُوهُ فَأَنَا عَافٍ، وَالْجَمْعُ عُفَاةٌ، أَيْ: أَتَيْتُ أَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ، وَالثَّانِي مِنَ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْخَالِي الَّذِي لَا أَنِيسَ بِهِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ وَالْوَحْشَ تَقْصِدُهُ لِأَمْنِهَا عَلَى نَفْسِهَا فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ الرَّاعِيَيْنِ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمَا آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ حَمَاسٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ، عَنْ عَمِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَتَتْرُكُنَّ الْمَدِينَةَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الذِّئْبُ فَيَعْوِيَ عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالُوا: فَلِمَنْ تَكُونُ ثِمَارُهَا؟ قَالَ: لِلْعَوَافِي: الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ. أَخْرَجَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ، ثُمَّ لَقِيَنِي وَأَنَا خَارِجٌ مِنْ بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَيْنَا أُحُدًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: وَيْلَ أُمِّهَا قَرْيَةٌ يَوْمَ يَدَعُهَا أَهْلُهَا كَأَيْنَعِ مَا يَكُونُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ يَأْكُلُ ثِمَارَهَا؟ قَالَ: عَافِيَةُ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيَدَعَنَّهَا أَهْلُهَا مُذَلَّلَةً أَرْبَعِينَ عَامًا لِلْعَوَافِي، أَتَدْرُونَ مَا الْعَوَافِي؟ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ. قُلْتُ: وَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطْعًا. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَدِينَةَ تُسْكَنُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ خَلَتْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِقَصْدِ الرَّاعِيَيْنِ بِغَنَمِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ) هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَرَتَّبُ الِاخْتِلَافُ الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ
كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (يَنْعِقَانِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ، النَّعِيقُ زَجْرُ الْغَنَمِ، يُقَالُ نَعَقَ يَنْعِقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا نَعِيقًا وَنُعَاقًا وَنَعَقَانًا إِذَا صَاحَ بِالْغَنَمِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: مَعْنَاهُ يَطْلُبُ الْكَلَأَ، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْمَقْصُودِ مِنَ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّهُ يَزْجُرُهَا عَنِ الْمَرْعَى الْوَبِيلِ إِلَى الْمَرْعَى الْوَسِيمِ.
قَوْلُهُ: (فَيَجِدَانِهَا وُحُوشًا) أَوْ يَجِدَانِهَا ذَاتَ وَحْشٍ، أَوْ يَجِدَانِ أَهْلَهَا قَدْ صَارُوا وُحُوشًا، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: يَجِدَانِهَا خَالِيَةً، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، أَيْ: خَالِيَةً لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ، وَالْوَحْشُ مِنَ الْأَرْضِ الْخَلَاءُ، أَوْ كَثْرَةُ الْوَحْشِ لَمَّا خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَجِدَانِهَا ذَاتَ وُحُوشٍ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ وَحْشًا بِمَعْنَى وُحُوشٍ، وَأَصْلُ الْوَحْشِ كُلُّ شَيْءٍ تَوَحَّشَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَجَمْعُهُ وُحُوشٌ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِوَاحِدِهِ عَنْ جَمْعِهِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُرَابِطِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ غَنَمَ الرَّاعِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تَصِيرُ وُحُوشًا، إِمَّا بِأَنْ تَنْقَلِبَ ذَاتُهَا، وَإِمَّا أَنْ تَتَوَحَّشَ وَتَنْفِرَ مِنْهُمَا، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي يَجِدَانِهَا يَعُودُ عَلَى الْغَنَمِ وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا يَخِرَّانِ عَلَى وُجُوهِهِمَا إِذَا وَصَلَا إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِمَا الْمَدِينَةَ بِلَا شَكٍّ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا وَجَدَا التَّوَحُّشَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَدِينَةِ فَيَقْوَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى غَنَمِهِمَا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا قَالَ: آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَآخَرُ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَيَقُولَانِ: أَيْنَ النَّاسُ؟ فَيَأْتِيَانِ الْمَدِينَةَ فَلَا يَرَيَانِ إِلَّا الثَّعَالِبَ، فَيَنْزِلُ إِلَيْهِمَا مَلَكَانِ فَيَسْحَبَانِهِمَا عَلَى وُجُوهِهِمَا حَتَّى يُلْحِقَاهُمَا بِالنَّاسِ.
قَوْلُهُ: وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ حَشْرَهُمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُقَدِّمَتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَشْرَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَذَكَرَ سَبَبَ مَوْتِهِمَا وَالْحَشْرُ يَعْقُبُهُ. وَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا: خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا أَيْ: سَقَطَا مَيِّتَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا أَيْ: سَقَطَا بِمَنْ أَسْقَطَهُمَا، وَهُوَ الْمَلَكُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْعُقَيْلِيِّ: أَنَّهُمَا كَانَا يَنْزِلَانِ بِجَبَلِ وَرْقَانَ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ: أَنَّهُمَا يَفْقِدَانِ النَّاسَ فَيَقُولَانِ: نَنْطَلِقُ إِلَى بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْتِيَانِهِمْ فَلَا يَجِدَانِ أَحَدًا فَيَقُولَانِ: نَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَنْطَلِقَانِ فَلَا يَجِدَانِ بِهَا أَحَدًا، فَيَنْطَلِقَانِ إِلَى الْبَقِيعِ فَلَا يَرَيَانِ إِلَّا السِّبَاعَ وَالثَّعَالِبَ وَهَذَا يُوَضِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ آخِرُ قَرْيَةٍ فِي الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ وَهُوَ يُنَاسِبُ كَوْنَ آخِرِ مَنْ يُحْشَرُ يَكُونُ مِنْهَا.
(تَنْبِيهٌ): أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ تَعْبِيرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: خَيْرِ مَا كَانَتْ وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ أَعْمَرِ مَا كَانَتْ، أَخْرَجَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ مُسَاحِقِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَرُدُّ عَلَيَّ حَدِيثِي؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي بَيْتٍ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهَا أَهْلُهَا خَيْرَ مَا كَانَتْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَجَلْ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ: خَيْرَ مَا كَانَتْ، إِنَّمَا قَالَ: أَعْمَرَ مَا كَانَتْ، وَلَوْ قَالَ: خَيْرَ مَا كَانَتْ لَكَانَ ذَلِكَ وَهُوَ حَيٌّ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقْتَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَنْ يُخْرِجُهُمْ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ السُّوءِ
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَخُوهُ. وَفِي الْإِسْنَادِ صَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ؛ لِأَنَّ هِشَامًا قَدْ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَرَوَاهُ
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عُرْوَةُ ثُمَّ لَقِيتُ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَخْبَرَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ اخْتِلَافًا آخَرَ، فَقَالَ وُهَيْبٌ وَجَمَاعَةٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ، وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِسَنَدِهِ: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ عَلَى الصَّوَابِ، وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ جَرِيرٍ فَقَالَ: سُفْيَانُ بْنُ أَبِي قِلَابَةَ، كَأَنَّهُ عَرَفَ خَطَأَ جَرِيرٍ فَكَنَّى عَنْهُ، وَاسْمُ أَبِي زُهَيْرٍ الْقَرِدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَقِيلَ: نُمَيْرٌ، وَهُوَ الشَّنُوئِيُّ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ، وَبَعْدَ الْوَاوِ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَفِي النَّسَبِ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ بِلَا وَاوٍ، وَشَنُوءَةُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَضْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَسُمِّيَ شَنُوءَةَ لِشَنَآنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (تُفْتَحُ الْيَمَنُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: افْتُتِحَتِ الْيَمَنُ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ، وَافْتُتِحَتِ الشَّامُ بَعْدَهَا، وَالْعِرَاقُ بَعْدَهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى تَرْتِيبِهِ، وَوَقَعَ تَفَرُّقُ النَّاسِ فِي الْبِلَادِ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ، وَلَوْ صَبَرُوا عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبِقَاعِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ لِلْمَدِينَةِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (يَبُسُّونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرِهَا مِنْ بَسَّ يَبُسُّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَاهُ بِضَمِّهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ يَسُوقُونَ دَوَابَّهُمْ، وَالْبَسُّ سَوْقُ الْإِبِلِ، تَقُولُ: بِسْ بِسْ، عِنْدَ السَّوْقِ وَإِرَادَةِ السُّرْعَةِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ يَزْجُرُونَ دَوَابَّهُمْ فَيَبُسُّونَ مَا يَطَئُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ السَّيْرِ فَيَصِيرُ غُبَارًا. قَالَ تَعَالَى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أَيْ: سَالَتْ سَيْلًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَارَتْ سَيْرًا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْبَسُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَتِّ وَمِنْهُ قِيلَ: لِلدَّقِيقِ الْمَصْنُوعِ بِالدُّهْنِ: بَسِيسٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقِيلَ: مَعْنَى يَبُسُّونَ يَسْأَلُونَ عَنِ الْبِلَادِ وَيَسْتَقْرِئُونَ أَخْبَارَهَا لِيَسِيرُوا إِلَيْهَا. قَالَ: وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُزَيِّنُونَ لِأَهْلِهِمُ الْبِلَادَ الَّتِي تُفْتَحُ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى سُكْنَاهَا فَيَتَحَمَّلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْمَدِينَةِ رَاحِلِينَ إِلَيْهَا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ غَيْرَ الَّذِينَ يَبُسُّونَ، كَأَنَّ الَّذِي حَضَرَ الْفَتْحَ أَعْجَبَهُ حُسْنُ الْبَلَدِ وَرَخَاؤُهَا فَدَعَا قَرِيبَهُ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَيْهَا لِذَلِكَ، فَيَتَحَمَّلُ الْمَدْعُوُّ بِأَهْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ يُبِسُّونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ مِنْ أَبَسَّ إِبْسَاسًا، وَمَعْنَاهُ يُزَيِّنُونَ لِأَهْلِهِمُ الْبَلَدَ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا، وَأَصْلُ الْإِبْسَاسِ لِلَّتِي تُحْلَبُ حَتَّى تَدِرَّ بِاللَّبَنِ، وَهُوَ أَنْ يُجْرِيَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَصَفْحَةِ عُنُقِهَا كَأَنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ مَالِكٍ يُبِسُّونَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَفَسَّرَهُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مُتَحَمِّلًا بِأَهْلِهِ بَاسًّا فِي سَيْرِهِ مُسْرِعًا إِلَى الرَّخَاءِ وَالْأَمْصَارِ الْمُفْتَتَحَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: تُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَخْرُجُ النَّاسُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا يُبِسُّونَ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَانٌ يَنْطَلِقُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْيَافِ يَلْتَمِسُونَ الرَّخَاءَ فَيَجِدُونَ رَخَاءً، ثُمَّ يَأْتُونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَهُوَ يُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ هَذَا قِصَّةً أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ فِي مَجْلِسِ اللَّيْثِيِّينَ يَذْكُرُونَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فَرَسَهُ أَعْيَتْ بِالْعَقِيقِ وَهُوَ فِي بَعْثٍ بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ إِلَيْهِ يَسْتَحْمِلُهُ، فَخَرَجَ مَعَهُ يَبْتَغِي لَهُ بَعِيرًا فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا عِنْدَ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، فَسَامَهُ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْمٍ: لَا أَبِيعُكَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُذْهُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ مَنْ شِئْتَ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِئْرَ إِهَابٍ قَالَ: يُوشِكُ الْبُنْيَانُ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الْمَكَانَ، وَيُوشِكُ الشَّامُ أَنْ يُفْتَحَ فَيَأْتِيَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ فَيُعْجِبَهُمْ رِيعُهُ وَرَخَاؤُهُ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ: بِفَضْلِهَا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَثَوَابِ الْإِقَامَةِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْ بِمَعْنَى لَيْتَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ تَجْهِيلٌ لِمَنْ فَارَقَهَا وَآثَرَ غَيْرَهَا، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَارِجُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا كَارِهِينَ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْمَقَامُ أَنْ يُنَزَّلَ مَا لَا يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ؛ لِتَنْتَفِيَ عَنْهُمُ الْمَعْرِفَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ ذَهَبَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى التَّمَنِّي لَكَانَ أَبْلَغَ؛ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طَلَبُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، أَيْ: لَيْتَهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيُعْجِبُ قَوْمًا بِلَادُهَا وَعَيْشُ أَهْلِهَا فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَرَمُ الرَّسُولِ وَجِوَارُهُ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الْبَرَكَاتِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا فِي الْإِقَامَةِ بِهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِالْعَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي يُسْتَحْقَرُ دُونَهَا مَا يَجِدُونَهُ مِنَ الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ الْعَاجِلَةِ بِسَبَبِ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهَا. وَقَوَّاهُ الطِّيبِيُّ لِتَنْكِيرِ قَوْمٍ وَوَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ يَبُسُّونَ، ثُمَّ تَوْكِيدِهِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ رَكَنَ إِلَى الْحُظُوظِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْحُطَامِ الْفَانِي، وَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِقَامَةِ فِي جِوَارِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ قَوْمًا وَوَصَفَهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ بِقَوْلِهِ: يَبُسُّونَ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْهَيْئَةِ الْقَبِيحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب الْإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ
1876 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِيمَانِ يَأْرِزُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ - وَقَدْ تُضَمُّ - بَعْدَهَا زَايٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ فَتْحَ الرَّاءِ، وَقَالَ: إِنَّ الْكَسْرَ هُوَ الصَّوَابُ، وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِرَاجٍ ضَمَّ الرَّاءِ، وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْفَتْحَ، وَمَعْنَاهُ يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خُبَيْبٍ) بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا، وَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَخُبَيْبٌ هُوَ خَالُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارُ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ) أَيِ: ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) أَيْ أنَّهَا كَمَا تَنْتَشِرُ مِنْ جُحْرِهَا فِي طَلَبِ مَا تَعِيشُ بِهِ فَإِذَا رَاعَهَا شَيْءٌ رَجَعَتْ إِلَى جُحْرِهَا، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ انْتَشَرَ فِي الْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ سَائِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ لِمَحَبَّتِهِ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ
الْأَزْمِنَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلتَّعَلُّمِ مِنْهُ، وَفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ
(1)
وَالتَّبَرُّكُ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِهِ وَآثَارِ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَانَ هَذَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَرْنِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ خَاصَّةً. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْبِدَعِ وَأَنَّ عَمَلَهُمْ حُجَّةٌ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ. اهـ. وَهَذَا إِنْ سَلِمَ اخْتُصَّ بِعَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَانْتِشَارِ الصَّحَابَةِ فِي الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَهُوَ بِالْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
7 - بَاب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
1877 -
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ، عَنْ جُعَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ هِيَ بِنْتُ سَعْدٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ سَعْدًا رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ) أَيْ: أَرَادَ بِأَهْلِهَا سُوءًا، وَالْكَيْدُ الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ فِي الْمَسَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ) هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَالْجُعَيْدُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ أَيْ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، (قَالَتْ: سَمِعْتُ سَعْدًا) تَعْنِي أَبَاهَا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا انْمَاعَ) أَيْ: ذَابَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدٍ جَمِيعًا، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ: مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، نَعَمْ فِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَدْفَعُ إِشْكَالَ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَتُوَضِّحُ أَنَّ هَذَا حُكْمُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ أَرَادَهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ اضْمَحَلَّ أَمْرُهُ كَمَا يَضْمَحِلُّ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ فِي اللَّفْظِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الدُّنْيَا بِسُوءٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْهَلُ بَلْ يَذْهَبُ سُلْطَانُهُ عَنْ قُرْبٍ كَمَا وَقَعَ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عُوجِلَ عَنْ قُرْبٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي أَرْسَلَهُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ كَادَهَا اغْتِيَالًا وَطَلَبًا لِغِرَّتِهَا فِي غَفْلَةٍ فَلَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ، بِخِلَافِ مَنْ أَتَى ذَلِكَ جِهَارًا كَمَا اسْتَبَاحَهَا مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ رَفَعَهُ: مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظَالِمًا لَهُمْ أَخَافَهُ اللَّهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ حِبَّانَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
8 - بَاب آطَامِ الْمَدِينَةِ
1878 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، سَمِعْتُ أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى، إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ، تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 1878 - أطرافه في 2467، 3597، 7060]
(1)
كان وجه تقديم الصلاة في المسجد ليوافق كلامه النصوص
قَوْلُهُ: (بَابُ آطَامِ الْمَدِينَةِ) بِالْمَدِّ، جَمْعُ أُطُمٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَهِيَ الْحُصُونُ الَّتِي تُبْنَى بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ، وَالْآطَامُ جَمْعُ قِلَّةٍ وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ أُطُومٌ، وَالْوَاحِدَةُ أَطَمَةٌ كَأَكَمَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْآطَامِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِهَا، ثُمَّ مَا كَانَ بِهَا بَعْدَ حُلُولِهِمْ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَشْرَفَ) أَيْ: نَظَرَ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ.
قَوْلُهُ: (مَوَاقِعُ) أَيْ: مَوَاضِعُ السُّقُوطِ، وَ (خِلَالَ) أَيْ: نَوَاحِيهَا، شَبَّهَ سُقُوطَ الْفِتَنِ وَكَثْرَتَهَا بِسُقُوطِ الْقَطْرِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ بِمَا سَيَكُونُ، وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَا سِيَّمَا يَوْمُ الْحَرَّةِ، وَالرُّؤْيَةُ الْمَذْكُورَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ أَوْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ الْفِتَنُ مُثِّلَتْ لَهُ حَتَّى رَآهَا، كَمَا مُثِّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي الْقِبْلَةِ حَتَّى رَآهُمَا وَهُوَ يُصَلِّي.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ) أَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْفِتَنِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لَهُ خَارِجَ الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.
9 - بَاب لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
1879 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ.
[الحديث 1879 - طرفاه في: 7125، 7126]
1880 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ"
[الحديث 1880 - طرفاه في: 5731، 7133]
1881 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلاَّ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ".
[الحديث 1881 - أطرافه في: 7124، 7134، 7473]
1882 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟
فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ. فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ. فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلَا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ.
[الحديث 1882 - طرفه في: 7132]
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى كُلِّ بَابٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِكُلِّ بَابٍ.
الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَوْلُهُ: (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ) جَمْعُ نَقَبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَافِ، بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى نِقَابِهَا جَمْعُ نَقْبٍ بِالسُّكُونِ وَهُمَا بِمَعْنًى. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الْمُرَادُ بِهَا الْمَدَاخِلُ، وَقِيلَ: الْأَبْوَابُ. وَأَصْلُ النَّقْبِ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقِيلَ: الْأَنْقَابُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ) سَيَأْتِي فِي الطِّبِّ بَيَانُ مَنْ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَكَّةَ.
الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو) هُوَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ) هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: الْمُرَادُ ألَّا يَدْخُلُهُ بَعْثُهُ وَجُنُودُهُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَبْعَدَ إِمْكَانَ دُخُولِ الدَّجَّالِ جَمِيعَ الْبِلَادِ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ، وَغَفَلَ عَمَّا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ بَعْضَ أَيَّامِهِ يَكُونُ قَدْرَ السَّنَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ) أَيْ: يَحْصُلُ لَهَا زَلْزَلَةٌ بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ ثَالِثَةٌ حَتَّى يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ لَيْسَ مُخْلِصًا فِي إِيمَانِهِ وَيَبْقَى بِهَا الْمُؤْمِنُ الْخَالِصُ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ الدَّجَّالُ. وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمَاضِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الدَّجَّالِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّعْبِ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْفَزَعِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عُتُوِّهُ، لَا الرَّجْفَةُ الَّتِي تَقَعُ بِالزَّلْزَلَةِ لِإِخْرَاجِ مَنْ لَيْسَ بِمُخْلِصٍ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَاصٌّ بِنَاسٍ وَبِزَمَانٍ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الزَّمَانُ هُوَ الْمُرَادَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُرَادًا نَفْيُ غَيْرِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: قَوْلُهُ: (بَعْضُ السِّبَاخِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْفِتَنِ. وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِعْلَامُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا الرُّعْبُ مِنْهُ كَمَا مَضَى.
10 - بَاب الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ
1883 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ: أَقِلْنِي. فَأَبَى ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا.
[الحديث 1883 - أطرافه في: 7209، 7211، 7216، 7322]
1884 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه يَقُولُ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ نَقْتُلُهُمْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا تَنْفِي
الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ) أَيْ: بِإِخْرَاجِهِ وَإِظْهَارِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) وَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا
قَوْلُهُ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ ذَكَرَ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ أَنَّهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجَرَ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ آخَرُ وَافَقَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ. وَفِي الذَّيْلِ لِأَبِي مُوسَى فِي الصَّحَابَةِ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ الْمِنْقَرِيُّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِقَالَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا اسْتَقَالَهُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَإِلَّا لَكَانَ قَتَلَهُ عَلَى الرِّدَّةِ، سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ مِرَارٍ) يَتَعَلَّقُ بِأَقِلْنِي، وَيُقَالُ مَعًا
(1)
.
قَوْلُهُ: (تَنْفِي خَبَثَهَا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَتنْصَعُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالْمُهْمَلَتَيْنِ مِنَ النُّصُوعِ وَهُوَ الْخُلُوصُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِذَا نَفَتِ الْخَبَثَ تَمَيَّزَ الطَّيِّبُ وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(طِيِّبُهَا) فَضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ وَرَفَعَ طَيِّبَهَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَطَيِّبُهَا لِلْجَمِيعِ بِالتَّشْدِيدِ، وَضَبَطَهُ الْقَزَّازُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ فَقَالَ: لَمْ أَرَ لِلنُّصُوعِ فِي الطَّيِّبِ ذِكْرًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ يَتَضَوَّعُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَزِيَادَةِ الْوَاوِ الثَّقِيلَةِ. قَالَ: وَيُرْوَى وَتَنْضَخُ بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَأَغْرَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ فَضَبَطَهُ بِمُوَحَّدَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ أَبْضَعَهُ بِضَاعَةً إِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ، يَعْنِي: أَنَّ الْمَدِينَةَ تُعْطِي طَيِّبَهَا لِمَنْ سَكَنَهَا. وَتَعَقَّبَهُ الصَّغَانِيُّ بِأَنَّهُ خَالَفَ جَمِيعَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمَشْهُورُ بِالنُّونِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) هُوَ الْخَطْمِيُّ، وَفِي الْإِسْنَادِ صَحَابِيَّانِ أَنْصَارِيَّانِ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ: تَنْفِي الرِّجَالَ وَأَنَّهُ كَانَ فِي أُحُدٍ.
قَوْلُهُ: (الرِّجَالُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ، الدَّجَّالُ بِالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَوَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ تَنْفِي الذُّنُوبَ وَفِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ تَنْفِي الْخَبَثَ وَأَخْرَجَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، وَغُنْدَرٌ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي شُعْبَةَ، وَرِوَايَتُهُ تُوَافِقُ رِوَايَةَ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: تَنْفِي خَبَثَهَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: تُخْرِجُ الْخَبَثَ وَمَضَى فِي أَوَّلِ فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَنْفِي النَّاسَ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي هُنَا بِلَفْظِ: تَنْفِي الرِّجَالَ لَا تُنَافِي الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ الْخَبَثِ بَلْ هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، بِخِلَافِ تَنْفِي الذُّنُوبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَهْلَ الذُّنُوبِ فَيَلْتَئِمُ مَعَ بَاقِي الرِّوَايَاتِ.
باب
1885 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ.
(1)
في هامش طبعة بولاق: كذا في النسخ التي بأيدينا. وفي القسطلاني: تنازعه الفعلان قبله وهما قوله "فقال" وقوله "فأبى"وهي الأظهر.
تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ.
1886 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَأَشْكَلَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِالَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ. وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ لِأَنَسٍ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ مِنْهما بِتَرْجَمَةِ نَفْيِ الْخَبَثِ أَنَّ قَضِيَّةَ الدُّعَاءِ بِتَضْعِيفِ الْبَرَكَةِ وَتَكْثِيرِهَا تَقْلِيلُ مَا يُضَادُّهَا فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ نَفْيَ الْخَبَثِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الثَّانِي أَنَّ قَضِيَّةَ حُبِّ الرَّسُولِ لِلْمَدِينَةِ أَنْ تَكُونَ بَالِغَةً فِي طِيبِ ذَاتِهَا وَأَهْلِهَا فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الثَّانِي فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ فِيهِ حَدَّثَنَا أَبِي هُوَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ) أَيْ: مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ، كَتَضْعِيفِ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَنْ تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ أَفْضَلِيَّةِ الْمَفْضُولِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ ثُبُوتُ الْأَفْضَلِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا مَنْ نَاقَضَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّامُ وَالْيَمَنُ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّكْثِيرَ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْبَرَكَةِ بِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَضْلَ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ. وَرَدَّهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ الْبَرَكَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، فَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلَا سِيَّمَا فِي وُقُوعِ الْبَرَك ةِ فِي الصَّاعِ وَالْمُدِّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَرَكَةَ حَصَلَتْ فِي نَفْسِ الْمَكِيلِ بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا مَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ عِنْدَ مَنْ سَكَنَهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وُجِدَتِ الْبَرَكَةُ فِيهَا فِي وَقْتٍ حَصَلَتْ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامَهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَلِكُلِّ شَخْصٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ) أَيْ: تَابَعَ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ يُونُسَ بنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ فَرَوَاهُ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَرِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ مَوْصُولَةٌ فِي كِتَابِ عِلَلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، جَمْعُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، كَذَا وَجَدْتُهُ بِخَطِّ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الذُّهْلِيِّ، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَمِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَلْقَمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَسَاقَ رِوَايَةَ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ أَبُو خَيْثَمَةَ، وَقَاسِمُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ وَهْبٍ بِسَمَاعِ جَرِيرٍ لَهُ مِنْ يُونُسَ، ثُمَّ قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَنَقَلَ مُغَلْطَايْ كَلَامَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ هَذَا وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَبُو شَيْبَةَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ سَهْوٌ كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ قَاسِمَ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ وَأَبُو شَيْبَةَ. ثُمَّ قَالَ مُغَلْطَايْ: وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَالَ الْحَسَنُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَهُ، وَقَالَ: يَعْنِي الْمَدِينَةَ اهـ. وَهَذَا نَظَرُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فِيهِ، إِذِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ذَكَرَ رِوَايَةَ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُتَابَعَةً لِرِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، كَمَا ذَكَرَ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ، وَشَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ مُتَابَعَةً لِجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ طَرِيقَ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ
فَقَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ يَعْنِي: ابْنَ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى لَفْظِهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ أَنَسٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ فِيهَا تَصْرِيحُ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: عَنْ أَنَسٍ.
11 - بَاب كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ
1887 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ؟ فَأَقَامُوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ تُعْرَى الْمَدِينَةُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ احْتِسَابِ الْآثَارِ فِي أَوَائِلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
(تَنْبِيهٌ): تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيلَيْنِ، فَتَرْجَمَ فِي الصَّلَاةِ بِاحْتِسَابِ الْآثَارِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَكَانَكُمْ تُكْتَبْ لَكُمْ آثَارُكُمْ، وَتَرْجَمَ هُنَا بِمَا تَرَى لِقَوْلِ الرَّاوِي: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ عَلَى التَّعْلِيلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمْ لِكَوْنِهِ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الْمُوَافَقَةِ. قَوْلُهُ فيه: (أَلَا تَحْتَسِبُونَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَلَا تَحْتَسِبُوا وَحَذْفُ نُونِ الرَّفْعِ فِي مِثْلِ هَذَا لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ.
12 - بَاب
1888 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي.
1889 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
…
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
…
بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ
…
وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي
نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا"
[الحديث 1889 - أطرافه في 3926، 5654، 5677، 6372]
1890 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَدِيثَيْنِ وَأَثَرٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهُ: فَحَدِيثُ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ وَعْكِ أَبِي بَكْرٍ، وَبِلَالٍ فِيهِ دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ صَحِّحْهَا وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي سُكْنَاهَا أَيْضًا، وَأَثَرُ عُمَرَ فِي دُعَائِهِ بِأَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ بِهَا ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ لِكَرَاهَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، أَيْ: تَصِيرَ خَالِيَةً.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي الْمِنْبَرِ، فَقَوْلُهُ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي. كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرٍ وَحْدَهُ قَبْرِي بَدَلَ بَيْتِي وَهُوَ خَطَأٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ الْجَنَائِزِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ بَيْتِي وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الْقَبْرُ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ بَيْتِي أَحَدُ بُيُوتِهِ لَا كُلُّهَا، وَهُوَ بَيْتُ عَائِشَةَ الَّذِي صَارَ فِيهِ قَبْرُهُ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَبَيْتِ عَائِشَةَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
قَوْلُهُ: (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) أَيْ: كَرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فِي نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَحُصُولِ السَّعَادَةِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ مُلَازَمَةِ حِلَقِ الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ تَشْبِيهًا بِغَيْرِ أَدَاةٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ فَيَكُونُ مَجَازًا، أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَوْضَةٌ حَقِيقَةٌ بِأَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. هَذَا مُحَصَّلُ مَا أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ عَلَى تَرْتِيبِهَا هَذَا فِي الْقُوَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي أَيْ: يُنْقَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ عَلَى الْحَوْضِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: الْمُرَادُ مِنْبَرُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهُوَ فَوْقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمِنْبَرُ الَّذِي يُوضَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَفَعَهُ: إِنَّ قَوَائِمَ مِنْبَرِي رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ مِنْبَرِهِ وَالْحُضُورَ عِنْدَهُ لِمُلَازَمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُورِدُ صَاحِبَهُ إِلَى الْحَوْضِ وَيَقْتَضِي شُرْبَهُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ ابْنُ زَبَالَةَ أَنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ الْقَبْرُ الْآنَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ وَسُدُسٌ. وَقِيلَ: خَمْسُونَ إِلَّا ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ، وَهُوَ الْآنَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ نَقَصَ لَمَّا أُدْخِلَ مِنَ الْحُجْرَةِ فِي الْجِدَارِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الَّتِي بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمِنْبَرِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقَدْ قَالَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ، مَجَازا؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً لَكَانَتْ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّةَ:{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا يُقَ لُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ قَالَ: ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمَا كَانَ الْفَضْلُ إِلَّا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ خَاصَّةً، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْجُحْفَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَوْلُهُ: وُعِكَ
- بِضَمِّ أَوَّلِهِ - أَيْ: أَصَابَهُ الْوَعْكُ وَهُوَ الْحُمَّى، وَقِيلَ: مَغْثُ الْحُمَّى، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ) يَعْنِي: عَائِشَةَ، وَالْقَائِلُ عُرْوَةُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ أَوْبَأُ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ أَفْعَلَ مِنَ الْوَبَاءِ، وَالْوَبَاءُ مَقْصُورٌ بِهَمْزٍ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ، هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَلَا يُعَارِضُ قُدُومَهُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الطَّاعُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ أَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِالطَّاعُونِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَوْتِ الذَّرِيعِ لَا الْمَرَضِ وَلَوْ عَمَّ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ) يَعْنِي: وَادِي، الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهَا (يَجْرِي نَجْلًا، تَعْنِي مَاءً آجِنًا) هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي عَنْهَا، وَغَرَضُهَا بِذَلِكَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي كَثْرَةِ الْوَبَاءِ بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ يَحْدُثُ عِنْدَهُ الْمَرَضُ، وَقِيلَ: النَّجْلُ النَّزُّ بِنُونٍ وَزَايٍ، يُقَالُ: اسْتَنْجَلَ الْوَادِي إِذَا ظَهَرَ نُزُوزُهُ. وَنَجْلًا بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَقَدْ تُفْتَحُ، حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّجَلُ - بِفَتْحَتَيْنِ - سَعَةُ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: النَّجْلُ الْعَيْنُ حِينَ تَظْهَرُ وَيَنْبُعُ عَيْنُ الْمَاءِ. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: نَجْلًا؛ أَيْ: وَاسِعًا، وَمِنْهُ عَيْنٌ نَجْلَاءُ أَيْ: وَاسِعَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَدِيرُ الَّذِي لَا يَزَالُ فِيهِ الْمَاءُ.
قَوْلُهُ: (تَعْنِي مَاءً آجِنًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ: مُتَغَيِّرًا، قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ خَطَأٌ مِمَّنْ فَسَّرَهُ؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ لِكَوْنِ الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَبِيئَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّجْلَ إِذَا فُسِّرَ بِكَوْنِهِ الْمَاءَ الْحَاصِلَ مِنَ النَّزِّ فَهُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَتَغَيَّرَ، وَإِذَا تَغَيَّرَ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مِمَّا يُحْدِثُ الْوَبَاءَ فِي الْعَادَةِ. وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ سَبَبَ دُعَائِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِيهَا أَنَّ عُمَرَ شَهِيدٌ مُسْتَشْهَدٌ، فَقَالَ لَمَّا قَصَّهَا عَلَيْهِ: أَنَّى لِي بِالشَّهَادَةِ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، لَسْتُ أَغْزُو وَالنَّاسُ حَوْلِي. ثُمَّ قَالَ: بَلَى، يَأْتِي بِهَا اللَّهُ إِنْ شَاءَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ عن رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ بِسْطَامٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ بِهِ وَلَفْظُهُ: عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ وَوَفَاةً بِبَلَدِ نَبِيِّكِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِذَا شَاءَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامُ) ابْنُ سَعْدٍ (عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ) أَسْلَمَ، وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِي آخِرِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِأَمْرِهِ إِنْ شَاءَ وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَيْنِ التَّعْلِيقَيْنِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَاتَّفَقَ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَلَى أَنَّهُ عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَسْلَمَ، عَنْ عُمَرَ وَقَدْ تَابَعَهُمَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدٍ، عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَانْفَرَدَ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ زَيْدٍ بِقَوْلِهِ: عَنْ أُمِّهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عُمَرَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَارِئِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ ذَلِكَ وَطَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ إِسْنَادُهَا صَحِيحٌ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٌ، وَزَادَ: فَكَانَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجْهُهُ حَتَّى طَعَنَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ، عُمَرَ، رضي الله عنه. (تَنْبِيهٌ): تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَمَسْجِدِ قُبَاءٍ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي أَبْوَابٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ ذِكْرُ الْمَدِينَةِ عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ، وَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةٌ، وَالْخَالِصُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ بَنِي حَارِثَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَثَرُ عُمَرَ الَّذِي خَتَمَ بِهِ فَأَخْرَجَهُ مَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْخِتَامِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِالْحُسْنَى، وَأَنْ يُعِينَ عَلَى خَتْمِ هَذَا الشَّرْحِ، وَيَرْفَعَنَا بِهِ إِلَى الْمَحِلِّ الْأَسْنَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
بسم الله الرحمن الرحيم
30 - كِتَاب الصَّوْمِ
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الصَّوْمِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ كِتَابُ الصِّيَامِ وَثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْجَمِيعِ، وَالصَّوْمُ وَالصِّيَامُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَفِي الشَّرْعِ: إِمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ عَنْ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الصَّوْمُ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَلَامِ، يُقَالُ: صَامَ صَوْمًا وَصِيَامًا، وَرَجُلٌ صَائِمٌ وَصَوِمٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصَّوْمُ فِي الْأَصْلِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: لِلْفَرَسِ الْمُمْسِكِ عَنِ السَّيْرِ صَائِمٌ، وَفِي الشَّرْعِ: إِمْسَاكُ الْمُكَلَّفِ بِالنِّيَّةِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ.
1 - بَاب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ،
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
1891 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ، فَقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ، فَقَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بالحق لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ.
1892 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَصُومُهُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ.
[الحديث 1892 - طرفاه في: 2000، 4501]
1893 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَه.
قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ بَابُ وُجُوبِ رَمَضَانَ وَفَضْلِهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَيْرِ الطَّالِقَانِيُّ فِي كِتَابِهِ حَظَائِرُ الْقُدُسِ لِرَمَضَانَ سِتِّينَ اسْمًا، وَذَكَرَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا أَكَلَ مِنَ
الشَّجَرَةِ ثُمَّ تَابَ تَأَخَّرَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ مِمَّا بَقِيَ فِي جَسَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا صَفَا جَسَدُهُ مِنْهَا تِيبَ عَلَيْهِ فَفُرِضَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ صِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ السَّنَدِ فِيهِ إِلَى مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَيْهَاتَ وِجْدَانُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الْآيَةَ) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَبْدَأِ فَرْضِ الصِّيَامِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَأَوْرَدَ مَا يُشِيرُ إِلَى الْمُرَادِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: حَدِيثَ طَلْحَةَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ إِلَّا رَمَضَانَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ الْمُتَضَمِّنَ الْأَمْرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي رِوَايَتِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ بِدَلِيلِ حَصْرِ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ثُمَّ بَيَّنَهُ فَقَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ صِيَامٌ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوْ لَا؟
فَالْجُمْهُورُ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ قَطُّ صَوْمٌ قَبْلَ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِي وَجْهٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: أَوَّلُ مَا فُرِضَ صِيَامُ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ نُسِخَ. فَمِنْ أَدِلَّةِ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: لَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ. وَمِنْ أَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ظَاهِرُ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ الْآتِي وَهُوَ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. قَالَتْ: فَلَمْ نَزَلْ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَهُمْ صِغَارٌ الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ مَسْلَمَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمِ الْحَدِيثَ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ نِيَّةٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ لَا؟ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ طَلْحَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: فِيهِ عَنْ أَبِيهِ هُوَ مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ جَدُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ طَلْحَةَ قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: فِي سَمَاعِهِ مِنْ طَلْحَةَ نَظَرٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ فِي سَمَاعِهِ مِنْ طَلْحَةَ نَظَرٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب فَضْلِ الصَّوْمِ
1894 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
[الحديث 1894 - أطرافه في: 1904، 5927، 7492، 7538]
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الصَّوْمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَدِيثَيْنِ أَفْرَدَهُمَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، فَمِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ حَدِيثٌ، وَمِنْ ثُمَّ إِلَى آخِرِهِ حَدِيثٌ، وَجَمَعَهُمَا عَنْهُ هَكَذَا الْقَعْنَبِيُّ، وَعَنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا. وَوَقَعَ عَنْ غَيْرِ الْقَعْنَبِيِّ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الثَّانِي وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا زَادُوا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَيَّنَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ
عز وجل كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ) زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا زَادَ الدَّارِمِيُّ: بِالْغِيبَةِ وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَلَّقُ هَذَا السَّتْرِ، وَأَنَّهُ مِنَ النَّارِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ: يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جُنَّةٌ؛ أَيْ: سُتْرَةٌ، يَعْنِي: بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ. . . إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ ستره بِحَسَبِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ إِضْعَافُ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يَدَعُ شَهْوَتَهُ. . . إِلَخْ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّوَابِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: مَعْنَاهُ سُتْرَةٌ مِنَ الْآثَامِ أَوِ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي زِيَادَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَأَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ: حَسْبُكَ بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا. وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي آخُذْهُ عَنْكَ. قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: لَا عَدْلَ لَهُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَرْفُثْ) أَيِ: الصَّائِمُ، كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَفِي الْمُوَطَّأِ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ. . . إِلَخْ وَيَرْفُثُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، وَيَجُوزُ فِي مَاضِيهِ التَّثْلِيثُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُنَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْفَاءِ، ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ: الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا، وَعَلَى الْجِمَاعِ، وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ، وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَجْهَلْ) أَيْ: لَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ: فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الصَّوْمِ يُبَاحُ فِيهِ مَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنِ امْرُؤٌ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ (قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ)، وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ: وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ: فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ مَارَاهُ أَيْ: جَادَلَهُ; وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ، وَلِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَإِنِ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْتُمْهُ وَلَا يَسُبَّهُ وَاتَّفَقَ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّ
الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا، أَيْ: إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ، هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ، وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ - وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ - فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ، أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ؟ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ، وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى، وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا، وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِالِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ: بَابٌ: هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ؟ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِنْ كَانَ رَمَضَانُ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفْسِهِ. وَادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ.
وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعًا، وَأَمَّا تَكْرِيرُ قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ فَلْيَتَأَكَّدِ الِانْزِجَارُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ. وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ؛ يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَمَرَّةً بِلِسَانِهِ، فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ، وَبِقَوْلِهِ بِلِسَانِهِ كَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَةً بِاللِّسَانِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَجَازَ، وَقَوْلُهُ: قَاتَلَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ لَعْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَاتَلَهُ وَشَاتَمَهُ عَلَى الْمُفَاعَلَةِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا جَاءَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ؛ كَأَنْ يَبْدَأَهُ بِقَتْلٍ أَوْ شَتْمٍ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهِ. فَالْمُرَادُ بِالْمُفَاعَلَةِ إِرَادَةُ غَيْرِ الصَّائِمِ ذَلِكَ مِنَ الصَّائِمِ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى التَّهَيُّؤِ لَهَا، وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُفَاعَلَةُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ: عَالَجَ الْأَمْرَ، وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: الْمُرَادُ إِذَا بَدَرَتْ مِنَ الصَّائِمِ مُقَابَلَةُ الشَّتْمِ بِشَتْمٍ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ فَلْيَنْزَجِرْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ. وَمِمَّا يُبَعِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: فَإِنْ شَتَمَهُ شَتَمَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ، هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا.
قَوْلُهُ: (لَخُلُوفُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا فَاءٌ. قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ، وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْوَجْهَيْنِ، وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصَادِرَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - قَلِيلَةٌ، ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (فَمُ الصَّائِمِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَثْبُتُ الْمِيمُ فِي الْفَمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ؛ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ - مَعَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ، إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ، وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ - عَلَى أَوْجُهٍ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا، فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ، أَيْ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ،
وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَ رِيحَ الْخُلُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تسْتَطِيبُونَ رِيحَ الْمِسْكِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ تَفُوحُ مِسْكًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَا سِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ، حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجَمْعِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْأَخِيرَ، وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا، فَحَصَلْنَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا تَفُوحُ. قَالَ: فَرَائِحَةُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ، وَيُؤَيِّدُ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ قَالَ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَخْرَجَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا: فَمُ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ مِنَ الطَّعَامِ وَهِيَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: حِينَ يَخْلُفُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِوُجُودِ الْخُلُوفِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالطِّيبِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِلطِّيبِ فِي الْحَالِ الثَّانِي فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ يُؤَيِّدُ ظَاهِرَهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَمَضَانَ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِنَّ خُلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ، وَاسْتَدَلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَهَبَ ابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالدَّاوُدِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، جَزَمُوا كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ، وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا، فَقَيَّدَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَأَطْلَقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} وَهُوَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، انْتَهَى.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي كَرَاهَةِ إِزَالَةِ هَذَا الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ أَنَّ الْخُلُوفَ أَعْظَمُ مِنْ دَمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ شُبِّهَ رِيحُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ، وَالْخُلُوفُ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَبُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ لِمَا لَا يَخْفَى، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ، وَأَصْلُ الدَّمِ بِخِلَافِهِ، فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا.
قَوْلُهُ: (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ: وَإِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ. . . إِلَخْ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ. . . إِلَخْ وكَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:
كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ هُوَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَإِنَّمَا يَذَرُ ابْنُ آدَمَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي الْحَدِيثَ.
وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ قَالَ اللَّهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَدِيثَ. وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ يُفْهَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَذَرُ. . . إِلَخْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الصَّائِمُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الْخَاصُّ بِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَذْكُورَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ كَالتُّخَمَةِ لَا يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ، لَكِنَّ الْمَدَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ طُولَ نَهَارِهِ إِلَى أَنْ أَفْطَرَ لَيْسَ هُوَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ؛ لِعَطْفِهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ فِي التَّوْحِيدِ، وَكَذَا جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ: يَدَعُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي، وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: يَدَعُ امْرَأَتَهُ وَشَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْحَافِظِ سَمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِي.
قَوْلُهُ: (الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَفِي الْمُوَطَّأِ فَالصِّيَامُ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: سَبَبُ كَوْنِهِ لِي أَنَّهُ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ لِأَجْلِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ، حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا، فَنَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَرُ مِنِ ابْنِ آدَمَ بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ حَدَّثَنِيهِ شَبَابَةُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَهُ يَعْنِي: مُرْسَلًا، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنِ النَّاس، وَهَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي. انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَفْظُهُ: الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ؛ قَالَ اللَّهُ، عز وجل: هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ، وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا، وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَابَ الْمَازِرِيُّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لَمَّا كَانَتْ يُمْكِنُ دُخُولُ الرِّيَاءِ فِيهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ حَالَ الْمُمْسِكِ شِبَعًا مِثْلُ حَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا. يَعْنِي: فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.
قُلْتُ: مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ، كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ، فَقَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلْحَاقَ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ: إِنَّ الذِّكْرَ بِـ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ، فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ، وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، يَعْنِي: رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ - قَالَ اللَّهُ - إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَيْ: أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} انْتَهَى. وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.
قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} انْتَهَى. وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ: إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِينَار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ نَصٌّ فِي إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ، بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَا أَجْزِي بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ.
ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي أَيْ: أنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: كَفَى بِقَوْلِهِ: الصَّوْمُ لِي فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ. رَابِعُهَا: الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ. خَامِسُهَا: أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جل جلاله فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي.
سَادِسُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ. سَابِعُهَا: أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ. ثَامِنُهَا: سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ، وَأُجِيبَ
بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي لَيْسَ بِطَائِلٍ، لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ، إِحْدَاهُمَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ. وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ.
تَاسِعُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامَ، رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ، فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ كُنْتُ اسْتَحْسَنْتُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى أَنْ فَكَّرْتُ فِي حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهِ ذِكْرَ الصَّوْمِ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قَالَ: الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّيَامَ مُشْتَرِكٌ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ، الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ رَبُّكُمْ تبارك وتعالى: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ. وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ ابْنُ آدَمَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظٍ يَرْوِيهِ: عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَحَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ قَالَ: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ.
وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ آدَمَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا: إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَفَّارَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ غُنْدَرٍ كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَفَّارَةٌ لِلْمَعَاصِي، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى غُنْدَرٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّنَدِ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي تَعْقِيبِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ الْبَابِ بِـ بَابٍ: الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ، وَسَأَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
عَاشِرُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا تَكْتُبُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ، وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ وَاهٍ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ: قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا. فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بَلَغَهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ الطَّالِقَانِيُّ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ لَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّيَامِ هُنَا صِيَامُ مَنْ سَلِمَ صِيَامُهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَوْلًا وَفِعْلًا. وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِصِيَامِ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ، فَقَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: صِيَامُ الْعَوَامِّ، وَهُوَ الصَّوْمُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْعَوَامِّ، وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَصِيَامُ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، فَلَا فِطْرَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مَقَامٌ عَالٍ، لَكِنْ فِي حَصْرِ الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. وَأَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي
الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الَّتِي بَيَّنْتُهَا قَبْلُ: لَمَّا أَرَادَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَضَعَ الْحَسَنَةَ فِي الْخَبَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا الصِّيَامَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُضَاعَفُ جَزَاؤُهَا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَلَا يُضَاعَفُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ، بَلْ ثَوَابُهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِمَّا يَطَّلِعُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ، وَالصَّوْمُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ خَالِصًا وَيُعَامِلُهُ بِهِ طَالِبًا لِرِضَاهُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ لِي وَالْآخَرُ: أَنَّ سَائِرَ الْحَسَنَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ أَوِ اسْتِعْمَالٍ لِلْبَدَنِ، وَالصَّوْمُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ، وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى مَضَضِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ، فَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ اللَّهِ؛ لِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ أَوْرَدَهُ فِي أَثْنَائِهِ بَيَانًا، وَفَائِدَتُهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
قَوْلُهُ: (وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَيَانَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ تَامًّا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ: كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا ابْنُ آدَمَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. فَأَعَادَ قَوْلَهُ: وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَأْكِيدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - بَاب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ
1895 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا جَامِعٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: مَنْ يَحْفَظُ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابًا مُغْلَقًا قَالَ: فَيُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لَا يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنْ الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ بَابٍ، أَيِ: الصَّوْمُ يَقَعُ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ، وَرَأَيْتُهُ هُنَا بِخَطِّ الْقُطْبِ فِي شَرْحِهِ بَابَ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ أَيْ: بَابَ تَكْفِيرِ الصَّوْمِ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ بَابٌ الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ وَلِلْمُسْتَمْلِي بَابُ تَكْفِيرِ الصَّلَاةِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَابِ بِعَيْنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ لَكِنْ أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِفِتْنَةِ الْمَالِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَقَدْ يُقَالُ: لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ،
وَهُوَ كَوْنُ الْأَعْمَالِ كَفَّارَةً إِلَّا الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَفِي النَّفْيِ عَلَى كَفَّارَةِ شَيْءٍ آخَرَ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى تَكْفِيرِ مُطْلَقِ الْخَطِيئَةِ، فَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: بَابٌ الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْإِطْلَاقَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الصَّلَاةِ.
وَلِابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَعَرَفَ حُدُودَهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: إِنَّ صِيَامَ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ وَصِيَامَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصِّيَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ، وَزِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالصِّيَامِ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا وَقَعَ خَالِصًا سَالِمًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالشَّوَائِبِ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ
1896 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ.
[الحديث 1896 - طرفه في 3257]
1897 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ"
[الحديث 1897 - أطرافه في: 2841، 3216، 3666]
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الرَّيَّانُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَزْنُ فَعْلَانَ مِنَ الرِّيِّ: اسْمُ عَلَمٍ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَخْتَصُّ بِدُخُولِ الصَّائِمِينَ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّا وَقَعَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِيهِ بَيْنَ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِحَالِ الصَّائِمِينَ، وَسَيَأْتِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنِ الشِّبَعِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ، قُلْتُ: أَوْ لِكَوْنِهِ أَشَقَّ عَلَى الصَّائِمِ مِنَ الْجُوعِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَسَهْلٌ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِلْجَنَّةِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنَ النَّعِيمِ وَالرَّاحَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّشَوُّقِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ بِلَفْظِ: إِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ. أَخْرَجَهُ هَكَذَا الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، لَكِنْ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) كَرَّرَ نَفْيَ دُخُولِ غَيْرِهِمْ مِنْهُ تَأْكِيدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أُغْلِقَ أَيْ: لَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ غَيْرُ مَنْ دَخَلَ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَفِي الْكَثِيرِ مِنْهَا: فَإِذَا دَخَلَ أَوَّلُهُمْ أُغْلِقَ قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: هُوَ وَهَمٌ. وَالصَّوَابُ آخِرُهُمْ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِ مَعًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِ، وَزَادَ فِيهِ: مَنْ دَخَلَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَا يَظْمَأُ أَبَدًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: وَمَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا وَنَحْوُهُ لِلنَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنَّهُ وَقَفَهُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ عَلَى وَصْلِهِ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ فَإِنَّهُمَا أَرْسَلَاهُ، وَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ الْقَعْنَبِيِّ أَصْلًا. قُلْتُ: هَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ مَوْصُولًا، فَلَعَلَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ فَلَعَلَّهُ حَدَّثَ بِهِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زَادَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ مِنْ مَالِهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقِيلَ: أَرَادَ الْجِهَادَ، وَقِيلَ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ إِنْفَاقُ شَيْئَيْنِ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ.
قَوْلُهُ: (هَذَا خَيْرٌ) لَيْسَ اسْمَ التَّفْضِيلِ، بَلِ الْمَعْنَى: هَذَا خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَبِهِ تَظْهَرُ الْفَائِدَةُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ: لِكُلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابٌ يُدْعَوْنَ مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَلِأَهْلِ الصِّيَامِ بَابٌ يُدْعَوْنَ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
5 - بَاب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ؟ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ. وَقَالَ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ
1898 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ.
[الحديث 1898 - طرفاه في: 1899، 3277]
1899 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ"
1900 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَيُونُسُ لِهِلَالِ رَمَضَانَ"
[الحديث 1900 - طرفاه في: 1906، 1907]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: هَلْ يُقَالُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَلِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي هَلْ يَقُولُ أَيِ: الْإِنْسَانُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا) أَيْ: جَائِزًا بِالْإِضَافَةِ وَبِغَيْرِ الْإِضَافَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَمَنْ رَآهُ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ الْمَدَنِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقُولُوا رَمَضَانَ، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: شَهْرَ رَمَضَانَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَضَعَّفَهُ بِأَبِي مَعْشَرٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيُّ لِذَلِكَ أَيْضًا فَقَالَ: بَابٌ الرُّخْصَةُ فِي أَنْ يُقَالَ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: رَمَضَانُ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ صُمْتُ رَمَضَانَ وَلَا قُمْتُهُ كُلَّهُ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً. وَقَدْ يُتَمَسَّكُ لِلتَّقْيِيدِ بِالشَّهْرِ بِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِ حَيْثُ قَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ لَفْظِ شَهْرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَدَمِ جَزْمِ الْمُصَنِّفِ بِالْحُكْمِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْكَرَاهِيَةُ، وَعَنِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْهُمْ وَكَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى الشَّهْرِ فَلَا يُكْرَهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الشَّهْرِ رَمَضَانَ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ تُرْمَضُ فِيهِ الذُّنُوبُ، أَيْ: تُحْرَقُ؛ لِأَنَّ الرَّمْضَاءَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَقِيلَ: وَافَقَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ فِيهِ زَمَنًا حَارًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَقَالَ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ) أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَوَصَلَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِيهِ تَمَامُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَوَصَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ) هُوَ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي غَيْمَانَ - بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ - الْأَصْبَحِيُّ، عَمُّ مَالِكِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُوهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، أَدْرَكَ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ) كَذَا أَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِتَمَامِهِ مِثْلَ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَمَعَ الْمَتْنَ بِإِسْنَادَيْنِ، وَذَكَرَ مَوْضِعَ الْمُغَايَرَةِ، وَهُوَ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ) هُوَ أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ شَيْخُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الزُّهْرِيِّ بِحَيْثُ أَدْرَكَهُ تَلَامِذَةُ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ يُعَدُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ تَأَخَّرَ أَبُو سُهَيْلٍ فِي الْوَفَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّسَائِيُّ أَنَّ مُرَادَ الزُّهْرِيِّ، بِابْنِ أَبِي أَنَسٍ نَافِعٌ هَذَا، فَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَأَرْسَلَهُ، وَحَذَفَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أُوَيْسِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَدِيلِ بَنِي تَمِيمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ النَّسَائِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ) أَيْ: مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ آلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدِ الْعَشَرَةِ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ وَالِدُ مَالِكٍ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ فَقَطَنَهَا وَحَالَفَ عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخَا طَلحَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَكَانَ مَالِكٌ الْفَقِيهُ يَقُولُ: لَسْنَا مَوَالِيَ آلِ تَيْمٍ، إِنَّمَا نَحْنُ عَرَبٌ مِنْ أَصْبَحَ، وَلَكِنَّ جَدِّي حَالَفَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) قَالَ الْحَلِيمِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مُسْتَرِقُو السَّمْعِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ تَسَلْسُلَهُمْ يَقَعُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ دُونَ أَيَّامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنِعُوا فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ فَزِيدُوا التَّسَلْسُلَ مُبَالَغَةً فِي الْحِفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ مِنَ افْتِتَانِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَرَدَةُ مِنْهُمْ، وَتَرْجَمَ لِذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ زَادَ أَبُو صَالِحٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ. لَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَوْلُهُ: صُفِّدَتْ بِالْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثَقِيلَةٌ مَكْسُورَةٌ أَيْ: شُدَّتْ بِالْأَصْفَادِ وَهِيَ الْأَغْلَالُ، وَهُوَ بِمَعْنَى سُلْسِلَتْ، وَنَحْوُهُ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ فِيهِ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ الشَّهْرَ كُلَّهُ.
قَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَامَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِ الشَّهر، وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَلِمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَفْوِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَقِلُّ إِغْوَاؤُهُمْ فَيَصِيرُونَ كَالْمُصَفَّدِينَ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عِبَارَةً عَمَّا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَذَلِكَ أَسْبَابٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَغَلْقُ أَبْوَابِ النَّارِ عِبَارَةً عَنْ صَرْفِ الْهِمَمِ عَنِ الْمَعَاصِي الْآيِلَةِ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النَّارِ، وَتَصْفِيدُ الشَّيَاطِينِ عِبَارَةً عَنْ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِغْوَاءِ وَتَزْيِينِ الشَّهَوَاتِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا: أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ فَمِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَالْأَصْلُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ؛ بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ غَلْقُ أَبْوَابِ النَّارِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ لِإِقَامَةِ هَذَا مَقَامَ هَذِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَجَزَمَ التُّورِبِشْتِيُّ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: بِالِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ، وَعِبَارَتُهُ: فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَإِزَالَةِ الْغَلْقِ عَنْ مَصَاعِدِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَارَةً بِبَذْلِ التَّوْفِيقِ وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَبُولِ، وَغَلْقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَزُّهِ أَنْفُسِ الصُّوَّامِ عَنْ رِجْسِ الْفَوَاحِشِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَنِ الْمَعَاصِي بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَائِدَةُ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ تَوْقِيفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى اسْتِحْمَادِ فِعْلِ الصَّائِمِينَ وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِيهِ إِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ مَا يَزِيدُ فِي نَشَاطِهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِأَرْيَحِيَّةٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ رَجَّحَ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَرَى الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ وَاقِعَةً فِي رَمَضَانَ كَثِيرًا فَلَوْ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَقِلُّ عَنِ الصَّائِمِينَ الصَّوْمَ الَّذِي حُوفِظَ عَلَى شُرُوطِهِ وَرُوعِيَتْ آدَابُهُ، أَوِ الْمُصَفَّدُ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْمَرَدَةُ لَا كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، أَوِ الْمَقْصُودُ تَقْلِيلُ الشُّرُورِ فِيهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، فَإِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَصْفِيدِ جَمِيعِهِمْ أَنْ لَا يَقَعَ شَرٌّ وَلَا مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ أَسْبَابًا غَيْرَ الشَّيَاطِينِ كَالنُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْإِنْسِيَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ فِي رَمَضَانَ إِشَارَةٌ
إِلَى رَفْعِ عُذْرِ الْمُكَلَّفِ كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: قَدْ كُفَّتِ الشَّيَاطِينُ عَنْكَ فَلَا تَعْتَلَّ بِهِمْ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَلَا فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ.
1900 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَيُونُسُ لِهِلَالِ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ) أَيِ: الْهِلَالَ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ، وَكَذَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذِكْرِ الْهِلَالِ فِيهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ثُبُوتَ ذِكْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ شَهْرٍ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَوْصُولَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ عَنِ اللَّيْثِ إِلَخْ) الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ الْمَذْكُورِ أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، كَاتِبُ اللَّيْثِ، كَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِهِلَالِ رَمَضَانَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالِ رَمَضَانَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ ذَكَرْتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
6 - بَاب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
1901 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَذَفَ الْجَوَابَ إِيجَازًا وَاعْتِمَادًا عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ، وَعَطَفَ قَوْلَهُ: نِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ: احْتِسَابًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِهِ قُرْبَةً. قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ تَمْيِيزٌ أَوْ حَالٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ: مُؤْمِنًا مُحْتَسِبًا، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ الِاعْتِقَادُ بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ، وَبِالِاحْتِسَابِ طَلَبُ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: احْتِسَابًا أَيْ: عَزِيمَةً، وَهُوَ أَنْ يَصُومَهُ عَلَى مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ، طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ، غَيْرَ مُسْتَثْقِلٍ لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلٍ لِأَيَّامِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهَا، وَأَوَّلُهُ: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ هُنَا أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعَمَلِ لِاقْتِضَاءِ الْخَبَرِ أَنْ فِي الْجَيْشِ الْمَذْكُورِ الْمُكْرَهَ وَالْمُخْتَارَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَقَعَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْمُخْتَارِ دُونَ الْمُكْرَهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ أَحْمَدَ.
قَوْلُهُ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَعْقُودِ لَهَا فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَمَا تَأَخَّرَ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِدُونِهَا أَيْضًا، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْهُ، وَتَابَعَهُ
حَامِدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَاسْتَنْكَرَهُ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، فَقَدْ تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ كَمَا تَرَى، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَهُوَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عَشْرٌ مِنْ فَوَائِدِهِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لَهُ، وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَاحِيُّ أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِي فِي فَوَائِدِهِ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِدُونِهَا. وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ الْكَلَامَ عَلَى طُرُقِهِ فِي كِتَابِ الْخِصَالِ الْمُكَفِّرَةِ لِلذُّنُوبِ الْمُقَدَّمَةِ وَالْمُؤَخَّرَةِ وَهَذَا مُحَصَّلُهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَنْبِهِ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ، إِلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَفِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَكَلِمَةُ مِنْ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: غُفِرَ أَيْ: غُفِرَ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ، أَوْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَفْعُولٌ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ.
7 - بَاب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
1902 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْيبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ بَيْنَ أَجْوَدِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِ وَبَيْنَ أَجْوَدِيَّةِ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ رِيحُ الرَّحْمَةِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِنْزَالِ الْغَيْثِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِإِصَابَةِ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِ الْمَيْتَةِ، أَيْ: فَيَعُمُّ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَمَنْ هُوَ بِصِفَةِ الْغِنَى وَالْكِفَايَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعُمُّ الْغَيْثُ النَّاشِئَةُ عَنِ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ صلى الله عليه وسلم.
8 - بَاب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ
1903 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ.
[الحديث 1903 - طرفه في: 6057]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَنْ لَمْ يَدَعْ) أَيْ: يَتْرُكْ (قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: فِي الصَّوْمِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَذَفَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ لَطَالَتِ التَّرْجَمَةُ، أَوْ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ لَوَقَعَ فِي عُهْدَتِهِ فَكَانَ الْإِيجَازُ مَا صَنَعَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعْيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ: رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ مِثْلَ الْجَمَاعَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ السَّرَّاجِ عَنْهُ فَلَمْ يَقُلْ: عَنْ أَبِيهِ
أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِإِسْقَاطِهِ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ بِالْإِسْقَاطٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ، وَيُونُسَ بْنَ يَحْيَى رَوَيَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِالْإِسْقَاطِ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِيهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ كَانَ تَارَةً لَا يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ يَقُولُهَا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ شَاذٌّ وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَالْجَهْلَ وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَالْجَهْلَ فِي الصَّوْمِ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْجَهْلَ وَالْعَمَلَ بِهِ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يُعُودُ عَلَى الْجَهْلِ، وَالْأَوَّلُ جَعَلَهُ يَعُودُ عَلَى قَوْلِ الزُّورِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَلَمَّا رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ: مَنْ لَمْ يَدَعِ الْخَنَا وَالْكَذِبَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ الزُّورِ: الْكَذِبُ، وَالْجَهْلِ: السَّفَهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ أَيْ: بِمُقْتَضَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يَدَعَ صِيَامَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ فَلْيُشَقِّصِ الْخَنَازِيرَ أَيْ: يَذْبَحُهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَبْحِهَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِإِثْمِ بَائِعِ الْخَمْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فَلَيْسَ لِلَّهِ إِرَادَةٌ فِي صِيَامِهِ فَوَضَعَ، الْحَاجَةَ مَوْضِعَ الْإِرَادَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ، كَمَا يَقُولُ الْمُغْضَبُ لِمَنْ رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا طَلَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ: لَا حَاجَةَ لِي بِكَذَا. فَالْمُرَادُ رَدُّ الصَّوْمِ الْمُتَلَبِّسِ بِالزُّورِ وَقَبُولُ السَّالِمِ مِنْهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: لَنْ يُصِيبَ رِضَاهُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الْقَبُولُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا ذُكِرَ لَا يُثَابُ عَلَى صِيَامِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ ثَوَابَ الصِّيَامِ لَا يَقُومُ فِي الْمُوَازَنَةِ بِإِثْمِ الزُّورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ نَفْسَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، بَلْ مَا يَتْبَعُهُ مِنْ كَسْرِ الشَّهَوَاتِ وَتَطْوِيعِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْقَبُولِ، فَقَوْلُهُ: لَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ، فَنَفَى السَّبَبَ وَأَرَادَ الْمُسَبِّبَ، وَاللَّهَ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَنْقُصُ الصَّوْمَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا صَغَائِرُ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَأَجَابَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ بِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَالَّذِي مَضَى فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ دَلَالَةً قَوِيَّةً لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الرَّفَثَ وَالصَّخَبَ وَقَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ مِمَّا عُلِمَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَالصَّوْمُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهَا فِيهِ مَشْرُوطَةً فِيهِ مَعْنًى يَفْهَمُهُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَبَّهَتْنَا عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَادَةُ قُبْحِهَا فِي الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالثَّانِي: الْبَحْثُ عَلَى سَلَامَةِ الصَّوْمِ عَنْهَا، وَأَنَّ سَلَامَتَهُ مِنْهَا صِفَةُ كَمَالٍ فِيهِ، وَقُوَّةُ الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنْ يُقَبَّحَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، فَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ يَكْمُلُ بِالسَّلَامَةِ عَنْهَا. قَالَ: فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ عَنْهَا نَقَصَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكَالِيفَ قَدْ تَرِدُ بِأَشْيَاءَ وَيُنَبَّهُ بِهَا عَلَى أُخْرَى بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّوْمِ الْعَدَمَ الْمَحْضَ كَمَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِهِ فِي الْأَصْلِ الْإِمْسَاكُ عَنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ خَفَّفَ اللَّهُ
وَأَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَنَبَّهَ الْغَافِلَ بِذَلِكَ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ، وَأَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَحَادِيثُ الْمُبَيِّنِ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ، فَيَكُونُ اجْتِنَابُ الْمُفْطِرَاتِ وَاجِبًا، وَاجْتِنَابُ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمُخَالَفَاتِ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَمَّا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ تَرْجَمَ مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْغِيبَةِ لِلصَّائِمِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَيْسَتْ قَوْلَ الزُّورِ، وَلَا الْعَمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهَا أَنْ يَذْكُرَ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ، وَقَوْلُ الزُّورِ هُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ وَافَقَ التِّرْمِذِيَّ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ فَتَرْجَمُوا بِالْغِيبَةِ، وَذَكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ الزُّورِ وَالْعَمَلِ بِهِ الْأَمْرَ بِحِفْظِ النُّطْقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهِيَ الْجَهْلُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعَمَلَ بِهِ فَيَعُودُ عَلَى الزُّورِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ أَيْضًا عَلَى الْجَهْلِ أَيْ: وَالْعَمَلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: فَلَيْسَ لِلَّهِ وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَلَيْسَ بِهِ بِمُوَحَّدَةٍ وَهَاءٍ ضَمِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَالضَّمِيرُ لِلصَّائِمِ.
9 - بَاب هَلْ يَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ
1904 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ فِيهِ: (وَلَا يَصْخَبْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالسِّينِ بَدَلَ الصَّادِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَالصَّخَبُ الْخِصَامُ وَالصِّيَاحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُهُ حَالَةَ الصَّوْمِ، وَإِلَّا فَغَيْرُ الصَّائِمِ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (لَخُلُوفُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: لَخُلُفُ بِحَذْفِ الْوَاوِ كَأَنَّهَا صِيغَةُ جَمْعٍ، وَيُرْوَى فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: لَخُلْفَةُ عَلَى الْوَحْدَةِ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ.
قَوْلُهُ: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ) زَادَ مُسْلِمٌ: بِفِطْرِهِ، وَقَوْلُهُ: يَفْرَحُهُمَا أَصْلُهُ: يَفْرَحُ بِهِمَا فَحَذَفَ الْجَارَّ وَوَصَلَ الضَّمِيرَ كَقَوْلِهِ: صَامَ رَمَضَانَ أَيْ: فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ: فَرِحَ بِزَوَالِ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ، حَيْثُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ وَهَذَا الْفَرَحُ طَبِيعِيٌّ، وَهُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ، وَقِيلَ: إِنَّ فَرَحَهُ بِفِطْرِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَمَامُ صَوْمِهِ وَخَاتِمَةُ عِبَادَتِهِ وَتَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّهِ وَمَعُونَةٌ عَلَى مُسْتَقْبَلِ صَوْمِهِ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذُكِرَ، فَفَرَحُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ؛ لِاخْتِلَافِ مَقَامَاتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَرَحُهُ مُبَاحًا وَهُوَ الطَّبِيعِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ سَبَبَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) أَيْ: بِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ. وَقِيلَ: الْفَرَحُ الَّذِي عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ إِمَّا لِسُرُورِهِ بِرَبِّهِ، أَوْ بِثَوَابِ رَبِّهِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. قُلْتُ: وَالثَّانِي أَظْهَرُ؛ إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْأَوَّلُ فِي الصَّوْمِ، بَلْ يَفْرَحُ حِينَئِذٍ بِقَبُولِ صَوْمِهِ وَتَرَتُّبِ الْجَزَاءِ الْوَافِرِ عَلَيْهِ.
10 - بَاب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْبَةَ
1905 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه فَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.
[الحديث 1905 - طرفاه في: 5065، 5066]
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْبَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ الْعُزُوبَةُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعُزُوبَةِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ إِرَادَةِ الْوُقُوعِ فِي الْعَنَتِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَشْهُورَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِيهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَيْ: لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِجِيمٍ وَمَدٍّ، وَهُوَ رَضُّ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: رَضُّ عُرُوقِهِمَا، وَمَنْ يُفْعَلْ بِهِ ذَلِكَ تَنْقَطِعْ شَهْوَتُهُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ قَامِعٌ لِشَهْوَةِ النِّكَاحِ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ فِي تَهْيِيجِ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ، فَإِذَا تَمَادَى عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ سَكَنَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
11 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا
وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم
1906 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.
1907 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ"
1908 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَسَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَة"
[الحديث 1908 - طرفاه في: 1913، 5302]
1909 -
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ثم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"
1910 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ شَهْرًا فَقَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا"
[الحديث 1910 - طرفه في: 5203]
1911 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ رَتَّبَهَا تَرْتِيبًا حَسَنًا: فَصَدَّرَهَا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ الْمُصَرِّحِ بِعِصْيَانِ مَنْ صَامَهُ، ثُمَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ، وَالْآخَرُ بِلَفْظِ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَقَصَدَ بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَحَنَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ ثُمَّ ذَكَرَ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُصَرِّحًا بِأَنَّ عِدَّةَ الثَّلَاثِينَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَكُونُ مِنْ شَعْبَانَ، ثُمَّ ذَكَرَ شَاهِدًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي كَوْنِ الشَّهْرِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مُصَرِّحًا فِيهِ بِأَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَذَلِكَ، وَسَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حَدِيثًا حَدِيثًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ صِلَةُ، عَنْ عَمَّارٍ إِلَخْ) أَمَّا صِلَةُ فَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ ابْنُ زُفَرَ بِزَايٍ وَفَاءٍ وَزْنَ عُمَرَ كُوفِيٌّ عَبْسِيٌّ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَفُضَلَائِهِمْ، وَوَهَمَ ابْنُ حَزْمٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ ابْنُ زُفَرَ، وَكَذَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَ جَمْعٍ مِمَّنْ وَصَلَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ عِنْدَهُمْ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَقَالَ: كُلُوا. فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ وَلَهُ مُتَابِعٌ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ أَنَّ عَمَّارًا وَنَاسًا مَعَهُ أَتَوْهُمْ يَسْأَلُونَهُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَاعْتَزَلَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: تَعَالَ فَكُلْ. فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَتَعَالَ وَكُلْ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَمَّارٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مُسْنَدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ. وَخَالَفَهُمْ الْجَوْهَرِيُّ الْمَالِكِيُّ فَقَالَ: هُوَ مَوْقُوفٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَتَى بِالْمَوْصُولِ وَلَمْ يَقُلْ: يَوْمَ الشَّكِّ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ فِيهِ أَدْنَى شَكٍّ سَبَبٌ لِعِصْيَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ بِمَنْ صَامَ يَوْمًا الشَّكُّ فِيهِ قَائِمٌ ثَابِتٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيِ: الَّذِينَ أُونِسَ مِنْهُمْ أَدْنَى ظُلْمٍ، فَكَيْفَ بِالظُّلْمِ الْمُسْتَمَرِّ عَلَيْهِ؟
قُلْتُ: وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الطُّرُقِ بِلَفْظِ: يَوْمَ الشَّكِّ وَقَوْلُهُ: أَبَا الْقَاسِمِ قِيلَ: فَائِدَةُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ هَذِهِ الْكُنْيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ أَحْكَامَهُ زَمَانًا وَمَكَانًا وَغَيْرَ ذَلِكَ،
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ بِهِ وَقَالَ: فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَيْضًا فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَعْنَبِيِّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَحْفُوظَةً، فَيَكُونُ مَالِكٌ قَدْ رَوَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: وَمَعَ غَرَابَةِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَهُ مُتَابَعَاتٌ، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ سَال مٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِتَعْيِينِ الثَّلَاثِينَ.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَكَمِّلُوا ثَلَاثِينَ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ) ظَاهِرُهُ إِيجَابُ الصَّوْمِ حِينَ الرُّؤْيَةِ مَتَى وُجِدَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدُ، وَخَالَفَ الشِّيعَةُ الْإِجْمَاعَ فَأَوْجَبُوهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صُورَةُ الْغَيْمِ وَغَيْرُهَا، وَلَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَكَفَى ذَلِكَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، لَكِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي رَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ أَوْقَعَ لِلْمُخَالِفِ شُبْهَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ حُكْمِ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، فَيَكُونَ التَّعْلِيقُ عَلَى الرُّؤْيَةِ مُتَعَلِّقًا بِالصَّحْوِ، وَأَمَّا الْغَيْمُ فَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَفْرِقَةَ، وَيَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ، وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ أَيِ: انْظُرُوا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَاحْسِبُوا تَمَامَ الثَّلَاثِينَ، وَيُرَجِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَاتُ الْأُخَرُ الْمُصَرِّحَةُ بِالْمُرَادِ، وَهِيَ مَا تَقْدَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَنَحْوِهَا، وَأَوْلَى مَا فُسِّرَ الْحَدِيثُ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَيْضًا فَرَوَاهَا الْبُخَارِيُّ كَمَا تَرَى بِلَفْظِ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ وَهَذَا أَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنْ آدَمَ شَيْخَهُ انْفَرَدَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ قَالُوا فِيهِ: فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آدَمُ أَوْرَدَهُ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَبَرِ.
قُلْتُ: الَّذِي ظَنَّهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ صَحِيحٌ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ آدَمَ بِلَفْظِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَعْنِي: عُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، فَوَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ إِدْرَاجُ التَّفْسِيرِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِعَدَدِهِ هُوَ شَعْبَانُ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ بِلَفْظِ: فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَهْرٍ فَدَخَلَ فِيهِ شَعْبَانُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ أَيْضًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَقِيلَ: الصَّوَابُ فِيهِ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ رَجُلٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ مُبْهَمٍ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ لِأَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَهِيَ مَا إِذَا حَالَ دُونَ مَطْلِعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ - ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَجِبُ صَوْمُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. ثَانِيهَا: لَا يَجُوزُ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا مُطْلَقًا، بَلْ قَضَاءً وَكَفَّارَةً وَنَذْرًا وَنَفْلًا يُوَافِقُ عَادَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ. ثَالِثُهَا: الْمَرْجِعُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ الصَّحَابِيِّ رَاوِي الْحَدِيثِ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: فَاقْدُرُوا لَهُ قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ أَصْبَحَ صَائِمًا.
وَأَمَّا مَا رَوَى الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا لَأَفْطَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَبَ فِيهَا الصَّوْمَ لَا يُسَمَّى يَوْمَ شَكٍّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ خَصَّ يَوْمَ الشَّكِّ بِمَا إِذَا تَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ، فَأَمَّا إِذَا حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ شَيْءٌ فَلَا يُسَمَّى شَكًّا. وَاخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي تَنْقِيحِهِ: الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ - وَهُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ - أَنَّهُ أَيُّ شَهْرٍ غُمَّ أُكْمِلَ ثَلَاثِينَ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَعْبَانُ وَرَمَضَانُ وَغَيْرُهُمَا، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ أَيْ: غُمَّ عَلَيْكُمْ فِي صَوْمِكُمْ أَوْ فِطْرِكُمْ، وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ لِلشَّهْرِ أَيْ: عِدَّةَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَخُصَّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا دُونَ شَهْرٍ بِالْإِكْمَالِ إِذَا غُمَّ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَعْبَانَ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ شَعْبَانُ غَيْرَ مُرَادٍ بِهَذَا الْإِكْمَالِ لَبَيَّنَهُ فَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ مُخَالِفَةً لِمَنْ قَالَ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ بَلْ مُبَيِّنَةً لَهَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا.
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا، وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: وَلَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ.
قَوْلُهُ: (فَاقْدُرُوا لَهُ) تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ تَأْوِيلَيْنِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَأْوِيلٍ ثَالِثٍ، قَالُوا: مَعْنَاهُ فَاقْدُرُوهُ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ. قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ التَّابِعَيْنَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَأَمَّا ابْنُ قُتَيْبَةَ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُعَرَّجُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا. قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ خُوَيْزَ مِنْدَادٌ، عَنِ الشَّافِعِيِّ مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاقْدُرُوا لَهُ خِطَابٌ لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ وُجُوبُ رَمَضَانَ عِنْدَهُ مُخْتَلِفَ الْحَالِ يَجِبُ عَلَى قَوْمٍ بِحِسَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلَى آخَرِينَ بِحِسَابِ الْعَدَدِ، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ عَنِ النُّبَلَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْآحَادُ، قَالَ: فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مَنْ يُرَاقِبُ النُّجُومَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَقَالَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبٍ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِجَوَازِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، وَأَبِي الطَّيِّبِ، وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ فَنَقَلَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ لُزُومَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَتَعَدَّدَتِ الْآرَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ
النَّظَرِ فِي الْحِسَابِ وَالْمَنَازِلِ: أَحَدُهَا: الْجَوَازُ وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ، ثَانِيهَا: يَجُوزُ وَيُجْزِئُ، ثَالِثُهَا: يَجُوزُ لِلْحَاسِبِ وَيُجْزِئُهُ لَا لِلْمُنَجِّمِ، رَابِعُهَا: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُ الْحَاسِبِ دُونَ الْمُنَجِّمِ، خَامِسُهَا: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَمَّا بِالْحِسَابِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. قُلْتُ: وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَبْلَهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ فِي الْإِشْرَافِ: صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ مَعَ الصَّحْوِ لَا يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ كَرَاهَتُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ حَاسِبٍ وَغَيْرِهِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ كَانَ مَحْجُوجًا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) ظَاهِرُهُ حَصْرُ الشَّهْرِ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِيهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ شَهْرٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْبَابِ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا. . . إِلَخْ، مَعْنَاهُ حَصْرُهُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، أَيْ: أنَّهُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهُوَ أَقَلُّهُ، وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَهُوَ أَكْثَرُهُ، فَلَا تَأْخُذُوا أَنْفُسَكُمْ بِصَوْمِ الْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا، وَلَا تَقْتَصِرُوا عَلَى الْأَقَلِّ تَخْفِيفًا، وَلَكِنِ اجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ مُرْتَبِطَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً بِاسْتِهْلَالِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ) لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْلِيقَ الصَّوْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ ذَلِكَ، إِمَّا وَاحِدٌ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ أَوِ اثْنَانِ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ. وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ مَنْ غَيْمٍ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا مَتَى كَانَ صَحْوًا لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِتَعْلِيقِ الصَّوْمِ بِالرُّؤْيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِلْزَامِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ غَيْرِهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى تَرَوْهُ خِطَابٌ لِأُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ فَلَا يُلْزَمُ غَيْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ الْحَالُ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْبَلَدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَإِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا لِلشَّافِعِيَّةِ. ثَانِيهَا مُقَابِلُهُ إِذَا رُؤِيَ بِبَلْدَةٍ لَزِمَ أَهْلَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى الرُّؤْيَةُ فِيمَا بَعُدَ مِنَ الْبِلَادِ كَخُرَاسَانَ وَالْأَنْدَلُسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ قَالَ شُيُوخُنَا إِذَا كَانَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ظَاهِرَةً قَاطِعَةً بِمَوْضِعٍ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِمْ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يُلْزِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَيُلْزَمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ؛ لِأَنَّ الْبِلَادَ فِي حَقِّهِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ إِذْ حُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الْجَمِيعِ. وَقَالَ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ تَقَارَبَتِ الْبِلَادُ كَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ فَوَجْهَانِ: لَا يَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَاخْتَارَ أَبُو الطَّيِّبِ وَطَائِفَةٌ الْوُجُوبَ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي ضَبْطِ الْبُعْدِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا اخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ، قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ. ثَانِيهَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، قَطَعَ بِهِ الْإِمَامَ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ثَالِثُهَا: اخْتِلَافُ الْأَقَالِيمِ. رَابِعُهَا: حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فَقَالَ: يَلْزَمُ كُلَّ بَلَدٍ لَا يُتَصَوَّرُ خَفَاؤُهُ عَنْهَم بِلَا عَارِضٍ دُونَ غَيْرِهِمْ. خَامِسُهَا: قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ الْمُتَقَدِّمُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ عَلَى مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ فِي الصَّوْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِطْرِ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْطِرُ وَيُخْفِيهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَسْتَمِرُّ صَائِمًا احْتِيَاطًا.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ غَيْمٌ، يُقَالُ: غَمَمْتَ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْتَمْلِي فَإِنْ غُمَّ وَمِنْ طَرِيقِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَغْمَي وَمِنْ رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ غَبَي بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَغْمَي وَغُمَّ وَغَمَّي بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا فَهُوَ مَغْمُومٌ، الْكُلُّ بِمَعْنًى، وَأَمَّا غَبَي فَمَأْخُوذٌ مِنَ الْغَبَاوَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الْفِطْنَةِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لِخَفَاءِ الْهِلَالِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ عَمِيَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعَمَى، قَالَ: وَهُوَ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَابُ الْبَصَرِ عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ، أَوْ ذَهَابُ الْبَصِيرَةِ عَنِ الْمَعْقُولَاتِ.
قَوْلُهُ في طريق ابن عمر الثالثة: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ، أَيْ: قَبَضَ، وَالِانْخِنَاسُ الِانْقِبَاضُ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحَبَسَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مَنَعَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ) بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ وَزْنَ زَيْدِيٍّ، وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النِّسْبَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَكَذَا صَرَّحَ بِالْإِخْبَارِ فِي بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ) سَيَأْتِي فِي الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا.
قَوْلُهُ: (تِسْعًا وَعِشْرِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
12 - بَاب شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ تَمَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا نَاقِصٌ
1912 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ، شَهْرَا عِيدٍ: رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَفْظُ طَرِيقٍ لِحَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) فَسَاقَ الْإِسْنَادَ ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ فَسَاقَهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ لِمُسَدَّدٍ، وَسَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَأَنَّ النُّكْتَةَ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَجْمَعِ الْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَغَايَرَا إِلَّا فِي شَيْخِ مُعْتَمِرٍ أَنَّ مُسَدَّدًا حَدَّثَهُ بِهِ مَرَّةً وَمَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَهُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، إِمَّا وَهُوَ وَحْدُهُ، وَإِمَّا بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَلِمُسَدَّدٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مِنْ طُرُقٍ. وَأَمَّا قَوْلُ قَاسِمٍ فِي الدَّلَائِلِ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ هَارُونَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مَرْفُوعًا، قَالَ مُوسَى وَأَنَا أَهَابُ رَفْعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ زُرَيْعٍ كَانَ رُبَّمَا وَقَفَهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِمَهَابَةِ رَفْعِهِ مَعْنًى.
وَأَمَّا لَفْظُ إِسْحَاقَ الْعَدَوِيِّ فَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلِيفَةَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ جَمِيعًا عَنْ مُسَدَّدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: لَا يَنْقُصُ رَمَضَانُ وَلَا يَنْقُصُ ذُو الْحِجَّةِ وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِإِسْحَاقَ الْعَدَوِيِّ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُسَدَّدٍ بِلَفْظِ: شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ كَمَا هُوَ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّ
هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ عَلَى سِيَاقِ الْمَتْنِ عَلَى لَفْظِ خَالِدٍ دُونَ إِسْحَاقَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي سِيَاقِهِ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ رَمَضَانُ وَلَا ذُو الْحِجَّةِ أَبَدًا إِلَّا ثَلَاثِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ مُعَانِدٌ لِلْمَوْجُودِ الْمُشَاهَدِ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ رَمَضَانُ أَبَدًا ثَلَاثِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ لَهُ مَعْنًى لَائِقًا. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَا يَنْقُصَانِ فِي الْفَضِيلَةِ إِنْ كَانَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ. انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَنْقُصَانِ مَعًا، إِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ جَاءَ الْآخَرُ ثَلَاثِينَ، وَلَا بُدَّ. وَقِيلَ: لَا يَنْقُصَانِ فِي ثَوَابِ الْعَمَلِ فِيهِمَا، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ عَنِ السَّلَفِ، وَقَدْ ثَبَتَا مَنْقُولَيْنَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَسَقَطَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَغَيْرِهِ عَقِبَ التَّرْجَمَةِ قَبْلَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ تَمَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا نَاقِصٌ. وَإِسْحَاقُ هَذَا هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ. وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ نَقْلُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اخْتَارَ مَقَالَةَ أَحْمَدَ فَجَزَمَ بِهَا أَوْ تَوَارَدَ عَلَيْهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ: مَعْنَاهُ: لَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَى.
ثُمَّ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ مَا نَصُّهُ عَقِبَ الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا تَامٌّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ نَقَصَ رَمَضَانُ تَمَّ ذُو الْحِجَّةِ، وَإِنَّ نَقَصَ ذُو الْحِجَّةِ تَمَّ رَمَضَانُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: مَعْنَاهُ: وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَهُوَ تَمَامٌ غَيْرَ نُقْصَانٍ. قَالَ: وَعَلَى مَذْهَبِ إِسْحَاقَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَا مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ الْعَدَدَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ تَرَوْنَهُ نُقْصَانًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُقْصَانٍ. وَوَافَقَ أَحْمَدَ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ فَأَوْهَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّهُ مُرَادُ التِّرْمِذِيِّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ قَاسِمٌ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْبَزَّارِ فَقَالَ: سَمِعْتُ الْبَزَّارَ يَقُولُ: مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصَانِ جَمِيعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا شَهْرَا عِيدٍ لَا يَكُونَانِ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَادَّعَى مُغَلْطَايْ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِإِسْحَاقَ، إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ الْعَدَوِّيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ إِسْحَاقُ، وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يَنْقُصَانِ فِي عَامٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي قَالَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْمَقَالَةَ. وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَزِيزَةَ وَمِنْ قَبْلِهِ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَنَقَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا يَنْقُصَانِ فِي الْأَحْكَامِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَبِلَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى لَا يَنْقُصَانِ أَنَّ الْأَحْكَامَ فِيهِمَا - وَإِنْ كَانَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ - مُتَكَامِلَةٌ غَيْرُ نَاقِصَةٍ عَنْ حُكْمِهِمَا إِذَا كَانَا ثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصَانِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ رُبَّمَا حَالَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَانِعٌ، وَهَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى طَرِيقِ الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَإِنْ نَدَرَ وُقُوعُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَعْدَلُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وُجِدَ وُقُوعُهُمَا وَوُقُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ أَوْ حَمْلُهُ عَلَى نَقْصِ أَحَدِهِمَا يَدْفَعُهُ الْعَيَانِ؛ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَاهُمَا يَنْقُصَانِ مَعًا فِي أَعْوَامٍ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّقْصَ الْحِسِّيَّ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ يَنْجَبِرُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَهْرُ عِيدٍ عَظِيمٍ، فَلَا يَنْبَغِي وَصْفُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ.
وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى تَأْيِيدِ قَوْلِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ إِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِتَعَلُّقِ حُكْمِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بِهِمَا،
وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَنْهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، سَوَاءٌ صَادَفَ الْوُقُوفُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَقْصِيرٌ فِي ابْتِغَاءِ الْهِلَالِ، وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ رَفْعُ مَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ شَكٍّ لِمَنْ صَامَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ وَقَفَ فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِمْكَانَ الْوُقُوفِ فِي الثَّامِنِ اجْتِهَادًا، وَلَيْسَ مُشْكِلًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا ثَبَتَتِ الرُّؤْيَةُ بِشَاهِدَيْنِ أَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ الْخَمِيسُ مَثَلًا فَوَقَفُوا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا شَهِدَا زُورًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الشَّهْرَيْنِ بِمَزِيَّةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِهِمَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ رَفْعُ الْحَرَجِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْعِيدَيْنِ وَجَوَازِ احْتِمَالِ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: شَهْرَا عِيدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ. انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الثَّوَابَ لَيْسَ مُرَتَّبًا عَلَى وُجُودِ الْمَشَقَّةِ دَائِمًا، بَلْ لِلَّهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالتَّامِّ فِي الثَّوَابِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِمَالِكٍ فِي اكْتِفَائِهِ لِرَمَضَانَ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ: لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّهْرَ بِجُمْلَتِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً فَاكْتَفَى لَهُ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الثَّوَابِ بَيْنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَكُونُ ثَلَاثِينَ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَعْلِ الثَّوَابِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ حَيْثُ تَفْضِيلِ الْأَيَّامِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: لَا يَتِمُّ شَهْرَانِ سِتِّينَ يَوْمًا وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: إِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَاهُ: لَا يَكُونَانِ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِسَنَدِهِ هَذَا بِلَفْظِ: كُلُّ شَهْرٍ حَرَامٍ لَا يَنْقُصُ، ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَثَلَاثُونَ لَيْلَةً وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ خَالِدٍ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِهِ كَشُعْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يُقَاوِمُ خَالِدًا الْحَذَّاءَ فِي الْحِفْظِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَقَدْ دَخَلَ لِهُشَيْمٍ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَنْ خَالِدٍ هُوَ لَفْظُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَيْضًا فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
قَوْلُهُ: (رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ) أَطْلَقَ عَلَى رَمَضَانَ أَنَّهُ شَهْرُ عِيدٍ لِقُرْبِهِ مِنَ الْعِيدِ، أَوْ لِكَوْنِ هِلَالِ الْعِيدِ رُبَّمَا رُؤِيَ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَهُ الْأَثْرَمُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَيْلِيَّةٌ جَهْرِيَّةٌ، وَأَطْلَقَ كَوْنَهَا وِتْرَ النَّهَارِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَقَعُ أَوَّلَ مَا تَغْرُبُ الشَّمْسُ.
(تَنْبِيهٌ): لَيْسَ لِإِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ - وَهُوَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْبَصْرِيُّ الْعَدَوِيُّ، عَدِيُّ مُضَرَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، رَوَى هُنَا عَنْ تَابِعِيٍّ كَبِيرٍ - فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَقْرُونًا بِخَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَقَدْ رُمِيَ بِالنَّصْبِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ بِهَذَا السَّبَبِ.
13 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ
1913 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ) بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَالْمُرَادُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ بِحَضْرَتِهِ عِنْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ) هُوَ الْكُوفِيُّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَشَيْخُهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَيِ: ابْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، مَدَنِيٌّ، سَكَنَ دِمَشْقَ ثُمَّ الْكُوفَةَ تَابِعِيٌّ شَهِيرٌ، سَمِعَ عَائِشَةَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، فَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا) أَيِ: الْعَرَبُ، وَقِيلَ: أَرَادَ نَفْسَهُ. وَقَوْلُهُ: (أُمِّيَّةٌ) بِلَفْظِ النَّسَبِ إِلَى الْأُمِّ فَقِيلَ: أَرَادَ أُمَّةَ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكْتُبُ، أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّهَاتِ، أَيْ: أنَّهُمْ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمِّهِمْ، أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هَذِهِ صِفَتُهَا غَالِبًا، وَقِيلَ: مَنْسُوبُونَ إِلَى أُمِّ الْقُرَى، وَقَوْلُهُ:(لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ) تَفْسِيرٌ لِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَقِيلَ لِلْعَرَبِ: أُمِّيُّونَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ} وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُبُ وَيَحْسِبُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهِمْ قَلِيلَةً نَادِرَةً، وَالْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرِهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلُوا أَهْلَ الْحِسَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الِاخْتِلَافُ وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ التَّسْيِيرِ فِي ذَلِكَ وَهُمُ الرَّوَافِضُ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُوَافَقَتُهُمْ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنِ الْخَوْضِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ لِأَنَّهَا حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ لَيْسَ فِيهَا قَطْعٌ وَلَا ظَنٌّ غَالِبٌ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ ارْتَبَطَ الْأَمْرُ بِهَا لَضَاقَ، إِذْ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْقَلِيلُ.
قَوْلُهُ: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي: مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) هَكَذَا ذَكَرَهُ آدَمُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ عَمَّا رَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي: تَمَامَ الثَّلَاثِينَ أَيْ: أَشَارَ أَوَّلًا بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ الْعَشْرَ جَمِيعًا مَرَّتَيْنِ، وَقَبَضَ الْإِبْهَامَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا الْمَعْبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَأَشَارَ مَرَّةً أُخْرَى بِهِمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثُونَ، وَفِي رِوَايَةِ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَخَنَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَوَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ بِكُلِّ أَصَابِعِهِ، وَقَبَضَ فِي الصَّفْقَةِ الثَّالِثَةِ إِبْهَامَ الْيُمْنَى أَوِ الْيُسْرَى وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ وَطَبَقَ الثَّالِثَةَ فَقَبَضَ الْإِبْهَامَ.
قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَشَهْرٌ ثَلَاثُونَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ رَفْعٌ لِمُرَاعَاةِ النُّجُومِ بِقَوَانِينِ التَّعْدِيلِ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ رُؤْيَةُ الْأَهِلَّةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُرَاعَاةِ مَا غَمُضَ حَتَّى لَا يُدْرَكَ إِلَّا بِالظُّنُونِ غَايَةَ التَّكَلُّفِ. وَفِي الْحَدِيثِ مُسْتَنَدٌ لِمَنْ رَأَى الْحُكْمَ بِالْإِشَارَةِ، قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
14 - بَاب لَا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ
1914 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَا يُتَقَدَّمُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا، أَيِ: الْمُكَلَّفُ.
قَوْلُهُ: (لَا يُتَقَدَّمُ رَمَضَانُ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ) أَيْ: لَا يُتَقَدَّمُ رَمَضَانُ بِصَوْمِ يَوْمٍ يُعَدُّ مِنْهُ بِقَصْدِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ؛ فَإِنَّ صَوْمَهُ مُرْتَبِطٌ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ، وَاكْتَفَى فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ ذَلِكَ لِتَصْرِيحِ الْخَبَرِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ وَنَحْوُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (لَا يَتَقَدَّمْنَ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: لَا تَقَدَّمُوا صَوْمَ رَمَضَانَ بِصَوْمِ وَفِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُورَةِ: لَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ وَلِأَحْمَدَ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ هِشَامٍ: لَا تَقَدَّمُوا قَبْلَ رَمَضَانَ بِصَوْمٍ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ) كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يُوجَدَ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ: (يَصُومُ صَوْمًا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ أَحْمَدَ: إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَيَأْتِي عَلَى صِيَامِهِ وَنَحْوُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ رَوْحٍ: إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصِلْهُ بِهِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصِيَامٍ عَلَى نِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ لِرَمَضَانَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ لَمَّا أَخْرَجَهُ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَرِهُوا أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ بِصِيَامٍ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ لِمَعْنَى رَمَضَانَ اهـ.
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ التَّقَوِّي بِالْفِطْرِ لِرَمَضَانَ لِيَدْخُلَ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ جَازَ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ قَرِيبًا، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ خَشْيَةُ اخْتِلَاطِ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ عَادَةٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ بِالرُّؤْيَةِ، فَمَنْ تَقَدَّمَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَقَدْ حَاوَلَ الطَّعْنَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ فَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَادَهُ وَأَلِفَهُ، وَتَرْكُ الْمَأْلُوفِ شَدِيدٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنِ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ فِي شَيْءٍ، وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ وَالنُّذُرُ لِوُجُوبِهِمَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُسْتَثْنَى الْقَضَاءُ وَالنُّذُرُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِمَا، فَلَا يَبْطُلُ الْقَطْعِيُّ بِالظَّنِّ، وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَرَى تَقْدِيمَ الصَّوْمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ كَالرَّافِضَةِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَوْمِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ التَّقَدُّمُ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، وَاسْتَدَلَّ بِلَفْظِ التَّقَدُّمِ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ عَلَى الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الصِّيَامُ بِنْيَةِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَدْفَعُهُ. وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلتَّأْقِيتِ لَا لِلتَّعْلِيلِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَمَعَ كَوْنِهَا مَحْمُولَةً عَلَى التَّأْقِيتِ فَلَا بُدَّ مِنَ ارْتِكَابِ مَجَازٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ - وَهُوَ اللَّيْلُ - لَا يَكُونُ مَحَلَّ الصَّوْمِ. وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بُقُولِهِ: صُومُوا انْوُوا الصِّيَامَ، وَاللَّيْلُ كُلُّهُ ظَرْفٌ لِلنِّيَّةِ. قُلْتُ: فَوَقَعَ فِي الْمَجَازِ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّاوِيَ لَيْسَ صَائِمًا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ النِّيَّةِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَفِيهِ مَنْعُ إِنْشَاءِ الصَّوْمِ قَبْلَ رَمَضَانَ إِذَا كَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِيَاطِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَمَفْهُومُهُ الْجَوَازُ، وَقِيلَ: يَمْتَدُّ الْمَنْعُ لِمَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ
التَّقْدِيمُ بِالصَّوْمِ فَحَيْثُ وُجِدَ مُنِعَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ. وَقَالُوا: أَمَدُ الْمَنْعِ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِحَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا. أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْرُمُ التَّقَدُّمُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِحَدِيثِ الْبَابِ. وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمَ مِنْ نِصْفِ شَعْبَانَ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى ضَعْفِهِ، فَقَالَ: الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ، وَكَذَا صَنَعَ قَبْلَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَاسْتَظْهَرَ بِحَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَاسْتَظْهَرَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ جُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ حَدِيثَ الْعَلَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَحْتَاطُ بِزَعْمِهِ لِرَمَضَانَ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [187 البقرة]
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
1915 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا أَعِنْدَكِ طَعَامٌ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}
[الحديث 1915 - طرفه: 4508]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ مَا كَانَ الْحَالُ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُنَزَّلَةً عَلَى أَسْبَابٍ تَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ عَجَّلَ بِهَا الْمُصَنِّفُ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي. وَيُؤْخَذُ مِنْ حَاصِلِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا ابْتِدَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ السُّحُورِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُقَدِّمَةً لِأَبْوَابِ السُّحُورِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى وَغَيْرِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ
عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ زَادَ فِيهِ ذِكْرَ زُهَيْرٍ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى فَلَمْ يَذْكُرَا زُهَيْرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فِي أَوَّلِ افْتِرَاضِ الصِّيَامِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى مُرْسَلًا.
قَوْلُهُ: (فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ. . . إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: كَانَ إِذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا وَلَا يَشْرَبَ لَيْلَهُ وَيَوْمَهُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا أَفْطَرُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَ فَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُقَيَّدًا بِالنَّوْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَقُيِّدَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّوُا الْعَتَمَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةَ النَّوْمِ غَالِبًا، وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّوْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَبَيَّنَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا كُتِبَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ وَلَفْظُهُ: كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى الصِّيَامُ، وَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلُوا وَلَا يَشْرَبُوا وَلَا يَنْكِحُوا بَعْدَ النَّوْمِ، وَكُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَفْعَلُونَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ حَتَّى الْقَابِلَةَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ هَكَذَا سُمِّيَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى إِسْرَائِيلَ فِيهِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: صِرْمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ.
قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ أَشْعَثُ بْنُ سِوَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَبُو قَيْسِ بْنُ عَمْرٍو وَفِي حَدِيثِ السُّدِّيِّ الْمَذْكُورِ: حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ مُرْسَلًا صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَلِغَيْرِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صِرْمَةُ بْنُ قَيْسٍ كَمَا قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، وَلِلذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ مُرْسَلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ، وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى صِرْمَةُ بْنُ مَالِكٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، كَذَا نَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، فَمَنْ قَالَ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ قَلَبَهُ كَمَا جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ، وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ وَقَعَ مَقْلُوبًا فِي رِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَمَنْ قَالَ صِرْمَةُ بْنُ مَالِكٍ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَمَنْ قَالَ صِرْمَةُ بْنُ أَنَسٍ حَذَفَ أَدَاةَ الْكُنْيَةِ مِنْ أَبِيهِ، وَمَنْ قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ عَمْرٍو أَصَابَ كُنْيَتَهُ وَأَخْطَأَ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ فَزَادَ فِيهِ ابْنَ، وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَرُوِّينَاهُ فِي جُزْءِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ، وَأَنَّ ضَمْرَةَ بْنَ أَنَسٍ الْأَنْصَارِيَّ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ الْحَدِيثَ.
وَقَدِ اسْتَدْرَكَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الصَّحَابَةِ ضَمْرَةَ بْنَ أَنَسٍ فِي حَرْفِ
الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ، وَالصَّوَابُ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَصِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ مَشْهُورٌ فِي الصَّحَابَةِ يُكَنَّى أَبا قَيْسٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا أَخْرَجَهُ السِّرَاجُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ قَالَ: قَالَ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَهُوَ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً
…
يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُؤَاتِيَا
الْأَبْيَاتَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَصِرْمَةُ هَذَا هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا الْآيَةَ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو قَيْسٍ مِمَّنْ فَارَقَ الْأَوْثَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْقَائِلُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيَا
…
أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِيَ فَافْعَلُوا
الْأَبْيَاتَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ (طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ أَطْلُبُ لَك) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ مَعَهُ بِشَيْءٍ، لَكِنْ فِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ أَتَاهَا بِتَمْرٍ فَقَالَ: اسْتَبْدِلِي بِهِ طَحِينًا وَاجْعَلِيهِ سَخِينًا، فَإِنَّ التَّمْرَ أَحْرَقَ جَوْفِي. وَفِيهِ: لَعَلِّي آكُلُهُ سُخْنًا، وَأَنَّهَا اسْتَبْدَلَتْهُ لَهُ وَصَنَعَتْهُ. وَفِي مُرْسَلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: فَقَالَ لِأَهْلِهِ أَطْعِمُونِي. فَقَالَتْ: حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ شَيْئًا سَخِينًا. وَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَوْمَهُ) بِالنَّصْبِ (يَعْمَلُ) أَيْ: فِي أَرْضِهِ، وَصَرَّحَ بِهَا أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ. وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ: كَانَ يَعْمَلُ فِي حِيطَانِ الْمَدِينَةِ بِالْأُجْرَةِ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: فِي أَرْضِهِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ.
قَوْلُهُ: (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) أَيْ: نَامَ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَيْنُهُ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ) بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطلَقٌ مَحْذُوفُ الْعَامِلِ، وَقِيلَ: إِذَا كَانَ بِغَيْرِ لَامٍ يَجِبُ نَصْبُهُ وَإِلَّا جَازَ. وَالْخَيْبَةُ الْحِرْمَانُ، يُقَالُ: خَابَ يَخِيبُ إِذَا لَمْ يَنَلْ مَا طَلَبَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَلَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْغَشْيَ وَقَعَ فِي آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: فَلَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا وَبَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ صَائِمًا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ: فَأَيْقَظْتُهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ وَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى: فَقَالَتْ لَهُ: كُلْ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ. فَقَالَتْ: لَمْ تَنَمْ. فَأَبَى، فَأَصْبَحَ جَائِعًا مَجْهُودًا.
قَوْلُهُ: (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ: وَأَتَى عُمَرُ امْرَأَتَهُ وَقَدْ نَامَتْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَشَرْحِ الْكِرْمَانِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَالَ: لَمَّا صَارَ الرَّفَثُ وَهُوَ الْجِمَاعُ هُنَا حَلَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَلِذَلِكَ فَرِحُوا بِنُزُولِهَا وَفَهِمُوا مِنْهَا الرُّخْصَةَ، هَذَا وَجْهُ مُطَابَقَةِ ذَلِكَ لِقِصَّةِ أَبِي قَيْسٍ، قَالَ: ثُمَّ لَمَّا كَانَ حِلُّهُمَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} لِيُعْلَمَ بِالْمَنْطُوقِ تَسْهِيلُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ صَرِيحًا، ثُمَّ قَالَ: أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هِيَ بِتَمَامِهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ بِتَمَامِهَا نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَقُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعُمَرَ لِفَضْلِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَنَزَلَتْ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: فَفَرِحُوا بِهَا بَعْدُ قَوْلُهُ: {الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَلَفْظُهُ: فَنَزَلَتْ {أُحِلَّ لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {مِنَ الْفَجْرِ} فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَسَيَأْتِي بَيَانُ قِصَّةِ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعَ بَقِيَّةِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
16 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ي تَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فِيهِ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1916 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ، فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ.
[الحديث 1916 - طرفاه في: 4509، 4510]
1917 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ح حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ يَنْزِلْ {مِنْ الْفَجْرِ} فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"
[الحديث 1917 - طرفه في: 4511]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} سَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَى اللَّيْلِ} وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ وَقْتِ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ الَّذِي أُبِيحَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَمْنُوعًا، وَاسْتُفِيدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ ذِكْرَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أُرِيدَ بِهِ مُعْظَمُهَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ:{مِنَ الْفَجْرِ} تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْ بَقِيَّةِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ نَزَلَ أَوَّلًا، فَإِنَّ رِوَايَةَ حَدِيثِ الْبَابِ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ:{الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَرِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي الشَّيْخِ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ:{مِنَ الْفَجْرِ} فَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ الْفَجْرِ} لَمْ يَدْخُلْ فِي الْغَايَةِ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الْحَدِيثَ الَّذِي مَضَى قَبْلَهُ، وَهُوَ مَوْصُولٌ كَمَا تَقَدَّمَ. ثم أورد المصنف في الباب حديثين:
الأول: قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي حُصَيْنٌ) رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنْبَأَنَا حُصَيْنٌ، وَمُجَالِدٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ هُشَيْمٍ إِلَّا أَنَّهُ فَرَّقَهُمَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} عَمَدْتُ. . . إِلَخْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ عَدِيًّا كَانَ حَاضِرًا لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ إِسْلَامِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضِ الصَّوْمِ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَإِسْلَامَ عَدِيٍّ كَانَ فِي التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ نُزُولِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَإِمَّا أَنْ يُؤَولَ قَوْلُ عَدِيٍّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ أَيْ: لَمَّا تُلِيَتْ عَلَيَّ عِنْدَ إِسْلَامِي، أَوْ لَمَّا بَلَغَنِي نُزُولُ الْآيَةِ
أَوْ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ ثُمَّ قَدِمْتُ فَأَسْلَمْتُ وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَائِعَ عَمَدْتُ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ حَدِيثَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ بِلَفْظِ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فَقَالَ: صَلِّ كَذَا وَصُمْ كَذَا، فَإِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ فَكُلْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. قَالَ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ، الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى عِقَالٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: حَبْلٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ مِنْ شَعْرٍ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي) فِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ: فَلَا أَسْتَبِينُ الْأَبْيَضَ مِنَ الْأَسْوَدِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ) زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ هُشَيْمٍ: قَالَ فَضَحِكَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ وَزَادَ: إِنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ: فَضَحِكَ وَقَالَ: لَا يَا عَرِيضَ الْقَفَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يُرِيدُ: إِنَّ نَوْمَكَ لَكَثِيرٌ، وَكَنَّى بِالْوِسَادَةِ عَنِ النَّوْمِ لِأَنَّ النَّائِمَ يَتَوَسَّدُ، أَوْ أَرَادَ: إِنَّ لَيْلَكَ لَطَوِيلٌ إِذَا كُنْتَ لَا تُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْعِقَالُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ كَنَّى بِالْوِسَادَةِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُهُ مِنْ رَأْسِهِ وَعُنُقِهِ عَلَى الْوِسَادَةِ إِذَا نَامَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ عَرِيضُ الْقَفَا. إِذَا كَانَ فِيهِ غَبَاوَةٌ وَغَفْلَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى: إِنَّكَ عَرِيضُ الْقَفَا وَجَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي فَقَالَ: إِنَّمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَفَا عَدِيٍّ؛ لِأَنَّهُ غَفَلَ عَنِ الْبَيَانِ، وَعُرْضُ الْقَفَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قِلَّةِ الْفَطِنَةِ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا.
وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: حَمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الذَّمِّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ، وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ وَعَدَمِ الْفِقْهِ، وَعَضَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ عَرِيضُ الْقَفَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللِّسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ دَلِيلُ التَّجَوُّزِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَمًّا وَلَا يُنْسَبُ إِلَى جَهْلٍ، وَإِنَّمَا عَنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ وِسَادَكَ إِنْ كَانَ يُغَطِّي الْخَيْطَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرَادَ اللَّهُ فَهُوَ إِذًا عَرِيضٌ وَاسِعٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكَيْفَ يَدْخُلَانِ تَحْتَ وِسَادَتِكَ؟ وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، أَيْ: إِنَّ الْوِسَادَ الَّذِي يُغَطِّي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَرْقُدُ عَلَيْهِ إِلَّا قَفًا عَرِيضٌ لِلْمُنَاسَبَةِ.
قُلْتُ: وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَفَاوَتُ لُغَاتُهَا وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فِي لُغَتِهِ أَنَّ سَوَادَ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ. وَسَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ جَوَازُ التَّوْبِيخِ بِالْكَلَامِ النَّادِرِ الَّذِي يَسِيرُ فَيَصِيرُ مَثَلًا بِشَرْطِ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ عِنْدَ أَمْنِ الْغُلُوِّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ الْقَدَمِ إِلَّا لِمَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الحديث الثاني: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ) كَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ شَيْخَيْنِ لَهُ، وَأَعَادَهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ وَحْدَهُ، وَظَهَرَ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا لِأَبِي غَسَّانَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنِ الذُّهْلِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ شَيْخَيْهِ، وَبَيَّنَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ أَنَّ لَفْظَهُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ رِجَالٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُفَسَّرَ بَعْضُهُمْ بِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ وَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ
فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ خَيْطًا أَبْيَضَ وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَيَضَعُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ، فَيَنْظُرُ مَتَى يَسْتَبِينُهُمَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَعَلَ هَذَا وَبَعْضُهُمْ فَعَلَ هَذَا، أَوْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَهُمَا تَحْتَ الْوِسَادَةِ إِلَى السَّحَرِ فَيَرْبِطُونَهُمَا حِينَئِذٍ فِي أَرْجُلِهِمْ لِيُشَاهِدُوهُمَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى يَسْتَبِينَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: (رُؤْيَتُهُمَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ رِئْيُهُمَا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ زِيُّهُمَا بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ ضُبِطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَكَأَنَّهُ رِئْيٌ بِمَعْنَى مَرْئِيٍّ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الرِّئْيَ التَّابِعُ مِنَ الْجِنِّ، فَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ لِتَرَائِيِهِ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْإِنْسِ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: {مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ عَدِيٍّ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ الْفَجْرِ} نَزَلَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: {مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} بِخِلَافِ حَدِيثِ سَهْلٍ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ الْفَجْرِ} نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ نُزُولِهِمَا عَامٌ كَامِلٌ، قَالَ: فَأَمَّا عَدِيٌّ فَحَمَلَ الْخَيْطَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} مِنْ أَجْلِ الْفَجْرِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَ.
قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ سَهْلٍ، فَكَأَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا جَرَى فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ الْآيَةَ مُجَرَّدَةً فَفَهِمَهَا عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:{مِنَ الْفَجْرِ} أَنْ يَنْفَصِلَ أَحَدُ الْخَيْطَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:{مِنَ الْفَجْرِ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {يَتَبَيَّنَ} قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّتَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ - يَعْنِي: فِي قِصَّةِ عَدِيٍّ - تَلَا الْآيَةَ تَامَّةً كَمَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ حَالَ النُّزُولِ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرَةٌ لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ: يَا ابْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ مِنَ الْفَجْرِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَالِدٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ عَدِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ أَوْصَيْتَنِي قَدْ حَفِظْتُهُ غَيْرَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، إِنِّي بِتُّ الْبَارِحَةَ مَعِي خَيْطَانِ أَنْظُرُ إِلَى هَذَا وَإِلَى هَذَا، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُغَايِرَةٌ لِقِصَّةِ سَهْلٍ، فَأَمَّا مَنْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ فَحَمَلُوا الْخَيْطَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ: مِنَ الْفَجْرِ عَلِمُوا الْمُرَادَ، فَلِذَلِكَ قَالَ سَهْلٌ فِي حَدِيثِهِ فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَأَمَّا عَدِيٌّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قَوْمِهِ اسْتِعَارَةُ الْخَيْطِ لِلصُّبْحِ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ الْغَايَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَظْهَرَ تَمْيِيزُ أَحَدِ الْخَيْطَيْنِ مِنَ الْآخَرِ بِضِيَاءِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمَّا تَبَدَّتْ لَنَا سَدْفَةٌ
…
وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
قَوْلُهُ: (فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَعَلِمُوا أَنَّهُ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَمَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ اللَّيْلُ وَبِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَالْخَيْطُ اللَّوْنُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَبْيَضِ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ كَالْخَيْطِ الْمَمْدُودِ، وَبِالْأَسْوَدِ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ شَبِيهًا بِالْخَيْطِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْفَجْرِ} بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ،
وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ أَحَدِهِمَا بَيَانٌ لِلْآخَرِ.
قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْفَجْرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ قَوْلُهُ:{مِنَ الْفَجْرِ} مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّشْبِيهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: رَأَيْتُ أَسَدًا مَجَازٌ فَإِذَا زِدْتَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ رَجَعَ تَشْبِيهًا. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ جَازَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَبَثَ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ: {مِنَ الْفَجْرِ} لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْحَقِيقَةُ وَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ - وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ - لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ سَهْلٍ، وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ بِعَبَثٍ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وُجُوبَ الْخِطَابِ وَيَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا اسْتَوْضَحَ الْمُرَادَ بِهِ. انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي التَّجْوِيزِ عَنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ نَظَرٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَجَوَابُهُ عَنْهُمْ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَمَسْأَلَةُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ، وَالصَّيْرَفِيِّ، ثَالِثُهَا جَوَازُ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْعَامِّ. رَابِعُهَا عَكْسُهُ وَكِلَاهُمَا عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا عِنْدَ مُجَوِّزِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، يَعْنِي: وَهُمُ الْأَشَاعِرَةُ فَيُجَوِّزُونَهُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ لَمْ يَقَعْ. قَالَ شَارِحُهُ: وَالْخِطَابُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا لَهُ ظَاهِرٌ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي خلَافِهِ، وَالثَّانِي مَا لَا ظَاهِرَ لَهُ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ، وَمَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ كُلُّهُمْ إِلَى امْتِنَاعِهِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ يَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الْمُجْمَلِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَإِنَّمَا حَمَلَ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا بَعْضُ مَنْ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ كَالرِّجَالِ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ سَهْلٌ وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِ اسْتِعْمَالُ الْخَيْطِ فِي الصُّبْحِ كَعَدِيٍّ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ، وَالدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ أَوَّلًا عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْخَيْطَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ جَوَازِ الْأَكْلِ إِلَى الْإِسْفَارِ، قَالَ: ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ}
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ: أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فَقَالَ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَصْبَحْتَ. فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا، لَوْلَا بِلَالٌ لَرَجَوْنَا أَنْ يُرَخَّصَ لَنَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ - كَمَا قَالَ عِيَاضٌ - وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ وَطَلَبُ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا وَأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى أَظْهَرِ وُجُوهِهَا وَأَكْثَرِ اسْتِعْمَالَاتِهَا إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا أَوَّلًا عَلَى مَا سَبَقَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ بَابِ تَأْخِيرِ مَا لَهُ ظَاهِرٌ أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ.
قُلْتُ: وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَعَلُوا مَا نَقَلَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَنَزَعَ تَمَّ صَوْمُهُ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّبْيِينُ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا شَكَكْتَ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ نَحْوُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السُّحُورِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كُلْ حَتَّى لَا تَشُكَّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا؛ كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى لَا تَشُكَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ صَارَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: اخْتَلَفُوا هَلْ يَحْرُمُ الْأَكْلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بِتَبَيُّنِهِ عِنْدَ النَّاظِرِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَمْ لَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
17 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ
1918، 1919 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. قَالَ الْقَاسِمُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْنَعَنَّكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَمْنَعْكُمْ بِسُكُونِ الْعَيْنِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ; فَاسْتَخْرَجَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَقَدْ رَوَى لَفْظَ التَّرْجَمَةِ وَكِيعٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ اهـ. وَحَدِيثُ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي مُرَادِ الْبُخَارِيِّ، فإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَيْضًا عَلَى شَرْطِهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِهِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ فِي بَابٌ الْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَأَخْرَجَ عَنْهُ حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ شَيْخَيْهِ الْقَاسِمِ، وَنَافِعٍ كَمَا أَخْرَجَهُ هُنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُنَاكَ.
وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ - وَرَفَعَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى فَوْقَ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلَ - حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا يَعْنِي: مُعْتَرِضًا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ حَتَّى يَسْتَطِيرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ: يَهِيدَنَّكُمْ - بِكَسْرِ الْهَاءِ - أَيْ: يُزْعِجَنَّكُمْ فَتَمْتَنِعُوا بِهِ عَنِ السُّحُورِ فَإِنَّهُ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ، يُقَالُ: هِدْتُهُ أَهِيدُهُ إِذَا أَزْعَجْتُهُ، وَأَصْلُ الْهِيدِ - بِالْكَسْرِ - الْحَرَكَةُ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: الْفَجْرُ فَجْرَانِ: فَأَمَّا الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَطِيرَ أَيْ: هُوَ الَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَيُحِلُّ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - وَقَالَ بِهِ الْأَعْمَشُ مِنَ التَّابِعِينَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ - إِلَى جَوَازِ السُّحُورِ إِلَى أَنْ يَتَّضِحَ الْفَجْرُ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَاللَّهِ النَّهَارُ غَيْرَ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ حَتَّى لَا يُرَى الْفَجْرُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ حِينَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَبَيُّنِ بَيَاضِ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ أَنْ يَنْتَشِرَ الْبَيَاضُ فِي الطُّرُقِ وَالسِّكَكِ وَالْبُيُوتِ، ثُمَّ حَكَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَشْجَعِيِّ - وَلَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ قَالَ فَنَظَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: قَدِ ابْيَضَّ وَسَطَعَ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ؟ فَنَظَرْتُ فَقُلْتُ: قَدِ اعْتَرَضَ. قَالَ: الْآنَ أَبْلِغْنِي شَرَابِي وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا الشَّهْوَةُ لَصَلَّيْتُ الْغَدَاةَ ثُمَّ تَسَحَّرْتُ قَالَ إِسْحَاقُ: هَؤُلَاءِ رَأَوْا جَوَازَ الْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لَكِنْ لَا أَطْعَنُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ الرُّخْصَةَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي وَلَا أَرَى لَهُ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً. قُلْتُ: وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى الْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَعْمَشُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى نَافِعٍ لَا عَلَى ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ.
18 - بَاب تعجيل السَّحُورِ
1920 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، بن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السحور مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَعْجِيلِ السُّحُورِ) أَيِ: الْإِسْرَاعُ بِالْأَكْلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السُّحُورَ كَانَ يَقَعُ قُرْبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ: كُنَّا نَنْصَرِفُ - أَيْ: مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ - فَنَسْتَعْجِلُ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَوْ تَرْجَمَ لَهُ بِبَابِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ لَكَانَ حَسَنًا، وَتَعَقَّبَهُ مُغَلْطَايْ بِأَنَّهُ وُجِدَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنَ الْبُخَارِيِّ بَابُ تَأْخِيرِ السُّحُورِ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا. وَقَالَ الزِّيَنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّعْجِيلُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، فَإِنْ نُسِبَ إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ مَعْنَاهُ التَّقْدِيمَ وَإِنْ نُسِبَ إِلَى آخِرِهِ كَانَ مَعْنَاهُ التَّأْخِيرَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْجِيلًا إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ كَانَ يُسَابِقُ بِسُحُورِهِ الْفَجْرَ عِنْدَ خَوْفِ طُلُوعِهِ وَخَوْفِ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِمِقْدَارِ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ أَبِي حَازِمٍ) أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِيهِ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ هُوَ الْأَسْلَمِيُّ فِيهِ ضَعْفٌ، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى تَعْلِيلِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ. وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ لَا يُقَاوِمُ الْحُفَّاظَ الَّذِينَ رَوَوْهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَزِيَادَتُهُ شَاذَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الْعَزِيزِ سَمِعَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ زِيَادَةً لَمْ تَكُنْ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ فَلِذَلِكَ حَدَّثَ بِهِ تَارَةً عَنْ أَبِيهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِالْوَاسِطَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَةٌ بِي وَسُرْعَةٌ - بِالضَّمِّ - عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ وَلَفْظُ بِي مُتَعَلِّقٌ بِسُرْعَةٍ أَوْ لَيْسَتْ تَامَّةً وَبِي الْخَبَرُ أَوْ قَوْلُهُ: أَنْ أُدْرِكَ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَ، وَالِاسْمُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ السُّرْعَةِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ أُدْرِكَ السُّحُورَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلنَّسَفِيِّ وَالْجُمْهُورِ: أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ وَهُوَ
الصَّوَابُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَوَاقِيتِ: أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: صَلَاةَ الصُّبْحِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَلَاةَ الْغَدَاةِ. قَالَ عِيَاضٌ: مُرَادُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ غَايَةَ إِسْرَاعِهِ أَنَّ سُحُورَهُ لِقُرْبِهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِشِدَّةِ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصُّبْحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُزَاحِمُونَ بِالسُّحُورِ الْفَجْرَ فَيَخْتَصِرُونَ فِيهِ وَيَسْتَعْجِلُونَ خَوْفَ الْفَوَاتِ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْمِزِّيُّ: ذَكَرَ خَلَفٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّوْمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقُتَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: وَلَمْ نَجِدْهُ فِي الصَّحِيحِ وَلَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ. قُلْتُ: وَرَأَيْتُ هُنَا بِخَطِّ الْقُطْبِ، وَمُغَلْطَايْ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ، وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَبُو ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ مَشْهُورٌ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.
19 - بَاب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ
1921 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً.
قَوْلُهُ: (بَابٌ قَدْرُ كَمْ بَيْنَ السُّحُورِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ) أَيِ: انْتِهَاءِ السُّحُورِ وَابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ الزَّمَانِ الَّذِي تُرِكَ فِيهِ الْأَكْلُ، وَالْمُرَادُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوَّلُ الشُّرُوعِ فِيهَا قَالَهُ الزِّيَنُ بْنُ الْمُنِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) سَبَقَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ كَمْ) هُوَ مَقُولُ أَنَسٍ، وَالْمَقُولُ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَأَنَّ قَتَادَةَ أَيْضًا سَأَلَ أَنَسًا عَنْ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامٍ وَفِيهِ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: قُلْتُ لِزَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً) أَيْ: مُتَوَسِّطَةً لَا طَوِيلَةً وَلَا قَصِيرَةً لَا سَرِيعَةً وَلَا بَطِيئَةً، وَقَدْرُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ فِي جَوَابِ زَيْدٍ لَا فِي سُؤَالِ أَنَسٍ لِئَلَّا تَصِيرَ كَانَ وَاسْمُهَا مِنْ قَائِلٍ وَالْخَبَرُ مِنْ آخَرَ. قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: فِيهِ تَقْدِيرُ الْأَوْقَاتِ بِأَعْمَالِ الْبَدَنِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ الْأَوْقَاتَ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِمْ: قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ، وَقَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ، فَعَدَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّقْدِيرِ بِالْقِرَاءَةِ؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ وَقْتَ الْعِبَادَةِ بِالتِّلَاوَةِ، وَلَوْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ لَقَالَ مَثَلًا: قَدْرَ دَرَجَةٍ، أَوْ ثُلُثِ خُمُسِ سَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَوْقَاتِهُمْ كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالْعِبَادَةِ. وَفِيهِ تَأْخِيرُ السُّحُورِ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الْمَقْصُودِ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِأُمَّتِهِ فَيَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَسَحَّرْ لَاتَّبَعُوهُ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَوْ تَسَحَّرَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ لَشَقَّ أَيْضًا عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الصُّبْحِ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُجَاهَدَةِ بِالسَّهَرِ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا تَقْوِيَةٌ عَلَى الصِّيَامِ لِعُمُومِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الطَّعَامِ وَلَوْ تُرِكَ لَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ صَفْرَاوِيًّا فَقَدْ يُغْشَى عَلَيْهِ فَيُفْضِي إِلَى الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ تَأْنِيسُ الْفَاضِلِ أَصْحَابَهُ بِالْمُؤَاكَلَةِ، وَجَوَازُ الْمَشْيِ بِاللَّيْلِ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مَا كَانَ يَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ الِاجْتِمَاعُ عَلَى السُّحُورِ، وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْعِبَارَةِ لِقَوْلِهِ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ نَحْنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُشْعِرُ لَفْظُ الْمَعِيَّةِ بِالتَّبَعِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَرَاغَ مِنَ السُّحُورِ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، فَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ هُوَ النَّهَارُ إِلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ. انْتَهَى. وَالْجَوَابُ أَنْ لَا مُعَارَضَةَ بَلْ تُحْمَلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُشْعِرُ بِالْمُوَاظَبَةِ، فَتَكُونُ قِصَّةُ حُذَيْفَةَ سَابِقَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَوَاقِيتِ وَكَوْنُهُ مِنْ مُسْنَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ.
20 - بَاب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا، وَلَمْ يُذْكَرْ السَّحُورُ
1922 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى.
[الحديث 1922 - طرفه في: 1962]
1923 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"
قَوْلُهُ: (بَابُ بَرَكَةِ السُّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ) بِضَمِّ يُذْكَرْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ ولَمْ يُذْكَرْ سَحُورٌ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحُكْمِ إِنَّمَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ إِذَا ثَبَتَ الِاخْتِلَافُ أَوْ كَانَ مُتَوَقَّعًا، وَالسُّحُورُ إِنَّمَا هُوَ أَكْلٌ لِلشَّهْوَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ، لَكِنْ لَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ احْتَاجَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْإِيجَابِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنِ الْوِصَالِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَكْلِ آخِرَ اللَّيْلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ السُّحُورُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَدْبِيَّةِ السُّحُورِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ غَفْلَةٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ بَعْدَ هَذَا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: أَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ فَجَعَلَ غَايَةَ الْوِصَالِ السَّحَرَ وَهُوَ وَقْتُ السُّحُورِ، قَالَ: وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَلَقَّاهُ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ بِالتَّسْلِيمِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُتَرْجِمْ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ السُّحُورِ وَإِنَّمَا تَرْجَمَ عَلَى عَدَمِ إِيجَابِهِ. وَأَخَذَ مِنَ الْوِصَالِ أَنَّ السُّحُورَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَحَيْثُ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ تَحْرِيمِ الْوِصَالِ وَإِنَّمَا هُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ لِتَعْلِيلِهِ إِيَّاهُ بِالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِيجَابٌ لِلسُّحُورِ، وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ لِلْكَرَاهَةِ فَضِدُّ نَهْيِ الْكَرَاهَةِ الِاسْتِحْبَابُ فَثَبَتَ اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ، كَذَا قَالَ.
وَمَسْأَلَةُ الْوِصَالِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ التَّحْرِيمُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا إِلَخْ الْإِشَارَةَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي بَعْدَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ أَنَّهُ: وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السُّحُورَ لَيْسَ بِحَتْمٍ، إِذْ لَوْ كَانَ حَتْمًا مَا وَاصَلَ بِهِمْ فَإِنَّ الْوِصَالَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ السُّحُورِ سَوَاءٌ قُلْنَا الْوِصَالُ حَرَامٌ أَوْ لَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الْوِصَالِ وَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أَظَلُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالظَّاءِ الْقَائِمَةِ الْمُعْجَمَةِ مُضَارِعُ ظَلِلْتُ إِذَا عَمِلْتُ بِالنَّهَارِ، وَسَيَأْتِي هُنَاكَ بِلَفْظِ: أَبِيتُ وَهُوَ دَالٌ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَظَلُّ هُنَا لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالنَّهَارِ.
1923 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَسَحَّرُوا
فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً.
قَوْلُهُ في حديث أنس: (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَبِضَمِّهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَرَكَةِ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ فَيُنَاسِبُ الضَّمُّ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَحُّرِ، أَوِ الْبَرَكَةُ لِكَوْنِهِ يُقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ وَيُنَشِّطُ لَهُ وَيُخَفِّفُ الْمَشَقَّةَ فِيهِ فَيُنَاسِبُ الْفَتْحَ؛ لِأَنَّهُ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ مَا يُتَضَمَّنُ مِنَ الِاسْتِيقَاظِ وَالدُّعَاءِ فِي السَّحَرِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي السُّحُورِ تَحْصُلُ بِجِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّشَاطِ، وَمُدَافَعَةُ سُوءِ الْخُلُقِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْجُوعُ، وَالتَّسَبُّبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذَاكَ أَوْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْأَكْلِ، وَالتَّسَبُّبُ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقْتَ مَظِنَّةِ الْإِجَابَةِ، وَتَدَارُكُ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَغْفَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْبَرَكَةُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ السُّنَّةِ يُوجِبُ الْأَجْرَ وَزِيَادَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصَّوْمِ وَتَيْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالصَّائِمِ. قَالَ وَمِمَّا يُعَلَّلُ بِهِ اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأُجُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَعَ لِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي مَسْأَلَةِ السُّحُورِ كَلَامٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ حُكْمِ الصَّوْمِ وَهِيَ كَسْرُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَالسُّحُورُ قَدْ يُبَايِنُ ذَلِكَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ مَا زَادَ فِي الْمِقْدَارِ حَتَّى تَنْعَدِمَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالَّذِي صَنَعَهُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ التَّأَنُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ.
(تَكْمِيلٌ): يَحْصُلُ السُّحُورُ بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: السُّحُورُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُرْسَلَةٍ: تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِلُقْمَةٍ.
21 - بَاب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ رضي الله عنهم
1924 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ.
[الحديث 1924 - طرفاه في: 2007، 7265]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا) أَيْ: هَلْ يَصِحُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ جَوَازَ النَّفْلِ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَغْدُونَا أَحْيَانًا ضُحًى فَيَسْأَلُ الْغَدَاءَ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوَافِقْهُ عِنْدَنَا فَيَقُولُ: إِذًا أَنَا صَائِمٌ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ: أَنَا صَائِمٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ
الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا دَعَا بِالْغَدَاءِ فَلَا يَجِدُهُ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
قَوْلُهُ: (وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ) أَمَّا أَثَرُ أَبِي طَلْحَةَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. صَامَ يَوْمَهُ ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَفْعَلُهُ، وَلَفْظُ حُمَيْدٍ نَحْوُهُ وَزَادَ: وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَفْطَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ مُعَاذٍ. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ حَمْزَةَ
(1)
، عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَقُولُ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنَا صَائِمٌ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ آخَرَ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.
وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: كَانَ يُصْبِحُ حَتَّى يُظْهِرَ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا أُرِيدُ الصَّوْمَ، وَمَا أَكَلْتُ مِنْ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ مُنْذُ الْيَوْمَ، وَلَأَصُومَنَّ يَوْمِي هَذَا وَأَمَّا أَثَرُ حُذَيْفَةَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: مَنْ بَدَا لَهُ الصِّيَامُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَلْيَصُمْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ حُذَيْفَةَ بَدَا لَهُ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَامَ وَقَدْ جَاءَ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يُسَمِّ النَّسَائِيُّ، عِكْرِمَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ صَوْمَ النَّافِلَةِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ فِي النَّهَارِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَتَأَوَّلَهُ الْآخَرُونَ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ ضَعُفَ عَنْهُ وَأَرَادَ الْفِطْرَ لِذَلِكَ. قَالَ وَهُوَ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَتَكَلُّفٌ بَعِيدٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَصْبَحَ يُرِيدُ الْإِفْطَارَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ أَنْ يَصُومَ مَتَى بَدَا لَهُ، فَذَكَرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، وَزَادَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا أَيُّوبَ وَغَيْرَهُمَا، وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَيْهِمْ. قَالَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَصُومُ تَطَوُّعًا حَتَّى يُجْمِعَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ يَتَسَحَّرَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي النَّافِلَةِ: لَا يَصُومُ إِلَّا أَنْ يُبَيِّتَ، إِلَّا إِنْ كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّبْيِيتِ وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْجَوَازِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ كُتُبِهِ التَّفْرِقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صِيَامُ التَّطَوُّعِ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى: قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ هِنْدُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِعَمِّهِ هِنْدِ بْنِ حَارِثَةَ صُحْبَةٌ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ هِنْدِ بْنِ أَسْمَاءَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في طبعة البولاق: قوله من حمزة " في نسخة "من عمر بن نجيح" وفي أخرى "عن عثمان بن نجيح "
إِلَى قَوْمِي مِنْ أَسْلَمَ فَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ أَنْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ وَجَدْتَهُ مِنْهُمْ قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ فَلْيَصُمْ آخِرَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هِنْدٍ قَالَ: وَكَانَ هِنْدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَخُوهُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هِنْدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَهُمْ قَدْ طَعِمُوا؟ قَالَ: فَلْيُتِمُّوا آخِرَ يَوْمِهِمْ قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ أَسْمَاءَ وَوَلَدِهِ هِنْدٍ أُرْسِلَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْجَدِّ اسْمَ الْأَبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ هِنْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَسْمَاءَ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا عَلَى صِحَّةِ الصِّيَامِ لِمَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ، سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِلَا رَيْبٍ، فَنُسِخَ حُكْمُهُ وَشَرَائِطُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ وَمَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ لَا يُجِيزُ صِيَامَ مَنْ أَكَلَ مِنَ النَّهَارِ، وَصَرَّحَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ التَّبْيِيتِ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ خَصَائِصِ عَاشُورَاءَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فَالْأَمْرُ بِالْإِمْسَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِجْزَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا وَكَمَا يُؤْمَرُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ رَأَى الْهِلَالَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَمْرَهُمْ بِالْقَضَاءِ، بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ الْمَوْقُوفَ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحَ وَقْفِهِ.
وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَصَحَّحُوا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقًا آخَرَ، وَقَالَ: رِجَالُهَا ثِقَاتٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِيَامِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَةُ الطَّحَاوِيِّ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ إِذَا كَانَ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَعَاشُورَاءَ فَتُجْزِئُ النِّيَّةُ فِي النَّهَارِ، أَوْ لَا فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَرَمَضَانَ، فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَبَيْنَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَيُجْزِئُ فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ غَثٌّ لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ ; وَهُوَ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ زُفَرُ
(1)
: يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ لِتَعَيُّنِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مِعْيَارٌ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: يَلْزَمُ قَائِلَ هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ صَوْمَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، قَالَ: فَإِنِ الْتَزَمَهُ كَانَ مُسْتَشْنَعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إِلَّا قَدْرُهَا فَصَلَّى حِينَئِذٍ تَطَوُّعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ
(1)
في طبعة بولا: بهامش بعض النسخ " والذي قاله الكرخي كما في شرح هداية خلافه فإنه نقل أن مذهب زفر مثل مالك "
بِحَدِيثِ سَلَمَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ جَازَ لَهُ اسْتِدْرَاكُ النِّيَّةِ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا أَوَّلًا، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يُمْسِكُوا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ. قَالَ: وَحُكْمُ الْفَرْضِ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْلِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.
22 - بَاب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
1925، 1926 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ ح.
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ، وَقَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا، وَلَوْلَا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهُنَّ أَعْلَمُ. وَقَالَ هَمَّامٌ وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ، وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ.
[الحديث 1925 - طرفاه في 1930، 1931]
[الحديث 1926 - طرفه في: 1932]
قَوْلُهُ: (بَابٌ الصَّائِمُ يُصْبِحُ جُنُبًا) أَيْ: هَلْ يَصِحُّ صَوْمُهُ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي، أَوْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ؟ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ) كَذَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ مُخْتَصَرًا، وَعَقَّبَهُ بِطَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَوْهَمَ أَنَّ سِيَاقَهُمَا وَاحِدٌ، لَكِنَّهُ سَاقَ لَفْظَ مَالِكٍ بَعْدَ بَابَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَرْوَانَ وَلَا قِصَّةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، نَعَمْ قَدْ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ سُمَيٍّ مُطَوَّلًا، وَلِمَالِكٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَتَمَّ مِنْهُ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِهَا وَفِي بَيَانِ اخْتِلَافِ نَقَلَتِهَا، وَسَأَذْكُرُ مُحَصَّلَ فَوَائِدِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ (إِنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ) أَيِ: ابْنَ الْحَكَمِ، وَإِخْبَارُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِمَا ذُكِرَ لِمَرْوَانَ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَهُ مَرْوَانُ إِلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَلَتَسْألَنَّهُمَا عَنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَذَهَبْتُ مَعَهُ
حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَاقَ الْقِصَّةَ. وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْهَا، وَمِنْ نَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهَا، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَرْسَلَنِي مَرْوَانُ إِلَى عَائِشَةَ، فَأَتَيْتُهَا فَلَقِيتُ غُلَامَهَا ذَكْوَانَ فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْهَا، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا قَالَ: فَأَتَيْتُ مَرْوَانَ فَحَدَّثْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَنِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَتَيْتُهَا فَلَقِيتُ غُلَامَهَا نَافِعًا فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَبَا عِيَاضٍ مَجْهُولٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُجْمَعُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْغُلَامَيْنِ كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي السُّؤَالِ كَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ كِلَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَسَأَذْكُرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَفِيهِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ جَاءَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ وَسَتَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُمَا: كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَلْهَا. فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنِّي فَيَصُومُ وَيَأْمُرُنِي بِالصِّيَامِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَيُؤَخِّرُ الْغُسْلَ إِلَى بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ. الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنَ احْتِلَامٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِمُ إِذِ الِاحْتِلَامُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي قَوْلِهَا: مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الِاحْتِلَامِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاحْتِلَامَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الِاحْتِلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِنْزَالُ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ شَيْءٍ فِي الْمَنَامِ، وَأَرَادَتْ بِالتَّقْيِيدِ بِالْجِمَاعِ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَمْدًا يُفْطِرُ، وَإِذَا كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ عَمْدًا لَا يُفْطِرُ فَالَّذِي يَنْسَى الِاغْتِسَالَ أَوْ يَنَامُ عَنْهُ أَوْلَى بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَمَّا كَانَ الِاحْتِلَامُ يَأْتِي لِلْمَرْءِ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يُرَخِّصُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ الْجِمَاعَ، فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ؛ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَحَدِّثْهُ بِهَذَا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ بِمَا يَكْرَهُ. فَقَالَ: أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَتَلْقَيَنَّهُ وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، إِنَّهُ لِي صَدِيقٌ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَبَيَّنَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، سَبَبَ ذَلِكَ؛ فَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: وَمَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ.
قَالَ فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِهِ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُفْتِي النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنِ احْتَلَمَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَلَا يَصُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلْيُفْطِرْ فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ مَرْفُوعًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (لَتُفَزِّعَنَّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْفَاءِ وَالزَّايِ مِنَ الْفَزَعِ وَهُوَ الْخَوْفُ أَيْ: لَتُخِيفَنَّهُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي تُخَالِفُ فَتْوَاهُ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ لَتَقْرَعَنَّ بِفَتْحٍ فَقَافٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، أَيْ: تَقْرَعُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ سَمْعَهُ، يُقَالُ: قَرَعْتَ بِكَذَا سَمْعَ فُلَانٍ إِذَا أَعْلَمْتَهُ بِهِ إِعْلَامًا صَرِيحًا.
قَوْلُهُ: (وَمَرْوَانُ يَوْمئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ) أَيْ: أَمِيرٌ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) قَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ كَرَاهَتِهِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُخَالِفَ مَرْوَانَ لِكَوْنِهِ كَانَ أَمِيرًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَبَيَّنَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ سَبَبَ تَشْدِيدِ مَرْوَانَ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَرْوَانَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَذَكَرُوا قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: اذْهَبْ فَاسْأَلْ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْنَا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّ سَلَمَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْنَا مَرْوَانَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُهُمْ تَخَوُّفًا أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا أَتَيْتَهُ فَحَدَّثْتَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيِ: الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ:(وَكَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ) فِيهِ رَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي سَفَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ مَرْوَانُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ فَلَتَذْهَبَنَّ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ، فَلَتُخْبِرَنَّهُ. قَالَ: فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَصَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ مَعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ التَّقْدِيرِ لَا عَلَى مَعْنَى الِاتِّفَاقِ، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا قَصَدَاهُ إِلَى الْعَقِيقِ فَلَمْ يَجِدَاهُ، ثُمَّ وَجَدَاهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَ لَهُ أَيْضًا بِهَا أَرْضٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمَا لَمَا ذَهَبْتُمَا إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: فَلَقِينَا أَبَا هُرَيْرَةَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِدُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْعَقِيقِ لَا الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا الْتَقَيَا بِالْعَقِيقِ فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقِصَّةَ مُجْمَلَةً أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا بَلْ شَرَعَ فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذِكْرُ تَفْصِيلِهَا وَسَمَاعُ جَوَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِنِّي أَذْكُرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ مَعَ الْأَكَابِرِ، وَتَقْدِيمُ الِاعْتِذَارِ قَبْلَ تَبْلِيغِ مَا يَظُنُّ الْمُبَلِّغُ أَنَّ الْمُبَلَّغَ يَكْرَهُهُ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ الْفَضْلُ مِثْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُخَالَفَةِ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْإِبْهَامِ أَنَّ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِهَا كَلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَلِذَلِكَ أَشْكَلَ أَمْرُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ كَذَلِكَ. وَوَقَعَ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَلِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِهِ: سَمِعْتُ ذَلِكَ - أَيِ: الْقَوْلَ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُهُ - مِنَ الْفَضْلِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَتَلَوَّنَ وَجْهُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي الْفَضْلُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَعْلَمُ) أَيْ: بِمَا رَوَى وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لَا عَلَيَّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: وَهُنَّ أَعْلَمُ أَيْ: أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ؟ قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ وَهَذَا يُرَجِّحُ رِوَايَةَ النَّسَفِيِّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ هِيَ - أَيْ: عَائِشَةُ - أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَّا وَزَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ فُتْيَاهُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَيَعْلَى بْنِ عُقْبَةَ، وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَحَالَ بِذَلِكَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّمَا كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِيهَا: إِنَّمَا حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ أَبْهَمَ الرَّجُلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا تَارَةً مُبْهَمًا وَتَارَةً مُفَسَّرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدًا، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ فَفِي آخِرِهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَكَذَا كُنْتُ أَحْسَبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ. وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ) أَمَّا رِوَايَةُ هَمَّامٍ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ - صَلَاةِ الصُّبْحِ - وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ حِينَئِذٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي اسْمِهِ، فَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْهُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِالْفِطْرِ إِذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ جُنُبًا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْهُ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِهِ فَاخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ هَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ مُكَبَّرًا أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ مُصَغَّرًا، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ فَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ التِّينِ قَالَ: لِأَنَّ إِسْنَادَ الْخَبَرِ رَفْعُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الطَّرِيقَ الْأُولَى أَوْضَحُ رَفْعًا، قَالَ: لَكِنِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ اتِّصَالًا.
قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى أَقْوَى إِسْنَادًا، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ الرُّجْحَانِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ جَاءَا عَنْهُمَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ صَحَّ وَتَوَاتَرَ، وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِهِ، وَجَاءَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ هَذَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَلَغَ مَرْوَانَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَعَثَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا أَنَا قُلْتُ: مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ، مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ لَكِنْ بَيَّنَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَمَا مَضَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْفَضْلِ، وَأُسَامَةَ، وَكَأَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ وُثُوقِهِ بِخَبَرِهِمَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَقَدْ أَفْطَرَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. نَعَمْ قَدْ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الْفَتْوَى بِذَلِكَ؛ إِمَّا لِرُجْحَانِ رِوَايَةِ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ صَرِيحًا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا مَعَ مَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا مِنَ الِاحْتِمَالِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِمَّا
لِاعْتِقَادِهِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ نَاسِخًا لِخَبَرِ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ بَقِيَ عَلَى مَقَالَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَأَمَّا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: صَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا أَوْ كَالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ مِنَ الْآخِذِينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ تَعَمَّدَ الْجَنَابَةَ وَبَيْنَ مَنِ احْتَلَمَ، كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُهَزِّمِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَقْضِيهِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطَاءً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ فَأَرَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَقْضِيَ اهـ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ رُجُوعُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ صَرِيحًا فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ.
وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ أَيْضًا، وَالَّذِي نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ اسْتِحْبَابُهُ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ وَعَنِ النَّخَعِيِّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ فِي الْفَرْضِ وَالْإِجْزَاءَ فِي التَّطَوُّعِ، وَوَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَابْنِ التِّينِ، وَالنَّوَوِيِّ، وَالْفَاكِهِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُغَايِرَاتٌ فِي نِسْبَتِهَا لِقَائِلِهَا، وَالْمُعْتَمَدُ مَا حَرَّرْتُهُ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ كُلَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ، وَأَمَّا الْمُحْتَلِمُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا النَّقْلُ مُعْتَرَضٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ لَيْلًا فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَيْقَظَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ ال فَجْرُ ثُمَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: فَاسْتَفْتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَفْطِرْ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنِ احْتَلَمَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ فَلَا يَصُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ. وَحَمَلَ الْقَائِلُونَ بِفَسَادِ صِيَامِ الْجُنُبِ حَدِيثَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ آخَرُونَ: يَكُونُ حُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ وَحُكْمُ النَّاسِ عَلَى مَا حَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَبِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهَا، وَتَرْجَمَ بِذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنِ الْمُصْطَفَى مَخْصُوصًا بِهِ ثُمَّ أَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ - أَيْ: صَلَاةُ الصُّبْحِ - وَأَنَا جُنُبٌ، أَفَأَصُومُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ. فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي.
وَذَكَرَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ تَوَهَّمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ غَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ بَلْ أَحَالَ عَلَى رِوَايَةِ صَادِقٍ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ فَرْضِ الصِّيَامِ كَانَ مَنَعَ فِي لَيْلِ الصَّوْمِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْفَضْلِ كَانَ حِينَئِذٍ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَكَانَ لِلْمُجَامِعِ أَنْ يَسْتَمِرَّ إِلَى طُلُوعِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ اغْتِسَالُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْفَضْلِ وَلَمْ يَبْلُغِ الْفَضْلَ وَلَا أَبَا هُرَيْرَةَ النَّاسِخُ، فَاسْتَمَرَّ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْفُتْيَا بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُ.
قُلْتُ: وَيُقَوِّيهِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا الْأَخِيرِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ وَأَشَارَ إِلَى آيَةِ الْفَتْحِ وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَابْتِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِلَى دَعْوَى النَّسْخِ فِيهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْوَطْءِ فِي لَيْلَةِ الصَّوْمِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْوَقْتُ الْمُقَارِنُ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَيَلْزَمُ إِبَاحَةُ الْجِمَاعِ فِيهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُصْبِحَ فَاعِلُ ذَلِكَ جُنُبًا وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، فَإِنَّ إِبَاحَةَ التَّسَبُّبِ لِلشَّيْءِ إِبَاحَةٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.
قُلْتُ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ سُلُوكِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ وَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَةِ أُمِّ سَلَمَةَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ اثْنَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا وَهُمَا زَوْجَتَانِ، وَهُمَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا تُوَافِقُ الْمَنْقُولَ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَدْلُولِ الْآيَةِ، وَالْمَعْقُولَ وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ شَيْءٌ وَجَبَ بِالْإِنْزَالِ، وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ شَيْءٌ يَحْرُمُ عَلَى صَائِمٍ، فَقَدْ يَحْتَلِمُ بِالنَّهَارِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَلْ يُتِمُّ صَوْمَهُ إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ إِذَا احْتَلَمَ لَيْلًا بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الصَّائِمُ مِنْ تَعَمُّدِ الْجِمَاعِ نَهَارًا. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يُمْنَعُ مِنَ التَّطَيُّبِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، لَكِنْ لَوْ تَطَيَّبَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَبَقِيَ عَلَيْهِ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْحَدَيثَيْنِ بأَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْرُ إِرْشَادٍ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَوْ خَالَفَ جَازَ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ سُلُوكُ التَّرْجِيحِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ سُلُوكُ النَّسْخِ، وَيُعَكِّرُ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْإِرْشَادِ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْأَمْرِ بِالْفِطْرِ وَبِالنَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟
وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَدْرَكَهُ مُجَامِعًا فَاسْتَدَامَ بَعْدَ طُلُوعِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: مَنِ احْتَلَمَ وَعَلِمَ بِاحْتِلَامِهِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى أَصْبَحَ فَلَا يَصُومُ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سَقَطَ لَا مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَلَا يُفْطِرْ فَلَمَّا سَقَطَ لَا صَارَ فَلْيُفْطِرْ وَهَذَا بَعِيدٌ بَلْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَنَّهَا يَطْرُقُهَا مِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَكَأَنَّ قَائِلَهُ مَا وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: دُخُولُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمُذَاكَرَتُهُمْ إِيَّاهُمْ بِالْعِلْمِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنِ اهْتِمَامِهِ بِالْعِلْمِ وَمَسَائِلِ الدِّينِ. وَفِيهِ الِاسْتِثْبَاتُ فِي النَّقْلِ وَالرُّجُوعُ فِي الْمَعَانِي إِلَى الْأَعْلَمِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا نُوزِعَ فِيهِ رُدَّ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُهُ، وَتَرْجِيحُ مَرْوِيِّ النِّسَاءِ فِيمَا لَهُنَّ عَلَيْهِ الِاطِّلَاعُ دُونَ الرِّجَالِ عَلَى مَرْوِيِّ الرِّجَالِ كَعَكْسِهِ، وَأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْأَمْرِ أَعْلَمُ بِهِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالِائْتِسَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَفْعَالِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ، وَأَنَّ لِلْمَفْضُولِ إِذَا سَمِعَ مِنَ الْأَفْضَلِ خِلَافَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِيهِ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ فِيهِ كَالرَّجُلِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لِاعْتِرَافِهِ بِالْحَقِّ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْإِرْسَالَ عَنِ الْعُدُولِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِنَّمَا بَيَّنَهَا لِمَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَفِيهِ الْأَدَبُ مَعَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُبَادَرَةُ لِامْتِثَالِ أَمْرِ ذِي الْأَمْرِ إِذَا كَانَ طَاعَةً، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ.
(تَكْمِيلٌ): فِي مَعْنَى الْجُنُبِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لَيْلًا ثُمَّ طَلَعَ الْفَجْرُ قَبْلَ اغْتِسَالِهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً صِحَّةُ صَوْمِهَا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ صَحَّ عَنْهُ أَوْ لَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، لَكِنْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَيْضًا، وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَوَصَفَ قَوْلَهُ بِالشُّذُوذِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهَا إِذَا أَخَّرَتْ غُسْلَهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَيَوْمُهَا يَوْمُ فِطْرٍ؛ لِأَنَّهَا فِي بَعْضِهِ غَيْرُ طَاهِرَةٍ، قَالَ: وَلَيْسَ كَالَّذِي يُصْبِحُ جُنُبًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ لَا يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَالْحَيْضُ يَنْقُضُهُ.
23 - بَاب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا
1927 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ.
وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَآرِبُ} حَاجَةٌ. قَالَ طَاوُسٌ: {أُولِي الإِرْبَةِ} الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ.
وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه.
[الحديث 1927 - طرفه في: 1928]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ) أَيْ: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَأَصْلُ الْمُبَاشَرَةِ الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ سَوَاءٌ أَوْلَجَ أَوْ لَمْ يُولِجْ. وَلَيْسَ الْجِمَاعُ مُرَادًا بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا) وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عِقَالٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا يَحْرُمُ عَلَيَّ مِنِ امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: فَرْجُهَا إِسْنَادُهُ إِلَى حَكِيمٍ صَحِيحٌ، وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ صَائِمًا؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ بِمُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ دَالٌ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ فَلَيْسَ فِي شُيُوخِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَحَدٌ اسْمُهُ سَعِيدٌ حَدَّثَهُ عَنِ الْحَكَمِ، الْحَكَمُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَلَى الصَّوَابِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلْقَمَةَ، وَشُرَيْحَ بْنَ أَرْطَاةَ رَجُلَانِ مِنَ النَّخَعِ كَانَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: سَلْهَا عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ. قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرْفُثَ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَاهُ غُنْدَرٌ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ شُعْبَةَ فَقَالُوا عَنْ عَلْقَمَةَ وَحَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: عَنِ الْأَسْوَدِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَصَرَّحَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ حَمْزَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَكَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ عَنْ شُعْبَةَ فَلَعَلَّ شُعْبَةَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِلَّا فَأَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ لَمْ يَقُولُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الْأَسْوَدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَرِوَايَةِ يُوسُفَ الْمُتَقَدِّمَةِ وَصُورَتُهَا الْإِرْسَالُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِطَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَشُرَيْحٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالِاخْتِلَافَ عَلَى الْحَكَمِ وَعَلَى الْأَعْمَشِ وَعَلَى مَنْصُورٍ وَعَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، كُلُّهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: خَرَجَ نَفَرٌ مِنَ النَّخَعِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُدْعَى شُرَيْحًا فَحَدَّثَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ رَأْسَكَ بِالْقَوْسِ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: فَلْيَكُفَّ عَنِّي حَتَّى نَأْتِيَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ; فَلَمَّا أَتَوْهَا قَالُوا لِعَلْقَمَةَ: سَلْهَا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرْفُثَ عِنْدَهَا الْيَوْمَ، فَسَمِعَتْهُ فَقَالَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ فَجَعَلَ شُرَيْحًا هُوَ الْمُنَكَّرَ، وَأَبْهَمَ الَّذِي حَدَّثَ بِذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ اسْتَوْعَبَ النَّسَائِيُّ طُرُقَهُ، وَعُرِفَ مِنْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ جَمِيعًا، فَلَعَلَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَتَارَةً يَجْمَعُ وَتَارَةً يُفَرِّقُ، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: كُلُّهَا صِحَاحٌ، وَعُرِفَ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلِ سَبَبُ تَحْدِيثِ عَائِشَةَ بِذَلِكَ وَاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهَا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهَا: وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ. فَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِمَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ دُونَ مَنْ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يَحْرُمُ.
وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: قَالَ الْأَسْوَدُ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُبَاشِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَتْ: لَا. قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا اعْتَقَدَتْ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ: وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهَا. وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ - يَعْنِي: الْآتِي ذِكْرُهُ - أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْوَاقِعَةِ. قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ صَرِيحًا إِبَاحَةُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ بِحَمْلِ النَّهْيِ هُنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تُنَافِي الْإِبَاحَةَ. وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لِيُوسُفَ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَكَرِهَتْهَا، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَصْدِيرِ الْبُخَارِيِّ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ مُرَادَهَا بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي طَرِيقِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرَى بِتَحْرِيمِهَا وَلَا بِكَوْنِهَا مِنَ الْخَصَائِصِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ فَتُلَاعِبَهَا وَتُقَبِّلَهَا؟ قَالَ: أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ) التَّقْبِيلُ أَخَصُّ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: كَانَ يُقَبِّلُ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ: فَكَرِهَهَا قَوْمٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْقُبْلَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ قَوْمٍ تَحْرِيمَهَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الْآيَةَ. فَمَنَعَ الْمُبَاشَرَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهَارًا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ نَهَارًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ لَا مَا دُونَهُ مِنْ قُبْلَةٍ وَنَحْوِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ أَفْتَى بِإِفْطَارِ مَنْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَنَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَألْزَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَهْلَ الْقِيَاسِ أَنْ يُلْحِقُوا الصِّيَامَ بِالْحَجِّ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَمُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إِبْطَالِهِمَا بِالْجِمَاعِ، وَأَبَاحَ الْقُبْلَةَ قَوْمٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَحِيحًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدٌ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَائِفَةٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَاسْتَحَبَّهَا، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ، فَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ وَأَبَاحَهَا لِلشَّيْخِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثَانِ مَرْفُوعَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْآخَرُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ وَكَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
لِلصَّائِمِ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ أَنْ يُقَبِّلَ وَإِلَّا فَلَا; لِيَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ: سَلْ هَذِهِ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّابَّ وَالشَّيْخَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَئِذٍ كَانَ شَابًّا، وَلَعَلَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَا بَلَغَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ زَوْجُهَا: يُرَخِّصُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِيمَا يَشَاءُ. فَرَجَعَتْ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَتْقَاكُمْ وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ، لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ قَالَ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ مُطَوَّلًا. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا بَاشَرَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ نَظَرَ، فَأَنْزَلَ أَوْ أَمَذَى، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ: يَقْضِي إِذَا أَنْزَلَ فِي غَيْرِ النَّظَرِ، وَلَا قَضَاءَ فِي الْإِمْذَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: يَقْضِي فِي كُلِّ ذَلِكَ وَيُكَفِّرُ، إِلَّا فِي الْإِمْذَاءِ فَيَقْضِي فَقَطْ.
وَاحْتُجَّ لَهُ بِأَنَّ الْإِنْزَالَ أَقْصَى مَا يُطْلَبُ بِالْجِمَاعِ مِنَ الِالْتِذَاذِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ عُلِّقَتْ بِالْجِمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ فَافْتَرَقَا.
وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِيمَنْ بَاشَرَ أَوْ قَبَّلَ فَأَنْعَظَ وَلَمْ يُمْذِ وَلَا أَنْزَلَ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ حُذَيْفَةَ: مَنْ تَأَمَّلَ خَلْقَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ صَائِمٌ بَطَلَ صَوْمُهُ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَبَّلَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَوْ أَنْزَلَ، وَقَوَّى ذَلِكَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَسَأَذْكُرُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (لِأَرَبِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: حَاجَتُهُ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: عُضْوُهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَإِلَى تَرْجِيحِهِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِمَا أَوْرَدَهُ مِنَ التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. مَأْرَبٌ حَاجَةٌ) مَأْرَبٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ: حَاجَةٌ أُخْرَى، كَذَا فِيهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهَا حَاجَاتٌ أَوْ حَوَائِجُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ: حَوَائِجُ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ {غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ:{غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} قَالَ: هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي النِّسَاءِ حَاجَةٌ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْأَثَرُ بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ السِّلَفِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: لِأَرَبِهِ وَرَأَيْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ هُنَا قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - أَيْ: فِي تَفْسِيرِ {أُولِي الإِرْبَةِ} -: الْمُقْعَدُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَعْتُوهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْعِنِّينُ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُطْبَ لَمَّا أَخْرَجَ أَثَرَ طَاوُسٍ قَالَ بَعْدَهُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُقْعَدُ. . . إِلَخْ وَلَمْ يُرِدِ الْقُطْبُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الْقُطْبُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ هَرَمٍ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَأَمْنَى مِنْ شَهْوَتِهَا، هَلْ يُفْطِرُ؟ قَالَ: لَا، وَيُتِمُّ صَوْمَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ قَرِيبًا.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هَذَا الْأَثَرُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْبَابَيْنِ مَعًا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابَيْنِ مِنْ جِهَةِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ بِاخْتِيَارِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
24 - بَاب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
1928 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ.
1929 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا رضي الله عنهما قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمِيلَةِ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ: مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: الْقُبْلَةُ لِلصَّائِمِ) أَيْ: بَيَانُ حُكْمِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَقَدْ أَحَالَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَتْنِ عَلَى طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ وَلَيْسَ بَيْنَ لَفْظِهِمَا مُخَالَفَةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِلَفْظِ: كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ هِشَامٌ: قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ، فَقَالَ عُرْوَةُ لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ تَدْعُو إِلَى خَيْرٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامٍ عَقِبَ الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: ثُمَّ ضَحِكَتْ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ ضَحِكَتْ يَحْتَمِلُ ضَحِكَهَا لِلتَّعَجُّبِ مِمَّنْ خَالَفَ فِي هَذَا، وَقِيلَ: تَعَجَّبَتْ مِنْ نَفْسِهَا إِذْ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا يُسْتَحَيى مِنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ مِثْلَهُ لِلرِّجَالِ، وَلَكِنَّهَا أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ فِي تَبْلِيغِ الْعِلْمِ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّحِكُ خَجَلًا لِإِخْبَارِهَا عَنْ نَفْسِهَا بِذَلِكَ، أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الثِّقَةِ بِهَا، أَوْ سُرُورًا بِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْزِلَتِهَا مِنْهُ وَمَحَبَّتِهِ لَهَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَضَحِكَتْ، فَظَنَنَّا أَنَّهَا هِيَ وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْوَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُقَبِّلَنِي، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمَةٌ. فَقَالَ: وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَبَّلَنِي. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَتَأَثَّرُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيلِ، لَا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ شَابَّةً، نَعَمْ لَمَّا كَانَ الشَّابُّ مَظِنَّةً لِهَيَجَانِ الشَّهْوَةِ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُقَبِّلِ، فَإِنْ أَثَارَتْ مِنْهُ الْقُبْلَةُ الْإِنْزَالَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّائِمُ، فَكَذَلِكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْهَا الْمَذْيُ فَمَنْ رَأَى الْقَضَاءَ مِنْهُ قَالَ: يَحْرُمُ فِي حَقِّهِ. وَمَنْ رَأَى أَنْ لَا قَضَاءَ قَالَ: يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ الْقُبْلَةُ إِلَى شَيْءٍ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ. قَالَ: وَمِنْ بَدِيعِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلسَّائِلِ عَنْهَا: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ فَأَشَارَ إِلَى فِقْهٍ بَدِيعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَا تَنْقُضُ الصَّوْمَ وَهِيَ أَوَّلُ الشُّرْبِ وَمِفْتَاحُهُ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَمِفْتَاحِهِ، وَالشُّرْبُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا يُفْسِدُهُ الْجِمَاعُ، وَكَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَوَائِلَ الشُّرْبِ لَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ، فَكَذَلِكَ أَوَائِلُ الْجِمَاعِ اهـ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، قَالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ
حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهَا: وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا شَاهِدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْقُبْلَةُ فِي الصَّوْمِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ لَكِنَّ الْأَوْلَى لَهُ تَرْكُهَا، وَأَمَّا مَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ فَهِيَ حَرَامٌ فِي حَقِّهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: مَكْرُوهَةٌ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ إِبَاحَتَهَا فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ إِلَّا إِنْ أَنْزَلَ بِهَا. (تَنْبِيهٌ): رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مِصْدَعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَيَمُصُّ لِسَانَهَا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْتَلِعْ رِيقَهُ الَّذِي خَالَطَ رِيقَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
25 - بَاب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ.
وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ. وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوْ الشَّيْءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلًا. وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ لِي أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ.
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اسْتَاكَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَلَا يَبْلَعُ رِيقَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ ازْدَرَدَ رِيقَهُ لَا أَقُولُ يُفْطِرُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ: لَهُ طَعْمٌ، قَالَ: وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ.
وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا
1930 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ جنبا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ.
1931 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي، فَذَهَبْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُهُ.
1932 -
ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اغْتِسَالِ الصَّائِمِ) أَيْ: بَيَانُ جَوَازِهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَطْلَقَ الِاغْتِسَالَ لِيَشْمَلَ الْأَغْسَالَ الْمَسْنُونَةَ وَالْوَاجِبَةَ وَالْمُبَاحَةَ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنَ النَّهْيِ عَنْ دُخُولِ الصَّائِمِ الْحَمَّامَ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاعْتَمَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ فَكَرِهُوا الِاغْتِسَالَ لِلصَّائِمِ.
قَوْلُهُ: (وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبًا فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَلْقَاهُ وَهَذَا وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَلَلَ الثَّوْبِ إِذَا طَالَتْ إِقَامَتُهُ عَلَى الْجَسَدِ حَتَّى جَفَّ يُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدَّلْكِ
بِالْمَاءِ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مُعَارَضَةَ مَا جَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِأَقْوَى مِنْهُ، فَإِنَّ وَكِيعًا رَوَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُغِيرَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلصَّائِمِ بَلَّ الثِّيَابِ.
قَوْلُهُ: (وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ) - بِكَسْرِ الْقَافِ - أَيْ: طَعَامَ الْقِدْرِ أَوِ الشَّيْءَ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَاعَمَ الْقِدْرَ وَرُوِّينَاهُ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَاعَمَ الصَّائِمُ بِالشَّيْءِ يَعْنِي: الْمَرَقَةَ وَنَحْوَهَا. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُنَافِ الصَّوْمَ إِدْخَالُ الطَّعَامِ فِي الْفَمِ وَتَطَعُّمُهُ وَتَقْرِيبُهُ مِنَ الِازْدِرَادِ لَمْ يُنَافِهِ إِيصَالُهُ الْمَاءَ إِلَى بَشَرَةِ الْجَسَدِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ بَعْضُهُ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرَجِ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ - وَهُوَ صَائِمٌ - مِنَ الْعَطَشِ أَوْ مِنَ الْحَرِّ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْمَضَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلًا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِادِّهَانَ مِنَ اللَّيْلِ يَقْتَضِي اسْتِصْحَابَ أَثَرِهِ فِي النَّهارِ، وَهُوَ مِمَّا يُرَطِّبُ الدِّمَاغَ وَيُقَوِّي النَّفْسَ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِبَرْدِ الِاغْتِسَالِ لَحْظَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ يَذْهَبُ أَثَرُهُ. قُلْتُ: وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِاغْتِسَالِ لَعَلَّهُ سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ اسْتِحْبَابِ التَّقَشُّفِ فِي الصِّيَامِ كَمَا وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ، وَالِادِّهَانُ وَالتَّرَجُّلُ فِي مُخَالَفَةِ التَّقَشُّفِ كَالِاغْتِسَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ الْكَبِيرُ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الِاغْتِسَالَ لِلصَّائِمِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَرِهَهُ خَشْيَةَ وُصُولِ الْمَاءِ حَلْقَهُ فَالْعِلَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْمَضْمَضَةِ وَالسِّوَاكِ وَبِذَوْقِ الْقِدْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَرِهَهُ لِلرَّفَاهِيَةِ فَقَدِ اسْتَحَبَّ السَّلَفُ لِلصَّائِمِ التَّرَفُّهَ وَالتَّجَمُّلَ بِالتَّرَجُّلِ وَالِادِّهَانِ وَالْكُحْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سَاقَ هَذِهِ الْآثَارَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ لِي أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ) الْأَبْزَنُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ: حَجَرٌ مَنْقُورٌ شَبَهُ الْحَوْضِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصْرِفْهُ. وَأَتَقَحَّمُ فِيهِ أَيْ: أَدْخُلُ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ لِي أَبْزَنَ إِذَا وَجَدْتُ الْحَرَّ تَقَحَّمْتُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ وَكَأَنَّ الْأَبْزَنَ كَانَ مَلْآنَ مَاءً فَكَانَ أَنَسٌ إِذَا وَجَدَ الْحَرَّ دَخَلَ فِيهِ يَتَبَرَّدُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظِهِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرُوحَ إِلَى الظُّهْرِ وَهُوَ صَائِمٌ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ قَرِيبَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَطَعُّمِ الْقِدْرِ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَآخِرُهُ: وَلَا يَبْلَعُ رِيقَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ: لَهُ طَعْمٌ. قَالَ: وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ الْمَازِنِيِّ قَالَ: أَتَى ابْنَ سِيرِينَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَرَى فِي السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ: إِنَّهُ جَرِيدٌ وَلَهُ طَعْمٌ قَالَ: فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا) أَمَّا أَنَسٌ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَهُ، وَأَمَّا الْحَسَنُ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَاخْتُلِفَ عَنْهُ: فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرٍ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ يَزِيدَ سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ: أَيَكْتَحِلُ الصَّائِمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَجِدُ طَعْمَ الصَّبْرِ فِي حَلْقِي. قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عِيسَى عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْرَهُ الْكُحْلَ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُرَخِّصُ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالصَّبْرِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ مَا لَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيَصُومُ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهَا وَحَدِيثِ أُمِّ سَلِمَةَ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَبْلَ بَابَيْنِ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
26 - بَاب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
1933 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ.
[الحديث 1933 - طرفه في 6669]
قَوْلُهُ: (بَابٌ الصَّائِمُ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا) أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَوْ لَا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ مَشْهُورَةٌ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَعَنْ مَالِكٍ يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِهِ رَبِيعٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، لَكِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، أَوْ أَوَّلَهُ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنِ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ) أَيْ: دَفْعَ الْمَاءِ بِأَنْ غَلَبَهُ، فَإِنْ مَلَكَ دَفْعَ الْمَاءِ فَلَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى دَخَلَ حَلْقَهُ أَفْطَرَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ: لَا بَأْسَ، لَمْ يَمْلِكْ بِإِسْقَاطِ إِنْ وَهِيَ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: لَا بَأْسَ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِنْسَانٌ يَسْتَنْثِرُ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ. قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَالَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ عَنِ ابْنِ أَبِي جُرَيْجٍ إنَّ إِنْسَانًا قَالَ لِعَطَاءٍ: أُمَضْمِضُ فَيَدْخُلُ الْمَاءُ فِي حَلْقِي. قَالَ: لَا بَأْسَ، لَمْ يَمْلِكْ وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ الذُّبَابُ فِي حَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ فِي حَلْقِهِ الذُّبَابُ وَهُوَ صَائِمٌ، قَالَ: لَا يُفْطِرُ وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا يُفْطِرُ وَمُنَاسَبَةُ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَغْلُوبَ بِدُخُولِ الْمَاءِ حَلْقَهُ أَوِ الذُّبَابِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَالنَّاسِي، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَدْخَلَ الْمَغْلُوبَ فِي تَرْجَمَةِ النَّاسِي لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي تَرْكِ الْعَمْدِ وَسَلْبِ الِاخْتِيَارِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي حَلْقِهِ الذُّبَابُ وَهُوَ صَائِمٌ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَكِنْ نَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ. حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: دُخُولُ الذُّبَابِ أَقْعَدُ بِالْغَلَبَةِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْ دُخُولِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الذُّبَابَ يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْشَاقِ وَالْمَضْمَضَةِ فَإِنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ تَسَبُّبِهِ، وَفَرَّقَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ حَالَ الْمَضْمَضَةِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ دُونَ النَّاسِي، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ إِنْ كَانَ لِصَلَاةٍ فَلَا قَضَاءَ وَإِلَّا قَضَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ
الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) هَذَانِ الْأَثَرَانِ وَصَلَهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَوْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَظَهَرَ بِأَثَرِ الْحَسَنِ هَذَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطَاءً عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ امْرَأَتَهُ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ، قَالَ: لَا يَنْسَى، هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَابَعَ عَطَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا، وَحُجَّتُهُمْ قُصُورُ حَالَةِ الْمُجَامِعِ نَاسِيًا عَنْ حَالَةِ الْآكِلِ، وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ أَكَلَ كَثِيرًا لِنُدُورِ نِسْيَانِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَاتَ رُكْنُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَأْمُورَاتِ. قَالَ: وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الْقَضَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ، وَسَمَّى الَّذِي يُتَمُّ صَوْمًا، وَظَاهِرُهُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَيُتَمَسَّكُ بِهِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّوْمِ هُنَا حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَذَا إِلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَصَّارِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ أَيِ: الَّذِي كَانَ دَخَلَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْقَضَاءِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ؛ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ مَسْلُوبُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ أَفْطَرَ لَأُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْغَالِبِ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْجِمَاعِ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَذِكْرُ الْغَالِبِ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَكْلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُ قَضَاءً، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْإِفْسَادِ هَلْ يُوجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةَ أَوْ لَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُهَا، وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ عَلَى قُصُورِ حَالَةِ الْمَجَامِعِ نَاسِيًا عَنْ حَالَةِ الْآكِلِ، وَمَنْ أَرَادَ إِلْحَاقَ الْجِمَاعِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ مُتَعَذِّرٌ، إِلَّا إنْ بَيَّنَ الْقَائِسُ أَنَّ الْوَصْفَ الْفَارِقَ مُلْغًى اهـ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَنِ الْمَجَامِعِ مَأْخُوذٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِالذِّكْرِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى لِكَوْنِهِمَا أَغْلَبَ وُقُوعًا، وَلِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمَا غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامٍ: مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي النَّذْرِ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَأَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: فَلَا يُفْطِرْ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ. ولِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ: فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تَمَسَّكَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَطَلَّعَ مَالِكٌ إِلَى الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِهَا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ ضِدُّ الصَّوْمِ وَالْإِمْسَاكَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَسِيَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْكَ فَتَأَوَّلَهُ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْكَ الْآنَ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ، وَإِنَّمَا أَقُولُ: لَيْتَهُ صَحَّ فَنَتَّبِعُهُ وَنَقُولُ بِهِ، إِلَّا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا جَاءَ بِخِلَافِ الْقَوَاعِدِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْمُوَافِقُ لِلْقَاعِدَةِ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ عَمِلْنَا بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يُوَافِقُهَا فَلَمْ نَعْمَلُ بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ احْتَجَّ بِهِ
مَنْ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِلْقَضَاءِ فَيُحْمَلُ عَلَى سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ صِيَامُ يَوْمٍ لَا خَرْمَ فِيهِ، لَكِنْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ سُقُوطَ الْقَضَاءِ وَهُوَ نَصٌّ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ وَسَقَطَ الْقَضَاءُ اهـ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَنِ ابْنِ شَعْبَانَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَاعْتُلَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ رَمَضَانَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّطَوُّعِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ إِثْبَات الِقَضَاءٍ فَيُحْمَلُ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ، وَإِثْبَاتِ عُذُرِهِ، وَرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُ، وَبَقَاءِ نِيَّتِهِ الَّتِي بَيَّتَهَا اهـ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ فَعَيَّنَ رَمَضَانَ وَصَرَّحَ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيِّ وَبِأَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَنْصَارِيِّ فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِذِكْرِ إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ فَقَطْ لَا بِتَعْيِينِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَفْظُهُ: فِي الرَّجُلِ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، فَقَالَ: اللَّهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ وَقَدْ وَرَدَ إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَلَفْظُهُ: فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
قُلْتُ: لَكِنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا إِسْقَاطَ الْقَضَاءِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: مَنْ أَكَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِسْنَادُهُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ صَالِحٌ لِلْمُتَابَعَةِ، فَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا فَيَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ، وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَدْ أَفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُمْ مِنْهُمْ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فَالنِّسْيَانُ لَيْسَ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ، وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ بِعَمْدِ الْأَكْلِ لَا بِنِسْيَانِهِ فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ، وَرَدُّهُ لِلْحَدِيثِ مَعَ صِحَّتِهِ بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ قَاعِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِالصِّيَامِ فَمَنْ عَارَضَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ أَدْخَلَ قَاعِدَةً فِي قَاعِدَةٍ، وَلَوْ فُتِحَ بَابُ رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِمِثْلِ هَذَا لَمَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَفِي الْحَدِيثِ لُطْفُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَالتَّيْسِيرُ عَلَيْهِمْ وَرَفْعُ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ
عَنْهُمَ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبًا، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ دِينَارٍ عَنْ مَوْلَاتِهَا أُمِّ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَأَكَلَتْ مَعَهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ صَائِمَةً، فَقَالَ لَهَا ذُو الْيَدَيْنِ: الْآنَ بَعْدَ مَا شَبِعْتِ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتِمِّي صَوْمَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْأَكْلِ وَكَثِيرِهِ.
وَمِنَ الْمُسْتَظْرَفَاتِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ إِنْسَانًا جَاءَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَنَسِيتُ فَطَعِمْتُ، قَالَ: لَا بَأْسَ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى إِنْسَانٍ فَنَسِيتُ وَطَعِمْتُ وَشَرِبْتُ، قَالَ: لَا بَأْسَ، اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ. ثُمَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى آخَرَ فَنَسِيتُ فَطَعِمْتُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنْتَ إِنْسَانٌ لَمْ تَتَعَوَّدِ الصِّيَامَ.
27 - بَاب سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي ولا أَعُدُّ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ.
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ رِيقَهُ.
1934 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُمْرَانَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ رضي الله عنه تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمَرْفِقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وَضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَابُ السِّوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لِلصَّائِمِ الِاسْتِيَاكَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ قِيَاسُ ابْنِ سِيرِينَ السِّوَاكَ الرَّطْبَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يُتَمَضْمَضُ بِهِ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ النُّكْتَةُ فِي إِيرَادِ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَقَالَ فِيهِ: مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَائِمٍ وَمُفْطِرٍ، وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: كُنْتُ لَا أُخْرِجُ حَدِيثَ عَاصِمٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا شُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ قَدْ رَوَيَا عَنْهُ، وَرَوَى يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْهُ خَبَرًا فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ. قُلْتُ: وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالذُّهْلِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ إِشْعَارُهُ بِمُلَازَمَةِ السِّوَاكِ وَلَمْ يَخُصَّ رَطْبًا مِنْ يَابِسٍ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَنِّفِ فِي أَنَّ الْمُطْلَقَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْعُمُومِ، أَوْ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَلَمْ يَخُصَّ صَائِمًا مِنْ غَيْرِهِ أَيْ: وَلَمْ يَخُصَّ أَيْضًا رَطْبًا مِنْ يَابِسٍ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ جَمِيعِ مَا أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَالْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَخَذَ الْبُخَارِيُّ شَرْعِيَّةَ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بِالدَّلِيلِ الْخَاصِّ، ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ أَعَمِّ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ أَحْوَالَ مُتَنَاوِلِ السِّوَاكِ وَأَحْوَالَ مَا يُسْتَاكُ بِهِ، ثُمَّ انْتَزَعَ ذَلِكَ مِنْ أَعَمَّ مِنَ السِّوَاكِ وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ إِذْ هِيَ أَبْلَغُ مِنَ السِّوَاكِ الرَّطْبِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَخَالَفَهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالسِّرَاجُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. قَالَ أَبُو يَعْلَى فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ يَبْتَلِعُ رِيقَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي يَبْلَعُ بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ، وَلِلْحَمَوِيِّ يَتَبَلَّعُ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُشَدَّدَةٌ، فَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا أَثَرُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَقْصَى مَا يُخْشَى مِنَ السِّوَاكِ الرَّطْبِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ فِي الْفَمِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ كَمَاءِ الْمَضْمَضَةِ، فَإِذَا قَذَفَهُ مِنْ فِيهِ لَا يَضُرُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَلِعَ رِيقَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الذُّهْلِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرَّاجِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمُ السِّوَاكَ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ السِّوَاكِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ سِوَاكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: لَجَعَلْتُ السِّوَاكَ عَلَيْهِمْ عَزِيمَةً وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَوَصَلَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَقَالَ: رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَصَحُّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ عِنْدِي. قُلْتُ: رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ طَرِيقَ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ قِصَّةً وَهِيَ قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ، فَكَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ يَضَعُ السِّوَاكَ مِنْهُ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ، فَكُلَّمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اسْتَاكَ. ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ تُوبِعَ فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآثَارِ وَالْأَحَادِيثِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَفِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ قَبْلُ.
28 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي فِيهِ مِنْ الْمَاءِ لَا يَضِيرُهُ إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ، وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟ وَلَا يَمْضَغُ الْعِلْكَ، فَإِنْ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لَا أَقُولُ إِنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَا بَأْسَ، لَمْ يَمْلِكْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ) هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي لَمْ يُوصِلْهَا الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَيْنَاهُ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَفِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ عَنْهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ وَلَفْظُهُ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَمْ يُمَيِّزِ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَهُ تَفَقُّهًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ الِاسْتِنْشَاقِ، لَكِنْ وَرَدَ تَمْيِيزُ الصَّائِمِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ; وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِإِيرَادِ أَثَرِ الْحَسَنِ عَقِبَهُ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إِنْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى حَلْقِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنِ اسْتَعَطَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ إِلَّا إِنْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى حَلْقِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيَكْتَحِلُ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الصَّائِمُ يُمَضْمِضُ ثُمَّ يَزْدَرِدُ رِيقَهُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ قَالَ: لَا يَضُرُّهُ، وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ الْبُخَارِيِّ وَمَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ظَاهِرُهُ إِبَاحَةُ الِازْدِرَادِ لِمَا بَقِيَ فِي الْفَمِ مِنْ مَاءِ الْمُضَمْضِمَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ بِلَفْظِ: وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ وَكَأَنَّ ذَا سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. انْتَهَى. وَمَا عَلَى ظَاهِرِ مَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولَةٌ، وَعَلَى مَا وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَبْقَى فِي فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَمُجَّ الْمَاءَ إِلَّا أَثَرُ الْمَاءِ، فَإِذَا بَلَعَ رِيقَهُ لَا يَضُرُّهُ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَصْلِ لَا يَضُرُّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: لَا يَضِيرُهُ بِزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَمْضُغُ الْعِلْكَ. . . إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَيَمْضُغُ الْعِلْكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزِاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: يَمْضُغُ الصَّائِمُ الْعِلْكَ؟ قَالَ: لَا.
قُلْتُ: إِنَّهُ يَمُجُّ رِيقَ الْعِلْكِ وَلَا يَزْدَرِدُهُ وَلَا يَمُصُّهُ
(1)
، قَالَ وَقُلْتُ لَهُ: أَيَتَسَوَّكُ الصَّائِمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: أَيَزْدَرِدُ رِيقَهُ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: فَفَعَلَ، أَيَضُرُّهُ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَضْمَضَةِ فِي بَابِ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الصَّائِمِ فِيمَا يَبْتَلِعُهُ مِمَّا يَجْرِي مَعَ الرِّيقِ مِمَّا بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَحْمٌ. فَأَكَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَكْلِ. وَرَخَّصَ فِي مَضْغِ الْعِلْكِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَ لَا يَتَحَلَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنْ تَحَلَّبَ مِنْهُ شَيْءٌ فَازْدَرَدَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ. انْتَهَى. وَالْعِلْكُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا كَافٌ: كُلُّ مَا يُمْضَغُ وَيَبْقَى فِي الْفَمِ كَالْمُصْطَكَّى وَاللُّبَانِ، فَإِنْ كَانَ يَتَحَلَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْفَمِ فَيَدْخُلُ الْجَوْفَ فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُجَفِّفٌ وَمُعَطِّشٌ فَيُكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.
29 - بَاب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ علة وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ: يَقْضِي
(1)
لعله" قال لا"
يَوْمًا مَكَانَهُ.
1935 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ، فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا.
[الحديث 1935 - طرفه في 6822]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ) أَيْ: عَامِدًا عَالِمًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ) وَصَلَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُطَوَّسِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ، وَإِنْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: أَبُو الْمُطَوَّسِ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُطَوَّسِ لَا أَعْرِفُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ أَيْضًا: تَفَرَّدَ أَبُو الْمُطَوَّسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا أَدْرِي سَمِعَ أَبُوهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا.
قُلْتُ: وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَحَصَلَتْ فِيهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ: الِاضْطِرَابُ وَالْجَهْلُ بِحَالِ أَبِي الْمُطَوَّسِ وَالشَّكُّ فِي سَمَاعِ أَبِيهِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ تَخْتَصُّ بِطَرِيقَةِ الْبُخَارِيِّ فِي اشْتِرَاطِ اللِّقَاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ قِيَاسًا عَلَى الْجِمَاعِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا انْتَهَاكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ بِمَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ عَمْدًا. وَقَرَّرَ ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ آثَارَ الْإِفْطَارِ لِيُفْهَمَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَاحِدٌ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِلَى أَنَّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ، وَأَنَّ الْفِطْرَ بِالْجِمَاعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَأَشَارَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ لَمْ يُجْزَمْ بِهِ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَظَاهِرُهُ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ فِي الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ، بَلْ يَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِ؛ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْقَضَاءِ تَقْتَضِي رَفْعَ الْإِثْمِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقَضَاءِ عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِانْتِهَاكِ بِالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ ظَاهِرٌ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ أَيْ: لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِدْرَاكِ كَمَالِ فَضِيلَةِ الْأَدَاءِ بِالْقَضَاءِ، أَيْ: فِي وَصْفِهِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ يَقْضِي عَنْهُ فِي وَصْفِهِ الْعَامِّ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِهْدَارُ الْقَضَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَسِيَاقُ أَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) أَيْ: بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِّينَاهُ عَالِيًا فِي جُزْءِ هِلَالٍ الْحَفَّارِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ فُلَانِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ثُمَّ قَضَى طُولَ الدَّهْرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادٍ لَهُ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيمَا أَوْصَاهُ بِهِ: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ أَجْمَعَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ: يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) أَمَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَوَصَلَهُ مُسَدَّدٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ، قَالَ: يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَمْ أَرَ عَنْهُ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فِي الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ، بَلْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ قَالَ: كَتَبَ أَبُو قِلَابَةَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، قَالَ: يَصُومُ شَهْرًا. قُلْتُ: فَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: صِيَامُ شَهْرٍ. قَالَ: فَعَدَدْتُ أَيَّامًا، قَالَ: صِيَامُ شَهْرٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا تَخَلَّلَهُ فِطْرُ يَوْمٍ عَمْدًا بَطَلَ التَّتَابُعُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ صِيَامِ شَهْرٍ كَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ بِنَذْرِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ شَهْرٌ، فَقَوْلُهُ: فَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: صِيَامُ شَهْرٍ أَيْ: عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ، والدّارَقُطْنِيُّ مُقْتَضَى هَذَا الِاحْتِمَالِ مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الشَّعْبِيُّ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي رَمَضَانَ عَامِدًا؟ قَالَ: يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ. وَأَمَّا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ هَذَا أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ تَابِعِيَّانِ صَغِيرَانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَوْقَهُمَا قَلِيلًا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَمَّا ابْنُ عَمِّهِ عَبَّادٌ فَمِنْ أَوَاسِطِ التَّابِعِينَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا) قِيلَ: هُوَ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ احْتَرَقَ) سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: هَلَكْتُ وَرِوَايَةُ الِاحْتِرَاقِ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ الْهَلَاكِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْإِثْمِ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ احْتَرَقَ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْوَصْفَ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَامِدًا كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا) هَكَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَفِيهِ: قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي. قَالَ: تَصَدَّقْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا لِي شَيْءٌ، قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا عَلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا؟ فَقَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا. فَقَالَ: أَعْلَى غَيْرِنَا؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَجِيَاعٌ. قَالَ: كُلُوهُ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ حَيْثُ جَزَمَ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْعِتْقِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَفِظَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَصَّهَا عَلَى وَجْهِهَا وَأَوْرَدَتْهَا عَائِشَةُ مُخْتَصَرَةً، أَشَارَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ الطَّحَاوِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِصَارَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُفَسَّرًا وَلَفْظُهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي ظِلِّ فَارِعٍ - يَعْنِي: بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَقَالَ: احْتَرَقْتُ، وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا، قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ذِكْرُ صِيَامِ شَهْرَيْنِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ.
(تَنْبِيهٌ): اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، فَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنْهُ يُكَفِّرُ فِي الْأَكْلِ بِالتَّخْيِيرِ وَفِي الْجِمَاعِ بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ، وَعَنْهُ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يُرَاعَى زَمَانُ الْخَصْبِ وَالْجَدْبِ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ حَالَةُ الْمُكَفِّرِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
30 - بَاب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ
1936 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ - قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: خُذْ هَذا فَتَصَدَّقْ بِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ
[الحديث 1936 - أطرافه في: 1937، 2600، 5368، 6087، 6164، 6709، 6710، 6711، 6821]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ) أَيْ: عَامِدًا عَالِمًا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ) يُعْتِقُ أَوْ يُطْعِمُ وَلَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ (فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ) أَيْ: بِقَدْرِ مَا يَجْزِيهِ) (فَلْيُكَفِّرْ) أَيْ: بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَاجِدًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ عَنِ الذِّمَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنُ عَوْفٍ، هَكَذَا تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْهُمْ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ لِطُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا، مِنْهُمُ: ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَاللَّيْثُ، وَمَعْمَرٌ، وَمَنْصُورٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَشُعَيْبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسَافِرٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَعُقَيْلٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ،
وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَيُونُسُ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَسَأَذْكُرُ مَا عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَخَالَفَهُمْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ: أَخْطَأَ فِيهِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ. قُلْتُ: وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ كَالْجَمَاعَةِ. كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، فَقَدْ جَمَعَهُمَا عَنْهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ حِكَايَةُ خِلَافٍ آخَرَ فِيهِ عَلَى مَنْصُورٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِيهِ عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعُقَيْلٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ حُمَيْدٍ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ) أَصْلُهَا بَيْنَ وَقَدْ تَرِدُ بِغَيْرِ مَا فَتُشْبَعُ الْفَتْحَةُ، وَمِنْ خَاصَّةِ بَيْنَمَا أَنَّهَا تُتَلَقَّى بِـ إِذْ وَبِـ إِذَا حَيْثُ تَجِيءُ لِلْمُفَاجَأَةِ، بِخِلَافِ بَيْنَا فَلَا تُتَلَقَّى بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ وَرَدَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي التَّعْبِيرِ لِمَا تُشْعِرُ الْعِنْدِيَّةُ بِالتَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَعَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، إِلَّا أَنَّ عَبْدَ الْغَنِيِّ فِي الْمُبْهَمَاتِ - وَتَبِعَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ - جَزْمًا بِأَنَّهُ سُلَيْمَانُ أَوْ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ، وَاسْتَنَدَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ وَطِئَهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حَرِّرْ رَقَبَةً، قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبَ صَفْحَةَ رَقَبَتِهِ. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ. قَالَ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا. قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا لَنَا طَعَامٌ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ؛ فَإِنَّ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي قِصَّةِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلًا فَافْتَرَقَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا - فِي كَوْنِهِمَا مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ وَفِي صِفَةِ الْكَفَّارَةِ وَكَوْنِهَا مُرَتَّبَةً وَفِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خِصَالِهَا - اتِّحَادُ الْقِصَّتَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ أَيْضًا مَا يُؤَيِّدُ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَهُمَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِنَ التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ صَخْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَظُنُّ هَذَا وَهْمًا؛ لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ وَوَقَعَ عَلَيْهَا فِي اللَّيْلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بِالنَّهَارِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمضَانَ أَيْ: لَيْلًا بَعْدَ أَنْ ظَاهَرَ، فَلَا يَكُونُ وَهْمًا وَلَا يَلْزَمُ الِاتِّحَادُ، وَوَقَعَ فِي مَبَاحِثِ الْعَامِّ مِنْ شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ مَا يُوهِمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ يَسَارٍ وَهُوَ وَهَمٌ يَظْهَرُ مِنْ تَأَمُّلِ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) زَادَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: جَاءَ رَجُلٌ وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَدُقُّ صَدْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ: يَلْطِمُ وَجْهَهُ وَلِحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ: يَدْعُو وَيْلَهُ وَفِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: وَيُحْثِي عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ هَذَا الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ، وَيُفَرَّقُ بِذَلِكَ بَيْنَ مُصِيبَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَجُوزُ فِي مُصِيبَةِ الدِّينِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الْحَالُ مِنْ شِدَّةِ النَّدَمِ وَصِحَّةِ الْإِقْلَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ هَلَكْتُ) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَقَالَ: إِنَّ الْأَخِرَ هَلَكَ وَالْأَخِرُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بِغَيْرِ مَدٍّ هُوَ الْأَبْعَدُ، وَقِيلَ: الْغَائِبُ، وَقِيلَ: الْأَرْذَلُ.
قَوْلُهُ: (هَلَكْتُ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ احْتَرَقْتُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ: مَا أَرَانِي إِلَّا قَدْ هَلَكْتُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَامِدًا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ وَالِاحْتِرَاقَ مَجَازٌ عَنِ الْعِصْيَانِ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ، وَبَالَغَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ: الْمَاضِي، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى النَّاسِي وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ عَلَى النَّاسِي، وَتَمَسَّكُوا بِتَرْكِ اسْتِفْسَارِهِ عَنْ جِمَاعِهِ هَلْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي الْفِعْلِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْقَوْلِ كَمَا اشْتُهِرَ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ حَالُهُ بِقَوْلِهِ هَلَكْتُ وَاحْتَرَقْتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَامِدًا عَارِفًا بِالتَّحْرِيمِ، وَأَيْضًا فَدُخُولُ النِّسْيَانِ فِي الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَاقِبْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي الْحُدُودِ وَأَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَتَوَجيهُهُ أَنَّ مَجِيئَهُ مُسْتَفْتِيًا
يَقْتَضِي النَّدَمَ وَالتَّوْبَةَ، وَالتَّعْزِيرُ إِنَّمَا جُعِلَ لِلِاسْتِصْلَاحِ وَلَا اسْتِصْلَاحَ مِنَ الصَّلَاحِ، وَأَيْضًا فَلَوْ عُوقِبَ الْمُسْتَفْتِي لَكَانَ
سَبَبًا لِتَرْكِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهِيَ مَفْسَدَةٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَاقَبَ، هَكَذَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لِلْبَغَوِيِّ أَنَّ مَنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَيُعَزَّرُ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا وَقَعَ مِنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَبَنَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مَا لَكَ)؟ بِفَتْحِ اللَّامِ، اسْتِفْهَامٌ عَنْ حَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: وَيْحَكَ، مَا شَأْنُكَ؟ وَلِابْنِ أَبِي حَفْصَةَ: وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟ وَلِعَمْرٍو: مَا ذَاكَ؟ وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ: وَيْحَكَ مَا صَنَعْتَ؟ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ وَتَرْجَمَ بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: وَيْلَكَ وَيْحَكَ ثُمَّ قَالَ عَقِبَهُ: تَابَعَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي: فِي قَوْلِهِ: وَيْحَكَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيْلَكَ. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ مَنْ وَصَلَهُمَا هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَابَعَ ابْنَ خَالِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَيْلَكَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَتَابَعَ الْأَوْزَاعِيَّ فِي قَوْلِهِ: وَيْحَكَ عُقَيْلٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فَهُوَ أَرْجَحُ وَهُوَ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ، فَإِنَّ وَيْحَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ، وَوَيْلَ كَلِمَةُ عَذَابٍ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَصَبْتُ أَهْلِي وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَطِئْتُ امْرَأَتِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيرِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّخْيِيرِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صِيَامَهُ مُطْلَقًا بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا قَوْلُهُ: أَفْطَرَ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِ تَعَدُّدَ الْقِصَّةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا بِقِيَاسِ الْآكِلِ عَلَى الْمُجَامِعِ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ انْتَهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَبِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ فَسَدَ صَوْمُهُ كَمَا يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْجِمَاعِ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمُعْظَمُ الرِّوَايَاتِ فِيهَا وَطِئْتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا وَسَاقَ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مَتْنَهَا أَنَّهُ قَالَ: أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَمَخْرَجُهَا مُتَّحِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَفْطَرْتُ فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَصَبْتُ امْرَأَتِي ظُهْرًا فِي رَمَضَانَ وَتَعْيِينُ رَمَضَانَ مَعْمُولٌ بِمَفْهُومِهِ، وَلِلْفَرْقِ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ فِي الصَّوْمِ بَيْنَ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَالنَّذْرِ، وَفِي كَلَامِ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا صَائِمٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَعْتُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ بَقَاءُ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ صَائِمًا مُجَامِعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَطِئْتُ أَيْ: شَرَعْتُ فِي الْوَطْءِ، أَوْ أَرَادَ جَامَعْتُ بَعْدَ إِذْ أَنَا صَائِمٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي الْيَوْمَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً زَادَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: بِئْسَمَا صَنَعْتَ أَعْتِقْ رَقَبَةً.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ: فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ لَيْسَ عِنْدِي، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا مَلَكْتُ رَقَبَةً قَطُّ وَاسْتُدِلَّ بِإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ السَّبَبَ إِذَا اخْتَلَفَ
وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ هَلْ يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ أَوْ لَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ بِالْقِيَاسِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّقْيِيدُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا)، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ قَالَ: لَا أَقْدِرُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَهَلْ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا إِشْكَالَ فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ اقْتَضَتْ أَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ لِشِدَّةِ شَبَقِهِ وَعَدَمِ صَبْرِهِ عَنِ الْوَقَاعِ فَنَشَأَ لِلشَّافِعِيَّةِ نَظَرٌ: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا - أَيْ: شِدَّةُ الشَّبَقِ - حَتَّى يُعَدَّ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصَّوْمِ أَوْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ يَجِدُ رَقَبَةً لَا غِنَى بِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِهَا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْوَاجِدِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُرْسَلًا، أَنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ إِنِّي لَأَدَعُ الطَّعَامَ سَاعَةً فَمَا أُطِيقُ ذَلِكَ فَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَعَلَّهُ اعْتَلَّ بِالْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا) زَادَ ابْنُ مُسَافِرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ إِطْعَامَ؟، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ: فَتُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا أَجِدُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ: أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا وَذَكَرَ الْحَاجَةَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُشْبِعُ أَهْلِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَضَافَ الْإِطْعَامَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَطْعِمْ إِلَى سِتِّينَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ مَنْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا، وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ الْإِجْزَاءُ حَتَّى لَوْ أَطْعَمَ الْجَمِيعُ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا كَفَى، وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِعْطَاءُ لَا اشْتِرَاطُ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ مِنْ وَضْعِ الْمَطْعُومِ فِي الْفَمِ، بَلْ يَكْفِي الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي إِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُنَاوَلَةٍ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفَرْضِ، فَإِنَّ فِيهَا النَّصَّ عَلَى الْإِيتَاءِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ فِيهَا النَّصَّ عَلَى الْأَدَاءِ، وَفِي ذِكْرِ الْإِطْعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ طَاعِمِينَ فَيَخْرُجُ الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَظَرَ الشَّافِعِيُّ إِلَى النَّوْعِ فَقَالَ: يُسَلَّمُ لِوَلِيِّهِ، وَذَكَرَ السِّتِّينَ لِيُفْهَمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.
وَذُكِرَ فِي حِكْمَةِ هَذِهِ الْخِصَالِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً فَيَفْدِيَ نَفْسَهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَاصَّةِ بِجِنْسِ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَهْرَيْنِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِمُصَابَرَةِ النَّفْسِ فِي حِفْظِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الْوَلَاءِ فَلَمَّا أَفْسَدَ مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كَمَنْ أَفْسَدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ فَكُلِّفَ بِشَهْرَيْنِ مُضَاعَفَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ كُلِّ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكَيْنٍ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ جَامِعَةٌ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَحَقِّ الْأَحْرَارِ بِالْإِطْعَامِ، وَحَقِّ الْأَرِقَّاءِ بِالْإِعْتَاقِ، وَحَقِّ الْجَانِي بِثَوَابِ الِامْتِثَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ فَقَالَ: لَا تَجِبُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا سَقَطَ بِالْإِعْسَارِ، وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ الْإِسْقَاطِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ بَابِ الصَّائِمُ يُصْبِحُ جُنُبًا نَقْلُ الْخِلَافِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِنْعَاظِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُلْحَقُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ كُلُّ وَطْءٍ فِي أَيِّ فَرْجٍ كَانَ؟ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَرَيَانِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ غَيْرَ الْإِطْعَامِ وَلَا يَأْخُذُ بِعِتْقٍ وَلَا صِيَامٍ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهِيَ مُعْضِلَةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَوْجِيهِهَا مَعَ مُصَادَمَةِ
الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْخِصَالِ، وَوَجَّهُوا تَرْجِيحَ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ رُخْصَةً لِلْقَادِرِ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْفَضِيلَةِ فَيَتَرَجَّحُ الْإِطْعَامُ أَيْضًا لِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ فِي حَقِّ الْمُفْطِرِ بِالْعُذْرِ، وَكَذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَلِمُنَاسَبَةِ إِيجَابِ الْإِطْعَامِ لِجَبْرِ فَوَاتِ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ، وَلِشُمُولِ نَفْعِهِ لِلْمَسَاكِينِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا تُقَاوِمُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِتْقِ عَلَى الصِّيَامِ ثُمَّ الْإِطْعَامِ سَوَاءٌ قُلْنَا: الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوِ التَّخْيِيرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبُدَاءَةَ إِنْ لَمْ تَقْتَضِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَقْتَضِيَ اسْتِحْبَابَهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ سِوَى الْإِطْعَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَبْلُ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ذِكْرُ الْعِتْقِ أَيْضًا. وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ وَافَقَ عَلَى هَذَا الِاسْتِحْبَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ: فَفِي وَقْتِ الشِّدَّةِ يَكُونُ بِالْإِطْعَامِ، وَفِي غَيْرِهَا يَكُونُ بِالْعِتْقِ أَوِ الصَّوْمِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِفْطَارُ بِالْجِمَاعِ يُكَفَّرُ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَبِغَيْرِهِ لَا يُكَفَّرُ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُصْعَبٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَلَا يُطْعِمُ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فِي الْكَفَّارَةِ.
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِهْدَاءُ الْبَدَنَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّقَبَةِ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِإِلْحَاقِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ، وَوَرَدَ ذِكْرُ الْبَدَنَةِ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ إِرْسَالِهِ قَدْ رَدَّهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَكَذَبَ مَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ كَمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْكَ فِي الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ أَنَّهُ يُعْتِقُ رَقَبَةً أَوْ يُهْدِي بَدَنَةً؟ فَقَالَ: كَذَبَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ، وَتَابَعَهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي رِوَايَتِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَقَلَهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ التَّخْيِيرِ، وَنَازَعَ عِيَاضٌ فِي ظُهُورِ دَلَالَةِ التَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ شَخْصًا لَوْ حَنِثَ فَاسْتَفْتَى فَقَالَ لَهُ الْمُفْتِي: أَعْتِقْ رَقَبَةً. فَقَالَ: لَا أَجِدُ. فَقَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَخْ، لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ إِرْشَادَهُ إِلَى الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ لِتَنْجِيزِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: تَرْتِيبُ الثَّانِي بِالْفَاءِ عَلَى فَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّالِثِ بِالْفَاءِ عَلَى فَقْدِ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ مَعَ كَوْنِهَا فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ وَجَوَابِ السُّؤَالِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ لِلْحُكْمِ، وَسَلَكَ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ بِأَنَّ الَّذِينَ رَوَوُا التَّرْتِيبَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَكْثَرُ مِمَّنْ رَوَى التَّخْيِيرَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الَّذِينَ رَوَوُا التَّرْتِيبَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالَّذِينَ رَوَوُا التَّخْيِيرَ مَالِكٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَفُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَالَّذِينَ رَوَوُا التَّرْتِيبَ فِي الْبُخَارِيِّ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَمَنْصُورٌ، وَرِوَايَةُ هَذَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي نَشْرَحُهُ وَفِي الَّذِي يَلِيهِ، فَكَيْفَ غَفَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِيهِ؟ بَلْ رَوَى التَّرْتِيبَ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ تَمَامُ ثَلَاثِينَ نَفْسًا أَوْ أَزْيَدَ، وَرُجِّحَ التَّرْتِيبُ أَيْضًا بِأَنْ رَاوِيَهُ حَكَى لَفْظَ الْقِصَّةِ
عَلَى وَجْهِهَا فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَرَاوِي التَّخْيِيرِ حَكَى لَفْظَ رَاوِي الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ إِمَّا لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَيَتَرَجَّحُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهِ مُجْزِئٌ سَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ أَوْ لَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْمُهَلَّبِ، وَالْقُرْطُبِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْمَخْرَجُ مُتَّحِدٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ التَّرْتِيبَ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ وَالتَّخْيِيرَ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: أَوْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ أَوْ يُطْعِمَ إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ إِتْيَانِ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالتَّخْيِيرِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: فَصَارَتِ الْكَفَّارَةُ إِلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ أَوِ الْإِطْعَامِ. قَالَ: فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُخْتَصَرًا مُقْتَصَرًا عَلَى مَا ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، قَالَ: وَقَدْ قَصَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِهِ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى قَوْلِهِ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ قَالَ: فَصَارَتِ الْكَفَّارَةُ إِلَى عِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَصَارَتْ سُنَّةً: عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ، أَوْ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قَوْلُهُ: (فَمَكَثَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا هُنَا بِالْمِيمِ وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ - وَيَجُوزُ ضَمُّهَا - وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ فَسَكَتَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمُثَنَّاةِ، وَكَذَا ابْنُ مُسَافِرٍ، وَابْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسْ. فَجَلَسَ.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ أَمْرِهِ لَهُ بِالْجُلُوسِ انْتِظَارَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيُؤْتَى بِشَيْءٍ يُعِينُهُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ بِالْعَجْزِ. وَهَذَا الثَّالِثُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ مَا عَادَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِهَا بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُ الْمِكْتَلَ.
قَوْلُهُ: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ جَوَابُ بَيْنَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، فَقَالَ فِيهَا: إِذْ أُتِيَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَالْآتِي الْمَذْكُورُ لَمْ يُسَمَّ لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَفَّارَاتِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ أَوْ إِطْلَاقِ الْأَنْصَارِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَجَاءَ رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ يَحْمِلُهَا وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِتَمْرٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (بِعَرَقٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ - يَعْنِي: الْقَابِسِيَّ - بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْإِسْكَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِالْإِسْكَانِ هُوَ الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ مَعَ الْعَظْمِ فَلْيُنْكَرِ الْفَتْحُ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْمَاءِ الَّذِي يَتَحَلَّبُ مِنَ الْجَسَدِ، نَعَمِ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ الْفَتْحُ، وَمِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْإِسْكَانَ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بَلْ أَثْبَتَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالْقَزَّازِ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا لَامٌ، زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ: الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: سُمِّيَ الْمِكْتَلُ عَرَقًا؛ لِأَنَّهُ يُضَفَّرُ عِرْقَةً عِرْقَةً جَمْعٌ فَالْعَرَقُ جَمْعُ عِرْقَةٍ كَعَلَقٍ وَعِلْقَةٍ، وَالْعِرْقَةُ الضَّفِيرَةُ مِنَ الْخُوصِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ الصَّحَابِيُّ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الزُّهْرِيُّ، وَفِي
رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ فَأُتِيَ بِزَبِيلٍ وَهُوَ الْمِكْتَلُ وَالزَّبِيلُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ بِوَزْنِ رَغِيفٍ هُوَ الْمِكْتَلُ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: يُسَمَّى زَبِيلًا لِحَمْلِ الزِّبْلِ فِيهِ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى زِنْبِيلٌ، بِكَسْرِ الزَّايِ أَوَّلَهُ وَزِيَادَةِ نُونٍ سَاكِنَةٍ، وَقَدْ تُدْغَمُ النُّونُ فَتُشَدَّدُ الْبَاءُ مَعَ بَقَاءِ وَزْنِهِ، وَجَمْعُهُ عَلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ زَنَابِيلُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجَاءَهُ عَرَقَانِ وَالْمَشْهُورُ فِي غَيْرِهَا عَرَقٌ وَرَجَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا نَرْضَاهُ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّمْرَ كَانَ قَدْرَ عَرَقٍ، لَكِنَّهُ كَانَ فِي عَرَقَيْنِ فِي حَالِ التَّحْمِيلِ عَلَى الدَّابَّةِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ فِي الْحَمْلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآتِيَ بِهِ لَمَّا وَصَلَ أَفْرَغَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، فَمَنْ قَالَ: عَرَقَانِ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْحَالِ، وَمَنْ قَالَ: عَرَقٌ، أَرَادَ مَا آلَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَيْنَ السَّائِلُ؟) زَادَ ابْنُ مُسَافِرٍ: آنِفًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مُتَضَمَّنٌ لِلسُّؤَالِ، فَإِنَّ مُرَادَهُ: هَلَكْتُ فَمَا يُنْجِينِي وَمَا يُخَلِّصُنِي مَثَلًا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفًا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارَ مَا فِي الْمِكْتَلِ مِنَ التَّمْرِ بَلْ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ مِهْرَانَ بْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَفِي مُرْسَلِهِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ الْجَزْمُ بِعِشْرِينَ صَاعًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ عِشْرُونَ صَاعًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَوْلُهُ: عِشْرُونَ صَاعًا بَلَاغٌ بَلَغَ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ يَعْنِي: بَعْضَ رُوَاتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فَحُدِّثْتُ بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مُسَدَّدٍ فَأَمَرَ لَهُ بِبَعْضِهِ وَهَذَا يَجْمَعُ الرِّوَايَاتِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ أَرَادَ أَصْلَ مَا كَانَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَرَادَ قَدْرَ مَا تَقَعُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَفِيهِ: فَأُتِيَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَقَالَ: أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ وَاجِبَهُ مِنَ الْقَمْحِ ثَلَاثُونَ صَاعًا، وَمِنْ غَيْرِهِ سِتُّونَ صَاعًا، وَلِقَوْلِ عَطَاءٍ: إِنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ أَطْعَمَ عِشْرِينَ صَاعًا، وَعَلَى أَشْهَبَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ غَدَّاهُمْ أَوْ عَشَّاهُمْ كُفِيَ تَصَدُّقَ الْإِطْعَامِ، وَلِقَوْلِ الْحَسَنِ: يُطْعِمُ أَرْبَعِينَ مِسْكِينًا عِشْرِينَ صَاعًا، أَوْ بِالْجِمَاعِ أَطْعَمَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْمِكْتَلُ يُشْبِهُ الزَّبِيلَ يَسْعَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرِينَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْخَاصَّةِ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ مِهْرَانَ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا حَصْرَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّهُ: أُتِيَ بِمِكْتَلِ فِيهِ عِشْرُونَ صَاعًا فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: تَصَدَّقْ بِعِشْرِينَ صَاعًا أَوْ بِتِسْعَ عَشْرَةَ، أَوْ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِيهِ، وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ وَوَجْهُهُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَتَصَدَّقْ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مَنْصُورٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ وَنَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ ابنِ الْمُسَيَّبِ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ،
وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَحْنُ نَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْكَ وَاسْتُدِلَّ بِإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَوْطُوءَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْمُرَاجَعَةِ: هَلْ تَسْتَطِيعُ وَهَلْ تَجِدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافٍ وَتَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَالْمُطَاوِعَةِ وَالْمُكْرَهَةِ، وَهَلْ هِيَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الرَّجُلِ عَنْهَا، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِسُكُوتِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ إِعْلَامِ الْمَرْأَةِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ الْحَاجَةِ، وَأُجِيبُ بِمَنْعِ وُجُودِ الْحَاجَةِ إِذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ وَلَمْ تَسْأَلْ، وَاعْتِرَافُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حُكْمًا مَا لَمْ تَعْتَرِفْ، وَبِأَنَّهَا قَضِيَّةُ حَالٍ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ. ثُمَّ إِنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ لِلرَّجُلِ بَيَانٌ فِي حَقِّهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْفِطْرِ وَانْتَهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ كَمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْغُسْلِ.
وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْحُكْمِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ كَافٍ عَنْ ذِكْرِهِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ السُّكُوتِ عَنْ حُكْمِ الْمَرْأَةِ مَا عَرَفَهُ مِنْ كَلَامِ زَوْجِهَا بِأَنَّهَا لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ هَلْ هِيَ عَلَى الرَّجُلِ وَحْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، أَوْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ عَنْهُ وَعَنْهَا، أَوْ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا عَنْهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَاكِتٌ عَنِ الْمَرْأَةِ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ السُّكُوتِ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ صَائِمَةٍ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ وَهِيَ زِيَادَةٌ فِيهَا مَقَالٌ، فَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي قَوْلِهِ: وَأَهْلَكْتُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَهَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُهْلِكًا لَهَا.
قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ، بَلْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَهْلَكْتُ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: هَلَكْتُ أَثِمْتُ وَأَهْلَكْتُ، أَيْ: كُنْتُ سَبَبًا فِي تَأْثِيمِ مَنْ طَاوَعَتْنِي فَوَاقَعَهَا إِذْ لَا رَيْبَ فِي حُصُولِ الْإِثْمِ عَلَى الْمُطَاوِعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْكَفَّارَةِ وَلَا نَفْيُهَا، أَوِ الْمَعْنَى: هَلَكْتُ، أَيْ: حَيْثُ وَقَعْتُ فِي شَيْءٍ لَا أَقْدِرُ عَلَى كَفَّارَتِهِ، وَأَهْلَكْتُ أَيْ: نَفْسِي بِفِعْلِي الَّذِي جَرَّ عَلَيَّ الْإِثْمَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ لِلْحَاكِمِ فِي بُطْلَانِهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، وَمُحَصَّلُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّهَا وَرَدَتْ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ فَتَفَرَّدَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ جَمِيعُ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ بِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الرُّوَاةِ عَنِ الْوَلِيدِ، وَعُقْبَةَ، وَعُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ عَمِيَ، فَلَعَلَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا مَا رَوَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ، قَالَ: عَلَيْهِمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا الصِّيَامَ، قِيلَ لَهُ: فَإِنِ اسْتَكْرَهَهَا؟ قَالَ: عَلَيْهِ الصِّيَامُ وَحْدَهُ.
وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَتَفَرَّدَ بِهَا أَبُو ثَوْرٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُعَلَّى لَيْسَ بِذَاكَ الْحَافِظِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَحَدًا طَعَنَ فِي الْمُعَلَّى، وَغَفَلَ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّهُ كَانَ يُخْطِئُ كُلَّ يَوْمٍ فِي حَدِيثَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَلَعَلَّهُ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ بِهَذَا فَوَهَمَ. وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: وَقَفْتُ عَلَى كِتَابِ الصِّيَامِ لِلْمُعَلَّى بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الدَّارَقطْنِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ أَيْضًا، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ فَإِنَّ الدَّارَقطْنِيَّ لَمْ يُخْرِجْ طَرِيقَ عُقَيْلٍ فِي السُّنَنِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي الْعِلَلِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِدُونِهَا.
(تَنْبِيهٌ): الْقَائِلُ بِوُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الزَّوْجِ عَنْهُ وَعَنْ مَوْطُوءَتِهِ يَقُولُ: يُعْتَبَرُ حَالُهُمَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ أَجْزَأَتْ رَقَبَةٌ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ أَطْعَمَ مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ صَامَا
جَمِيعًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ حَالُهُمَا فَفِيهِ تَفْرِيعٌ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفُرُوعِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الرَّجُلُ عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي) أَيْ: أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى شَخْصٍ أَفْقَرَ مِنِّي؟ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَهِمَ الْإِذْنَ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى مَنْ يَتَّصِفُ بِالْفَقْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَزَادَ فِيهِ إِلَى مَنْ أَدْفَعُهُ؟ قَالَ: إِلَى أَفْقَرَ مَنْ تَعْلَمُ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِي؟ وَلِابْنِ مُسَافِرٍ: أَعَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنِّي؟ وَلِلْأَوْزَاعِيِّ أَعَلَى غَيْرِ أَهْلِي؟ وَلِمَنْصُورٍ أَعَلَى أَحْوَجَ مِنَّا وَلِابْنِ إِسْحَاقَ: وَهَلِ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِي وَعَلَيَّ؟
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) تَثْنِيَةُ لَابَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الْآتِيَةِ فِي الْأَدَبِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْنَ طُنُبَيِ الْمَدِينَةِ تَثْنِيَةُ طُنُبٍ - وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ - وَالطُّنُبُ أَحَدُ أَطْنَابِ الْخَيْمَةِ، فَاسْتَعَارَهُ لِلطَّرَفِ.
قَوْلُهُ: (أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي) زَادَ يُونُسُ: مِنِّي وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: أَفْقَرَ مِنَّا وَأَفْقَرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مَا النَّافِيَةِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَهْلِي، مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي وَفِي أَحَقَّ وَأَحْوَجَ مَا فِي أَفْقَرَ. وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ عَنْهُ: وَاللَّهِ مَا لِعِيَالِي مِنْ طَعَامٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: مَا لَنَا عَشَاءُ لَيْلَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ وَلَعَلَّهَا تَصْحِيفٌ مِنْ أَنْيَابِهِ؛ فَإِنَّ الثَّنَايَا تَبِينُ بِالتَّبَسُّمِ غَالِبًا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ إِرَادَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى التَّبَسُّمِ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَقِيلَ: كَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَسُّمِ، قِيلَ: وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تُعَكِّرُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ ضَحِكِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ تَبَايُنِ حَالِ الرَّجُلِ حَيْثُ جَاءَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ رَاغِبًا فِي فَدَائِهَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الرُّخْصَةَ طَمِعَ فِي أَنْ يَأْكُلَ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَقِيلَ: ضَحِكَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ فِي مَقَاطِعِ كَلَامِهِ وَحُسْنِ تَأَتِّيهِ وَتَلَطُّفِهِ فِي الْخِطَابِ وَحُسْنِ تَوَسُّلِهِ فِي تَوَصُّلِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْكَفَّارَاتِ: أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ وَلِإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَأَنْتُمْ إِذًا وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرَ الضَّحِكِ، وَلِأَبِي قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ قَالَ: كُلْهُ وَنَحْوُهُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعِرَاكٍ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: خُذْهَا وَكُلْهَا وَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَجَّاجٍ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: عُدْ بِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِكَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَبَايَنَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذَاهِبُ فَقِيلَ: إِنَّهُ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ لِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُصْرَفُ إِلَى النَّفْسِ وَلَا إِلَى الْعِيَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتِقْرَارَهَا فِي ذِمَّتِهِ إِلَى حِينِ يَسَارِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَزَمَ بِهِ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا يَعُودُ.
وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ لِسَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ هِلَالُ الْفِطْرِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَهَا أَمَدٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَكَفَّارَةَ الْجِمَاعِ لَا أَمَدَ لَهَا فَتَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِهَا بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِهَا عَلَى الْعَاجِزِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِعْسَارِ، وَالَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ، وَإِلَى هَذَا نَحَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَائِلُهُ نَاسِخَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الَّذِينَ أُمِرَ بِصَرْفِهَا إِلَيْهِمْ
مَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَضُعِّفَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِيهَا عِيَالُكَ، وَبِالرِّوَايَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الْكَفَّارَةَ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ أَصْحَابَ الْأَقْوَالِ الْمَاضِيَةِ عَلَى مَا قَالُوهُ بِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْكُلُ مِنْ كَفَّارَةِ نَفْسِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِعْطَاءُ لَا عَلَى جِهَةِ الْكَفَّارَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَمْ تَسْقُطْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ اسْتِقْرَارُهَا فِي ذِمَّتِهِ مَأْخُوذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَا اعْتَلُّوا بِهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِعَجْزِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ الْعَرَقِ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا سُقُوطَ عَنِ الْعَاجِزِ، وَلَعَلَّهُ أَخَّرَ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ اهـ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ أَوْ عَلَى إِجْزَائِهَا عَنْهُ بِإِنْفَاقِهِ إِيَّاهَا عَلَى عِيَالِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: وَكُلْهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ فَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْكَ وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ لَمْ يَقْبِضْهُ بَلِ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ فَأَذِنَ لَهُ حِينَئِذٍ فِي أَكْلِهِ، فَلَوْ كَانَ قَبَضَهُ لَمَلَكَهُ مِلْكًا مَشْرُوطًا بِصِفَةٍ وَهُوَ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ فِي كَفَّارَتِهِ فَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي التَّمْلِيكِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ، لَمْ يَمْلِكْهُ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي إِطْعَامِهِ لِأَهْلِهِ وَأَكْلِهِ مِنْهُ كَانَ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ، وَأَخْذُهُمْ إِيَّاهُ بِصِفَةِ الْفَقْرِ الْمَشْرُوحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَتَصَرُّفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ فِي إِخْرَاجِ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ كَانَ تَمْلِيكًا بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الْإِشْكَالُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ إِسْقَاطٌ وَلَا أَكْلُ الْمَرْءِ مِنْ كَفَّارَةِ نَفْسِهِ وَلَا إِنْفَاقِهِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ كَفَّارَةِ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ الْبَابَ الَّذِي يَلِيهِ بَابٌ: الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضْمَنَّهُ حُكْمُ التَّرْجَمَةِ. وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِإِتْيَانِهِ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ جَمِيعِهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ هُوَ جَمِيعُ مَا يَجِبُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَحْضَرَ التَّمْرَ، وَعَلَى سُقُوطِ قَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ الْمُجَامِعُ اكْتِفَاءً بِالْكَفَّارَةِ، إِذْ لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِقَضَائِهِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ يَقْضِي إِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ لَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ إِذْ لَا كَلَامَ فِي الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ أَفْسَدَ الْعِبَادَةَ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَا اقْتَرَفَ مِنَ الْإِثْمِ، قَالَ: وَأَمَّا كَلَامُ الْأَوْزَاعِيِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ بِغَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِهَا، وَوَقَعَتِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ تَعْرِفُ أَنَّ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَصْلًا، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: صُمْ يَوْمًا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ لِلتَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمًا.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ - السُّؤَالُ عَنْ حُكْمِ مَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَالتَّحَدُّثُ بِذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَحُ ظُهُورُهُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ لِقَوْلِهِ: وَاقَعْتُ أَوْ أَصَبْتُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَطِئْتُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالتَّلَطُّفُ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّأَلُّفُ عَلَى الدِّينِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَاسْتِشْعَارُ الْخَوْفِ. وَفِيهِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ
الصَّلَاةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كَنَشْرِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ جَوَازُ الضَّحِكِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِخْبَارُ الرَّجُلِ بِمَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ أَهْلِهِ لِلْحَاجَةِ. وَفِيهِ الْحَلِفُ لِتَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَقَبُولُ قَوْلِ الْمُكَلَّفِ مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ لِقَوْلِهِ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: أَفْقَرَ مِنَّا: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ لِصِدْقِهِ. وَفِيهِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالسَّعْيُ فِي إِخْلَاصِ الْمُسْلِمِ، وَإِعْطَاءُ الْوَاحِدِ فَوْقَ حَاجَتِهِ الرَّاهِنَةِ، وَإِعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى مَا بِيَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَوْ بَعْضَهُ لِمُضْطَرٍّ آخَرَ.
31 - بَاب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ
1937 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ الْأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. قَالَ: فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ
قَوْلُهُ: (بَابٌ: الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ)؟ يَعْنِي: أَمْ لَا؟ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا آذَنَتْ بِأَنَّ الْإِعْسَارَ بِالْكَفَّارَةِ لَا يُسْقِطُهَا عَنِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ وَالثَّانِيَةُ تَرَدَّدَتْ هَلِ الْمَأْذُونُ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ نَفْسُ الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِ مَنْصُورٍ عَنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَخَالَفَهُ مِهْرَانُ بْنُ أَبِي عُمَرَ فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الْأَخِرَ) بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ، تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَكَى ابْنُ الْقُوطِيَّةِ فِيهِ مَدَّ الْهَمْزَةِ.
قَوْلُهُ: (أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرَ رَقَبَةً)؟ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ لَفْظِ مَا وَهِيَ مَفْعُولٌ بِـ تَجِدُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ شُيُوخُنَا فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي مُجَلَّدَيْنِ جَمَعَ فِيهِمَا أَلْفَ فَائِدَةٍ وَفَائِدَةً، وَمُحَصَّلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَخَّصْتُهُ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَيْهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ.
32 - بَاب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَحْتَجِمُ وَهُوَ
صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ. وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا. وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا
وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَا ننْهَى.
وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ
وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ
1938 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ
1939 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ.
1940 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لَا إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
قَوْلُهُ: (بَابٌ الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ لِلصَّائِمِ) أَيْ: هَلْ يُفْسِدَانِ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا الصَّوْمَ أَوْ لَا؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَمَعَ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالْحِجَامَةِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا، وَعَادَتُهُ تَفْرِيقُ التَّرَاجِمِ إِذَا نَظَمَهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ خَبَرَيْنِ، وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ مَأْخَذِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا إِخْرَاجٌ وَالْإِخْرَاجُ لَا يَقْتَضِي الْإِفْطَارَ، وَقَدْ أَوْمَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ إِيرَادَهُ لِلْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْإِفْطَارِ بِهِمَا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ حَدِيثَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ بِحَدِيثِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَمَّا الْقَيْءُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ سَبَقَهُ فَلَا يُفْطِرُ وَبَيْنَ مَنْ تَعَمَّدَهُ فَيُفْطِرُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِ الصَّوْمِ بِتَعَمُّدِ الْقَيْءِ، لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ لَا يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ الْأَبْهَرِيُّ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَمَّنْ تَقَيَّأَ عَمْدًا بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ قَالَ: فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ لَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ، وَارْتَكَبَ عَطَاءٌ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ فَقَالُوا: يَقْضِي وَيُكَفِّرُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ إِلَّا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْحَسَنِ.
وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْفِطْرِ بِهَا مُطْلَقًا، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ، وَشَذَّ عَطَاءٌ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَيْضًا، وَقَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الزَّعْفَرَانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَسَنَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ
لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَعَادَةُ الْبُخَارِيِّ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْمَوْقُوفَاتِ إِذَا أَسْنَدَهَا. وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرْ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَّهُ يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُؤوِّلُونَ الظَّاهِرَ بِالْأَقْيِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَنَقَضَ غَيْرُهُ هَذَا الْحَصْرَ بِالْمَنِيِّ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَخْرُجُ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ هُوَ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ قَالَ: قَالَ لِي مُسَدَّدٌ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنِ اسْتِقَاءَ فَلْيَقْضِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يَصِحَّ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَنَقَلَ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنَّ هِشَامًا وَهَمَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ ذَا شَيْءٌ. وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ. وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْهُ فَقَالَ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا. انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ أَيْضًا عَنْ هِشَامٍ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا قَاءَ لَا يُفْطِرُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يُفْطِرُ مِمَّا فُصِّلَ فِي حَدِيثِهِ هَذَا الْمَرْفُوعِ، فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: قَاءَ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْقَيْءَ وَاسْتَدْعَى بِهِ، وَبِهَذَا أَيْضًا يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مُصَحَّحًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ أَيِ: اسْتَقَاءَ عَمْدًا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ أَوَّلَهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى قَاءَ فَضَعُفَ فَأَفْطَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَيْءَ فَطَّرَهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُقِّبَ بِالْفَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةُ كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، قَالَ: الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي: ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ كِبَارِ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ وَرُوِّيْنَاهُ فِي نُسْخَةِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِأَجْلِ الضَّعْفِ هَكَذَا وَجَدْتُهُ مُنْقَطِعًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ، فَكَأَنَّهُ تَرَكَ الْحِجَامَةَ نَهَارًا لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ مُمْسِيًا فَوَجَدْتُهُ يَأْكُلُ تَمْرًا وَكَامِخًا وَقَدِ احْتَجَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَحْتَجِمُ نَهَارًا؟ قَالَ: أَتَأْمُرُنِي أَنْ أُهْرِيقَ دَمِي وَأَنَا صَائِمٌ؟ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ بَكْرٍ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ يَحْتَجِمُ لَيْلًا فَقُلْتُ: أَلَا كَانَ هَذَا نَهَارًا؟ فَقَالَ: أَتَأْمُرُنِي أَنْ أُهْرِيقَ دَمِي وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدَانَ الْأَهْوَازِيِّ يَصِحُّ فِي أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ شَيْءٌ؟ قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّاسًا الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: قَدْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ مَطَرًا خُولِفَ فِي رَفْعِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُمُ احْتَجَمُوا صِيَامًا) هَكَذَا أَخْرَجَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ يَظْهَرُ بِالتَّخْرِيجِ، فَأَمَّا أَثَرُ سَعْدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَوَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ عَنْ سَعْدٍ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَمَّا أَثَرُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَرْمِيِّ، عَنْ دِينَارٍ قَالَ: حَجَّمْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَدِينَارٌ هُوَ الْحَجَّامُ مَوْلَى جَرْمٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي هَذَا الْأَثَرِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ. وَأَمَّا أَثَرُ أُمِّ سَلَمَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا عَنْ فُرَاتٍ عَنْ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ سَلَمَةَ تَحْتَجِمُ وَهِيَ صَائِمَةٌ وَفُرَاتٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ، لَكِنَّ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ مَجْهُولُ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَنَسٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَا نُنْهَى) أَمَّا بُكَيْرٌ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَأَمَّا أُمُّ عَلْقَمَةَ فَاسْمُهَا مُرْجَانَةُ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ وَبَنُو أَخِي عَائِشَةَ فَلَا تَنْهَاهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي حُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ بِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ حَدِيثَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَرَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَرَوَاهُ مَطَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَاهُ أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُسَامَةَ، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فِي الصَّحَابِيِّ فَقِيلَ: مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ، وَقِيلَ: مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَيْضًا، وَقِيلَ: عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ مُعَاذٍ. وَاخْتُلِفَ عَلَى قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الصَّحَابِيِّ فَقِيلَ أَيْضًا: عَلِيٌّ، وَقِيلَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: وَاخْتُلِفَ عَلَى يُونُسَ أَيْضًا كَمَا سَأَذْكُرُهُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو حُرَّةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ صَحَّتِ الْأَقْوَالُ
كُلُّهَا. قُلْتُ: لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَبُو حُرَّةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ) بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يُونُسُ) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ (عَنِ الْحَسَنِ) مِثْلَهُ أَيْ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ لَهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ) وَهَذَا مُتَابِعٌ لِأَبِي حُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَيَّاشٌ فَذَكَرَهُ، رَوَاهُ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ فِي الْعِلَلِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ بِهِ، وَرِوَايَةُ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ يُونُسَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ تَمَّامٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُسَامَةَ، وَالِاخْتِلَافُ عَلَى الْحَسَنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحٌ، لَكِنْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْكَبِيرِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ إِنْ كَانَ قَوْلُ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَحْفُوظًا صَحَّتِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا.
قُلْتُ: يُرِيدُ بِذَلِكَ انْتِفَاءَ الِاضْطِرَابِ، وَإِلَّا فَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَكْثَرِ الْمَذْكُورِينَ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَشُكُّ فِي رَفْعِهِ وَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ الْجَزْمِ تَرَدُّدٌ، وَحَمَلَ الْكِرْمَانِيُّ جَزْمَهُ عَلَى وُثُوقِهِ بِخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَتَرَدُّدُهُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فَلَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهُوَ حَمْلٌ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ، وَثَوْبَانَ، قُلْتُ: فَكَيْفَ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الِاخْتلَافِ؟ يَعْنِي: عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ رَوَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ شَدَّادٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، يَعْنِي: فَانْتَفَى الِاضْطِرَابُ وَتَعَيَّنَ الْجَمْعُ بِذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ: صَحَّ حَدِيثُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ، وَشَدَّادٍ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ يَذْكُرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَثْبُتُ. فَقَالَ: هَذَا مُجَازَفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: صَحَّ الْحَدِيثَانِ جَمِيعًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِ هَذَا الْمَتْنِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي بَابِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ.
قُلْتُ: يُرِيدُ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَافِعٍ، لَكِنْ عَارَضَ أَحْمَدَ، يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي هَذَا فَقَالَ: حَدِيثُ رَافِعٌ أَضْعَفُهَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: هُوَ عِنْدِي بَاطِلٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ عَنْهُ فَأَبى أَنْ يُحَدِّثَنِي بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ: هُوَ غَلَطٌ، قُلْتُ: مَا عِلَّتُهُ؟ قَالَ: رَوَى هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثَ مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَرَوَى عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ أَبَا أَسْمَاءَ حَدَّثَهُ أَنَّ ثَوْبَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَحْيَى، فَكَأَنَّهُ دَخَلَ لِمَعْمَرٍ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَ شَدَّادٍ وَلَفْظُهُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زَمَانِ الْفَتْحِ فَرَأَى رَجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، قَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْثَلُهُمَا إِسْنَادًا، فَإِنْ تَوَقَّى أَحَدٌ الْحِجَامَةَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ احْتِيَاطًا، وَالْقِيَاسُ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي أَحْفَظُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ أَحَدٌ بِالْحِجَامَةِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَقِبَ حَدِيثِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ ذَلِكَ بِبَغْدَادَ وَأَمَّا بِمِصْرَ فَمَالَ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا سَيُفْطِرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أَيْ: مَا يَؤولُ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَيُقَرِّبُهُ مَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَيْ: تَعَرَّضَا لِلْإِفْطَارِ، أَمَّا الْحَاجِمُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الدَّمِ إِلَى جَوْفِهِ عِنْدَ الْمَصِّ، وَأَمَّا الْمَحْجُومُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ ضَعْفَ قُوَّتِهِ بِخُرُوجِ الدَّمِ فَيَؤولُ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ يُفْطِرَ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَفْطَرَا فَعَلَا مَكْرُوهًا وَهُوَ الْحِجَامَةُ، فَصَارَا كَأَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَبِّسِينَ بِالْعِبَادَةِ، وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِمْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) هَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الطِّبِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَاخْتُلِفَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ:
لَيْسَ فِيهِ صَائِمٌ إِنَّمَا هُوَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا طَرِيقُ أَيُّوبَ هَذِهِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا مُحْرِمًا، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا مُقِيمًا بِبَلَدِهِ، إِنَّمَا كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ إِنْ كَانَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ فَمَضَى عَلَيْهِ بَعْضُ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَهُوَ مُسَافِرٌ، قَالَ: فَلَيْسَ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى إِفْطَارِ الْمَحْجُومِ فَضْلًا عَنِ الْحَاجِمِ اهـ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَا وَرَدَ هَكَذَا إِلَّا لِفَائِدَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْحِجَامَةُ وَهُوَ صَائِمٌ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ صَوْمِهِ وَاسْتَمَرَّ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا: جَاءَ بَعْضُهُمْ بِأُعْجُوبَةٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، قَالَ: فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَالْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بِلَا شُبْهَةٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ، وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ مَتْرُوكٌ، وَحَكَمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ حَدِيثُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ بِلَا رَيْبٍ، لَكِنْ وَجَدْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَرْخَصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ، فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجِمًا أَوْ مَحْجُومًا. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلَفْظُهُ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ. ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَتْنِ مَا يُنْكَرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَتْحِ، وَجَعْفَرٌ كَانَ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ عَنِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَعَنِ الْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالْجَهَالَةُ بِالصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، وَقَوْلُهُ: إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: نَهَى، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا وَلَفْظُهُ: عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَكَرِهَهَا لِلضَّعِيفِ أَيْ: لِئَلَّا يَضْعُفَ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) كَذَا فِي أَكْثَرِ أُصُولِ الْبُخَارِيِّ. سُئِلَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ سَأَلَ أَنَسًا وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ مَا حَضَرَ سُؤَالَ ثَابِتٍ، لِأَنَسٍ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ بَيْنَ شُعْبَةَ، وَثَابِتٍ فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَبِي قِرْصَافَةَ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دُرَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا وَهُوَ يَسْأَلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْبُخَارِيِّ خَطَأٌ، وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ حُمَيْدٌ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا: شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ شَبَابَةَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ آدَمَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ إِلَّا أَنَّ شَبَابَةُ زَادَ فِيهِ مَا يُؤَكِّدُ رَفْعَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ طَرِيقَ شَبَابَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ، حَدَّثَنَا شَبَّابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَبِهِ عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ صِحَّةَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْخَلَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ، إِذْ لَوْ كَانَ إِسْنَادُ شَبَابَةَ عِنْدَهُ مُخَالِفًا لِإِسْنَادِ آدَمَ لَبَيَّنَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
33 - بَاب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارِ
1941 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ. قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ. قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هُنَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ
تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ
[الحديث 1941 - أطرافه في: 1955، 1956، 1958، 5297]
1942 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ"
[الحديث 1942 - طرفه في: 1943]
1943 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارِ) أَيْ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ وَتَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَأَذْكُرُ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ، وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ مَا يُشْعِرُ بِهِ سِيَاقُهُ مِنْ مُرَاجَعَةِ الرَّجُلِ لَهُ بِكَوْنِ الشَّمْسِ لَمْ تَغْرُبْ فِي جَوَابِ طَلَبِهِ لِمَا يُشِيرُ بِهِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَابِ مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ وَفِي غَيْرِهِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ.
قَوْلُهُ: (الشَّمْسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَتَوْجِيهُهُمَا ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ جَرِيرٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) يَعْنِي: تَابَعَا سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ شَيْخُهُمْ فِيهِ، وَمُتَابَعَةُ جَرِيرٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الطَّلَاقِ، وَمُتَابَعَةُ أَبِي بَكْرٍ سَتَأْتِي مَوْصُولَةً بَعْدَ قَلِيلٍ فِي بَابِ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَابَعَهُمْ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَفْظُهُمْ مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ الْمُتَابَعَةُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامُ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ) هَكَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنْ هِشَامٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالدَّراوَرْدِيُّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، جَعَلُوهُ مِنْ مُسْنَدِ حَمْزَةَ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ عَنْ حَمْزَةَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا الْإِخْبَارَ عَنْ حِكَايَتِهِ، فَالتَّقْدِيرُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ قِصَّةِ حَمْزَةَ أَنَّهُ سَأَلَ، لَكِنْ قَدْ صَحَّ مَجِيءُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ حَمْزَةَ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحَ، عَنْ حَمْزَةَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، لَكِنَّهُ أَسْقَطَ أَبَا مَرَاوِحَ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِعُرْوَةَ فِيهِ طَرِيقِينَ: سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ، وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِي مُرَاوِحَ، عَنْ حَمْزَةَ.
قَوْلُهُ: (أَسْرُدُ الصَّوْمَ) أَيْ: أُتَابِعُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهِيَةَ فِي صِيَامِ الدَّهْرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ يَصْدُقُ بِدُونِ صَوْمِ الدَّهْرِ، فَإِنْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لَمْ يُعَارِضْهُ هَذَا الْإِذْنُ بِالسَّرْدِ، بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: (أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ. . . إِلَخْ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ صِيَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُرَاوِحَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ صِيَامِ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تُطْلَقُ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ وَأُكْرِيهِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ - يَعْنِي: رَمَضَانَ - وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ، وَأَجِدُنِي أَنْ أَصُومَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤخِّرَهُ فَيَكُونَ دَيْنًا عَلَيَّ، فَقَالَ: أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ.
34 - بَاب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ
1944 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ.
[الحديث 1944 - أطرافه في: 1948، 1953، 4275، 4276، 4277، 4278، 4279]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ) أَيْ: هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ أَوْ لَا؟ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِلَى رَدِّ مَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ بِهِ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو مِجْلَزٍ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَهُوَ وَهَمٌ، قَالُوا: إِنَّ مَنِ اسْتُهِلَّ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قَالَ: وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنِ اسْتَهَلَّ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ سَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الْآيَةَ. ثُمَّ احْتَجَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ) كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ، يَعْنِي: بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى التَّصْغِيرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ نِسْبَةُ هَذَا التَّفْسِيرِ لِلْبُخَارِيِّ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ: حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ بَدَلَ الْكَدِيدِ، وَفِيهِ مَجَازُ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّ الْكَدِيدَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ عُسْفَانَ، وَبَيْنَ الْكَدِيدِ وَمَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: هُوَ بَيْنَ أَمَجَ - بِفَتْحَتَيْنِ وَجِيمٍ - وَعُسْفَانَ وَهُوَ مَاءٌ عَلَيْهِ نَخْلٌ كَثِيرٌ.
وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْغَمِيمُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ اسْمُ وَادٍ أَمَامَ عُسْفَانَ، قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَفْطَرَ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَالْكُلُّ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَالْجَمِيعُ مِنْ عَمَلِ عُسْفَانَ اهـ.
وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْضَحَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشْرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مُقَدَّمَه الْمَدِينَةِ فَسَارَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرَةِ فَالْآخِرَةِ مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي آخِرِهِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَقَعَتْ مُدْرَجَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَفْظُهُ: حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، قَالَ: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مِثْلَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ مَنْ هُوَ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ وَالنَّاسُ صَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ النَّاسُ زَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْضَحَ مِنْ سِيَاقِ خَالِدٍ وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ بَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ شَرِبَ فَأَفْطَرَ، فَنَاوَلَهُ رَجُلًا إِلَى جَنْبِهِ فَشَرِبَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرٍ: ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحَتُّمِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَلَوِ اسْتُهِلَّ رَمَضَانُ فِي الْحَضَرِ وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْجَوَازِ إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَهَلَّ رَمَضَانَ فِي عَامِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ خَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ اخْتِلَافٌ مِنَ الرُّوَاةِ فِي ضَبْطِ ذَلِكَ، وَالَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ خَرَجَ فِي عَاشِرِ رَمَضَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ، وَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ قَائِلِهِ مَا وَقَعَ فِي الْبُوَيْطِيِّ مِنْ تَعْلِيقِ الْقَوْلِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ، فَأَمَّا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ النَّهَارِ؟ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بِالْجَوَازِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ مُحْتَجًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقِيلَ لَهُ: قَالَ كَذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالْكَدِيدِ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي الْبُوَيْطِيِّ مِثْلُ مَا وَقَعَ عِنْدَ
الْمُزَنِيِّ فَسَلَّمَ الْمُزَنِيُّ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ يُفْطِرُ فِي الْحَضَرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ. ثُمَّ لَا فَرْقَ عِنْدَ الْمُجِيزِينَ فِي الْفِطْرِ بِكُلِّ مُفْطِرٍ، وَفَرَّقَ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ بَيْنَ الْفِطْرِ بِالْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ فَمَنَعَهُ فِي الْجِمَاعِ، قَالَ: فَلَوْ جَامَعَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِلَّا إِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْجِمَاعِ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَانِعِينَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَوَى الصِّيَامَ فِي لَيْلِة الْيَوْمَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يُصْبِحَ مُفْطِرًا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِفْطَارَ لِيُفْطِرَ النَّاسُ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: ادْنُوَا فَكُلَا. فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ، فَقَالَ: اعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ، ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمُ ادْنُوَا فَكُلَا قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الْفِطْرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ النَّهَارِ. (تَنْبِيهٌ): قَالَ الْقَابِسِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ مُقِيمًا مَعَ أَبَوَيْهِ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُشَاهِدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
35 - بَاب
1945 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ رَوَاحَةَ
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَعَلَى الْحَالَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَذْكُورِ فِيهِ تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ، وَوَجْهُهُ مَا وَقَعَ مِنْ إِفْطَارِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ سَافَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْفِطْرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْمُهَاجِرِ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَتْنِي أُمُّ الدَّرْدَاءِ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ سِوَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ دَخَلَ الشَّامَ، وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ هِيَ الصُّغْرَى التَّابِعِيَّةُ.
قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ الْحَدِيثَ، وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتِمُّ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَيَتَوَجَّهُ الرَّدُّ بِهَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا، وَقَدْ كُنْتُ ظَنَنْتُ أَنَّ هَذِهِ السَّفْرَةَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ لَمَّا رَأَيْتُ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرَجِ فِي الْحَرِّ، وَهُوَ يُصَبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءُ - وَهُوَ صَائِمٌ - مِنَ الْعَطَشِ وَمِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَزَاةَ الْفَتْحِ كَانَتْ فِي أَيَّامِ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ السُّفْرَتَيْنِ كَانَ فِي رَمَضَانَ، لَكِنَّنِي رَجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ اسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اسْتَثْنَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي هَذِهِ السُّفْرَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ سَفْرَةً أُخْرَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سِيَاقِ أَحَادِيثِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَمَرُّوا مِنَ الصَّحَابَةِ صِيَامًا كَانُوا جَمَاعَةً، وَفِي هَذَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَحْدَهُ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ
حَدِيثِ عُمَرَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ الْحَدِيثَ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى بَدْرٍ؛ لِأَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَسْلَمَ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهِيَةَ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ.
36 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ
1946 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَأَنَّ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ مُجَرَّدًا فَقَدِ اخْتَصَرَ الْقِصَّةَ، وَبِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنِ اعْتِبَارِ شِدَّةِ الْمَشَقَّةِ يُجْمَعُ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَالَّذِي قَبْلَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْمَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِطْرُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَشَقَّةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ عَنِ الْفَرْضِ، بَلْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي الْحَضَرِ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ الْإِثْمُ، وَإِذَا كَانَ آثِمًا بِصَوْمِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَالُوا: ظَاهِرُهُ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ أَوْ فَالْوَاجِبُ عِدَّةٌ، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، وَمُقَابِلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الْمَشَقَّةَ الشَّدِيدَةَ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: أَفْضَلُهُمَا أَيْسَرُهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الصِّيَامُ أَيْسَرَ كَمَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ أَفْضَلَ لِمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَتَضَرَّرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ ظُنَّ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي طُعْمَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ جِبَالِ عَرَفَةَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ رَغِبَ عَنِ الرُّخْصَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي وَكَذَلِكَ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُجْبَ أَوِ الرِّيَاءَ إِذَا صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ أَفْضَلَ لَهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا سَافَرْتَ فَلَا تَصُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ تَصُمْ قَالَ أَصْحَابُكَ: اكْفُوا الصَّائِمَ، ارْفَعُوا لِلصَّائِمِ، وَقَامُوا بِأَمْرِكَ، وَقَالُوا: فُلَانٌ صَائِمٌ، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ أَجْرُكَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَسَيَأْتِي
فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ مُؤَرَّقٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُفْطِرِينَ حَيْثُ خَدَمُوا الصُّيَّامَ: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الصَّوْمَ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْآخِرِ فَالْآخِرُ مِنْ فِعْلِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ صَوْمَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ، وَتُعُقِّبَ أَوَّلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَبِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ صَامَ وَنَسَبَ مَنْ صَامَ إِلَى الْعِصْيَانِ، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي السَّفَرِ وَلَفْظُهُ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ فَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطَرُوا، فَكَانَتْ عَزِيمَةً فَأَفْطَرْنَا.
ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْ نِسْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم الصَّائِمِينَ إِلَى الْعِصْيَانِ؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَيْهِمْ فَخَالَفُوا، وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْفِطْرِ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: لَقَدْ أَمَرْتُ غُلَامِي أَنْ يَصُومَ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَقَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَنَحْنُ نَرْتَحِلُ جِيَاعًا وَنَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ شِبَعٍ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَنَرْتَحِلُ شِبَاعًا وَنَنْزِلُ عَلَى شِبَعٍ، فَأَشَارَ أَنَسٌ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْفِطْرُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّوْمِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَعَ وَقْفِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، حَيْثُ يَكُونُ الْفِطْرُ أَوْلَى مِنَ الصَّوْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ فَسَلَكَ الْمُجِيزُونَ فِيهِ طُرُقًا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَيُقْصَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَلِذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ وَلَفْظُهُ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ كَضَجْعَةِ الْوَجِعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لِصَاحِبِكُمْ، أَيُّ وَجَعٍ بِهِ؟ فَقَالُوا: لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ، وَلَكِنَّهُ صَائِمٌ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ، عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَكَانَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أُخِذَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنَ الصَّوْمِ مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ، فَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. قَالَ: وَالْمَانِعُونَ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالْعِبْرَةَ بِعُمُومِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السَّبَبِ وَالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ الْعَامَّيْنِ فَرْقًا وَاضِحًا، وَمَنْ أَجْرَاهُمَا مُجْرًى وَاحِدًا لَمْ يُصِبْ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ كَنُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ فِي قِصَّةِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ، وَأَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهِيَ الْمُرْشِدَةُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ وَتَعْيِينِ
الْمُحْتَمَلَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: هَذِهِ الْقِصَّةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ مَنِ اتَّفَقَ لَهُ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الْحُكْمِ; وَأَمَّا مَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ فَهُوَ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ عَلَى أَصْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ نَفْيَ الْبِرِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ أَبَى قَبُولَ الرُّخْصَةِ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يَبْلُغَ رَجُلٌ هَذَا بِنَفْسِهِ فِي فَرِيضَةِ صَوْمٍ وَلَا نَافِلَةٍ، وَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ أَثِمَ، وَجَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبِرِّ هُنَا الْبِرُّ الْكَامِلُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْبِرِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِرًّا؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ قَدْ يَكُونُ أَبَرَّ مِنَ الصَّوْمِ إِذَا كَانَ لِلتَّقَوِّي عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ مَثَلًا، قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِخْرَاجَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَسْكَنَةِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمِسْكِينَ الْكَامِلَ الْمَسْكَنَةِ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَيَسْتَحْيِي أَنْ يَسْأَلَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ) عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي: ابْنَ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو. . . إِلَخْ) أَدْخَلَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَابِرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِيثِهِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَهُ، قَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ قَالَ: ذِكْرُ تَسْمِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُبْهَمِ، فَسَاقَ طَرِيقَ شُعْبَةَ ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، يَعْنِي: إِدْخَالَ رَجُلٍ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَجَابِرٍ، وَتَعَقَّبَهُ الْمِزِّيُّ فَقَالَ: ظَنَّ النَّسَائِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخَ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَيْخَ يَحْيَى هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ وَشَيْخَ شُعْبَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ اهـ.
وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِي أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ النَّسَائِيِّ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمَّا رَوَى الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ شُعْبَةُ كَانَ بَلَغَنِي هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَلَمَّا سَأَلْتُهُ لَمْ يَحْفَظْهُ اهـ. وَالضَّمِيرُ فِي سَأَلْتُ يَرْجِعُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخِ يَحْيَى؛ لِأَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَلْقَ يَحْيَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَقِيَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخَ يَحْيَى سَأَلَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَحْفَظْهَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ نَسَبَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ ثَوْبَانَ فَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمِزِّيُّ، لَكِنْ جَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ فِي الْعِلَلِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ فَقَدْ وَهَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ اهـ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ، وَجُلُّ الرُّوَاةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَا يَذْكُرُونَ جَدَّهُ وَلَا جَدَّ جَدِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا غَزْوَةُ الْفَتْحِ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ سَافَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ الْمَذْكُورَةِ: فَشَقَّ عَلَى رَجُلٍ الصَّوْمُ فَجَعَلَتْ رَاحِلَتُهُ تَهِيمُ بِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُفْطِرَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ،
وَلَوْلَا مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ اسْتُشْهِدَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَأَمْكَنَ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ لِقَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ صَائِمًا غَيْرُهُ، وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّهُ أَبُو إِسْرَائِيلَ وَعَزَا ذَلِكَ لِمُبْهَمَاتِ الْخَطِيبِ، وَلَمْ يَقُلِ الْخَطِيبُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ، ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ الْحَدِيثَ، فَلَمْ يَزِدِ الْخَطِيبُ عَلَى هَذَا، وَبَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مُغَايِرَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ كَانَ فِي السَّفَرِ تَحْتَ ظِلَالِ الشَّجَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّمَسُّكِ بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَكَرَاهَةُ تَرْكِهَا عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ وَالتَّنَطُّعِ.
(تَنْبِيهٌ): أَوْهَمَ كَلَامُ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ مِمَّا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِشَرْطِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ بَقِيَّةٌ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يُوصِلْ إِسْنَادَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، نَعَمْ، وَقَعَتْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مَوْصُولَةً فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِسَنَدِهِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
37 - بَاب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ
1947 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ) أَيْ: فِي الْأَسْفَارِ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَأْكِيدِ مَا اعْتَمَدَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ بَلَغَ حَالَةً يُجْهَدُ بِهَا، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ لَا يُعَابُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ وَلَا الْفِطْرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ التَّصْرِيحُ بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ حُمَيْدٍ، وَأَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: عَنْ حُمَيْدٍ خَرَجْتُ فَصُمْتُ فَقَالُوا لِي: أَعِدْ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا أَخْبَرَنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُسَافِرُونَ فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَلَقِيتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ فَأَخْبَرَنِي عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِسِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ، وَأَبَا ضَمْرَةَ، وَعَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ وَغَيْرَهُمْ رَوَوْهُ عَنْ حُمَيْدٍ مِثْلَ مَالِكٍ.
38 - بَاب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ
1948 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدهِ لِيُرِاهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ
قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ) أَيْ: إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْفِطْرِ لَا تَخْتَصُّ بِمَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَوْ خَشِيَ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ أَوْ ظُنَّ بِهِ الرَّغْبَةُ عَنِ الرُّخْصَةِ، بَلْ يُلْحَقُ بِذَلِكَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ لِيُتَابِعَهُ مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ الْفِطْرُ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَفْضَلَ لِفَضِيلَةِ الْبَيَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي الْمَغَازِي، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ فَلَمْ يَذْكُرْ طَاوُسًا فِي الْإِسْنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدٌ أَخَذَهُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَمَلَهُ عَنْهُ، أَوْ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَبَّتَهُ فِيهِ طَاوُسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعَهُ إِلَى يَدِهِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمَعْنَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ إِلَى أَقْصَى طُولِ يَدِهِ، أَيِ: انْتَهَى الرَّفْعُ إِلَى أَقْصَى غَايَتِهَا. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْبُخَارِيِّ فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ وَهَذَا أَوْضَحُ، وَلَعَلَّ الْكَلِمَةَ تَصَحَّفَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِ الْمَتْنِ.
قَوْلُهُ: (لِيَرَاهُ النَّاسُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالنَّاسُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لِيُرِيَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَالنَّاسَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ كَتَبَ لِيَرَاهُ النَّاسُ بِالْيَاءِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ. . . إِلَخْ) فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا لِلْأَوْلَوِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
39 - بَاب {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}
قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: نَسَخَتْهَا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ
1949 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَرَأَ:
فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ
[الحديث 1949 - طرفه في 4506]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: نَسَخَتْهَا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنْ عَيَّاشٍ وَهُوَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ وَزَادَ أَنَّهُ ابْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ الرَّقَّامُ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْبَصْرِيُّ السَّامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَيِّنِ النَّاسِخَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الَّتِي بَعْدَهَا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ} أَيِ: الْآيَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا: {شَهْرُ رَمَضَانَ} لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَوْضِعِ النَّسْخِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ فَوَصَلَهُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ بِلَفْظِ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرادَ أَنْ يُفْطِرَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَا عَهْدَ لَهُمْ بِالصِّيَامِ، فَكَانُوا يَصُومُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ:{شَهْرُ رَمَضَانَ} فَاسْتَكْثَرُوا ذَلِكَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ تَرَكَ الصِّيَامَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ نَسَخَهُ:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَالْمَسْعُودِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ مُطَوَّلًا فِي الْأَذَانِ وَالْقِبْلَةِ وَالصِّيَامِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَطَرِيقُ ابْنِ نُمَيْرٍ هَذِهِ أَرْجَحُهَا، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِفْطَارَ وَالْإِطْعَامَ كَانَ رُخْصَةً ثُمَّ نُسِخَ، لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ الصِّيَامُ حَتْمًا وَاجِبًا، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَالْخَيْرِيَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلِ الْمُشَارَكَةِ فِي أَصْلِ الْخَيْرِ؟
أَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمَعْنَى: فَالصَّوْمُ خَيْرٌ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالْفِدْيَةِ، وَالتَّطَوُّعُ بِهَا كَانَ سُنَّةً، وَالْخَيْرُ مِنَ السُّنَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاجِبًا، أَيْ: لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنَ السُّنَّةِ إِلَّا الْوَاجِبَ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَتَكَلُّفُهُ. وَدَعْوَى الْوُجُوبِ فِي خُصُوصِ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ، فَنَصَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَكَوْنُ بَعْضِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} مَنْسُوخٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَكِنْهَا مَخْصُوصَةٌ بِالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَنَحْوِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَالْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ.
40 - بَاب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ؟
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي صَوْمِ الْعَشْرِ: لَا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ إطَعَامًا. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ
الْإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
1950 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَه إِلَّا فِي شَعْبَانَ قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ؟) أَيْ: مَتَى تُصَامُ الْأَيَّامُ الَّتِي تُقْضَى عَنْ فَوَاتِ رَمَضَانَ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَضَاءَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَمُرَادُ الِاسْتِفْهَامِ: هَلْ يَتَعَيَّنُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا أَوْ يَجُوزُ مُتَفَرِّقًا؟ وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ يَجُوزُ عَلَى التَّرَاخِي؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَعَلَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ اسْتِفْهَامًا لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لِصِدْقِ أَيَّامٍ أُخَرَ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ إِلْحَاقًا لِصِفَةِ الْقَضَاءِ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ عَائِشَةَ يَقْتَضِي إِيثَارَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْقَضَاءِ لَوْلَا مَا مَنَعَهَا مِنَ الشُّغْلِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ التَّأْخِيرُ.
قُلْتُ: ظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرَاخِي وَالتَّفْرِيقِ لِمَا أَوْدَعَهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْآثَارِ كَعَادَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ وُجُوبَ التَّتَابُعِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَقْضِيهِ تِبَاعًا. وَعَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتْ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهَا قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ يُشْعِرُ بِعَدَمِ وُجُوبِ التَّتَابُعِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمُجِيزُونَ لِلتَّفْرِيقِ أَنَّ التَّتَابُعَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يُفَرَّقُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا يُفَرَّقُ. هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُنْقَطِعًا مُبْهَمًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُعَيَّنًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: يَقْضِيهِ مُفَرَّقًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ بِسَنَدِهِ قَالَ: صُمْهُ كَيْفَ شِئْتَ. وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَضُرُّكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا إِنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَأَحْصِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ قَالَا: فَرِّقْهُ إِذَا أَحْصَيْتَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِذَا أَحْصَى الْعِدَّةَ فَلْيَصُمْ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ نَحْوُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي صَوْمِ الْعَشْرِ لَا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ جَوَازُ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَصُومَ الدَّيْنَ أَوَّلًا لِقَوْلِهِ: لَا يَصْلُحُ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْبُدَاءَةِ بِالْأَهَمِّ وَالْآكَدِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيَّ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ ثُمَّ تَطَوَّعْ مَا شِئْتَ. وَعَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ: النَّخَعِيُّ (إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ إِطْعَامًا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى جَازَ بِزَايٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ مِنَ الْجَوَازِ، وَفِي نُسْخَةٍ حَانَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مِنَ الْحَيْنِ، وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: إِذَا تَتَابَعَ عَلَيْهِ رَمَضَانَانِ صَامَهُمَا فَإِنْ صَحَّ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَقْضِ الْأَوَّلَ فَبِئْسَمَا صَنَعَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَصُمْ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ) أَمَّا أَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَجَدْتُهُ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ مَوْصُولًا، فَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَيُّ إِنْسَانٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَصُمِ الَّذِي حَدَثَ ثُمَّ يَقْضِ الْآخَرَ وَيُطْعِمْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَمْ بَلَغَكَ يُطْعِمُ؟ قَالَ: مُدًّا زَعَمُوا وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: وَأَطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ رَقَبَةَ وَهُوَ ابْنُ مِصْقَلَةَ قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي الْمَرِيضِ يَمْرَضُ وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ، ثُمَّ يَتْرُكُ حَتَّى يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ قَالَ: يَصُومُ الَّذِي حَضَرَهُ ثُمَّ يَصُومُ الْآخَرَ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ فَرَّطَ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَصُمْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ لْيَصُمْ مَا فَاتَهُ وَيُطْعِمْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ بَرْقَانَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، كُلُّهُمْ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى الْإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ:{فَعِدَّةٌ م نْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ قَالَهُ تَفَقُّهًا، وَظَنَّ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ أَنَّهُ بَقِيَّةُ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ فَإِنَّهُ مَفْصُولٌ مِنْ كَلَامِهِ بِأَثَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ إِنَّمَا يَقْوَى مَا احْتَجَّ بِهِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي السُّنَّةِ دَلِيلُ الْإِطْعَامِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ مَنْ ذُكِرَ وَمِنْهُمْ عُمَرُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: وَجَدْتُهُ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا أَعْلَمُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفًا. انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَالَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْإِطْعَامِ ابْنُ عُمَرَ لَكِنَّهُ بَالَغَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يُطْعِمُ وَلَا يَصُومُ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ تَابَعَهُ رَمَضَانَانِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ يَصِحَّ بَيْنَهُمَا قَضَى الْآخِرَ مِنْهَمَا بِصِيَامٍ، وَقَضَى الْأَوَّلَ مِنْهُمَا بِإِطْعَامِ مُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَمْ يَصُمْ لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: تَفَرَّدَ ابْنُ عُمَرَ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: لَكِنْ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: بَلَغَنِي مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ عُمَرَ خِلَافُهُ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا فَإِنَّهُمَا يَعْدِلَانِ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ قَتَادَةَ، وَانْفَرَدَ ابْنُ وَهْبٍ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ صَوْمُ يَوْمَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ أَبُو خَيْثَمَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَوَهَمَ الْكَرْمَانِيُّ تَبَعًا لِابْنِ التِّينِ فَقَالَ: هُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَغَفَلَ عَمَّا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ فِي نَفْسِ السَّنَدِ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هَذَا هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَذَهِلَ مُغَلْطَايْ
فَنَقَلَ عَنِ الْحَافِظِ الضِّيَاءِ أَنَّهُ الْقَطَّانُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ الضِّيَاءَ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ثُمَّ رَدَّهُ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَلَمْ يَقُلِ الْقَطَّانَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْقَطَّانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا سَلَمَةَ، وَلَيْسَتْ لِزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ رِوَايَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ يَرْوِي عَنْ زُهَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ لَا تَتَطَوَّعُ بِشَيْءٍ مِنَ الصِّيَامِ لَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا فِي عَاشُورَاءَ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى جَوَازَ صِيَامِ التَّطَوُّعِ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمِنْ أَيْنَ لِقَائِلِهِ ذَلِكَ؟ قَوْلُهُ:(قَالَ يَحْيَى) أَيِ: الرَّاوِي الْمَذْكُورُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ فَهُوَ مَوْصُولٌ.
قَوْلُهُ: (الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْمَانِعُ لَهَا الشُّغْلُ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: الشُّغْلُ هُوَ الْمَانِعُ لَهَا. وَفِي قَوْلِهِ: قَالَ يَحْيَى هَذَا تَفْصِيلٌ لِكَلَامِ عَائِشَةَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ مُدْرَجًا لَمْ يَقُلْ فِيهِ قَالَ يَحْيَى فَصَارَ كَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ أَوْ مَنْ رَوَى عَنْهَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى مُدْرَجًا أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى، فَبَيَّنَ إِدْرَاجَهُ، وَلَفْظُهُ: فَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْيَى يَقُولُهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَسُفْيَانُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، لَكِنْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا مَعْنَاهُ: فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الزَّمَانَ أَيْ أنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِزَمَانِهِ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: مَا قَضَيْتُ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَكَانَ يَدْنُو مِنَ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، فَلَيْسَ فِي شُغْلِهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ الصَّوْمَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَا تَصُومُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْذَنُ لِاحْتِمَالِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ أَذِنَ لَهَا، وَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الصَّوْمَ فِي شَعْبَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهَا الْقَضَاءُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُدْرَجَةٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَرْفُوعَةً لَكَانَ الْجَوَازُ مُقَيَّدًا بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ لِلْحَدِيثِ حُكْمَ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِي أَزْوَاجِهِ عَلَى السُّؤَالِ مِنْهُ عَنْ أَمْرِ الشَّرْعِ، فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَمْ تُوَاظِبْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ. وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.
41 - بَاب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ، فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ
1951 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدٌ، عَنْ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: الْحَائِضُ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّ التَّرْجَمَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ حُكْمَ الْقَضَاءِ لِتُطَابِقَ حَدِيثَ الْبَابِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَّا تَعْبِيرُهُ بِالتَّرْكِ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُمْكِنٌ حِسًّا، وَإِنَّمَا تَتْرُكُهُ اخْتِيَارًا لِمَنْعِ الشَّرْعِ لَهَا مِنْ مُبَاشَرَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ. . . إِلَخْ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: نَظَرَ أَبُو الزِّنَادِ إِلَى الْحَيْضِ فَوَجَدَهُ مَانِعًا مِنْ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ، وَمَا سَلَبَ الْأَهْلِيَّةَ اسْتَحَالَ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِهِ خِطَابُ الِاقْتِضَاءِ، وَمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِعْلِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، فَلِذَلِكَ اسْتَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَأَحَالَ بِذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالتَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ سُؤَالُ مُعَاذَةَ مِنْ عَائِشَةَ عَنِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهَا عَائِشَةُ السُّؤَالَ وَخَشِيَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ تَلَقَّنَتْهُ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاعْتِرَاضِ السُّنَنِ بِآرَائِهِمْ، وَلَمْ تَزِدْهَا عَلَى الْحَوَالَةِ عَلَى النَّصِّ، وَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهَا: دَعِي السُّؤَالَ عَنِ الْعِلَّةِ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَهُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى الشَّارِعِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ، وَاعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمُتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هُوَ النَّصُّ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ذَكَرُوهُ مِنَ الْفَرْقِ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَعَمَ الْمُهَلَّبُ أَنَّ السَّبَبَ فِي مَنْعِ الْحَائِضِ مِنَ الصَّوْمِ أَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ يُحْدِثُ ضَعْفًا فِي النَّفْسِ غَالِبًا، فَاسْتُعْمِلَ هَذَا الْغَالِبُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا كَانَ الضَّعْفُ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ كَانَ كَذَلِكَ الْحَيْضُ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْمَأْخَذِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَوْ تَحَامَلَ فَصَامَ صَحَّ صَوْمُهُ بِخِلَافِ الْحَائِضِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ فِي نَزْفِ الدَّمِ أَشَدُّ مِنَ الْحَائِضِ وَقَدْ أُبِيحَ لَهَا الصَّوْمُ. وَقَوْلُ أَبِي الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَثِيرٌ.
وَمِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ أَنَّهَا لَوْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَنَوَتْ صَحَّ صَوْمُهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الْغُسْلِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: تَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ الْحَدِيثَ.
42 - بَاب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ
1952 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ.
1953 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى قَالَ سُلَيْمَانُ
فقال الْحَكَمُ وَسَلَمَةُ وَنَحْنُ جَمِيعًا جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَا سَمِعْنَا مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْحَكَمِ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَقَالَ يَحْيَى وَأَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ) أَيْ: هَلْ يُشْرَعُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا شُرِعَ هَلْ يَخْتَصُّ بِصِيَامٍ دُونَ صِيَامٍ أَوْ يَعُمُّ كُلَّ صِيَامٍ؟ وَهَلْ يَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ أَوْ يُجْزِئُ الْإِطْعَامُ؟ وَهَلْ يَخْتَصُّ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ أَوْ يَصِحُّ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ؟ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ لِلْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَالْمُرَادُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الذَّبْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَجُمِعَ لَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا فَصَامُوا عَنْهُ يَوْمًا وَاحِدًا أَجْزَأَ عَنْهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ أَرَ فِيهَا نَقْلًا فِي الْمَذْهَبِ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ الْإِجْزَاءُ. قُلْتُ: لَكِنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِصَوْمٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّتَابُعُ لِفَقْدِ التَّتَابُعِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ) أَيِ: ابْنُ خَلِيٍّ بِمُعْجَمَةٍ وَزْنُ عَلِيٍّ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَجَزَمَ الْجَوْزَقِيُّ بِأَنَّهُ الذُّهْلِيُّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ، وَصَنِيعُ الْمِزِّيِّ يُوَافِقُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ نَسَبَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا إِلَى جَدِّ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَشَيْخَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ هُوَ الْمِصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (مَنْ مَاتَ) عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ لِقَرِينَةٍ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ وَقَوْلُهُ: صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: فَلْيَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُ فَادَّعَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَوْجَبَهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى قَاعِدَتِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَأَجَازَ الصِّيَامَ عَنِ الْمَيِّتِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَابِتَةٌ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهَا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا. ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَالَ: كُلُّ مَا قُلْتُ وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُهُ فَخُذُوا بِالْحَدِيثِ وَلَا تُقَلِّدُونِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَامُ عَنِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُصَامُ عَنْهُ إِلَّا النَّذْرُ حَمْلًا لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ سَأَلَ عَنْهَا مَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى نَحْوِ هَذَا
الْعُمُومِ حَيْثُ قِيلَ: فِي آخِرِهِ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى. وَأَمَّا رَمَضَانُ فَيُطْعِمُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِدَعْوَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَعَادَتِهِمْ، وَادَّعَى الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَلَيْسَ الِاضْطِرَابُ فِيهِ مُسَلَّمًا كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَلَا اضْطِرَابَ فِيهِ. وَاحْتَجَّ الْقُرْطُبِيُّ بِزِيَادَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُعْظَمَ الْمُجِيزِينَ لَمْ يُوجِبُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يَتَخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْجَدِيدِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَيْ: فَعَلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ، قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: التُّرَابُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ قَالَ: فَسَمَّى الْبَدَلَ بِاسْمِ الْمُبْدَلِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَاعْتَلُّوا لِعَدَمِ الْقَوْلِ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثِينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ، قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ فِي رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ قَالَ: يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلَاثُونَ مِسْكِينًا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ قَالُوا: فَلَمَّا أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ بِخِلَافِ مَا رَوَيَاهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِ مَا رَوَيَاهُ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَهُمْ مَعْرُوفَةٌ، إِلَّا أَنَّ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا مَقَالٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ الصِّيَامَ إِلَّا الْأَثَرُ الَّذِي عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ، وَمُسْتَنَدُهُ فِيهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَعْفُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ صِحَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يُتْرَكِ الْمُحَقَّقُ لِلْمَظْنُونِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُصُولِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَلِيُّهُ فَقِيلَ: كُلُّ قَرِيبٍ، وَقِيلَ: الْوَارِثُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: عَصَبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَالثَّانِي قَرِيبٌ، وَيَرُدُّ الثَّالِثَ قِصَّةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ عَنْ نَذْرِ أُمِّهَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ؟ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ الدَّلِيلُ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْوَلِيِّ فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَصُومَ عَنْهُ أَجْزَأَ كَمَا فِي الْحَجِّ، وَقِيلَ: يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ الْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ الْوَلِيَّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ اخْتِيَارُ هَذَا الْأَخِيرِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَقَوَّاهُ بِتَشْبِيهِهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَرِيبِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو) يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ الْمَذْكُورَ بِسَنَدِهِ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) يَعْنِي: الْمِصْرِيَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَوَافِقَةٌ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ فَزَادَ فِي آخِرِ الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِـ صَاعِقَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْأَزْدِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْكَرْمَانِيِّ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا وَفِي الْجِهَادِ وَفِي الصَّلَاةِ بِوَاسِطَةٍ، وَكَانَ طَلَبَ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَ لِلْحَدِيثِ وَهُوَ كَبِيرٌ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ طَلَبَهُ وَهُوَ عَلَى قَدْرِ سِنِّهِ لَكَانَ مِنْ أَعْلَى شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَزَائِدَةُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ قُدَامَةَ الثَّقَفِيُّ مَشْهُورٌ، قَدْ لَقِيَ الْبُخَارِيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ، وَشُعْبَةُ لَا يُحَدِّثُ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ رُبَّمَا دَلَّسُوا إِلَّا بِمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ زَائِدَةَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَاتَّفَقَ مَنْ عَدَا زَائِدَةَ، وَعَبْثَرَ بْنَ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ، وَزَادَ أَبُو حَرِيزٍ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهَا خَثْعَمِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أُمِّي) خَالَفَ أَبُو حَامِدٍ جَمِيعَ مَنْ رَوَاهُ فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي وَاخْتُلِفَ عَلَى أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْهُ: ذَاتُ قَرَابَةٍ لَهَا وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْهُ إِنَّ أُخْتَهَا أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ، وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْهُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا؛ إِمَّا أُخْتُهَا وَإِمَّا ابْنَتُهَا وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيهِ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ: شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ وَرِوَايَتُهُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، إِلَّا رِوَايَةَ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَقَالَ: إِنَّ عَلَيهَا صَوْمَ نَذْرٍ وَهَذَا وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ غَيْرُ رَمَضَانَ، وَبَيَّنَ أَبُو بِشْرٍ فِي رِوَايَتِهِ سَبَبَ النَّذْرِ، فَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتِ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ، فَأَتَتْ أُخْتُهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ اضْطَرَبَ فِيهِ الرُّوَاةُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ السَّائِلَ امْرَأَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَجُلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ نَذْرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالصَّوْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْحَجِّ لِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السَّائِلَةَ فِي نَذْرِ الصَّوْمِ خَثْعَمِيَّةٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ الْمُعَلَّقَةِ، وَالسَّائِلَةَ عَنْ نَذْرِ الْحَجِّ جُهَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَنِ الْحَجِّ وَعَنِ الصَّوْمِ مَعًا.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ السَّائِلِ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَالْمَسْئُولِ عَنْهُ أُخْتًا أَوْ أَمَّا فَلَا يَقْدَحُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَا اضْطِرَابَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ قُبَيْلَ فَضْلِ الْمَدِينَةِ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُلَيْمَانُ) هُوَ الْأَعْمَشُ، يَعْنِي: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْحَكَمُ) أَيْ: ابْنُ عُتَيْبَةَ، وَسَلَمَةُ أَيْ: ابْنُ كُهَيْلٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَعْمَشَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ مُسْلِمِ الْبَطِينِ: أَوَّلًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ مِنَ الْحَكَمِ، وَسَلَمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وقَدْ خَالَفَ زَائِدَةَ فِي ذَلِكَ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ. . . إِلَخْ) مُحَصَّلُهُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ جَمَعَ بَيْنَ شُيُوخِ الْأَعْمَشِ الثَّلَاثَةِ، فَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ عَنْهُمْ عَنْ شُيُوخٍ ثَلَاثَةٍ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ اللَّفَّ وَالنَّشْرَ بِغَيْرِ تَرْتِيبٍ، فَيَكُونَ شَيْخُ الْحَكَمِ، عَطَاءً، وَشَيْخُ الْبَطِينِ، سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَشَيْخُ سَلَمَةَ، مُجَاهِدًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَغْرَاءَ، عَنِ الْأَعْمَشِ مُفَصَّلًا هَكَذَا، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ أَبِي خَالِدٍ وَقَدْ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ لَكِنْ لَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ زَائِدَةَ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً سَيَأْتِي بَيَانُهَا. وَوَصَلَهَا أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى) أَيِ: ابْنُ سَعِيدٍ (وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ. . . إِلَخْ) وَافَقَا زَائِدَةَ عَلَى أَنَّ شَيْخَ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ وَآخَرُونَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَطُرُقُهُمْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) أَيِ: الرَّقِّيُّ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ إِلَخْ) هَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَغْرَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ شَيْخَ الْحَكَمِ فِيهَا عَطَاءٌ وَفِي
هَذِهِ شَيْخُهُ سَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَطَرِيقُ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذِهِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَالزَّايِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ قَاضِي سِجِسْتَانَ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَمِنْ جِهَتِهِ الْبَيْهَقِيُّ.
43 - بَاب مَتَى فِطْرُ الصَّائِمِ؟
وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ
1954 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ.
1955 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ يَا فُلَانُ قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ) غَرَضُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ لِتَحَقُّقِ مُضِيِّ النَّهَارِ أَمْ لَا؟ وَظَاهِرُ صَنِيعِهِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الثَّانِي لِذِكْرِهِ لِأَثَرِ أَبِي سَعِيدٍ فِي التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ إِذَا مَا حَصَلَ تَحَقُّقُ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
قَوْلُهُ: (وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ فَأَفْطَرَ وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمَّا تَحَقَّقَ غُرُوبَ الشَّمْسِ لَمْ يَطْلُبْ مَزِيدًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا الْتَفَتَ إِلَى مُوَافَقَةِ مَنْ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ يَجِبُ عِنْدَهُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ لَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أحدهما حديث عمر.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ حِجَازِيُّونَ: الْحُمَيْدِيُّ، وَسُفْيَانُ مَكِّيَّانِ، وَالْبَاقُونَ مَدَنِيُّونَ. وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ، وَرِوَايَةُ تَابِعِيٍّ صَغِيرٍ عَنْ تَابِعِيٍّ كَبِيرٍ: هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، وَصَحَابِيٍّ صَغِيرٍ عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ مَوْلِدُ عَاصِمٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ لِي.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا) أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وُجُودُ الظُّلْمَةِ حِسًّا، وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُتَلَازِمَةً فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُتَلَازِمَةٍ، فَقَدْ يُظَنُّ إِقْبَالُ اللَّيْلِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَلَا يَكُونُ إِقْبَالُهُ حَقِيقَةً بَلْ لِوُجُودِ أَمْرٍ يُغَطِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ إِدْبَارُ النَّهَارِ، فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ إِشَارَةً إِلَى اشْتِرَاطِ تَحَقُّقِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَأَنَّهُمَا بِوَاسِطَةِ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى حَالَيْنِ: أَمَّا حَيْثُ ذَكَرَهَا فَفِي حَالِ الْغَيْمِ مَثَلًا، وَأَمَّا حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهَا فَفِي
حَالِ الصَّحْوِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَحَفِظَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ مَعًا لِإِمْكَانِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ الْغُرُوبِ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: الظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ انْقِضَاءُ النَّهَارِ بِأَحَدِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ الِاقْتِصَارُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى عَلَى إِقْبَالِ اللَّيْلِ
قَوْلُهُ: (فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) أَيْ: دَخَلَ فِي وَقْت الْفِطْرِ كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ، إِذَا أَقَامَ بِنَجْدٍ، وَأَتْهَمَ إِذَا أَقَامَ بِتِهَامَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: فَقَدْ صَارَ مُفْطِرًا فِي الْحُكْمِ لِكَوْنِ اللَّيْلِ لَيْسَ طَرَفًا لِلصِّيَامِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ رَدَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَأَوْمَأَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ لَفْظُ خَبَرٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، أَيْ: فَلْيُفْطِرِ الصَّائِمُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فَقَدْ صَارَ مُفْطِرًا كَانَ فِطْرُ جَمِيعِ الصُّوَّامِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّرْغِيبِ فِي تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ مَعْنًى اهـ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُ الْإِفْطَارِ حِسًّا لِيُوَافِقَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي مُعْتَمِدًا لَكَانَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُفْطِرَ فَصَامَ فَدَخَلَ اللَّيْلُ حَنِثَ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا، وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِعَيْنِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَفْطَرْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَصَادَفَ يَوْمَ الْعِيدِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى يَتَنَاوَلَ مَا يُفْطِرُ بِهِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمُ الشَّطَطَ فَقَالَ: يَحْنَثُ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَيْضًا رِوَايَةُ شُعْبَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: فَقَدْ حَلَّ الْإِفْطَارُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي بَابِ الْوِصَالِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
الحديث الثاني حديث ابن أبي أوفى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) سَيَأْتِي في الْبَابُ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) هَذَا السَّفَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ هُشَيْمٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَفَرَهُ فِي رَمَضَانَ مُنْحَصِرٌ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَإِنْ ثَبَتَ فَلَمْ يَشْهَدِ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بَدْرًا، فَتَعَيَّنَتْ غَزْوَةُ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ) فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنًى أَزِيدَ مِنْ مَعْنَى غَابَتْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ: يَا فُلَانُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَدَعَا صَاحِبَ شَرَابِهِ بِشَرَابٍ فَقَالَ: لَوْ أَمْسَيْتُ وَسَأَذْكُرُ مَنْ سَمَّاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَاجْدَحْ) بِالْجِيمِ ثُمَّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْجَدْحُ تَحْرِيكُ السَّوِيقِ وَنَحْوِهِ بِالْمَاءِ بِعُودٍ يُقَالُ لَهُ: الْمِجْدَحُ، مُجَنَّحُ الرَّأْسِ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: اجْدَحْ لِي أَيْ: احْلِبْ، وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ كَانَ يَرَى كَثْرَةَ الضَّوْءِ مِنْ شِدَّةِ الصَّحْوِ، فَيَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ وَيَقُولُ: لَعَلَّهَا غَطَّاهَا شَيْءٌ مِنْ جَبَلٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ غَيْمٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي: وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَإِخْبَارٌ مِنْهُ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِلَّا فَلَوْ تَحَقَّقَ الصَّحَابِيُّ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ مَا تَوَقَّفَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَانِدًا، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ احْتِيَاطًا وَاسْتِكْشَافًا عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ الِاسْتِفْسَارِ عَنِ الظَّوَاهِرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ إِمْرَارَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابِيَّ عَلَى تَرْكِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الِامْتِثَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ مُطْلَقًا، بَلْ مَتَى تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ حَلَّ الْفِطْرُ. وَفِيهِ تَذَكُّرُ الْعَالِمِ بِمَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ نَسِيَهُ وَتَرْكُ الْمُرَاجَعَةِ لَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ فِي ذَلِكَ، فَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ فِيهَا أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ وَقَعَ ثَلَاثًا وَفِي بَعْضِهَا مَرَّتَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا مَرَّةً
وَاحِدَةً، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ اخْتَصَرَ الْقِصَّةَ، وَرِوَايَةُ خَالِدٍ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَتَمُّهُمْ سِيَاقًا وَهُوَ حَافِظٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: كَانَ لِيَهُودِيِّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَفِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ بَيَانُ وَقْتِ الصَّوْمِ وَأَنَّ الْغُرُوبَ مَتَى تَحَقَّقَ كَفَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْفِطْرَ عَنِ الْغُرُوبِ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ أَبْلَغُ مِنَ الْحِسِّيِّ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْضِي عَلَى الشَّرْعِ. وَفِيهِ الْبَيَانُ بِذِكْرِ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ جَمِيعًا لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ.
44 - بَاب يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ
1956 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا. فَنَزَلَ فَجَدَحَ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ) أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ مَخْلُوطًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمَاءِ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ وَجَدَ تَمْرًا فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَقَدْ شَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَأَوْجَبَ الْفِطْرَ عَلَى التَّمْرِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمَاءِ.
قَوْلُهُ: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا) لَمْ يُسَمِّ الْمَأْمُورَ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَسَمَّاهُ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: يَا بِلَالُ انْزِلْ إِلَخْ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ شَيْخُ مُسَدَّدٍ فِيهِ، فَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: يَا فُلَانُ فَلَعَلَّهَا تَصَحَّفَتْ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْبُخَارِيِّ لَهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ عن الشَّيْبَانِيِّ بِلَفْظِ: يَا فُلَانُ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ. . . إِلَخْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ عُمَرَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ هُوَ الْمَقُولَ لَهُ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ. . . إِلَخْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقُولَ لَهُ أَوَّلًا: اجْدَحْ لَكِنْ يُؤَيِّدُ كَوْنَهُ بِلَالًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ: فَدَعَا صَاحِبَ شَرَابِهِ فَإِنَّ بِلَالًا هُوَ الْمَعْرُوفُ بِخِدْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
45 - بَاب تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ
1957 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ.
1958 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى قَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، قَالَ: لَوْ انْتَظَرْتَ حَتَّى تُمْسِيَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثُ تَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ صِحَاحٌ مُتَوَاتِرَةٌ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا، وَأَبْطَأَهُمْ سُحُورًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا وَظُهُورُ الدِّينِ مُسْتَلْزِمٌ لِدَوَامِ الْخَيْرِ.
قَوْلُهُ: (مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ: وَأَخَّرُوا السُّحُورَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمَا ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: مُدَّةَ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ وَاقِفِينَ عِنْدَ حَدِّهَا غَيْرَ مُتَنَطِّعِينَ بِعُقُولِهِمْ مَا يُغَيِّرُ قَوَاعِدَهَا، زَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ: لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَتَأْخِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ أَمَدٌ، وَهُوَ ظُهُورُ النَّجْمِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ وَفِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُزَادَ فِي النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالصَّائِمِ وَأَقْوَى لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ عَدْلَيْنِ، وَكَذَا عَدْلٌ وَاحِدٌ فِي الْأَرْجَحِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ فِي تَأْخِيرِهِمُ الْفِطْرَ إِلَى ظُهُورِ النُّجُومِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُودِ الْخَيْرِ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُؤَخِّرُهُ يَدْخُلُ فِي فِعْلِ خِلَافِ السُّنَّةِ اهـ.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الشِّيعَةَ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ تَحْدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا لِمَنْ تَعَمَّدَهُ، وَرَأَى الْفَضْلَ فِيهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ كَذَلِكَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُسْتَحَبًّا أَنْ يَكُونَ نَقِيضُهُ مَكْرُوهًا مُطْلَقًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ سِتَّةِ شَوَّالٍ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّهَا مُلْتَحِقَةٌ بِرَمَضَانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ.
(تَنْبِيهٌ): مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ مَا أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ إِيقَاعِ الْأَذَانِ الثَّانِي قَبْلَ الْفَجْرِ بِنَحْوِ ثُلُثِ سَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَإِطْفَاءِ الْمَصَابِيحِ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الصِّيَامَ زَعْمًا مِمَّنْ أَحْدَثَهُ أَنَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ، وَقَدْ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارُوا لَا يُؤَذِّنُونَ إِلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ بِدَرَجَةٍ لِتَمْكِينِ الْوَقْتِ زَعَمُوا، فَأَخَّرُوا الْفِطْرَ، وَعَجَّلُوا السُّحُورَ، وَخَالَفُوا السُّنَّةَ، فَلِذَلِكَ قَلَّ عَنْهُمُ الْخَيْرُ وَكَثُرَ فِيهِمُ الشَّرُّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَرِيبًا.
46 - بَاب إِذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ
1959 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَتْ: أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، قِيلَ لِهِشَامٍ: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا يقول: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ) أَيْ: ظَانًّا غُرُوبَ الشَّمْسِ (ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ
الْيَوْمِ أَوْ لَا. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ عُمَرَ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَالْمُرَادُ بِالطُّلُوعِ الظُّهُورُ، وَكَأَنَّهُ رَاعَى لَفْظَ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ قُرْصَ الشَّمْسِ كُلَّهُ ظَهَرَ مُرْتَفِعًا، وَلَوْ عَبَّرَ بِـ ظَهَرَتْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ فَاطِمَةَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ هِشَامٍ وَزَوْجَتُهُ، وَأَسْمَاءُ جَدَّتُهُمَا جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ غَيْمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِيهِ بِنَصْبِ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ: فِي يَوْمِ غَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ: لِهِشَامٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ قُلْتُ لِهِشَامٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ.
قَوْلُهُ: (بُدٌّ مِنْ قَضَاءٍ) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ، وَالْمَعْنَى: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ لَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقُولُ: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ إِنْسَانٌ لِهِشَامٍ: أَقَضَوْا أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تُعَارِضُ الَّتِي قَبْلَهَا، لَكِنْ يُجْمَعُ بِأَنَّ جَزْمَهُ بِالْقَضَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَنَدَ فِيهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَلَا يُحْفَظُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقضَاءِ وَلَا نَفْيُهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْهُ تَرْكَ الْقَضَاءِ، وَلَفْظُ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدٍ فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ نَقْض وَاللَّهِ مَا يُجَانِفُنَا الْإِثْمُ وَرَوَى مَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَفْطَرَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتَهَدْنَا وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: نَقْضِي يَوْمًا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوُهُ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَفِيهِ: فَقَالَ: مَنْ أَفْطَرَ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ.
وَجَاءَ تَرْكُ الْقَضَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالَ: قَوْلُ هِشَامٍ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ لَمْ يُسْنِدْهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عِنْدِي أَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءً، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ لَوْ غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ فَأَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الْقَضَاءَ إِذَا كَانَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِالظَّاهِرِ، فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَخْطَئُوا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ.
47 - بَاب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِنَشْوَانٍ فِي رَمَضَانَ: وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ. فَضَرَبَهُ
1960 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عن خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ الصِّبْيَانِ) أَيْ: هَلْ يُشْرَعُ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُونَ الْبُلُوغِ، وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِلتَّمْرِينِ عَلَيْهِ إِذَا أَطَاقُوهُ، وَحَدَّهُ أَصْحَابُهُ بِالسَّبْعِ وَالْعَشْرِ كَالصَّلَاةِ، وَحَدَّهُ إِسْحَاقُ بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
إِذَا أَطَاقَ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تِبَاعًا لَا يَضْعُفُ فِيهِنَّ حُمِلَ عَلَى الصَّوْمِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ، وَلَقَدْ تَلَطَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعَقُّبِ عَلَيْهِمْ بِإِيرَادِ أَثَرِ عُمَرَ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي مُعَارَضَةِ الْأَحَادِيثِ دَعْوَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهَا، وَلَا عَمَلَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنَ الْعَمَلِ فِي عَهْدِ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ تَحَرِّيهِ وَوُفُورِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ قَالَ لِلَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُوَبِّخًا لَهُ: كَيْفَ تُفْطِرُ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ؟، وَأَغْرَب ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: إِذَا أَطَاقَ الصِّبْيَانُ الصِّيَامَ أُلْزِمُوهُ، فَإِنْ أَفْطَرُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانَ. . . إِلَخْ) أَيْ: لِإِنْسَانٍ نَشْوَانَ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، كَسَكْرَانَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَجَمْعُهُ نُشَاوَى كَسُكَارَى، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: سَكِرَ الرَّجُلُ وَانْتَشَى وَثَمِلَ وَنَزَفَ بِمَعْنًى، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: نَشَى الرَّجُلُ وَانْتَشَى وَتَنَشَّى كُلُّهُ سَكِرَ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ: النَّشْوَانُ السَّكْرَانُ سُكْرًا خَفِيفًا.
وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُذَيْلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِرَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ; فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ جَعَلَ يَقُولُ: لِلْمَنْخِرَيْنِ وَالْفَمِ وَفِي رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ: فَلَمَّا رُفِعَ إِلَيْهِ عَثَرَ فَقَالَ عُمَرُ: عَلَى وَجْهِكَ وَيْحَكَ، وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ثَمَانِينَ سَوْطًا، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ وَفِي رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ: فَضَرَبَهُ الحد، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى إِنْسَانٍ سَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ) هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَدَنِيُّ نَزِيلُ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ سَمَاعٌ مِنْ سِوَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وَهِيَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُخْرِجِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ الرُّبَيِّعِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَالِدٍ سَأَلْتُ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مُصَغَّرًا وَأَبُوهَا بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالتَّشْدِيدِ بِوَزْنِ مُعَلِّمٍ، وَهُوَ ابْنُ عَوْفٍ وَيُعْرَفُ بِابْنِ عَفْرَاءَ، يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنَ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ) زَادَ مُسْلِمٌ: الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَسْمِيَةُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ فِي بَابِ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا.
قَوْلُهُ: (صِبْيَانُنَا) زَادَ مُسْلِمٌ الصِّغَارُ، وَنَذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْعِهْنِ) أَيِ: الصُّوفُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فِي آخَرِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: الْعِهْنُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ.
قَوْلُهُ: (أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ تُوَضِّحُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ فَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ وَهُوَ يُوَضِّحُ صِحَّةَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ شَكٌّ فِي تَقْيِيدِهِ الصِّبْيَانَ بِالصِّغَارِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، وَتَقْيِيدُهُ بِالصِّغَارِ لَا يُخْرِجُ الْكِبَارَ، بَلْ يُدْخِلُهُمْ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ رَزِينَةَ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ -: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ مِرْضَعَاتِهِ فِي عَاشُورَاءَ وَرُضَعَاءَ فَاطِمَةَ فَيَتْفُلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَيَأْمُرُ أُمَّهَاتِهِمْ أَنْ لَا يُرْضَعْنَ إِلَى اللَّيْلِ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَتَوَقَّفَ فِي صِحَّتِهِ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتُ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى صِيَامِ عَاشُورَاءَ بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا، وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَمْرِينِ الصِّبْيَانِ عَلَى الصِّيَامِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ السِّنِّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنَّمَا صَنَعَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلتَّمْرِينِ، وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبُ صَغِيرٍ بِعِبَادَةٍ غَيْرِ مُتَكَرِّرَةٍ فِي السَّنَةِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ رَزِينَةَ يَرُدُّ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ: فَعَلْنَا كَذَا فِي عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ حُكْمُهُ الرَّفْعَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَيْهِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ الْأَحْكَامِ،
مَعَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ فَمَا فَعَلُوهُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
48 - بَاب الْوِصَالِ
وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ
لِقَوْلِهِ عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّعَمُّقِ
1961 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى
[الحديث 1961 - طرفه في: 7241]
1962 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى"
1963 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ. قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ.
[الحديث 1963 - طرفه في: 1967]
1964 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ فَقَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ رَحْمَةً لَهُمْ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوِصَالِ) هُوَ التَّرْكُ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ لِمَا يُفْطِرُ بِالنَّهَارِ بِالْقَصْدِ، فَيَخْرُجُ مَنْ أَمْسَكَ اتِّفَاقًا. وَيَدْخُلُ مَنْ أَمْسَكَ جَمِيعَ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضَهُ، وَلَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِهِ لِشُهْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ وَوَصَلَهُ فِي الْعِلَلِ الْمُفْرَدِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ وَالدُّولَابِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْكُنَى كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي فَرْوَةَ الرُّهَاوِيِّ، عَنْ مَعْقِلٍ الْكَنَدِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْهُ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبِ الصِّيَامَ بِاللَّيْلِ، فَمَنْ صَامَ فَقَدْ تَعَنَّى، وَلَا أَجْرَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: مَا أَرَى عُبَادَةَ سَمِعَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْرِ، وَفِي الْمَعْنَى حَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى لَيْلَى امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ هَذَا، وَقَالَ:
يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى، أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَأَفْطِرُوا لَفْظُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَهُوَ مُفْطِرٌ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ: لَا صِيَامَ بَعْدَ اللَّيْلِ أَيْ: بَعْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مَا عَرَفْتَهُ فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٍ وَمُعَارِضُهُ أَصَحُّ مِنْهُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يَكُنْ لِلْوِصَالِ مَعْنًى أَصْلًا، وَلَا كَانَ فِي فِعْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ.
قَوْلُهُ: (وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَصْحَابَهُ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْوِصَالِ (رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ)، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِجَامَةِ وَالْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَهُوَ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورَ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ) هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْوِصَالُ أَيْ: بَابُ ذِكْرِ الْوِصَالِ، وَذِكْرِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ، وَالتَّعَمُّقُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَكَلُّفِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، وَعُمْقُ الْوَادِي قَعْرُهُ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْوِصَالِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ، وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (لَا تُوَاصِلُوا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَأَنَّ الْقَائِلَ وَاحِدٌ وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى الْجَمِيعِ لِرِضَاهُمْ بِهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ.
قَوْلُهُ: (لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: كَأَحَدِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَسْتُ مِثْلَكُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي وَنَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يُفِيدُ التَّوْبِيخَ الْمُشْعِرَ بِالِاسْتِبْعَادِ، وَقَوْلُهُ: مِثْلِي أَيْ: عَلَى صِفَتِي أَوْ مَنْزِلَتِي مِنْ رَبِّي.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى) هَذَا الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ بَهْزٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنَى أَظَلُّ - أَوْ قَالَ - إِنِّي أَبِيتُ وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ ثَابِت عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّمَنِّي بِلَفْظِ: إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي وَبَيَّنَ فِي رِوَايَتِهِ سَبَبَ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. ثَانِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَرَكَةِ السُّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ ذِكْرُ السَّبَبِ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمْ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ ; وَأَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي رَمَضَانَ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى) فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَّةَ الْمَذْكُورَةِ: إِنِّي أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَفِيهِ: فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ.
رَابِعُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ فيه: (عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ: (رَحْمَةً لَهُمْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمَشَقَّةِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ) أَيِ: ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ شَيْخَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ: (رَحْمَةً لَهُمْ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ وَحْدَهُ، قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ جَمِيعًا وَفِيهِ: رَحْمَةً لَهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِيهِمَا عَنْ عُثْمَانَ وَلَيْسَ فِيهِ: رَحْمَةً لَهُمْ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُمَا كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ وَفِيهِ: رَحْمَةً لَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَتَارَةً يَحْذِفُهَا، وَقَدْ رَوَاهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ: قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِهَا إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ الْحَدِيثَ.
وَاسْتُدِلَّ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِلَّا مَا وَقَعَ فِيهِ التَّرْخِيصُ مِنَ الْإِذْنِ فِيهِ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ: فَقِيلَ: عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَيُبَاحُ لِمَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَنُقِلَ التَّفْصِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيْضًا أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ زَيْدٍ التَّيْمِيُّ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ كَمَا نَقَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرُهُمْ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ مَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ بِأَصْحَابِهِ بَعْدَ النَّهْيِ فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى فِعْلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّهْيِ الرَّحْمَةَ لَهُمْ وَالتَّخْفِيفَ عَنْهُمْ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِهَا، وَهَذَا مِثْلُ مَا نَهَاهُمْ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ مِمَّنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ ذَلِكَ فِي صِيَامِ الدَّهْرِ، فَمَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْصِدْ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا رَغِبَ عَنِ السُّنَّةِ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْوِصَالِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِ الْوِصَالِ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَنَقَلَ التَّحْرِيمَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى شَكٍّ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِشَكِّهِ، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حَزْمٍ بِتَحْرِيمِهِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا الْوِصَالُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ عَشَائِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ لَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَكْلَةٌ، فَإِذَا أَكَلَهَا السَّحَرَ كَانَ قَدْ نَقَلَهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ وَكَانَ أَخَفَّ لِجِسْمِهِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الصَّائِمِ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً، وَانْفَصَلَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ إِلَى السَّحَرِ لَيْسَ وِصَالًا بَلِ الْوِصَالُ أَنْ يُمْسِكَ فِي اللَّيْلِ جَمِيعِهِ كَمَا يُمْسِكُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْإِمْسَاكِ إِلَى السَّحَرِ وِصَالًا لِمُشَابَهَتِهِ الْوِصَالَ فِي الصُّورَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ الدَّعْوَى بِأَنَّ الْوِصَالَ إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِمْسَاكِ جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوَاصِلُ مِنَ سَحَرٍ إِلَى سَحَرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مُرْسَلًا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
قِلَابَةَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَاحْتَجُّوا لِلتَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ إِذْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّيْلَ مَحَلًّا لِسِوَى الْفِطْرِ فَالصَّوْمُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَضْعِهِ كَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَأَجَابُوا أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهُ: رَحْمَةً لَهُمْ لَا يَمْنَعُ التَّحْرِيمَ، فَإِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ أَنْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مُوَاصَلَتُهُ بِهِمْ بَعْدَ نَهْيِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَقْرِيرًا بَلْ تَقْرِيعًا وَتَنْكِيلًا، فَاحْتَمَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ مُصْلِحَةِ النَّهْيِ فِي تأَكِيدِ زَجْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا بَاشَرُوه ظَهَرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ النَّهْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ أُدْعَى إِلَى قُلُوبِهِمْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَلِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ وَأَرْجَحُ مِنْ وَظَائِفِ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجُوعُ الشَّدِيدُ يُنَافِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوِصَالَ يَخْتَصُّ بِهِ لِقَوْلِهِ: لَسْتُ فِي ذَلِكَ مِثْلَكُمْ وَقَوْلُهُ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ هَذَا مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ.
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي قَدَّمْتُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمِ الْوِصَالَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، وَلَيْسَ بِالْعَزِيمَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ وِصَالَكَ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ فَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ إِقْدَامُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْوِصَالِ بَعْدَ النَّهْيِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ أَيْضًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ سَوَّى فِي عِلَّةِ النَّهْيِ بَيْنَ الْوِصَالِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ، حَيْثُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إِنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ سِوَى بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَا فِيهِ مِنْ فَطْمِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَقَمْعِهَا عَنْ مَلْذُوذَاتِهَا فَلِهَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِوَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ بِدَلِيلٍ، وَفِيهِ جَوَازُ مُعَارَضَةِ الْمُفْتِي فِيمَا أَفْتَى بِهِ إِذَا كَانَ بِخِلَافِ حَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَفْتِي بِسِرِّ الْمُخَالَفَةِ، وَفِيهِ الِاسْتِكْشَافُ عَنْ حِكْمَةِ النَّهْيِ، وَفِيهِ ثُبُوتُ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} مَخْصُوصٌ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى فِعْلِهِ الْمَعْلُومِ صِفَتُهُ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى الِائْتِسَاءِ بِهِ إِلَّا فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ خَصَائِصَهُ لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِي جَمِيعِهَا، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ التَّشَبُّهُ بِهِ فِي الْمُبَاحِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالضُّحَى، وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَالْوِصَالُ مِنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لَمْ يُمْنَعِ الِائْتِسَاءُ بِهِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِيجَادِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَاتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
49 - بَاب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ
رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1965 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ
وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ. كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا
[الحديث 1965 - أطرافه في: 1966، 6851، 7242، 7299]
1966 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ مَرَّتَيْنِ قِيلَ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ "
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ) التَّقْيِيدُ بأَكْثَرَ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَلل مِنْهُ لَا نَكَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيلَ مِنْهُ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ التَّنْكِيلِ ثُبُوتُ الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَهُ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هَكَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَتَابَعَهُ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّعْزِيرِ، وَمَعْمَرٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّمَنِّي، وَيُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَآخَرُونَ. وَخَالَفَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُحَارِبِينَ وَفِي التَّمَنِّي، وَلَيْسَ اخْتِلَافًا ضَارًّا فَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ تَابَعَ ابْنَ نُمَيْرٍ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْوِصَالِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنَ الْوِصَالِ.
قَوْلُهُ: (وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ قَدْرَ الْمُوَاصَلَةِ بِهِمْ كَانَتْ يَوْمَيْنِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (لَوْ تَأَخَّرَ) أَيِ: الشَّهْرُ (لَزِدْتُكُمْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ لَوْ، وَحَمْلِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ أَيْ: فِي الْوِصَالِ إِلَى أَنْ تَعْجِزُوا عَنْهُ فَتَسْأَلُوا التَّخْفِيفَ عَنْكُمْ بِتَرْكِهِ، وَهَذَا كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ فَلَمْ يُعْجِبُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِمُبَاكَرَةِ الْقِتَالِ مِنَ الْغَدِ فَأَصَابَتْهُمْ جِرَاحٌ وَشِدَّةٌ وَأَحَبُّوا الرُّجُوعَ فَأَصْبَحَ رَاجِعًا بِهِمْ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ مُوَضَّحًا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ وَوَقَعَ فِيهَا عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي كَالْمُنْكِرِ بِالرَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَلِلْحَمَوِيِّ كَالْمُنْكِي بِتَحْتَانِيَّةِ سَاكِنَةٍ قَبْلَهَا كَافٌ مَكْسُورَةٌ خفِيفَةٌ مِنَ النِّكَايَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ خَارِجَ هَذَا الْكِتَابِ، وَالتَّنْكِيلُ الْمُعَاقَبَةُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى.
قَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ مَرَّتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ، إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَرَّتَيْنِ اخْتِصَارٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ شَيْخِهِ، وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِدُونِ قَوْلُهُ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ) كَذَا فِي الطَّرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: أَظَلُّ وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهِيَ
مَحْمُولَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الْكَوْنِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ هُوَ الْإِمْسَاكُ لَيْلًا لَا نَهَارًا; وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَبِيتُ وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَبَّرَ عَنْهَا بِـ أَظَلُّ نَظَرًا إِلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الْكَوْنِ، يَقُولُونَ كَثِيرًا: أَضْحَى فُلَانٌ كَذَا. مَثَلًا، وَلَا يُرِيدُونَ تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِوَقْتِ الضُّحَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} ). فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِنَهَارٍ دُونَ لَيْلٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ شَيْءٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَلَفْظُ عُمَارَةَ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُ: إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي.
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِيهَا: عِنْدَ رَبِّي وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا الْأَعْمَشُ فَقَدْ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَوَقَعَتْ فِي حَدِيثِ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ الْمَاضِي فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا بِلَفْظِ: أَظَلُّ عِنْدَ اللَّهِ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بِلَفْظِ: عِنْدَ رَبِّي وَوَقَعَتْ أَيْضًا كَذَلِكَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ بِلَفْظِ: إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِطَعَامِ وَشَرَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَرَامَةً لَهُ فِي لَيَالِي صِيَامِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا، وَبِأَنَّ قَوْلَهَ: يَظَلُّ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ، فَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّاجِحَ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَفْظُ أَبِيتُ دُونَ أَظَلُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الثُّبُوتِ فَلَيْسَ حَمْلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الْمَجَازِ بِأَوْلَى لَهُ مِنْ حَمْلِ لَفْظِ أَظَلُّ عَلَى الْمَجَازِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يُؤْتَى بِهِ الرَّسُولُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَشَرَابِهَا لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ كَمَا غُسِلَ صَدْرُهُ صلى الله عليه وسلم فِي طَسْتِ
الذَّهَبِ، مَعَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَوَانِي الذَّهَبِ الدُّنْيَوِيَّةِ حَرَامٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الَّذِي يُفْطِرُ شَرْعًا إِنَّمَا هُوَ الطَّعَامُ الْمُعْتَادُ، وَأَمَّا الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ كَالْمُحْضَرِ مِنَ الْجَنَّةِ فَعَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ تَعَاطِيهِ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ، كَأَكْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْكَرَامَةُ لَا تُبْطِلُ الْعِبَادَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، بَلِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ: أَبِيتُ، وَأَكْلُهُ وَشُرْبُهُ فِي اللَّيْلِ مِمَّا يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، لَا يَقْطَعُ وِصَالَهُ؛ خُصُوصِيَّةً لَهُ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ فِي ذَلِكَ كَهَيْئَتِكُمْ، أَيْ: عَلَى صِفَتِكُمْ فِي أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْكُمْ أَوْ شَرِبَ انْقَطَعَ وِصَالُهُ، بَلْ إِنَّمَا يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، وَلَا تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ مُوَاصَلَتِي، فَطَعَامِي وَشَرَابِي عَلَى غَيْرِ طَعَامِكُمْ وَشَرَابِكُمْ؛ صُورَةً وَمَعْنًى. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَحَالِ النَّائِمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَسْتَمِرُّ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ وِصَالُهُ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَالَةِ اسْتِغْرَاقِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْوَالِهِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَوْلُهُ: يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي مَجَازٌ عَنْ لَازِمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعْطِينِي قُوَّةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ، وَيُفِيضُ عَلَيَّ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيُقَوِّي
عَلَى أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فِي الْقُوَّةِ وَلَا كَلَالٍ فِي الْإِحْسَاسِ، أَوِ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهِ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ مَا يُغْنِيهِ عَن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَا يُحِسُّ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ يُعْطَى الْقُوَّةَ مِنْ غَيْرِ شِبَعٍ وَلَا رِيٍّ مَعَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَعَلَى الثَّانِي يُعْطَى الْقُوَّةَ مَعَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الثَّانِي يُنَافِي حَالَ الصَّائِمِ، وَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْوِصَالِ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ هُوَ رُوحُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِخُصُوصِهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُبْعِدُهُ أَيْضًا النَّظَرُ إِلَى حَالِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ يَجُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُ وَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحِجَارَةَ مِنَ الْجُوعِ. قُلْتُ: وَتَمَسَّكَ ابْنُ حِبَّانَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَضْعِيفِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجُوعُ وَيَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُطْعِمُ رَسُولَهُ وَيَسْقِيهِ إِذَا وَاصَلَ فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ جَائِعًا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى شَدِّ الْحَجَرِ عَلَى بَطْنِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَمَاذَا يُغْنِي الْحَجَرُ مِنَ الْجُوعِ؟ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ تَصْحِيفٌ مِمَّنْ رَوَاهُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحُجَزُ، بِالزَّايِ جَمْعُ حُجْزَةٍ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَأَبْلَغُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ فَرَأَى أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا؟ قَالَا: مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا الْجُوعُ. فَقَالَ: وَأَنَا - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الْجُوعُ الْحَدِيثَ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا يُغْنِي الْحَجَرُ مِنَ الْجُوعِ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُقِيمُ الصُّلْبَ؛ لِأَنَّ الْبَطْنَ إِذَا خَلَا رُبَّمَا ضَعُفَ صَاحِبُهُ عَنِ الْقِيَامِ لِانْثِنَاءِ بَطْنِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا رُبِطَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ اشْتَدَّ وَقَوِيَ صَاحِبُهُ عَلَى الْقِيَامِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ: كُنْتُ أَظُنُّ الرِّجْلَيْنِ يَحْمِلَانِ الْبَطْنَ، فَإِذَا الْبَطْنُ يَحْمِلُ الرِّجْلَيْنِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي أَيْ: يَشْغَلُنِي بِالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّمَلِّي بِمُشَاهَدَتِهِ، وَالتَّغَذِّي بِمَعَارِفِهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِمَحَبَّتِهِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَالَ: قَدْ يَكُونُ هَذَا الْغِذَاءُ أَعْظَمَ مِنْ غِذَاءِ الْأَجْسَادِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ وَتَجْرِبَةٍ يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ الْجِسْمِ بِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيِّ وَلَا سِيَّمَا الْفَرِحَ الْمَسْرُورَ بِمَطْلُوبِهِ، الَّذِي قَرَّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ.
قَوْلُهُ: (اكْلُفُوا) بِسُكُونِ الْكَافِ وَضَمِّ اللَّامِ
(1)
أَيِ: احْمِلُوا الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، يُقَالُ: كَلِفْتُ بِكَذَا، إِذَا وَلِعْتَ بِهِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ لُغَةً.
قَوْلُهُ: (بِمَا تُطِيقُونَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: بِمَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ.
50 - بَاب الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ
1967 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ، قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ) أَيْ: جَوَازُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَوْلُ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَأَنَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِوِصَالٍ حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَشَيْخُهُ يَزِيدُ
(1)
في مختار الصحاح: كلف بكذا أي أولع به وبابه طرب
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ شَيْخُ اللَّيْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مُثَقَّلَةٌ مَدَنِيٌّ مِنْ مَوَالِي الْأَنْصَارِ لَمْ أَرَ لَهُ رِوَايَةً إِلَّا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْمُصَنِّفُ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ هَذَا ثَانِيهَا، وَتَوَقَّفَ الْجَوْزَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ حَالِهِ، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ حَدِيثِ الْوِصَالِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِهِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ تَقْيِيدُ وِصَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ إِلَى السَّحَرِ، وَلَفْظُهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوَاصِلُ إِلَى السَّحَرِ، فَفَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا، فَإِنَّ مُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ النَّهْيُ عَنِ الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ، وَصَرِيحَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِذْنُ بِالْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ، وَالْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالسَّحَرِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرِوَايَةُ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ هَذِهِ شَاذَّةٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَضْبَطُ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ مَحْفُوظَةً فَقَدْ أَشَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ أَوَّلًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ جَمِيعَ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضَهُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، ثُمَّ خُصَّ النَّهْيُ بِجَمِيعِ اللَّيْلِ فَأَبَاحَ الْوِصَالَ إِلَى السَّحَرِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ فِي حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَالنَّهْيُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَا فَوْقَ السَّحَرِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
51 - بَاب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ
1968 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ، أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ له: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ. قَالَ: نَمْ. فَنَامَ. ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ. فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ؛ فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ.
[الحديث 1968 - طرفه في 6139]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْقَسَمِ فَلَمْ يَقَعْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي سَاقَهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَقَدْ أَقَرَّهُ الشَّارِعُ، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لَهُ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَلَمَّا وُضِعَ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: دَعَاكَ أَخُوكَ وَتَكَلَّفَ لَكَ، أَفْطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ إِنْ شِئْتَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ الْإِيجَابِ، وَقَوْلُهُ: إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ قَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْجَوَازَ وَعَدَمَ الْقَضَاءِ لِمَنْ كَانَ مَعْذُورًا بِفِطْرِهِ لَا مَنْ تَعَمَّدَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: أَوْفَقَ لَهُ يُرْوَى بِالْوَاوِ السَّاكِنَةِ، وَبِالرَّاءِ بَدَلَ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، اسْمُهُ عُتْبَةُ ; وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَلَا رَأَيْتُ لَهُ رَاوِيًا عَنْهُ إِلَّا جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، وَإِلَى تَفَرُّدِهِمَا بِذَلِكَ أَشَارَ الْبَزَّارُ.
قَوْلُهُ: (آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ) ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أُخُوَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ثُمَّ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةُ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى، وَقَدْ سَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ: أَبُو ذَرٍّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَأَبُو ذَرٍّ مُهَاجِرِيٌّ، وَالْمُنْذِرُ أَنْصَارِيٌّ. وَأَنْكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ؛ لِأَنَّ أَبَا ذَرٍّ مَا كَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدُ، وَإِنَّمَا قَدِمَهَا بَعْدَ سَنَةِ ثَلَاثٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا الْأُخُوَّةَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ كَالَّذِي هُنَا، وَتَعَقَّبَهُ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ سَلْمَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَأَوَّلُ مَشَاهَدِهِ الْخَنْدَقُ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ التَّارِيخَ الْمَذْكُورَ لِلْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ ابْتِدَاءُ الْأُخُوَّةِ، ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤَاخِي بَيْنَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ أَنْ تَكُونَ الْمُؤَاخَاةُ وَقَعَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَرِدَ هَذَا التَّعَقُّبُ، فَصَحَّ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَيَّدَهُ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَاعْتَرَضَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ كُلَّ مُؤَاخَاةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ بَدْرٍ يَقُولُ: قَطَعَتْ بَدْرٌ الْمَوَارِيثَ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْمُؤَاخَاةَ مِنْ أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْمُؤَاخَاةَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي كَانَتْ عُقِدَتْ بَيْنَهُمْ لِيَتَوَارَثُوا بِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ التَّوَارُثِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا تَقْعَ الْمُؤَاخَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَنِحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ هَذِهِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ فَذَكَرَ قِصَّةً لَهُمَا غَيْرَ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَنَزَلَ سَلْمَانُ الْكُوفَةَ وَنَزَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الشَّامَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قَوْلُهُ: (فَزَارَ سَلْمَانُ، أَبَا الدَّرْدَاءِ) يَعْنِي: فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ أَبَا الدَّرْدَاءِ غَائِبًا.
قَوْلُهُ: (مُتَبَذِّلَةً) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: لَابِسَةً ثِيَابَ الْبِذْلَةِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَهِيَ الْمِهْنَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَارِكَةٌ لِلُبْسِ ثِيَابِ الزِّينَةِ. ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ مُبْتَذِلَةً بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّخْفِيفِ وَزْنَ مُفْتَعِلَةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَفِي تَرْجَمَةِ سَلْمَانَ مِنَ الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ سَلْمَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَرَأَى امْرَأَتَهُ رَثَّةَ الْهَيْئَةِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً. وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ هَذِهِ هِيَ خَيْرَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّةُ صَحَابِيَّةٌ بِنْتُ صَحَابِيٍّ، وَحَدِيثُهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ هَذِهِ قَبْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلِأَبِي الدَّرْدَاءِ أَيْضًا امْرَأَةٌ أُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَابِعِيَّةٌ اسْمُهَا هَجِيمَةُ عَاشَتْ بَعْدَهُ دَهْرًا وَرَوَتْ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ)؟ زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ
أَمُتَبَذِّلَةً؟.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا وَزَادَ فِيهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ فَرَحَّبَ بِسَلْمَانَ وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْقَائِلُ كُلْ هُوَ سَلْمَانُ وَالْمَقُولُ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ الْمُجِيبُ بِإِنِّي صَائِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ: كُلْ، فَإِنِّي صَائِمٌ وَعَلَى هَذَا فَالْقَائِلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَالْمَقُولُ لَهُ سَلْمَانُ وَكِلَاهُمَا يُحْتَمَلُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَلْمَانَ وَهُوَ الضَّيْفُ أَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ حَتَّى يَأْكُلَ مَعَهُ، وَغَرَضُهُ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيمَا يَصْنَعُهُ مِنْ جَهْدِ نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَكَتْهُ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ) فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُفْطِرَنَّ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ ابْنَيْ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ كُلُّهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ، فَكَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ بَشَّارٍ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَبَلَغَ الْبُخَارِيَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ فَاسْتَعْمَلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي التَّرْجَمَةِ مُشِيرًا إِلَى صِحَّتِهَا وَإِنَّ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ، وَقَدْ أَعَادَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَيْضًا، وَأَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ كَابْنِ الْمُنِيرِ: إِنَّ الْقَسَمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مُقَدَّرٌ قَبْلَ لَفْظِ مَا أَنَا بِآكِلٍ كَمَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وَتَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يُقَرِّبُ لِضَيْفِهِ مَا عِنْدَهُ وَلَا يَتَكَلَّفُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَيَسُوغُ حِينَئِذٍ التَّكَلُّفُ بِالطَّبْخِ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ) أَيْ: فِي أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ ثُمَّ بَاتَ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَتَمْنَعُنِي أَنْ أَصُومَ لِرَبِّي وَأُصَلِّيَ لِرَبِّي.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ) أَيْ: عِنْدَ السَّحَرِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ ولِلدّارَقُطْنِيِّ فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّيَا) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: فَقَامَا فَتَوَضَّآ ثُمَّ رَكَعَا ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) زَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ: وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَائْتِ أَهْلَكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: فَأَتَيَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلَاةِ، فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيُخْبِرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي قَالَ لَهُ سَلْمَانُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَيْهِمَا بِأَنَّهُ عَلِمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، فَيَحْتَمِلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ كَاشَفَهُمَا بِذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ أَطْلَعَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مُرْسَلًا فَعَيَّنَ اللَّيْلَةَ الَّتِي بَاتَ سَلْمَانُ فِيهَا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يُحْيِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَصُومُ يَوْمَهَا، فَأَتَاهُ سَلْمَانُ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً وَزَادَ فِي آخِرِهَا: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عُوَيْمِرُ، سَلْمَانُ أَفْقَهُ مِنْكَ انْتَهَى، وَعُوَيْمِرُ اسْمُ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ أُوتِيَ سَلْمَانُ مِنَ الْعِلْمِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَةِ: لَقَدْ أُشْبِعَ سَلْمَانُ عِلْمًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُؤَاخَاةِ فِي اللَّهِ، وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ وَالْمَبِيتُ عِنْدَهُمْ، وَجَوَازُ مُخَاطَبَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالسُّؤَالُ عَمَّا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّائِلِ، وَفِيهِ النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِ وَتَنْبِيهُ مَنْ أَغْفَلَ، وَفِيهِ فَضْلُ قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَزَيُّنِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُبُوتُ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ لِقَوْلِهِ: وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ثُمَّ قَالَ: وَائْتِ أَهْلَكَ وَقَرَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ النَّهْيِ عَنِ الْمُسْتَحَبَّاتِ إِذَا خَشِيَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ وَتَفْوِيتِ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمَنْدُوبَةِ الرَّاجِحِ فِعْلُهَا عَلَى فِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا الْوَعِيدُ الْوَارِدُ عَلَى مِنْ نَهَى مُصَلِّيًا عَنِ الصَّلَاةِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ نَهَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ الْحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ كَمَا تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَلَمْ يَجْعَلُوا عَلَيْهِ قَضَاءً إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا كَمَنْ ذَهَبَ بِمَالٍ لِيَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ وَأَمْسَكَ بَعْضَهُ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ صَائِمَةٌ فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَكُنْتِ تَقْضِينَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَلَا بَأْسَ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنْ كَانَ مِنْ قَضَاءٍ فَصَوْمِي مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِهِ وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
وَعَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَعَدَمُ الْقَضَاءِ بِعُذْرٍ، وَالْمَنْعُ وَإِثْبَاتُ الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَشُبهه بِمَنْ أَفْسَدَ حَجَّ التَّطَوُّعِ فَإِنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَهُ اتِّفَاقًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَجَّ امْتَازَ بِأَحْكَامٍ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ يُؤْمَرُ مُفْسِدُهُ بِالْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهِ، وَالصِّيَامُ لَا يُؤْمَرُ مُفْسِدُهُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِعُذْرٍ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ بَرْقَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ بِبَيْتِ أَبِيهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ هَذَا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَمَعْمَرٌ، وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ مِنْ نَاسٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ ثُمَّ أَسْنَدَهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ; وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ: سُئِلَ الزُّهْرِيُّ
عَنْهُ أَهْوَ عَنْ عُرْوَةَ؟ فَقَالَ: لَا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: اتَّفَقَ الثِّقَاتُ عَلَى إِرْسَالِهِ، وَشَذَّ مَنْ وَصَلَهُ. وَتَوَارَدَ الْحُفَّاظُ عَلَى الْحُكْمِ بِضَعْفِ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا. وَقَدْ رَوَاهُ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَبَيَّنَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ صِيَامَهُمَا كَانَ تَطَوُّعًا. وَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ زُمَيْلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِجَهَالَةِ حَالِ زُمَيْلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُفْطِرُ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ مَنْ نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا.
وَزَادَ فِيهِ بَعْضُهُمْ: فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ أَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ وَقَدْ ضَعَّفَ النَّسَائِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَحَكَمَ بِخَطَئِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَى النَّدْبِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ بِأَنَّ إِفْطَارَ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَانَ لِقَسَمِ سَلْمَانَ وَلِعُذْرِ الضِّيَافَةِ، فَيُتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ
مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ الْإِفْطَارَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِضَيْفٍ نَزَلَ بِهِ وَلَا لِمَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ هُوَ بِاللَّهِ لَيُفْطِرَنَّ كَفَّرَ وَلَا يُفْطِرُ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَارَ أُمَّ سُلَيْمٍ لَمْ يُفْطِرْ وَكَانَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، وَقَدْ أَنْصَفَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِي صُورَةِ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إِلَّا الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} إِلَّا أَنَّ الْخَاصَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ كَحَدِيثِ سَلْمَانَ، وَقَوْلُ الْمُهَلَّبِ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا وَمُجْتَهِدًا فَيَكُونُ مَعْذُورًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَلَوْ أَفْطَرَ أَحَدٌ بِمِثْلِ عُذْرِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَوَّبَ فِعْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَتَرْقَى عَنْ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِلَى نَصِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمَنِ احْتَجَّ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَهُوَ جَاهِلٌ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الرِّيَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بِالرِّيَاءِ بَلْ أَخْلِصُوهَا لِلَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِ مَا لَمْ يَفْرِضْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرٍ وَغَيْرِهِ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ إِلَّا بِمَا يُبِيحُ الْفِطْرَ مِنَ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ التَّرْجَمَةُ الَّتِي فَرَغْنَا مِنْهَا الْآنَ أَوَّلُ أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ، بَدَأَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا بِحُكْمِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ هَلْ يَلْزَمُ تَمَامُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أَوْرَدَ بَقِيَّةَ أَبْوَابِهِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنَ التَّرْتِيبِ.
52 - بَاب صَوْمِ شَعْبَانَ
1969 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، ومَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ.
[الحديث 1969 - طرفاه في: 1970، 6465]
1970 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، وكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّتْ. وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ شَعْبَانَ) أَيِ: اسْتِحْبَابُهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ لِمَا فِي عُمُومِهِ مِنَ التَّخْصِيصِ وَفِي مُطْلَقِهِ مِنَ التَّقْيِيدِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَسُمِّيَ شَعْبَانَ لِتَشَعُّبِهِمْ فِي طَلَبِ الْمِيَاهِ أَوْ فِي الْغَارَاتِ بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ شَهْرُ رَجَبٍ الْحَرَامِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي النَّضْرِ) هُوَ سَالِمٌ الْمَدَنِيُّ زَادَ مُسْلِمٌ: مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ، وَهُوَ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَاتَّفَقَ أَبُو النَّضْرِ، وَيَحْيَى وَوَافَقَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَزَيْدُ بْنُ أَبِي عَتَّابٍ عِنْدَ
النَّسَائِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَلَى رِوَايَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَخَالَفَهُمْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ فَرَوَيَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَلَمَةَ رَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَارَةً وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ تَارَةً أُخْرَى أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَكْثَرَ صِيَامًا) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالنَّصْبِ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ، أَنَّهُ رُوِيَ بِالْخَفْضِ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ كَتَبَ صِيَامًا بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الْمَنْصُوبِ بِغَيْرِ أَلْفٍ فَتُوُهِّمَ مَخْفُوضًا، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ظَنَّ أَنَّهُ مُضَافٌ لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ تُضَافُ كَثِيرًا فَتَوَهَّمَهَا مُضَافَةً، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ هُنَا قَطْعًا. وَقَوْلُهُ: أَكْثَرَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ثَانِي مَفْعُولَيْ رَأَيْتُ، وَقَوْلُهُ: فِي شَعْبَانَ يَتَعَلَّقُ بِـ صِيَامًا وَالْمَعْنَى: كَانَ يَصُومُ فِي شَعْبَانَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ صِيَامُهُ فِي شَعْبَانَ تَطَوُّعًا أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِيمَا سِوَاهُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ شَعْبَانَ) زَادَ في حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ زَادَ ابْنُ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: بَلْ كَانَ يَصُومُ. . . إِلَخْ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلَّا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ أَيْ: كَانَ يَصُومُ مُعْظَمَهُ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مُفَسِّرَةٌ لِلثَّانِيَةِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَاسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ قَالَ: لِأَنَّ الْكُلَّ تَأْكِيدٌ لِإِرَادَةِ الشُّمُولِ وَدَفْعِ التَّجَوُّزِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ، قَالَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ تَارَةً، وَيَصُومُ مُعْظَمَهُ أُخْرَى؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ كُلُّهُ كَرَمَضَانَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا كُلَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِهِ تَارَةً، وَمِنْ آخِرِهِ أُخْرَى، وَمِنْ أَثْنَائِهِ طُورًا، فَلَا يُخَلِّي شَيْئًا مِنْهُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا يَخُصُّ بَعْضَهُ بِصِيَامٍ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّ قَوْلَهَا الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا الْأَوَّلِ، فَأَخْبَرَتْ عَنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ شَعْبَانَ، وَأَخْبَرَتْ ثَانِيًا عَنْ آخِرِ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ اهـ.
وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَلَفْظُهُ: وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ وَهُوَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي إِكْثَارِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ فَقِيلَ: كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْتَمِعُ فَيَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَفِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ صَوْمُ السَّنَةِ فَيَصُومَ شَعْبَانَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ الْبَابِ وَالَّذِي بَعْدَهُ دَالٌّ عَلَى ضَعْفِ مَا رَوَاهُ، وَقِيلَ: كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ بْنِ مُوسَى، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ قَالَ: شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَصَدَقَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ.
قُلْتُ: وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي إِكْثَارِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَعْبَانَ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّ نِسَاءَهُ كُنَّ يَقْضِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا
عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحِكْمَةِ فِي كَوْنِهِنَّ كُنَّ يُؤَخِّرْنَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إِلَى شَعْبَانَ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِنَّ كُنَّ يَشْتَغِلْنَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْقُبُهُ رَمَضَانُ وَصَوْمُهُ مُفْتَرَضٌ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ قَدْرَ مَا يَصُومُ فِي شَهْرَيْنِ غَيْرِهِ لِمَا يَفُوتُهُ مِنَ التَّطَوُّعِ بِذَلِكَ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ، وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَصَحَّ مِمَّا مَضَى أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ وَنَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى لَكِنْ قَالَ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ كُلَّ نَفْسٍ مَيِّتَةٍ تِلْكَ السَّنَةَ، فَأُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَنِي أَجَلِي وَأَنَا صَائِمٌ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ نِصْفِ شَعْبَانَ الثَّانِي، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْخِلْ تِلْكَ الْأَيَّامَ فِي صِيَامٍ اعْتَادَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ فِي الْمُحَرَّمِ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ مَا يَقَعُ فِيهِ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَ ذَلِكَ إِلَّا فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِي الْمُحَرَّمِ، أَوِ اتَّفَقَ لَهُ فِيهِ مِنَ الْأَعْذَارِ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ مَثَلًا مَا مَنَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِيهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَعَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدُومُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ صِيَامَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَطَاقَ مَا كَانَ يُطِيقُ، وَأَنَّ مَنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَمَلَّ فَيُفْضِي إِلَى تَرْكِهِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ - وَإِنْ قَلَّتْ - أَوْلَى مِنْ جَهْدِ النَّفْسِ فِي كَثْرَتِهَا إِذَا انْقَطَعَتْ، فَالْقَلِيلُ الدَّائِمُ أَفْضَلُ مِنَ الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ غَالِبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي بَابِهَا.
53 - بَاب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِفْطَارِهِ
1971 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَا صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللَّهِ لَا يَصُومُ.
1972 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ لَا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلَا نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا فِي الصَّوْمِ"ح
1973 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنْ الشَّهْرِ صَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلَا مُفْطِرًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلَا مِنْ اللَّيْلِ
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيِ: التَّطَوُّعُ (وَإِفْطَارِهِ) أَيْ: فِي خَلَلِ صِيَامِهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُضِفِ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَطْلَقَهَا لِيُفْهَمَ التَّرْغِيبُ لِلْأُمَّةِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي إِكْثَارِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ، وَقَصَدَ بِهَذِهِ شَرْحَ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (مَا صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ شَهْرًا تَامًّا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (وَيَصُومُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ يَصُومُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْطِرُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: حَتَّى يَقُولُوا: مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ. الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ، وَحُمَيْدٌ هُوَ الطَّوِيلُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نظَنَّ) بِنُونِ الْجَمْعِ وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَيَجُوزُ بِالْمُثَنَّاةِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا رَأَيْتَهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَعًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَصُومَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ فِي يَصُومَ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا فِي الصَّوْمِ) كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ هَذَا هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، لَكِنْ لَمْ أَرَهُ بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ مِنْ حَدِيثِهِ فَظَهَرَ لِي أَنَّهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ عَقِبَ هَذَا، وَفِيهِ: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَتَمَّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، لَكِنْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِيهِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مَزِيدَةً كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنَ الشَّهْرِ صَائِمًا إِلَّا رَأَيْتُهُ) يَعْنِي: أَنَّ حَالَهُ فِي التَّطَوُّعِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ كَانَ يَخْتَلِفُ، فَكَانَ تَارَةً يَقُومُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، كَمَا كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، فَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ قَائِمًا أَوْ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الشَّهْرِ صَائِمًا فَرَاقَبَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَادِفَهُ قَامَ أَوْ صَامَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ، هَذَا مَعْنَى الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَلَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَوْعِبُ اللَّيْلَ قِيَامًا. وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا اتَّخَذَهُ رَاتِبًا لَا مُطْلَقَ النَّافِلَةِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا مَسِسْتُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى عَلَى الْأَفْصَحِ، وَكَذَا شَمِمْتُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحُهَا لُغَةٌ حَكَاهَا الْفَرَّاءُ، وَيُقَالُ فِي مُضَارِعِهِ أَشَمُّهُ وَأَمَسُّهُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَلَى الْأَفْصَحِ، وَبِالضَّمِّ عَلَى اللُّغَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ رَائِحَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ خَلْقًا وَخُلُقًا، فَهُوَ كُلُّ الْكَمَالِ وَجُلُّ الْجَلَالِ وَجُمْلَةُ الْجَمَالِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ -، وَسَيَأْتِي شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَوْفًى. وَفِي حَدِيثَيِ الْبَابِ اسْتِحْبَابُ التَّنَفُّلِ بِالصَّوْمِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ إِلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمِ الدَّهْرَ وَلَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِ فَيَشُقُّ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَوِ الْتَزَمَ ذَلِكَ لَاقْتَدَرَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ سَلَكَ مِنَ الْعِبَادَةِ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى: فَصَامَ وَأَفْطَرَ، وَقَامَ وَنَامَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمُهَلَّبُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُنْكِرُهُ مُبَالَغَةً فِي تَأْكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.
54 - بَاب حَقِّ الضَّيْفِ فِي الصَّوْمِ
1974 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَقُلْتُ: وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: نِصْفُ الدَّهْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَقِّ الضَّيْفِ فِي الصَّوْمِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَوْ قَالَ: حَقُّ الضَّيْفِ فِي الْفِطْرِ لَكَانَ أَوْضَحَ، لَكِنَّهُ كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْيِينُ الصَّوْمِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: مِنَ الصَّوْمِ، وَكَأَنَّ مَا تَرْجَمَ بِهِ أَخْصَرُ وَأَوْجَزُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ يُنْسَبْ إِسْحَاقُ هَذَا عَنْد أَحَدٍ مِنْهُمْ.
قُلْتُ: لَكِنْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يَقُولُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شُيُوخِهِ إِلَّا صِيغَةَ الْإِخْبَارِ، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا، وَهَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُهُ هُوَ الْخَزَّازُ كَانَ تَاجِرًا صَدُوقًا لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٍ آخَرَ فِي الِاعْتِكَافِ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ أَخْرَجَ كُلًّا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَفَسَّرَ الْبُخَارِيُّ الْمُرَادَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي: إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُخَارِيِّ فِي جَوَازِ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَوْرَدَهُ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَوْرَدَهُ قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَعْمَى مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْمَلِيحِ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِالْحَدِيثِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، فَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قِصَّةِ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قِصَّةِ الصِّيَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَاقَ الْقِصَّةَ كُلَّهَا، وَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ، وَسَأَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأُنَبِّهُ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ سِوَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الضَّيْفِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
55 - بَاب حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ
1975 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِذن ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ) أَيْ: عَلَى الْمُتَطَوِّعِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْمَطْلُوبُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَيَخْتَصُّ بِمَا إِذَا خَافَ التَّلَفَ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى: فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ عَلَى أَنْ أَجْتَهِدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، حَتَّى قُلْتُ: لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَكَانَ يَتَعَاهَدُهَا، فَسَأَلَهَا عَنْ بَعْلِهَا فَقَالَتْ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ، لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِيَ الْفَتَى. فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، زَادَ النِّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ فَوَقَعَ عَلَيَّ أَبِي فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً فَعَضَلْتَهَا وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ.
قَالَ: فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ لِمَا كَانَتْ لِي مِنَ الْقُوَّةِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلْقِنِي بِهِ، فَأَتَيْتُهُ مَعَهُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَانِي وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً وَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ لِي وَإِمَّا لَقِيتُهُ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ عَمْرٌو تَوَجَّهَ بِابْنِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ إِلَى بَيْتِهِ زِيَادَةً فِي التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا تَفْعَلْ) زَادَ بَعْدَ بَابَيْنِ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِعَيْنِكَ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِزَوْرِكَ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ لِضَيْفِكَ، وَالزَّوْرُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، كَصَوْمٍ فِي مَوْضِعِ صَائِمٍ، وَنَوْمٍ فِي مَوْضِعِ نَائِمٍ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى: زَوْرٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَوْرٌ جَمْعَ زَائِرٍ، كَرَكْبٍ جَمْعِ رَاكِبٍ، وَتَجْرٍ جَمْعِ تَاجِر، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ يَحْيَى: وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَزَادَ
النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَحْيَى: وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ بِحَسْبِكَ) بِإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَافِيكَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي كُلِّ شَهْرٍ.
(فَإِذَنْ ذَلِكَ) هُوَ بِتَنْوِينِ إِذَنْ، وَهِيَ الَّتِي يُجَابُ بِهَا إِنْ وَكَذَا لَوْ صَرِيحًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَإِنْ هُنَا مُقَدَّرَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ صُمْتَهَا فَإِذَنْ ذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَرُوِيَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَهِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ، وَفِي تَوْجِيهِهَا هُنَا تَكَلُّفٌ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارٌ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ حُسَيْنٍ الْمَذْكُورَةِ: فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَأْتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: خَمْسًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: سَبْعًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تِسْعًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عِيَاضٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْوِتْرِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: صُمْ يَوْمًا - يَعْنِي: مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ - وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ. قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ. قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ. قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ. قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ بِسِتَّةٍ ثُمَّ بِتِسْعَةٍ، ثُمَّ بِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّهُ يُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ زَادَهُ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ وَصَلَهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي دَاوُدَ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ وَوَقَعَ لِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: صُمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ: صُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ مَعَ قَوْلِهِ: صُمْ من كُلَّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمَيْنِ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ. . . إِلَخْ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْعَمَلِ وَالنَّقْصَ مِنَ الْأَجْرِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّضْعِيفِ، قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى صُمْ يَوْمًا وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ أَيْ: مِنَ الْعَشَرَةِ، وَقَوْلُهُ: صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ أَيْ: مِنَ الْعِشْرِينَ، وَفِي الثَّلَاثَةِ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِبْعَادُ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَقِلَّةِ الْأَجْرِ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ الْأَجْرَ إِنَّمَا اتَّحَدَ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَصُومَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْهِ لِمَا ذُكِرَ فِي أَجْرِ نِيَّتِهِ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ صَامَ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا كَمَا تَأَوَّلَهُ فِي حَدِيثِ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ أَيْ: إِنَّ أَجْرَهُ فِي نِيَّتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ لِامْتِدَادِ نِيَّتِهِ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِهِ. انْتَهَى.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ وَالتَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا إِجْرَاءَ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ مِنَ الصَّوْمِ ازْدَادَ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَفْوِيتِ بَعْضِ الْأَجْرِ الْحَاصِلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي قَدْ يُفَوِّتُهَا مَشَقَّةُ الصَّوْمِ فَيَنْقُصُ الْأَجْرُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ يَرُدُّ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ - عَلَى سِيَاقِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ - أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَكَ أَجْرُ أَرْبَعِينَ، وَقَدْ قَيَّدَهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بِالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ لَا يَكُونُ أَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: صُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَلَكَ أَجْرُ تِلْكَ التِّسْعَةِ ثُمَّ قَالَ فِيهِ: مِنْ كُلِّ تِسْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِلْكَ الثَّمَانِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: مِنْ
كُلِّ ثَمَانِيَّةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَلَكَ أَجْرُ السَّبْعَةِ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ: صُمْ يَوْمًا وَلَكَ أَجْرُ عَشْرَةٍ. قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ، قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةً، وَلَكَ أَجْرُ ثَمَانِيَّةٍ فَهَذَا يَدْفَعُ فِي صَدْرِ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى صَوْمِ دَاوُدَ، زَادَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَبِرَ وَعَجَزَ عَنِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ وَوَظَّفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَقَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِعَجْزِهِ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يَتْرُكَهُ لِالْتِزَامِهِ لَهُ، فَتَمَنَّى أَنْ لَوْ قَبِلَ الرُّخْصَةَ فَأَخَذَ بِالْأَخَفِّ. قُلْتُ: وَمَعَ عَجْزِهِ وَتَمَنِّيهِ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ لَمْ يَتْرُكِ الْعَمَلَ بِمَا الْتَزَمَهُ، بَلْ صَارَ يَتَعَاطَى فِيهِ نَوْعَ تَخْفِيفٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ حُصَيْنٍ الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ حِينَ ضَعُفَ وَكَبِرَ يَصُومُ تِلْكَ الْأَيَّامَ كَذَلِكَ، يَصِلُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ يُفْطِرُ بِعَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ فَيَقْوَى بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الرُّخْصَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَدَلَ بِهِ، لَكِنّني فَارَقْتُهُ عَلَى أَمْرٍ أَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ.
56 - بَاب صَوْمِ الدَّهْرِ
1976 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ. فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا. فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ الدَّهْرِ) أَيْ: هَلْ يُشْرَعُ أَوْ لَا؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْحُكْمِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو خُصَّ بِالْمَنْعِ لَمَّا اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ مُسْتَقْبَلِ حَالِهِ، فَيُلْتَحَقُ بِهِ مَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ يَتَضَرَّرُ بِسَرْدِ الصَّوْمِ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى حُكْمِ الْجَوَازِ لِعُمُومِ التَّرْغِيبِ فِي مُطْلَقِ الصَّوْمِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَالَةَ الرَّاهِنَةَ لِمَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيُدْخِلُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ وَيُفَوِّتُ بِهِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا سَيَأْتِي بَعْدُ إِذَا كَبِرَ وَعَجَزَ كَمَا اتَّفَقَ لَهُ سَوَاءٌ، وَكَرِهَ أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَةِ ثُمَّ يَعْجِزَ عَنْهُ فَيَتْرُكَهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ ذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بَعْدَ قَوْلِهِ: فَصُمْ وَأَفْطِرْ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ مِنْ ذَلِكَ وَتَقْرِيرٌ لَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، إِذِ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ) يَقْتَضِي أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ جِهَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا أَصْلُ التَّضْعِيفِ دُونَ التَّضْعِيفِ الْحَاصِلِ مِنَ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ يَصْدُقُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ صَامَ الدَّهْرَ مَجَازًا. قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ صِيَامِ دَاوُدَ (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ صَرِيحًا، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ
صِيَامُ دَاوُدَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَفْضَلِيَّةِ مُطْلَقًا، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّوْمِ مُفَضولَةً، وَسَأَذْكُرُ بَسْطَ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
57 - بَاب حَقِّ الْأَهْلِ فِي الصَّوْمِ
رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1977 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ عَطَاءً أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما، يقول: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي؟ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنيكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا. قَالَ: إِنِّي لَأَقْوَى لِذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام. قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى. قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ عَطَاءٌ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ. مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَقِّ الْأَهْلِ فِي الصَّوْمِ رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَفِيهَا قَوْلُ سَلْمَانَ، لِأَبِي الدَّرْدَاءِ وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) الْفَلَّاسُ، وَأَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ الَّذِينَ أَكْثَرَ عَنْهُمْ، وَرُبَّمَا رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ مَا فَاتَهُ مِنْهُ كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِع، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ النُّزُولَ مِنْ طَرِيقِهِ هَذِهِ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ فِيهَا بِسَمَاعِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَهُ مِنْ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ) سَبَقَتْ تَسْمِيَةُ الَّذِي بَلَّغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَأَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَتُصَلِّي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَتُصَلِّي اللَّيْلَ، فَلَا تَفْعَلْ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ: لِعَيْنِكَ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْكَ حَظًّا) كَذَا فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَقًّا بِالْقَافِ، وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ التِّسْعَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَقْوَى لِذَلِكَ) أَيْ: لِسَرْدِ الصِّيَامِ دَائِمًا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَكَيْفَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: وَإِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ وَلَمْ أَرَهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهَا مُنَاسَبَةٌ بِالْمَقَامِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ خَشْيَةُ أَنْ يَعْجِزَ عَنِ الَّذِي يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ كَمَنْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ، كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى إِشَارَةٌ إِلَى حِكْمَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مُحَصَّلُ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَبَّدْ عَبْدَهُ بِالصَّوْمِ خَاصَّةً، بَلْ تَعَبَّدَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَلَوِ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ لَقَصَّرَ فِي غَيْرِهِ، فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَادُ فِيهِ لِيَسْتَبْقِيَ بَعْضَ الْقُوَّةِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي دَاوُدَ عليه السلام: وَكَانَ لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَوَّى بِالْفِطْرِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَطَاءٌ) أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ. . . إِلَخْ) أَيْ أنَّ عَطَاءً لَمْ يَحْفَظْ كَيْفَ جَاءَ ذِكْرُ صِيَامِ الْأَبَدِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ حَفِظَ أَنَّ فِيهَا أَنَّهُ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَحْدَهَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ.
قَوْلُهُ: (لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ مَرَّتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى كَرَاهِيَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتُدِلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَوْجُهٍ: نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ، وَقَوْلُهُ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَدُعَاؤُهُ عَلَى مَنْ صَامَ الْأَبَدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا صَامَ النَّفْيُ، أَيْ: مَا صَامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى بِالنَّفْيِ أَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ، وَلَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ. وَإِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ مُطْلَقًا ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يَحْرُمُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا يَصُومُ الدَّهْرَ، فَأَتَاهُ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَجَعَلَ يَقُولُ: كُلْ يَا دَهْرِيُّ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي نُعَيْمٍ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: لَوْ رَأَى هَذَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَرَجَمُوهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ: مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِ حَصْرًا لَهُ فِيهَا؛ لِتَشْدِيدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا وَرَغْبَتِهِ عَنْ سُنَّة نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ غَيْرَ سُنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فَيَكُونُ حَرَامًا.
وَإِلَى الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الدُّعَاءَ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَصَابَهُ دُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ فَيَا وَيْحَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ، وَإِذَا لَمْ يَصُمْ شَرْعًا لَمْ يُكْتَبْ لَهُ الثَّوَابُ لِوُجُوبِ صِدْقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الصَّوْمَ، وَقَدْ نَفَى عَنْهُ الْفَضْلَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ فِيمَا نَفَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ صِيَامِ الدَّهْرِ، وَحَمَلُوا أَخْبَارَ النَّهْيِ عَلَى مَنْ صَامَهُ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِيهِ مَا حَرُمَ صَوْمُهُ كَالْعِيدَيْنِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ مَا أُجِرَ وَلَا أَثِمَ، وَمَنْ صَامَ الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ صَوْمَ الدَّهْرِ إِلَّا الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ يَكُونُ قَدْ فَعَلَ مُسْتَحَبًّا وَحَرَامًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَهَا، وَلَا يَصْلُحُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهَا.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ الدَّهْرِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَوِّتْ فِيهِ حَقًّا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، قَالَ السُّبْكِيُّ: أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا كَرَاهَةَ صَوْمِ الدَّهْرِ لِمَنْ فَوَّتَ حَقًّا، وَلَمْ يُوَضِّحُوا هَلِ الْمُرَادُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ أَوِ الْمَنْدُوبُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقًّا وَاجِبًا حَرُمَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقًّا مَنْدُوبًا أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَتَرْجَمَ ذِكْرُ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكُ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي مَضَى؛ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَحَمَلُوا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: فِي حَقِّكَ فَيُلْتَحَقُ بِهِ مَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُدْخِلُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مَشَقَّةً أَوْ يُفَوِّتُ حَقًّا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْهَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، عَنِ السَّرْدِ، فَلَوْ كَانَ السَّرْدُ مُمْتَنِعًا لَبَيَّنَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ
عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُؤَالَ حَمْزَةَ إِنَّمَا كَانَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لَا عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَرْدِ الصِّيَامِ صَوْمُ الدَّهْرِ فَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيُقَالُ: لَا يُفْطِرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَصُومُ الدَّهْرَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ السَّرْدِ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ فَلَا يُدْخِلُهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ أَيْ: ضَيَّقَتْ عَنْهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ حَكَاهُ الْأَثْرَمُ، عَنْ مُسَدِّدٍ. وَحَكَى رَدَّهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: سَأَلْتُ الْمُزَنِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ضُيِّقَتْ عَنْهُ فَلَا يَدْخُلُهَا، وَلَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ مَنِ ازْدَادَ لِلَّهِ عَمَلًا وَطَاعَةً ازْدَادَ عِنْدَ اللَّهِ رِفْعَةً وَعَلَتْهُ كَرَامَةٌ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ فَقَالُوا: لَهُ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّائِمَ لَمَّا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَسَالِكَ الشَّهَوَاتِ بِالصَّوْمِ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَكَانٌ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ طُرُقَهَا بِالْعِبَادَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ إِذَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مِنْهُ ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ تَقَرُّبًا، بَلْ رُبَّ عَمَلٍ صَالِحٍ إِذَا ازْدَادَ مِنْهُ ازْدَادَ بُعْدًا كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَالْأَوْلَى إِجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَنْ فَوَّتَ حَقًّا وَاجِبًا بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَلَا يُخَالِفُ الْقَاعِدَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُزَنِيُّ.
وَمِنْ حَجَّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ: فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقَوْلُهُ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ. قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ أَفْضَلُ مِمَّا شُبِّهَ بِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ حُصُولُ الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ صِيَامُ جَمِيعِ السَّنَةِ، فَلَا يَدُلُّ التَّشْبِيهُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَاخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ لِصَوْمِ الدَّهْرِ بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ أَفْضَلُ، فَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَجْرًا، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ أَجْرًا كَانَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَبَذْلِكَ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ أَوَّلًا، وَقَيَّدَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَصُومَ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا، وَأَنْ لَا يَرْغَبَ عَنِ السُّنَّةِ بِأَنْ يَجْعَلَ الصَّوْمَ حِجْرًا عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ فَالصَّوْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، فَالِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ زِيَادَةٌ فِي الْفَضْلِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَعَارِضَةُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمِقْدَارُ كُلٍّ مِنْهَا فِي الْحَثِّ وَالْمَنْعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَزِيَادَةُ الْأَجْرِ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ يُعَارِضُهُ اقْتِضَاءُ الْعَادَةِ التَّقْصِيرَ فِي حُقُوقٍ أُخْرَى يُعَارِضُهَا الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ، وَمِقْدَارُ الْفَائِتِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مِقْدَارِ الْحَاصِلِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَالْأَوْلَى التَّفْوِيضُ إِلَى حُكْمِ الشَّارِعِ وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِيَامَ دَاوُدَ أَفْضَلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ بَلْ صَرِيحُهُ، وَيَتَرَجَّحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا بِأَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ قَدْ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْحُقُوقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّ مَنِ اعْتَادَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَشُقُّ عَلَيْهِ، بَلْ تَضْعُفُ شَهْوَتُهُ عَنِ الْأَكْلِ، وَتَقِلُّ حَاجَتُهُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا، وَيَأْلَفُ تَنَاوَلَهُ فِي اللَّيْلِ بِحَيْثُ يَتَجَدَّدُ لَهُ طَبْعٌ زَائِدٌ، بِخِلَافِ مِنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ فِطْرٍ إِلَى صَوْمٍ وَمِنْ صَوْمٍ إِلَى فِطْرٍ، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَشُقُّ الصِّيَامِ، وَيَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ غَالِبًا مِنْ تَفْوِيتِ الْحُقُوقِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي حَقِّ دَاوُدَ عليه السلام وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى؛ لِأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفِرَارِ ضَعْفَ الْجَسَدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سَرْدَ الصَّوْمِ يُنْهِكُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَتُقِلُّ الصِّيَامَ.
فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضْعِفَنِي عَنِ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ، نَعَمْ إِنْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالصِّيَامِ أَصْلًا وَلَا يُفَوِّتُ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ أَرْجَحَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَتَرْجَمَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صِيَامَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ أَعْدَلَ الصِّيَامِ وَأَحَبَّهُ إِلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهُ يُؤَدِّي حَقَّ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَزَائِرِهِ أَيَّامَ فِطْرِهِ بِخِلَافِ مِنْ يُتَابِعُ الصَّوْمَ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُفَوِّتُ حَقًّا أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ، وَعَلَى هَذَا فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ: فَمَنْ يَقْتَضِي حَالُهُ الْإِكْثَارَ مِنَ الصَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَنْ يَقْتَضِي حَالُهُ الْإِكْثَارَ مِنَ الْإِفْطَارِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَنْ يَقْتَضِي حَالُهُ الْمَزْجَ فَعَلَهُ، حَتَّى إِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ أَخِيرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
58 - بَاب صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ
1978 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا. فَقَالَ: اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ. قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: فِي ثَلَاثٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ هُنَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الزِّيَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصِّيَامِ قَرِيبًا.
59 - بَاب صَوْمِ دَاوُدَ عليه السلام
1979 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمَكِّيَّ - وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ - قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى.
1980 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ سَبْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تِسْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ عليه السلام شَطْرَ الدَّهَرِ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ دَاوُدَ عليه السلام أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ مُحَصَّلَ فَوَائِدِهِمَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصِّيَامِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَفْرَدَ تَرْجَمَةَ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، وَأَفْرَدَ صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام بِالذِّكْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: (وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّاعِرَ بِصَدَدِ أَنْ يُتَّهَمَ فِي حَدِيثِهِ لِمَا تَقْتَضِيهِ صِنَاعَتُهُ مِنْ سُلُوكِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِطْرَاءِ وَغَيْرِهِ، فَأَخْبَرَ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ شَاعِرًا كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي حَدِيثِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثِهِ يَحْتَمِلُ مَرْوِيَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَيَحْتَمِلُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَلْيَقُ وَإِلَّا لَكَانَ مَرْغُوبًا عَنْهُ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ أَخْرَجَ الصَّحِيحَ، وَأَفْصَحَ بِتَوْثِيقِهِ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ وَآخَرُونَ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي الْجِهَادِ وَالْآخَرُ فِي الْمَغَازِي، وَأَعَادَهُمَا مَعًا فِي الْأَدَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَابِ فِي التَّهَجُّدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (وَنَفِهَتْ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَعِبَتْ وَكَلَّتْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: نَثِهَتْ بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْفَاءِ، وَقَدِ اسْتَغْرَبَهَا ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهَا. قُلْتُ: وَكَأَنَّهَا أُبْدِلَتْ مِنَ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا تُبْدَلُ مِنْهَا كَثِيرًا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَدَلَهَا: وَنَهَكَتْ أَيْ: هَزَلَتْ وَضَعُفَتْ.
قَوْلُهُ: (صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) أَيْ: مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ) أَيْ: بِالتَّضْعِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ) هُوَ عَامِرٌ وَقِيلَ: زَيْدٌ، وَقِيلَ: زِيَادُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الْهُذْلِيُّ، لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَلَيْسَ لِأَبِي الْمَلِيحِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَعَادَهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (دَخَلْتَ مَعَ أَبِيكَ) وَقَعَ فِي الِاسْتِئْذَانِ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ وَهُوَ وَالِدُ أَبِي قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو - وَقِيلَ: عَامِرٍ - الْجَرْمِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ) شَكٌّ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ شَكٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَصَدَهُ إِلَى بَيْتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِقَاءَهُ إِيَّاهُ كَانَ عَنْ قَصْدٍ مِنْهُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الِاسْتِئْثَارِ عَلَى جَلِيسِهِ، وَفِي كَوْنِ الْوِسَادَةِ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الضِّيقِ، إِذْ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْهَا لَأَكْرَمَ بِهَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (خَمْسًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: خَمْسَةً وَكَذَا فِي الْبَوَاقِي، فَمَنْ قَالَ: خَمْسَةً أَرَادَ الْأَيَّامَ، وَمَنْ قَالَ: خَمْسًا أَرَادَ اللَّيَالِيَ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (شَطْرُ الدَّهْرِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صَوْمِ دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ: صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ وَيَجُوزُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ أَيْضًا، وَفِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هَذِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ هُنَا، وَفِي أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ بَيَانُ رِفْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُمَّتِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِرْشَادِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَحَثُّهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا يُخْشَى مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى الْمَلَلِ الْمُفْضِي إِلَى التَّرْكِ أَوْ تَرْكِ الْبَعْضِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا لَازَمُوا الْعِبَادَةَ ثُمَّ فَرَّطُوا فِيهَا. وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى الدَّوَامِ عَلَى مَا وَظَّفَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَوْرَادِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الرِّيَاءِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْقَسَمِ
عَلَى الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ، وَفَائِدَتُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْيَمِينِ عَلَى النَّشَاطِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَلْحَقُهَا بِالنَّذْرِ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ، وَأَنَّ النَّفْلَ الْمُطْلَقَ لَا يَنْبَغِي تَحْدِيدُهُ، بَلْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ.
وَفِيهِ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَفِيهِ أَنَّ طَاعَةَ الْوَالِدِ لَا تَجِبُ فِي تَرْكِ الْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا احْتَاجَ عَمْرٌو إِلَى شَكْوَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ طَاعَتِهِ لِأَبِيهِ. وَفِيهِ زِيَارَةُ الْفَاضِلِ لِلْمَفْضُولِ فِي بَيْتِهِ، وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ بِإِلْقَاءِ الْفُرُشِ وَنَحْوِهَا تَحْتَهُ، وَتَوَاضُعُ الزَّائِرِ بِجُلُوسِهِ دُونَ مَا يُفْرَشُ لَهُ، وَأَنْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْإِكْرَامِ لِلْمَزُورِ.
60 - بَاب صِيَامِ الْبِيضِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ
1981 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صِيَامِ الْبِيضِ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: صِيَامُ أَيَّامِ الْبِيضِ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ. . . إِلَخْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبِيضِ اللَّيَالِي وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْقَمَرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ، حَتَّى قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: مَنْ قَالَ: الْأَيَّامَ الْبِيضَ فَجَعَلَ الْبِيضَ صِفَةَ الْأَيَّامِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اليوم الْكَامِلَ هُوَ النَّهَارُ بِلَيْلَتِهِ، وَلَيْسَ فِي الشَّهْرِ يَوْمٌ أَبْيَضُ كُلُّهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ؛ لِأَنَّ لَيْلَهَا أَبْيَضُ وَنَهَارَهَا أَبْيَضُ، فَصَحَّ قَوْلُ: الْأَيَّامِ الْبِيضِ عَلَى الْوَصْفِ.
وَحَكَى ابْنُ بَزِيزَةَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِيضًا أَقْوَالًا أُخَرَ مُسْتَنِدَةً إِلَى أَقْوَالٍ وَاهِيَةٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالْبِيضُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا ذُكِرَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَأَمْسَكَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَائِمًا فَصُمِ الْغُرَّ، أَيِ: الْبِيضَ وَهَذَا الْحَدِيثُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَيَّنَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: إِنْ كُنْتَ صَائِمًا فَصُمِ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ وَجَاءَ تَقْيِيدُهَا أَيْضًا فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ - وَيُقَالُ ابْنُ مِنْهَالٍ - عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: هِيَ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ.
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ: أَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ الْحَدِيثَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ وَصِيَّةَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةَ كُلِّ شَهْرٍ وَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ مِنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَمَا قَبْلَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ
مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ صَامَ قَالَ: فَكُلُّ مَنْ رَآهُ فَعَلَ نَوْعًا ذَكَرَهُ، وَعَائِشَةُ رَأَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَأَطْلَقَتْ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَوَصَّى بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَتَتَرَجَّحُ الْبِيضُ بِكَوْنِهَا وَسَطَ الشَّهْرِ وَوَسَطُ الشَّيْءِ أَعْدَلُهُ، وَلِأَنَّ الْكُسُوفَ غَالِبًا يَقَعُ فِيهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِمَزِيدِ الْعِبَادَةِ إِذَا وَقَعَ، فَإِذَا اتَّفَقَ الْكُسُوفُ صَادَفَ الَّذِي يَعْتَادُ صِيَامَ الْبِيضِ صَائِمًا فَيَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَصُمْهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى لَهُ اسْتِدْرَاكُ صِيَامِهَا، وَلَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ صِيَامَ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا إِنْ صَادَفَ الْكُسُوفَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصُومُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَهُ وَجْهٌ فِي النَّظَرِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: صُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنَ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَشْبَهُ، وَكَأَنَّ الْغَرَضَ بِهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ غَالِبَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ بِالصِّيَامِ، وَاخْتَارَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنْ يَصُومَهَا آخِرَ الشَّهْرِ لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى
حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَمْرِ بِصِيَامِ سِرَارِ الشَّهْرِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَيَّامُ الْبِيضِ كَانَ أَحَبَّ. وَفِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا أَنَّ اسْتِحْبَابَ صِيَامِ الْبِيضِ غَيْرُ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَاعَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ أَبُو عُثْمَانَ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ مَوْصُولٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ النَّهْدِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا وَآخَرَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ فِيهِ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَتَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ، وَمِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهَا مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي قَالَ فِي أَفْرَادِهِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمُوصَى بِهِ هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: خَلِيلِي إِشَارَةٌ إِلَى مُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي إِيثَارِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَبَرَ عَلَى الْجُوعِ فِي مُلَازَمَتِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِهِ حَيْثُ قَالَ: أَمَّا إِخْوَانِي فَكَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَابَهُ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِيثَارِهِ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْمُلْكِ، قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الِافْتِخَارُ بِصُحْبَةِ الْأَكَابِرِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَاهَاةِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: حَاصِلُ الْخِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْبِيضِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا تَتَعَيَّنُ بَلْ يُكْرَهُ تَعْيِينُهَا، وَهَذَا عَنْ مَالِكٍ. الثَّانِي: أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، الثَّالِثُ أَوَّلُهَا الثَّانِي عَشَرَ. الرَّابِعُ: أَوَّلُهَا الثَّالِثَ عَشَرَ. الْخَامِسُ: أَوَّلُهَا أَوَّلُ سَبْتٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، ثُمَّ مِنْ أَوَّلِ الثُّلَاثَاءِ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا، وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ. السَّادِسُ: أَوَّلُ خَمِيسٍ ثُمَّ اثْنَيْنِ ثُمَّ خَمِيسٍ. السَّابِعُ: أَوَّلُ اثْنَيْنِ ثُمَّ خَمِيسٍ ثُمَّ اثْنَيْنِ. الثَّامِنُ: أَوَّلُ يَوْمٍ، وَالْعَاشِرُ وَالْعِشْرُونَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. التَّاسِعُ: أَوَّلُ كُلِّ عَشْرٍ عَنِ ابْنِ شَعْبَانَ الْمَالِكِيِّ. قُلْتُ: بَقِيَ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ آخَرُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ عَنِ النَّخَعِيِّ فَتَمَّتْ عَشْرَةً.
61 - بَاب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
1982 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ. قَالَ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا. فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ. فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ. فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا. وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ.
قال ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ:، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 1982 - أطرافه في: 6334، 6344، 6378، 6380]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ) أَيْ: فِي التَّطَوُّعِ، هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُقَابِلُ التَّرْجَمَةَ الْمَاضِيَةَ، وَهِيَ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لَيُفْطِرُ فِي التَّطَوُّعِ، وَمَوْقِعُهَا أَنْ لَا يَظُنَّ أَنَّ فِطْرَ الْمَرْءِ مِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ لِتَطْيِيبِ خَاطِرِ أَخِيهِ حَتْمٌ عَلَيْهِ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ، فَمَتَى عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى صَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي خَالِدٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَبَيَانُ اسْمِ أَبِيهِ مِنَ الْمُصَنِّفِ، كَأَنَّ شَيْخَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ فَقَطْ فَأَرَادَ بِالْبَيَانِ رَفْعَ الْإِبْهَامِ لَاشْتَرَاكِ مَنْ يُسَمَّى خَالِدًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ حُمَيْدٍ مِمَّنْ يُمْكِنُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمَثْنَى أَنْ يُرْوَى عَنْهُ، وَلَمْ يَطَّرِدْ لِلْمُصَنِّفِ هَذَا، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ لَهُ وَلِمَشَايِخِهِ مِثْلُ هَذَا الْإِبْهَامِ، وَلَا يَعْتَنِي بِبَيَانِهِ. وَرِجَالُ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ) هِيَ وَالِدَةُ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ، لَكِنْ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا كَانَتَا مُجْتَمَعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ الضِّيَافَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ ذَائِبًا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا عَلَى الْحَصِيرِ، وَأَقَامَ أَنَسًا خَلْفَهُ وَأُمَّ سُلَيْمٍ مِنْ وَرَائِهِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ - وَهُوَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ - نَحْوُهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَأَقَامَ أُمَّ حَرَامٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا، وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْمَاضِيَةَ لَا ذِكْرَ فِيهَا لِأُمِّ حَرَامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ أَيْضًا أَنَّهُ هُنَا لَمْ يَأْكُلْ وَهُنَاكَ أَكَلَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِي خُوَيْصَةً) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَبِتَخْفِيفِهَا تَصْغِيرُ خَاصَّةٍ، وَهُوَ مِمَّا اغْتُفِرَ فِيهِ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: خَادِمُكَ أَنَسٌ هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَطْلُبُ مِنْكَ الدُّعَاءَ لَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّ لِي خُوَيْصَةً خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (خَيْرَ آخِرَةٍ) أَيْ: خَيْرًا مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا دَعَا لِي بِهِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ: إِلَّا دَعَا لِي
بِهِ، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ. . . إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَبَارِكْ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ وَقَوْلُهُ: فِيهِ بِالْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَلِأَحْمَدَ فِيهِمْ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ آخِرُ مَا دَعَا لِي أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ. وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ التَّصْرِيحُ بِمَا دَعَا لَهُ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وَالْوَلَدَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ اخْتَصَرَهُ. وَوَقَعَ لِمُسْلِمِ فِي رِوَايَةِ الْجَعْدِ، عَنْ أَنَسٍ: فَدَعَا لِي بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ كَمَا بَيَّنَهَا سِنَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بِزِيَادَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ: وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً غَيْرَ خَاتَمِهِ يَعْنِي: أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ أَنَسٌ: وَمَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَكْثَرَ مِنِّي مَالًا، قَالَ: يَا ثَابِتُ وَمَا أَمْلِكُ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا خَاتَمِي وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلَدَةَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ لِأَنَسٍ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ فِيهِ رَيْحَانُ يَجِيءُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: وَإِنَّ أَرْضِي لَتُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَمَا فِي الْبَلَدِ شَيْءٌ يُثْمِرُ مَرَّتَيْنِ غَيْرُهَا.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ) بِالنُّونِ تَصْغِيرُ آمِنَةَ (أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي) أَيْ: مِنْ وَلَدِهِ دُونَ أَسْبَاطِهِ وَأَحْفَادِهِ.
قَوْلُهُ: (مَقْدَمَ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: مِنْ أَوَّلِ مَا مَاتَ لِي مِنَ الْأَوْلَادِ إِلَى أَنْ قَدِمَهَا الْحَجَّاجُ. وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ: وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَتَهُ الْكُبْرَى أُمَيْنَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِهِ إِلَى مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ قُدُومُ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَعُمُرُ أَنَسٍ حِينَئِذٍ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَدْ عَاشَ أَنَسٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَيُقَالُ: اثْنَتَيْنِ، وَيُقَالُ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ.
قَوْلُهُ: (بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ: نَيِّفٌ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ وَهُوَ عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي رِوَايَةِ الْآبَاءِ، عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ وَفِي رِوَايَةِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ: وَلَقَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي سِوَى وَلَدِ وَلَدِي خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَمِائَةً وَفِي الْحِلْيَةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَفَنْتُ مِائَةً لَا سِقْطًا وَلَا وَلَدَ وَلَدٍ وَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ سَبَبُ الْعُدُولِ إِلَى الْبِضْعِ وَالنَّيِّفِ، وَفِي ذِكْرِ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ مَا جَاءَهُ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي مَاتَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ بَقُوا فَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: جَوَازُ التَّصْغِيرِ عَلَى مَعْنَى التَّلَطُّفِ لَا التَّحْقِيرِ، وَتُحْفَةُ الزَّائِرِ بِمَا حَضَرَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَجَوَازُ رَدِّ الْهَدِيَّةِ إِذَا لَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُهْدِي، وَأَنَّ أَخْذَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَهُ لَيْسَ مِنَ الْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ. وَفِيهِ حِفْظُ الطَّعَامِ وَتَرْكُ التَّفْرِيطِ فِيهِ، وَجَبْرُ خَاطِرِ الْمُزَوِّرِ إِذَا لَمْ يُؤْكَلْ عِنْدَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ أَمَامَ طَلَبِ الْحَاجَةِ، وَالدُّعَاءُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالدُّعَاءُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْخَيْرَ الْأُخْرَوِيَّ، وَإِنْ فَضْلَ التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ.
وَفِيهِ زِيَارَةُ الْإِمَامِ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، وَدُخُولُ بَيْتِ الرَّجُلِ فِي غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي طُرُقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ حَاضِرًا. وَفِيهِ إِيثَارُ الْوَلَدِ عَلَى النَّفْسِ، وَحُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي السُّؤَالِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ الْمَوْتِ فِي الْأَوْلَادِ لَا يُنَافِي إِجَابَةَ الدُّعَاءِ بِطَلَبِ كَثْرَتِهِمْ وَلَا طَلَبِ الْبَرَكَةِ فِيهِمْ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِهِمْ وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ. وَفِيهِ التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَبِمُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِي إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ مِنَ الْأَمْرِ النَّادِرِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ كَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ كَثْرَةِ الْوَلَدِ، وَكَوْنُ بُسْتَانِ الْمَدْعُوِّ لَهُ صَارَ يُثْمِرُ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَفِيهِ التَّأْرِيخُ بِالْأَمْرِ الشَّهِيرِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صَلَاحِ الْمُؤَرَّخِ بِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْبُضْعِ فِيمَا زَادَ عَلَى عَقْدِ الْعُشْرِ خِلَافًا لِمَنْ قَصَرَهُ عَلَى مَا قَبْلَ الْعِشْرِينَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ سَعِيدٌ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ بَيَانُ سَمَاعِ حُمَيْدٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَسٍ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ حُمَيْدًا كَانَ رُبَّمَا دَلَّسَ عَنْ أَنَسٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ كَرِيمَةٍ وَالْأَصِيلِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَيَكُونُ مَوْصُولًا.
62 - بَاب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
1983 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلَانَ. وَحَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَأَلَهُ - أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ - فَقَالَ: يَا أَبَا فُلَانٍ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ يَعْنِي رَمَضَانَ، قَالَ الرَّجُلُ: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ، لَمْ يَقُلْ الصَّلْتُ: أَظُنُّهُ يَعْنِي رَمَضَانَ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَطْلَقَ الشَّهْرَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهْرٌ مُقَيَّدٌ وَهُوَ شَعْبَانُ؛ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِشَعْبَانَ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ النَّدْبُ إِلَى صِيَامِ أَوَاخِرِ كُلِّ شَهْرٍ لِيَكُونَ عَادَةً لِلْمُكَلَّفِ فَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ رِوَايَةَ أَبِي النُّعْمَانِ وَهُوَ عَارِمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ تَصْرِيحِ مَهْدِيٍّ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ غَيْلَانَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُطَرِّفٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَأَلَهُ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ) هَذَا شَكٌّ مِنْ مُطَرِّفٍ فَإِنَّ ثَابِتًا رَوَاهُ عَنْهُ بِنَحْوِهِ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ مُطَرِّفٍ بِدُونِ شَكٍّ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ: مِنْ أَصْحَابِهِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهِ قَالَ لِعِمْرَانَ بِغَيْرِ شَكٍّ.
قَوْلُهُ: (يَا فُلَانُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَا أَبَا فُلَانٍ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ.
قَوْلُهُ: (أَمَا صُمْتَ سُرَرَ هَذَا الشَّهْرِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ مَهْدِيٍّ سُرِّهِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَاءٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ قُرْقُولٍ: كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ يَاسِرٍ الْجَيَّانِيِّ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ كَبَاقِي الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: يَعْنِي رَمَضَانَ) هَذَا الظَّنُّ مِنْ أَبِي النُّعْمَانِ، لِتَصْرِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ أَبِي النُّعْمَانِ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَنَقَلَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ شَعْبَانَ أَصَحُّ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذِكْرُ رَمَضَانَ هُنَا وَهَمٌ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ صَوْمُ جَمِيعِهِ، وَكَذَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي مُطَرِّفٍ، عَنْ
مُطَرِّفٍ بِلَفْظِ: هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا يَعْنِي: شَعْبَانَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هُدْبَةَ وَلَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ وَلَا قُطْرِ بْنِ حَمَّادٍ وَلَا عَفَّانَ وَلَا عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَا غَيْرِهِمْ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَلَا فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ رَمَضَانَ فِي قَوْلِهِ: يَعْنِي: رَمَضَانَ ظَرْفًا لِلْقَوْلِ الصَّادِرِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَا لِصِيَامِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ، فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ مُطَرِّفٍ فَإِنَّ فِيهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ثَابِتٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَشَعْبَانُ أَصَحُّ وَالسَّرَرُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَضَمُّهَا جَمْعُ سُرَّةٍ وَيُقَالُ أَيْضًا: سَرَارٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ، وَرَجَّحَ الْفَرَّاءُ الْفَتْحَ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِسْرَارِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالسُّرَرِ هُنَا آخِرُ الشَّهْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ فِيهَا وَهِيَ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ.
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ سُرَرُهُ أَوَّلُهُ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَالْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: السُّرَرُ وَسَطُ الشَّهْرِ. حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ السُّرَرَ جَمْعُ سُرَّةٍ وَسُرَّةُ الشَّيْءِ وَسَطُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ النَّدْبُ إِلَى صِيَامِ الْبِيضِ، وَهِيَ وَسَطُ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي صِيَامِ آخِرِ الشَّهْرِ نَدْبٌ، بَلْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ وَهُوَ آخِرُ شَعْبَانَ لِمَنْ صَامَهُ لِأَجْلِ رَمَضَانَ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ مُسْلِمًا أَفْرَدَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا سُرَّةُ هَذَا الشَّهْرِ عَنْ بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ وَأَرْدَفَ بِهَا الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَضُّ عَلَى صِيَامِ الْبِيضِ، وَهِيَ وَسَطُ الشَّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ سُرَّةٌ بَلْ هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ بِلَفْظِ: سِرَارٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي بَعْضِهَا سُرَرٌ وَفِي بَعْضِهَا سِرَارٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آخِرُ الشَّهْرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: سُؤَالُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ سُؤَالُ زَجْرٍ وَإِنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُسْتَقْبَلَ الشَّهْرُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَضَاءِ ذَلِكَ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ وَأَنْ يَقْضِي ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: قَوْلُهُ: سُؤَالُ إِنْكَارٍ فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِهِ قَوْلُ الْمَسْئُولِ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ سُؤَالَ إِنْكَارٍ لَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَامَ، والْفَرْضُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَصُمْ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ كَانَتْ لَهُ عَادَةً بِصِيَامِ آخِرِ الشَّهْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ نَهْيَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ الِاسْتِثْنَاءُ تَرَكَ صِيَامَ مَا كَانَ اعْتَادَهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ بِقَضَائِهَا لِتَسْتَمِرَّ مُحَافَظَتُهُ عَلَى مَا وَظَّفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا جَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا لِكَلَامٍ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا اهـ.
وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْمَأْخَذِ. وَقَالَ آخَرُونَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَقْصِدُ بِهِ التَّحَرِّيَ لِأَجْلِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اعْتَادَهُ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ حَدِيثِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إِلَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ، وَأَشَارَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لِمَنْ حَمَلَ سُرَرَ الشَّهْرِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ - وَهُوَ آخِرُ الشَّهْرِ - الْفِرَارُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَقَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ، وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى مَنْ لَهُ عَادَةٌ حَمْلًا لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ عَلَى مُلَازَمَةِ عَادَةِ الْخَيْرِ حَتَّى لَا يُقْطَعُ، قَالَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضِيلَةِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ، وَأَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْهُ يَعْدِلُ صَوْمَ يَوْمَيْنِ فِي غَيْرِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ يَعْنِي: مَكَانَ الْيَوْمِ الَّذِي فَوَّتَّهُ مِنْ صِيَامِ شَعْبَانَ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ أَنْ
يَصُومَ مِنْ شَعْبَانَ يَوْمًا وَاحِدًا، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ: هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، نَعَمْ وَقَعَ فِي سُنَنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ: فَصُمْ مَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَيْنِ وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ قَضَاءِ التَّطَوُّعِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ قَضَاءُ الْفَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ.
63 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ
1984 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا رضي الله عنه: أنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ.
1985 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ"
1986 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ لَا قَالَ تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ لَا قَالَ فَأَفْطِرِي وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ "أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ"
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الْوَقْتِ زِيَادَةٌ هُنَا، وَهِيَ يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفَرَبْرِيِّ أَوْ مَنْ دُونَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُعَبِّرَ الْبُخَارِيُّ عَمَّا يَقُولُهُ بِلَفْظِ يَعْنِي، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَقَالَ: أَعْنِي. بَلْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ إِطْلَاقِ التَّرْجَمَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ آخِرَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، إِذْ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ جَابِرٍ وَهُوَ مُطْلَقٌ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَثَانِيهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّقْيِيدِ، وَثَالِثُهَا حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ وَهُوَ أَظْهَرُهَا فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ) أَيْ: ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْحَجْبِيُّ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو قُرَّةَ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ رُبَّمَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الْحَمِيدِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِمَا، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَزَادَ فُضَيْلَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَوْمَأَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ نَظَرًا، فَإِنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ فَذَكَرَ إِسْنَادَهُ قَالَ: وَقَدْ رُوِّيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ كَمَا قَالَ يَحْيَى، ثُمَّ سَاقَهُ كَذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَعْدٍ الصَّغَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَأَبُو سَعْدٍ لَيْسَ كَهَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْقَطَّانَ وَمَنْ تَابَعَهُ.
قُلْتُ: وَلَمْ
يُصِبِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ فَأَخْرَجَاهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لَهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلِ بْنِ خُوَيْلِدِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ كَذَلِكَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ كَانَ رُبَّمَا دَلَّسَ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَصَّرَ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ لَقِيَ مُحَمَّدًا فَسَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَاسْتَثْبَتَ فِيهِ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فِي الْمَتْنِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو سَعْدٍ بِمُتَابَعَةِ أَبِي عَاصِمٍ عَلَى ذِكْرِ عَبْدِ الْحَمِيدِ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، بَلْ تَابَعَهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو قُرَّةَ، وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ رَوَى عَنْ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ وَهِيَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: هَذَا، وَآخَرُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَآخَرُ فِي الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادٍ أَخْبَرَهُ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ مَكِّيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فَهُوَ بَصْرِيٌّ، وَالصَّحَابِيَّ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَقَدْ أَقَامَا بِمَكَّةَ زَمَانًا.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ جَابِرًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَزَادُوا أَيْضًا فِي آخِرِهِ قَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَعَزَاهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ لِمُسْلِمٍ فَوَهَمَ. وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ، وَإِضَافَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ تَنْوِيهًا بِتَعْظِيمِهَا، وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ فِي الْجَوَابِ بِـ نَعَمْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَمْرِ الْمُفَسَّرِ بِهَا.
قَوْلُهُ: (زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي: أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ وَالْغَيْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِالزِّيَادَةِ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. وَلَفْظُ يَحْيَى: أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى أَنْ يَنْفَرِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ؟ قَالَ: أي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَلَفْظُ حَفْصٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُفْرَدًا. وَلَفْظُ النَّضْرِ: أَنَّ جَابِرًا سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْرَدَ.
قَوْلُهُ في حديث أبي هريرة: (لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَصُومَنَّ بِلَفْظِ النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ يَوْمًا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا بِيَوْمٍ قَبْلَهُ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحِبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَشْكَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ يَوْمًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُفْرَدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَوْبَرِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ الَّذِي تَنْهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: هَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثَلَاثًا، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَصُومُ
أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ إِلَّا فِي أَيَّامٍ مَعَهُ.
وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ لَيْلَى امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا فِي أَيَّامٍ هُوَ أَحَدُهَا، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُقَيِّدُ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَتُؤَيِّدُ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِطْلَاقِ بِالْإِفْرَادِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ جَوَازُهُ لِمَنْ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي أَيَّامٍ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِهَا كَمَنْ يَصُومُ أَيَّامَ الْبِيضِ أَوْ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ عَرَفَةَ فَوَافَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ صَوْمِهِ لِمَنْ نَذَرَ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدٍ مَثَلًا أَوْ يَوْمَ شِفَاءِ فُلَانٍ.
الحديث الثالث قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) لَمْ يُنْسَبْ مُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَثْنَى جَمِيعًا عَنْ غُنْدَرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْقَاضِي فِي الصِّيَامِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ وَوَافَقَهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْعَتَكِيِّ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ نِسْبَةً إِلَى بَطْنٍ مِنَ الْأَزْدِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمَرَاغِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ ثُمَّ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَهَمَّامٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، وَلَيْسَ لِجُوَيْرِيَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَتِهَا سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ، وَاتَّفَقَ شُعْبَةُ، وَهَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَخَالَفَهُمَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فَقَالَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى جُوَيْرِيَةَ فَذَكَرَهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ طَرِيقُ شُعْبَةَ لِمُتَابَعَةِ هَمَّامٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لَهُ، وَكَذَا حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ كَمَا سَيَأْتِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقُ سَعِيدٍ مَحْفُوظَةً أَيْضًا، فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْضًا لَكِنْ أَرْسَلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَفْطِرِي) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي رِوَايَتِهِ إِذًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي جَمْعِ حَدِيثِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ وَحَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ فِيهِ لِينٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى مَنْعِ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ، وَنَقَلَهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَزَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأَمْرَ بِفِطْرِ مَنْ أَرَادَ إِفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ، فَهَذَا قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَرَى بِتَحْرِيمِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَوْ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهِ لِمَنْ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حَزْمٍ مَنْعَ صَوْمِهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَلْمَانَ، وَأَبِي ذَرٍّ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُكْرَهُ، قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْهُ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَعَلَّ النَّهْيَ مَا بَلَغَ مَالِكًا. وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّ كَلَامَ مَالِكٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ إِفْرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَصَّ يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ بِالْعِبَادَةِ، فَيَكُونَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. وَعَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلَ عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ: يَوْمٌ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ مَعَ غَيْرِهِ فَلَا يُكْرَهُ وَحْدَهُ. لِكَوْنِهِ قِيَاسًا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ فِطْرَهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يَصُومهَا، وَلَا يُضَادُّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ،
وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِلَّا لِمَنْ أَضْعَفَهُ صَوْمُهُ عَنِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ النَّهْيِ عَنْ إِفْرَادِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لِكَوْنِهِ يَوْمَ عِيدٍ، وَالْعِيدُ لَا يُصَامُ، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ مَعَ الْإِذْنِ بِصِيَامِهِ مَعَ غَيْرِهِ.
وَأَجَابَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ شَبَهَهُ بِالْعِيدِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِوَاءَهُ مَعَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَمَنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرَهُ انْتَفَتْ عَنْهُ صُورَةُ التَّحَرِّي بِالصَّوْمِ. ثَانِيهَا لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَهَذَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مَعَ صَوْمِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَأَجَابَ بأَنَّهُ يَحْصُلُ بِفَضِيلَةِ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ جَبْرُ مَا يَحْصُلُ يَوْمَ صَوْمِهِ مِنْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْجُبْرَانَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الصَّوْمِ، بَلْ يَحْصُلُ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ إِفْرَادِهِ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا يَقُومُ مَقَامَ صِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَمِنْ أَعْتَقَ فِيهِ رَقَبَةً مَثَلًا وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَكَأَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِمَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّعْفُ لَا مَنْ يَتَحَقَّقُ الْقُوَّةَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَظِنَّةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ كَمَا فِي جَوَازِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا خَوْفُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ فَيُفْتَتَنُ بِهِ كَمَا افْتُتِنَ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِثُبُوتِ تَعْظِيمِهِ بِغَيْرِ الصِّيَامِ، وَأَيْضًا فَالْيَهُودُ لَا يُعَظِّمُونَ السَّبْتَ بِالصِّيَامِ، فَلَوْ كَانَ الْمَلْحُوظُ تَرْكَ مُوَافَقَتِهِمْ لَتَحَتَّمَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُم لَا يَصُومُونَهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ.
رَابِعُهَا: خَوْفُ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِصَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِيهِمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. خَامِسُهَا: خَشْيَة أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ كَمَا خَشِيَ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ ذَلِكَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِإِجَازَةِ صَوْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَبِأَنِّهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ، لَكِنَّ الْمُهَلَّبَ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. سَادِسُهَا: مُخَالَفَةُ النَّصَارَى؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ صَوْمُهُ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُخَالَفَتِهِمْ، نَقَلَهَا الْقَمُولِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ أَوَّلُهَا، وَوَرَدَ فِيهِ صَرِيحًا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ لُدَيْنٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ وَقَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَطَوِّعًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَلَا يَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَوْمُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَذِكْرٍ.
64 - بَاب هَلْ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ؟
1987 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطِيقُ؟!
[الحديث 1987 - طرفه في: 6466]
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَخُصُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيِ: الْمُكَلَّفُ (شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ يُخَصُّ شَيْءٌ بِضَمِّ أَوَّلِ يُخَصُّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ: شَيْءٌ مِنَ الْأَيَّامِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إِدَامَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْعِبَادَةَ وَمُوَاظَبَتَهُ عَلَى وَظَائِفِهَا، وَيُعَارِضُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ نَفْسِهَا مِمَّا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُدَاوَمَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ جَمِيعًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ.
وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ وَتَقَدَّمَ نَحْوُهُ قَرِيبًا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، فَأَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لِيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَوْ يَتَبَيَّنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ قَوْلَهَا: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مَعْنَاهُ أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِهِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّوْمِ ثُمَّ مِنَ الْفِطْرِ كَانَ مُسْتَدَامًا مُسْتَمِرًّا، وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوَظِّفُ عَلَى نَفْسِهِ الْعِبَادَةَ، فَرُبَّمَا شَغَلَهُ عَنْ بَعْضِهَا شَاغِلٌ فَيَقْضِيهَا عَلَى التَّوَالِي، فَيَشْتَبِهُ الْحَالُ عَلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَقَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً مُنَزَّلٌ عَلَى التَّوْظِيفِ، وَقَوْلُهَا: كَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ صَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَالِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصِدُ نَفْلًا ابْتِدَاءً فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَيَصُومُهُ، بَلْ إِذَا صَامَ يَوْمًا بِعَيْنِهِ كَالْخَمِيسِ مَثَلًا دَاوَمَ عَلَى صَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ خَالُهُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ.
قَوْلُهُ: (هَلْ كَانَ يَخْتَصُّ مِنَ الْأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا) قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ تَحَرِّي صِيَامِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ السَّائِلَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا أَيَّامًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْأَيَّامِ بِالصِّيَامِ فَإِنَّمَا خُصِّصَ لِأَمْرٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَيَّامِ الْبِيضِ، وَجَمِيعِ مَا عُيِّنَ لِمَعْنًى خَاصٍّ. وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمٍ لِكَوْنِهِ مَثَلًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِمَا أَحَادِيثُ وَكَأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَلِهَذَا أَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِمَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُمَا اسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِ عَائِشَةَ: لَا.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي صِيَامِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ الْجَرْشِيِّ عَنْهَا وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. وَحَدِيثُ أُسَامَةَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَكَأَنَّ السَّائِلُ لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَرَغِبَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ أَيَّامَ الْبِيضِ سَأَلَ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ يَخُصُّهَا بِالْبِيضِ؟ فَقَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً تَعْنِي: لَوْ جَعَلَهَا الْبِيضَ لَتَعَيَّنَتْ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ دَائِمًا، لَكِنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَةَ بِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا، فَكَانَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ صَامَهَا كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ صِيَامِ الْبِيضِ وَأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ صَامَ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْبَابِ وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَحَدِيثَهَا: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ.
وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا، وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ بِذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
قَوْلُهُ: (يَخْتَصُّ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي الرِّقَاقِ يَخُصُّ بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ.
قَوْلُهُ: (دِيمَةً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ: دَائِمَةً، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدِّيمَةُ مَطَرٌ يَدُومُ أَيَّامًا، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَمِرُّ.
قَوْلُهُ: (وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ يَسْتَطِيعُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
65 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
1988 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ
أُمَّ الْفَضْلِ حَدَّثَتْهُ. ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ: أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ.
1989 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلَابٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّرْغِيبِ فِي صَوْمِهِ عَلَى شَرْطِهِ وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَةً آتِيَةً وَسَنَةً مَاضِيَةً أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الْحَاجِّ أَوْ عَلَى مَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ صِيَامُهُ عَنِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَطْلُوبِ لِلْحَاجِّ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَالِمٌ) هُوَ أَبُو النَّضْرِ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَرُبَّمَا جَاءَ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ مَعًا فَيُقَالُ: حَدَّثَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، وَإِنَّمَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ الطَّرِيقَ الْأُولَى مَعَ نُزُولِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ بِالْعَنْعَنَةِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مَعَ عُلُوِّهَا، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَحْرِصُ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (عُمَيْرٌ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ) هُوَ عُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمَنْ قَالَ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ فَبِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ، وَمَنْ قَالَ: مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَبِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ هِيَ وَالِدَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدِ انْتَقَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَاءُ مَوَالِي أُمِّهِ. وَلَيْسَ لِعُمَيْرٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ وَفِي الْأَشْرِبَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَحَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي التَّيَمُّمِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا) أَيِ: اخْتَلَفُوا، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُوحٍ، عَنْ مَالِكٍ: اخْتَلَفَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ مُعْتَادًا لَهُمْ فِي الْحَضَرِ، وَكَأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ صَائِمٌ اسْتَنَدَ إِلَى مَا أَلِفَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ قَامَتْ عِنْدَهُ قَرِينَةُ كَوْنِهِ مُسَافِرًا، وَقَدْ عُرِفَ نَهْيُهُ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ فِي السَّفَرِ فَضْلًا عَنِ النَّفْلِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَتْ) سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ هِيَ الَّتِي أَرْسَلَتْ، فَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا مَعًا أَرْسَلَتَا، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا أُخْتَيْنِ، فَتَكُونُ مَيْمُونَةُ أَرْسَلَتْ بِسُؤَالِ أُمِّ الْفَضْلِ لَهَا فِي ذَلِكَ لِكَشْفِ الْحَالِ فِي ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَكْسَ، وَسَيَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ كَوْنِ مَيْمُونَةَ هِيَ الَّتِي بَاشَرَتِ الْإِرْسَالَ. وَلَمْ يُسَمِّ الرَّسُولَ فِي طُرُقِ حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِمَّا أُمَّهُ وَإِمَّا خَالَتَهُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ: وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِعَرَفَةَ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ: وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ الْفَضْلِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ بِعَرَفَةَ.
قَوْلُهُ: (فَشَرِبَهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ
مَيْمُونَةَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ.
قَوْلُهُ في حديث ميمونة: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَبُكَيْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَنِصْفُ إِسْنَادِهِ الْأَوَّلُ مِصْرِيُّونَ، وَالْآخِرُ مَدَنِيُّونَ، وَقَوْلُهُ: بِحِلَابٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ اللَّبَنُ، وَقِيلَ: الْحِلَابُ: اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاءِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَبَنٌ.
(تَنْبِيهٌ): رَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدِيثَ ابْنِ وَهْبٍ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ: أَحَدُهَا: عَنْهُ عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ، وَالثَّانِي: عَنْهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ شَيْخِ مَالِكٍ فِيهِ بِهِ، وَالثَّالِثُ: عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ بِهِ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَحَدِ أَسَانِيدِهِ اكْتِفَاءً بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ إِذْ قَدْ يَتْرُكُ الشَّيْءَ الْمُسْتَحَبَّ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيَكُونُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لِمَصْلَحَةِ التَّبْلِيغِ، نَعَمْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ السَّلَفِ، فَجَاءَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: يَجِبُ فِطْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَائِشَةَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ يُعْجِبُ الْحَسَنَ وَيَحْكِيهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ قَتَادَةَ مَذْهَبٌ آخَرُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يَضْعُفْ عَنِ الدُّعَاءِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ فِطْرُهُ، حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ: مَنْ أَفْطَرَهُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الذِّكْرِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ لِيَدُلَّ عَلَى الِاخْتِيَارِ لِلْحَاجِّ بِمَكَّةَ لِكَيْلا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَفْطَرَ لِمُوَافَقَتِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ، وَيُبْعِدُهُ سِيَاقُ أَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرِهَ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ الْعِيَانَ أَقْطَعُ لِلْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْخَبَرِ، وَأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي الْمَحَافِلِ مُبَاحٌ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، وَفِيهِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ مِنْهَا هَلْ هُوَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا أَوْ لَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ الْمُشَاحَحةُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ احْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ بَيْتِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ تَأَسِّي النَّاسِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ الْبَحْثُ وَالِاجْتِهَادُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُنَاظَرَةُ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالتَّحَيُّلُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ سُؤَالٍ. وَفِيهِ فَطِنَةُ أُمِّ الْفَضْلِ لِاسْتِكْشَافِهَا عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ اللَّطِيفَةِ اللَّائِقَةِ بِالْحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَوْمِ حَرٍّ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، قَالَ ابنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَاوَلَ فَضْلَهُ أَحَدًا، فَلَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا خَصَّتْهُ بِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَسْأَلَةُ التَّمْلِيكِ الْمُقَيَّدِ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ اهـ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ: فَشَرِبَ مِنْهُ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ شُرْبَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّ اسْتِبْقَاءَهُ لِمَا فِي الْقَدَحِ كَانَ قَصْدًا لِإِطَالَةِ زَمَنِ الشُّرْبِ حَتَّى يَعُمَّ نَظَرُ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْبَيَانِ.
وَفِيهِ الرُّكُوبُ فِي حَالِ الْوُقُوفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَتَرْجَمَ لَهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فِي الشُّرْبِ فِي الْقَدَحِ وَشُرْبِ الْوَاقِفِ عَلَى الْبَعِيرِ.
66 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ
1990 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الْآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ.
[الحديث 1990 - طرفه في: 5571]
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ قَالَ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدْ أَصَابَ.
1991 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عن عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَعَنْ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثوب الواحد.
1992 -
وَعَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ الْعِيدِ هَلْ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ أَمْ لَا؟ وَسَأَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَوْلَى بَنِي أَزْهَرَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (شَهِدْتُ الْعِيدَ) زَادَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ فِي الْأَضَاحِيِّ يَوْمَ الْأَضْحَى.
قَوْلُهُ: (هَذَانِ) فِيهِ التَّغْلِيبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَاضِرَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا وَالْغَائِبَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِذَاكَ، فَلَمَّا أَنْ جَمَعَهُمَا اللَّفْظُ قَالَ: هَذَانِ تَغْلِيبًا لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمُ فِطْرِكُمْ) بِرَفْعِ يَوْمٍ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَانِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ قِيلَ: وَفَائِدَةُ وَصْفِ الْيَوْمَيْنِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعِلَّةِ فِي وُجُوبِ فِطْرِهِمَا وَهُوَ الْفَصْلُ مِنَ الصَّوْمِ وَإِظْهَارُ تَمَامِهِ وَحَدِّهِ بِفِطْرِ مَا بَعْدَهُ، وَالْآخَرُ لِأَجْلِ النُّسُكِ الْمُتَقَرَّبِ بِذَبْحِهِ لِيُؤْكَلَ مِنْهُ، وَلَوْ شُرِعَ صَوْمُهُ لَمْ يَكُنْ لِمَشْرُوعِيَّةِ الذَّبْحِ فِيهِ مَعْنًى، فَعَبَّرَ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ بِالْأَكْلِ مِنَ النُّسُكِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّحْرَ وَيَزِيدُ فَائِدَةَ التَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّسُكِ هُنَا الذَّبِيحَةُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا قَطْعًا، قِيلَ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ تَعَيُّنُ السَّلَامِ لِلْفَصْلِ مِنَ الصَّلَاةِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ صَوْمِ يَوْمَيِ الْعِيدِ سَوَاءٌ النَّذْرُ وَالْكَفَّارَةُ وَالتَّطَوُّعُ وَالْقَضَاءُ وَالتَّمَتُّعُ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَدِمَ فَصَامَ يَوْمَ عِيدٍ: فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ قُدُومٍ زَيْدٍ فَقَدِمَ يَوْمَ الْعِيدِ فَالْأَكْثَرُ لَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ، وَعنِ الْحَنَفِيَّةِ يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ يَقْضِي إِلَّا إِنْ نَوَى اسْتِثْنَاءَ الْعِيدِ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ: يَقْضِي إِنْ نَوَى الْقَضَاءَ وَإِلَّا فَلَا، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ قَالَ الْأَكْثَرُ: لَا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: نَعَمْ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ مُمْكِنٌ، وَإِذَا أَمْكَنَ ثَبَتَ الصِّحَّةُ. وَأُجِيبَ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْمَذْكُورَ عَقْلِيٌّ، وَالنِّزَاعُ فِي الشَّرْعِيِّ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فِعْلُهُ شَرْعًا. وَمِنْ حُجَجِ الْمَانِعِينَ أَنَّ النَّفْلَ الْمُطْلَقَ إِذَا نُهِيَ عَنْ فِعْلِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ مَطْلُوبُ التَّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ، وَالنَّفْلُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ فَلَا يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ ذِي الْوَجْهَيْنِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي الْمَغْصُوبِ لَيْسَتْ لِذَاتِ الصَّلَاةِ بَلْ لِلْإِقَامَةِ وَطَلَبِ الْفِعْلِ لِذَاتِ الْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِذَاتِ الصَّوْمِ فَافْتَرَقَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ قَالَ: مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدْ أَصَابَ) انْتَهَى. وَكَلَامُ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَذَا حَكَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي الْعِلَلِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَصِفْهُ بِشَيْءٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَذَا قَالَ جُوَيْرِيَةُ، وَسَعِيدٌ الزُّبَيْرِيُّ، وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَالِكٍ حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَيْضًا كَانَ يَقُولُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَجْهُ كَوْنِ الْقَوْلَيْنِ صَوَابًا مَا رُوِيَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي وَلَائِهِ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْآخَرُ عَلَى الْمَجَازِ، وَسَبَبُ الْمَجَازِ إِمَّا بِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مُلَازَمَةَ أَحَدِهِمَا إِمَّا لِخِدْمَتِهِ أَوْ لِلْأَخْذِ عَنْهُ أَوْ لِانْتِقَالِهِ مِنْ مِلْكِ أَحَدِهِمَا إِلَى مِلْكِ الْآخَرِ، وَجَزَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَعَلَى هَذَا فَنِسْبَتُهُ إِلَى ابْنِ أَزْهَرَ هِيَ الْمَجَازِيَّةُ، وَلَعَلَّهَا بِسَبَبِ انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَاسْمُ ابْنِ أَزْهَرَ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقِيلَ: ابْنُ أَخِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فِي حَدِيثِ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَيَأْتِي فِي
أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) هُوَ الْمَازِنِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ الصَّمَّاءِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْمَدِّ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: لَا يُوَارِي فَرْجَهُ بِشَيْءٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ عَمْرٍو: لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا يُسْتَرُ مِنَ الْعَوْرَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي الْمَوَاقِيتِ.
67 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ
1993 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاء قَالَ: سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: يُنْهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ؛ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.
1994 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا - قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ الِاثْنَيْنِ - فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ.
[الحديث 1994 - طرفاه في: 6705، 6706]
1995 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ: سَمِعْتُ أَرْبَعًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْجَبْنَنِي، قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ:
الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَابُ الصَّوْمِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ.
قَوْلُهُ: (يُنْهَى) كَذَا هُنَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَوَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبُيُوعِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاذٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَابْنُ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْإِسْنَادُ بَصْرِيُّونَ، وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا أَيِ: ابْنُ حَيَّةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الثَّقِيلَةِ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ كَرِيمَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهَا سَأَلَتِ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَتْ: جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ أَرْبِعَاءَ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ الْحَدِيثَ، وَلَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يُونُسَ بِسَنَدِهِ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَمْشِي بِمِنًى.
قَوْلُهُ: (أَظُنُّهُ قَالَ: الِاثْنَيْنِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: نَذَرَ أَنْ يَصُومَ كُلَّ اثْنَيْنِ أَوْ خَمِيسٍ وَمِثْلُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ زِيَادٍ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ: أَوْ خَمِيسٍ وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي النَّذْرِ: أَنْ أَصُومَ كُلَّ ثُلَاثَاءَ وَأَرْبِعَاءَ وَمِثْلُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثُّلَاثَاءَ، وَلِلْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قُتَيْبَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يُونُسَ: أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ كُلَّ جُمُعَةٍ وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ) لَمْ يُفَسِّرِ الْعِيدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمُقْتَضَى إِدْخَالِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ: فَوَافَقَ يَوْمَ النَّحْرِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي النُّذُورِ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّقْسِيمِ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ. . . إِلَخْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَوَرَّعَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ قَطْعِ الْفُتْيَا فِيهِ، وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَاخْتَلَفُوا.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ اخْتِلَافِهِمْ قَبْلُ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ وَأَمْرُهُ فِي التَّوَرُّعِ عَنْ بَتِّ الْحُكْمِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ مَشْهُورٌ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَرَادَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الدَّلِيلِينَ يُعْمَلُ بِهِ فَيَصُومُ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمِ النَّذْرِ، وَيَتْرُكُ الصَّوْمَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَكُونُ فِيهِ سَلَفٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَزَعَمَ أَخُوهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ عَامٌّ وَالْمَنْعَ مِنْ صَوْمِ الْعِيدِ خَاصٌّ، فَكَأَنَّهُ أَفْهَمَهُ أَنَّهُ يُقْضَى بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَتَعَقَّبَهُ أَخُوهُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ أَيْضًا عُمُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلِكُلِّ عِيدٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ حَمْلِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَشَارَ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِذَا الْتَقَيَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ وَالرَّاجِحُ يُقَدَّمُ النَّهْيُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَصُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: تَوَقُّفُ ابْنِ عُمَرَ يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صِيَامِهِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ تَقْدِيمُ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى أَمْرَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فِي الْحَجِّ بِالرُّكُوبِ فَلَوْ كَانَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّكُوبِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ
وَالزَّايِ هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُفَرَّقًا: أَمَّا سَفَرُ الْمَرْأَةِ فَفِي الْحَجِّ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَفِي الْمَوَاقِيتِ، وَأَمَّا شَدُّ الرَّحَّالِ فَفِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلِاقْتِصَارِ فِيهِ عَلَى ذِكْرِ يَوْمَيِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
68 - بَاب صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
1996 -
قَالَ أبو عبد الله: قال لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي: كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوه يَصُومُهَا.
1997 -
1998 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسى بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَا لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ"
1999 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى" وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) أَيِ: الْأَيَّامُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَسُمِّيَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ تُشَرَّقُ فِيهَا أَيْ: تُنْشَرُ فِي الشَّمْسِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يُنْحَرُ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَقَعُ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: التَّشْرِيقُ التَّكْبِيرُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَهَلْ تُلْتَحَقُ بِيَوْمِ النَّحْرِ فِي تَرْكِ الصِّيَامِ كَمَا تُلْتَحَقُ بِهِ فِي النَّحْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ أَوْ يَجُوزُ صِيَامُهَا مُطْلَقًا أَوْ لِلْمُتَمَتِّعِ خَاصَّةً أَوْ لَهُ وَلِمَنْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ؟ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ جَوَازُهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَلَمْ يُورِدْ غَيْرَهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَأَبِي طَلْحَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَنْعَ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي آخَرِينَ مَنْعُهُ إِلَّا لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَا يَجِدُ الْهَدْيَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِ يَصُومُهَا أَيْضًا الْمُحْصَرُ وَالْقَارِنُ، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ حَدِيثَ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: إِنَّهَا الْأَيَّامُ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِهِنَّ وَأَمَرَ بِفِطْرِهِنَّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) كَأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ لِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَائِشَةَ كَمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (أَيَّامُ مِنًى) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ بِمِنًى.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَبُوهُ يَصُومُهَا) هُوَ كَلَامُ الْقَطَّانِ، وَالضَّمِيرُ
لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَفَاعِلُ يَصُومُهَا هُوَ عُرْوَةُ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَكَانَ أَبُوهَا وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ لِعَائِشَةَ وَفَاعِلُ يَصُومُهَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو لَيْلَى جَدُّ أَبِيهِ فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ ابْنُ أَخِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَسَنَّ مِنْ عَمِّهِ مُحَمَّدٍ وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عَمِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ سَالِمٍ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ فَهُوَ مَوْصُولٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَا: لَمْ يُرَخَّصْ) كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّحَاوِيِّ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ سَلَّامٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقَ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الطُّرُقُ الْمُصَرِّحَةُ بِالرَّفْعِ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا هَلْ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؟ عَلَى أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ أَضَافَهُ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُضِفْهُ، وَيُلْتَحَقُ بِهِ: رُخِّصَ لَنَا فِي كَذَا وَعُزِمَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَفْعَلَ كَذَا كُلٌّ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، فَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ فَغَايَةُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى، لَكِنْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ: لَمْ يُرَخَّصْ أَخَذَاهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْحَجِّ يَعُمُّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَدْخُلُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُمَا عَمَّا فَهِمَاهُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي
حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ تَعَارَضَ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُشْعِرُ بِالْإِذْنِ وَعُمُومُ الْحَدِيثِ الْمُشْعِرُ بِالنَّهْيِ، وَفِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْمُتَوَاتِرِ بِعُمُومِ الْآحَادِ نَظَرٌ، لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا فَكَيْفَ، وَفِي كَوْنِهِ مَرْفُوعًا نَظَرٌ؟ فَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى (إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ: إِلَّا لِمُتَمَتِّعٍ أَوْ مُحْصَرٍ.
وتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ في رواية مالك: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ عَرَفَةَ فَلْيَصُمْ أَيَّامَ مِنًى وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلُهُ، وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ بِلَفْظِ: إِنَّهُمَا كَانَا يُرَخِّصَانِ لِلْمُتَمَتِّعِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَهَذَا يُرَجِّحُ كَوْنَهُ مَوْقُوفًا لِنِسْبَةِ التَّرْخِيصِ إِلَيْهِمَا، فَإِنَّهُ يُقَوِّي أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى حَيْثُ قَالَ فِيهَا: لَمْ يُرَخَّصْ وَأَبْهَمَ الْفَاعِلَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمَا مَنْ لَهُ الشَّرْعُ فَيَكُونَ مَرْفُوعًا، أَوْ مَنْ لَهُ مَقَامُ الْفَتْوَى فِي الْجُمْلَةِ فَيَحْتَمِلَ الْوَقْفَ، وَقَدْ صَرَّحَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَيَحْيَى ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُ أَرْجَحَ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ مَجْزُومٌ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ لَا يُصَامُ بِالِاتِّفَاقِ، وَصِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هِيَ الْمُخْتَلَفُ فِي
جَوَازِهَا، وَالْمُسْتَدِلُّ بِالْجَوَازِ أَخَذَهُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
69 - بَاب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
2000 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ شَاءَ صَامَ.
2001 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
2002 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ في الجاهلية، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
2003 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ"
2004 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"
[الحديث 2004 - أطرافه في: 3397، 3943، 3680، 3737]
2005 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ"
[الحديث 2005 - طرفه في: 3942]
2006 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ"
2007 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ. وَعَاشُورَاءُ بِالْمَدِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ فِيهِ الْقَصْرُ، وَزَعَمَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ دِحْيَةَ بِأَنَّ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ حَكَى أَنَّهُ سَمِعَ فِي كَلَامِهِمْ خَابُورَاءَ، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا الْأَخِيرُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى رَدِّ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الشَّرْعِ فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنْ عَاشِرَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِلَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْعَقْدِ وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا قِيلَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَحَذَفُوا اللَّيْلَةَ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَمًا عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فَاعُولَاءَ إِلَّا هَذَا وَضَارُورَاءُ وَسَارُورَاءُ وَدَالُولَاءُ، مِنَ الضَّارِّ وَالسَّارِّ وَالدَّالِّ، وَعَلَى هَذَا فَيَوْمُ عَاشُورَاءَ هُوَ الْعَاشِرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ: وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْيَوْمُ مُضَافٌ لِلَيْلَتِهِ الْمَاضِيَةِ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ مُضَافٌ لِلَيْلَتِهِ الْآتِيَة، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ التَّاسِعِ عَاشُورَاءَ أَخْذًا مِنْ أَوْرَادِ الْإِبِلِ، كَانُوا إِذَا رَعَوُا الْإِبِلَ ثَمَانِيَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَوْرَدُوهَا فِي التَّاسِعِ قَالُوا: وَرَدْنَا عِشْرًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِلَى الثَّلَاثَةِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ
التَّاسِعِ صَائِمًا. قُلْتُ: أَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ، لَكِنْ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ: إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعِهِ فَأَصْبِحْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْعَاشِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ صَائِمًا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ مِنْ تَاسِعِهِ إِلَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ وَهُوَ اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ.
قُلْتُ: وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ. فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ الْعَاشِرَ وَهَمَّ بِصَوْمِ التَّاسِعِ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَّ بِهِ مِنْ صَوْمِ التَّاسِعِ يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ يُضِيفُهُ إِلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، إِمَّا احْتِيَاطًا لَهُ وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَبِهِ يُشْعِرُ بَعْضُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ وَهَذَا كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ
أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُخَالِفُ فِيهِ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَاشْتُهِرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ فَأَمَرَ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ يَوْمٌ قَبْلَهُ وَيَوْمٌ بَعْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَفْظِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ الْعَاشِرِ إِلَى التَّاسِعِ، وَالثَّانِي: أَرَادَ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَيْهِ فِي الصَّوْمِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ الِاحْتِيَاطُ صَوْمَ الْيَوْمَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَصِيَامُ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: أَدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْحَادِي عَشَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، ثُمَّ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي صِيَامِهِ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَيِ: ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ إِسْنَادِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ شَاءَ صَامَ) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا، وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ بِلَفْظِ: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: كَانَ يَوْمٌ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ. فَيُحْمَلُ حَدِيثُ سَالِمٍ عَلَى ثَانِي الْحَالِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا نَافِعٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ: الْأُولَى طَرِيقُ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ الْمَذْكُورَةِ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلُهُ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَفَادَتْ تَعْيِينَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَمْرُ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَحِينَئِذٍ كَانَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ إِلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ فُوِّضَ الْأَمْرُ فِي صَوْمِهِ إِلَى رَأْيِ الْمُتَطَوِّعِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ قَدْ فُرِضَ فَقَدْ نُسِخَ فَرْضُهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَانَ يَرَى بَقَاءَ فَرْضِيَّةِ عَاشُورَاءَ لَكِنِ انْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ الْآنَ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ قَصْدَهُ بِالصَّوْمِ، ثُمَّ انْقَرَضَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا صِيَامُ قُرَيْشٍ لِعَاشُورَاءَ فَلَعَلَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنَ الشَّرْعِ السَّالِفِ، وَلِهَذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ مِنْ مَجَالِسِ الْبَاغَنْدِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: صُومُوا عَاشُورَاءَ
يُكَفَّرْ ذَلِكَ، هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيِ: ابْنُ عَوْفٍ عَنْهُ، هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَوَقَعَ
عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ) زَادَ يُونُسُ: بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ فِي حَجَّتِهِ إِلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَوَّلَ حَجَّةٍ حَجَّهَا مُعَاوِيَةُ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْلِفَ كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآخِرَ حَجَّةٍ حَجَّهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَجَّةُ الْأَخِيرَةُ.
قَوْلُهُ: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ)؟ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَرَ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ عَنْ عُلَمَائِهِمْ، أَوْ بَلَغَهُ عَمَّنْ يَكْرَهُ صِيَامَهُ أَوْ يُوجِبُهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ. . . إِلَخْ) هُوَ كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَهُ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا قَطُّ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ: وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ عَلَى الدَّوَامِ كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَدُّمِ وُجُوبِهِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا الْأَمْرُ السَّابِقُ بِصِيَامِهِ الَّذِي صَارَ مَنْسُوخًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَنَةِ الْفَتْحِ، وَالَّذِينَ شَهِدُوا أَمْرَهُ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ وَالنِّدَاءَ بِذَلِكَ شَهِدُوهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَوَائِلَ الْعَامِ الثَّانِي، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ، ثُمَّ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ ثُمَّ زِيَادَتُهُ بِأَمْرِ الْأُمَّهَاتِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ فِيهِ الْأَطْفَالَ، وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ: لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا تُرِكَ اسْتِحْبَابُهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَتْرُوكَ وُجُوبُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمُ: الْمَتْرُوكُ تَأَكُّدُ اسْتِحْبَابِهِ وَالْبَاقِي مُطْلَقُ اسْتِحْبَابِهِ فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ، بَلْ تَأَكُّدُ اسْتِحْبَابِهِ بَاقٍ وَلَا سِيَّمَا مَعَ اسْتِمْرَارِ الِاهْتِمَامِ بِهِ حَتَّى فِي عَامِ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يَقُولُ: لَئِنْ عِشْتُ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَلِتَرْغِيبِهِ فِي صَوْمِهِ، وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَأَيُّ تَأْكِيدٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا؟
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ عِنْدَ أَيُّوبَ بِوَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَا هَذَا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا؟ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِيرِ طه مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَسَأَلَهُمْ.
قَوْلُهُ: (هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ.
قَوْلُهُ: (فَصَامَهُ مُوسَى) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِجْرَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ: وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شُبَيْلِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَزَادَ فِيهِ: وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فَصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَوَّلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَا أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا عَلِمَ ذَلِكَ، وَغَايَتُهُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَقَامَ إِلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ فِيهِ صِيَامًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ كَانُوا يَحْسِبُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِحِسَابِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ فَصَادَفَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بِحِسَابِهِمُ الْيَوْمَ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِمَّا يَتَرَجَّحُ بِهِ أَوْلَوِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَحَقِّيَّتُهُمْ بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام؛ لِإِضْلَالِهِمُ الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ وَهِدَايَةِ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ سِيَاقَ الْأَحَادِيثِ تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ وَجَدْتُ فِي
الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ مَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ فِي تَرْجَمَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَيْسَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بِالْيَوْمِ الَّذِي يَقُولُهُ النَّاسُ، إِنَّمَا كَانَ يَوْمٌ تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، وَكَانَ يَدُورُ فِي السَّنَةِ، وَكَانُوا يَأْتُونَ فُلَانًا الْيَهُودِيَّ - يَعْنِي: لِيَحْسِبَ لَهُمْ - فَلَمَّا مَاتَ أَتَوْا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلُوهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، قَالَ شَيْخُنَا الْهَيْثَمِيُّ فِي زَوَائِدِ الْمَسَانِيدِ: لَا أَدْرِي مَا مَعْنَى هَذَا. قُلْتُ: ظَفِرْتُ بِمَعْنَاهُ فِي كِتَابِ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ لِأَبِي الرَّيْحَانِ الْبَيْرُونِيِّ فَذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ جَهَلَةَ الْيَهُودِ يَعْتَمِدُونَ فِي صِيَامِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ حِسَابَ النُّجُومِ، فَالسَّنَةُ عِنْدَهُمْ شَمْسِيَّةٌ لَا هِلَالِيَّةٌ. قُلْتُ: فَمِنْ ثَمَّ احْتَاجُوا إِلَى مَنْ يَعْرِفُ الْحِسَابَ لِيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) لِلْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِيرِ يُونُسَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ أَيْضًا: فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا وَاسْتُشْكِلَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَجَابَ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، زَادَ عِيَاضٌ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَابْنِ سَلَامٍ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ، بَلْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَغَايَةُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِ تَجْدِيدُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةُ حَالٍ وَجَوَابُ سُؤَالٍ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَوَارُدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صِيَامِهِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ فِي صَوْمِهِ إِلَى شَرْعِ مَنْ مَضَى كَإِبْرَاهِيمَ، وَصَوْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ كَمَا فِي الْحَجِّ، أَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي صِيَامِهِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ، فَلَمَّا هَاجَرَ وَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ وَسَأَلَهُمْ وَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ احْتَمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَصُمْهُ اقْتِدَاءً بِهِم، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحِبُّ فِيهِ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَطَفَانَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ - ابْنِ طَرِيفٍ بِمُهْمَلَةٍ وَزْنَ عَظِيمٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. قَالُوا: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الْحَدِيثَ. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِنَجَاةِ مُوسَى وَغَرَقِ فِرْعَوْنَ يَخْتَصُّ بِمُوسَى وَالْيَهُودِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِيسَى كَانَ يَصُومُهُ وَهُوَ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَا نُسِخَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وَيُقَالُ: إِنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ إِنَّمَا تَتَلَقَّاهَا النَّصَارَى مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادَةً فِي سَبَبِ صِيَامِ الْيَهُودِ لَهُ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ السَّفِينَةَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فِيهِ فَصَامَهُ نُوحٌ وَمُوسَى شُكْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ قَرِيبًا، وَكَأَنَّ ذِكْرَ مُوسَى دُونَ غَيْرِهِ هُنَا لِمُشَارَكَتِهِ لِنُوحٍ فِي النَّجَاةِ وَغَرَقِ أَعْدَائِهِمَا.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَصُومُوهُ أَنْتُمْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ تَتَّخِذُهُ عِيدًا فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ مَحَبَّةُ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ حَتَّى يُصَامَ مَا يُفْطِرُونَ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ لَا يُصَامُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى صِيَامِهِ مُوَافَقَتُهُمْ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَجَاةِ مُوسَى، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَاعْتِقَادِهِمْ بِأَنَّهُ عِيدٌ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصُومُونَهُ، فَلَعَلَّهُمْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَعْظِيمِهِمْ فِي شَرْعِهِمْ أَنْ يَصُومُوهُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى هَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِجْرَةِ بِلَفْظِ: وَإِذَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ يُعَظِّمُونَ عَاشُورَاءَ وَيَصُومُونَهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتِهِمْ وَهُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ
أَيْ: هَيْئَتَهُمُ الْحَسَنَةَ، وَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمٌ الْإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ الْيَوْمِ لَا إِلَى شَخْصِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فِيمَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْتُ. . . إِلَخْ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ رَمَضَانَ، لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَرُدُّ عِلْمَ غَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ: إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَنْسُوبٌ إِلَى مُوسَى عليه السلام وَيَوْمَ عَرَفَةَ مَنْسُوبٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ.
قَوْلُهُ: (يَتَحَرَّى) أَيْ: يَقْصِدُ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ) كَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَهَذَا الشَّهْرُ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مَذْكُورٍ، كَأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ رَمَضَانَ وَذِكْرُ عَاشُورَاءَ أَوْ كَانَتِ الْمَقَالَةُ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ وَذَكَرَ الْآخَرَ، فَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ: يَعْنِي رَمَضَانَ. أَوْ أَخَذَهُ الرَّاوِي مِنْ جِهَةِ الْحَصْرِ فِي أَنْ لَا شَهْرَ يُصَامُ إِلَّا رَمَضَانَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ شَهْرًا كَامِلًا إِلَّا رَمَضَانَ وَإِنَّمَا جَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ عَاشُورَاءَ وَرَمَضَانَ - وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا وَالْآخَرُ مَنْدُوبًا - لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حُصُولِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى يَتَحَرَّى أَيْ: يَقْصِدُ صَوْمَهُ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي الْأَمْرِ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الصِّيَامِ فِي بَابٌ: إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا وَأَخْرَجَهُ عَالِيًا أَيْضًا ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِجْزَاءِ الصَّوْمِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَيُجْزِئُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَمْرَ مَنْ كَانَ أَكَلَ بِقَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ الْأَمْرِ بِإِمْسَاكِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الصِّيَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هُنَا عَلَى مِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ حَدِيثًا. الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ تِسْعَةٌ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَحَدِيثِ عَمَّارٍ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: آلَى مِنْ نِسَائِهِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمْرِ بِفِطْرِ الْجُنُبِ، وَحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي السِّوَاكِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، فَالَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِيهِ، وَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِيهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ وَحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَجَمِيعُ ذَلِكَ سِوَى الْأَوَّلِ مُعَلَّقَاتٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي كَرَاهَةِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي نَسْخِ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وَحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الصَّحَابِيِّ فِي تَحْوِيلِ الصِّيَامِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّفْرِيطِ، وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مُعَلَّقَاتٌ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ، وَحَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الدُّخُولِ عَلَى أُمّ سُلَيْمٍ، وَحَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي نَذْرِ صَوْمِ
يَوْمِ الْعِيدِ، وَحَدِيثِهِ فِي صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى شَكٍّ فِي رَفْعِهِمَا. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سِتُّونَ أَثَرًا أَكْثَرُهَا مُعَلَّقٌ وَالْيَسِيرُ مِنْهَا مَوْصُولٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
31 - كِتَاب صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ
(كِتَابُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ). كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَسَقَطَ هُوَ وَالْبَسْمَلَةُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالتَّرَاوِيحُ جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الرَّاحَةِ كَتَسْلِيمَةٍ مِنَ السَّلَامِ. سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ التَّرَاوِيحَ؛ لأَنَّهُمْ أَوَّلَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ بَيْنَ كُلِّ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَقَدْ عَقَدَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بَابَيْنِ لِمَنِ اسْتَحَبَّ التَّطَوُّعَ لِنَفْسِهِ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ وَلِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَحَكَى فِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ قَدْرَ مَا يُصَلِّي الرَّجُلُ كَذَا كَذَا رَكْعَةً.
1 - بَاب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
2008 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِرَمَضَانَ: مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
2009 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والناس على ذلك، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
2010 -
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ"
2011 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ".
2012 -
وحدثني يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ"
2013 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَان) أَيْ: قَامَ لَيَالِيَهُ مُصَلِّيًا، وَالْمُرَادُ مَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مُطْلَقُ الْقِيَامِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّهَجُّدِ سَوَاءٌ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ مِنَ الْقِيَامِ لَا أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَا، وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنْ مَالِكٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) كَذَا رَوَاهُ عُقَيْلٌ وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَشُعَيْبٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ، وَخَالَفَهُ مَالِكٌ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ صَحَّ الطَّرِيقَانِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَأَخْرَجَهُمَا عَلَى الْوِلَاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَصَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ، وَحَكَى أَنَّ أَبَا هَمَّامٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَخَالَفَ الْجَمَاعَةَ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ سُفْيَانَ فَقَالُوا: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ لِرَمَضَانَ) أَيْ: لِفَضْلِ رَمَضَانَ أَوْ لِأَجْلِ رَمَضَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ: يَقُولُ عَنْ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (إِيمَانًا) أَيْ: تَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) أَيْ: طَلَبًا لِلْأَجْرِ لَا لِقَصْدٍ آخَرَ مِنْ رِيَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (غُفِرَ لَهُ) ظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالصَّغَائِرِ، وَبِهِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَزَاهُ عِيَاضٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَجُوزُ أَنْ يُخَفِّفَ مِنَ الْكَبَائِرِ إِذَا لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً.
قَوْلُهُ: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) زَادَ قُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: وَمَا تَأَخَّرَ وَكَذَا زَادَهَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى عِنْدَ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لَهُ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي الْجُزْءِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ فَوَائِدِهِ، وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَاحِيُّ فِي فَوَائِدِهِ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَوَرَدَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ ثَابِتٍ عَنِ الْحَسَنِ كِلَاهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ نَفْسِهِ أَخْرَجَهَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْجُرْجَانِيُّ فِي أَمَالِيهِ مِنْ طَرِيقِ بَحْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُتَابِعْ بَحْرَ بْنَ نَصْرٍ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ وَهْبٍ وَلَا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَلَا يُونُسَ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي غُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ جَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ شَيْءٍ يُغْفَرُ وَالْمُتَأَخِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ لَمْ يَأْتِ فَكَيْفَ يُغْفَرُ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ عز وجل أَنَّهُ قَالَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ فَلَا تَقَعُ مِنْهُمْ كَبِيرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ تَقَعُ مَغْفُورَةً، وَبِهَذَا أَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ صِيَامِ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ: سَنَةً مَاضِيَةً وَسَنَةً آتِيَةً.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْأَمْرُ (عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي التَّرَاوِيحِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْقِيَامِ وَقَدْ أَدْرَجَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا النَّاسُ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نَاسٌ يُصَلِّي بِهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَصَابُوا وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِيهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (أَوْزَاعٌ) بِسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ أَيْ: جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: مُتَفَرِّقُونَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، وَقَوْلُهُ: يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ أَوَّلًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَبَعْضَهُمْ يُصَلِّي جَمَاعَةً، قِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الِائْتِمَامِ بِالْمُصَلِّي وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ.
قَوْلُهُ: (أَمْثَلَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: اسْتَنْبَطَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى مَعَهُ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَإِنْ كَانَ كَرِهَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَإِنَّمَا كَرِهَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَقِبَ حَدِيثِ عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَحَ عِنْدَ عُمَرَ ذَلِكَ لِمَا فِي الِاخْتِلَافِ مِنَ افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى وَاحِدٍ أَنْشَطُ لِكَثِيرِ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَإِلَى قَوْلِ عُمَرَ جَنَحَ الْجُمْهُورُ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: الصَّلَاةُ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَالَغَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي الْجَمَاعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: ثَالِثُهَا مَنْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَخَافُ مِنَ الْكَسَلِ وَلَا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِتَخَلُّفِهِ فَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْبَيْتِ سَوَاءٌ، فَمَنْ فَقَدَ بَعْضَ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ.
قَوْلُهُ: (فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) أَيْ: جَعَلَهُ لَهُمْ إِمَامًا، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ قَوْلُ عُمَرَ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ: أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِالرِّجَالِ، وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يُصَلِّي بِالنِّسَاءِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ بَدَلَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ لَيْلَةً وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ)
(1)
أَيْ: إِمَامُهُمُ الْمَذْكُورُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يُوَاظِبُ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ هَيْعَةَ النَّاسِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا مَضَى وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ مِنْ قَوْلِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ) فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ بِزِيَادَةِ تَاءٍ، وَالْبِدْعَةُ أَصْلُهَا مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَتُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ فِي مُقَابِلِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ مَذْمُومَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَحْسِنٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ حَسَنَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَقْبَحٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ مُسْتَقْبَحَةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ تَنْقَسِمُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ.
قَوْلُهُ: (وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ) هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ أَوَّلِهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ فُرَادَى أَفْضَلُ مِنَ التَّجْمِيعِ.
(تَكْمِيلٌ): لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بِهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ؛ فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادَ فِيهِ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِائَتَيْنِ وَيَقُومُونَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَقَالَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَرَوَى مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْوِتْرِ، وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: أَدْرَكْتُهُمْ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَثَلَاثَ رَكَعَاتِ الْوِتْرَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِهَا فَحَيْثُ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ تَقِلُّ الرَّكَعَاتُ وَبِالْعَكْسِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْعَدَدُ الْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ، وَالثَّانِي قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا زَادَ عَنِ الْعِشْرِينَ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْوِتْرِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ تَارَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَتَارَةً بِثَلَاثٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ فِي إِمَارَةِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمْرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي: بِالْمَدِينَةِ - يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً، وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ عِنْدَنَا. وَعَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَأَيْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِالْمَدِينَةِ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَبِمَكَّةَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ضِيقٌ وَعَنْهُ قَالَ: إِنْ أَطَالُوا الْقِيَامَ وَأَقَلُّوا السُّجُودَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَكْثَرُوا السُّجُودَ وَأَخَفُّوا الْقِرَاءَةَ فَحَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهَا تُصَلَّى إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً يَعْنِي: بِالْوِتْرِ، كَذَا قَالَ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: تُصَلَّى أَرْبَعِينَ وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ أَيْمَنَ، عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى الْأَوَّلِ بِانْضِمَامِ ثَلَاثِ الْوِتْرِ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِأَنَّهُ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَتَكُونُ أَرْبَعِينَ إِلَّا وَاحِدَةً، قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ
(1)
هذه الرواية تختلف عن رواية المتن، ورواية المتن هي التي شرح عليها القسطلاني
مُنْذُ بِضْعٍ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثَ الْوِتْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمْ أُدْرِكِ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ يُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ، وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَيُوتِرُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سِتَّ عَشْرَةَ غَيْرَ الْوِتْرِ. رَوَى عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ ابْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي زَمَنَ عُمَرَ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهَذَا أَثْبَتُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَشَيْءٍ مِنْ آخِرِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ تَامًّا فِي أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ إِذْ لَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ كَوْنِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَلِكَ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الظُّهُورِ اقْتِدَارَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ طَرِيقِ عُقَيْلٍ (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ. . . إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا أَعْلَمَ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلًا مِنْ غَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
32 - كِتَاب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
1 - بَاب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وقال اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {وَمَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْ.
2014 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ، وَأيمَا حَفِظَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قوله (بَابُ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ) ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَبْلَ الْبَابِ بَسْمَلَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل أَيْ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِ اللَّهِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ السُّورَةَ كُلَّهَا. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي فَضْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} لِلْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَمِمَّا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن تَفْسِيرِهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ اللَّيْلَةُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَالْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ قَدْرٍ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا، أَوْ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِمَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ أَنَّ الَّذِي يُحْيِيهَا يَصِيرُ ذَا قَدْرٍ. وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا التَّضْيِيقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وَمَعْنَى التَّضْيِيقِ فِيهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ فِيهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الْقَدْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَدَرِ بِفَتْحِ الدَّالِ الَّذِي هُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهَا أَحْكَامُ تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَبِهِ صَدَّرَ النَّوَوِيُّ كَلَامَهُ فَقَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِمَا تَكْتُبُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَقْدَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقَدْرُ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَإِنْ كَانَ الشَّائِعُ فِي الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مُؤَاخِي الْقَضَاءِ فَتْحَ الدَّالِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْصِيلُ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ وَإِظْهَارُهُ وَتَحْدِيدُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِتَحْصِيلِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فِيهَا مِقْدَارًا بِمِقْدَارِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَمَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ وَمَا يُدْرِيكَ: فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ. انْتَهَى. وَعَزَاهُ مُغَلْطَايْ فِيمَا قَرَأْتُ بِخَطِّهِ لِتَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَقَدْ رَاجَعْتُ مِنْهُ نُسْخَةً بِخَطِّ الْحَافِظِ الضِّيَاءِ فَلَمْ أَجِدْهُ فِيهِ، وَمَقْصُودُ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ تَعْيِينَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ
هَذَا الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَدْ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم بِحَالِهِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ تَزَكَّى وَنَفَّعَتْهُ الذِّكْرَى.
قَوْلُهُ: (حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ أَيُّمَا حِفْظٍ) بِرَفْعِ أَيُّ وَمَا زَائِدَةٌ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ حِفْظٌ وَمِنَ الزُّهْرِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ حَفِظْنَاهُ، وَرُوِيَ بِنَصْبِ أَيَّمَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِحَفِظَ الْمُقَدَّرِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ: قَامَ بَدَلَ صَامَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَزَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ هُنَا وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. . . إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَرِيبًا.
2 - بَاب الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ
2015 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ.
2016 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا فَقَالَ اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْتَمِسُوا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا - وَهِيَ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - مَعْقُودَتَانِ لِبَيَانِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ سَأَذْكُرُهَا مُفَصَّلَةً بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ شَرْحِ أَحَادِيثِ الْبَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ.
قَوْلُهُ: (أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ) أُرُوا بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ: قِيلَ لَهُمْ فِي الْمَنَامِ: إِنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَوَاخِرُ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ السَّبْعُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَيْلَةُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ وَآخِرُهَا لَيْلَةُ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَدْخُلُ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَا ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى الثَّانِي تَدْخُلُ الثَّانِيَةُ فَقَطْ وَلَا تَدْخُلُ لَيْلَةُ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ نَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَإِنَّ نَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي فِي الْوِتْرِ مِنْهَا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: إِنْ غُلِبْتُمْ فَلَا تُغْلَبُوا فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ
كَانَ يلْتَمِسَهَا فَيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي، وَهَذَا السِّيَاقُ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ مِنْ تَفْسِيرِ السَّبْعِ.
قَوْلُهُ: (أَرَى) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أُبْصِرُ مَجَازًا.
قَوْلُهُ: (رُؤْيَاكُمْ) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا جَاءَ بِإِفْرَادِ الرُّؤْيَا، وَالْمُرَادُ مَرَائِيكُمْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رُؤْيَا وَاحِدَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجِنْسَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا رُوِيَ بِتَوْحِيدِ الرُّؤْيَا، وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، قَالَ: وَأَفْصَحُ مِنْهُ رُؤَاكُمْ جَمْعُ رُؤْيَا؛ لِيَكُونَ جَمْعًا فِي مُقَابَلَةِ جَمْعٍ.
قَوْلُهُ: (تَوَاطَأَتْ) بِالْهَمْزَةِ أَيْ: تَوَافَقَتْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِيَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالصَّوَابُ بِالْهَمْزِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ بِرِجْلِهِ مَكَانَ وَطْءِ صَاحِبِهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الرُّؤْيَا وَجَوَازِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْقَوَاعِدَ الشَّرْعِيَّةَ، وَسَنَذْكُرُ بَسْطَ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ الرُّؤْيَا فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَيَأْتِي فِي الِاعْتِكَافِ منْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا، فَقَالَ: اعْتَكَفْنَا) لَمْ يَذْكُرِ الْمَسْئُولَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورَةِ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ يَحْيَى فِي بَابِ السُّجُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقُلْتُ: أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ فَنَتَحَدَّثَ؟ فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَفَادَ بَيَانَ سَبَبِ السُّؤَالِ، وَفِيهِ تَأْنِيسُ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ فِي طَلَبِ الِاخْتِلَاءِ بِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِمَّا يُرِيدُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ.
قَوْلُهُ: (اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَشْرِ اللَّيَالِي، وَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُوصَفَ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ لَكِنْ وُصِفَتْ بِالْمُذَكَّرِ عَلَى إِرَادَةِ الْوَقْتِ أَوِ الزَّمَانِ، أَوِ التَّقْدِيرُ الثُّلُثُ، كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّيَالِي الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ الثُّلُثُ الْأَوْسَطُ مِنَ الشَّهْرِ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ: الْعَشْرُ الْوُسُطُ، بِضَمِّ الْوَاوِ وَالسِّينِ، جَمْعُ وُسْطَى، وَيُرْوَى بِفَتْحِ السِّينِ مِثْلُ كُبُرٍ وَكُبْرَى، وَرَوَاهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ بِإِسْكَانِهَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ وَاسِطٍ كَبَازِلٍ وَبَزْلٍ، وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَوْسَطِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: كَانَ يُجَاوِرُ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْآتِيَةِ فِي أَوَّلِ الِاعْتِكَافِ: كَانَ يَعْتَكِفُ وَالِاعْتِكَافُ مُجَاوَرَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ: اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَذْكُورَةِ وَزَادَ فِيهَا: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ أَيْ: قُدَّامَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَفَ الْأَوَّلَ وَالْأَوْسَطَ بِالْمُفْرَدِ وَالْأَخِيرَ بِالْجَمْعِ إِشَارَةً
إِلَى تَصْوِيرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ: حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ وَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ رِوَايَةَ الْبَابِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ خُطْبَتَهُ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَوَّلُ لَيَالِي اعْتِكَافِهِ الْأَخِيرِ لَيْلَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخُطْبَةَ
كَانَتْ فِي صُبْحِ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، وَوُقُوعَ الْمَطَرِ كَانَ فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الطُّرُقِ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا أَيْ: مِنَ الصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَيَكُونُ فِي إِضَافَةِ الصُّبْحِ إِلَيْهَا تَجَوُّزٌ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ اللَّيْلَةَ تُضَافُ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَرَدَّ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، والدَّرَاوَرْدِيِّ - يَعْنِي: رِوَايَةَ حَدِيثِ الْبَابِ - مُسْتَقِيمَةٌ، وَرِوَايَةُ مَالِكٍ مُشْكِلَةٌ، وَأَشَارَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْتُهُ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِيضَاحِ، وَأَفَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ الرُّوَاةَ عَنْ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ: هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ وَالشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ: يَخْرُجُ فِي صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ فَقَالُوا: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ قَالَ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: مَنِ اعْتَكَفَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطَهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَمَنِ اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا خِلَافَ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنِ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ، هَلْ يَخْرُجُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَوْ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصْبِحَ؟ قَالَ: وَأَظُنُّ الْوَهْمَ دَخَلَ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ.
قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَا قَرَّرَهُ هُوَ مِنْ بَيَانِ مَحَلِّ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ وَجَّهَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ رِوَايَةَ الْبَابِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَيْ: حَتَّى إِذَا كَانَ الْمُسْتَقْبَلُ مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِإِدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (أُرِيتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهِيَ مِنَ الرُّؤْيَا، أَيْ: أُعْلِمْتُ بِهَا، أَوْ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَيْ: أَبْصَرْتُهَا، وَإِنَّمَا أُرِيَ عَلَامَتَهَا وَهُوَ السُّجُودُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِلَفْظِ: حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نَسِيتُهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ أَنْسَاهُ غَيْرُهُ إِيَّاهَا أَوْ نَسِيَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ نُسِّيتُهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ بِمَعْنَى أُنْسِيتُهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُنْسِيَ عِلْمَ تَعْيِينِهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَسَيَأْتِي سَبَبُ النِّسْيَانِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (أنِّي أَسْجُدُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ أَسْجُدَ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَرْجِعْ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَذْكُورَةِ: مَنِ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ.
قَوْلُهُ: (قَزَعَةٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ أَيْ: قِطْعَةٌ مِنْ سَحَابٍ رَقِيقَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَمَطَرَتْ) بِفَتْحَتَيْنِ، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَاسْتُهِلَّتِ السَّمَاءُ فَأَمْطَرَتْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ أَيْ: قَطَّرَ الْمَاءُ مِنْ سَقْفِهِ، وَكَانَ عَلَى عَرِيشٍ أَيْ: مِثْلِ الْعَرِيشِ، وَإِلَّا فَالْعَرِيشُ هُوَ نَفْسُ سَقْفِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مُظَلَّلًا بِالْجَرِيدِ وَالْخُوصِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ يَكُن مِنَ الْمَطَرِ الْكَثِيرَ.
قَوْلُهُ: (يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَحْضُ الْأَثَرِ وَهُوَ مَا يَبْقَى بَعْدَ إِزَالَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الْفَوَائِدِ تَرْكُ مَسْحِ جَبْهَةِ الْمُصَلِّي، وَالسُّجُودُ عَلَى الْحَائِلِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْأَثَرِ الْخَفِيفِ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ
بِأَنَّ الِامْتِلَاءَ الْمَذْكُورَ لَا يَسْتَلْزِمُ سِتْرَ جَمِيعِ الْجَبْهَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ السُّجُودِ فِي الطِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ الْأَمْرُ بِطَلَبِ الْأَوْلَى وَالْإِرْشَادُ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ، وَأَنَّ النِّسْيَانَ جَائِزٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي تَبْلِيغِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّشْرِيعِ كَمَا فِي السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَوْ عُيِّنَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا حَصَلَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا فَفَاتَتِ الْعِبَادَةُ فِي غَيْرِهَا، وَكَأنَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ.
وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ رَمَضَانَ بِدُونِ شَهْرٍ، وَاسْتِحْبَابُ الِاعْتِكَافِ فِيهِ، وَتَرْجِيحُ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ مِنَ الرُّؤْيَا مَا يَقَعُ تَعْبِيرُهُ مُطَابِقًا، وَتَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي أَوَّلِ قِصَّةِ أَبِي سَلَمَةَ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ الْمَشْيُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِيثَارُ الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ لِلسُّؤَالِ، وَإِجَابَةُ السَّائِلِ لِذَلِكَ وَاجْتِنَابُ الْمَشَقَّةِ فِي الِاسْتِفَادَةِ، وَابْتِدَاءُ الطَّالِبِ بِالسُّؤَالِ، وَتَقَدُّمُ الْخُطْبَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيبُ الْبَعِيدِ فِي الطَّاعَةِ وَتَسْهِيلُ الْمَشَقَّةِ فِيهَا بِحُسْنِ التَّلَطُّفِ وَالتَّدْرِيجِ إِلَيْهَا، قِيلَ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ تَغْيِيرِ مَادَّةِ الْبِنَاءِ مِنَ الْأَوْقَافِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَأَنْفَعُ.
3 - بَاب تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.
فِيهِ عُبَادَةَ
2017 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
[الحديث 2017 - طرفاه في: 2019، 2020]
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَاسْتَهَلَّتْ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنْ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً"
2019 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْتَمِسُوا
2020 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
2021 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى"
[الحديث 2021 - طرفه في: 2022]
2022 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَعِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى رُجْحَانِ كَوْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَةً فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ لَا فِي لَيْلَةٍ مِنْهُ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا.
وَقَدْ وَرَدَ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَامَاتٌ أَكْثَرُهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْضِيَ، مِنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا لَا شُعَاعَ لَهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِهِ: مِثْلَ الطَّسْتِ وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَادَ: صَافِيَةً وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءَ ضَعِيفَةً وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: إِنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ صَاحِيَةٌ لَا حَرَّ فِيهَا وَلَا بَرْدَ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرْمَى بِهِ فِيهَا، وَمِنْ أَمَارَاتِهَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي صَبِيحَتِهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، إِلَّا صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: وَهِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، تَتَّضِحُ كَوَاكِبُهَا وَلَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عن أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: لَا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ، وَلَا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ وَمِنْ طَرِيقِ الضِّحَاكِ: يَقْبَلُ اللَّهُ التَّوْبَةَ فِيهَا مِنْ
كُلِّ تَائِبٍ، وَتُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَهِيَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْأَشْجَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَنَابِتِهَا. وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْجُدُ فِيهَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبَدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمِيَاهَ الْمَالِحَةَ تَعْذُبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ زَهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ عُبَادَةُ) أَيْ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الأول حديث عائشة، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ) هُوَ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ غَيْرُ هَذَا
الْحَدِيثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَنْجُوَيْهِ، عَنْ أَحْمَدَ فَأَدْخَلَ بَيْنَ يَحْيَى، وَهِشَامٍ، شُعْبَةَ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مُصَرِّحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُجَاوِرُ) أَيْ: يَعْتَكِفُ، وَقَوْلُهُ:(الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ) حُذِفَ الظَّرْفُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَوْلُهُ:(يَمْضِينَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِهيَنِيِّ تَمْضِي بِالْمُثَنَّاةِ وَحَذْفِ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (فَلِيَثْبُتْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الثَّبَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ: فَلْيَلْبَثْ مِنَ اللُّبْثِ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
قَوْلُهُ: (فَابْتَغَوْهَا) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْرَدَهُ مِنْ أَوْجُهٍ.
قَوْلُهُ: (فَبَصُرَتْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَذِكْرُ الْعَيْنِ بَعْدَ الْبَصَرِ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِهِ: أَخَذْتُ بِيَدَيَّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مُسْتَغْرَبٍ إِظْهَارًا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِهِ.
قَوْلُهُ: (الْتَمِسُوا) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْخَبَرِ، وَكَأَنَّهُ أَحَالَ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ طَرِيقُ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَقَالَ يَحْيَى: الْتَمِسُوا وَقَالَ عَبْدَةُ: تَحَرَّوْا وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ الْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فَتَرْجمُوا لِرِوَايَةِ يَحْيَى كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ لَفْظَ يَحْيَى عِنْدَ أَحْمَدَ وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرْتُ قَبْلُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَيَقُولُ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنَ التَّغَايُرِ مَا لَا يَخْفَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ) مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى فَيَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنْ يَحْيَى، وَعَبْدَةَ مَعًا فَسَاقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ عَلَى لَفْظِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّقْيِيدُ بِالْوِتْرِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِإِدْخَالِهِ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُهَيْلٍ. الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (لَيْلَةَ الْقَدْرِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (الْتَمِسُوهَا) وَيَجُوزُ الرَّفْعُ.
تابعه عبد الوهاب عن أيوب. وَعَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيةِ: (عَبْدُ الْوَاحِدُ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَاصِمٌ هُوَ الْأَحْوَلُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا أَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، فَزَادَ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةً وَهِيَ: قَالَ عُمَرُ: مَنْ يَعْلَمُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي اتِّصَالِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ، وَأَبَا مِجْلَزٍ مَا أَدْرَكَا عُمَرَ فَمَا حَضَرَا الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسِيَاقُهُ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ، فَلَا يَضُرُّ الْإِرْسَالُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ، فَإِنَّهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ أن لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَقْدِيمِ السِّينِ فِي الثَّانِي وَتَأْخِيرِهَا فِي الْأَوَّلِ، وَبِلَفْظِ الْمُضِيِّ فِي الْأَوَّلِ وَالْبَقَاءِ فِي الثَّانِي، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ فِيهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِتَقْدِيمِ السِّينِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى تَخْرِيجِهِ هـ ذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا،
فَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَاصِمٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعَا عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا في الْعَشْر الْأَوَاخِر، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعُمَرَ إِنِّي لَأَعْلَمُ - أَوْ أَظُنُّ - أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، وَسَبْعَ أَرْضِينَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَالدَّهْرُ يَدُورُ فِي سَبْعٍ، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ وَالْجِمَارُ وَأَشْيَاءُ ذَكَرَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ فَعَلَى هَذَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَوَقْفِهَا فَرَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ الْمَرْفُوعُ فَأَخْرَجَهُ وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَوْقُوفِ، وَلِلْمَوْقُوفِ عَنْ عُمَرَ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوَّلُهُ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَعَا الْأَشْيَاخَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَتَكَلَّمْ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ
ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا، أَيُّ الْوِتْرِ هِيَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ: تَاسِعَةٌ سَابِعَةٌ خَامِسَةٌ ثَالِثَةٌ. فَقَالَ لِي: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قُلْتُ: أَتَكَلَّمُ بِرَأْي؟ قَالَ: عَنْ رَأْيِكَ أَسْأَلُكَ. قُلْتُ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ عُمَرُ: أَعْجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي مَا اسْتَوَتْ شُئُونُ رَأْسِهِ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ فِيهِ: وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّسَبَ فِي سَبْعٍ وَالصِّهْرَ فِي سَبْعٍ، ثُمَّ تَلَا:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: إِنِّي لَأَرَى الْقَوْلَ كَمَا قُلْتَ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ) هَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُتَابَعَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ هُنَا، وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ عَقِبَ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ وَهُوَ الصَّوَابُ وَأَصْلَحَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي نُسْخَتِهِ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِيهِمَا عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ مُتَابِعًا لِوُهَيْبٍ فِي إِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ مِثْلَهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ أَيْضًا، لَكِنْ جَزَمَ الْمِزِّيُّ بِأَنَّ طَرِيقَ خَالِدٍ هَذِهِ مُعَلَّقَةٌ، وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا حَذَفَهَا أَصْحَابُ الْمُسْنَدَاتِ لِكَوْنِهَا مَوْقُوفَةً، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ فَقِيلَ لِي: اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَقُمْتُ وَأَنَا نَاعِسٌ، فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَنَظَرْتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: إِنَّهَا فِي وِتْرٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِمَّا ظَاهِرُهُ الشَّفْعُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ بِالْعَدَدِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، فَتَكُونَ لَيْلَةُ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ هِيَ السَّابِعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أَيْ: أَوَّلُ مَا يُرْجَى مِنَ السَّبْعِ الْبَوَاقِي فَيُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْتِمَاسِهَا فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ: تَاسِعَةٌ تَبْقَى يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ وَلَا تَكُونَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْحَصْرِ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: تَبْقَى هَلْ هُوَ تَبْقَى بِاللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا، فَبَنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى
الثَّانِي فَيَكُونُ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ مَثَلًا ثَلَاثِينَ فَالتِّسْعُ مَعْنَاهَا غَيْرُ اللَّيْلَةِ، وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَالتِّسْعُ بِانْضِمَامِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا، كَمَا وَقَعَ لَنَا نَظِيرُ ذَلِكَ فِي سَاعَةِ الْجُمْعَةِ، وَقَدِ اشْتَرَكَتَا فِي إِخْفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِيَقَعَ الْجِدُّ فِي
طَلَبِهِمَا. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا رُفِعَتْ أَصْلًا وَرَأْسًا حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ عَنِ الرَّوَافِضِ وَالْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ خَطَأٌ مِنْهُ. وَالَّذِي حَكَاهُ السُّرُوجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ الشِّيعَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُحَنَّسَ قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ رُفِعَتْ. قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: ذَكَرَ الْحَجَّاجُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَهَا، فَأَرَادَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَنْ يَحْصِبَهُ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ. الثَّانِي: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَكَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْعِدَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَرَجَّحَهُ، وَهُوَ مُعْتَرَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مَاتُوا رُفِعَتْ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ وَعُمْدَتُهُمْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ عَنْ أَعْمَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَلَا يَدْفَعُ التَّصْرِيحَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَشْهُورٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ قَاضِي خَانْ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْهُمْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَزَيَّفَ الْمُهَلَّبُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَعَلَّ صَاحِبَهُ بَنَاهُ عَلَى دَوَرَانِ الزَّمَانِ لِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تُنْقَلَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَنْ رَمَضَانَ اهـ. وَمَأْخَذُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ مُمْكِنَةٌ فِي جَمِيعِ لَيَالِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ الْجَزْمُ بِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ رِوَايَةً، وَقَالَ السُّرُوجِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: إِنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ مُبْهَمَةٍ، وَكَذَا قَالَ النَّسَفِيُّ فِي الْمَنْظُومَةِ:
وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ بِكُلِّ الشَّهْرِ
…
دَائِرَةٌ وَعَيَّنَاهَا فَادْرِ اهـ.
وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ قَوْمٍ وَهُوَ السَّادِسُ. السَّابِعُ: أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ حكي عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ الصَّحَابِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرَهُ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ، حَكَاهُ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَالَّذِي رَأَيْتُ فِي الْمُفْهِمِ لِلْقُرْطُبِيِّ حِكَايَةُ قَوْلٍ أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَذَا نَقَلَهُ السُّرُوجِيِّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ فَإِنْ كَانَا مَحْفُوظَيْنِ فَهُوَ الْقَوْلُ التَّاسِعُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ السُّرُوجِيِّ عَنِ الْمُحِيطِ أَنَّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: مَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِيَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. الْقَوْلُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ، لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ قَرَأْتُهُ بِخَطِّ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُشْكِلِهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَزَاهُ الطَّبَرِيُّ، لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ السُّبْكِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ مَجْزُومًا بِهِ عِنْدَهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ حِنْثِ مَنْ عَلَّقَ يَوْمَ الْعِشْرِينَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، بَلْ بِانْقِضَاءِ الشَّهْرِ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ. وَقِيلَ: بِانْقِضَاءِ السَّنَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْعَشْرِ الْأَخِيرِ، بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ. الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا فَهِيَ لَيْلَةُ الْعِشْرِينَ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْتَمِسُوهَا اللَّيْلَةَ. قَالَ: وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذِهِ أَوْلَى بِثَمَانٍ بَقِينَ. قَالَ: بَلْ أَوْلَى بِسَبْعٍ بَقِينَ، فَإِنَّ هَذَا الشَّهْرَ لَا يَتِمُّ. الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَسَيَأْتِي حِكَايَتُهُ بَعْدُ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهُ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَذَلِكَ صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَقَالَ: كَمِ اللَّيْلَةُ؟ قُلْتُ: لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ: هِيَ اللَّيْلَةُ أَوِ الْقَابِلَةُ.
الْقَوْلُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ مَرْفُوعًا: أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ نُسِّيتُهَا فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَكِنَّهُ قَالَ فِيهِ: لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ بَدَلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَعَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ فِيهَا، فَمُرْنِي بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ لَهُ صُحْبَةٌ مَرْفُوعًا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَابِعَةٍ، وَكَانَ أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَيَمَسُّ الطِّيبَ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: اسْتَقَامَ قَوْلُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، وَمنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِلشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ وَاثِلَةَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ بِلَالٍ مَرْفُوعًا: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ لَهِيعَةَ فِي رَفْعِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا بِغَيْرِ لَفْظِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي بِلَفْظِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. الْقَوْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَارِضَةِ وَعَزَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُشْكِلِ لِأَبِي بَكْرَةَ. الْقَوْلُ الْعِشْرُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ أَرَهُ صَرِيحًا، إِلَّا أَنَّ عِيَاضًا قَالَ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ إِلَّا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا فِيهِ.
الْقَوْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ الْجَادَّةُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ جَزَمَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ كَأَنَّهُ شِقُّ جَفْنَةٍ؟ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ: أَيْ: لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِيهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الصَّهْبَاوَاتِ؟ قُلْتُ: أَنَا، وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةَ وَنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: رَأَى رَجُلٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ: مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي أَوْسَطِهِ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِنْبَاطُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ عُمَرَ فِيهِ وَمُوَافَقَتُهُ لَهُ، وَزَعَمَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ كَلِمَاتِ السُّورَةِ، وَقَدْ وَافَقَ قَوْلَهُ فِيهَا: هِيَ سَابِعُ كَلِمَةٍ بَعْدَ الْعِشْرِينَ، وَهَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِهِ، نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ مُلَحِ التَّفَاسِيرِ وَلَيْسَ مِنْ مَتِينِ الْعِلْمِ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي جِهَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَقَدْ أُعِيدَتْ فِي السُّورَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَذَلِكَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا الْمُحِيطُ: مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. طُلِّقَتْ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ قَبْلُ بِقَوْلٍ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا ليْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثِينَ حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَالسُّرُوجِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَصَارَ إِلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِثْلُهُ بِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
الْقَوْلُ السابع وَالْعِشْرُونَ: تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ كُلِّهِ، قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ; وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الصَّحِيحِ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ اعْتِكَافِهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَخِيرَ فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَاعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ بَعْدَهُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ فِيهِ مُحْتَمَلَةٌ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَعْضُ لَيَالِيهِ أَرْجَى مِنْ بَعْضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْجَاهُ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ، وَقِيلَ: أرجاهُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الْقَوْلُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ، وَقِيلَ: أَرْجَاهُ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّلَاثُونَ. الْقَوْلُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: هَلِ الْمُرَادُ لَيَالِي السَّبْعِ مِنْ آخَرِ الشَّهْرِ أَوْ آخَرِ سَبْعَةٍ تُعَدُّ مِنَ الشَّهْرِ؟ وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَحَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سِتَّ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ. رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. الْقَوْلُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ آخَرِ لَيْلَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. الْقَوْلُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ أَوْ تَاسِعُ لَيْلَةٍ أَوْ سَابِعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. الْقَوْلُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ
مُنْقَطِعٍ أَيْضًا. الْقَوْلُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: سَبْعٌ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٌ يَمْضِينَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى قَالَ النُّعْمَانُ: فَنَحْنُ نَقُولُ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
الْقَوْلُ الْأَرْبَعُونَ: لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: تَاسِعَةٌ تَبْقَى سَابِعَةٌ تَبْقَى خَامِسَةٌ تَبْقَى قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَوْلُهُ: تَاسِعَةٌ تَبْقَى لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَخْ. الْقَوْلُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا فِي أَشِفَاعِ الْعَشْرِ الْوَسَطِ وَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ. قَرَأْتُهُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ الثَّالِثَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثَّالِثَةَ تَحْتَمِلُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَتَحْتَمِلُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَتَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَبِهَذَا يَتَغَايَرُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا مَضَى. الْقَوْلُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا فِي سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي. رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: تَحَرَّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ. ثُمَّ عَادَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحْيِي لَيْلَةَ سِتَّ عَشْرَةَ إِلَى لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَقْصُرُ. الْقَوْلُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ أَوِ الْوِتْرِ مِنَ اللَّيْلِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَرَاسِيلِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي خَلَدَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ لَهُ: مَتَى لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ وَآخِرِ لَيْلَةٍ وَالْوِتْرِ مِنَ اللَّيْلِ وَهَذَا مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا بَعْدَ الثَّالِثِ فَهَلُمَّ جَرًّا مُتَّفِقَةٌ عَلَى إِمْكَانِ حُصُولِهَا وَالْحَثِّ عَلَى الْتِمَاسِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا آخَرَ، وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَخْبَرَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلًا جَوَّزَ فِيهِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ.
هَذَا آخَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَبَعْضُهَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا التَّغَايُرَ، وَأَرْجَحُهَا كُلِّهَا أَنَّهَا فِي وِتْرٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ، وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُ الْعَشْرِ، وَأَرْجَى أَوْتَارِ الْعَشْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَدِلَّةُ ذَلِكَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِيَحْصُلَ الِاجْتِهَادُ فِي الْتِمَاسِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ عُيِّنَتْ لَهَا لَيْلَةٌ لَاقْتُصِرَ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مُطَّرِدَةٌ عِنْدَ مِنْ يَقُولُ: إِنَّهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَفِي جَمِيعٍ رَمَضَانَ، أَوْ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، أَوْ فِي أَوْتَارِهِ خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ الثَّانِي أَلْيَقُ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَهَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِمَنْ وُفِّقَتْ لَهُ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يَرَى كُلَّ شَيْءٍ سَاجِدًا. وَقِيلَ: الْأَنْوَارُ فِي كُلِّ مَكَانٍ سَاطِعَةً حَتَّى فِي الْمَوَاضِعِ الْمُظْلِمَةِ. وَقِيلَ: يَسْمَعُ سَلَامًا أَوْ خِطَابًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: عَلَامَتُهَا اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ مَنْ وُفِّقَتْ لَهُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِحُصُولِهَا رُؤْيَةُ شَيْءٍ وَلَا سَمَاعُهُ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ قَامَهَا، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى كَشْفِهَا لَهُ؟ وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ، وَالْمُهَلَّبُ، وَابْنُ
الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ، وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ الْأَكْثَرُ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقْهَا وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى يُوَافِقُهَا، أَيْ: يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُوَافِقُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْقَوْلَيْنِ أَيْضًا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي حَدِيثِ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ وَفِي حَدِيثِ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ: مَعْنَاهُ مَنْ قَامَهُ وَلَوْ لَمْ يُوَافِقْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَوَافَقَهَا حَصَلَ لَهُ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُوَافَقَةِ بِالْعِلْمِ بِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِي، وَلَا أُنْكِرُ حُصُولَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِمَنْ قَامَ لِابْتِغَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا وَلَوْ لَمْ تُوَفَّقْ لَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُعَيَّنِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَفَرَّعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِهَا أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ فَيُكْشَفُ لِوَاحِدِ وَلَا يُكْشَفُ لِآخَرَ وَلَوْ كَانَا مَعًا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي إِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِلْعُيُونِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ يَخَفْ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَ لَيَالِي السَّنَةِ فَضْلًا عَنْ لَيَالِي رَمَضَانَ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّكْذِيبِ لِذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ فَيَخْتَصُّ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْصُرِ الْعَلَّامَةَ وَلَمْ يَنْفِ الْكَرَامَةَ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَلَامَةُ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو سَعِيدٍ نُزُولَ الْمَطَرِ، وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ السِّنِينَ يَنْقَضِي رَمَضَانُ دُونَ مَطَرٍ مَعَ اعْتِقَادنَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو رَمَضَانُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَعْتَقِدُ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا مَنْ رَأَى الْخَوَارِقَ، بَلْ فَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَرُبَّ قَائِمٍ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ خَارِقٍ، وَآخَرَ رَأَى الْخَارِقَ مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ، وَالَّذِي حَصَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ، وَالْعِبْرَةُ إِنَّمَا هِيَ بِالِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّهَا تَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا كَرَامَةً، بِخِلَافِ الْخَارِقِ فَقَدْ يَقَعُ كَرَامَةً وَقَدْ يَقَعُ فِتْنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ رَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْحَوْلِيِّ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّهُ اعْتَبَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَمْ تَفُتْهُ طُولَ عُمُرِهِ وَأَنَّهَا تَكُونُ دَائِمًا لَيْلَةَ الْأَحَدِ، فَإِنْ كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ كَانَتْ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ فِي لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْعَشْرِ الْوَسَطِ لِضَرُورَةِ أَنَّ أَوْتَارَ الْعَشْرِ خَمْسَةٌ.
وَعَارَضَهُ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهَا تَكُونُ دَائِمًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ، وَكِلَاهُمَا لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا كَافٍ فِي الرَّدِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَتْ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ زِيَادَةٌ سَأَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا بَعْدَ بَابٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4 - بَاب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ
2023 -
حدثني مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثني خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ) أَيْ: بِسَبَبِ تَلَاحِي النَّاسِ، وَقَيَّدَ الرَّفْعَ بِـ مَعْرِفَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا
لَمْ تُرْفَعْ أَصْلًا وَرَأْسًا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَفَادُ هَذَا التَّقْيِيدُ مِنْ قَوْلِهِ: الْتَمِسُوهَا بَعْدَ إِخْبَارِهِمْ بِأَنَّهَا رُفِعَتْ، وَمِنْ كَوْنِ أَنَّ وُقُوعَ التَّلَاحِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَإِنَّ وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَفَاءَهَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ كُلِّ الشَّهْرِ أَوِ الْعَشْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَتْ مَعْرِفَةُ تَعْيِينِهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فَقَالَ: عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ عُبَادَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُ عُبَادَةَ وَأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَلَاحِي) بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا مُلَاحَاةٌ، وَهِيَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاتَمَةُ، وَالِاسْمُ اللِّحَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجَاءَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَانِ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَزَادَ أَنَّهُ لَقِيَهُمَا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَحَجَزَ بَيْنَهُمَا، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى سَبَبِ النِّسْيَانِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعَدُّدِ بِأَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنَامًا فَيَكُونَ سَبَبُ النِّسْيَانِ الْإِيقَاظَ، وَأَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ فِي الْيَقِظَةِ فَيَكُونَ سَبَبُ النِّسْيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَيَكُونَ النِّسْيَانُ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ عَنْ سَبَبَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَسَمِعْتُ تَلَاحِيَ الرَّجُلَيْنِ فَقُمْتُ لِأَحْجِزَ بَيْنَهُمَا فَنَسِيتُهَا لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى. فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا فَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي الْحَمْلَ عَلَى التَّعَدُّدِ.
قَوْلُهُ: (رَجُلَانِ) قِيلَ: هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ذَكَرَهُ ابْنُ دِحْيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُسْتَنَدًا.
قَوْلُهُ: (لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَيْ: بِتَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: (فَرُفِعَتْ) أَيْ: مِنْ قَلْبِي، فَنَسِيتُ تَعْيِينَهَا لِلِاشْتِغَالِ بِالْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَرُفِعَتْ بَرَكَتُهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقِيلَ: التَّاءُ فِي رُفِعَتْ لِلْمَلَائِكَةِ لَا لِلَّيْلَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ: رُفِعَتْ أَيْ: مَعْرِفَتُهَا، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَفْعَهَا مَسْبُوقٌ بِوُقُوعِهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ لَمْ يَكُنْ لِرَفْعِهَا مَعْنًى، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِرَفْعِهَا أَنَّهَا شُرِعَتْ أَنْ تَقَعَ فَلَمَّا تَخَاصَمَا رُفِعَتْ بَعْدُ، فَنُزِّلَ الشُّرُوعُ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِي ارْتَفَعَ عِلْمُ تَعْيِينِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَهَلْ أُعْلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهَا؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهُ أُعْلِمَ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ وَاهِبٍ الْمُغَافِرِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ فَقَالَتْ: لَا، لَوْ عَلِمَهَا لَمَا أَقَامَ النَّاسُ غَيْرَهَا اهـ.
وَهَذَا قَالَتْهُ احْتِمَالًا وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِذَلِكَ أَيْضًا فَيَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتَنْبَطَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ، فِي الْحَلَبِيَّاتِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ اسْتِحْبَابَ كِتْمَانِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِمَنْ رَآهَا ; قَالَ: وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبَرْ بِهَا، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِيمَا قُدِّرَ لَهُ فَيُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ ذَلِكَ عَنِ الْحَاوِي قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَالْكَرَامَةُ يَنْبَغِي كِتْمَانُهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الطَّرِيقِ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَلَا يَأْمَنُ السَّلْبَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنْ لَا يَأْمَنَ الرِّيَاءَ، وَمِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ فَلَا يَتَشَاغَلُ عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَذِكْرِهَا لِلنَّاسِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْحَسَدَ فَيُوقِعُ غَيْرَهُ فِي الْمَحْذُورِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ عليه السلام:{يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّاسِعَةِ تَاسِعَ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَتَكُونَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَاسِعَ لَيْلَةٍ تَبْقَى مِنَ الشَّهْرِ فَتَكُونَ لَيْلَةَ إِحْدَى
أَوِ اثْنَيْنِ بِحَسَبِ تَمَامِ الشَّهْرِ وَنُقْصَانِهِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: الْتَمِسُوهَا فِي التِّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ أَيْ: فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
2024 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابن عيينة، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فِي رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي يَعْفُورَ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ نِسْطَاسٍ وَهُوَ أَبُو يَعْفُورَ الْمَذْكُورُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَلَهُمْ أَبُو يَعْفُورَ آخَرُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ اسْمُهُ وَقْدَانُ.
قَوْلُهُ: (إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أَيِ: الْأَخِيرُ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (شَدَّ مِئْزَرَهُ) أَيِ: اعْتَزَالَ النِّسَاءَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
…
عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِدَّ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا يُقَالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الْأَمْرِ مِئْزَرِي، أَيْ: تَشَمَّرْتُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّشْمِيرُ وَالِاعْتِزَالُ مَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، كمن يَقُولُ: طَوِيلُ النِّجَادِ، لِطَوِيلِ الْقَامَةِ، وَهُوَ طَوِيلُ النِّجَادِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ الْمُرَادُ شَدَّ مِئْزَرَهُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَحُلَّهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَشَمَّرَ لِلْعِبَادَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: شَدَّ مِئْزَرَهُ وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ فَعَطَفَهُ بِالْوَاوِ فَيَتَقَوَّى الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) أَيْ: سَهِرَهُ، فَأَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ وَأَحْيَا نَفْسَهُ بِسَهَرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّيْلِ اتِّسَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ إِذَا حَيِيَ بِالْيَقِظَةِ أَحْيَا لَيْلَهُ بِحَيَاتِهِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا أَيْ: لَا تَنَامُوا فَتَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فَتَكُونَ بُيُوتُكُمْ كَالْقُبُورِ.
قَوْلُهُ: (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ اعْتِزَالَهُ النِّسَاءَ كَانَ بِالِاعْتِكَافِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْبَيْتِ، فَلَوْ كَانَ مُعْتَكِفًا لَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ أَحَدٌ مِنْهُنَّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوقِظَهُنَّ مِنْ مَوْضِعِهِ وَأَنْ يُوقِظَهُنَّ عِنْدَمَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ لِحَاجَتِهِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ فِي آخِرِ بَابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ هُبَيْرَةُ مَعَ الْمُخْتَارِ يُجْهِزُ عَلَى الْقَتْلَى، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَلَمْ أُخْرِجْ حَدِيثَ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ لِهَذَا، وَلَمْ أُخْرِجْ حَدِيثَ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لِأَنَّ عَامَّةَ حَدِيثِهِ مُضْطَرِبٌ انْتَهَى. وَأَرَادَ بِحَدِيثِ هُبَيْرَةَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ مَرْيَمَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ بِوَزْنِ عَظِيمٍ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي هُبَيْرَةَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ الْمُخْتَارَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ - لَمَّا غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَدَعَا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِمَّنْ كَانَ يُوَالِي أَهْلَ الْبَيْتِ، فَقَتَلَ الْمُخْتَارُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا مِمَّنِ اتُّهِمَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ خَلَائِقَ كَثِيرَةً، وَكَأَنَّ مَنْ وَثَّقَ هُبَيْرَةَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ عِنْدَهُ قَدْحًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا؛ وَلِذَلِكَ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَهُ، وَمِمَّنْ وَثَّقَ هُبَيْرَةَ
(1)
. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُجْهِزُ وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَجِيمٍ وَزَايٍ: يُكْمِلُ الْقَتْلَ. وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهُوَ كُوفِيٌّ نَخَعِيٌّ قَدَّمَ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَلَيْهِ الْحَسَنَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ صَالِحٌ، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَلَا يُقَاسُ بِالْأَعْمَشِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَتَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَلِذَلِكَ اسْتَغْرَبَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَصَحَّحَ حَدِيثَهُ لِشَوَاهِدِهِ عَلَى عَادَتِهِ، وَتَجَنَّبَ حَدِيثَ عَلِيٍّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَاسْتَغْنَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ بِمَا أَخْرَجَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَلَى هَذَا فَمَحَلُّ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ فِي هَذَا الْبَابِ لَا قَبْلَهُ وَكَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ النُّسَّاخِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحِرْصُ عَلَى مُدَاوَمَةِ الْقِيَامِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ إِشَارَةً إِلَى الْحَثِّ عَلَى تَجْوِيدِ الْخَاتِمَةِ، خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِخَيْرٍ آمِينَ.
(1)
بياض في غالب النسخ التي اعتمدت في طبعة بولاق
33 - كِتَاب الِاعْتِكَاف
قَوْلُهُ: (أَبْوَابُ الِاعْتِكَافِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ إِلَّا النَّسَفِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: كِتَابُ وَثَبَتَت لَهُ الْبَسْمَلَةُ مُقَدَّمَةً، وَلِلْمُسْتَمْلِي مُؤَخَّرَةً. وَالِاعْتِكَافُ لُغَةً: لُزُومُ الشَّيْءِ وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَشَرْعًا: الْمَقَامُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعًا إِلَّا عَلَى مَنْ نَذَرَهُ، وَكَذَا مَنْ شَرَعَ فِيهِ فَقَطَعَهُ عَامِدًا عِنْدَ قَوْمٍ. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَانْفَرَدَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لَهُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - بَاب الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
2025 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ.
2026 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ"
2027 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا) أَيْ: مَشْرُوطِيَّةُ الْمَسْجِدِ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الْآيَةَ) وَوَجْهُ
الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَخْتَصَّ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَاجِدِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيهَا. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: كَانُوا إِذَا اعْتَكَفُوا، فَخَرَجَ رَجُلٌ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَ امْرَأَتَهُ جَامَعَهَا إِنْ شَاءَ فَنَزَلَتْ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوطِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ الْمَالِكِيَّ فَأَجَازَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ قُدِّمَ، وَفِي وَجْهٍ لِأَصْحَابِهِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ، وَخَصَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ، وَأَمَّا النَّفْلُ فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِهِ مِنْ كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ فَاسْتَحَبَّ لَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَشَرَطَهُ مَالِكٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ بِالْجُمُعَةِ، وَيَجِبُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَخَصَّهُ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَالزُّهْرِيِّ بِالْجَامِعِ مُطْلَقًا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَخَصَّهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَعَطَاءٌ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ الصِّيَامَ قَالَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ مَعَ شَرْطِ الصِّيَامِ فِي دُونِ الْيَوْمِ.
حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ، وَعَنْ مَالِكٍ يُشْتَرَطُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْهُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الصَّوْمَ قَالُوا: أَقَلُّهُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ لُبْثٍ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقُعُودُ، وَقِيلَ: يَكْفِي الْمُرُورُ مَعَ النِّيَّةِ كَوُقُوفِ عَرَفَةَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَعْلَى بنِ أُمِّيَّةَ الصَّحَابِيِّ: إِنِّي لَأَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ السَّاعَةَ وَمَا أَمْكُثُ إِلَّا لِأَعْتَكِفَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى فَسَادِهِ بِالْجِمَاعِ حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: مَنْ جَامَعَ فِيهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ: فَفِي الْمُبَاشَرَةِ أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا إِنْ أَنْزَلَ بَطَلَ وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ: قَالَ نَافِعٌ: وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِيهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ له فراشه وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَزَادَ: حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُ الْمَسْجِدِ لَهُ، وَمِنَ الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ وَلَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ: فَكَّرْتُ فِي الِاعْتِكَافِ وَتَرْكِ الصَّحَابَةِ لَهُ مَعَ شِدَّةِ اتِّبَاعِهِمْ لِلْأَثَرِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُ كَالْوِصَالِ، وَأَرَاهُمْ تَرَكُوهُ لِشِدَّتِهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ اعْتَكَفَ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ صِفَةً مَخْصُوصَةً، وَإِلَّا فَقَدْ حَكَيْنَاهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ كَلَامِ مَالِكٍ أَخَذَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ جَائِزٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ: لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّهُ مَسْنُونٌ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) زَادَ مَعْمَرٌ فِيهِ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالَفَهُ اللَّيْثُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْصُولًا وَعَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
2 - بَاب الْحَائِضِ تُرَجِّلُ رَأْسَ الْمُعْتَكِفِ
2028 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَائِضِ تُرَجِّلُ رَأْسَ الْمُعْتَكِفِ) أَيْ: تَمْشُطُهُ وَتَدْهُنُهُ.
قَوْلُهُ: (يُصْغِي إِلَيَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُمِيلُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُجَاوِرٌ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ: كَانَ يَأْتِينِي وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فَيَتَّكِئُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وَسَائِرُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ وَالِاعْتِكَافَ وَاحِدٌ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّنَظُّفِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْغَسْلِ وَالْحَلْقِ وَالتَّزَيُّنِ إِلْحَاقًا بِالتَّرَجُّلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِيهِ إِلَّا مَا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَنْ مَالِكٍ تُكْرَهُ فِيهِ الصَّنَائِعُ وَالْحِرَفُ حَتَّى طَلَبُ الْعِلْمِ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِخْدَامُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِرِضَاهَا، وَفِي إِخْرَاجِهِ رَأْسَهُ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ مِنْ مَكَانٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُخْرِجَ رِجْلَيْهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِمَا.
3 - بَاب لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ
2029 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَدْخُلُ) أَيِ: الْمُعْتَكِفُ (الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ) كَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ.
[الحديث 2029 - أطرافه في: 2033، 2034، 2041، 2045]
قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ (وَعَمْرَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَرَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَحْدَهُ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَابَعَ مَالِكًا، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا أُوَيْسٍ رَوَاهُ كَذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَنَّ الْبَاقِينَ اخْتَصَرُوا مِنْهُ ذِكْرَ عَمْرَةَ، وَأَنَّ ذِكْرَ عَمْرَةَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ فَوَافَقَ اللَّيْثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ) زَادَ مُسْلِمٌ: إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَفَسَّرَهَا الزُّهْرِيُّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِثْنَائِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْحَاجَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَوْ خَرَجَ لَهُمَا فَتَوَضَّأَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْطُلْ. وَيُلْتَحَقُ بِهِمَا الْقَيْءُ وَالْفَصْدُ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَقُولُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَوْلُهَا: لَا يَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَمَا عَدَاهُ مِمَّنْ دُونَهَا، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَالنَّخَعِيَّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِنْ شَهِدَ الْمُعْتَكِفُ جِنَازَةً أَوْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْجُمُعَةِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ إِنْ شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ اعْتِكَافِهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
4 - بَاب غَسْلِ الْمُعْتَكِفِ
2030 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ.
2031 -
وكان يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ غُسْلِ الْمُعْتَكِفِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
قَوْلُهُ: فيه (فَأَغْسِلُهُ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فَأَغْسِلُهُ بِخِطْمِيٍّ
5 - بَاب الِاعْتِكَافِ لَيْلًا
2032 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
[الحديث 2032 - أطرافه في: 2043، 3144، 4320، 6697]
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا) أَيْ: بِغَيْرِ نَهَارٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) وَهُوَ الْقَطَّانُ، كَذَا رَوَاهُ مُسَدَّدٌ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ الْمُقَدَّمِيُّ وَغَيْرُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَخَالَفَهُمْ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَحْيَى فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ لَكِنَّهُ فِي الْمُسْنَدِ كَمَا قَالَ مُسَدَّدٌ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ وَعَلَى أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَفِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (إنَّ عُمَرَ سَأَلَ) لَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ السُّؤَالِ، وَسَيَأْتِي فِي النَّذْرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْجِعْرَانَةِ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ حُنَيْنٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اعْتِكَافَ عُمَرَ كَانَ قَبْلَ الْمَنْعِ مِنَ الصِّيَامِ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ) زَادَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَلَمَّا أَسْلَمْتُ سَأَلْتُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَذَرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ نَذَرَ عُمَرُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الشِّرْكِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، فَلَوْ كَانَ شَرْطًا لِأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَوْمًا بَدَلَ لَيْلَةٍ فَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَمَنْ أَطْلَقَ لَيْلَةً أَرَادَ بِيَوْمِهَا، وَمَنْ أَطْلَقَ يَوْمًا أَرَادَ بِلَيْلَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ صَرِيحًا، لَكِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ زَادَ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: اعْتَكِفْ وَصُمْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى يَوْمًا شَاذَّةٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى نَذْرِهِ شَيْئًا وَأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا صَوْمَ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ
حَدٌّ مُعَيَّنٌ.
قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) زَادَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَبْوَابٍ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ إِذَا اعْتَكَفَ صَوْمًا وَتَرْجَمَةُ هَذَا الْبَابِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ إِذَا سَاغَ لَيْلًا بِغَيْرِ نَهَارٍ اسْتَلْزَمَ صِحَّتَهُ بِغَيْرِ صِيَامٍ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَبِاشْتِرَاطِ الصِّيَامِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَاحْتَجَّ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَكِفْ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّهُ اعْتَكَفَ فِي شَوَّالٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الِاعْتِكَافَ أَثَرَ الصَّوْمِ فَقَالَ:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَلَازُمِهِمَا، وَإِلَّا لَكَانَ لَا صَوْمَ إِلَّا بِاعْتِكَافٍ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي كِتَابِ النُّذُورِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ فِي أَوَّلِ الِاعْتِكَافِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُبْهَمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب اعْتِكَافِ النِّسَاءِ
2033 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ. فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا فَضَرَبَتْ خِبَاءً. فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ بنت جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الْأَخْبِيَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ؟ فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَرَاهَتَهُ لَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ، الَّذِي تُصَلَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِكَافِ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَرَاهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْلَا أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ زَادَ فِي الْحَدِيثِ - أَيْ: حَدِيثِ الْبَابِ - أَنَّهُنَّ اسْتَأْذَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ لَقَطَعْتَ بِأَنَّ اعْتِكَافَ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. انْتَهَى. وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ أَنَّ لَهَا الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ زَوْجِهَا وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَنَسَبَهُ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ الِاعْتِكَافِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً) أَيْ: بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَقَوْلُهُ: فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْآتِيَةِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ فِي شَوَّالٍ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَبْدَأَ الِاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ
عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَذْكُورَةِ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ: فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً زَادَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ: لِتَعْتَكِفَ مَعَهُ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لَكِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ حَفْصَةُ فَأَذِنَ لَهَا وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: وَسَمِعَتْ بِهَا زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ: فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ضَرَبَتْ مَعَهُنَّ وَكَانَتِ امْرَأَةً غَيُورًا وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ أَنَّ زَيْنَبَ اسْتَأْذَنَتْ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ أَحَدَ مَا بَعَثَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْآتِي.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الْأَخْبِيَةَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ إِذَا أَخْبِيَةٌ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ يَعْنِي: قُبَّةً لَهُ وَثَلَاثًا لِلثَّلَاثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ لِيَعْتَكِفَ فِيهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ وَهَذَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْأَزْوَاجِ بِذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْأَزْوَاجُ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ فَقَطْ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَرْبَعَ قِبَابٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ إِذَا هُوَ بِأَرْبَعَةِ أَبْنِيَةٍ، قَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ.
قَوْلُهُ: (آلْبِرَّ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَمْدُودَةٍ وَبِغَيْرِ مَدٍّ، وَآلْبِرَّ بِالنَّصْبِ، وَقَوْلُهُ: تُرَوْنَ بِهِنَّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: تَظُنُّونَ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ أَيْ: تَظُنُّونَ، وَالْقَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ قَالَ الْأَعْشَى:
أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدَ غَدِ
…
فَمَتَى تَقُولُ الدَّارَ تَجْمَعُنَا
أَيْ: تَظُنُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: آلْبِرَّ تَقُولُونَ يُرِدْنَ بِهَذَا وَالْخِطَابُ لِلْحَاضِرِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا، آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا، فَنُزِعَتْ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَآلْبِرُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعٌ، وَقَوْلُهُ: فَلَا أَرَاهَا زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الصَّوَابَ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ أَرَاهَا قَالَ: لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ بِالنَّهْيِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ أَيْ: نُقِضَ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَشِيَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَاهَاةَ وَالتَّنَافُسَ النَّاشِئَ عَنِ الْغِيرَةِ حِرْصًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ خَاصَّةً فَيَخْرُجُ الِاعْتِكَافُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، أَوْ لَمَّا أَذِنَ لِعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ أَوَّلًا كَانَ ذَلِكَ خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ تَوَارُدِ بَقِيَّةِ النِّسْوَةِ عَلَى ذَلِكَ فَيَضِيقُ الْمَسْجِدُ عَلَى الْمُصَلِّينَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ النِّسْوَةِ عِنْدَهُ يُصَيِّرُهُ كَالْجَالِسِ فِي بَيْتِهِ، وَرُبَّمَا شَغَلْنَهُ عَنِ التَّخَلِّي لِمَا قَصَدَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَيَفُوتُ مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ.
قَوْلُهُ: (فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ: فَرَجَعَ فَلَمَّا أَنِ اعْتَكَفَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: آخِرَ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ انْتِهَاءُ اعْتِكَافِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ بِغَيْرِ صَوْمٍ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ شَوَّالٍ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَصَوْمُهُ حَرَامٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي اعْتِكَافِهِ فِي شَوَّالٍ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُعْتَادَةَ إِذَا فَاتَتْ تُقْضَى اسْتِحْبَابًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الْعَمَلِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَبْطَلَهُ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَعْتَكِفُ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ زَوْجَهَا وَأَنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَهُ أَنَّ يَرْجِعَ فَيَمْنَعَهَا.
وَعَنْ أَهْلِ الرَّأْي إِذَا أَذِنَ لَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ مَنَعَهَا أَثِمَ بِذَلِكَ وَامْتَنَعَتْ، وَعَنْ مَالِكٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الْأَخْبِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَعْتَكِفْنَ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْخُرُوجِ مِنَ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ سَائِرُ التَّطَوُّعَاتِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِاللُّزُومِ، وَفِيهِ أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَطَائِفَةٌ: يَدْخُلُ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَخَلَّى بِنَفْسِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُشْكِلُ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلِ الْمُعْتَكَفَ وَلَا شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ وَإِنَّمَا هَمَّ بِهِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ فَتَرَكَهُ، فَعَلَى هَذَا فَاللَّازِمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ فَيَدْخُلَ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَرَعَ فَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ شُرِعَ لَهُنَّ الِاحْتِجَابُ فِي الْبُيُوتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ شَرْطًا مَا وَقَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ وَلَاكْتُفِيَ لَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ بُيُوتِهِنَّ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ: فِي قَوْلِهِ: آلْبِرَّ تُرِدْنَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِبِرٍّ لَهُنَّ، مَا قَالَهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَفِيهِ شُؤْمُ الْغِيرَةِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الْحَسَدِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِهِ، وَفِيهِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَأَنَّ مَنْ خَشِيَ عَلَى عَمَلِهِ الرِّيَاءَ جَازَ لَهُ تَرْكُهُ وَقَطْعُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَجِبُ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا قَضَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ نِسَاءَهُ اعْتَكَفْنَ مَعَهُ فِي شَوَّالٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اعْتَكَفَتْ فِي الْمَسْجِدِ اسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَجْعَلَ لَهَا مَا يَسْتُرُهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَرْتَبَةِ عَائِشَةَ فِي كَوْنِ حَفْصَةَ لَمْ تَسْتَأْذِنْ إِلَّا بِوَاسِطَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ ذَلِكَ كَوْنَهُ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
7 - بَاب الْأَخْبِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ
2034 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ إِذَا أَخْبِيَةٌ: خِبَاءُ عَائِشَةَ، وَخِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ. فَقَالَ: أَلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ؟ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَخْبِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ) ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَاضِيَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: عَنْ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّآتِ كُلِّهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مُرْسَلًا أَيْضًا،
وَجَزَمَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ مَوْصُولًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى مُرْسَلًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَ مَالِكًا عَلَى إِرْسَالِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَرَوَاهُ إِلْيَاسُ، عَنْ يَحْيَى مَوْصُولًا; وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: تَابَعَ مَالِكًا، أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا، فَحَصَلْنَا عَلَى جَمَاعَةٍ وَصَلُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
8 - هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ؟
2035 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهما أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ ابن آدم مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا.
[الحديث 2035 - أطرافه في: 2038، 2039، 3101، 3281، 6219، 7171]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ) أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ لِاحْتِمَالِ الْقَضِيَّةِ مَا تَرْجَمَ لَهُ، لَكِنَّ تَقْيِيدَهُ ذَلِكَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخِلَافُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَنْ بَتِّ الْحُكْمِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاشْتِغَالِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ) عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ وَهِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مُصَغَّرًا، ابْنِ أَخْطَبَ، كَانَ أَبُوهَا رَئِيسَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ تَكَنَّى أُمَّ يَحْيَى، وَسَيَأْتِي شَرْحُ تَزْوِيجِهَا فِي الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي تَصْرِيحِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِأَنَّهَا حَدَّثَتْهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ أَوْ نَحْوَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حِينَ سَمِعَ مِنْهَا صَغِيرًا، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرُّوَاةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي وَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاعْتَمَدَ الْمُصَنِّفُ الطَّرِيقَ الْمَوْصُولَةَ وَحَمَلَ الطَّرِيقَ الْمُرْسَلَةَ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَ عَلِيٍّ عَنْ صَفِيَّةَ فَلَمْ يَجْعَلْهَا عِلَّةً لِلْمَوْصُولِ كَمَا صَنَعَ فِي طَرِيقِ مَالِكٍ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ) وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْآتِيَةِ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ فَرُحْنَ، وَقَالَ لِصَفِيَّةَ: لَا تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اخْتِصَاصَ صَفِيَّةَ بِذَلِكَ لِكَوْنِ مَجِيئِهَا تَأَخَّرَ عَنْ رُفْقَتِهَا، فَأَمَرَهَا بِتَأْخِيرِ التَّوَجُّهِ لِيَحْصُلَ لَهَا التَّسَاوِي فِي مُدَّةِ جُلُوسِهِنَّ عِنْدَهُ، أَوْ أَنَّ بُيُوتَ رُفْقَتِهَا كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْ مَنْزِلِهَا فَخَشِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، أَوْ كَانَ مَشْغُولًا فَأَمَرَهَا بِالتَّأَخُّرِ لِيَفْرُغَ مِنْ شُغْلِهِ وَيُشَيِّعَهَا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ
طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاؤُهُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ: أَقْلِبُكِ إِلَى بَيْتكِ. فَذَهَبَ مَعَهَا حَتَّى أَدْخَلَهَا بَيْتَهَا وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَيِ: الدَّارِ الَّتِي صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأَنَّ أُسَامَةَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَارٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِحَيْثُ تَسْكُنُ فِيهَا صَفِيَّةُ، وَكَانَتْ بُيُوتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَوَالَيْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ تَرْجَمَةِ الْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ: (فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً) زَادَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ سَاعَةً مِنَ الْعِشَاءِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ) أَيْ: تَرُدُّ إِلَى بَيْتِهَا (فَقَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ: يَرُدُّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: الَّذِي عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ وَالْمُرَادُ بِهَذَا بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي لَقِيَهُ الرَّجُلَانِ فِيهِ لِإِتْيَانِ مَكَانِ بَيْتِ صَفِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْعَطَّارِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ زَعَمَ أَنَّهُمَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنَدًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْإِفْرَادِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ إِنَّهُ وَهَمٌ، ثُمَّ قَالَ: يَحْتَمِلُ تَعَدُّدَ الْقِصَّةِ. قُلْتُ: وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ تَبَعًا لِلْآخَرِ، أَوْ خُصَّ أَحَدُهُمَا بِخِطَابِ الْمُشَافَهَةِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ فَيَقُولُ تَارَةً: رَجُلٌ وَتَارَةً: رَجُلَانِ، فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: لَقِيَهُ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ لِقَوْلِهِ رَجُلٌ مَفْهُومٌ، نَعَمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِالْإِفْرَادِ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَانَ تَبَعًا لِلْآخَرِ، فَحَيْثُ أَفْرَدَ ذَكَرَ الْأَصْلَ، وَحَيْثُ ثَنَّى ذَكَرَ الصُّورَةَ.
قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَجَازَا أَيْ: مَضَيَا، يُقَالُ: جَازَ وَأَجَازَ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ جَازَ الْمَوْضِعَ إِذَا سَارَ فِيهِ وَأَجَازَهُ إِذَا قَطَعَهُ وَخَلَّفَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: ثُمَّ نَفَذَا وَهُوَ بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ: خَلَّفَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا أَيْ: فِي الْمَشْيِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: فَلَمَّا رَأَيَاهُ اسْتَحْيَيَا فَرَجَعَا فَأَفَادَ سَبَبَ رُجُوعِهِمَا وَكَأَنَّهُمَا لَوِ اسْتَمَرَّا ذَاهِبَيْنِ إِلَى مَقْصِدِهِمَا مَا رَدَّهُمَا بَلْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمَا تَرَكَا مَقْصِدَهُمَا وَرَجَعَا رَدَّهُمَا.
قَوْلُهُ: (عَلَى رِسْلِكُمَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ: عَلَى هِينَتِكُمَا فِي الْمَشْيِ فَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ تَكْرَهَانِهِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ امْشِيَا عَلَى هِينَتِكُمَا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَعَالَيَا وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ أَيْ: قِفَا، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ التِّينِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ فَقَالَ: تَعَالَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: هَذِهِ صَفِيَّةُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ذَلِكَ، ومِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ الْآتِيَةِ فِي الْخَمْسِ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ: وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا مَا قَالَ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَظُنُّ بِكَ إِلَّا خَيْرًا.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ القدم) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ، وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ ; وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَكَذَا لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، زَادَ عَبْدُ الْأَعْلَى فَقَالَ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ تَظُنَّا ظَنًّا، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي، إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ: مَا أَقُولُ لَكُمَا هَذَا أَنْ تَكُونَا تَظُنَّانِ شَرًّا، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ.
قَوْلُهُ: (ابْنِ آدَمَ) الْمُرَادُ جِنْسُ أَوْلَادِ آدَمَ فَيَدْخُلُ
فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَقَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ وَقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بِلَفْظِ: الْمُذَكَّرِ إِلَّا أَنَّ الْعُرْفَ عَمَّمَهُ فَأَدْخَلَ فِيهِ النِّسَاءَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُسَافِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: سُوءًا أَوْ قَالَ شَيئًا وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ: شَرًّا بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ بَدَلَ سُوءًا، وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْكُمَا شَيْئًا وَالْمُحَصَّلُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى أَنَّهُمَا يَظُنَّانِ بِهِ سُوءًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ صِدْقِ إِيمَانِهِمَا، وَلَكِنْ خَشِيَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَعْصُومَيْنِ، فَقَدْ يُفْضِي بِهِمَا ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ فَبَادَرَ إِلَى إِعْلَامِهِمَا حَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَتَعْلِيمًا لِمَنْ بَعْدَهُمَا إِذَا وَقَعَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمَا الْكُفْرَ إِنْ ظَنَّا بِهِ التُّهْمَةَ فَبَادَرَ إِلَى إِعْلَامِهِمَا نَصِيحَةً لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمَا شَيْئًا يَهْلِكَانِ بِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي أَسْلَفْتُهَا، وَغَفَلَ الْبَزَّارُ فَطَعَنَ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ هَذَا، وَاسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ وَلَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَوْلُهُ: يَبْلُغُ أَوْ يَجْرِي قِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَدَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ كَثْرَةِ إِغْوَائِهِ، وَكَأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ كَالدَّمِ، فَاشْتَرَكَا فِي شِدَّةِ الِاتِّصَالِ وَعَدَمِ الْمُفَارَقَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ اشْتِغَالِ الْمُعْتَكِفِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَشْيِيعِ زَائِرِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ وَالْحَدِيثِ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِبَاحَةُ خَلْوَةِ الْمُعْتَكِفِ بِالزَّوْجَةِ، وَزِيَارَةُ الْمَرْأَةِ لِلْمُعْتَكِفِ، وَبَيَانُ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْإِثْمَ. وَفِيهِ التَّحَرُّزُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُوءِ الظَّنِّ وَالِاحْتِفَاظُ مِنْ كَيَدِ الشَّيْطَانِ وَالِاعْتِذَارُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى إِبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَجْهَ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ خَافِيًا نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِمَظَاهِرِ السُّوءِ وَيَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ يُجَرِّبُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عَظُمَ الْبَلَاءُ بِهَذَا الصِّنْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ إِضَافَةُ بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِنَّ، وَفِيهِ جَوَازُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لَيْلًا، وَفِيهِ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، قَدْ وَقَعَتْ فِي الْحَدِيثِ لِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَهْوِيلِهِ وَلِلْحَيَاءِ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي جَوَازِ تَمَادِي الْمُعْتَكِفِ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَانِ اعْتِكَافِهِ لِحَاجَتِهِ وَأَقَامَ زَمَنًا يَسِيرًا زَائِدًا عَنِ الْحَاجَةِ مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ أَكْثَرَ الْيَوْمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَنْزِلَ صَفِيَّةَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ فَاصِلٌ زَائِدٌ، وَقَدْ حَدَّ بَعْضُهُمُ الْيَسِيرَ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
9 - بَاب الِاعْتِكَافِ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عِشْرِينَ
2036 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ هَارُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ قَالَ نَعَمِ، اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ. قَالَ: فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ، فَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، وَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَلْيَرْجِعْ. فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، قَالَ: فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ، وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطِّينِ وَالْمَاءِ، حَتَّى رَأَيْتُ الطِّينِ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِكَافِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عِشْرِينَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ تَأْوِيلَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنَ اعْتِكَافِهِ صَبِيحَتَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: صَبِيحَتَهَا، الصَّبِيحَةُ الَّتِي قَبْلَهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} فَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ وَهُوَ قَبْلَهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (أُرِيتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَأَيْتُ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: (نَسِيتُهَا) بِفَتْحِ النُّونِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّهَا وَتَثْقِيلِ السِّينِ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَأَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى مَنْ يَقُولُ لَهُ فِي النَّوْمِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا، وَعَلَامَتُهَا كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ نَفْسَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُنْسَى. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْمُخْبِرُ لَهُ بِذَلِكَ.
10 - بَاب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ
2037 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مستحاضة مِنْ أَزْوَاجِهِ فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي.
قَوْلُهُ: (بَابُ اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: (اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مُسْتَحَاضَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَهُنَّ بِهِ تَعَلُّقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَاضَتْ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي عَهْدِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِنَّ، وَيُسْتَدْرَكُ هُنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الزَّوْجَةِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ وَهُوَ الْحَذَّاءُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ: قَالَ: وَحَدَّثَنَا بِهِ خَالِدٌ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ عَاكِفَةً وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَأَفَادَ بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ عَيْنِهَا، وَازْدَادَ بِذَلِكَ عَدَدُ الْمُسْتَحَاضَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
11 - بَاب زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي اعْتِكَافِهِ
2038 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ رضي الله عنهما أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ ح.
وحَدَّثَنَي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ، فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ: لَا تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ، وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَجَازَا، فقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَعَالَيَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي اعْتِكَافِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ صَفِيَّةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، وَالْأُخْرَى طَرِيقُ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ وَهِيَ مُرْسَلَةٌ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَأَعَادَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مُسَافِرٍ فِي فَرْضِ الْخَمْسِ عَلَى لَفْظِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فِي أَنْفُسِكُمَا) هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فِي قُلُوبِكُمَا وَإِضَافَةُ لَفْظِ الْجَمْعِ إِلَى الْمُثَنَّى كَثِيرٌ مَسْمُوعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا.
12 - بَاب هَلْ يَدْرَأُ الْمُعْتَكِفُ عَنْ نَفْسِهِ؟
2039 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ الزهري، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ رضي الله عنهما أَنَّ صَفِيَّةَ أَخْبَرَتْهُ ح.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُخْبِرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ رضي الله عنها أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا. فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ فَقَالَ: تَعَالَ، هِيَ صَفِيَّةُ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: هَذِهِ صَفِيَّةُ - فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، قُلْتُ لِسُفْيَانَ: أَتَتْهُ لَيْلًا؟ قَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا لَيْلًا؟.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: هَلْ يَدْرَأُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا رَاءٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ أَيْ: يَدْفَعُ، وَقَوْلُهُ:(عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ: بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الدَّفْعِ بِالْقَوْلِ فَيُلْحَقُ بِهِ الْفِعْلُ، وَلَيْسَ الْمُعْتَكِفُ بِأَشَدَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُصَلِّي. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ صَفِيَّةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَحَدُهُمَا طَرِيقُ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ. وَالْأُخْرَى طَرِيقُ سُفْيَانَ وَهِيَ مُرْسَلَةٌ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ سُفْيَانَ، وَأَعَادَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ فِي الْأَدَبِ عَلَى لَفْظِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِسُفْيَانَ) وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، الْقَائِلُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ. وَقَوْلُهُ:(وَهَلْ هُوَ إِلَّا لَيْلًا) أَيْ: وَهَلْ وَقَعَ الْإِتْيَانُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ؟ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ إِمْكَانِهِ بَلْ نَفْيَ وُقُوعِهِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: أَنَّ صَفِيَّةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ.
13 - بَاب مَنْ خَرَجَ مِنْ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ
2040 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ خَالِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ح.
قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَبِيدٍ حَدَّثَنَا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُعْتَكَفِهِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُعْتَكَفِهِ قال: وَهَاجَتْ السَّمَاءُ فَمُطِرْنَا، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَقَدْ هَاجَتْ السَّمَاءُ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَرِيشًا فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ اعْتِكَافَ اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ، وَسَبِيلُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيَخْرُجَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ أَرَادَ اعْتِكَافَ الْأَيَّامِ خَاصَّةً فَيَدْخُلُ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ أَرَادَ اعْتِكَافَ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي مَعًا فَيَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَيْضًا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ عِشْرِينَ نَقْلنَا مَتَاعَنَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمُ اعْتَكَفُوا اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ، وَحَمَلَهُ الْمُهَلَّبُ عَلَى نَقْلِ أَثْقَالِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ آلَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ، إِذْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ خَرَجُوا خِفَافًا. وَلِذَلِكَ قَالَ: نَقَلْنَا مَتَاعَنَا وَلَمْ يَقُلْ خَرَجْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الطَّرِيقِينَ؛ فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَالْحَدِيثَ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ قَوْلُهُ: ابْنُ بِشْرٍ وَذَكَرَهُ النَّسَفِيُّ وَحْدَهُ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) زَادَ الْحُمَيْدِيُّ، ابْنِ أَبِي مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهُوَ الْقَائِلُ أَيْضًا وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَبِيدٍ حَدَّثَنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِسُفْيَانَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاخٍ حَدَّثُوهُ بِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَظُنُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا مَقْرُونًا.
14 - بَاب الِاعْتِكَافِ فِي شَوَّالٍ
2041 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ، فإِذَا صَلَّى
الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً، وَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ. فَقَالَ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا، فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي شَوَّالٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَلَّ بِمُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدٍ.
15 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ - إِذَا اعْتَكَفَ - صوما
2042 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْفِ نَذْرَكَ. فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ إِذَا اعْتَكَفَ صَوْمًا) ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ عُمَرَ فِي نَذْرِهِ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا.
16 - بَاب إِذَا نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ أَسْلَمَ
2043 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - قَالَ: أُرَاهُ قَالَ لَيْلَةً - فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْفِ بِنَذْرِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ أَسْلَمَ) أَيْ: هَلْ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ عُمَرَ أَيْضًا وَتَرْجَمَ لَهُ فِي أَبْوَابِ النَّذْرِ: إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ الْيَمِينَ بِالنَّذْرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعْلِيقِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ وَالْيَمِينَ يَنْعَقِدُ فِي الْكُفْرِ حَتَّى يَجِبَ الْوَفَاءُ بِهِمَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ أُرَاهُ لَيْلَةَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: أَظُنُّهُ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ عُبَيْدُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَوِ الْبُخَارِيُّ نَفْسُهُ، فَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِغَيْرِ شَكٍّ.
17 - بَاب الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ
2044 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ
عِشْرِينَ يَوْمًا.
[الحديث 2044 - طرفه في: 4998]
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ أَفْضَلَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ، وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى أَبِي صَالِحٍ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الِاعْتِكَافِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ اعْتَكَفَ إِلَّا أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّ تَرْكَهُمْ لِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) قِيلَ: السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ إِذَا بَلَغُوا أَقْصَى الْعَمَلِ لِيَلْقَوُا اللَّهَ عَلَى خَيْرِ أَحْوَالِهِمْ، وَقِيلَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ، فَلِذَلِكَ اعْتَكَفَ قَدْرَ مَا كَانَ يَعْتَكِفُ مَرَّتَيْنِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ مُتَّصِلًا بِهِ: وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَاعْتَكَفَ بَدَلَهُ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ اعْتَكَفَ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ عِشْرِينَ لِيَتَحَقَّقَ قَضَاءُ الْعَشْرِ فِي رَمَضَانَ اهـ.
وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا اعْتَكَفَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الْعَامَ الَّذِي قَبْلَهُ مُسَافِرًا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَسَافَرَ عَامًا فَلَمْ يَعْتَكِفْ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ وَيَحْتَمِلُ تَعَدُّدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِتَعَدُّدِ السَّبَبِ فَيَكُونُ مَرَّةً بِسَبَبِ تَرْكِ الِاعْتِكَافِ لِعُذْرِ السَّفَرِ وَمَرَّةً بِسَبَبِ عَرْضِ الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ. وَأَمَّا مُطَابِقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ بِإِطْلَاقِ الْعِشْرِينَ أَنَّهَا مُتَوَالِيَةٌ فَيَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ الْعَشْرُ الْأَوْسَطُ أَوْ أَنَّهُ حَمَلَ الْمُطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى.
18 - بَاب مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ
2045 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بنت جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ، فَأبصُرَ الْأَبْنِيَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ. فَرَجَعَ. فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، بَلْ تَرَكَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ فِيهِ.
19 - بَاب الْمُعْتَكِفِ يُدْخِلُ رَأْسَهُ الْبَيْتَ لِلْغُسْلِ
2046 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: الْمُعْتَكِفُ يُدْخِلُ رَأْسَهُ الْبَيْتَ لِلْغُسْلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الِاعْتِكَافِ.
(تَنْبِيهٌ): الرَّأْسُ مُذَكَّرٌ اتِّفَاقًا، وَوَهَمَ مَنْ أَنَّثَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ التَّرَاوِيحِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالِاعْتِكَافِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا حَدِيثَانِ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ مِنْهَا تِسْعَةُ أَحَادِيثَ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اعْتِكَافِ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَثَرُ عُمَرَ فِي جَمْعِ النَّاسِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي التَّرَاوِيحِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَأَثَرُ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ، وَأَثَرُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
34 - كِتَاب الْبُيُوع
وَقَوْلُ اللَّهِ - تعالى - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلُهُ {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}
< ToRem> باب ما جاء في قول الله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْبُيُوعِ وَقَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّسَفِيُّ وَلَا أَبُو ذَرٍّ الْآيَتَيْنِ وَالْبُيُوعُ جَمْعُ بَيْعٍ، وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.
وَالْبَيْعُ نَقْلُ مِلْكٍ إِلَى الْغَيْرِ بِثَمَنٍ، وَالشِّرَاءُ قَبُولُهُ، وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ غَالِبًا، وَصَاحِبُهُ قَدْ لَا يَبْذُلُهُ لَهُ، فَفِي تَشْرِيعِ الْبَيْعِ وَسِيلَةٌ إِلَى بُلُوغِ الْغَرَضِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَالْآيَةُ الْأُولَى أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَفْظُ عُمُومٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيْعٍ فَيَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْجَمِيعِ، لَكِنْ قَدْ مَنَعَ الشَّارِعُ بُيُوعًا أُخْرَى وَحَرَّمَهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِبَاحَةِ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يَدُلُّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ. وَقِيلَ: عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَقِيلَ: مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْبَيْعِ لِلْعَهْدِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَبَاحَ الشَّرْعُ بُيُوعًا وَحَرَّمَ بُيُوعًا فَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أَيِ: الَّذِي أَحَلَّهُ الشَّرْعُ مِنْ قَبْلُ. وَمَبَاحِثُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ تُسَمَّى بَيْعًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَقَعُ بِهَا الْحِنْثُ لِبِنَاءِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ التِّجَارَةِ فِي الْبُيُوعِ الْحَالَّةِ وَأَوَّلُهَا فِي الْبُيُوعِ الْمُؤَجَّلَةِ.
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
* وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وَقَوْلِهِ {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
2047 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ
ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ.
2048 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعٍ قَالَ فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ قَالَ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَزَوَّجْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَنْ قَالَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
[الحديث 2048 - طرفه في: 3780]
2049 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ فَمَكَثْنَا يَسِيرًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَهْيَمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ مَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ
[الحديث 2049 - أطرافه في 2293، 3781، 3937، 5073، 5148، 5153، 5155، 5167، 6082، 6386]
2050 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الإِسْلَامُ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلنَّسَفِيِّ الْآيَتَيْنِ أَيْ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ بِتَمَامِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْآيَةُ الْأُولَى يُؤْخَذُ مِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْبَيْعِ مِنْ طَرِيقِ عُمُومِ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ التِّجَارَةَ وَأَنْوَاعَ التَّكَسُّبِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَنُكْتَتُهَا مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَنْعِ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ فَلَمْ يُحْظَرْ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ
الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِمَنْ لَهُ كَفَافٌ وَلِمَنْ لَا يُطِيقُ التَّكَسُّبَ، وَعَلَى الْوُجُوبِ لِلْقَادِرِ الَّذِي لَا شَيْءَ عِنْدَهُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى السُّؤَالِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمُعَةِ. وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرَةٌ فِي إِبَاحَةِ التِّجَارَةِ إِلَّا الْأَخِيرَةَ فَهِيَ إِلَى النَّهْيِ عَنْهَا أَقْرَبُ، يَعْنِي قَوْلَهُ:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} إِلَخْ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ التِّجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ مُقَيَّدَةٌ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَمِنْ ثَمَّ أُشِيرَ إِلَى ذَمِّهَا، فَلَوْ خَلَتْ عَنِ الْمُعَارِضِ لَمْ تُذَمَّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَمَّا ذِكْرُ التِّجَارَةِ فِيهَا فَقَدْ أَفْرَدَهُ بِتَرْجَمَةٍ تَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِيهَا تَقْيِيدُ التِّجَارَةِ الْمُبَاحَةِ بِالتَّرَاضِي. وَقَوْلُهُ: أَمْوَالَكُمْ أَيْ: مَالُ كُلِّ إِنْسَانٍ لَا يَصْرِفُهُ فِي مُحَرَّمٍ، أَوِ الْمَعْنَى: لَا يَأْخُذْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ اتِّفَاقًا وَالتَّقْدِيرُ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَتْ بَيْنَكُمْ تِجَارَةٌ وَتَرَاضَيْتُمْ بِهَا فَلَيْسَ بِبَاطِلٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَفَرَّقُ بَيِّعَانِ إِلَّا عَنْ رِضًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَايَعَ رَجُلًا يَقُولُ لَهُ: خَيِّرْنِي. ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَفْتَرِقِ اثْنَانِ - يَعْنِي فِي الْبَيْعِ - إِلَّا عَنْ رِضًا وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْخِيَارِ قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: التِّجَارَةُ رِزْقٌ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ لِمَنْ طَلَبَهَا بِصِدْقِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنِ الْأَعْرَجِ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَطَرِيقُهُ عَنِ الْأَعْرَجِ مُخْتَصَرَةٌ، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَتَمَّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَالصَّفْقُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالسِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا قَافٌ - وَالْمُرَادُ بِهِ التَّبَايُعُ، وَسُمِّيَتِ الْبَيْعَةُ صَفْقَةً لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا عِنْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ ضَرْبَ كَفِّ أَحَدِهِمَا بِكَفِّ الْآخَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْلَاكَ تُضَافُ إِلَى الْأَيْدِي، فَكَأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ اسْتَقَرَّتْ عَلَى مَا صَارَ لَهُ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاطِّلَاعُهُ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) أَيْ: مُقْتَنِعًا بِالْقُوتِ أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْبَةٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (نَمِرَةً) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: كِسَاءً مُلَوَّنًا. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: هِيَ ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: دُرَّاعَةٌ تُلْبَسُ فِيهَا سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ هَذَا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ هُنَاكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
الحديث الثاني حديث عبد الرحمن بن عوف
قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى. . . إِلَخْ فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مُرْسَلٌ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لِي بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ مَوْصُولٌ.
قَوْلُهُ: (آخَى) تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ بَيَانُ وَقْتِ الْمُؤَاخَاةِ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ.
قَوْلُهُ: (سَعْدِ
بْنِ الرَّبِيعِ) سَأَذْكُرُ تَرْجَمَتَهُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ: (نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا) أَيْ: طَلَّقْتُهَا لِأَجْلِكَ، وَحَلَّتْ أَيِ: انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ سَعْدٍ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ أَنْ يَكْفُوا الْمُهَاجِرِينَ الْعَمَلَ وَيُعْطُوهُمْ نِصْفَ الثَّمَرَةِ.
قَوْلُهُ: (قَيْنُقَاعَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا قَافٌ: قَبِيلَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نُسِبَ السُّوقُ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ ضُبِطَ قَيْنِقَاعُ بِكَسْرِ النُّونِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْقَابِسِيِّ وَهُوَ صَوَابٌ أَيْضًا، وَقَدْ حُكِيَ فَتْحُهَا أَيْضًا، صَرْفُ قَيْنُقَاعَ عَلَى إِرَادَةِ الْحَيِّ، وَتَرْكُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَ الْغُدُوَّ) أَيْ: دَاوَمَ الذَّهَابَ إِلَى السُّوقِ لِلتِّجَارَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَذْكُورَةِ. وقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيْدٍ وَعَنْ ثَابِتٍ وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ أَنَسًا حَمَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيَّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَيْضًا وَذَكَرَ أَنَّ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ وَبَيَانُ فَوَائِدِ طُرُقِهِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْوَلِيمَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اشْتِغَالُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِالتِّجَارَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَسْبَ مِنَ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى مِنَ الْكَسْبِ مِنَ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذِكْرِ أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَقْرِيرِهَا فِي الْإِسْلَامِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: فِيهِ (وَكَانَ الْإِسْلَامُ) أَيْ: وَجَاءَ الْإِسْلَامُ، فَكَانَ هُنَا تَامَّةٌ، وَتَأَثَّمُوا أَيْ: طَرَحُوا الْإِثْمَ، وَالْمَعْنَى تَرَكُوا التِّجَارَةَ فِي الْحَجِّ حَذَرًا مِنَ الْإِثْمِ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ مَعْدُودَةٌ مِنَ الشَّاذِّ الَّذِي صَحَّ إِسْنَادُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِقُرْآنٍ.
2 - بَاب الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشتبهَاتٌ
2051 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قال: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه يقول: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح.
وَحَدَّثَنَي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ قال: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ. وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ وَزِيَادَةٍ،
فَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فَأَوْرَدَهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ صَرَّحَ تَارَةً بِالتَّحْدِيثِ لِابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ وَثَانِيًا بِالتَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ أَبِي فَرْوَةَ مِنَ الشَّعْبِيِّ وَبِسَمَاعِ الشَّعْبِيِّ مِنَ النُّعْمَانِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبِسَمَاعِ النُّعْمَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَأَمَّا لَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: حَلَالٌ بَيِّنٌ وَحَرَامٌ بَيِّنٌ وَمُشْتَبِهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَذَكَرَهُ، وَفِي آخِرِهِ: وَلِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَعَاصِيهِ، وَأَمَّا لَفْظُ ابْنِ عَوْنٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِ: إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ - وَأَحْيَانًا يَقُولُ مُشْتَبِهَةٌ - وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا: إِنَّ اللَّهَ حَمَى حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَا حَرَّمَ، وَأَنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ، وَأَنَّهُ مَنْ يُخَالِطِ الرِّيبَةَ يُوشِكْ أَنْ يَجْسُرَ.
وَأَبُو فَرْوَةَ الْمَذْكُورُ هُوَ الْأَكْبَرُ وَاسْمُهُ عُرْوَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، وَلَهُمْ أَبُو فَرْوَةَ الْأَصْغَرُ الْجُهَنِيُّ الْكُوفِيُّ وَاسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْإِيمَانِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ نَفَى سَمَاعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ. . . إِلَخْ) فِيهِ تَقْسِيمُ الْأَحْكَامِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يُنَصَّ عَلَى طَلَبِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يُنَصَّ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ لَا يُنَصَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَالْأَوَّلُ الْحَلَالُ الْبَيِّنُ، وَالثَّانِي الْحَرَامُ الْبَيِّنُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ أَيْ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ وَيَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَالثَّالِثُ مُشْتَبِهٌ لِخَفَائِهِ فَلَا يُدْرَى هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ تَبِعَتِهَا وَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَقَدْ أُجِرَ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذَا الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ حَظْرًا وَإِبَاحَةً، وَالْأَوَّلَانِ قَدْ يُرَدَّانِ جَمِيعًا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ حَيِّزِ الْقَسَمِ الثَّالِثِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الشُّبْهَةُ بَعْدَ هَذَا الْبَابِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مُشْتَبِهَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام: لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَوَارَدَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الْمُخَرِّجِينَ لَهُ عَلَى إِيرَادِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ تَقَعُ فِيهَا كَثِيرًا، وَلَهُ تَعَلُّقٌ أَيْضًا بِالنِّكَاحِ وَبِالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ قَالَهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ مَنْعَ إِطْلَاقِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ، لَكِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُهَا. وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَبَانَ أَيْ: ظَهَرَ تَحْرِيمُهُ. وَقَوْلُهُ: أَوْشَكَ أَيْ: قَرُبَ؛ لِأَنَّ مُتَعَاطِيَ الشُّبُهَاتِ قَدْ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ أَوْ يَقَعْ فِيهِ لِاعْتِيَادِهِ التَّسَاهُلَ.
3 - بَاب تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ الْوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ
2052 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيِّ.
2053 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي، قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي، كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم احْتَجِبِي مِنْهُ يا سودة، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
[الحديث 2053 - أطرافه في: 2218، 2421، 2533، 2745، 4303، 6749، 6765، 6817، 7182]
2054 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي، فَأَجِدُ مَعَهُ عَلَى الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ. قَالَ: لَا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَلِلنَّسَفِيِّ بِضَمَّتَيْنِ مُخَفَّفًا بِغَيْرِ مِيمٍ، وَلِابْنِ عَسَاكِرَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَزِيَادَةِ تَاءٍ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ إِنَّ الشُّبُهَاتِ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْلَمُهَا، أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُعَرِّفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِتُجْتَنَبَ، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَضْبِطُهَا، ثُمَّ أَوْرَدَ أَحَادِيثَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَرَاتِبُ مَا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ مِنْهَا، ثُمَّ ثَنَّى بِبَابٍ فِيهِ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا، ثُمَّ ثَلَّثَ بِبَابٍ فِيهِ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ. وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَهُ التَّحْرِيمُ أَوِ الْإِبَاحَةُ أَوْ يُشَكُّ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ كَالصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ قَبْلَ ذَكَاتِهِ فَإِذَا شَكَّ فِيهَا لَمْ يَزُلْ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
وَالثَّانِي كَالطَّهَارَةِ إِذَا حَصَلَتْ لَا تُرْفَعُ إِلَّا بِيَقِينِ الْحَدَثِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَعَبْدٌ وَشَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ، وَهُمَا عَلَى مِلْكِهِ. وَالثَّالِثُ مَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلُهُ وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِحَدِيثِ التَّمْرَةِ السَّاقِطَةِ فِي الْبَابِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ) هُوَ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الْعُبَّادِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْءٍ فَاتْرُكْهُ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ اجْتَمَعَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَحَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ فَقَالَ
يُونُسُ: مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنَ الْوَرَعِ. فَقَالَ حَسَّانُ: مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْهُ، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ حَسَّانُ: تَرَكْتُ مَا يَرِيبُنِي إِلَى مَا لَا يَرِيبُنِي فَاسْتَرَحْتُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَكَلَّمَ حَسَّانُ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِ، وَالتَّرْكُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَشَدُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ تَحَمُّلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشَاقِّ الْفِعْلِيَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ قَوْلُهُ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (يَرِيبُكَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ يُقَالُ رَابَهُ يَرِيبُهُ بِالْفَتْحِ وَأَرَابَهُ يَرِيبُهُ بِالضَّمِّ رِيبَةً وَهِيَ الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ، وَالْمَعْنَى إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْءٍ فَدَعْهُ، وَتَرْكُ مَا يُشَكُّ فِيهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْوَرَعِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ مَرْفُوعًا: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُلُّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ فَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ. ثُمَّ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمَكْرُوهٌ، فَالْوَاجِبُ اجْتِنَابُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَنْدُوبُ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، وَالْمَكْرُوهُ اجْتِنَابُ الرُّخَصِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَطُّعِ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الرَّضَاعِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ:؟ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَمْرَهُ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ قَوْلِ الْمَرْأَةِ إِنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَيَرْتَكِبَ الْحَرَامَ، فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا احْتِيَاطًا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: بَلْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ مَعَ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ أَخُوهَا لِأَبِيهَا، لَكِنْ لِمَا رَأَى الشَّبَهَ الْبَيِّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ زَمْعَةَ أَمَرَ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ احْتِيَاطًا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ، وَاعْتَرَضَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ، وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُشَبَّهَاتِ: مَا أَشْبَهَتِ الْحَلَالَ مِنْ وَجْهٍ وَالْحَرَامَ مِنْ وَجْهٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ إِلْحَاقَهُ بِزَمْعَةَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَحْتَجِبَ مِنْهُ سَوْدَةُ وَالشَّبَهُ بِعُتْبَةَ يَقْتَضِي أَنْ تَحْتَجِبَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا حَجَبَ سَوْدَةَ مِنْهُ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ أَخِيهَا وَغَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ وَجَبَ ذَلِكَ لِغِلَظِ أَمْرِ الْحِجَابِ فِي حَقِّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوِ اتَّفَقَ مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبِ الِاحْتِجَابُ كَمَا وَقَعَ فِي حَقِّ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ لَهُ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ فَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ الْمَنْعِ وَهُوَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ، وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ.
4 - بَاب مَا يُتَنَزَّهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ
2055 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَكُونَ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا.
وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَجِدُ تَمْرَةً سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي.
[الحديث 2055 - طرفه في: 2431]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُتَنَزَّهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يُجْتَنَبُ (مِنَ الشُّبُهَاتِ). ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ يُكْرَهُ بَدَلَ يُتَنَزَّهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَطَلْحَةُ هُوَ ابْنُ مُطَرِّفٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ فَإِنَّهُ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَقَدْ دَخَلَ الْكُوفَةَ مِرَارًا، وَصَرَّحَ يَحْيَى الْقَطَّانُ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ مَنْصُورٍ، وَسُفْيَانَ كَمَا سَيَأْتِي فِي اللُّقَطَةِ.
قَوْلُهُ: (مَسْقُوطَةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: مُسْقَطَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ، قَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ قَوْلُهُ: مَسْقُوطَةٍ كَلِمَةٌ غَرِيبَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ سَقَطَ لَازِمٌ، وَالْعَرَبُ قَدْ تَذْكُرُ الْفَاعِلَ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ; وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الْخَطَّابِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أَيْ: آتَيَا وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَسْقُوطَةٌ بِمَعْنَى سَاقِطَةٍ كَقَوْلِهِ {حِجَابًا مَسْتُورًا} أَيْ: سَاتِرًا. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الشَّوَاهِدِ: قَوْلُهُ مَسْقُوطَةٍ بِمَعْنَى مُسْقَطَةٍ وَلَا فِعْلَ لَهُ، وَنَظِيرُهُ مَرْقُوقٌ بِمَعْنَى مُرَقٍّ أَيْ: مُسْتَرَقٍّ عَنِ ابْنِ جِنِّي، قَالَ: وَكَمَا جَاءَ مَفْعُولٌ وَلَا فِعْلَ لَهُ جَاءَ فِعْلٌ وَلَا مَفْعُولَ لَهُ، كَقِرَاءَةِ النَّخَعِيِّ:(عُمُوا وَصُمُّوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَلَمْ يَجِئْ مَصْمُومٌ اكْتِفَاءً بِأَصَمَّ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: مَطْرُوحَةٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: بِتَمْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مَسْقُوطَةٍ وَلَا مُسْقَطَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَمَّامٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ فِي اللُّقَطَةِ بِتَمَامِهِ وَلَفْظُهُ: إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا. قُلْتُ: وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْكَرْمَانِيُّ لَفْظَ رِوَايَةِ هَمَّامٍ فَقَالَ: تَمَامُ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَهُوَ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأَكَلْتُهَا. قُلْتُ: وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ الَّذِي رَأَى فِيهِ التَّمْرَةَ وَهُوَ فِرَاشُهُ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَأْكُلْهَا وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْوَرَعِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فَيَعْلَقُ بِثَوْبِهِ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ شَيْءٌ فَيَقَعُ فِي فِرَاشِهِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَكْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. قُلْتُ: وَلَمْ يَنْحَصِرْ وُجُودُ شَيْءٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّمْرُ حُمِلَ إِلَى بَعْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ مِمَّنْ هُوَ فِي بَيْتِهِ وَتَأَخَّرَ تَسْلِيمُ ذَلِكَ لَهُ، أَوْ حُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَقَسَمَهُ فَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: تَضَوَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا أَسْهَرَكَ؟ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً سَاقِطَةً فَأَكَلْتُهَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ تَمْرًا كَانَ عِنْدَنَا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَمَا أَدْرِي أَمِنْ ذَلِكَ كَانَتِ التَّمْرَةُ أَوْ مِنْ تَمْرِ أَهْلِي، فَذَلِكَ أَسْهَرَنِي وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَأَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ لَهُ أَكْلُ التَّمْرَةِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَقْلَقَهُ ذَلِكَ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَ مِثْلَهَا مِمَّا يُدْخِلُ التَّرَدُّدَ تَرَكَهُ احْتِيَاطًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ أَكْلِهِ إِيَّاهَا كَانَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَفِي حَالِ تَرْكِهِ كَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا تَرَكَهَا صلى الله عليه وسلم تَوَرُّعًا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَيْتِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَفِيهِ تَحْرِيمُ قَلِيلِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَحْرِيمُ كَثِيرِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى.
5 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ
2056 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا. حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ: لَا وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ.
2057 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ"
[الحديث 2057_ طرفاه في: 5507، 7398]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الْمُشَبَّهَاتِ بِمِيمٍ وَتَثْقِيلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمُثَنَّاةٍ بَدَلَ التَّثْقِيلِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى مُشْكِلَاتٍ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَطُّعِ فِي الْوَرَعِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْوَرَعُ أَقْسَامٌ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا يُتَنَاوَلُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَوَرَعُ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يُخْشَى أَنْ يَجُرَّ إِلَى الْحَرَامِ، وَوَرَعُ الصَّالِحِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مَوْقِعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ، قَالَ: وَوَرَاءَ ذَلِكَ وَرَعُ الشُّهُودِ وَهُوَ تَرْكُ مَا يُسْقِطُ الشَّهَادَةَ، أَيْ: أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَتْرُوكُ حَرَامًا أَمْ لَا. انْتَهَى. وَغَرَضُ الْمُصَنِّفِ هُنَا بَيَانُ وَرَعِ الْمُوَسْوَسِينَ كَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ كَانَ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ، وَكَمَنَ يَتْرُكُ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَجْهُولٍ لَا يَدْرِي أَمَالُهُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ وَلَيْسَتْ هُنَاكَ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، وَكَمَنَ يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ لِخَبَرٍ وَرَدَ فِيهِ مُتَّفَقٍ عَلَى ضَعْفِهِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَيَكُونُ دَلِيلُ إِبَاحَتِهِ قَوِيًّا وَتَأْوِيلُهُ مُمْتَنِعٌ أَوْ مُسْتَبْعَدٌ. ثم ذكر حديثين: الأول قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ الْمَذْكُورَةِ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، وَسِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ طَرِيقَ سَعِيدٍ مُرْسَلَةٌ وَطَرِيقَ عَبَّادٍ مَوْصُولَةٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمِزِّيُّ لِتَمْيِيزِ ذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ) هُوَ مُحَمَّدٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَلَمَةَ، وَاسْمُ وَالِدِ أَبِي حَفْصَةَ مَيْسَرَةُ وَهُوَ بَصْرِيٌّ نَزَلَ الْجَزِيرَةَ، وَظَنَّ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا هَذَا وَسَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ، وَعِمَارَةَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ إِخْوَةٌ، فَجَزَمَ بِذَلِكَ هُنَا فَوَهَمَ فِيهِ وَهْمًا فَاحِشًا، فَإِنَّ وَالِدَ سَالِمٍ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَهُوَ كُوفِيٌّ، وَوَالِدُ عُمَارَةَ اسْمُهُ نَابِتٌ بِالنُّونِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ أَيْضًا، لَكِنَّ مَيْسَرَةَ مَوْلَى نَابِتٍ عَرَبِيٌّ، وَسَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ مِنْ طَبَقَةٍ أَعْلَى مِنْ طَبَقَةِ الِاثْنَيْنِ.
قَوْلُهُ: (لَا وُضُوءَ. . . إِلَخْ) وَصَلَ أَحْمَدُ أَثَرَ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ طُرُقٍ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي مُسْنَدِ أَبِي الْعَبَّاسِ السِّرَاجِ وَلَفْظُهُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ مَرْفُوعًا بِاللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ، وَمَشَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لَا وُضُوءَ. . . إِلَخْ فَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْمَتْنَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ لِمَا ذَكَرْتُهُ عَنْ مُسْنَدَيْ أَحْمَدَ، وَالسِّرَاجِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ كَثِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا وُضُوءَ الْحَدِيثَ. وَأَقْرَبُ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا مَضَى فِي الصَّوْمِ فِي بَابُ إِذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ قِيلَ: لِهِشَامٍ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: وَبُدٌّ مِنْ قَضَاءٍ؟. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا فَهَذَا أَيْضًا فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ هِشَامًا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ
(1)
بِالسَّنَدِ وَالْمَتْنِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ إِنْسَانٌ لِهِشَامٍ: أَقَضَوْا أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ كَذَلِكَ، وَأَوْرَدْتُهُ
(1)
في هامش طبعة بولاق: هكذا في النسخ
مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَالِيًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ سَمِعْتُ هِشَامًا عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ فَذَكَرْتُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَقَالَ إِنْسَانٌ لِهِشَامٍ أَقَضَوْا أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
(تَنْبِيهٌ) اخْتَصَرَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ هَذَا الْمَتْنَ اخْتِصَارًا مُجْحِفًا، فَإِنَّ لَفْظَهُ يَعُمُّ مَا إِذَا وَقَعَ الشَّكُّ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ مِنْ أَثُبَاتِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِمَنْ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنَ الْمُصَلِّي هُوَ الَّذِي يَقَعُ لَهُ غَالِبًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ النَّوَاقِضِ فَإِنَّهُ لَا يَهْجُمُ عَلَيْهِ إِلَّا نَادِرًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِوُجُودِ الرِّيحِ.
الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الذَّبْحِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ وَالْجَوَابُ عَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِ وَسَائِرُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَصْلٌ فِي تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَأَنَّ أُمُورَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْكَمَالِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
2058 -
حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَتْ مِنْ الشَّامِ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ التِّجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَمْدُوحَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ الْحَلَالِ فَإِنَّهَا قَدْ تُذَمُّ إِذَا قُدِّمَتْ عَلَى مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ انْفِضَاضِ النَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
7 - باب مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ
2059 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ.
[الحديث 2059 - طرفه: في 2083]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ تَرْكِ التَّحَرِّي فِي الْمَكَاسِبِ.
قَوْلُهُ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِسَنَدِهِ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ وَهَذَا أَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَهَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَظَنَّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَتَرْجَمَ بِهِ لِلنَّسَائِيِّ مَعَ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ النَّسَائِيِّ إِلَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ لَا عَنْ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ عَنْهُ أَظُنُّهُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَا ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ؛ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ رِوَايَةً عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا تَحْذِيرًا مِنْ
فِتْنَةِ الْمَالِ، وَهُوَ مِنْ بَعْضِ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ لِإِخْبَارِهِ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ. وَوَجْهُ الذَّمِّ مِنْ جِهَةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِلَّا فَأَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْحَلَالِ لَيْسَ مَذْمُومًا مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - بَاب التِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ وغيره
وَقَوْلِهِ عز وجل {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ.
2060، 2061 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ، فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ح.
وَحَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا الْمِنْهَالِ يَقُولُ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَا: كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نسيئا فَلَا يَصْلُحُ.
[الحديث 2060 - أطرافه في: 2180، 2497، 3939]
[الحديث 2061 - أطرافه في: 2181، 2498، 3940]
قَوْلُهُ: (بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ وَغَيْرِهِ) لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ قَوْلُهُ: وَغَيْرِهِ وَثَبَتَتْ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْبَزِّ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالزَّايِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ بَلْ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَكَاسِبِ الْمُبَاحَةِ. وَصَوَّبَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ بِالرَّاءِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِمُؤَاخَاةِ التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بِبَابٍ وَهُوَ التِّجَارَةُ فِي الْبَحْرِ، وَكَذَا ضَبَطَهَا الدِّمْيَاطِيُّ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَضْبُوطَةٌ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالرَّاءِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بِالرَّاءِ تَصْحِيفٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا الْأَثَرِ اللَّاتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ: عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تُلْهِيهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فِي مَدْحِ تَرْكِ التِّجَارَاتِ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ. . . إِلَخْ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا عَنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ فَذَكَرَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ، وَفِي الْحِلْيَةِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَدَعُونَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الصَّرْفِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً بَعْدَ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ بَابًا، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَكَانَا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى
الْقُطْبِ فَقَرَأْتُ بِخَطِّهِ: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ مُنَاسَبَةَ التَّرْجَمَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَيُنْظَرُ.
(تَنْبِيهٌ): أَبُو الْمُنْهَالِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرُ أَبِي الْمُنْهَالِ صَاحِبِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فِي حَدِيثِ الْمَوَاقِيتِ، وَاسْمُ هَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُطْعِمٍ وَاسْمُ صَاحِبِ أَبِي بَرْزَةَ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ بِنُزُولِ رَجُلٍ لِأَجْلِ زِيَادَةِ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُمَا عَنْ أَبِي الْمُنْهَالِ الْمَذْكُورِ، وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (نَسِيئًا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ نَسَاءً بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَمَدَّةٍ.
9 - باب الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ،
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
2062 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ - وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا - فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى. فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ. قِيلَ: قَدْ رَجَعَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ. فَقَالَ: تَأْتِينِي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ. فَانْطَلَقَ إِلَى مَجالِسِ الْأَنْصَارِ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا، أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِيَ عَلَيَّ هذا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى التِجَارَةٍ.
[الحديث 2062 - طرفاه في: 6245، 7353]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ إِبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ إِجَازَةُ الْحَرَكَاتِ فِي التِّجَارَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً خِلَافًا لِمَنْ يَتَنَطَّعُ وَلَا يَحْضُرُ السُّوقَ - كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ) زَادَ بِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ.
قَوْلُهُ: (فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ، وَيَقْوَى ذَلِكَ إِذَا سَاقَهُ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْكَبِيرَ الْقَدْرِ الشَّدِيدَ اللُّزُومِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَمْرِهِ وَيَسْمَعُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْبَلُ الْخَبَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ. وَسَتَأْتِي فَوَائِدُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ وَحْدَهُ فِي الدِّيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟
أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. يَعْنِي: الْخُرُوجُ إِلَى التِّجَارَةِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَأَطْلَقَ عُمَرُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ لَهْوًا لِأَنَّهَا أَلْهَتْهُ عَنْ طُولِ مُلَازَمَتِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعَ غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ عُمَرُ تَرْكَ أَصْلِ الْمُلَازَمَةِ وَهِيَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَكَانَ احْتِيَاجُ عُمَرَ إِلَى الْخُرُوجِ لِلسُّوقِ مِنْ أَجْلِ الْكَسْبِ لِعِيَالِهِ وَالتَّعَفُّفِ عَنِ النَّاسِ، وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَ وَحْدَهُ فَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مُلَازَمَتَهُ، وَمُلَازَمَةُ عُمَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَخْفَى كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الْمَنَاقِبِ. وَاللَّهْوُ مُطْلَقًا مَا يُلْهِي سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا، وَفِي الشَّرْعِ مَا يَحْرُمُ فَقَطْ.
10 - بَاب التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ.
وَقَالَ مَطَرٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلَا {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} وَالْفُلْكُ: السُّفُنُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخَرُ السُّفُنُ الرِّيحَ، وَلَا تَمْخَرُ الرِّيحَ مِنْ السُّفُنِ إِلَّا الْفُلْكُ الْعِظَامُ
2063 -
وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِه.
قَوْلُهُ: (بَابُ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ) أَيْ: إِبَاحَةُ رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَ قَوَّى قَوْلَ مَنْ قَرَأَ الْبَرَّ فِيمَا سَبَقَ بِبَابٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَوْ بِالزَّايِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَطَرٌ إِلَخْ) هُوَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ الْبَصْرِيُّ مَشْهُورٌ فِي التَّابِعِينَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَبِأَنَّهُ الْوَرَّاقُ وَصَفَهُ الْمِزِّيُّ، وَالْقُطْبُ وَآخَرُونَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ لَهُ مِنْ حَيْثُ أنَّ الَّذِينَ أَفْرَدُوا رِجَالَ الْبُخَارِيِّ، كَالْكَلَابَاذِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِمُ الْوَرَّاقَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَوْعِبُوا مَنْ عَلَّقَ لَهُمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِرُكُوبِ الْبَحْرِ بَأْسًا وَيَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِحَقٍّ، وَوَجْهُ حَمْلِ مَطَرٍ ذَلِكَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَنَّهَا سِيقَتْ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ مَنَعَ رُكُوبَ الْبَحْرِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (الْفُلْكُ السُّفُنُ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ) هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فَذَكَرَهُ فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْفُلْكَ بِالضَّمِّ وَالْإِسْكَانِ جَمْعُ فَلَكٍ بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلُ أُسْدٍ وَأَسَدٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ السَّفِينَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ سُمِّيَتْ سَفِينَةً لِأَنَّهَا تَسْفُنُ وَجْهَ الْمَاءِ أَيْ: تُفَسِّرُهُ، وَالْجَمْعُ سُفُنٌ وَسَفَائِنُ وَسَفِينٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ بِنَصْبِ السُّفُنِ وَعَكَسَهُ الْأَصِيلِيُّ، وَالصَّوَابُ الِأَوَّلُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرِّيحَ الْفَاعِلُ وَهِيَ الَّتِي تَصْرِفُ السَّفِينَةَ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَضَبْطُ الْأَصِيلِيِّ صَوَابٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْفِعْلَ لِلسَّفِينَةِ فَقَالَ:{مَوَاخِرَ فِيهِ}
وَقَوْلُهُ: تَمْخُرُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تَشُقُّ يُقَالُ مَخَرَتِ السَّفِينَةُ إِذَا شَقَّتِ الْمَاءَ بِصَوْتٍ، وَقِيلَ: الْمَخْرُ الصَّوْتُ نَفْسُهُ، وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا أَرَادَ أَنَّ شَقَّ السَّفِينَةِ لِلْبَحْرِ بِصَوْتٍ إِنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الرِّيحِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تَمْخُرُ. . . إِلَخْ أَنَّ الصَّوْتَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ كِبَارِ السُّفُنِ، أَوْ لَا يَحْصُلُ مِنَ الصِّغَارِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ
اللَّيْثُ. . . إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ ثَمَّ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِالتَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم مُقَرِّرًا لَهُ أَوْ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِإِيرَادِ هَذَا أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ لَمْ يَزَلْ مُتَعَارَفًا مَأْلُوفًا مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، ويُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهِ) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِوَصْلِ الْمُعَلَّقِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَبُو ذَرٍّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ.
11 - بَاب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
وَقَوْلُهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ - {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَّجِرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ.
2064 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .
قَوْلُهُ: (بَابٌ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقَوْلُهُ: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَّجِرُونَ. . . إِلَخْ) كَذَا وَقَعَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَادًا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ إِلَّا النَّسَفِيَّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا هَاهُنَا وَحَذَفَهَا مِمَّا مَضَى، وَكَذَا وَقَعَ مُكَرَّرًا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ أَنَّ أَصْلَ الْبُخَارِيِّ كَانَ عِنْدَ الْفَرَبْرِيِّ وَكَانَتْ فِيهِ إِلْحَاقَاتٌ فِي الْهَوَامِشِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ مَنْ يَنْسَخُ الْكِتَابَ يَضَعُ الْمُلْحَقَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَظُنُّهُ لَائِقًا بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيُزَادُ هُنَا أَنَّ بَعْضَهُمُ احْتَاطَ فَكَتَبَ الْمُلْحَقَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَشَأَ عَنْهُ التَّكْرَارُ، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي تَوْجِيهِهِ بِأَنْ قَالَ: ذَكَرَ الآيةَ هُنَا لِمَنْطُوقِهَا وَهُوَ الذَّمُّ، وَذَكَرَهَا هُنَاكَ لِمَفْهُومِهَا وَهُوَ تَخْصِيصُ وَقْتِهَا بِحَالَةِ غَيْرِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِالصَّلَاةِ وَسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى.
12 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
2065 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا.
2066 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ.
[الحديث 2066 - أطرافه في: 5192، 5195، 5360]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أَيْ: تَفْسِيرُهُ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ كُلُوا بَدَلَ أَنْفِقُوا وَقَالَ إِنَّهُ غَلَطٌ اهـ. وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَدْ سَاقَ الْآيَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا التِّجَارَةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظِ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ فِيمَا أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إِذَا أَنْفَقَتْ مِنَ الَّذِي يَخُصُّهَا بِهِ إِذَا تَصَدَّقَتْ بِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ كَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهَا بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ مَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّفْصِيلِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِلَّا فَحَيْثُ كَانَ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا فَهِيَ مَأْزُورَةٌ بِذَلِكَ لَا مَأْجُورَةٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُعِينُهَا عَلَى تَنْفِيذِ الصَّدَقَةِ، بِخِلَافِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَفِيهِ أَنَّ لِلْخَادِمِ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى بِالنِّصْفِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَجْرَهُ وَأَجْرَهَا إِذَا جُمِعَا كَانَ لَهَا النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ فَلِلْكُلِّ مِنْهُمَا أَجْرٌ كَامِلٌ وَهُمَا اثْنَانِ فَكَأَنَّهُمَا نِصْفَانِ.
13 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ فِي الرِّزْقِ
2067 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.
[الحديث 2067 - طرفه في: 5986]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ) أَيِ: التَّوَسُّعُ (فِي الرِّزْقِ) وَجَوَابُ مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهَا مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ) اسْمُ أَبِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْصُورًا اسْمُ أَبِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا يَعْقُوبَ جَدُّهُ الْكِرْمَانِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ الشَّارِحُ أَنَّ النَّوَوِيَّ ضَبَطَهَا بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَعَقَّبَهُ، وَسَلَفُ النَّوَوِيِّ فِي ذَلِكَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَلَعَلَّ الصَّوَابَ فِيهَا فِي الْأَصْلِ الْفَتْحُ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بِالْكَسْرِ تَغْيِيرًا مِنَ الْعَامَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ مُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ الْبَصْرَةَ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ حَالَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ، وَآخَرَ فِي أَوَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَالثَّلَاثَةُ إِسْنَادُهَا وَاحِدٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَشَيْخُهُ حَسَّانُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكِرْمَانِيُّ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَسَّانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) يَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (وَيُنْسَأُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ أَيْ: يُؤَخَّرُ لَهُ، وَالْأَثَرُ هُنَا بَقِيَّةُ الْعُمُرِ قَالَ زُهَيْرٌ:
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلُ
…
لَا يَنْتَهِي الطَّرْفُ حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ الْبَرَكَةُ فِيهِ، وَفِي الْعُمُرِ حُصُولُ الْقُوَّةِ فِي الْجَسَدِ؛ لِأَنَّ صِلَةَ أَقَارِبِهِ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ تُرَبِّي الْمَالَ وَتَزِيدُ فِيهِ فَيَنْمُو بِهَا وَيَزْكُو؛ لِأَنَّ رِزْقَ الْإِنْسَانِ يُكْتَبُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُكْتَبُ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ كَأَنْ يُقَالَ: إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فَلَهُ كَذَا وَإِلَّا فَكَذَا، أَوِ الْمَعْنَى بَقَاءُ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَغْرَبَ الْحَكِيمُ، التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قِلَّةُ الْبَقَاءِ فِي الْبَرْزَخِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُكْتَبَ أَجَلُ الْعَبْدِ مِائَةَ سَنَةٍ وَتَزْكِيَتُهُ عِشْرِينَ فَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ التَّزْكِيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَكْتُوبُ عِنْدَ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ غَيْرُ الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، فَالْأَوَّلُ يَدْخُلُ فِيهِ التَّغْيِيرُ. وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْمَعْلُومِ، والْبَاطِنُ خَفِيٌّ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَذَلِكَ الظَّاهِرُ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُهُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ وَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ إِبْلَاغُ ذَلِكَ إِلَى الْمُكَلَّفِ لِيَعْلَمَ فَضْلَ الْبِرِّ وَشُؤْمَ الْقَطِيعَةِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى إِيثَارِ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
14 - بَاب شِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّسِيئَةِ
2068 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.
[الحديث 2068 - أطرافه في: 2096، 2200، 2251، 2252، 2286، 2509، 2513، 2916، 4467،]
2069 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ أَبُو الْيَسَعِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ حَبٍّ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ"
[الحديث 2096 - طرفه في: 2508]
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّسِيئَةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ أَيْ: بِالْأَجَلِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ تَخَيَّلَ أَنَّ أَحَدًا يَتَخَيَّلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ لِأَنَّهَا دَيْنٌ فَأَرَادَ دَفْعَ ذَلِكَ التَّخَيُّلِ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى شَعِيرًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَ عَلَيْهِ دِرْعَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا
مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الرَّهْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ عَائِشَةَ (ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ النَّخَعِيُّ، وَقَوْلُهُ:(الرَّهْنُ فِي السَّلَمِ) أَيِ: السَّلَفِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ السَّلَمَ الْعُرْفِيَّ.
وَقَوْلُهُ في حديث أنس: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (أَسْبَاطٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ.
وَقَوْلُهُ: (أَبُو الْيَسَعِ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ بَصْرِيٌّ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ لِأَسْبَاطٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَ أَبِيهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَلَى لَفْظِ أَبِي الْيَسَعِ، وَسَاقَهُ فِي الرَّهْنِ عَلَى لَفْظِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالنُّكْتَةُ فِي جَمْعِهِمَا هُنَا مَعَ أَنَّ طَرِيقَ مُسْلِمٍ أَعْلَى مُرَاعَاةً لِلْغَالِبِ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ أَبَا الْيَسَعِ الْمَذْكُورَ فِيهِ مَقَالٌ فَاحْتَاجَ أَنْ يَقْرِنَهُ بِمَنْ يُعَضِّدُهُ.
وَقَوْلُهُ: فِيهِ (وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ) هُوَ كَلَامُ أَنَسٍ، وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَهَنَ الدِّرْعَ عِنْدَ الْيَهُودِيِّ مُظْهِرًا لِلسَّبَبِ فِي شِرَائِهِ إِلَى أَجَلٍ، وَذَهِلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ قَتَادَةَ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي سَمِعْتُهُ لِأَنَسٍ؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلسِّيَاقِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15 - بَاب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ
2070 -
حَدَّثَنَي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أخبرني عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مؤونة أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ وأحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ.
2071 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اغْتَسَلْتُمْ رَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
2072 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
2073 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ لَا يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
[الحديث 2073 - طرفاه في: 3417، 4713]
2074 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَانْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ"
2075 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَانْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلَهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ) عَطْفُ الْعَمَلَ بِالْيَدِ عَلَى الْكَسْبِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَمَلًا بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَفْضَلِ الْمَكَاسِبِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أُصُولُ الْمَكَاسِبِ الزِّرَاعَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالصَّنْعَةُ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَطْيَبَهَا التِّجَارَةُ، قَالَ: وَالْأَرْجَحُ عِنْدِي أَنَّ أَطْيَبَهَا الزِّرَاعَةُ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ الْمِقْدَامِ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ أَطْيَبَ الْكَسْبِ مَا كَانَ بِعَمَلِ الْيَدِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ زِرَاعًا فَهُوَ أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ عَمَلَ الْيَدِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَامِّ لِلْآدَمِيِّ وَلِلدَّوَابِّ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُوكَلَ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
قُلْتُ: وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْيَدِ مَا يُكْتَسَبُ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِالْجِهَادِ، وَهُوَ مَكْسَبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَكَاسِبِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِذْلَانِ كَلِمَةِ أَعْدَائِهِ، وَالنَّفْعِ الْأُخْرَوِيِّ، قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِيَدِهِ فَالزِّرَاعَةُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا. قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بُحِثَ فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَلَمْ يَنْحَصِرِ النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي فِي الزِّرَاعَةِ بَلْ كُلُّ مَا يُعْمَلُ بِالْيَدِ فَنَفْعُهُ مُتَعَدٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ الْمَرَاتِبِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا يَفْضُلُ عَمَلُ الْيَدِ سَائِرَ الْمَكَاسِبِ إِذَا نَصَحَ الْعَامِلُ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْكَسْبِ بَلْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، وَمِنْ فَضْلِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ الشُّغْلُ بِالْأَمْرِ الْمُبَاحِ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، وَكَسْرُ النَّفْسِ بِذَلِكَ، وَالتَّعَفُّفُ عَنْ ذِلَّةِ السُّؤَالِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْغَيْر، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ أَوَّلُهَا فِي التِّجَارَةِ، وَالثَّانِي فِي الزِّرَاعَةِ، وَالثَّالِثُ وَمَا بَعْدَهُ فِي الصَّنْعَةِ، الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي) أَيْ: قُرَيْشٌ وَالْمُسْلِمُونَ.
قَوْلُهُ: (حِرْفَتِي) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ أَيْ: جِهَةَ اكْتِسَابِي، وَالْحِرْفَةُ جِهَةُ الِاكْتِسَابِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَعَاشِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ كَسُوبًا لِمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ بِالتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ، تَمْهِيدًا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ عَمَّا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَشُغِلْتُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: أنَّ الْقِيَامَ بِأُمُورِ الْخِلَافَةِ شَغَلَهُ عَنِ الِاحْتِرَافِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: انْظُرُوا مَاذَا فِي مَالِي مُنْذُ دَخَلَتِ الْإِمَارَةُ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ بَعْدِي. قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ نَظَرْنَا فَإِذَا عَبْدٌ نُوبِيٌّ كَانَ يَحْمِلُ صِبْيَانَهُ، وَنَاضِحٌ كَانَ يَسْقِي بُسْتَانًا لَهُ، فَبَعَثْنَا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ وَزَادَ: إِنَّ الْخَادِمَ كَانَ صَيْقَلًا يَعْمَلُ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْدُمُ آلَ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَفِيهِ: قَدْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أُوَفِّرَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنَ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَفِيهِ: وَمَا كَانَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مَا كَانَ إِلَّا خَادِمٌ وَلِقْحَةٌ وَمِحْلَبٌ.
قَوْلُهُ: (آلُ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: هُوَ نَفْسُهُ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ نَفْسَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَحْتَرِفُ
حَكَاهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَسَقُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ الِاحْتِرَافَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَاطِفًا لَهُ عَلَى فَسَيَأْكُلُ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَهْلَ لَتَنَافَرَ. انْتَهَى. وَجَزَمَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: آلُ أَبِي بَكْرٍ عُدُولٌ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، قَالَ: وَقِيلَ: أَرَادَ نَفْسَهُ، وَالْأَوَّلُ مُقْحَمٌ لِقَوْلِهِ: وَأَحْتَرِفُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنِّي كُنْتُ أَكْتَسِبُ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَهُ وَالْآنَ أَكْتَسِبُ لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَائِدَةُ الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا كَسُوبًا لِمُؤْنَةِ الْأَهْلِ بِالتِّجَارَةِ فَامْتَنَعَ لِشُغْلِهِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الِاكْتِسَابِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْعِلَّةِ، وَأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالشُّغْلِ الْمَذْكُورِ حَقِيقٌ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَعِيَالُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَخَصَّ الْأَكْلَ مِنْ بَيْنِ الِاحْتِيَاجَاتِ لِكَوْنِهِ أَهَمَّهَا وَمُعْظَمَهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَرَضِ الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ قَدْرَ حَاجَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ إِمَامٌ يَقْطَعُ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ.
قُلْتُ: لَكِنْ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يَتَنَاوَلُهُ فُرِضَ لَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوقِ عَلَى رَأْسِهِ أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ قَالُوا: نَفْرِضُ لَك. فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ شَطْرَ شَاةٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَحْتَرِفُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَحْتَرِفُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَرَادَ بِاحْتِرَافِهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَظَرَهُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَمْيِيزَ مَكَاسِبِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَكَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمَعْنَى: أَكْتَسِبُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَنَظْمِ أَحْوَالِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ: احْتَرَفَ الرَّجُلُ إِذَا جَازَى عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ أَحْتَرِفُ لَهُمْ أَيْ: أَتَّجِرُ لَهُمْ فِي مَالِهِمْ حَتَّى يَعُودَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبْحِهِ بِقَدْرِ مَا آكُلُ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ مُؤْنَتِهِ إِلَّا أَنْ يَطَّوَّعَ بِذَلِكَ كَمَا تَطَوَّعَ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: وَالتَّوْجِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي تَرْكِ الِاحْتِرَافِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْإِمَارَةِ، فَمَتَى يَتَفَرَّغُ لِلِاحْتِرَافِ لِغَيْرِهِ؟ إِذْ لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَافُ لَاحْتَرَفَ لِنَفْسِهِ كَمَا كَانَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي الْمَالَ لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيَجْعَلُ رِبْحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنَ الْمَالِ - أَيْ: مَالِ الْمُسْلِمِينَ - وَاحْتَرَفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ.
(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْوَقْفَ لَكِنَّهُ بِمَا اقْتَضَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ كَانَ يَحْتَرِفُ لِتَحْصِيلِ مُؤْنَةِ أَهْلِهِ يَصِيرُ مَرْفُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى بُصْرَى فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَيَأْتِي حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لَهُ عَقِبَ حَدِيثِهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) كَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا رِوَايَةَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، فَمُحَمَّدٌ عَلَى هَذَا هُوَ الْمُصَنِّفُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِي، وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَرُبَّمَا رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ هُوَ النَّوْفَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِيَتِيمِ عُرْوَةَ، وَجَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا هُنَا هُوَ الذُّهْلِيُّ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ هَمَّامٌ) يَعْنِي: ابْنَ يَحْيَى (عَنْ هِشَامٍ) يَعْنِي: ابْنَ عُرْوَةَ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ هُدْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: كَانَ الْقَوْمُ خَدَّامَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا يَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَأَمَرُوا أَنْ يَغْتَسِلُوا وَبِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْبَزَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ عَنْ عُرْوَةَ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرَةَ، وَتَقَدَّمَ
شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: كَانُوا عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَقَوْلُهُ: يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ جَمْعُ رِيحٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ رِيحِ رَوْحٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ
(1)
وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ أَيْضًا أَرْيَاحٌ بِقِلَّةٍ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الشَّامِيُّ لَا ابْنُ زَيْدٍ الْمَدَنِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْمِقْدَامِ) هُوَ ابْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكَنَدِيُّ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، مَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ بِحِمْصَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الْأَطْعِمَةِ.
قَوْلُهُ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مِنْ بَنِي آدَمَ.
قَوْلُهُ: (طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ كَدِّ يَدَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِالْيَدِ مِنَ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْهُ: مَا كَسَبَ الرَّجُلُ أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: مَا أَكَلَ رَجُلٌ طَعَامًا قَطُّ أَحَلَّ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ وَفِي فَوَائِدِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَ حَدِيثِ الْبَابِ وَزَادَ: مَنْ بَاتَ كَالًّا مِنْ عَمَلِهِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَفِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمِّهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ دَاوُدَ. . . إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَفِي رِوَايَتِهِ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْحَصْرِ بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ; وَوَقَعَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ وَاهٍ: كَانَ دَاوُدُ زَرَّادًا، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَكَانَ نُوحٌ نَجَّارًا، وَكَانَ إِدْرِيسُ خَيَّاطًا، وَكَانَ مُوسَى رَاعِيًا وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْعَمَلِ بِالْيَدِ، وَتَقْدِيمُ مَا يُبَاشِرُهُ الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَا يُبَاشِرُهُ بِغَيْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ بِالذِّكْرِ أَنَّ اقْتِصَارَهُ فِي أَكْلِهِ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا ابْتَغَى الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِصَّتَهُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ خَيْرَ الْكَسْبِ عَمَلُ الْيَدِ، وَهَذَا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَدْحُهُ وَتَحْسِينُهُ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّكَسُّبَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ سَامِعِهِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ: قَوْلُهُ: (لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخْرَجَهُ هُنَاكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، وَهُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - وَهُوَ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَرْجَمَتِهِ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ.
وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي ذَلِكَ أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا وَسَاقَهُ فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ مِنَ الزَّكَاةِ بِتَمَامِهِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ: أَحْبُلَهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ حَبْلٍ مِثْلُ فَلْسٍ وَأَفْلُسَ.
16 - باب السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ
2076 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى.
(1)
قال مصحح طبعة بولاق: صوابه بكسر الراء.
قَوْلُهُ: (بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ مُرَتَّبًا أَوْ غَيْرَ مُرَتَّبٍ، وَيُحْتَمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا، إِذِ السُّهُولَةُ وَالسَّمَاحَةُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى فَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاحَةِ تَرْكُ الْمُضَاجَرَةِ وَنَحْوِهَا لَا الْمُكَايَسَةِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ) أَيْ: عَمَّا لَا يَحِلُّ، أَشَارَ بِهَذَا الْقَدْرَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ وَافٍ أَوْ غَيْرَ وَافٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا) يَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ وَيَحْتَمِلُ الْخَبَرَ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَرَجَّحَهُ الدَّاوُدِيُّ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَصَدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ لَكِنَّ قَرِينَةَ الِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِذَا تَجْعَلُهُ دُعَاءً وَتَقْدِيرُهُ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ.
قَوْلُهُ: (سَمْحًا) بِسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ: سَهْلًا، وَهِيَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَلِذَلِكَ كَرَّرَ أَحْوَالَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّقَاضِي، وَالسَّمْحُ الْجَوَادُ، يُقَالُ سَمْحٌ بِكَذَا إِذَا جَادَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُسَاهَلَةُ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا اقْتَضَى) أَيْ: طَلَبَ قَضَاءَ حَقِّهِ بِسُهُولَةٍ وَعَدَمِ إِلْحَافٍ، فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ التِّينِ: وَإِذَا قَضَى أَيْ: أَعْطَى الَّذِي عَلَيْهِ بِسُهُولَةٍ بِغَيْرِ مَطْلٍ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَفَعَهُ: أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوُهُ وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَتَرْكُ الْمُشَاحَةِ وَالْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَأَخْذُ الْعَفْوِ مِنْهُمْ.
17 - بَاب مَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا
2077 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَنَّ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُوسِرِ. قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ. وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ: أُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ رِبْعِيٍّ فَأَقْبَلُ مِنْ الْمُوسِرِ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ.
[الحديث 2077 - طرفاه في: 2391، 3451]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا) أَيْ: فَضْلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَحُكْمُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْمُوسِرِ: فَقِيلَ: مَنْ عِنْدَهُ مُؤْنَتُهُ وَمُؤْنَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا
مِنَ الذَّهَبِ فَهُوَ مُوسِرٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ بِالدِّرْهَمِ غَنِيًّا مَعَ كَسْبِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَلِفِ فَقِيرًا مَعَ ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَقِيلَ: الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِثْلِهِ يُعَدُّ يَسَارًا فَهُوَ مُوسِرٌ وَعَكْسُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمَا قَبْلَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالْأَخْذُ مِنَ الصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (مَنْصُورٌ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ حُذَيْفَةَ حَدَّثَهُ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ رِبْعِيٍّ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ) أَيِ: اسْتَقْبَلَتْ رُوحَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ.
قَوْلُهُ: (أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا)؟ وَفِي رِوَايَةٍ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ. قِيلَ: انْظُرْ. قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي فَذَكَرَهُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْمُعَلَّقةِ هُنَا وَوَصَلَهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَتَى اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لَهُ: مَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ - قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا - قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ خُلُقِي الْجَوَازَ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا عَمِلْتُ لَكَ شَيْئًا أَرْجُو بِهِ كَثِيرًا. إِلَّا أَنَّكَ كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ ; فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فِتْيَانِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ فَتًى وَهُوَ الْخَادِمُ حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَهُوَ لَا يُخَالِفُ التَّرْجَمَةَ، وَلِلْبَاقِينَ: أَنْ يَنْظُرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلتَّرْجَمَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي إِيرَادِ التَّعَالِيقِ الْآتِيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ: كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ) وَهَذِهِ الطَّرِيقُ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) يَعْنِي: ابْنَ عُمَيْرٍ (عَنْ رِبْعِيٍّ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ يَعْنِي: فِي قَوْلِهِ: وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَأَتَجَوَّزُ عَنِ الْمُوسِرِ وَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ وَفِي آخِرِهِ قَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ هَكَذَا سَمِعْتُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُطَوَّلًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ: أُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ وَفِي آخِرِهِ قَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ هَكَذَا سَمِعْتُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُهُ، وَفِيهِ قَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: وَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى: وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ لِأَنَّ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ وَاجِبٌ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَنَّ لَا يُؤْجَرَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ أَوْ يُكَفَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَسَأَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي الْوُجُوبِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
18 - بَاب مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
2078 -
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ.
[الحديث 2078 - طرفه في: 3480]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَنْظَرَ مُعَسِرًا) رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الرَّاءِ رَفَعَهُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ، وَلِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ وَقَالَ: وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي دَيْنِ الرِّبَا خَاصَّةً، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي دَيْنِ الرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ نَصًّا فِي دَيْنِ الرِّبَا وَيُلْتَحَقُ بِهِ سَائِرُ الدُّيُونِ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أُعْسِرَ الْمَدْيُونُ وَجَبَ إِنْظَارُهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ضَرْبِهِ وَلَا إِلَى حَبْسِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ) بِالضَّمِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ.
قَوْلُهُ: (تَجَاوَزُوا عَنْهُ) زَادَ النَّسَائِيُّ: فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا يَسِرَ وَاتْرُكْ مَا عَسِرَ وَتَجَاوَزْ وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ التَّجَاوُزِ الْإِنْظَارُ وَالْوَضِيعَةُ وَحُسْنُ التَّقَاضِي. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِذَا كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ كَفَّرَ كَثِيرًا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِمَنْ يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا إِذَا جَاءَ فِي شَرْعِنَا فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ كَانَ حَسَنًا عِنْدَنَا.
19 - باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ، وَلَمْ يَكْتُمَا، وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ.
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي: آرِيَّ خُرَاسَانَ، وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، وجَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ. فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً.
قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ.
2079 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَفَعَهُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.
[الحديث 2079 - أطرافه في: 2082، 2108، 2110، 2114]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكْتُمَا) أَيْ: مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ، وَقَوْلُهُ:(وَنَصَحَا) مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَتَقْدِيرُهُ: بِوَرِكِ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ نَصِيحَةَ الْمُسْلِمِ وَاجِبَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ الْعَدَّاءِ) بِالتَّثْقِيلِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ بِوَزْنِ الْفَعَّالِ ابْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، صَحَابِيٌّ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، أَسْلَمَ بَعْدَ حُنَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ، وَقَدْ وَصَلَ الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ مَنْدَهْ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْتَرِيَ الْعَدَّاءُ عَكْسَ مَا هُنَا، فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي وَقَعَ هُنَا مَقْلُوبٌ وَقِيلَ: هُوَ صَوَابٌ وَهُوَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ اشْتَرَى وَبَاعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اسْمِ الْعَدَّاءِ، وَشَرَحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ فِيهِ: الْبُدَاءَةُ بِاسْمِ الْمَفْضُولِ فِي الشُّرُوطِ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ، قَالَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ نَقْضُ عَهْدِهِ لِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَاطَى صَفَقَاتٍ كَثِيرَةً بِغَيْرِ عُهْدَةٍ، وَفِيهِ كِتَابَةُ الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فِي الْعُهْدَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِصِفَةٍ تَخُصُّهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ اسْتَغْنَى بِصِفَتِهِ عَنْ نَسَبِهِ وَنَسَبِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا اشْتَرَى ثُمَّ قَالَ: بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ.
قَوْلُهُ: (بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ) فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ الْخَدِيعَةُ، وَأَنَّ تَصْدِيرَ الْوَثَائِقِ بِقَوْلِ الْكَاتِبِ هَذَا مَا اشْتَرَى أَوْ أَصْدَقَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِوَسْوَسَةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهَا تَلْتَبِسُ بِمَا النَّافِيَةِ.
قَوْلُهُ: (لَا دَاءَ) أَيْ: لَا عَيْبَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَاطِنُ سَوَاءٌ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا كَوَجَعِ الْكَبِدِ وَالسُّعَالِ قَالَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: قَوْلُهُ: لَا دَاءَ أَيْ: يَكْتُمُهُ الْبَائِعُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ بِعَبْدٍ دَاءٌ وَبَيَّنَهُ الْبَائِعُ لَكَانَ مِنْ بَيْعِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ لَا دَاءَ نَفْيَ الدَّاءِ مُطْلَقًا بَلْ نَفْيَ دَاءٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا لَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا خِبْثَةَ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّهَا وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ أَيْ: مَسْبِيًّا مِنْ قَوْمٍ لَهُمْ عَهْدٌ قَالَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَخْلَاقُ الْخَبِيثَةُ كَالْإِبَاقِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ الرِّيبَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَرَامُ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْحَلَالِ بِالطَّيِّبِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الدَّاءُ مَا كَانَ فِي الْخَلْقِ بِالْفَتْحِ وَالْخِبْثَةُ مَا كَانَ فِي الْخَلْقِ بِالضَّمِّ، وَالْغَائِلَةُ سُكُوتُ الْبَائِعِ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي الْمَبِيعِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا غَائِلَةَ) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَلَا فُجُورَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِبَاقُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: اغْتَالَنِي فُلَانٌ، إِذَا احْتَالَ بِحِيلَةٍ يُتْلِفُ بِهَا مَالِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْأَصْمَعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَفْسِيرَ قَتَادَةَ يَرْجِعُ إِلَى الْخِبْثَةِ وَالْغَائِلَةِ مَعًا.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: لِإِبْرَاهِيمَ) أَيِ: النَّخَعِيِّ (إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: الدَّلَّالِينَ.
قَوْلُهُ: (يُسَمَّى آرِيَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَمْدُودَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ مُرْبِطٌ لِلدَّابَّةِ، وَقِيلَ: مُعْلِفُهَا وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقِيلَ: هُوَ حَبْلٌ يُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْرُزُ طَرَفُهُ تُشَدُّ بِهِ الدَّابَّةُ أَصْلُهُ مِنَ الْحَبْسِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَأَرَّى الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ أَيْ: أَقَامَ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّخَّاسِينَ كَانُوا يُسَمُّونَ مَرَابِطَ دَوَابِّهِمْ بِأَسْمَاءِ الْبِلَادِ لِيُدَلِّسُوا عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ؛ لِيُوهِمُوا أَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَيَحْرِصُ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي وَيَظُنُّ أَنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْجَلْبِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَأَظُنُّ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْأَصْلِ لَفْظَةُ دَوَابِّهِمْ، قُلْتُ: أَوْ سَقَطَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الَّتِي لِلْجِنْسِ، كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ يُسَمَّى الْآرِيَّ أَيْ: الْإِصْطَبْلَ، أَوْ سَقَطَ الضَّمِيرُ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ يُسَمَّى آرِيَةً، وَقَدْ تَصَحَّفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ
الْمَرْوَزِيِّ فَذَكَرَهَا أَرَى بِفَتْحَتَيْنِ بِغَيْرِ مَدٍّ وَقَصْرِ آخِرِهِ وَزْنَ دَعَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ مِثْلُهُ، لَكِنْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّ، وَاضْطَرَبَ فِيهَا غَيْرُهُمَا فَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا رُوِيَتْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَظِيفٍ قُرَى بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، قَالَ الرَّاعِي:
فَقَدْ فَخَرُوا بِخَيْلِهِمُ عَلَيْنَا
…
لَنَا آرِيُّهُنَّ عَلَى مَعَدِّ
وَقَدْ بَيَّنَ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ النَّخَّاسِينَ وَأَصْحَابِ الدَّوَابِّ يُسَمِّي أَحَدُهُمْ إصْطَبْلَ دَوَابِّهِ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ ثُمَّ يَأْتِي السُّوقَ فَيَقُولُ جَاءَتْ مِنْ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، قَالَ: فَكَرِهَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ وَلَفْظُهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي آرِيَّهُ خُرَاسَانَ إِلَخْ وَالسَّبَبُ فِي كَرَاهَةِ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَالتَّدْلِيسِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَخْبَرَ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُهْمَلَةٌ عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ غِشٌّ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ بَابَيْنِ سَمِعْتُ أَبَا الْخَلِيلِ.
قَوْلُهُ: (رَفَعَهُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ حَكِيمٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ بَعْدَ عِشْرِينَ حَدِيثًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا إِلَخْ وَقَوْلُهُ: صَدَقَا أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ فِي السَّوْمِ وَمِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي الْوَفَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَبَيَّنَا أَيْ: لِمَا فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مِنْ عَيْبٍ فَهُوَ مِنْ جَانِبَيْهِمَا وَكَذَا نَقْصُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ حُصُولُ الْبَرَكَةِ لَهُمَا إِنْ حَصَلَ مِنْهُمَا الشَّرْطُ وَهُوَ الصِّدْقُ وَالتَّبْيِينُ، وَمَحْقُهَا إِنْ وُجِدَ ضِدُّهُمَا وَهُوَ الْكَذِبُ وَالْكَتْمُ، وَهَلْ تَحْصُلُ الْبَرَكَةُ لِأَحَدِهِمَا إِذَا وُجِدَ مِنْهُ الْمَشْرُوطُ دُونَ الْآخَرِ؟ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ شُؤْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَنْ تُنْزَعَ الْبَرَكَةُ مِنَ الْمَبِيعِ إِذَا وُجِدَ الْكَذِبُ أَوِ الْكَتْمُ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ ثَابِتًا لِلصَّادِقِ الْمُبَيِّنِ، وَالْوِزْرُ حَاصِلٌ لِلْكَاذِبِ الْكَاتِمِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ حُصُولُهَا إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ شُؤْمَ الْمَعَاصِي يَذْهَبُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
20 - باب بَيْعِ الْخِلْطِ مِنْ التَّمْرِ
2080 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخِلْطُ مِنْ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَلَا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ) الْخِلْطُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ التَّمْرُ الْمُجَمَّعُ مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: كُنَّا نُرْزَقُ بِضَمِّ النُّونِ أَوَّلَهُ أَيْ: نُعْطَاهُ، وَكَانَ هَذَا الْعَطَاءُ مِمَّا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُهُ فِيهِمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْبَرَ، وَتَمْرُ الْجَمْعِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ: فُسِّرَ بِالْخِلْطِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ لَوْنٍ مِنَ النَّخِيلِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ رَدِيئُهُ أَكْثَرَ مِنْ جَيِّدِهِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ رَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِاخْتِلَاطِ جَيِّدِهِ بِرَدِيئِهِ؛
لِأَنَّ هَذَا الْخَلْطَ لَا يَقْدَحُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ عَيْبًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ خُلِطَ فِي أَوْعِيَةٍ مُوَجَّهَةٍ يُرَى جَيِّدُهَا وَيَخْفَى رَدِيئُهَا. وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا، وَكَذَا الدَّرَاهِمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ إِذَا أَرَادَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
21 - بَاب مَا قِيلَ فِي اللَّحَّامِ وَالْجَزَّارِ
2081 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً من الناس، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَدَعَاهُمْ، فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا، بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ.
[الحديث 2081 - أطرافه في: 2456، 5434، 5461]
قَوْلُهُ: (بَابُ اللَّحَّامُ وَالْجَزَّارِ) كَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَهُوَ أَلْيَقُ لِتَتَوَالَى تَرَاجِمُ الصِّنَاعَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ قَصَّابٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ الْجَزَّارُ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَظَالِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ وَاتَّفَقَتِ الطُّرُقُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي مَسْعُودِ إِلَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُكَنَّى أَبَا شُعَيْبٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَكَذَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ مِنْ أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - بَاب مَا يَمْحَقُ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ فِي الْبَيْعِ
2082 -
حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْخَلِيلِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا - أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا - فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَمْحَقُ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ) أَيْ: مِنَ الْبَرَكَةِ (فِي الْبَيْعِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْمَذْكُورَ قَبْلَ بَابَيْنِ وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.
23 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الْآيَةُ
2083 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ الحَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الْآيَةَ) هَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ لَيْسَ فِي الْبَابِ سِوَى الْآيَةِ. وَسَاقَ غَيْرُهُ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي بَابِ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ عَادَةِ الْبُخَارِيِّ وَلَا سِيَّمَا مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ حَقٌّ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ قَالَ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ قَضَاهُ أَخَذَ وَإِلَّا زَادَهُ فِي حَقِّهِ وَزَادَهُ الْآخَرُ فِي الْأَجَلِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أنَّ رِبَا أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَبِيعُ الرَّجُلُ الْبَيْعَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ صَاحِبِهِ قَضَاءٌ زَادَ وَأَخَّرَ عَنْهُ. وَالرِّبَا مَقْصُورٌ، وَحُكِيَ مَدُّهُ وَهُوَ شَاذٌّ، وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَلَكِنْ قَدْ وَقَعَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ. وَأَصْلُ الرِّبَا الزِّيَادَةُ إِمَّا فِي نَفْسِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} وَإِمَّا فِي مُقَابَلَةٍ كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الثَّانِي، زَادَ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ فِي الثَّانِي حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيُطْلَقُ الرِّبَا عَلَى كُلِّ بَيْعٍ مُحَرَّمٍ.
24 - بَاب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ.
قول الله تَعَالَى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى آخر الآية.
2084 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
2085 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ. فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ: آكِلُ الرِّبَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ) أَيْ: بَيَانُ حُكْمِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ إِثْمِ أَوْ ذَمِّ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَشَاهِدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ.
قَوْلُهُ: (قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تِلْكَ عَلَامَةُ أَهْلِ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُبْعَثُونَ وَبِهِمْ خَبَلٌ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا، لَكِنَّ آكِلَ الرِّبَا يَرْبُو الرِّبَا فِي بَطْنِهِ فَيُرِيدُ الْإِسْرَاعَ فَيَسْقُطُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَخَبِّطِ مِنَ الْجُنُونِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ.
قَالُوا: لَا فَرْقَ إِنْ زِدْنَا الثَّمَنَ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى -.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا خُصَّ الْآكِلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَانَتْ طُعْمَتُهُمْ مِنَ الرِّبَا، وَإِلَّا فَالْوَعِيدُ حَاصِلٌ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهُ أَمْ لَا. ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: لِمَا نَزَلَتْ آخِرُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ.
ثَانِيهُمَا حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي الْمَنَامِ الطَّوِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَاقْتَصَرَ مِنْهُ هُنَا عَلَى قِصَّةِ آكِلِ الرِّبَا.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ ذِكْرٌ لِكَاتِبِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْحَاقِ لِإِعَانَتِهِمَا لِلْآكِلِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وَاطَأَ صَاحِبَ الرِّبَا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ كَتَبَهُ أَوْ شَهِدَ الْقِصَّةَ لِيَشْهَدَ بِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِالْحَقِّ فَهَذَا جَمِيلُ الْقَصْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَعَانَ صَاحِبَ الرِّبَا بِكِتَابَتِهِ وَشَهَادَتِهِ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ قَالَ:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وَأَيْضًا فَقَدْ تَضَمَّنَ حَدِيثُ عَائِشَةَ نُزُولَ آخِرِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَفِيهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَفِيهِ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي أَحَلَّهُ، فَأَفْهَمَ النَّهْيَ عَنْ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ فِي الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ صَرِيحًا، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
25 - بَاب مُوكِلِ الرِّبَا،
لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
2086 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنْ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ.
[الحديث 2086 - أطرافه فك: 2238، 5347، 5945، 5961]
قَوْلُهُ: (بَابُ مُوَكِّلُ الرِّبَا) أَيْ: مُطْعِمُهُ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} هَكَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ - إِلَى قَوْلِهِ -:{لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} وَفَسَّرَهُ أَيْ: لَا تَظْلِمُونَ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِأَنْ تُحْبَسَ عَنْكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ. ثُمَّ اعْتُرِضَ بِمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وَاعْتَرَضَهُ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَهْمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْهُ فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ: فَلَعَلَّ النَّاقِلَ وَهَمَ لِقُرْبِهَا مِنْهَا. انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ هُوَ الْوَاهِمُ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الْآيَةَ، وَهِيَ آخِرُ آيَةٍ ذَكَرَهَا لِقَوْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ:{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وَإِلَيْهَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ أَنْزَلَتْ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَ قَوْلِ عَائِشَةَ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ) فِي رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا عَوْنٌ وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا فَسَأَلْتُهُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ سَبَبِ مُشْتَرَاهُ، وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ جَوَابَهُ بِحَدِيثِ النَّهْيِ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي هَذَا السِّيَاقِ اخْتِصَارٌ بَيَّنَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا فِي آخِرِ الْبُيُوعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: اشْتَرَى حَجَّامًا فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، فَسَأَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ الْبَيَانُ بِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ كَسْرِ الْمَحَاجِمِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْجَوَابِ. وَفِي كَسْرِ أَبِي جُحَيْفَةَ الْمَحَاجِمَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ فَأَرَادَ حَسْمَ الْمَادَّةِ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُطِيعُ النَّهْيَ وَلَا يَتْرُكُ التَّكَسُّبَ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ كَسَرَ مَحَاجِمَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَسْبِ الْحَاجِمِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ بَقِيَّةَ فَوَائِدِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَنَهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ) أَيْ: نَهَى عَنْ فِعْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَاشِمَ وَالْمَوْشُومَ لَا يُنْهَى عَنْهُمَا وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعْطُوفًا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْوَشْمَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَغْيِيرٌ فَأُبْدِلَ اللَّعْنُ بِالنَّهْيِ، فَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ، وَفِي أَوَاخِرِ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ: وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
26 - بَاب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
2087 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا يَوْمَئِذٍ وَأَهْلَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهُ يَئُولُ إِلَى قِلَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ رَبًّا وَإِنْ زَادَ حَتَّى يَغْبِطَ صَاحِبَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ عَاقِبَتُهُ إِلَى قُلٍّ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى صَاحِبِ الرِّبَا أَرْبَعُونَ سَنَةً حَتَّى يُمْحَقَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (الْحَلِفُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ.
قَوْلُهُ: (مَنْفَقَةٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ مَفْعَلَةٌ مِنَ
النَّفَاقِ بِفَتْحِ النُّونِ وَهُوَ الرَّوَاجُ ضِدُّ الْكَسَادِ، وَالسِّلْعَةُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمَتَاعُ، وَقَوْلُهُ: مَمْحَقَةٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ وَزْنُ الْأَوَّلِ، وَحَكَى عِيَاضٌ ضَمَّ أَوَّلِهِ وَكَسْرَ الْحَاءِ، وَالْمَحْقُ النَّقْصُ وَالْإِبْطَالُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُحَدِّثُونَ يُشَدِّدُونَهَا وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ خَبَرًا عَنِ الْحَلِفِ. وَفِي مُسْلِمٍ الْيَمِينُ، وَلِأَحْمَدَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَهُمَا فِي الْأَصْلِ مَصْدَرَانِ مَزِيدَانِ مَحْدُودَانِ بِمَعْنَى النِّفَاقِ وَالْمَحْقِ.
قَوْلُهُ: (لِلْبَرَكَةِ) تَابَعَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَأَبِي صَفْوَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لِلرِّبْحِ وَتَابَعَهُمَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ وَتَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى اللَّيْثِ كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى يُونُسَ، وَوَقَعَ لِلْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِمَنْ خَرَّجَهَا وَهَمٌ يُعْرَفُ مِمَّا حَرَّرْتُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ الْبَابِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ وَالْمَحْقَ النَّقْصُ فَقَالَ: كَيْفَ تَجْتَمِعُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ؟ فَأَوْضَحَ الْحَدِيثُ أَنَّ الْحَلِفَ الْكَاذِبَ وَإِنْ زَادَ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أَيْ: يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ مِنَ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ زَائِدًا لَكِنَّ مَحْقَ الْبَرَكَةِ يُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْعَدَدِ فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَى اضْمِحْلَالِ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي.
27 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ
2088 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا}
[الحديث 2088 - طرفاه في: 2675، 4551]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ) أَيْ: مُطْلَقًا فَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَتَنْزِيهٌ. وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالزَّايِ مَرْفُوعًا: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ عَنِ الْعَوَّامِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّبَبَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ خَاصٌّ وَالتَّرْجَمَةَ عَامَّةٌ، لَكِنَّ الْعُمُومَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ: وَأَيْمَانِهِمْ وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يُقَوِّي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ.
28 - باب مَا قِيلَ فِي الصَّوَّاغِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.
2089 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمْسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي
قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِي فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنْ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرُسِي.
[الحديث 2089 - أطرافه في: 2375، 3091، 4003، 5793]
2090 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُلْتَقَطُ لُقْطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ. وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَلِسُقُفِ بُيُوتِنَا. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: هَلْ تَدْرِي مَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا؟ هُوَ أَنْ تُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ وَتَنْزِلَ مَكَانَهُ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ: فِي الصَّوَّاغِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَبِضَمِّهِ عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ: صَائِغٌ وَصَوَّاغٌ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَأَصْلُهُ عَمَلُ الصِّيَاغَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ التَّرْجَمَةِ لِهَذِهِ الصِّيَاغَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ فَيَكُونُ كَالنَّصِّ عَلَى جَوَازِهِ وَمَا عَدَاهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَرِوَايَةُ ابْنِ شِهَابٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ لِي شَارِفٌ) بِمُعْجَمَةٍ وَآخِرُهُ فَاءٌ وَزْنَ فَاعِلٍ: النَّاقَةُ الْمُسِنَّةُ.
قَوْلُهُ: (أَبْتَنِي بِفَاطِمَةَ) أَيْ: أَدْخُلُ بِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ مُعَامَلَةِ الصَّائِغِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ الْفَسَادِ فِي صَنْعَةٍ أَنْ تُتْرَكَ مُعَامَلَةُ صَاحِبِهَا وَلَوْ تَعَاطَاهَا أَرَاذِلُ النَّاسِ مَثَلًا، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ: أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ وَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَخَالِدٌ هُوَ الطَّحَّانُ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ. وَقَوْلُهُ: فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَقَالَ طَاوُسٌ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ إِلَخْ تَقَدَّمَ وَصْلُ هَذَيْنِ التَّعْلِيقَيْنِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَغَرَضُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ ذِكْرُ الصِّيَاغَةِ وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.
29 - بَاب ذِكْرِ الْقَيْنِ وَالْحَدَّادِ
2091 -
حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ. فَنَزَلَتْ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}
[الحديث 2091 - أطرافه في: 2275، 2425، 4732، 4733، 4734، 4735]
قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْقَيْنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ (وَالْحَدَّادِ) قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَصْلُ الْقَيْنِ الْحَدَّادُ ثُمَّ صَارَ كُلُّ صَائِغٍ عِنْدَ الْعَرَبِ قَيْنًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَيْنُ الَّذِي يُصْلِحُ الْأَسِنَّةَ، وَالْقَيْنُ أَيْضًا الْحَدَّادُ. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اعْتَمَدَ الْقَوْلَ الصَّائِرَ إِلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ إِلَّا ذِكْرُ الْقَيْنِ، وَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ الْحَدَّادَ بِهِ فِي التَّرْجَمَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ أَيْمَنَ: أَنَا قَيَّنْتُ عَائِشَةَ فَمَعْنَاهُ زَيَّنْتُهَا، قَالَ الْخَلِيلُ: التَّقْيِينُ التَّزْيِينُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْمُغَنِّيَةُ قَيْنَةً لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الزِّينَةَ.
30 - بَاب الْخَيَّاطِ
2092 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ.
[الحديث 2092 - أطرافه في: 5379، 5420، 5433، 5435، 5436، 5437، 5439]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَيَّاطِ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي أَحَادِيثِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِجَازَةِ. وَفِي الْخِيَاطَةِ مَعْنًى زَائِدٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ الْخَيْطُ مِنْ عِنْدِ الْخَيَّاطِ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا إِلَى الصَّنْعَةِ الْآلَةُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِذْ لَا تَتَمَيَّزُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى غَالِبًا، لَكِنَّ الشَّارِعَ أَقَرَّهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِرْفَاقِ وَاسْتَقَرَّ عَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَاطَةَ لَا تُنَافِي الْمُرُوءَةَ.
31 - بَاب النَّسَّاجِ
2093 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ - قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجةٌ فِي حَاشِيَتِهَا - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا، فَقَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَرفتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُا إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّسَّاجُ) بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلٍ فِي الْبُرْدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفى فِي بَابِ مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا أَيْ: وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا
فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: مُحْتَاجًا إِلَيْهَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ.
32 - بَاب النَّجَّارِ
2094 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَتَى رِجَالٌ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى فُلَانَةَ - امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ - أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ. فَأَمَرَتْهُ يَعْمَلُهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ.
2095 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا. قَالَ: إِنْ شِئْتِ، فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أن تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ. قَالَ: بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّجَّارُ) بِالنُّونِ وَالْجِيمِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ وَبِهِ تَرْجَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ بَقِيَّةِ التَّرَاجِمِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلٍ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْمِنْبَرِ.
وَحَدِيثَ جَابِرٍ فِي ذِكْرِ الْمِنْبَرِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِمَا فِي كِتَابِ الْجُمْعَةِ. وَقَوْلُهُ: فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: الَّذِي يُسَكِّتُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ صَرَّحَ وَكِيعٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ.
33 - بَاب شِرَاءِ الْإِمَامِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: اشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَلًا مِنْ عُمَرَ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَاةً. وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا.
2096 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا نَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ الْإِمَامِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِلْبَاقِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ: شِرَاءُ الْحَوَائِجِ بِنَفْسِهِ أَيِ: الرَّجُلُ. وَفَائِدَةُ التَّرْجَمَةِ رَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ: اشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَلًا مِنْ عُمَرَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِنَفْسِهِ) هَذَا التَّعْلِيقُ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: الصِّدِّيقُ (جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ) الْحَدِيثُ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ يَأْتِي مَوْصُولًا فِي آخِرِ الْبُيُوعِ فِي بَابِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُبَاشَرَةُ الْكَبِيرِ وَالشَّرِيفِ شِرَاءَ الْحَوَائِجِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ تَعْلِيمًا وَتَشْرِيعًا، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ مِنَ الْيَهُودِيِّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الرَّهْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
34 - بَاب شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحميرِ
وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلًا وَهُوَ عَلَيْهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ؟ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. يَعْنِي جَمَلًا صَعْبًا
2097 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جَابِرٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا فَتَخَلَّفْتُ. فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ. ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُه، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ. قَالَ: أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ. ثُمَّ قَالَ: أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلِي وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: آلْآنَ قَدِمْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْ جَمَلَكَ فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ. فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِي بِلَالٌ فَأَرْجَحَ فِي الْمِيزَانِ. فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ. فَقَالَ: ادْعُوا لِي جَابِرًا. قُلْتُ الْآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، قَالَ: خُذْ جَمَلَكَ، وَلَكَ ثَمَنُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحَمِيرِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: الْحُمُرِ بِضَمَّتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ ذِكْرٌ لِلْحُمُرِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى إِلْحَاقِهَا فِي الْحُكْمِ بِالْإِبِلِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَيِ الْبَابِ إِنَّمَا فِيهِمَا ذِكْرُ بَعِيرٍ وَجَمَلٍ، وَلَا اخْتِصَاصَ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِدَابَّةٍ دُونَ دَابَّةٍ فَهَذَا وَجْهُ التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلًا وَهُوَ) أَيِ: الْبَائِعُ (عَلَيْهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا)
يَعْنِي: أَوْ يُشْتَرَطُ فِي الْقَبْضِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ سَيَأْتِي شَرْحُهَا قَرِيبًا فِي بَابٌ: إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بِعْنِيهِ يَعْنِي: جَمَلًا صَعْبًا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ بَيْعِ جَمَلِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفى فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُقَالُ: إِنَّ الْغَزْوَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا هِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: يَحْجُنُهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَطْعَنُهُ وَقَوْلُهُ: أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا بِالنَّصْبِ فِيهِمَا بِتَقْدِيرِ أَتَزَوَّجْتَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ أَهِيَ.
35 - بَاب الْأَسْوَاقِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ
2098 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَسْوَاقِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِقْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ مَوَاضِعَ الْمَعَاصِي وَأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ فِيهَا، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ وَأَنَّ شَرْحَهُ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
36 - بَاب شِرَاءِ الْإِبِلِ الْهِيمِ أَوْ الْأَجْرَبِ.
الْهَائِمُ: الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
2099 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: كَانَ هَا هُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فَاشْتَرَى تِلْكَ الْإِبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الْإِبِلَ. فَقَالَ: مِمَّنْ بِعْتَهَا؟ فقَالَ: مِنْ شَيْخٍ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ وَاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِي بَاعَكَ إِبِلًا هِيمًا وَلَمْ يَعْرِفْكَ. قَالَ: فَاسْتَقْهَا. قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا فَقَالَ: دَعْهَا، رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا عَدْوَى سَمِعَ سُفْيَانُ، عَمْرًا.
[الحديث 2099 - أطرافه في: 2858، 5093، 5094، 5753، 5772]
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ الْإِبِلِ الْهِيمِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ جَمْعُ أَهْيَمَ لِلْمُذَكَّرِ وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى: هَيْمَى.
قَوْلُهُ: (أَوِ الْأَجْرَبِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: وَالْأَجْرَبِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجَمْعِ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ هُنَا هُوَ الْإِبِلُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ صَالِحٌ لِلْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: شِرَاءُ الْإِبِلِ الْهِيمِ وَشِرَاءُ الْإِبِلِ الْجُرْبِ.
قَوْلُهُ: (الْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ الْهَائِمُ وَاحِدَ الْهِيمِ، وَمَا أَدْرِي لِمَ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْهَائِمَ هُنَا اهـ. وَقَدْ أَثْبَتَ غَيْرُهُ مَا نَفَاهُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْهِيمُ جَمْعُ أَهْيَمَ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هَائِمٌ ثُمَّ يَجْمَعُونَهُ عَلَى هِيمٍ كَمَا قَالُوا: غَائِطٌ وَغِيطٌ، قَالَ: وَالْإِبِلُ الْهِيمُ الَّتِي أَصَابَهَا الْهُيَامُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا دَاءٌ تَصِيرُ مِنْهُ عَطْشَى تَشْرَبُ فَلَا تُرْوَى. وَقِيلَ: الْإِبِلُ الْهِيمُ الْمَطْلِيَّةُ بِالْقَطِرَانِ مِنَ الْجَرَبِ فَتَصِيرُ عَطْشَى مِنْ حَرَارَةِ الْجَرَبِ، وَقِيلَ: هُوَ دَاءٌ يَنْشَأُ عَنْهُ الْجَرَبُ. ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قَالَ: الْإِبِلُ الْعِطَاشُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ هِيَ
الْإِبِلُ يَأْخُذُهَا الْعَطَشُ فَتَشْرَبُ حَتَّى تَهْلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: سَمِعَ سُفْيَانُ، عَمْرًا هُوَ مَقُولُ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو بِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ هَهُنَا) أَيْ: بِمَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (اسْمُهُ نَوَّاسٌ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْقَابِسِيُّ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِزِيَادَةِ يَاءِ النَّسَبِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ شَرِيكٍ لَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (إِبِلًا هِيمًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، هِيَامًا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَعْرِفْكَ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْرِيفِ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَقِهَا) بِالْمُهْمَلَةِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الِاسْتِيَاقِ، وَالْقَائِلُ ابْنُ عُمَرَ وَالْمَقُولُ لَهُ نَوَّاسٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: قَالَ فَاسْتَقِهَا إِذًا أَيْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَارْتَجِعْهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: دَعْهَا) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَكَأَنَّ نَوَّاسًا أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَاسْتَدْرَكَ ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ: دَعْهَا.
قَوْلُهُ: (رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: رَضِيتُ بِحُكْمِهِ حَيْثُ حَكَمَ أَلَّا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ التِّينِ يَصِيرُ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَعَلَى الَّذِي اخْتَرْتُهُ جَرَى الْحَمِيدِيُّ فِي جَمْعِهِ، فَأَوْرَدَ هَذِهِ الطَّرِيقَ عَقِبَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، وَحَمْزَةَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِمَا مَرْفُوعًا: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ كَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ بَيْعِ الشَّيْءِ الْمَعِيبِ إِذَا بَيَّنَهُ الْبَائِعُ وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ بَيَّنَهُ الْبَائِعُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، لَكِنْ إِذَا أَخَّرَ بَيَانَهُ عَنِ الْعَقْدِ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَفِيهِ اشْتِرَاءُ الْكَبِيرِ حَاجَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَتَوَقِّي ظُلْمِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قِصَّةً قَالَ: وَكَانَ نَوَّاسٌ يُجَالِسُ ابْنَ عُمَرَ وَكَانَ يُضْحِكُهُ، فَقَالَ يَوْمًا: وَدِدْتَ أَنَّ لِي أَبَا قُبَيْسٍ ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَمُوتُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (لَا عَدْوَى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْرِفُ لِلْعَدْوَى هُنَا مَعْنَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْهُيَامُ دَاءً مِنْ شَأْنِهِ أَنَّ مَنْ وَقَعَ بِهِ إِذَا رَعَى مَعَ الْإِبِلِ حَصَلَ لَهَا مِثْلُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَهَا مَعْنًى ظَاهِرٌ، أَيْ: رَضِيتُ بِهَذَا الْبَيْعِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْعَيْبِ وَلَا أُعَدِّي عَلَى الْبَائِعِ حَاكِمًا. وَاخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ التِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى النَّهْيُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْهِجْرِيُّ فِي النَّوَادِرِ: الْهُيَامُ دَاءٌ مِنْ أَدْوَاءِ الْإِبِلِ يَحْدُثُ عَنْ شُرْبِ الْمَاءِ النَّجْلِ إِذَا كَثُرَ طُحْلُبُهُ، وَمِنْ عَلَامَةِ حُدُوثِهِ إِقْبَالُ الْبَعِيرِ عَلَى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ، وَاسْتِمْرَارُهُ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَبَدَنُهُ يَنْقُصُ كَالذَّائِبِ، فَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُهُ اسْتِبَانَةَ أَمْرِهِ اسْتَبَانَ لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ رِيحَهُ مِثْلَ رِيحِ الْخَمِيرَةِ فَهُوَ أَهْيَمُ، فَمَنْ شَمَّ مِنْ بَوْلِهِ أَوْ بَعْرِهِ أَصَابَهُ الْهُيَامُ اهـ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي خَفِيَ عَلَى الْخَطَّابِيِّ وَأَبَدَاهُ احْتِمَالًا، وَبِهِ يَتَّضِحُ صِحَّةُ عِطْفِ الْبُخَارِيِّ الْأَجْرَبَ عَلَى الْهِيمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي دَعْوَى الْعَدْوَى، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَيَكُونُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَا عَدْوَى تَفْسِيرًا لِلْقَضَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ.
37 - بَاب بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا.
وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ
2100 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ.
[الحديث 2100 - أطرافه في: 3142، 4321، 4322، 7170]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا) أَيْ: هَلْ يُمْنَعُ أَمْ لَا؟
قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ) أَيْ: فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ مَا يَقَعُ مِنَ الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِهِ إِذْ ذَاكَ إِعَانَةً لِمَنِ اشْتَرَاهُ، وَهَذَا مَحَلُّهُ إِذَا اشْتَبَهَ الْحَالُ، فَأَمَّا إِذَا تَحَقَّقَ الْبَاغِي فَالْبَيْعُ لِلطَّائِفَةِ الَّتِي فِي جَانِبِهَا الْحَقُّ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا كُرِهَ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ، وَمِنْ ثَمَّ كَرِهَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بَيْعَ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى خِلَافِ الثَّوْرِيِّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: بِعْ حَلَالَكَ مِمَّنْ شِئْتَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَعُمْرُ بْنُ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ أَفْلَحَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيِّ عَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ أَوَّلُهُمْ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ فَبِعْتُ الدِّرْعَ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سلبه وَكَانَ الدِّرْعُ مِنْ سَلَبِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ تَعَسُّفٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ جَوَازَ بَيْعِ الدِّرْعِ فَذَكَرَ مَوْضِعَهُ مِنَ الْحَدِيثِ وَحَذَفَ سَائِرَهُ، وَكَذَا يَفْعَلُ كَثِيرًا. قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ بِمَدْفُوعٍ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ مُسْتَوْفى مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ مُطَابِقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبَابِ شَيْءٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا، فَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مُنَزَّلٌ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي وَهُوَ بَيْعُهُ فِي غَيْرِ الْفِتْنَةِ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ فِي شَرْحِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَمَّا قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّرْعَ وَيُعَوِّضَهُ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ; وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الْفِتْنَةِ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى تَعَسُّفُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَيْعِ أَبِي قَتَادَةَ الدِّرْعَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الدِّرْعَ فَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ الْبُسْتَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْفِتْنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ لِمَنْ لَا يُخْشَى مِنْهُ الضَّرَرُ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ بَاعَ دِرْعَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْقِتَالُ فِيهِ قَائِمًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ مِمَّنْ يُعِينُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ فِي زَمَنِ الْقِتَالِ لِمَنْ لَا يُخْشَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (مَخْرَفًا) بِالْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ وَالْفَاءِ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ هُوَ الْبُسْتَانُ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ الْوِعَاءُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الثِّمَارُ.
قَوْلُهُ: (بَنِي سَلَمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: (تَأَثَّلْتُهُ) بِالْمُثَلَّثَةِ قَبْلَ اللَّامِ أَيْ: جَمَعْتُهُ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَقَالَ الْقَزَّازُ جَعَلْتُهُ أَصْلَ مَالِي، وَأَثْلَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ.
38 - بَاب فِي الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ
2101 -
حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ: لَا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بيتك أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً.
[الحديث - 2101 - طرفه في 5534]
قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ) لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ سِوَى ذِكْرِ الْمِسْكِ، وَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَطَّارَ بِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَبُو بَرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ: (كَمِثْلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الذَّبَائِحِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ أَوْ لَا.
قَوْلُهُ: (وَكِيرِ الْحَدَّادِ) بِكَسْرِ الْكَافِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ وَحَقِيقَتُهُ الْبِنَاءُ الَّذِي يُرَكَّبُ عَلَيْهِ الزِّقُّ وَالزِّقُّ هُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الزِّقِّ اسْمَ الْكِيرِ مَجَازًا لِمُجَاوَرَتِهِ لَهُ، وَقِيلَ: الْكِيرُ هُوَ الزِّقُّ نَفْسُهُ وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَاسْمُهُ الْكُورُ.
قَوْلُهُ: (لَا يَعْدَمُكَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّالُ مِنَ الْعَدَمِ أَيْ: لَا يَعْدَمُكَ إِحْدَى الْخُصْلَتَيْنِ أَيْ: لَا يَعْدُوكَ، تَقُولُ: لَيْسَ يَعْدَمُنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ: لَيْسَ يَعْدُونِي، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْإِعْدَامِ أَيْ: لَا يَعْدَمُكَ صَاحِبُ الْمِسْكِ إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْإِحْذَاءَ - وَهُوَ الْإِعْطَاءُ - لَا يَتَعَيَّنُ بِخِلَافِ الرَّائِحَةِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْبَيْعُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ.
قَوْلُهُ: (وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحَرِّقُ بَيْتَكَ أَوْ ثَوْبَكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّقَ ثِيَابَكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ يُتَأَذَّى بِمُجَالَسَتِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبُ فِي مُجَالَسَةِ مِنْ يُنْتَفَعُ بِمُجَالَسَتِهِ فِيهِمَا، وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمِسْكِ وَالْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَدَحَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ انْقَرَضَ هَذَا الْخِلَافُ وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَلَمْ يُتَرْجِمِ الْمُصَنِّفُ لِلْحَدَّادِ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَالْعَمَلُ فِي الْحُكْمِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
39 - باب ذِكْرِ الْحَجَّامِ
2102 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْ خَرَاجِهِ.
[الحديث 2102 - أطرافه في: 2210، 2277، 2280، 2281، 5696]
2103 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ -، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْحَجَّامِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَصْوِيبًا لِصَنْعَةِ الْحِجَامَةِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثٌ يَخُصُّهَا، وَإِنْ كَانَ الْحَجَّامُ لَا يُظْلَمُ أَجْرَهُ، فَالنَّهْيُ عَلَى الصَّانِعِ لَا عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَرُورَةُ الْمُحْتَجِمِ إِلَى الْحِجَامَةِ وَعَدَمُ ضَرُورَةِ الْحَجَّامِ لِكَثْرَةِ الصَّنَائِعِ سِوَاهَا. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِالتَّصْوِيبِ التَّحْسِينَ وَالنَّدْبَ إِلَيْهَا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ أَرَادَ التَّجْوِيزَ فَلَا فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْتَعْمَلِ تَعَاطِيهَا لِلضَّرُورَةِ، وَمَنْ لَازَمَ تَعَاطِيَهَا لِلْمُسْتَعْمَلِ تَعَاطِيَ الصَّانِعِ لَهَا فَلَا فَرْقَ إِلَّا بِمَا أَشَرْتَ إِلَيْهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ الدَّنِيئَةِ أَنْ لَا تُشْرَعَ فَالْكَسَّاحُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَجَّامِ، وَلَوْ تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَسْبِ الْحَجَّامِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَنْ
حَدِيثَيِ الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
40 - بَاب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
2104 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه بِحُلَّةِ حَرِيرٍ - أَوْ سِيَرَاءَ - فَرَآهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا. يَعْنِي تَبِيعَهَا.
2105 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُل فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ.
[الحديث 2105 - أطرافه في 3224، 5181، 5957، 5961، 7557]
قَوْلُهُ: (بَابُ التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) أَيْ: إِذَا كَانَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ غَيْرُ مَنْ كُرِهَ لَهُ لُبْسُهُ، أَمَّا مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ شَرْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَصْلًا عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا يَعْنِي: تَبِيعَهَا. وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ لِتَكْسُوَهَا وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ هُنَا مِنْ جَوَازِ بَيْعِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ، وَالتِّجَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَخَصَّ مِنَ الْبَيْعِ لَكِنَّهَا جُزْؤُهُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لَهُ، وَأَمَّا مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ فِي التَّرْجَمَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَعُرِفَ بِهَذَا جَوَابُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ حَيْثُ ذُكِرَ فِيهَا النِّسَاءُ.
الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ النُّمْرُقَةِ الْمُصَوَّرَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى الَّذِي قَبْلَهُ مُسْتَوْفى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْسَخِ الْبَيْعَ فِي النُّمْرُقَةِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَكَّأَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ يَشْتَرِكُ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي التَّرْجَمَةِ إِشْعَارٌ بِحَمْلِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَشْتَرِكَ فِي ذَلِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْمَنْعُ مِنَ النُّمْرُقَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ التَّرْجَمَةِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِهَا.
41 - بَاب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ
2106 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ. وَفِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ: ذِكْرُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ لِلثَّمَنِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَ السِّلْعَةِ مِنْ مَالِكٍ أَوْ وَكَيْلٍ أَوْلَى بِالسَّوْمِ مِنْ طَالِبِ شِرَائِهَا. قُلْتُ: لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ جَمَلِ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَهُ بِقَوْلِهِ: بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (ثَامِنُونِي) بِمُثَلَّثَةٍ عَلَى وَزْنِ فَاعِلُونِي، وَهُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِذِكْرِ الثَّمَنِ مُعَيَّنًا بِاخْتِيَارِهِمْ عَلَى سَبِيلِ السَّوْمِ لِيَذْكُرَ هُوَ لَهُمْ ثَمَنًا مُعَيَّنًا يَخْتَارُهُ ثُمَّ يَقَعُ التَّرَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ ثَامِنُونِي، أَيْ: بَايِعُونِي بِالثَّمَنِ أَيْ: وَلَا آخُذُهُ هِبَةً، قَالَ: فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِي يَبْدَأُ بِذِكْرِ الثَّمَنِ،. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الثَّمَنِ مُعَيَّنًا، وَأَمَّا مُطْلَقُ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
42 - بَاب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ؟
2107 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا. قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ.
[الحديث 2107 - أطرافه في: 2109، 2111، 2112، 02113، 2116]
2108 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ قَالَ قَالَ هَمَّامٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي التَّيَّاحِ فَقَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي الْخَلِيلِ لَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ) وَالْخِيَارُ بِكَسْرِ الْخَاءِ اسْمٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ طَلَبُ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ، وَهُوَ خِيَارَانِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ خِيَارَ النَّقِيصَةِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي الشَّرْطِ فَلَا يُزَادُ. وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ بَيَانٌ لِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ أَخَذَ مِنْ عَدَمِ تَحْدِيدِهِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ، بَلْ يُفَوَّضُ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى الْحَاجَةِ لِتَفَاوُتِ السِّلَعِ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلْقَمَةَ الْغَرَوِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَهَذَا كَأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ فِي قِصَّةِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَسَأَذْكُرُهُ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَبِهِ احْتُجَّ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ أَمَدَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ التَّوْقِيتَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْغَالِبِ يُمْكِنُ الِاخْتِيَارُ فِيهَا، لَكِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ أَمَدٌ بِحَسَبِهِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ،
فَلِلدَّابَّةِ مَثَلًا وَالثَّوْبِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ وَلِلْجَارِيَةِ جُمُعَةٌ وَلِلدَّارِ شَهْرٌ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَمْتَدُّ الْخِيَارُ شَهْرًا وَأَكْثَرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَخْتَصُّ الْخِيَارُ بِالْمُشْتَرِي وَيَمْتَدُّ لَهُ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ انْفَرَدَ بِذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ بِامْتِدَادِ الْخِيَارِ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهُ فِي أَبْوَابِ الْمُلَازَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ: كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ أَيْ: كَمْ يُخَيِّرُ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْآخَرَ مَرَّةً. وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ زِيَادَةِ هَمَّامٍ: وَيَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةً أَبْقَى التَّرْجَمَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ كَعَادَتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ الثَّقَفِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: إِنَّ الْمُتَبَايِعَانِ قَالَ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ الْبَيِّعَانِ بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَالْبَيِّعُ بِمَعْنَى الْبَائِعِ كَضَيِّقٍ وَضَائِقٍ وَصَيِّنٍ وَصَائِنٍ وَلَيْسَ كَبَيِّنٍ وَبَائِنٍ، فَإِنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ كَقَيِّمٍ وَقَائِمٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْبَيِّعِ فِي الْمُشْتَرِي إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ أَوْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَائِعٌ.
قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ يَفْتَرِقَا بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ، وَنَقَلَ ثَعْلَبٌ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ افْتَرَقَا بِالْكَلَامِ وَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ، وَرَدَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ لَا أَنَّهُ بِالِاعْتِقَادِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ لَازِمِهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ آخَرَ فِي عَقِيدَتِهِ كَانَ مُسْتَدْعِيًا لِمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُ بِبَدَنِهِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْحَقُّ حَمْلُ كَلَامِ الْمفَضْلِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ اتِّسَاعًا.
قَوْلُهُ: (أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا) سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ. . . إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ ب الْأَبْدَانِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي الْحَدِيثِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْخَلِيلِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) هُوَ أَبُو نَوْفَلِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يُنْسَبْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَبَا الْخَلِيلِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِهِ فَحَنَّكَهُ، وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَتَادَةُ وَشَيْخُهُ تَابِعِيَّانِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٌ آخَرُ عَنِ الْعَبَّاسِ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ) أَيِ: ابْنُ أَسَدٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّارِمِيِّ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ بَهْزٍ بِهِ وَلَمْ أَرَهَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَحْمَدُ الْمَذْكُورُ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هَمَّامٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ بِأَوْضَحَ مِنْ سِيَاقِهِ. وَفِي صَنِيعِ هَمَّامٍ فَائِدَةُ طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي الْخَلِيلِ فِي إِسْنَادِهِ الْأَوَّلِ رَجُلَيْنِ وَفِي الثَّانِي رَجُلٌ وَاحِدٌ.
43 - باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟
2109 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا لَمْ يُوَقِّتِ الْخِيَارَ) أَيْ: إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي وَقْتًا لِلْخِيَارِ وَأَطْلَقَاهُ (هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ) وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْخِلَافِ الْمَاضِي فِي حَدِّ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا أَمَدَ لِمُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ بَلِ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ لَازِمٌ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَشْتَرِطَانِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، فَإِنْ شَرَطَا أَوْ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ مُطْلَقًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْي: يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ لِلَّذِي شَرَطَ الْخِيَارَ أَبَدًا.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي يَقُولُ، وَفِي إِثْبَاتِهَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَلَعَلَّ الضَّمَّةَ أُشْبِعَتْ كَمَا أُشْبِعَتِ الْيَاءُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ فَيُقْرَأَ حِينَئِذٍ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخَهُ فَاخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ مَثَلًا أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَآخَرُونَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ أَيْ: أَنْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ مُطْلَقًا فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
44 - بَاب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا،
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
2110 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَنِي عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.
2111 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ) أَيْ: بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ صَنِيعِهِ الَّذِي مَضَى قَبْلَ بَابٍ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا ابْتَاعَ بَيْعًا وَهُوَ قَاعِدٌ قَامَ لِيَجِبَ لَهُ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَاعَ انْصَرَفَ لِيَجِبَ لَهُ الْبَيْعُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ إِذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيْهَةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ وَسَيَأْتِي صَنِيعُ ابْنِ عُمَرَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بَعْدَ بَابَيْنِ،
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا فَأَخْرَجَ ثَمَنَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ بَعِيرِهِ وَبَيْنَ الثَّمَنِ.
قَوْلُهُ: (وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ) أَيْ: قَالَا بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا وَصَلَه سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ أَنَّهُ شَهِدَ شُرَيْحًا وَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَأَوْجَبَهَا لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي بَيْعِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهَا فَقَالَ لِي: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا. فَقَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُكَ فَأَوْجَبْتُ لَكَ. فَاخْتَصَمَا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ: هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَشَهِدْتُ الشَّعْبِيَّ قَضَى بِذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَعَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أُتِيَ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بِرْذَوْنًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَقَضَى الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو الضُّحَى أَنَّ شُرَيْحًا أُتِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَرَجَعَ الشَّعْبِيُّ إِلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ.
قَوْلُهُ: (وَطَاوُسٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَحْلِفُ مَا الْخِيَارُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ.
قَوْلُهُ: (وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) وَصَلَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَطَاءٍ قَالَا: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا عَنْ رِضًا. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلَ بِهِ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمْ، وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنَ التَّابِعِينَ إِلَّا النَّخَعِيَّ وَحْدَهُ وَرِوَايَةً مَكْذُوبَةً عَنْ شُرَيْحٍ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِأَجْلِ حَجَّاجٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَلَعَلَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ. قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتُهُ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَلَمْ أَرَهُ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ حَبَّانَ، فَقَوَّى مَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ رحمه الله، ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا نُعَيْمٍ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَبَّانَ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَبَّانَ بْنَ هِلَالٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثَقِيلَةٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ هَمَّامٍ بَدَلَ شُعْبَةَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ حَبَّانَ عَنْ شَيْخَيْنِ حَدَّثَاهُ بِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ بَابٍ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَا لَمْ يُفَارِقْهُ صَاحِبُهُ فَإِنْ فَارَقَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ هَلْ لِلتَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ؟ وَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعُرْفِ، فَكُلُّ مَا عُدَّ فِي الْعُرْفِ تَفَرُّقًا حُكِمَ بِهِ وَمَا لَا فَلَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا) أَيْ: صَدَقَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِ الْمُشْتَرِي مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ فِي السِّلْعَةِ، وَصَدَقَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ فِي الثَّمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا تَأْكِيدٌ لِلْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ شُؤْمَ التَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ فَمَحَقَ بَرَكَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِقُ مَأْجُورًا وَالْكَاذِبُ مَأْزُورًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّدْلِيسُ، وَالْعَيْبُ دُونَ الْآخَرِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الصِّدْقِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ وَذَمُّ الْكَذِبِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِذَهَابِ الْبَرَكَةِ، وَأَنَّ عَمَلَ الْآخِرَةِ يُحَصِّلُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ) أَيْ: فَلَا
يَحْتَاجُ إِلَى التَّفَرُّقِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَصْرِ لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَجَبَتِ الصَّفْقَةُ فَلَا خِيَارَ وَبِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَّا ابْنَ حَبِيبٍ وَالْحَنَفِيَّةَ كُلَّهُمْ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا إِلَّا إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَقَدْ ذَهَبُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ فَرْقًا: فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ وَلَكِنْ أَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَالْخِيَارُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، وَبِحَدِيثِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
وَالْإِشْهَادُ إِنْ وَقَعَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُطَابِقِ الْأَمْرَ، وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُصَارُ مَعَهُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقَدْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَالرَّاوِي إِذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَى دَلَّ عَلَى وَهْنِ الْمَرْوِيِّ عِنْدَهُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ وَعَمِلَ بِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا رِوَايَةً وَعَمَلًا، وَقَدْ خَصَّ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْأُصُولِ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ - فِيمَا إِذَا عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى - بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَا جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَمِنْ قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الرَّاوِيَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ وَكَانَ يُفَارِقُ إِذَا بَاعَ بِبَدَنِهِ فَاتِّبَاعُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مُعَارَضٌ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ أَشْهَبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ الزُّهْرِيُّ، ثُمَّ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ كَمَا مَضَى، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْصَارِهِمْ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ سِوَى عَنْ رَبِيعَةَ.
وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْقَوْلَ بِخِلَافِهِ، فَقَدْ سَبَقَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَالِكًا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لِكَوْنِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ لِأَنَّ وَقْتَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْغَرَرِ كَالْمُلَامَسَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَا يَحُدُّهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَرَرِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْغَرَرَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعْدُومٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ فَلَا غَرَرَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا ادَّعَوْا نَظِيرَ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِيجَابِ الْوِتْرِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي إِلْحَاقِ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِمَا بَعْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَحْسِينًا لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْحَدِيثِ التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعِتْقِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْقَلُ فِيهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَمَنْفَعَتُهُ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: سَوَاءٌ قُلْنَا التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ أَوْ بِالْأَبْدَانِ فَإِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ، أَمَّا حَيْثُ
قُلْنَا: التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ فَوَاضِحٌ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْكَلَامِ فَوَاضِحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَثَلًا بِعْتُكَهُ بِعَشْرَةٍ وَقَوْلَ الْآخَرِ بَلْ بِعِشْرِينَ مَثَلًا افْتِرَاقٌ فِي الْكَلَامِ بِلَا شَكٍّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْتُهُ بِعَشْرَةٍ فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ مُتَوَافِقَانِ فَيَتَعَيَّنُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُمَا حِينَ يَتَّفِقَانِ لَا حِينَ يَتَفَرَّقَانِ وَهُوَ الْمُدَّعَى. وقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَسَاوِمَانِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا أَوْلَى.
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ اسْتُعْمِلَ فِيهَا الْمَجَازُ، وَقَالَ: مَنْ أَنْكَرَ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْبَائِعِ فِي السَّائِمِ فَقَدْ غَفَلَ عَنِ اتِّسَاعِ اللُّغَةِ: وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي مَوْضِعٍ طَرْدُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَالْأَصْلُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: وَقْتُ التَّفَرُّقِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَا بَيْنَ قَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ. قَالُوا: فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ أَوْ تَرْكِهِ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ يُوجِبَ الْمُشْتَرِي، وَهَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْقَبُولَ يَتَعَذَّرُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ مَجَازٌ أَيْضًا، فَأُجِيبَ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ مَجَازٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةٌ وَفِيمَا عَدَاهُ مَجَازٌ، فَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لَكَانَ لِغَيْرِ الْبَيِّعَيْنِ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ فَتَعَيَّنَ حَمْلُ التَّفَرُّقِ عَلَى الْكَلَامِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُجَازَانِ فَالْأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا فَالْمُتَبَايِعَانِ لَا يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً إِلَّا فِي حِينِ تَعَاقُدِهِمَا، لَكِنَّ عَقْدَهُمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوِ التَّفَرُّقِ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فَصَحَّ أَنَّهُمَا مُتَعَاقِدَانِ مَا دَامَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا تَسْمِيَتُهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةٌ بِخِلَافِ حَمْلِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ فَإِنَّهُ مَجَازٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: التَّفَرُّقُ يَقَعُ بِالْأَقْوَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُفْضِي إِلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَنْ نَفَى خِيَارَ الْمَجْلِسِ ارْتَكَبَ مُجَازَيْنِ بِحَمْلِهِ التَّفَرُّقَ عَلَى الْأَقْوَالِ وَحَمْلِهِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ، وَأَيْضًا فَكَلَامُ الشَّارِعِ يُصَانُ عَنِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ إِنْ شَاءَا عَقَدَا الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَا لَمْ يَعْقِدَاهُ. وَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْكَلَامِ: مَا هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّفَرُّقُ، أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْعَقْدُ أَمْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَمَا هُوَ، فَلَيْسَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَلَامٌ غَيْرُهُ؟ وَإِنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَتَمَّ بَيْعُهُمَا بِهِ هُوَ الْكَلَامَ الَّذِي افْتَرَقَا بِهِ وَانْفَسَخَ بَيْعُهُمَا بِهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ، وَبَيَانُ تَعَذُّرِهِ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِنِ اتَّفَقَا فِي الْفَسْخِ أَوِ الْإِمْضَاءِ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ خِيَارٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ جَمْعٌ بَيْنَ النِّقْضَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ، وَأَمَّا الْإِمْضَاءُ فَلَا احْتِيَاجَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْحَالُ يُفْضِي إِلَيْهِ مَعَ السُّكُوتِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَاهِرُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُخَالِفٌ لِأَوَّلِ الْحَدِيثِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ تَأَوَّلُوا الِاسْتِقَالَةَ فِيهِ عَلَى الْفَسْخِ تَأَوَّلْنَا الْخِيَارَ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ التَّأْوِيلَانِ فُزِعَ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالْقِيَاسُ فِي جَانِبِنَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِقَالَةِ عَلَى الْفَسْخِ أَوْضَحُ مِنْ حَمْلِ الْخِيَارِ عَلَى الِاسْتِقَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ
الِاسْتِقَالَةِ لَمْ تَمْنَعْهُ مِنَ الْمُفَارَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَدْ أَثْبَتَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ الْخِيَارَ وَمَدَّهُ إِلَى غَايَةِ التَّفَرُّقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِقَالَةِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْفَسْخِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اسْتَقَلْتُ مَا فَاتَ عَنِّي إِذَا اسْتَدْرَكَهُ، فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِقَالَةِ فَسْخُ النَّادِمِ مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ.
وَحَمَلُوا نَفْيَ الْحِلِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَةِ الْمُسْلِمِ، إِلَّا أَنَّ اخْتِيَارَ الْفَسْخِ حَرَامٌ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ لِكَوْنِ الِاسْتِقَالَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ، وَصِحَّةُ انْتِقَالِ الْمِلْكِ تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِ التَّفَرُّقِ عَلَى الْقَوْلِ إِبَاحَةُ الْمُفَارَقَةِ، خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَمْ يَخْشَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَكَيْفَ يُثْبِتُ الْعَقْدُ مَا يُبْطِلُهُ؟ وَتُعُقِّبَ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَبِالْمُعَارَضَةِ بِنَظِيرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّقْدَ وَتَرْكَ الْأَجَلِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّرْفِ، وَهُوَ يُفْسِدُ السَّلَمَ عِنْدَهُمْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ فِي قِصَّةِ الْبَكْرِ الصَّعْبِ، وَسَيَأْتِي تَوَجُّهُهُ وَجَوَابُهُ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: مَا أَدْرَكْتَ الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: هُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يَنْقُلْهُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنْ كَانَ غَائِبًا غِيبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ فِيهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَيْعِ الَّذِي انْبَرَمَ لَا عَلَى مَا لَمْ يَنْبَرِمْ جَمْعًا بَيْنَ كَلَامَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَيْ: حَتَّى يَتَوَافَقَا يُقَالُ لِلْقَوْمِ: عَلَى مَاذَا تَفَارَقْتُمْ؟ أَيْ: عَلَى مَاذَا اتَّفَقْتُمْ؟ وَتُعُقِّبَ بِمَا وَرَدَ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي طَرِيقِ اللَّيْثِ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَدِيثُ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَهُوَ مُضْطَرِبٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَلْفَاظِهِ مُمْكِنٌ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَعَسُّفٍ فَلَا يَضُرُّهُ الِاخْتِلَافُ، وَشَرْطُ الْمُضْطَرِبِ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخِيَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ، فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ خِيَارُ الشِّرَاءِ أَوْ خِيَارُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يُطْلِقُ الْخِيَارَ إِرَادَةَ خِيَارِ الْفَسْخِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ الَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَعَاقِدَانِ فَبَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَا خِيَارَ فِي الشِّرَاءِ وَلَا فِي الثَّمَنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ لِرَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَأَكْثَرُهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الِاصْطِلَامِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: الْبَيْعُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِوَصْفٍ وَحُكْمٍ، فَوَصْفُهُ اللُّزُومُ وَحُكْمُهُ الْمِلْكُ، وَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَتِمَّ بِوَصْفِهِ وَحُكْمِهِ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَفْتَرِقَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إِذَا تَمَّ يُفِيدُ حُكْمَهُ، وَلَا يَنْتَفِي إِلَّا بِعَارِضٍ وَمَنِ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ.
وَأَجَابَ أَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِلْإِيقَاعِ فِي النَّدَمِ، وَالنَّدَمُ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ فَأَثْبَتَ الشَّارِعُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ نَظَرًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لِيَسْلَمَا مِنَ النَّدَمِ، وَدَلِيلُهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ وَخِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَنَا. قَالَ: وَلَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ بِوَصْفِهِ وَحُكْمِهِ لَمَا شُرِعَتِ الْإِقَالَةُ، لَكِنَّهَا شُرِعَتْ نَظَرًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِلَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ لِاسْتِدْرَاكِ نَدَمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا فَلَمْ تَجِبْ، وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ شُرِعَ لِاسْتِدْرَاكِ نَدَمٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَوَجَبَ.
45 - بَاب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ
2112 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ) أَيْ: وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ (فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَيْ: فَيَنْقَطِعُ الْخِيَارُ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَا جَمِيعًا تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَيْ: فَيَنْقَطِعُ الْخِيَارُ، وَقَوْلُهُ: فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ: وَبَطَلَ الْخِيَارُ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ أَيْ: لَمْ يَفْسَخْهُ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ: بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا فِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَوْضَحُ شَيْءٍ فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِكُلِّ تَأْوِيلٍ مُخَالِفٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، فِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ التَّفَرُّقَ بِالْبَدَنِ هُوَ الْقَاطِعُ لِلْخِيَارِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ التَّفَرُّقَ بِالْقَوْلِ لَخَلَا الْحَدِيثُ عَنْ فَائِدَةٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَقْدَمَ الدَّاوُدِيُّ عَلَى رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّيْثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَكَانَا جَمِيعًا إِلَخْ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ؛ لِأَنَّ مَقَامَ اللَّيْثِ فِي نَافِعٍ لَيْسَ كَمَقَامِ مَالِكٍ وَنَظَرَاتِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ رَدٌّ لِمَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ثُبُوتِهِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وَأَيُّ لَوْمٍ عَلَى مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ مُفَسِّرًا لِأَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ حَافِظًا مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُ مَعَ وُقُوعِ تَعَدُّدِ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ شَيْخَهُمْ حَدَّثَهُمْ بِهِ تَارَةً مُفَسَّرًا وَتَارَةً مُخْتَصَرًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ: إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَبِهِ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ امْتِدَادِ الْخِيَارِ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا إِنِ اخْتَارَا إِمْضَاءَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَزِمَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ وَبَطَلَ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ، فَالتَّقْدِيرُ إِلَّا الْبَيْعَ الَّذِي جَرَى فِيهِ التَّخَايُرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَرْجِيحِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَأَبْطَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا سِوَاهُ وَغَلَّطُوا قَائِلَهُ. انْتَهَى.
وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا فِي تَرْجِيحِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنِ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ بِالتَّفَرُّقِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يُفَرِّقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَيْ: فَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَلَا يَنْقَضِي الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ بَلْ يَبْقَى حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ فِي الْإِضْمَارِ، وَتُعَيِّنُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ - قِيلَ: هُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ وَقِيلَ: غَيْرُهُ - عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالْمَعْنَى أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَخْتَارُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَيَنْتَفِي الْخِيَارُ.
وَهَذَا أَضْعَفُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعَ خِيَارٍ أَيْ: هُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ يَتَخَايَرَا، وَلَوْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ التَّأْوِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ أَوْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ إِنْ حَمَلْنَا أَوْ عَلَى التَّقْسِيمِ لَا عَلَى الشَّكِّ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ مِنْ يُخَيِّرْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَيَحْتَمِلُ نَصْبَ الرَّاءِ عَلَى أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ.
46 - بَاب إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟
2113 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ.
2114 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا. قَالَ هَمَّامٌ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي: يَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ) كَأَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ حَصَرَ الْخِيَارَ فِي الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (كُلُّ بَيِّعَيْنِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا) أَيْ: لَازِمٌ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَتَفَرَّقَا) أَيْ: فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ بِالتَّفَرُّقِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ) أَيْ: فَيَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَظَاهِرُهُ حَصْرُ لُزُومِ الْبَيْعِ فِي التَّفَرُّقِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ لَازِمًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَحَبَّانُ هُوَ ابْنُ هِلَالٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَتَفَرَّقَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
قَوْلُهُ: (قَامَ هَمَّامٌ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ) أَشَارَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَنَّ هَمَّامًا تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ قَتَادَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي الْخِيَارُ ثَلَاثُ مِرَارٍ وَلَمْ يُصَرِّحْ هَمَّامٌ بِمَنْ حَدَّثَهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ فَهِيَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ، فَذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا هَمَّامٌ) الْقَائِلُ هُوَ حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْقَائِلُ هُوَ حَبَّانُ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: قَالَ هَمَّامٌ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: قَالَ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ فِي الْمُذَاكَرَةِ، وَحَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَمِعَ مِنْهُ فِي مَقَامِ التَّحْدِيثِ اهـ. وَفِي جَزْمِهِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ حَيْثُ سَاقَهُ بِالْإِسْنَادِ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا، وَحَيْثُ ذَكَرَ كَلَامَ هَمَّامٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ.
47 - بَاب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا،
وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا، ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ
2115 -
وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ. قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ.
[الحديث 2115 - طرفاه في: 2610 - 2611]
2116 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ "
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي) أَيْ: هَلْ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَفِيهِ قِصَّتُهُ مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ بَيِّنٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَصَرَّفَ فِي الْبَكْرِ بِنَفْسِ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَسْلَفَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ يَعْنِي: أَنَّ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا تَمَّتْ بِإِمْضَاءِ الْبَائِعِ وَهُوَ سُكُوتُهُ الْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا تَعَسُّفٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَلَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ وَهَبَ مَا فِيهِ لِأَحَدٍ خِيَارٌ وَلَا إِنْكَارَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ مُبَيِّنًا اهـ.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَارَقَ عُمَرَ بِأَنْ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ مَثَلًا ثُمَّ وَهَبَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ، وَلَا مَا يَنْفِيهِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْعَيْنِيَّةِ فِي إِبْطَالِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ مِنْ إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى حَدِيثِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فَحَدِيثُ الْبَيِّعَانِ قَاضٍ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى بِالْبَيَانِ السَّابِقِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ كَمَا فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْهِبَةِ وَالْعِتْقِ أَنَّهُ بَيْعٌ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَرْضَ: فَالَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ بِالْكَلَامِ دُونَ اشْتِرَاطِ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَرَى التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ لَا يُجِيزُونَهُ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ اهـ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِطْلَاقِ، بَلْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَبِيعَاتِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا الطَّعَامَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْلَ قَبْضِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
ثَانِيهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الدُّورَ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
ثَالِثُهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
رَابِعُهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِعْتَاقِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ، وَيَصِيرُ قَبْضًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ بِأَنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا وَلَمْ يَدْفَعْ أَمْ لَا، وَالْأَصَحُّ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا صِحَّتُهُ، وَفِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ حُجَّةٌ لِمُقَابِلِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ قَبْلَ الْهِبَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَغَوِيِّ قَالَ: إِذَا أَذِنَ الْمُشْتَرِي لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ كَفَى وَتَمَّ الْبَيْعُ وَحَصَلَتِ الْهِبَةُ بَعْدَهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اتِّحَادُ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ رَاكِبَ الْبَعِيرِ حِينَئِذٍ، وَقَدِ احْتُجَّ بِهِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي بَابِ شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ إِذَا اشْتَرَى دَابَّةً وَهُوَ عَلَيْهَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا؟ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ فِي الدُّورِ وَالْأَرَاضِيِ وَمَا أَشْبَهَهَا دُونَ الْمَنْقُولَاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْزِمِ الْبُخَارِيُّ بِالْحُكْمِ، بَلْ أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مَوْرِدَ الِاسْتِفْهَامِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِالْبَيْعِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ: هُوَ لَكَ أَيْ: هِبَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا.
قُلْتُ: وَفِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَاشْتَرَاهُ وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ بَيْعٌ، وَكَوْنُ الثَّمَنِ لَمْ يُذْكَرْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً مَعَ التَّصْرِيحِ بِالشِّرَاءِ، وَكَمَا لَمْ يَذْكُرِ الثَّمَنَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ الْمُشْتَرَطُ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاقَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا سَاقَهُ أَوَّلًا، وَسَوْقُهُ قَبْضٌ لَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
قَوْلُهُ: (أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) جَعَلَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَةَ الْهِبَةِ أَصْلًا أَلْحَقَ بِهَا مَسْأَلَةَ الْعِتْقِ لِوُجُودِ النَّصِّ فِي مَسْأَلَةِ الْهِبَةِ دُونَ الْعِتْقِ، وَالشَّافِعِيَّةُ نَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى فِي أَنَّ لِلْعِتْقِ قُوَّةً وَسِرَايَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَمَنْ أَلْحَقَ بِهِ مِنْهُمُ الْهِبَةَ قَالَ: إِنَّ الْعِتْقَ إِتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ وَالْإِتْلَافُ قَبْضٌ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا، ثُمَّ بَاعَهَا وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ، وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِذَا بِعْتَ شَيْئًا عَلَى الرِّضَا فَإِنَّ الْخِيَارَ لَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا عَنْ رِضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ قَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَجَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ بِأَنَّهُ عَلَّقَهُ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ وَفِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ فِي الْهِبَةِ مَوْصُولًا.
قَوْلُهُ: (فِي سَفَرٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى بَكْرٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ: وَلَدُ النَّاقَةِ أَوَّلَ مَا يُرْكَبُ.
قَوْلُهُ: (صَعْبٍ) أَيْ: نَفُورٌ.
قَوْلُهُ: (فَبَاعَهُ) زَادَ فِي الْهِبَةِ: فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيرِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ لَا يَتَقَدَّمُوهُ فِي الْمَشْيِ، وَفِيهِ جَوَازُ زَجْرِ الدَّوَابِّ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ عَرْضُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ بِسِلْعَتِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ فِي بَيْعِهَا، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ بَدَلِ الثَّمَنِ، وَمُرَاعَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ وَحِرْصُهُ عَلَى مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السُّرُورَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَنْجُوَيْهِ، وَالرَّمَادِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ رَوَاهُ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا أَنَّ أَبَا صَالِحٍ رَوَاهُ عَنِ اللَّيْثِ كَذَلِكَ، فَوَضَحَ أَنَّ لِلَّيْثِ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا) أَيْ: أَرْضًا أَوْ عَقَارًا.
قَوْلُهُ: (بِالْوَادِ) يَعْنِي: وَادِيَ الْقُرَى.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبَيَّ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ: فَطَفِقْتُ أَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيَّ الْقَهْقَرَى.
قَوْلُهُ: (يُرَادَّنِي) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَصْلُهُ يُرَادِدُنِي أَيْ: يَطْلُبُ مِنِّي اسْتِرْدَادَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا) يَعْنِي: أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَجِبَ لَهُ الْبَيْعُ وَلَا يَبْقَى لِعُثْمَانَ خِيَارٌ فِي فَسْخِهِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِقَوْلِهِ: وَكَانَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَأَمَّا فِي الزَّمَنِ الَّذِي فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ فَكَانَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ مَتْرُوكًا، فَلِذَلِكَ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ، هَكَذَا قَالَ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَتِ السُّنَّةُ مَا يَنْفِي اسْتِمْرَارَهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ: كُنَّا إِذَا تَبَايَعْنَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقِ الْمُتَبَايِعَانِ، فَتَبَايَعْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ لَهُ فَزَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: لَيْسَتِ السُّنَّةُ بِافْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ، قَدِ انْتَسَخَ ذَلِكَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ أَرَ لَهَا إِسْنَادًا، وَلَوْ صَحَّتْ لَمْ تُخَرَّجِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ
الصَّحَابَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الِافْتِرَاقَ بِالْأَبْدَانِ.
قَوْلُهُ: (سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ) أَيْ: زِدْتُ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْضِهِ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهِ عَلَى الْمَسَافَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْضِهِ الَّتِي بَاعَهَا بِثَلَاثِ لَيَالٍ.
قَوْلُهُ: (وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ) يَعْنِي: أَنَّهُ نَقَصَ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْضِي الَّتِي أَخَذَ بِهَا عَنِ الْمَسَافَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْضِي الَّتِي بِعْتُهَا بِثَلَاثِ لَيَالٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا بِهَا فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ الْغِبْطَةَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ: رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازُ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى الصِّفَةِ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهَا فِي بَابِ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ، وَجَوَازُ التَّحَيُّلِ فِي إِبْطَالِ الْخِيَارِ، وَتَقْدِيمُ الْمَرْءِ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْأَرْضِ بِالْأَرْضِ، وَفِيهِ أَنَّ الْغَبْنَ لَا يُرَدُّ بِهِ الْبَيْعُ.
48 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ
2117 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ.
[الحديث 2117 - أطرافه في: 2407، 2414، 696]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ الْخِدَاعَ فِي الْبَيْعِ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْسَخُ الْبَيْعَ، إِلَّا إِنْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ عَلَى مَا تُشْعِرُ بِهِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ زَادَ ابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ حَبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ قَالَ: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَشَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْقَى مِنَ الْغَبْنِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ) بَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ سَبَبَ شَكْوَاهُ وَهُوَ مَا يَلْقَى مِنَ الْغَبْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ يُبَايِعُ، وَكَانَ فِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ.
قَوْلُهُ: (لَا خِلَابَةَ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ أَيْ: لَا خَد يعَةَ وَلَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ: لَا خَدِيعَةَ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْ فَبَقِيَ حَتَّى أَدْرَكَ زَمَانَ عُثْمَانَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَكَانَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ غُبِنْتَ فِيهِ. رَجَعَ بِهِ، فَيَشْهَدُ لَهُ الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا، فَيَرُدُّ لَهُ دَرَاهِمَهُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَقَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقَوْلَ لِيُتَلَفَّظَ بِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ، فَيُطْلِعُ بِهِ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي مَعْرِفَةِ السِّلَعِ وَمَقَادِيرِ الْقِيمَةِ، فَيَرَى لَهُ كَمَا يَرَى لِنَفْسِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ حَضِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى أَدَاءِ النَّصِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بِوَرِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا الْحَدِيثَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قِيمَةَ السِّلْعَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ لِضَعْفِ عَقْلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْغَبْنُ يُمْلَكُ بِهِ الْفَسْخُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى شَرْطِ الْخِيَارِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْخَدِيعَةَ فِي قِصَّةِ هَذَا الرَّجُلِ كَانَتْ فِي الْعَيْبِ، أَوْ فِي
الْكَذِبِ، أَوْ فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْغَبْنِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْغَبْنِ بِخُصُوصِهَا، وَلَيْسَتْ قِصَّةً عَامَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ خَاصَّةٌ فِي وَاقِعَةِ عَيْنٍ، فَيُحْتَجُّ بِهَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ بِصِفَةِ الرَّجُلِ. قَالَ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كُلِّمَ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ شَيْئًا أَوْسَعَ مِمَّا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَدَارُهُ عَلَى ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ انْتَهَى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِهَا بِأَنَّهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَمَدَ الْخِيَارِ الْمُشْتَرَطَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى أَقْصَى مَا وَرَدَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ جَعْلُ الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاعْتِبَارُ الثَّلَاثِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: إِنَّمَا قَصَرَهُ عَلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ بَيْعِهِ كَانَ فِي الرَّقِيقِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ عِنْدَ الْعَقْدِ: لَا خِلَابَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي تِلْكَ الصَّفْقَةِ بِالْخِيَارِ سَوَاءٌ وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا أَوْ غَبْنًا أَمْ لَا، وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي جُمُودِهِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ: لَا خَدِيعَةَ أَوْ لَا غِشَّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ حَتَّى يَقُولَ: لَا خِلَابَةَ.
وَمِنْ أَسْهَلِ مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا خِيَابَةَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ اللَّامِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ اللَّامِ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ كَانَ لَا يُفْصِحُ بِاللَّامِ لِلَثْغَةِ لِسَانِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَبِيرَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَلَوْ تَبَيَّنَ سَفَهُهُ لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَهْلَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْجُرْ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ فَقَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجْرُ عَلَى الْكَبِيرِ لَا يَصِحُّ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَعَلَى جَوَازِ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، وَفِيهِ مَا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْحُقُوقِ وَغَيْرِهَا.
49 - بَاب مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْوَاقِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ فَقَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ. وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ.
2118 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.
2119 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلَاةَ لَا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاّ
رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ وَقَالَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ"
2120 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي"
[الحديث 2120 - طرفاه في: 2121، 3537]
2121 -
حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن حميد عن أنس رضي الله عنه ثم دعا رجل بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لم أعنك قال سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي"
2122 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رضي الله عنه قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ"
[الحديث 2122 - طرفه في: 5884]
2123 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ"
[الحدبث 2123 - أطرافه في: 2131، 2137، 2166، 2167، 6852]
2124 -
قَالَ وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"
[الحديث 2124 - أطرافه في 2126، 2133، 2136]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْوَاقِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ بِذِكْرِ الْأَسْوَاقِ إِبَاحَةَ الْمَتَاجِرِ وَدُخُولِ الْأَسْوَاقِ لِلْأَشْرَافِ وَالْفُضَلَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى شَرْطِهِ مِنْ أَنَّهَا شَرُّ الْبِقَاعِ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهَذَا خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ وَإِلَّا فَرُبَّ سُوقٍ يُذْكَرُ فِيهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. . . إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي
أَوَائِلِ الْبُيُوعِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ السُّوقِ فَقَطْ وَكَوْنُهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَتَعَاهَدُهُ الْفُضَلَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ لِتَحْصِيلِ الْمَعَاشِ لِلْكَفَافِ وَلِلتَّعَفُّفِ عَنِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَوْصُولًا هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا هُنَاكَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ. الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا قَافٌ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ عَابِدٌ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ) أَيِ: ابْنُ مُطْعِمٍ النَّوْفَلِيُّ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ سَمِعْتُ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) هَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، وَخَالَفَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ سَمِعَهُ مِنْهُمَا، فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَتَمُّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ شَيْئًا مِنْهُ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَبَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ فَقُلْنَا لَهُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، قَالَ: الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ ذَلِكَ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَفِي أُخْرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ هَذَا الْجَيْشُ.
قَوْلُهُ: (بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْبَيْدَاءِ وَفِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ عَلَى الشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ. انْتَهَى. وَالْبَيْدَاءُ: مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ: وَلَمْ يَنْجُ أَوْسَطُهُمْ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ: فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ وَاسْتُغْنِيَ بِهَذَا عَنْ تَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْ حُكْمِ الْأَوْسَطِ وَأَنَّ الْعُرْفَ يَقْضِي بِدُخُولِهِ فِيمَنْ هَلَكَ أَوْ لِكَوْنِهِ آخِرًا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوَّلِ وَأَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرِ فَيَدْخُلُ.
قَوْلُهُ: (وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ) كَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، جَمْعُ سُوقٍ وَعَلَيْهِ تَرْجَمَ، وَالْمَعْنَى أَهْلُ أَسْوَاقِهِمْ، أَوِ السُّوقَةُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ أَيْ: مَنْ رَافَقَهُمْ وَلَمْ يَقْصِدْ مُوَافَقَتَهُمْ. وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا: وَفِيهِمْ أَشْرَافُهُمْ بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَفِيهِمْ سِوَاهُمْ وَقَالَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: أَسْوَاقُهُمْ فَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَسْفِ بِالنَّاسِ لَا بِالْأَسْوَاقِ.
قُلْتُ: بَلْ لَفْظُ: سِوَاهُمْ تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. نَعَمْ أَقْرَبُ الرِّوَايَاتِ إِلَى الصَّوَابِ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ: أَسْوَاقُهُمْ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْخَسْفُ بِالنَّاسِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسْوَاقِ أَهْلُهَا أَيْ: يُخْسَفُ بِالْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ كَالْبَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقُلْنَا: إِنَّ الطَّرِيقَ يَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ - أَيِ: الْمُسْتَبِينُ لِذَلِكَ الْقَاصِدُ لِلْمُقَاتَلَةِ - وَالْمَجْبُورُ - بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ، أَيِ: الْمُكْرَهُ - وَابْنُ السَّبِيلِ - أَيْ سَالِكُ الطَّرِيقِ - مَعَهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَالْغَرَضُ كُلُّهُ أَنَّهَا اسْتَشْكَلَتْ وُقُوعَ الْعَذَابِ عَلَى مَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ، فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ عَامًا لِحُضُورِ آجَالِهِمْ، وَيُبْعَثُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ، وَلَكِنْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ أَيْ: يُخْسَفُ بِالْجَمِيعِ لِشُؤْمِ
الْأَشْرَارِ، ثُمَّ يُعَامَلُ كُلُّ أَحَدٍ عِنْدَ الْحِسَابِ بِحَسَبِ قَصْدِهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فِي الْمَعْصِيَةِ مُخْتَارًا أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَلْزَمُهُ مَعَهُمْ. قَالَ: وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَالِكٌ عُقُوبَةَ مَنْ يُجَالِسُ شَرَبَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْهَجْمَةُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ آخِرُ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: وَيُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْتَبَرُ بِنِيَّةِ الْعَامِلِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَمُجَالَسَتِهِمْ وَتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ إِلَّا لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ، وَيَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِي مُصَاحَبَةِ التَّاجِرِ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ هَلْ هِيَ إِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَوْ هِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِنِيَّتِهِ. وَعَلَى الثَّانِي يَدُلُّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَيْشُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَهْدِمُونَ الْكَعْبَةَ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَيَخْسِفُ بِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي وَالَّذِينَ يَهْدِمُونَهَا مِنْ كُفَّارِ الْحَبَشَةِ.
وَأَيْضًا فَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُمْ يُخْسَفُ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَهْدِمُوهَا وَيَرْجِعُوا، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهَا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْجَمَاعَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ السُّوقِ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُنْهِزُهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا زَايٌ: يُنْهِضُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَالْمُرَادُ لَا يُزْعِجُهُ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يُصَلِّي عَلَيْهِ أَيْ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، أَيْ: يَحْصُلُ مِنْهُ أَذًى لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِمُسْلِمٍ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: تَسَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنُّوا بِكُنْيَتِي. أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ الْأُولَى: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ وَفَائِدَةُ إِيرَادِهِ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ قَوْلُهُ فِيهَا: إِنَّهُ كَانَ بِالْبَقِيعِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّوقِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى السُّوقُ الَّذِي كَانَ بِالْبَقِيعِ، وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا.
قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: فِي قِطْعَةٍ مِنْهُ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَائِفَةٍ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ طَائِفَةٍ أَيْ: فِي حَرِّ النَّهَارِ، يُقَالُ: يَوْمٌ صَائِفٌ، أَيْ: حَارٌّ.
قَوْلُهُ: (لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ) أَمَّا مِنْ جَانِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّهُ كَانَ مَشْغُولَ الْفِكْرِ بِوَحْيٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلِلتَّوْقِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الصَّحَابَةِ إِذَا لَمْ يَيرَوْا مِنْهُ نَشَاطًا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ) هَكَذَا فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: سَقَطَ بَعْضُ الْحَدِيثِ عَنِ النَّاقِلِ، أَوْ أَدْخَلَ حَدِيثًا فِي حَدِيثٍ؛ لِأَنَّ بَيْتَ فَاطِمَةَ لَيْسَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا احْتِمَالًا هُوَ الْوَاقِعُ، وَلَمْ يَدْخُلْ لِلرَّاوِي حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ فَأَثْبَتَ مَا سَقَطَ مِنْهُ وَلَفْظُهُ: حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى فِنَاءَ فَاطِمَةَ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ، وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ فِيهِ: حَتَّى أَتَى فِنَاءَ عَائِشَةَ فَجَلَسَ فِيهِ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَالْفِنَاءُ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ مَمْدُودَةٌ أَيِ: الْمَوْضِعُ الْمُتَّسِعُ أَمَامَ الْبَيْتِ.
قَوْلُهُ: (أَثَمَّ لُكَعُ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَلُكَعُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اللُّكَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الصَّغِيرُ، وَالْآخَرُ اللَّئِيمُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: يَكُونُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ وَقَالَ ابْنُ
التِّينِ: زَادَ ابْنُ فَارِسٍ أَنَّ الْعَبْدَ أَيْضًا يُقَالُ لَهُ: لُكَعُ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ مَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْعَبْدِ أَرَادَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ جَرِيرٍ التَّمِيمِيُّ: اللُّكَعُ فِي لُغَتِنَا الصَّغِيرُ، وَأَصْلُهُ فِي الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: اللُّكَعُ الَّذِي لَا يَهْتَدِي لِمَنْطِقٍ وَلَا غَيْرِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَلَاكِيعِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ السُّلَّا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْحَسَنَ صَغِيرٌ لَا يَهْتَدِي لِمَنْطِقٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَئِيمٌ وَلَا عَبْدٌ.
قَوْلُهُ: (فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا) أَيْ: مَنَعَتْهُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِ قَلِيلًا، وَالْفَاعِلُ فَاطِمَةُ.
قَوْلُهُ: (فَطَنَّنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ وَبِمُوَحَّدَةٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ قِلَادَةٌ تُتَّخَذُ مِنْ طِيبٍ لَيْسَ فِيهَا ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ قُرُنْفُلٍ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هُوَ خَيْطٌ مِنْ خَرَزٍ يَلْبَسُهُ الصِّبْيَانُ وَالْجَوَارِي، وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ أَحَدِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: السِّخَابُ شَيْءٌ يُعْمَلُ مِنَ الْحَنْظَلِ كَالْقَمِيصِ وَالْوِشَاحِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ تَغْسِلُهُ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ وَتَغْسِلُهُ بِالْوَاوِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ يَشْتَدُّ) أَيْ: يُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ، فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ مُوسَى عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَجَاءَ الْحَسَنُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَجَاءَ الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: أَثَمَّ لُكَعُ؟ يَعْنِي: حَسَنًا وَكَذَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ بِلَفْظِ: فَقَالَ: أَيْنَ لُكَعُ، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ) فِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ هَكَذَا. أَيْ: مَدَّهَا. فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَالْتَزَمَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحِبَّهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِلَفْظِ: الدُّعَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَحْبِبْهُ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، زَادَ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَشْيِ مَعَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَاضُعِ مِنَ الدُّخُولِ فِي السُّوقِ وَالْجُلُوسِ بِفِنَاءِ الدَّارِ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ وَالْمُزَاحُ مَعَهُ، وَمُعَانَقَتُهُ وَتَقْبِيلُهُ، وَمَنْقَبَةٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَنَاقِبِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي) فِيهِ تَقْدِيمُ اسْمِ الرَّاوِي عَلَى الصِّيغَةِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ شَيْخُ سُفْيَانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيَانَ لُقِيِّ عُبَيْدِ اللَّهِ، لِنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ فَلَا تَضُرُّ الْعَنْعَنَةُ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُدَلِّسٍ إِذَا ثَبَتَ لِقَاؤُهُ لِمَنْ حَدَّثَ عَنْهُ حُمِلَتْ عَنْعَنَتُهُ عَلَى السَّمَاعِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْمُدَلِّسِ، أَوْ فِيمَنْ لَمْ يَثْبُتُ لُقِيُّهُ لِمَنْ رَوَى عَنْهُ. وَأَبْعَدَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْوِتْرَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا رَوَى الْحَدِيثَ الْمَوْصُولَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ لِبَيَانِ مَا ثَبَتَ فِي الْوِتْرِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي نَقْلِ الطَّعَامِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُشْتَرَى مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ، وَفِيهِ حَدِيثُهُ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِدْخَالُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْأَسْوَاقِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ السُّوقَ اسْمٌ لِكُلِّ مَكَانٍ وَقَعَ فِيهِ التَّبَايُعِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَاطَى الْبَيْعَ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِالسُّوقِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَكَانٍ يَقَعُ فِيهِ التَّبَايُعُ، فَالْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ.
50 - بَاب كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي الْأَسْوَاقِ
2125 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ. وَاللَّهِ
إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُفْتَحُ بِهَا أَعْيُنٌ عُمْيٌ وَآذَانٌ صُمٌّ وَقُلُوبٌ غُلْفٌ. تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ سَلَامٍ. {غُلْفٌ} كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلَافٍ، سَيْفٌ أَغْلَفُ، وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ، وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا.
[الحديث 2125_ طرفه في 4838]
قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي الْأَسْوَاقِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَيُقَالُ فِيهِ الصَّخَبُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْخِصَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَأُخِذَتِ الْكَرَاهَةُ مِنْ نَفْيِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُفِيَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ.
وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ دُخُولَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ السُّوقَ لَا يَحُطُّ مِنْ مَرْتَبَتِهِ لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي ذَمِّ السَّخَبِ فِيهَا لَا عَنْ أَصْلِ الدُّخُولِ. وَهِلَالٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ لَهُ هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَلَيْسَ لِشَيْخِهِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَحِرْزًا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: حَافِظًا، وَأَصْلُ الْحِرْزِ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ أَيْ: مِلَّةَ الْعَرَبِ، وَوَصَفَهَا بِالْعِوَجِ لِمَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُرَادُ بِإِقَامَتِهَا أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: وَقُلُوبٌ غُلْفٌ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي: الْمُصَنِّفَ: الْغُلْفُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلَافٍ، يُقَالُ: سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالٍ) سَتَأْتِي هَذِهِ الْمُتَابَعَةُ مَوْصُولَةً فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدٌ:، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَلَامٍ) سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَقَدْ خَالَفَ عَبْدَ الْعَزِيزِ وَفُلَيْحًا فِي تَعْيِينِ الصَّحَابِيِّ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ جَمِيعًا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ حَمَلَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ كَانَ يَقُولُ فَذَكَرَهُ.
وَأَظُنُّ الْمُبَلِّغَ لِزَيْدٍ هُوَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَيَكُونُ هَذَا شَاهِدًا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَأَذْكُرُ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مُتَابَعَاتٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ. وَمِمَّا جَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مُجْمَلًا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُدْفَنُ مَعَهُ.
51 - بَاب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: {يَسْمَعُونَكُمْ} يَسْمَعُونَ لَكُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا وَيُذْكَرُ عَنْ
عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ.
2126 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.
2127 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ فَطَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلَاهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ كِلْ لِلْقَوْمِ فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَالَ فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ"
[الحديث 2127 - أطرافه في: 2395، 2396، 2405، 2601، 2709، 2781، 3580، 4053، 6250]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي) أَيْ: مُؤْنَةُ الْكَيْلِ عَلَى الْمُعْطِي بَائِعًا كَانَ أَوْ مُوَفِّي دَيْنٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَيُلْتَحَقُ بِالْكَيْلِ فِي ذَلِكَ الْوَزْنُ فِيمَا يُوزَنُ مِنَ السِّلَعِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ وَزْنِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا نَقْدَ الثَّمَنِ فَهُوَ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَخَالَفَهُمْ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَكَانَ يَقِفُ عَلَى كَالُوا وَعَلَى وَزَنُوا ثُمَّ يَقُولُ: هُمْ. وَزَيَّفَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْجُمْهُورُ أَعْرَبُوهُ عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ وَوَصَلَ الْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُوَ الْمَكِيلُ مَثَلًا أَيْ: كَالُوا مَكِيلَهُمْ وَقَوْلُهُ: كَقَوْلِهِ يَسْمَعُونَكُمْ أَيْ: يَسْمَعُونَ لَكُمْ. وَمَعْنَى التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمَرْءَ يَكِيلُ لَهُ غَيْرُهُ إِذَا اشْتَرَى، وَيَكِيلُ هُوَ إِذَا بَاعَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَيْنَا نَحْنُ قُعُودٌ إِذْ أَتَى رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ فَقَالَ: أَتَبِيعُونَ الْجَمَلَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى تَوَارَى، فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ أَتَانَا رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَهُوَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حَتَّى تَشْبَعُوا وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا. فَفَعَلْنَا، ثُمَّ قَدِمْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الِاكْتِيَالَ يُسْتَعْمَلُ لِمَا يَأْخُذهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَوَى، إِذَا اتَّخَذَ الشِّوَاءَ وَاكْتَسَبَ إِذَا حَصَّلَ الْكَسْبَ، وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ) وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمِصْرِيِّ، عَنْ مُنْقِذٍ مَوْلَى ابْنِ سِرَاقَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بِهَذَا، وَمُنْقِذٌ مَجْهُولُ الْحَالِ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ
مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُثْمَانَ بِهِ، وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَلَكِنَّهُ مِنْ قَدِيمِ حَدِيثِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ أَوْرَدَهُ فِي فُتُوحِ مِصْرَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ، وَأَشَارَ ابْنُ التِّينِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ أَيْ: فَأَوْفِ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ أَيْ: فَاسْتَوْفِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى أَوْ أَخَذَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ: لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ. انْتَهَى. لَكِنْ فِي طَرِيقِ اللَّيْثِ زِيَادَةٌ تُسَاعِدُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ: إِنَّ عُثْمَانَ قَالَ: كُنْتُ أَشْتَرِي التَّمْرَ مِنْ سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ أَجْلِبُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَفْرُغُهُ لَهُمْ وَأُخْبِرُهُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَكِيلَةِ فَيُعْطُونِي مَا رَضِيتُ بِهِ مِنَ الرِّبْحِ، فَيَأْخُذُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ بِخَبَرِي.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ. . . فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ تَعَاطِي الْكَيْلِ حَقِيقَةً لَا خُصُوصَ طَلَبِ عَدَمِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ قَالَ: قَدِمَ لِعُثْمَانَ طَعَامٌ فَذَكَرَ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: مَنْ بَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ دَيْنِ أَبِيهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَطُرُقِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: ثُمَّ قَالَ كِلِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: الْكَيْلُ عَلَى الْمُعْطِي. وَقَوْلُهُ فِيهِ: صَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا أَيِ: اعْزِلْ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَعِذْقُ ابْنِ زَيْدٍ الْعِذْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ النَّخْلَةُ وَبِكَسْرِهَا الْعُرْجُونُ وَالذَّالُ فِيهِمَا مُعْجَمَةٌ، وَابْنُ زَيْدٍ شَخْصٌ نُسِبَ إِلَيْهِ النَّوْعُ الْمَذْكُورُ مِنَ التَّمْرِ. وَأَصْنَافُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَدُّوا عِنْدَ أَمِيرِهَا صُنُوفَ التَّمْرِ الْأَسْوَدِ خَاصَّةً فَزَادَتْ عَلَى السِّتِّينَ، قَالَ: وَالتَّمْرُ الْأَحْمَرُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَسْوَدِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ. وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ فِرَاسٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. . . إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي آخَرِ أَبْوَابِ الْوَصَايَا بِتَمَامِهِ وَفِيهِ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ) وَهَذَا أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ بِتَمَامِهِ، وَهِشَامٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَوَهْبٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَوْلُهُ: جُذَّ بِلَفْظِ الْأَمْرِ مِنَ الْجُذَاذِ بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ قَطْعُ الْعَرَاجِينِ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ قَدْرَ الدَّيْنِ وَقَدْرَ الَّذِي فَضَلَ بَعْدَ وَفَائِهِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: فَأَوْفِ لَهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: كِلْ لِلْقَوْمِ.
52 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ
2128 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَيْلِ) أَيْ: فِي الْمُبَايَعَاتِ.
قَوْلُهُ: (الْوَلِيدُ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ دُحَيْمٍ عَنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ثَوْرٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكرِبَ) هَكَذَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ ثَوْرٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ ثَوْرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعْدٍ
(1)
، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَأَدْخَلَ بَيْنَ خَالِدٍ، وَالْمِقْدَامِ، جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا، وَرِوَايَتُهُ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ
(1)
لعله " بحير بن سعيد "وهو السحولي، فإنه يروى عن ابن معدان، وليس في الرواة عن ابن معدان يحيى ين سعد، ولا يحيى بن سعيد. محب الدين
الْأَسَانِيدِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَنَفْيُهُ
(1)
عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى
(2)
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، زَادَ فِيهِ أَبَا أَيُّوبَ، وَأَشَارَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى رُجْحَانِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
قَوْلُهُ: (يُبَارَكْ لَكُمْ) كَذَا فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَزَادُوا فِي آخِرِهِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْكَيْلُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِيمَا يُنْفِقُهُ الْمَرْءُ عَلَى عِيَالِهِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَخْرِجُوا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ يُبَلِّغْكُمْ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي قَدَّرْتُمْ، مَعَ مَا وَضَعَ اللَّهُ مِنَ الْبَرَكَةِ فِي مُدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِدَعْوَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَرَكَةُ لِلتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَيْلِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ عِنْدِي شَطْرُ شَعِيرٍ آكُلُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ يَعْنِي: الْحَدِيثَ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الرِّقَاقِ مُعَارَضَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُخْرِجُ قُوتَهَا - وَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ - بِغَيْرِ كَيْلٍ فَبُورِكَ لَهَا فِيهِ مَعَ بَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَالَتْهُ عَلِمَتِ الْمُدَّةَ الَّتِي يَبْلُغُ إِلَيْهَا عِنْدَ انْقِضَائِهَا اهـ.
وَهُوَ صَرْفٌ لِمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ مَعْنَى الْبَرَكَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: فَمَا زِلْنَا نَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى كَالَتْهُ الْجَارِيَةُ فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ فَنِيَ، وَلَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَرَجَوْتُ أَنْ يَبْقَى أَكْثَرَ وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَمَّا أَمَرَتْ عَائِشَةُ بِكَيْلِ الطَّعَامِ نَاظِرَةً إِلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ غَافِلَةً عَنْ طَلَبِ الْبَرَكَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ رُدَّتْ إِلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ حَدِيثَ الْمِقْدَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَرَى، فَالْبَرَكَةُ تَحْصُلُ فِيهِ بِالْكَيْلِ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ فِيهِ بِالِاكْتِيَالِ نُزِعَتْ مِنْهُ لِشُؤْمِ الْعِصْيَانِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَالَتْهُ لِلِاخْتِبَارِ فَلِذَلِكَ دَخَلَهُ النَّقْصُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ أَبِي رَافِعٍ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالِثَةِ نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ، قَالَ: وَهَلْ لِلشَّاةِ إِلَّا ذِرَاعَانِ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَقُلْ هَذَا لَنَاوَلْتَنِي مَا دُمْتُ أَطْلُبُ مِنْكَ فَخَرَجَ مِنْ شُؤْمِ الْمُعَارَضَةِ انْتِزَاعُ الْبَرَكَةِ، وَيَشْهَدُ لِمَا قُلْتُهُ حَدِيثُ: لَا تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّهُ عَلَيْكَ الْآتِي.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَيْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَرَكَةُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيمَا يُشْرَعُ فِيهِ الْكَيْلُ، وَلَا تُنْزَعُ الْبَرَكَةُ مِن الْمَكِيلِ بِمُجَرَّدِ الْكَيْلِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ أَمْرٌ آخَرُ كَالْمُعَارَضَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلُهُ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ أَيْ: إِذَا ادَّخَرْتُمُوهُ طَالِبِينَ مِنَ اللَّهِ الْبَرَكَةَ وَاثِقِينَ بِالْإِجَابَةِ، فَكَانَ مَنْ كَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكِيلُهُ لِيَتَعَرَّفَ مِقْدَارَهُ فَيَكُونَ ذَلِكَ شَكًّا فِي الْإِجَابَةِ فَيُعَاقَبَ بِسُرْعَةِ نَفَادِهِ، قَالَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْكَيْلِ بِسَبَبِ السَّلَامَةِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْخَادِمِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ بِغَيْرِ حِسَابٍ قَدْ يَفْرُغُ مَا يُخْرِجُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَيَتَّهِمُ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بَرِيئًا، وَإِذَا كَالَهُ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَيْلِ الطَّعَامِ تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ، وَلَمْ أَتَحَقَّقْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافَهُ.
53 - بَاب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِ
فِيهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
2129 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام لِمَكَّةَ.
(1)
كذا في طبعة بولاق "ولعل الصواب " بقية " وهو ابن الوليد عن بحير بن سعيد
…
محب الدين
(2)
لعله " بحير" بالباء الموحدة والراء وهو المذكور في التعليقين السابقين
2130 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
[الحديث 2030 - طرفاه في: 6714 - 7331]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَمُدِّهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ لِلْمَحْذُوفِ فِي صَاعِ النَّبِيِّ أَيْ: صَاعِ أَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ لِإِرَادَةِ التَّعْظِيمِ، وَشَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِهَا فِي آخِرِ الْحَجِّ عَنْهَا قَالَتْ: وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ - الْحَدِيثَ وَفِيهِ - اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَكَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَسَيُعَادُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
(تَنْبِيهٌ): إِيرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْبَرَكَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا وَقَعَ الْكَيْلُ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُمَا لَا إِلَى مَا يُخَالِفُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
54 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ
2131 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
[الحديث 2132 - طرفه في: 2135]
2133 -
حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"
2134 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ فَقَالَ طَلْحَةُ أَنَا حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنْ الْغَابَةِ قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَقَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ
هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ.
[الحديث 2134 - طرفاه في: 2170، 2174
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ) أَيْ: بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ: حَبْسُ السِّلَعِ عَنِ الْبَيْعِ، هَذَا مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ لِلْحُكْرَةِ ذِكْرٌ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ بِنَقْلِ الطَّعَامِ إِلَى الرِّحَالِ، وَمَنْعِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَلَوْ كَانَ الِاحْتِكَارُ حَرَامًا لَمْ يَأْمُرْ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حَدِيثُ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ لِمُجَرَّدِ إِيوَاءِ الطَّعَامِ إِلَى الرِّحَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاحْتِكَارَ الشَّرْعِيَّ؛ لِأَنَّ الِاحْتِكَارَ الشَّرْعِيَّ إِمْسَاكُ الطَّعَامِ عَنِ الْبَيْعِ، وَانْتِظَارُ الْغَلَاءِ مَعَ اسْتِغْنَاءٍ عَنْهُ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ رَفَعَ طَعَامًا مِنْ ضَيْعَتِهِ إِلَى بَيْتِهِ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِحُكْرَةٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ إِنَّمَا يَحْرُمُ احْتِكَارُ الطَّعَامِ الْمُقْتَاتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ بَيَانَ تَعْرِيفِ الْحُكْرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَسَاقَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا تَمْكِينُ النَّاسِ مِنْ شِرَاءِ الطَّعَامِ وَنَقْلِهِ، وَلَوْ كَانَ الِاحْتِكَارُ مَمْنُوعًا لَمُنِعُوا مِنْ نَقْلِهِ، أَوْ لَبُيِّنَ لَهُمْ عِنْدَ نَقْلِهِ الْأَمَدُ الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، أَوْ لَأُخِذَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ شِرَاءِ الشَّيْءِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الِاحْتِكَارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الِاحْتِكَارَ إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الِاحْتِكَارِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا حَدِيثُ مَعْمَرٍ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَرْفُوعًا: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَعَنْهُ مَرْفُوعًا قَالَ: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرِ مَلْعُونٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغَالِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَأْدِيبِ مَنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يُؤْوِيَهِ إِلَى رَحْلِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ.
الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
الرَّابِعُ: حَدِيثُ عُمَرَ الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ اشْتِرَاطِ قَبْضِ الشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَبْضِ الطَّعَامِ بِغَيْرِ شَرْطٍ آخَرَ. وَقَدِ اسْتَشْعَرَ ابْنُ بَطَّالٍ مُبَايَنَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ، فَأَدْخَلَهُ فِي تَرْجَمَةِ بَابِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلنُّسَخِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ الْبُخَارِيِّ. وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَقَوْلُهُ: كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ - أَيِ: ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ - أَنَا حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ تَأْتِي بَقِيَّتُهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَشَارَ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ حَفِظَ مِنَ الزُّهْرِيِّ الْمَتْنَ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ حَفِظَهَا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبْعَدَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: غَرَضُ سُفْيَانَ تَصْدِيقُ عَمْرٍو، وَأَنَّهُ حَفِظَ نَظِيرَ مَا رُوِيَ.
قَوْلُهُ: (الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْمُصَنِّفُ (مُرْجِئُونَ) أَيْ: مُؤَخِّرُونَ، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي
وَحْدَهُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ حَيْثُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجِئُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ: مُؤَخَّرُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ، يُقَالُ: أَرْجَأْتُكَ أَيْ: أَخَّرْتُكَ، وَأَرَادَ بِهِ الْبُخَارِيُّ شَرْحَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ أَيْ مُؤَخَّرٌ، وَيَجُوزُ هَمْزُ مُرْجَأٍ وَتَرْكُ هَمْزِهِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْخَطَّابِيِّ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ.
55 - بَاب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
2135 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ.
2136 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ زَادَ إِسْمَاعِيلُ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) لَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى شَرْطِهِ فَاسْتَنْبَطَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِلَفْظِ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَبِيعُهُ مِنْهُ ثُمَّ أبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ عَبْدًا أَوْ دَارًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ غَائِبَةٌ، فَيُشْبِهُ بَيْعَ الْغَرَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَتْلَفَ أَوْ لَا يَرْضَاهَا، ثَانِيهُمَا أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ بِكَذَا، عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَهَا لَكَ مِنْ صَاحِبِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا لَكَ صَاحِبُهَا اهـ. وَقِصَّةُ حَكِيمٍ مُوَافِقَةٌ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَقَوْلُهُ: الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو كَأَنَّ سُفْيَانَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ زِيَادَةً عَلَى مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْهُ، كَسُؤَالِ طَاوُسٍ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَبَبِ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ. . . إِلَخْ) أَيْ: وَأَمَّا الَّذِي لَمْ أَحْفَظْ نَهْيَهُ فَمَا سِوَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ) فِي رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ قَالَ مِسْعَرٌ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: أَوْ عَلَفًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ وَالْفَاءِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَهَذَا مِنْ تَفَقُّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَاحْتَجَّ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ، قَالَ: فَالْبَيْعُ كَذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِالْفَارِقِ وَهُوَ تَشَوُّفُ الشَّارِعِ إِلَى الْعِتْقِ. وَقَوْلُ طَاوُسٍ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنْ سَبَبِ هَذَا النَّهْيِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَأَخَّرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ.
وَيُبَيِّن ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ طَاوُسٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ؟ قَالَ: أَلَا تَرَاهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالذَّهَبِ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ أَيْ: فَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ
مَثَلًا، وَدَفَعَهَا لِلْبَائِعِ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَ الطَّعَامَ لِآخَرَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَقَبَضَهَا وَالطَّعَامُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ مِائَةَ دِينَارٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَخْتَصُّ النَّهْيُ بِالطَّعَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ عَلَى عُثْمَانَ اللَّيْثِيِّ، حَيْثُ أَجَازَ بَيْعَ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا مَالِكٌ فَحَمَلَ الطَّعَامَ عَلَى عُمُومِهِ وَأَلْحَقَ بِالشِّرَاءِ جَمِيعَ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ، وَسَحْنُونٌ بِالطَّعَامِ كُلَّ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فَعَدَّيَاهُ إِلَى كُلِّ مُشْتَرًى، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَثْنَى الْعَقَارَ وَمَا لَا يُنْقَلُ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قُلْتُ: وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ. وَفِي صِفَةِ الْقَبْضِ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ: فَمَا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثَّوْبِ فَقَبْضُهُ بِالتَّنَاوُلِ، وَمَا لَا يُنْقَلُ كَالْعَقَارِ وَالثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ فَقَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَمَا يُنْقَلُ فِي الْعَادَةِ كَالْأَخْشَابِ وَالْحُبُوبِ وَالْحَيَوَانِ فَقَبْضُهُ بِالنَّقْلِ إِلَى مَكَانٍ لَا اخْتِصَاصَ لِلْبَائِعِ بِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ.
قَوْلُهُ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (زَادَ إِسْمَاعِيلُ فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ) يَعْنِي: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ: حَتَّى يَقْبِضَهُ بَدَلَ قَوْلِهِ: حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَافَقَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ وَقُتَيْبَةُ، قُلْتُ: وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ زَادَ إِسْمَاعِيلُ يُرِيدُ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ زِيَادَةً فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْفِيهِ بِالْكَيْلِ بِأَنْ يَكِيلَهُ الْبَائِعُ وَلَا يَقْبِضَهُ لِلْمُشْتَرِي، بَلْ يَحْبِسُهُ عِنْدَهُ لِيَنْقُدَهُ الثَّمَنَ مِثْلًا، وَعُرِفَ بِهَذَا جَوَابُ مَنِ اعْتَرَضَهُ مِنَ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةٌ، وَجَوَابُ مَنْ حَمَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ زَادَ لَفْظًا آخَرَ وَهُوَ يَقْبِضُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ بِمَعْنَى يَسْتَوْفِيهِ، وَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْبَائِعِ وَتَبْقِيَتَهُ فِي مَنْزِلِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ قَبْضًا شَرْعِيًّا حَتَّى يَنْقُلَهُ الْمُشْتَرِي إِلَى مَكَانٍ لَا اخْتِصَاصَ لِلْبَائِعِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي تَعْقِيبِ الْمُصَنِّفِ لَهُ بِالتَّرْجَمَةِ الْآتِيَةِ.
56 - بَاب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ، وَالْأَدَبِ فِي ذَلِكَ
2137 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْتَاعُونَ جِزَافًا يَعْنِي الطَّعَامَ يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جُزَافًا أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ، وَالْأَدَبِ فِي ذَلِكَ) أَيْ: تَعْزِيرُ مَنْ يَبِيعُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخُصُّوهُ بِالْجُزَافِ، وَلَا قَيَّدُوهُ بِالْإِيوَاءِ إِلَى الرِّحَالِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا ثَبَتَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَدَخَلَ فِيهِ الْمَكِيلُ، وَوَرَدَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْمَكِيلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِيوَاءَ إِلَى الرِّحَالِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ فَيَبْعَثُ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ وَفَرَّقَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ
عَنْهُ بَيْنَ الْجُزَافِ وَالْمَكِيلِ: فَأَجَازَ بَيْعَ الْجُزَافِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِأَنَّ الْجُزَافَ مُرَبًّى فَتَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ، وَالِاسْتِيفَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. وَنَحْوُهُ لِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْمَكِيلِ بِالْكَيْلِ وَفِي الْمَوْزُونِ بِالْوَزْنِ، فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فَقَبَضَهُ جُزَافًا فَقَبْضُهُ فَاسِدٌ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى مُكَايَلَةً فَقَبَضَهُ مُوَازَنَةً وَبِالْعَكْسِ، وَمَنِ اشْتَرَى مُكَايَلَةً وَقَبَضَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ جَازَ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ لَمْ يَجُزْ بِالْأَوَّلِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ تَأْدِيبِ مَنْ يَتَعَاطَى الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ، وَإِقَامَةُ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ مَنْ يُرَاعِي أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: جُزَافًا مُثَلَّثَةُ الْجِيمِ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا، سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ قَدْرَهَا أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعَنْ مَالِكٍ التَّفْرِقَةُ، فَلَوْ عَلِمَ لَمْ يَصِحَّ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إِذَا جَهِلَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَدْرَهَا، فَإِنِ اشْتَرَاهَا جُزَافًا فَفِي بَيْعِهَا قَبْلَ نَقْلِهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَنَقْلُهَا قَبْضُهَا.
57 - بَاب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ،
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَا أَدْرَكَتْ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ
2138 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ قَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ؟ قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الصُّحْبَةَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهَا عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّاقَةِ: أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَخَذْتُهَا لَمْ يَكُنْ أَخْذًا بِالْيَدِ وَلَا بِحِيَازَةِ شَخْصِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْتِزَامًا مِنْهُ لِابْتِيَاعِهَا بِالثَّمَنِ وَإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِ أَبِي بَكْرٍ اهـ. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ مَا سِيقَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتُصِرَ فِيهَا قَدْرُ الثَّمَنِ وَصِفَةُ الْعَقْدِ، فَيُحْمَلُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ اخْتَصَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ فِي سِيَاقِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَصَرَ صِفَةَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ انْتِقَالَ الضَّمَانِ فِي الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا إِلَى
الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ أَبْقَاهَا عِنْدَ أَبَى بَكْرٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا كَانَ لِيُبْقِيَهَا فِي ضَمَانِ أَبِي بَكْرٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمِلْكُ لَهُ وَالضَّمَانُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ ثَمَنٍ، وَلَا سِيَّمَا وَفِي الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيثَارِهِ لِمَنْفَعَةِ أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ.
قُلْتُ: وَلَقَدْ تَعَسَّفَ فِي هَذَا كَمَا تَعَسَّفَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ مَا يُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ قَبْضٍ، وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ يُجْزَمْ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ فَلَا حَاجَةَ لِتَحْمِيلِهِ مَا لَمْ يَتَحَمَّلْ، نَعَمْ ذِكْرُهُ لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ مُشْعِرٌ بِاخْتِيَارِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، واللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ) أَيِ: الْعَقْدُ (حَيًّا) أَيْ: بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مُثَقَّلَةٍ (مَجْمُوعًا) أَيْ: لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَتِهِ (فَهُوَ مِنَ الْمُبْتَاعِ) أَيْ: مِنَ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَجْمُوعًا وَإِسْنَادُ الْإِدْرَاكِ إِلَى الْعَقْدِ مَجَازٌ، أَيْ: مَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا وَغَيْرَ مُنْفَصِلٍ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا أَدْرَكَتْ شَيْئًا حَيًّا فَهَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ بِالْأَقْوَالِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ بِالْأَبْدَانِ اهـ.
وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فِي مُعَارَضَةِ أَمْرٍ مُصَرَّحٍ بِهِ، فَابْنُ عُمَرَ قَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى الْفُرْقَةَ بِالْأَبْدَانِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ فَحَمْلُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ أَوْلَى جَمْعًا بَيْنَ حَدِيثَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَاحْتَبَسَهُ بِالثَّمَنِ فَهَلَكَ فِي يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَرَبِيعَةُ: هُوَ عَلَى الْبَائِعِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَرَجَعَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ، وَتَابَعَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَمَنِ اشْتَرَطَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ جَعَلَهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ جَعَلَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا قَالَ: إِنْ قَالَ الْبَائِعُ: لَا أُعْطِيكَهُ حَتَّى تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ فَهَلَكَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُبْتَاعَ فِي أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِالْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَهُوَ جَيِّدٌ، وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَطَلَبَ مَنْ يَحْمِلُهُ فَرَجَعَ فَوَجَدَهُ قَدِ احْتَرَقَ، فَقَالَ: هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَأَوْرَدَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ: فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي.
وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يُقْبَضْ، بِخِلَافِ مَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ أَوْرَدَهُ هُنَاكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ أَتَمَّ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِي هُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
58 - بَاب لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
2139 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ.
[الحديث 2139 - طرفاه في: 2165، 5142]
2140 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا.
[الحديث 2140 - أطرافه في: 2148، 2150، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601]
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِالتَّقْيِيدِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْحُكْمَيْنِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الشَّافِعِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْأَخِيرِ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ خِلَافٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ أَوْ يَلْتَحِقُ بِهِ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ؟ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الْفَرْقِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ.
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا بِالسَّوْمِ وَلَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ فِي الشُّرُوطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا. وَذَكَرَ الْمُسْلِمَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي ذِكْرِهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَلَى مُسْلِمٍ مِثْلِهِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَبِيعُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي يَبِيعُ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً وَأُشْبِعَتِ الْكَسْرَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَبِعْ بِصِيغَةِ النَّهْيِ.
قَوْلُهُ: (بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) كَذَا أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِأَخِيهِ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَسُومُ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ: وَذِكْرُ الْأَخِ خَرَجَ لِلْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا. . . إِلَخْ) عَطَفَ صِيغَةَ النَّهْيِ عَلَى مَعْنَاهَا، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ أَيْ: قَالَ: لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلَا تَنَاجَشُوا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بَعْدُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَكَذَا عَلَى النَّجْشِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَا تَنَاجَشُوا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ إِذَا فَعَلَ لِصَاحِبِهِ ذَلِكَ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَفْعَلَ لَهُ مِثْلَهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْخِطْبَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: افْسَخْ لِأَبِيعَكَ بِأَنْقَصَ، أَوْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ: افْسَخْ لِأَشْتَرِيَ مِنْكَ بِأَزْيَدَ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا السَّوْمُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لِيَشْتَرِيَهُ، فَيَقُولَ لَهُ: رُدَّهُ لِأَبِيعَكَ خَيْرًا مِنْهُ بِثَمَنِهِ أَوْ مِثْلِهِ بِأَرْخَصَ، أَوْ يَقُولَ لِلْمَالِكِ: اسْتَرِدَّهُ لِأَشْتَرِيَهُ مِنْكَ بِأَكْثَرَ، وَمَحَلُّهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ وَرُكُونِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
صَرِيحًا فَلَا خِلَافَ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ اشْتِرَاطَ الرُّكُونِ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ مُبَيِّنٍ لِمَوْضِعِ التَّحْرِيمِ فِي السَّوْمِ؛ لِأَنَّ السَّوْمَ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي تُبَاعُ فِيمَنْ يَزِيدُ لَا يَحْرُمُ اتِّفَاقًا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّوْمَ الْمُحَرَّمَ مَا وَقَعَ فِيهِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالسَّوْمِ عَلَى الْآخَرِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا غَبْنًا فَاحِشًا.
وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الدِّينُ النَّصِيحَةُ، لَكِنْ لَمْ تَنْحَصِرِ النَّصِيحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالسَّوْمِ، فَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ قِيمَتَهَا كَذَا، وَأَنَّكَ إِنْ بِعْتَهَا بِكَذَا مَغْبُونٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا، فَيَجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ مَعَ تَأْثِيمِ فَاعِلِهِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي فَسَادِهِ رِوَايَتَانِ، وَبِهِ جَزَمَ أَهَلُ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
59 - بَاب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ
2141 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَاحْتَاجَ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.
[الحديث 2141 - أطرافه في: 2230، 2321، 2403، 2415، 2534، 6716، 6947، 7186]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ) لَمَّا أَنْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ النَّهْيُ عَنِ السَّوْمِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعَ التَّحْرِيمِ مِنْهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَرَدَ فِي الْبَيْعِ فِيمَنْ يَزِيدُ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَاعَ حِلْسًا وَقَدَحًا وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْحِلْسَ وَالْقَدَحَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَخَذْتُهَا بِدِرْهَمٍ، فَقَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ، فَبَاعَهُمَا مِنْهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ ابْنَ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ; وَنَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَرَوَى هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ تُبَاعُ الْأَخْمَاسُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا مَعْنَى لِاخْتِصَاصِ الْجَوَازِ بِالْغَنِيمَةِ وَالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ الْبَابَ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ اهـ. وَكَأَنَّ التِّرْمِذِيَّ يُقَيِّدُ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَحَدٍ حَتَّى يَذَرَ، إِلَّا الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ اهـ. وَكَأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ فِيمَا يُعْتَادُ فِيهِ الْبَيْعُ مُزَايَدَةً وَهِيَ الْغَنَائِمُ وَالْمَوَارِيثُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِمَا غَيْرُهُمَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ فَخَصَّا الْجَوَازَ بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ وَالْمَوَارِيثِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ.
وَقَوْلُهُ: بِكَذَا وَكَذَا يَأْتِي أَنَّهُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَأْتِي أَيْضًا تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ أَنْ
يُعْطَى بِهِ وَاحِدٌ ثَمَنًا ثُمَّ يُعْطَى بِهِ غَيْرُهُ زِيَادَةً عَلَيْهَا اهـ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ شَاهِدَ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي قَالَ: فَعَرَضَهُ لِلزِّيَادَةِ لِيَسْتَقْضِيَ فِيهِ لِلْمُفْلِسِ الَّذِي بَاعَهُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَوْنِهِ كَانَ مُفْلِسًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ.
60 - بَاب النَّجْشِ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ،
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ
2142 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجْشِ.
[الحديث 2142 - طرفه في: 6963]
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّجْشِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ وَاسْتِثَارَتُهُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُصَادَ، يُقَالُ: نَجَشْتُ الصَّيْدَ أَنْجُشُهُ بِالضَّمِّ نَجْشًا. وَفِي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ مِمَّنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقَعَ غَيْرُهُ فِيهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاجِشَ يُثِيرُ الرَّغْبَةَ فِي السِّلْعَةِ وَيَقَعُ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْإِثْمِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ النَّاجِشُ، وَقَدْ يَخْتَصُّ بِهِ الْبَائِعُ كَمَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ اشْتَرَى سِلْعَةً بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: النَّجْشُ الْخَتْلُ وَالْخَدِيعَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلصَّائِدِ: نَاجِشٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْتِلُ الصَّيْدَ وَيَحْتَالُ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ عَامِلًا لَهُ بَاعَ سَبْيًا فَقَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ أَزِيدُ فَأُنْفِقُهُ لَكَانَ كَاسِدًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَذَا نَجْشٌ لَا يَحِلُّ، فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: إِنَّ الْبَيْعَ مَرْدُودٌ، وَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَحِلُّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّاجِشَ عَاصٍ بِفِعْلِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيْعِ إِذَا وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَسَادَ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ أَوْ صُنْعِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَرَّاةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ صِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ الْإِثْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ تَعْصِيَةَ النَّاجِشِ، وَشَرَطَ فِي تَعْصِيةِ مَنْ بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ.
وَأَجَابَ الشَّارِحُونَ بِأَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ، وَتَحْرِيمُ الْخَدِيعَةِ وَاضِحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا الْحَدِيثُ بِخُصُوصِهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ فَقَدْ لَا يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ. وَاسْتَشْكَلَ الرَّافِعِيُّ الْفَرْقَ بِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ إِضْرَارٌ، وَالْإِضْرَارُ يَشْتَرِكُ فِي عِلْمِ تَحْرِيمِهِ كُلُّ أَحَدٍ، قَالَ: فَالْوَجْهُ تَخْصِيصُ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ اهـ. وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالسُّنَنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ التَّعْصِيَةِ فِي النَّجْشِ أَيْضًا بِمَنْ عَلِمَ النَّهْيَ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا مَنْصُوصٌ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ: النَّجْشُ أَنْ يَحْضُرَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ تُبَاعُ فَيُعْطِي بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ السُّوَّامُ فَيُعْطُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَسْمَعُوا سَوْمَهُ، فَمَنْ نَجَشَ فَهُوَ عَاصٍ بِالنَّجْشِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لَا يُفْسِدُهُ مَعْصِيَةُ رَجُلٍ نَجَشَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ
آكِلُ رِبًا خَائِنٌ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّهَادَاتِ فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} . ثُمَّ سَاقَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ السَّكْسَكِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى فِيهَا مَا لَمْ يُعْطَ فَنَزَلَتْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رَبًا خَائِنٌ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ السَّكْسَكِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَزِيدَ مُقْتَصِرِينَ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مَرْفُوعًا لَكِنْ قَالَ: مَلْعُونٌ بَدَلَ خَائِنٌ اهـ.
وَأَطْلَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى عَلَى مَنْ أَخْبَرَ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ أَنَّهُ نَاجِشٌ لِمُشَارَكَتِهِ لِمَنْ يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فِي غُرُورِ الْغَيْرِ فَاشْتَرَكَا فِي الْحُكْمِ لِذَلِكَ، وَكَوْنُهُ آكِلَ رَبًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ إِنْ وَاطَأَهُ الْبَائِعُ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ لَهُ عَلَيْهِ جَعْلًا فَيَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِي الْخِيَانَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفْسِيرِ النَّجْشِ فِي الشَّرْعِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَقَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ حَزْمٍ التَّحْرِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فَوْقَ ثَمَنِ الْمِثْلِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَأَى سِلْعَةَ رَجُلٍ تُبَاعُ بِدُونِ قِيمَتِهَا فَزَادَ فِيهَا لِتَنْتَهِيَ إِلَى قِيمَتِهَا لَمْ يَكُنْ نَاجِشًا عَاصِيًا، بَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَمْ تَتَعَيَّنِ النَّصِيحَةُ فِي أَنْ يُوهِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ الشِّرَاءَ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ أَكْثَرَ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ، فَلِلَّذِي يُرِيدُ النَّصِيحَةَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْبَائِعَ بِأَنَّ قِيمَةَ سِلْعَتِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَهُ لِلْحَدِيثِ الْآتِي دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ) هُوَ مَنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَسَيَأْتِي مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ فَرَوَيْنَاهُ فِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ النَّاسِ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَتْنِ أَصْلًا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ النَّجْشِ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ فِيهِ السُّكُونَ.
61 - بَاب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ
2143 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا.
[الحديث 2143 - طرفاه في: 2256، 3843]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْغَرَرِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِرَاءَيْنِ (و) بَيْعِ (حَبَلِ الْحَبَلَةِ) بِفَتْحِ الْمُهْلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ فِي الْأَوَّلِ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَغَلَّطَهُ عِيَاضٌ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَبِلَتْ تَحْبَلُ حَبَلًا وَالْحَبَلَةُ جَمْعُ حَابِلٍ مِثْلَ: ظَلَمَةٍ وَظَالِمٍ، وَكَتَبَةٍ وَكَاتِبٍ، وَالْهَاءُ
فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: لِلْإِشْعَارِ بِالْأُنُوثَةِ وَقَدْ نَدَرَ فِيهِ امْرَأَةٌ حَابِلَةٌ فَالْهَاءُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: حَبَلَةٌ مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمَحْبُولُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ حَبِلَتْ إِلَّا الْآدَمِيَّاتِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَثْبَتَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ قَوْلًا، فَقَالَ: اخْتُلِفَ أَهِيَ لِلْإِنَاثِ عَامَّةً أَمْ لِلْآدَمِيَّاتِ خَاصَّةً، وَأَنْشَدَ فِي التَّعْمِيمِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَوْ ذِيَخَةٌ حُبْلَى مُجِحٌّ مُقْرِبُ
وَفِي ذَلِكَ تَعَقُّبٌ عَلَى نَقْلِ النَّوَوِيِّ اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ. ثُمَّ إِنَّ عَطْفَ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ بَيْعَ الْغَرَرِ صَرِيحًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ. وَشِرَاءُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَعْدُومُ وَالْمَجْهُولُ وَالْآبِقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبَيْعِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا فَلَوْ أُفْرِدَ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَالثَّانِي مَا يُتَسَامَحُ بِمِثْلِهِ إِمَّا لِحَقَارَتِهِ أَوْ لِلْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِيزِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ بَيْعُ أَسَاسِ الدَّارِ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا اللَّبَنُ، وَالْحَامِلِ، وَمِنَ الثَّانِي الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَالشُّرْبُ مِنَ السِّقَاءِ، قَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِهِ حَقِيرًا أَوْ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ تَعْيِينُهُ فَيَكُونُ الْغَرَرُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَبِالْعَكْسِ، وَقَالَ: وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الِاسْتِجْرَارِ مِنَ الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَاقِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ حَاضِرًا، فَيَكُونُ مِنَ الْمُعَاطَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ صِيغَةٌ يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: لَا أَعْلَمُ بِبَيْعِ الْغَرَرِ بَأْسًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَإِلَّا فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ يَصِحُّ غَالِبًا كَالثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ بُدُوِّ صَلَاحِهَا أَوْ كَانَ مُسْتَتِرًا تَبَعًا كَالْحَمْلِ مَعَ الْحَامِلِ جَازَ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سِيرِينَ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى بَيْعَ الْغَرَرِ إِنْ سَلِمَ فِي الْمَآلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ) أَيْ: بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ (بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. . . إِلَخْ) كَذَا وَقَعَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي الْمُوَطَّأِ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَهُوَ مُدْرَجٌ يَعْنِي أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ السَّلَمِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيِّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ نَافِعًا هُوَ الَّذِي فَسَّرَهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ نَافِعٍ فَسَرَّهُ لِجُوَيْرِيَةَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ مِمَّا حَمَلَهُ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرَ، فَسَيَأْتِي فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نَتَجَتْ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ بِدُونِ التَّفْسِيرِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِدُونِ التَّفْسِيرِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (الْجَزُورَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّ الزَّايِ هُوَ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ مُؤَنَّثٌ تَقُولُ: هَذِهِ الْجَزُورُ وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ قَيْدًا فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ فَلَا يَتَبَايَعُونَ هَذَا الْبَيْعَ إِلَّا فِي الْجَزُورِ أَوْ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَزُورِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى أَنْ
تُنْتَجَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ أَيْ: تَلِدُ وَلَدًا وَالنَّاقَةُ فَاعِلٌ، وَهَذَا الْفِعْلُ وَقَعَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ حَرْفٌ نَادِرٌ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا أَيْ: ثُمَّ تَعِيشُ الْمَوْلُودَةُ حَتَّى تَكْبُرَ ثُمَّ تَلِدَ، وَهَذَا الْقَدْرُ زَائِدٌ عَلَى رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَرِوَايَةُ جُوَيْرِيَةَ أَخْصَرُ مِنْهُمَا وَلَفْظُهُ: أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا وَبِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ إِلَى أَنْ يَلِدَ وَلَدُ النَّاقَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ إِلَى أَنْ تَحْمِلَ الدَّابَّةُ وَتَلِدَ وَيَحْمِلَ وَلَدُهَا، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّنْبِيهِ فَلَمْ يَشْتَرِطْ وَضْعَ حَمْلِ الْوَلَدِ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ جُوَيْرِيَةَ وَهُوَ الْوَضْعُ فَقَطْ، وَهُوَ فِي الْحُكْمِ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمَنْعُ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ لِلْجَهَالَةِ فِي الْأَجَلِ وَمِنْ حَقِّهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُذْكَرَ فِي السَّلَمِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَبِهِ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ بَيْعُ وَلَدِ نِتَاجِ الدَّابَّةِ، وَالْمَنْعُ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ وَمَجْهُولٌ وَغَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَيَدْخُلُ فِي بُيُوعِ الْغَرَرِ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِ الْغَرَرِ فِي التَّرْجَمَةِ لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِإِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ السَّلَمِ
أَيْضًا وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُوَافِقًا لِلثَّانِي، لَكِنْ قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُوَافِقُ الثَّانِيَ وَلَفْظُهُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ ذَلِكَ الْبَيْعَ يَبْتَاعُ الرَّجُلُ بِالشَّارِفِ حَبَلَ الْحَبَلَةِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مُحَصَّلُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُرَادُ الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ أَوْ بَيْعُ الْجَنِينِ؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ: هَلِ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ وِلَادَةُ الْأُمِّ أَوْ وِلَادَةُ وَلَدِهَا؟ وَعَلَى الثَّانِي هَلِ الْمُرَادُ بَيْعُ الْجَنِينِ الْأَوَّلِ أَوْ بَيْعُ جَنِينِ الْجَنِينِ؟ فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ. انْتَهَى.
وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، لَكِنْ هَذَا إِنَّمَا فَسَّرَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ - كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ - بَيْعَ الْمَضَامِينِ، وَفَسَّرَ بِهِ غَيْرُهُ بَيْعَ الْمَلَاقِيحِ، وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ - عَلَى اخْتِلَافِهَا - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَبَلَةِ جَمْعُ حَابِلٍ أَوْ حَابِلَةٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، إِلَّا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَبَلَةِ الْكَرْمَةُ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ حَبَلِهَا أَيْ: حَمْلُهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُزْهَى، وَعَلَى هَذَا فَالْحَبْلَةُ بِإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، لَكِنْ حُكِيَ فِي الْكَرْمَةِ فَتْحُ الْبَاءِ، وَادَّعَى السُّهَيْلِيُّ تَفَرُّدَ ابْنِ كَيْسَانَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي كِتَابِ الْأَلْفَاظِ وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَالْهَاءُ عَلَى هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
62 - بَاب بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ
2144 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى رَجُلٍ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ. وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ.
2145 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نُهِيَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يَرْفَعَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ. وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: اللِّمَاسِ
وَالنِّبَاذِ.
63 - بَاب بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ
2146 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.
2147 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ. قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ) ثُمَّ قَالَ: بَابُ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَعَلَّقَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَأَوْرَدَ فِي الْبَابَيْنِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَسَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ ثَلَاثِينَ بَابًا فِي بَابِ بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ. قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: نَهَى عَنِ الْمُنَابَذَةِ وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى رَجُلٍ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلَا يُقَلِّبُهُ إِلَّا بِذَلِكَ.
وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ثَوْبَهُ وَيَنْبِذُ الْآخَرُ بِثَوْبِهِ وَيَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ. وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ يُونُسَ وَذَلِكَ أَنْ يَتَبَايَعَ الْقَوْمُ السِّلَعَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَلَا يُخْبِرُونَ عَنْهَا أَوْ يَتَنَابَذَ الْقَوْمُ السِّلَعَ كَذَلِكَ فَهَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْقِمَارِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَقُولَ: أَلْقِ إِلَيَّ مَا مَعَكَ وَأُلْقِي إِلَيْكَ مَا مَعِي. وَلِلنَّسَائِيِّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْمُلَامَسَةُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ ثَوْبِي بِثَوْبِكَ وَلَا يَنْظُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ الْآخَرِ، وَلَكِنْ يَلْمِسُهُ لَمْسًا، وَالْمُنَابَذَةَ أَنْ يَقُولَ: أَنْبِذُ مَا مَعِي وَتَنْبِذُ مَا مَعَكَ، يَشْتَرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمْ مَعَ الْآخَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُذْكَرِ التَّفْسِيرُ فِي طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الثَّانِيَةِ هُنَا وَلَا فِي طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ وَقَعَ التَّفْسِيرُ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ هَذِهِ أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ وَفِي آخِرِهِ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَقُولَ: إِذَا نَبَذْتُ هَذَا الثَّوْبَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ.
وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يَلْمِسَ بِيَدِهِ وَلَا يَنْشُرَهُ وَلَا يُقَلِّبَهُ إِذَا مَسَّهُ وَجَبَ الْبَيْعُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّفْسِيرُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَقْعَدُ بِلَفْظِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ؛ لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ فَتَسْتَدْعِي وُجُودَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْمُلَامَسَةِ عَلَى ثَلَاثِ صُوَرٍ وَهِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَصَحُّهَا أَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَلْمِسَهُ الْمُسْتَامُ فَيَقُولَ لَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ: بِعْتُكَهُ بِكَذَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ لَمْسُكَ مَقَامَ نَظَرِكَ وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا رَأَيْتَهُ، وَهَذَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلتَّفْسِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ اللَّمْسِ بَيْعًا بِغَيْرِ صِيغَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَا اللَّمْسَ شَرْطًا فِي قَطْعِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ. وَالْبَيْعُ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا بَاطِلٌ، وَمَأْخَذُ الْأَوَّلِ عَدَمُ شَرْطِ رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ وَاشْتِرَاطُ نَفْيِ الْخِيَارِ، وَمَأْخَذُ الثَّانِي اشْتِرَاطُ نَفْيِ الصِّيغَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بُطْلَانُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا، لَكِنْ مَنْ أَجَازَ الْمُعَاطَاةَ قَيَّدَهَا بِالْمُحَقَّرَاتِ أَوْ بِمَا جَرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ بِالْمُعَاطَاةِ،
وَأَمَّا الْمُلَامَسَةُ وَالْمُنَابَذَةُ عِنْدَ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمَا فَلَا يَخُصُّهُمَا بِذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مَعَ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُعَاطَاةِ، فَلِمَنْ يُجِيزُ بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ أَنْ يَخُصَّ النَّهْيَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ عَمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهِ بِالْمُعَاطَاةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: إِنَّ الْأَئِمَّةَ أَجْرَوْا فِي بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْمُعَاطَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَأْخَذُ الثَّالِثِ شَرْطُ نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِس، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، وَنُخْرِجُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُنَابَذَةُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ، وَهِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهَا: أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ النَّبْذِ بَيْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُلَامَسَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ، لِلتَّفْسِيرِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي أَنْ يَجْعَلَا النَّبْذَ بَيْعًا بِغَيْرِ صِيغَةٍ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَا النَّبْذَ قَاطِعًا لِلْخِيَارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ النَّبْذِ فَقِيلَ: هُوَ طَرْحُ الثَّوْبِ كَمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ: هُوَ نَبْذُ الْحَصَاةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ بَيْعِ الْحَصَاةِ فَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ وَيَرْمِي حَصَاةً، أَوْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي الرَّمْيِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَاةَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ الرَّمْيِ بَيْعًا.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَعَنْ مَالِكٍ يَصِحُّ إِنْ وَصَفَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الَّتِي قَدَّمْتُهَا: لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَلَا يُخْبِرُونَ عَنْهَا وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ وِفَاقًا وَخِلَافًا طُولٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْأَعْمَى مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ بَيْعَ الْغَائِبِ لِكَوْنِ الْأَعْمَى لَا يَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ مَعَ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْخِيَارِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ إِذَا وَصَفَهُ لَهُ غَيْرُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى تَفَاصِيلَ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
(تَنْبِيهَاتٌ): الْأَوَّلُ: وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ: فَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَسُفْيَانُ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ، وَيُونُسُ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ بَعْضَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّهَا كُلَّهَا عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، وَاقْتَصَرَ مُسْلِمٌ عَلَى طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَحْدَهُ وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَاهَا; وَقَدْ خَالَفَهُمْ كُلَّهُمْ الزُّبَيْدِيُّ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالَفَهُمْ أَيْضًا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَهِيَ بُيُوعٌ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ وَخَطَّأَ رِوَايَةَ جَعْفَرٍ.
الثَّالِثُ حَدِيثُ: أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ ثَالِثُهَا: طَرِيقُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ، وَهُوَ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عَنْهُ تَفْسِيرَ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ، وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُهُمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَظَاهِرُ الطُّرُقِ كُلِّهَا أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مَنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ: وَزَعَمَ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ أَنْ يَقُولَ. . . إِلَخْ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ لِبُعْدِ أَنْ يُعَبِّرَ الصَّحَابِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ زَعَمَ، وَلِوُقُوعِ التَّفْسِيرِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ قَوْلِهِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ.
الرَّابِعُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى هُنَا نَهَى عَنْ لُبْسَتَيْنِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى لُبْسَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ الثَّانِيَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَلَفْظُهُ: أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَرْتَدِيَ فِي ثَوْبٍ يَرْفَعُ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.
64 - بَاب النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ.
وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ، وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا. وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ: صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ.
2148 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: صَاعَ تَمْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.
2149 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ"
[الحديث 2149 - طرفه في: 2164]
2150 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ.
وَلَا زَائِدَةٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِدُونٍ لَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً وَلَا يُحَفِّلَ بَيَانًا لِلنَّهْيِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: نَهَى الْبَائِعَ أَنْ يُحَفِّلَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ وَقَيَّدَ النَّهْيَ بِالْبَائِعِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ لَوْ حَفَّلَ فَجَمَعَ اللَّبَنَ لِلْوَلَدِ أَوْ لِعِيَالِهِ أَوْ لِضَيْفِهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي، وَذُكِرَ الْبَقَرُ فِي التَّرْجَمَةِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْحُكْمِ خِلَافًا لِدَاوُدَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا لِغَلَبَتِهِمَا عِنْدَهُمْ، وَالتَّحْفِيلُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ التَّجْمِيعُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَكْثُرُ فِي ضَرْعِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ كَثَّرْتَهُ فَقَدْ حَفَّلْتَهُ تَقُولُ: ضَرْعٌ حَافِلٌ أَيْ: عَظِيمٌ، وَاحْتَفَلَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرَ جَمْعُهُمْ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَحْفِلُ.
قَوْلُهُ: (وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ إِلْحَاقَ غَيْرِ النَّعَمِ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بِالنَّعَمِ لِلْجَامِعِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ تَغْرِيرُ الْمُشْتَرِي، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالنَّعَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالْأَتَانِ وَالْجَارِيَةِ، فَالْأَصَحُّ لَا يَرُدُّ لِلَبَنٍ عِوَضًا، وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَتَانِ دُونَ
الْجَارِيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُصَرَّاةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (الَّتِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ) أَيْ: فِي الثَّدْيِ) (وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ) وَعَطْفُ الْحَقْنِ عَلَى التَّصْرِيَةِ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ: مِنْهُ صَرَيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتُهُ) وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ رَبْطُ أَخْلَافِ النَّاقَةِ أَوِ الشَّاةِ وَتَرْكُ حَلْبِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ لَبَنُهَا فَيَكْثُرَ، فَيَظُنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ عَادَتُهَا فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا لِمَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ لَبَنِهَا.
قَوْلُهُ: (لَا تُصَرُّوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ بِوَزْنِ تُزَكُّوا يُقَالُ: صَرَّى يُصَرِّي تَصْرِيَةً كَزَكَّى يُزَكِّي تَزْكِيَةً.
وَالْإِبِلَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مَنْ صَرَّيْتُ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ إِذَا جَمَعْتُهُ وَلَيْسَ مِنْ صَرَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَبَطْتُهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْهُ لَقِيلَ: مَصْرُورَةٌ أَوْ مُصَرَّرَةٌ وَلَمْ يُقَلْ مُصَرَّاةٌ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ الْأَمْرَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الْأَغْلَبُ:
رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى فِي فِقْرَتِهِ
…
مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ سِيرَتِهِ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ صَدَقَاتكُمْ
…
مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافُهَا لَمْ تُحَرَّرِ
وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ لَكِنْ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ) لَمْ يَذْكُرِ الْبَقَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ تَحْرِيمُ التَّصْرِيَةِ سَوَاءٌ قُصِدَ التَّدْلِيسُ أَمْ لَا، وَسَيَأْتِي فِي الشُّرُوطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى عَنِ التَّصْرِيَةِ وَبِهَذَا جَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ إِيذَاءِ الْحَيَوَانِ لَكِنْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ بِلَفْظِ: لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا بَاعَ أَحَدُكُمُ الشَّاةَ أَوِ اللِّقْحَةَ فَلَا يُحَفِّلْهَا وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَعْلِيلُ الْأَكْثَرِ بِالتَّدْلِيسِ، وَيُجَابُ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْإِيذَاءِ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ لَا يَسْتَمِرُّ فَيُغْتَفَرُ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ.
قَوْلُهُ: (فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ) أَيْ: مَنِ اشْتَرَاهَا بَعْدَ التَّحْفِيلِ، زَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَابْتِدَاءُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ بَيَانِ التَّصْرِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَقِيلَ: مِنَ التَّفَرُّقِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ أَوْسَعَ مِنَ الثَّلَاثِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا إِذَا تَأَخَّرَ ظُهُورُ التَّصْرِيَةِ إِلَى آخِرِ الثَّلَاثِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ تُحْسَبَ الْمُدَّةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ وَذَلِكَ يُفَوِّتُ مَقْصُودَ التَّوَسُّعِ بِالْمُدَّةِ.
قَوْلُهُ: (بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) أَيِ: الرَّأْيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَحْتَلِبْهَا) كَذَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ بِكَسْرِ أَنْ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ وَجَزْمِ يَحْتَلِبْهَا، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أُسَيْدِ بْنِ مُوسَى، عَنِ اللَّيْثِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا بِفَتْحِ أَنْ وَنَصْبِ يَحْتَلِبَهَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ الْحَلْبِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالتَّصْرِيَةِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِبْ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ التَّصْرِيَةُ لَا تُعْرَفُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ الْحَلْبِ ذَكَرَ قَيْدًا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، فَلَوْ ظَهَرَتِ التَّصْرِيَةُ بِغَيْرِ الْحَلْبِ فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ.
قَوْلُهُ: (إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي آخِرِ الْبَابِ: إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا أَيْ: أَبْقَاهَا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ يَقْتَضِي صِحَّةَ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَإِثْبَاتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، فَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بَعْدَ الرِّضَا بِالتَّصْرِيَةِ فَرَدَّهَا هَلْ يَلْزَمُ الصَّاعُ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَنَقَلُوا نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ الْفَوْرِ وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعُيُوبِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَى
هَذَا الْإِطْلَاقِ، وَنَقَلَ أَبُو حَامِدٍ، وَالرُّويَانِيُّ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَأَجَابَ مَنْ صَحَّحَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ إِلَّا فِي الثَّلَاثِ لِكَوْنِ الْغَالِبِ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالثَّانِي أَرْجَحُ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصْرِيَةِ قَدْ خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ النَّصِّ فَيُطْرَدُ ذَلِكَ وَيُتَّبَعُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَحْمَدَ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ: بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ يَحُوزَهَا أَوْ يَرُدَّهَا وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَصَاعَ تَمْرٍ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: وَصَاعًا مِنْ تَمْرِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِلصَّاعِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي رَدَّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوْرِيَّةُ الصَّاعِ مَعَ الرَّدِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُ جُمْهُورِ النُّحَاةِ: إِنَّ شَرْطَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، فَإِنْ قِيلَ: التَّعْبِيرُ بِالرَّدِّ فِي الْمُصَرَّاةِ وَاضِحٌ فَمَا مَعْنَى التَّعْبِيرِ بِالرَّدِّ فِي الصَّاعِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
أَيْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا، وَيُجْعَلُ عَلَفْتُهَا مَجَازًا عَنْ فِعْلٍ شَامِلٍ لِلْأَمْرَيْنِ أَيْ: نَاوَلْتُهَا، فَيُحْمَلُ الرَّدُّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَحْوِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ الصَّاعِ مَعَ الشَّاةِ إِذَا اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ، فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ بَاقِيًا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَأَرَادَ رَدَّهُ هَلْ يَلْزَمُ الْبَائِعَ قَبُولُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا؛ لِذَهَابِ طَرَاوَتِهِ وَلِاخْتِلَاطِهِ بِمَا تَجَدَّدَ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى التَّمْرِ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ. . . إِلَخْ) يَعْنِي: أَنَّ أَبَا صَالِحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ وَقَعَ فِي رِوَايَاتِهِمْ تَعْيِينُ التَّمْرِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: مَنِ ابْتَاعَ شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهَا الْبَزَّارُ، قَالَ مُغَلْطَايْ: لَمْ أَرَهَا إِلَّا عِنْدَهُ. قُلْتُ: قَدْ وَصَلَهَا أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سَلِيمٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَوَّلُ رِوَايَةِ لَيْثٍ لَا تَبِيعُوا الْمُصَرَّاةَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ الْحَدِيثَ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَفِي مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَيْضًا لِينٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ بِلَفْظِ مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ - وَهُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ - فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَلْيَنْقَلِبْ بِهَا فَلْيَحْلِبْهَا، فَإِنْ رَضِيَ بِهَا أَمْسَكَهَا وَإِلَّا رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَسِيَاقُهُ يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلَاثًا أَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الطَّعَامِ، وَالثَّلَاثِ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَحَبِيبٍ، وَأَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوَهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ التَّمْرِ دُونَ ذِكْرِ الثَّلَاثِ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَإِنَّهُ يَحْلِبُهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَخَذَهَا وَإِلَّا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِذِكْرِ الطَّعَامِ وَلَمْ يَقُلْ ثَلَاثًا، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيًّ مِنْ طَرِيقِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنِ اشْتَرَى لِقْحَةً مُصَرَّاةً أَوْ شَاةً مُصَرَّاةً فَحَلَبَهَا فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ يَحُوزَهَا أَوْ يَرُدَّهَا وَإِنَاءً مِنْ طَعَامٍ.
فَحَصَلْنَا عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَلَى أَرْبَعِ رِوَايَاتٍ: ذِكْرِ التَّمْرِ وَالثَّلَاثِ، وَذِكْرِ التَّمْرِ بِدُونِ الثَّلَاثِ،
وَالطَّعَامِ بَدَلَ التَّمْرِ كَذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا أَنَّ مَنْ زَادَ الثَّلَاثَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَهُوَ حَافِظٌ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ فِيمَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهَا أَوِ اخْتَصَرَهَا، وَتُحْمَلُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا الطَّعَامُ عَلَى التَّمْرِ، وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْرَاءِ الْحِنْطَةُ الشَّامِيَّةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ لَا سَمْرَاءَ يَعْنِي: الْحِنْطَةَ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَا سَمْرَاءَ، تَمْرٌ لَيْسَ بِبُرٍّ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ التَّمْرُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ الْقَمْحُ نَفَاهُ بِقَوْلِهِ: لَا سَمْرَاءَ.
لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: إِنْ رَدَّهَا رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، لَا سَمْرَاءَ وَهَذَا يُقْتَضَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ لَا سَمْرَاءَ حِنْطَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهِيَ الْحِنْطَةُ الشَّامِيَّةُ فَيَكُونُ الْمُثْبِتُ لِقَوْلِهِ: مِنْ طَعَامِ أَيْ: مِنْ قَمْحٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ظَنَّهُ مُسَاوِيًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الطَّعَامِ الْبُرُّ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ الْبُرُّ فَعَبَّرَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الطَّعَامِ عَلَى التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَالِبَ قُوتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ: فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالطَّعَامِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ التَّمْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي لَا تَخْيِيرًا، وَإِذَا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَيُرْجَعُ إِلَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا وَهِيَ التَّمْرُ فَهِيَ الرَّاجِحَةُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: إِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا فَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالِاتِّفَاقِ.
قَوْلُهُ: (وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ) أَيْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ النَّاصَّةَ عَلَى التَّمْرِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَمْ تَنُصَّ عَلَيْهِ أَوْ أَبْدَلَتْهُ بِذِكْرِ الطَّعَامِ. فَقَدْ رَوَاهُ بِذِكْرِ التَّمْرِ - غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - ثَابِتُ بْنُ عِيَاضٍ كَمَا يَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَهَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالشَّعْبِيُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِذِكْرِ الْإِنَاءِ فَيُفَسِّرُهَا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِذِكْرِ الصَّاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الزَّكَاةِ، وَقَدْ أخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ الَّذِي احْتُلِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ قُوتَ تِلْكَ الْبَلَدِ أَمْ لَا، وَخَالَفَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي فُرُوعِهَا آخَرُونَ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يُرَدُّ بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ وَلَا يَجِبُ رَدُّ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ، وَخَالَفَهُمْ زُفَرُ فَقَالَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ صَاعِ تَمْرٍ أَوْ نِصْفِ صَاعِ بُرٍّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يَتَعَيَّنُ صَاعُ التَّمْرِ بَلْ قِيمَتُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالُوا: يَتَعَيَّنُ قُوتُ الْبَلَدِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ أَنْ لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِغَيْرِ
التَّمْرِ مِنْ قُوتٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَى، وَأَثْبَتَ ابْنُ كَجٍّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا عَجَزَ عَنِ التَّمْرِ هَلْ تُلْزِمُهُ قِيمَتُهُ بِبَلَدِهِ أَوْ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي فِيهَا التَّمْرُ إِلَيْهِ؟ وَبِالثَّانِي قَالَ الْحَنَابِلَةِ، وَاعْتَذَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنِ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ بِأَعْذَارٍ شَتَّى: فَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَكُنْ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِمَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَهُوَ كَلَامٌ آذَى قَائِلُهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَفِي حِكَايَتِهِ غِنًى عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَرَكَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ
الْجَلِيَّ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمْثَالِهِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَمِنَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَظُنُّ أَنَّ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ أَفْتَى بِوَفْقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ لَمَا خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الِاصْطِلَامِ: التَّعَرُّضُ إِلَى جَانِبِ الصَّحَابَةِ عَلَامَةٌ عَلَى خِذْلَانِ فَاعِلِهِ، بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَقَدِ اخْتُصَّ أَبُو هُرَيْرَةَ بِمَزِيدِ الْحِفْظِ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ - يَعْنِي: الْمُتَقَدِّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ أَيْضًا - وَفِيهِ قَوْلُهُ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا الْحَدِيثَ. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْأَصْلِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُسَمَّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَاعْتَلَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ بِأَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لِذِكْرِ التَّمْرِ فِيهِ تَارَةً وَالْقَمْحِ أُخْرَى وَاللَّبَنِ أُخْرَى، وَاعْتِبَارِهِ بِالصَّاعِ تَارَةً، وَبِالْمِثْلِ أَوِ الْمِثْلَيْنِ تَارَةً وَبِالْإِنَاءِ أُخْرَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالضَّعِيفُ لَا يُعَلُّ بِهِ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُعَارِضٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لَا الْعُقُوبَاتِ، وَالْمُتْلَفَاتُ تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَبِغَيْرِ الْمِثْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى النَّسْخِ مَعَ مُدَّعِيهِ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ فَقِيلَ: حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ لَبَنَ الْمُصَرَّاةِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا أُلْزِمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ نَسِيئَةً صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَهَذَا جَوَابُ الطَّحَاوِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالتَّمْرُ إِنَّمَا شُرِعَ فِي مُقَابِلِ الْحَلْبِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا أَوْ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي كَوْنِهِ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقِيلَ: نَاسِخُهُ حَدِيثُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ اللَّبَنَ فَضْلَةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الشَّاةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ فَضَلَاتُهَا تَكُونُ لَهُ فَكَيْفَ يَغْرَمُ بَدَلَهَا لِلْبَائِعِ؟ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقٍ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ الْمَرْجُوحُ عَلَى الرَّاجِحِ؟ وَدَعْوَى كَوْنِهِ بَعْدَهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَلَى التِّنْزَالِ فَالْمُشْتَرِي لَمْ يُؤْمَرْ بِغَرَامَةِ مَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ بَلْ بِغَرَامَةِ اللَّبَنِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذَا تَعَارُضٌ.
وَقِيلَ: نَاسِخُهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي رَفْعِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْجَرِينِ يَغْرَمُ مِثْلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِي السُّنَنِ، وَهَذَا جَوَابُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، فَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَهِيَ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ التَّصْرِيَةَ إِنَّمَا وُجِدَتْ مِنَ الْبَائِعِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لَلَزِمَهُ التَّغْرِيمُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ يَقْتَضِي تَغْرِيمَ الْمُشْتَرِي فَافْتَرَقَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَاسِخُهُ حَدِيثُ: وَالْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَهَذَا جَوَابُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقْطَعُ الْخِيَارَ فَثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ بَعْدَهَا إِلَّا لِمَنِ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الْخِيَارَ الَّذِي فِي الْمُصَرَّاةِ مِنْ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا تَقْطَعُهُ الْفُرْقَةُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهِ
فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ لَا فِي مُخَالَفَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَهَذَا الْخَيْرُ إِنَّمَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأُصُولَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمَا الْأَصْلُ وَالْآخَرَانِ مَرْدُودَانِ إِلَيْهِمَا، فَالسُّنَّةُ أَصْلٌ وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ فَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَصْلُ بِالْفَرْعِ؟ بَلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الْأَصْلَ يُخَالِفُ نَفْسَهُ؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ قِيَاسُ الْأُصُولِ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَتَنَاوُلُ الْأَصْلِ لَا يُخَالِفُ هَذَا الْخَبَرَ الْوَاحِدَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ مَحَلِّهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا أَقْوَى مُتَمَسَّكٍ بِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: مَتَى ثَبَتَ الْخَبَرُ صَارَ أَصْلًا مِنَ الْأُصُولِ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى عَرْضِهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَافَقَهُ فَذَاكَ وَإِنْ خَالَفَهُ فَلَا يَجُوزُ رَدُّ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِلْخَبَرِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ بِلَا خِلَافٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَوْلَى عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَسْلِيمُ الْأَقْيِسَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الَّذِي ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيَّنُوهَا بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ ضَمَانَ الْمِثْلِيَّاتِ بِالْمِثْلِ وَالْمُتَقَوَّمَاتِ بِالْقِيمَةِ، وَهَاهُنَا إِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِثْلِيًّا فَلْيُضْمَنْ بِاللَّبَنِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوَّمًا فَلْيُضْمَنْ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَقَدْ وَقَعَ هُنَا مَضْمُونًا بِالتَّمْرِ فَخَالَفَ الْأَصْلَ.
وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ، فَإِنَّ الْحُرَّ يُضْمَنُ فِي دِيَتِهِ بِالْإِبِلِ، وَلَيْسَتْ مِثْلًا وَلَا قِيمَةً. وَأَيْضًا فَضَمَانُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ لَيْسَ مُطَّرِدًا فَقَدْ يُضْمَنُ الْمِثْلُ بِالْقِيمَةِ إِذَا تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ كَمَنْ أَتْلَفَ شَاةً لَبُونًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَلَا يُجْعَلُ بِإِزَاءِ لَبَنِهَا لَبَنًا آخَرَ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ مُقَدَّرَ الضَّمَانِ بِقَدْرِ التَّالِفِ وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ قُدِّرَ هُنَا بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الصَّاعُ فَخَرَجَ عَنِ الْقِيَاسِ. وَالْجَوَابُ مَنْعُ التَّعْمِيمِ فِي الْمَضْمُونَاتِ كَالْمُوضِحَةِ فَأَرْشُهَا مُقَدَّرٌ مَعَ اخْتِلَافِهَا بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالْغُرَّةُ مُقَدَّرَةٌ فِي الْجَنِينِ مَعَ اخْتِلَافِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ فَلْيُقَدَّرْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِقَطْعِ التَّشَاجُرِ، وَتُقَدَّمُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ حَتَّى يُوجَبَ نَظِيرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ عُرِفَ مِقْدَارُهُ فَوُكِلَ إِلَى تَقْدِيرِهِمَا أَوْ تَقْدِيرِ أَحَدِهِمَا لَأَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، فَقَطَعَ الشَّارِعُ النِّزَاعَ وَالْخِصَامَ وَقَدَّرَهُ بِحَدٍّ لَا يَتَعَدَّيَانِهِ فَصْلًا لِلْخُصُومَةِ. وَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالتَّمْرِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ كَانَ قُوتَهُمْ إِذْ ذَاكَ كَاللَّبَنِ وَهُوَ مَكِيلٌ كَاللَّبَنِ وَمُقْتَاتٌ فَاشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْعُومًا مُقْتَاتًا مَكِيلًا، وَاشْتَرَكَا أَيْضًا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقْتَاتُ بِهِ بِغَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّبَنَ التَّالِفَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَدْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ فَقَدْ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَمَا كَانَ حَادِثًا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالنَّقْصِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ وَإِلَّا فَلَا يَمْتَنِعُ وَهُنَا كَذَلِكَ. رَابِعُهَا: أَنَّهُ خَالَفَ الْأُصُولَ فِي جَعْلِ الْخِيَارِ فِيهِ ثَلَاثًا مَعَ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ وَكَذَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّ حُكْمَ الْمُصَرَّاةِ انْفَرَدَ بِأَصْلِهِ عَنْ مُمَاثَلَةٍ فَلَا يُسْتَغْرَبُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ الَّتِي يُتَبَيَّنُ بِهَا لَبَنُ الْخِلْقَةِ مِنَ اللَّبَنِ الْمُجْتَمِعِ بِالتَّدْلِيسِ غَالِبًا، فَشُرِعَتْ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُدَّةٍ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلَيْسَ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ وَغَيْرِهَا.
خَامِسُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوِّضِ فِيمَا إِذَا
كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الصَّاعِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ ثَمَنِهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّمْرَ عِوَضٌ عَنِ اللَّبَنِ لَا عَنِ الشَّاةِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ.
سَادِسُهَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ الرِّبَا فِيمَا إِذَا اشْتَرَى شَاةً بِصَاعٍ، فَإِذَا اسْتَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا فَقَدِ اسْتَرْجَعَ الصَّاعَ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ شَاةً وَصَاعًا بِصَاعٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ لَا الْفُسُوخِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَوْ تَقَايَلَا فِي هَذَا الْعَقْدِ بِعَيْنِهِ جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
سَابِعُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَائِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا، وَالْأَعْيَانُ لَا تُضْمَنُ بِالْبَدَلِ إِلَّا مَعَ فَوَاتِهَا كَالْمَغْصُوبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، لِاخْتِلَاطِهِ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَتَعَذَّرَ تَمْيِيزُهُ فَأَشْبَهَ الْآبِقَ بَعْدَ الْغَصْبِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ.
ثَامِنُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الرَّدِّ بِغَيْرِ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٍ، أَمَّا الشَّرْطُ فَلَمْ يُوجَدْ، وَأَمَّا الْعَيْبُ فَنُقْصَانُ اللَّبَنِ لَوْ كَانَ عَيْبًا لَثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيَةٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالتَّدْلِيسِ كَمَنْ بَاعَ رَحًى دَائِرَةً بِمَا جَمَعَهُ لَهَا بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَأَيْضًا فَالْمُشْتَرِي لَمَّا رَأَى ضَرْعًا مَمْلُوءًا لَبَنًا ظَنَّ أَنَّهُ عَادَةٌ لَهَا فَكَأَنَّ الْبَائِعَ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ لَهُ الرَّدُّ لِفَقْدِ الشَّرْطِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يُظْهِرُ صِفَةَ الْمَبِيعِ تَارَةً بِقَوْلِهِ وَتَارَةً بِفِعْلِهِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى صِفَةٍ فَبَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهَا كَانَ قَدْ دَلَّسَ عَلَيْهِ فَشُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ بِنَاءً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُ الْبَائِعُ، وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إِذَا تُلُقُّوا وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى السُّوقِ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَيْبٌ وَلَا خُلْفٌ فِي شَرْطٍ. وَلَكِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ وَلَا نَسْخَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ مَا إِذَا اشْتَرَى شَاةً بِشَرْطِ أَنَّهَا تُحْلَبُ مَثَلًا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَشَرَطَ فِيهَا الْخِيَارَ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِسْقَاطِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا بَطَلَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قِيمَةَ اللَّبَنِ يَوْمَئِذٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالتَّصْرِيَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ يَقْتَضِي تَعْلِيقَهُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ وُجِدَتِ التَّصْرِيَةُ أَمْ لَا فَهُوَ تَأْوِيلٌ مُتَعَسِّفٌ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَفْظُ عُمُومٍ، وَمَا ادَّعَوْهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ فَيَحْتَاجُ مَنِ ادَّعَى قَصْرَ الْعُمُومِ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا وُجُودَ لَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغِشِّ، وَأَصْلٌ فِي ثُبُوثِ الْخِيَارِ لِمَنْ دُلِّسَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، وَأَصْلٌ فِي أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ أَصْلَ الْبَيْعِ، وَأَصْلٌ فِي أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ التَّصْرِيَةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهَا، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خِلَابَةٌ وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: التَّصْرِيَةُ خِلَابَةٌ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ؟ فِيهِ وَجْهٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيُرَجِّحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّ لَفْظَهُ: مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ الْحَدِيثَ. وَلَوْ صَارَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ عَادَةً وَاسْتَمَرَّ عَلَى كَثْرَتِهِ هَلْ لَهُ الرَّدُّ؟ فِيهِ وَجْهٌ لَهُمْ أَيْضًا خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: لَوْ تَحَفَّلَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ صَرَّهَا الْمَالِكُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَبَاعَهَا فَهَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ؟ فِيهِ خِلَافٌ: فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى أَثْبَتَهُ لِأَنَّ الْعَيْبَ مُثْبِتٌ لِلْخِيَارِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَدْلِيسٌ لِلْبَائِعِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَنَّ حُكْمَ التَّصْرِيَةِ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ خَصَّهُ بِمَوْرِدِهِ وَهُوَ حَالَةُ الْعَمْدِ فَإِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا تَنَاوَلَهَا فَقَطْ.
وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الضَّرْعُ مَمْلُوءًا لَحْمًا وَظَنَّهُ الْمُشْتَرِي لَبَنًا فَاشْتَرَاهَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَحْمٌ هَلْ
يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمِنْهَا لَوِ اشْتَرَى غَيْرَ الْمُصَرَّاةِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا بَعْدَ حَلْبِهَا، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الرَّدِّ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَنًى بِجَمْعِهِ، وَقِيلَ: يُرَدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ كَالْمُصَرَّاةِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَرُدُّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) سَيَأْتِي فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ مُسَدَّدٍ عَنْ شَيْخَيْنِ، فَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَسِيَاقُهُ عَنْ مُعْتَمِرٍ أَتَمُّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبِي) هُوَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ بَصْرِيُّونَ سِوَى الصَّحَابِيِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ) هَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ مَرْفُوعًا، وَذَكَرَ أَنَّ رَفْعَهُ غَلَطٌ، وَرَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ عَنْهُ كَمَا هُنَا: حَدِيثُ الْمُحَفَّلَةِ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّلَقِّي مَرْفُوعٌ. وَخَالَفَهُمْ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَرَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَشَارَ إِلَى وَهْمِهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَرَدَّهَا) أَيْ: أَرَادَ رَدَّهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَلْيَرُدَّ مَعَهَا عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْمَعِيَّةِ، أَوْ تُحْمَلُ الْمَعِيَّةُ عَلَى الْبَعْدِيَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ الرَّدُّ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ مَعَ بِمَعْنَى الْبَعْدِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ (لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَعَلَى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي قَرِيبًا، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْبَيْعِ وَعَلَى النَّجْشِ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى التَّصْرِيَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.
65 - بَاب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ، وَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
2151 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِي حَلْبَتِهَا) بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ عَلَى إِرَادَةِ الْمَحْلُوبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّمْرَ مُقَابِلٌ لِلْحَلْبَةِ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ التَّمْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْحَلْبِ لَا فِي مُقَابَلَةِ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الْحَلْبَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَلْبِ مَجَازٌ فِي اللَّبَنِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَجِبُ رَدُّ التَّمْرِ وَاللَّبَنِ مَعًا، وَشَذَّ بِذَلِكَ عَنِ الْجُمْهُورِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ وَكَذَا قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو يَعْنِي: ابْنَ جَبَلَةَ وَأَهْمَلَهُ الْبَاقُونَ، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو غَسَّانَ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِزُنَيْجٍ، وَجَزَمَ الْحَاكِمُ، وَالْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو السَّوَّاقُ الْبَلْخِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، وَسَتَأْتِي رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي بَابِ لَا يَشْتَرِي حَاضِرٌ لِبَادٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي زِيَادٌ) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْخُرَاسَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ ثَابِتًا) هُوَ ابْنُ عِيَاضٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَاهُ مِنْ فَوْقَ أَيْ: ابْنُ الْخَطَّابِ.
قَوْلُهُ: (مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا) ظَاهِرُهُ أَنَّ صَاعَ التَّمْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْحَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّ صَاعَ التَّمْرِ فِي مُقَابِلِ الْمُصَرَّاةِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ: مَنِ اشْتَرَى
غَنَمًا ثُمَّ قَالَ: فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ، وَابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ: يَرُدُّ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَاعًا حَتَّى قَالَ الْمَازِرِيُّ: مِنَ الْمُسْتَبْشَعِ أَنْ يَغْرَمَ مُتْلِفُ لَبَنِ أَلْفِ شَاةٍ كَمَا يَغْرَمُ مُتْلِفُ لَبَنِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُغْتَفَرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي اعْتِبَارِ الصَّاعِ قَطْعُ النِّزَاعِ فَجُعِلَ حَدًّا يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ التَّخَاصُمِ فَاسْتَوَى الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ لَبَنَ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ النَّاقَةِ الْوَاحِدَةِ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُعْتَبَرُ الصَّاعُ سَوَاءٌ قَلَّ اللَّبَنُ أَمْ كَثُرَ، فَكَذَلِكَ هُوَ مُعْتَبَرٌ سَوَاءٌ قَلَّتِ الْمُصَرَّاةُ أَوْ كَثُرَتْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
66 - بَاب بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِي.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ الزِّنَا
2152 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا زَنَتْ الْأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ.
[الحديث 2152 - أطرافه في 2153، 2233، 2234، 2555، 6837، 6839]
2153، 2154 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِي) أَيْ: جَوَازُهُ مَعَ بَيَانِ عَيْبِهِ.
[الحديث 2154 - أطرافه في: 2232، 2556، 6838]
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُرَيْحٌ إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً كَانَتْ فَجَرَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ الْمُشْتَرِي، فَخَاصَمَهُ إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ: إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَلْيَجْلِدْهَا. الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزَّانِي، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الْمَبِيعِ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِبَيْعِ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْبِيحِ فِعْلِهَا، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَمَةَ الزَّانِيَةَ لَا جَزَاءَ لَهَا إِلَّا الْبَيْعَ أَبَدًا، وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى عِنْدَ سَيِّدٍ زَجْرًا لَهَا عَنْ مُعَاوَدَةِ الزِّنَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِإِعْفَافِهَا إِمَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ يُعِفَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَصُونَهَا بِهَيْبَتِهِ.
67 - بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ النِّسَاءِ
2155 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِي وَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ،
ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَشِيِّ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ.
2156 -
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها سَاوَمَتْ بَرِيرَةَ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ: إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قُلْتُ لِنَافِعٍ: حُرًّا كَانَ زَوْجُهَا أَوْ عَبْدًا؟ فَقَالَ: مَا يُدْرِينِي.
[الحديث 2156 - أطرافه في: 2169، 2562، 6752، 6757، 6759]
قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ النِّسَاءِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ شِرَاءِ بَرِيرَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الشُّرُوطِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشَاهَدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ قِصَّةَ الْمُبَايَعَةِ كَانَتْ مَعَ رِجَالٍ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مَعَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ. . . إِلَخْ هُوَ قَوْلُ هَمَّامٍ الرَّاوِي عَنْهُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ هَلْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَسَّانُ أَوَّلُ السَّنَدِ وَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي ابْنُ أَبِي عَبَّادٍ وَعِنْدَ غَيْرِهِ حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ وَهُمَا وَاحِدٌ.
68 - بَاب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ؟ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ
2157 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ جَرِيرًا رضي الله عنه يَقُولُ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
2158 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا"
[الحديث 2158 - طرفاه في: 2163، 2274]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: حَمَلَ الْمُصَنِّفُ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَهُوَ الْبَيْعُ بِالْأَجْرِ أَخْذًا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوَّى ذَلِكَ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِأَنَّ الَّذِي يَبِيعُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَكُونُ غَرَضُهُ نُصْحَ الْبَائِعِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ تَحْصِيلُ الْأُجْرَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ
إِجَازَةَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ أَوَّلَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدِمَ بِحَلُوبَةٍ لَهُ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنْ يُبَايِعُكَ فَشَاوِرْنِي حَتَّى آمُرَكَ وَأَنْهَاكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا اسْتَنْصَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَنْصَحْ لَهُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِلَفْظِ: لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: (وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ) أَيْ: فِي بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ أَيِ: ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَعْرَابِيٍّ أَبِيعُ لَهُ فَرَخَّصَ لِي وَأَمَّا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ غُرَّتَهُمْ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا بَأْسَ. فَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَصْلُحُ الْيَوْمَ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا أَرَى أَبَا مُحَمَّدٍ إِلَّا لَوْ أَتَاهُ ظِئْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَّا سَيَبِيعُ لَهُ.
فَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَلِهَذَا نَسَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ مَا نَسَبَ، وَأَخَذَ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَمَسَّكُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ النَّهْيِ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ حَدِيثَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا فِي بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي فَهُوَ خَاصٌّ فَيُقْضَى عَلَى الْعَامِّ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَجَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَهُمَا بِتَخْصِيصِ النَّهْيِ بِمَنْ يَبِيعُ لَهُ بِالْأُجْرَةِ كَالسِّمْسَارِ، وَأَمَّا مَنْ يَنْصَحُهُ فَيُعْلِمُهُ بِأَنَّ السِّعْرَ كَذَا مَثَلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ جَرِيرٍ فِي النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ،
وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.
قَوْلُهُ: (لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِلْبَيْعِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) بِمُهْمَلَتَيْنِ هُوَ فِي الْأَصْلِ الْقَيِّمُ بِالْأَمْرِ وَالْحَافِظُ لَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُتَوَلِّي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْحَاضِرَ بِالْبَادِي بِأَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ الْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي فِي زَمَنِ الْغَلَاءِ شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: صُورَتُهُ أَنْ يَجِيءَ الْبَلَدَ غَرِيبٌ بِسِلْعَتِهِ يُرِيدُ بَيْعَهَا بِسِعْرِ الْوَقْتِ فِي الْحَالِ، فَيَأْتِيهِ بَلَدِيٌّ فَيَقُولُ لَهُ: ضَعْهُ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ لَكَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ هَذَا السِّعْرِ، فَجَعَلُوا الْحُكْمَ مَنُوطًا بِالْبَادِي وَمَنْ شَارَكَهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْبَادِي فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي عَدَمِ مَعْرِفَةِ السِّعْرِ الْحَاضِرِ وَإِضْرَارِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِالْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يُبَادِرَ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَدَاوَةَ قَيْدًا، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَلْتَحِقُ بِالْبَدَوِيِّ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ، قَالَ: فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَثْمَانَ السِّلَعِ وَالْأَسْوَاقِ فَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَجْلُوبُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْرِضَ الْحَضَرِيُّ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَوِيِّ، فَلَوْ عَرَضَهُ الْبَدَوِيُّ عَلَى الْحَضَرِيِّ لَمْ يُمْنَعْ. وَزَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يَظْهَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ السَّعَةُ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَكْثَرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ تَدُورُ بَيْنَ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمَعْنَى إِلَى الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ، فَحَيْثُ يَظْهَرُ يُخَصَّصُ
النَّصُّ أَوْ يُعَمَّمُ، وَحَيْثُ يَخْفَى فَاتِّبَاعُ اللَّفْظِ أَوْلَى، فَأَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَلَدِيُّ ذَلِكَ فَلَا يَقْوَى لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِيهِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ النَّهْيُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ سُؤَالِ الْبَلَدِيِّ وَعَدَمِهِ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَمُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الظُّهُورِ وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ ظُهُورِ السَّعَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْوِيتِ الرِّبْحِ وَالرِّزْقِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: شَرْطُ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ مُعْتَبَرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ جَمَاعَةٌ عُمُومَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ مَعَ وُجُودِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ هَلْ يَصِحُّ مَعَ التَّحْرِيمِ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ.
69 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ
2159 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ) وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ: حَيْثُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالسِّمْسَارِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ) كَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ التَّقْيِيدُ بِالْأَجْرِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي لَا يَجُوزُ بِأَجْرٍ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهُ قَيَّدَ بِهِ مُطْلَقَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَدْ أَجَازَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنْ يُشِيرَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي وَقَالَ: لَيْسَتِ الْإِشَارَةُ بَيْعًا. وَعَنِ اللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَشَارَ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاعَهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ لَهُ وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ بَيْعًا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِنُصْحِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِشَارَةِ.
(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرْدٌ غَرِيبٌ لَمْ أَرَهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَلَمْ يُخَرِّجَاهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَدُّوهُ فِي أَفْرَادِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ تَابَعَهُ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادَيْنِ إِلَى الْقَعْنَبِيِّ.
70 - بَاب لَا يَشْتَرِي حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ،
وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: بِعْ لِي ثَوْبًا، وَهِيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ
2160 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبْتَعِ الْمَرْءُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ.
2161 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه:
نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَشْتَرِي حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ) أَيْ: قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ لَهُ أَوِ اسْتِعْمَالًا لِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ: الثَّرَاءُ لِلْبَادِي مِثْلُ الْبَيْعِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
قَوْلُهُ: (وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ فَوَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَقِيتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَقُلْتُ: لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، أَنُهِيتُمْ أَنْ تَبِيعُوا أَوْ تَبْتَاعُوا لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَصَدَقَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِلَالٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: كَانَ يُقَالُ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لَا يَبِيعُ لَهُ شَيْئًا وَلَا يَبْتَاعُ لَهُ شَيْئًا، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَهُوَ النَّخَعِيُّ فَلَمْ أَقِفْ عَنْهُ كَذَلِكَ صَرِيحًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: بِعْ لِي ثُوبَا، وَهِيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ) هَذَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ اسْتِدْلَالًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْكَرَاهَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (لَا يَبْتَعِ الْمَرْءُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ لَا يَبْتَاعُ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَنَاجَشُوا.
ثَانِيهِمَا حَدِيثُ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ: (نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ) زَادَ مُسْلِمٌ وَالْنَسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ: وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَعُرِفَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّاهِي الْمُبْهَمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُقَوِّي الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: نُهِينَا عَنْ كَذَا حُكْمَ الرَّفْعِ وَأَنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
71 - بَاب النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ
لِأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ فِي الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لَا يَجُوزُ
2162 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ.
2163 -
حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَقَالَ لَا يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا"
2164 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ مَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا قَالَ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ"
2165 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ فِي الْبَيْعِ، وَالْخِدَاعُ لَا يَجُوزُ) جَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْبَيْعَ مَرْدُودٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، لَكِنْ مَحَلُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا مَا إِذَا كَانَ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِشَرْطِهِ الْآتِي ذِكْرُهُ، وَأَمَّا كَوْنُ صَاحِبِهِ عَاصِيًا آثِمًا وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ خِدَاعًا فَصَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْإِضْرَارِ بِالرُّكْبَانِ، وَالْقَوْلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ صَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ مَرْدُودٌ عَلَى مَا إِذَا اخْتَارَ الْبَائِعُ رَدَّهُ فَلَا يُخَالِفُ الرَّاجِحَ.
وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَلْزَمَهُ التَّنَاقُضَ بِبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، فَإِنَّ فِيهِ خِدَاعًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ، وَبِكَوْنِهِ فَصَلَ فِي بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ لَهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْمَاضِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ فَفِيهِ: فَإِنْ كَذَّبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا قَالَ: فَلَمْ يَبْطُلْ بَيْعُهُمَا بِالْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ لِلْعَيْبِ، وَقَدْ وَرَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ إِذَا بَاعَهَا لِمَنْ تَلَقَّاهُ يَصِيرُ بِالْخِيَارِ إِذَا دَخَلَ السُّوقَ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّلَقِّيَ وَكَرِهَهُ الْجُمْهُورُ.
قُلْتُ: الَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ التَّلَقِّي فِي حَالَتَيْنِ: أَنْ يَضُرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَنْ يَلْتَبِسَ السِّعْرُ عَلَى الْوَارِدِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَلَقَّاهُ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ، وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ، فَإِنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إِذَا أَتَى السُّوقَ. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: لَا تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ وَقَوْلُهُ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْ: إِذَا قَدِمَ السُّوقَ وَعَلِمَ السِّعْرَ، وَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ لَهُ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ النَّهْيَ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَصِيَانَتِهِ مِمَّنْ يَخْدَعُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى نَفْعِ أَهْلِ السُّوقِ لَا عَلَى نَفْعِ رَبِّ السِّلْعَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ الْكُوفِيُّونَ وَالْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ لَا لِأَهْلِ السُّوقِ. انْتَهَى. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُها حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) هُوَ الْمَقْبُرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ التَّلَقِّي) ظَاهِرُهُ مَنْعُ التَّلَقِّي مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا، سَوَاءٌ كَانَ لِأَجْلِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَمْ لَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) كَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا وَلَيْسَ فِيهِ لِلتَّلَقِّي ذِكْرٌ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَى عَادَتِهِ إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ، فَقَدْ سَبَقَ قَبْلَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ وَفِي أَوَّلِهِ: لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ، وَالْقَوْلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْقَوْلِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ مَنْ يَجْلِبُ الطَّعَامَ يَكُونُونَ عَدَدًا رُكْبَانًا، وَلَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ لَوْ كَانَ الْجَالِبُ عَدَدًا مُشَاةً أَوْ وَاحِدًا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا لَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ.
وَقَوْلُهُ: لِلْبَيْعِ يَشْمَلُ الْبَيْعَ لَهُمْ وَالْبَيْعَ مِنْهُمْ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ قَصْدِ ذَلِكَ بِالتَّلَقِّي، فَلَوْ تَلَقَّى الرُّكْبَانَ أَحَدٌ لِلسَّلَامِ أَوِ الْفُرْجَةِ أَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ لَهُ فَوَجَدَهُمْ فَبَايَعَهُمْ هَلْ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى لَمْ يَفْتَرِقْ عِنْدَهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَشَرَطَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي
النَّهْيِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُتَلَقِّي فَيَطْلُبَ مِنَ الْجَالِبِ الْبَيْعَ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْجَالِبُ بِطَلَبِ الْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْمُتَلَقِّي لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي صُورَةِ التَّلَقِّي الْمُحَرَّمِ أَنْ يَكْذِبَ فِي سِعْرِ الْبَلَدِ وَيَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِيهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّخُولِ، وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقِ الشِّيرَازِيُّ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِكَسَادِ مَا مَعَهُمْ لِيَغْبِنَهُمْ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ التَّقْيِيدَاتِ إِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَلَقٍّ، لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ كَوْنَ إِخْبَارِهِ كَذِبًا لَيْسَ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إِذَا ظَهَرَ الْغَبْنُ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ وُجُودًا وَعَدَمًا.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ فِي التَّلَقِّي بِمَا إِذَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُبَايَعَةِ.
رَابِعُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. فَدَلَّتِ الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ - وَهِيَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ - أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى أَوَّلِ السُّوقِ لَا يُلَقَّى حَتَّى يَدْخُلَ السُّوقَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، وَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مُنْتَهَى النَّهْيِ عَنِ التَّلَقِّي لَا يَدْخُلُ الْبَلَدَ سَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى السُّوقِ أَمْ لَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي حَدِّ التَّلَقِّي.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَلَقَّوُا السِّلَعَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ وَضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: تَتَلَقَّوُا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ عَنِ التَّلَقِّي يَتَنَاوَلُ طُولَ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ مَحَلَّ النَّهْيِ بِحَدٍّ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: مِيلٌ وَقِيلَ: فَرْسَخَانِ وَقِيلَ: يَوْمَانِ وَقِيلَ: مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَمَّا ابْتِدَاؤُهَا فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
72 - بَاب مُنْتَهَى التَّلَقِّي
2 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ، فَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا فِي أَعْلَى السُّوقِ، وَيُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ.
2167 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مُنْتَهَى التَّلَقِّي) أَيْ: وَابْتِدَائِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِانْتِهَائِهِ مِنْ جِهَةِ الْجَالِبِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُتَلَقِّي فَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ الْخُرُوجُ مِنَ السُّوقِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالطَّعَامِ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنِ التَّبَايُعِ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّلَقِّيَ إِلَى أَعْلَى السُّوقِ جَائِزٌ، فَإِنْ خَرَجَ عَنِ السُّوقِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَحَدُّ ابْتِدَاءِ التَّلَقِّي عِنْدَهُمُ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا قَدِمُوا الْبَلَدَ أَمْكَنَهُمْ مَعْرِفَةُ السِّعْرِ وَطَلَبُ الْحَظِّ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَأَمَّا إِمْكَانُ مَعْرِفَتِهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ فَنَادِرٌ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارُ السُّوقِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنِ اللَّيْثِ
كَرَاهَةَ التَّلَقِّي وَلَوْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ حَتَّى تَدْخُلَ السِّلْعَةُ السُّوقَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: (هَذَا فِي أَعْلَى السُّوقِ) أَيْ: حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ الْحَدِيثَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَعْنِي: عَنْ نَافِعٍ أَيْ: حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ الْحَدِيثُ مِثْلُهُ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِإِطْلَاقِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهُمْ فِي أَعْلَى السُّوقِ كَمَا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا السُّوقَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّلَقِّيَ الَّذِي لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مَا بَلَغَ السُّوقَ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ التَّعَارُضَ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوُقُوعِ الضَّرَرِ لِأَصْحَابِ السِّلَعِ وَعَدَمِهِ، قَالَ: فَيُحْمَلُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ الضَّرَرُ، وَحَدِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ، وَلَا يَخْفَى رُجْحَانُ الْجَمْعِ الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ هَذَا فِي أَعْلَى السُّوقِ عَقِبَ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَقِبَ حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ.
73 - بَاب إِذَا اشْتَرَطَ شُرُوطًا فِي الْبَيْعِ لَا تَحِلُّ
2168 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
2169 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ شُرُوطًا لَا تَحِلُّ) أَيْ: هَلْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَكَأَنَّ غَرَضَهُ بِذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فَيَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ يُرَدُّ بِهِ الْبَيْعُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
74 - بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
2170 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ مُخْتَصَرًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ.
75 - بَاب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ، وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
2171 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلًا.
[الحديث 2171 - أطرافه في: 2172، 2185، 2205]
2172 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ قَالَ: وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إِنْ زَادَ فَلِي، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ.
2173 -
قَالَ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا.
[الحديث 2172 - أطرافه في: 2184، 2188، 2192، 2380]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ. وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْعَرَايَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.
وَذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِلطَّعَامِ ذِكْرٌ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِيهَا الزَّبِيبَ بِالزَّبِيبِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ الزَّبِيبَ بِالْكَرْمِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَعَلَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، قَالَ: وَلَوْ تَرْجَمَ لِلْحَدِيثِ بِبَيْعِ التَّمْرِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ يَابِسًا لَكَانَ أَوْلَى. انْتَهَى.
وَلَمْ يُخِلَّ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ، وَأَمَّا هُنَا فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ ذِكْرِ الطَّعَامِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ.
76 - بَاب بَيْعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ
2174 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ) أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: مِنَ الدَّرَاهِمِ بِذَهَبٍ كَانَ مَعَهُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ اللَّيْثُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَلَفْظُهُ: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ؟.
قَوْلُهُ: (فَتَرَاوَضْنَا) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ: تَجَارَيْنَا الْكَلَامَ فِي قَدْرِ الْعِوَضِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يُرَوِّضُ صَاحِبَهُ وَيُسَهِّلُ خُلُقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَاوَضَةُ هُنَا الْمُوَاصَفَةُ بِالسِّلْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَصِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا سِلْعَتَهُ لِرَفِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا) أَيِ: الذَّهَبَةَ، وَالذَّهَبُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: ذَهَبٌ وَذَهَبَةٌ. أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ ضَمَّنَ الذَّهَبَ مَعْنَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْمِائَةُ فَأَنَّثَهُ لِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ فَقَالَ طَلْحَةُ إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِيكَ وَرِقَكَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْخَازِنِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْغَابَةِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ يَأْتِي شَرْحُ أَمْرِهَا فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ فِي قِصَّةِ تَرِكَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَكَأَنَّ طَلْحَةَ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ مِنْ نَخْلٍ وَغَيْرِهِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ) أَيْ: عِوَضُ الذَّهَبِ، فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِيهِ وَحَمَلَهُ عَنْهُ الْحُفَّاظُ حَتَّى رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَشَذَّ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ فَقَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ الرَّفْعُ أَيْ: بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوِ الْمَعْنَى الذَّهَبُ يُبَاعُ بِالذَّهَبِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ أَيْ: بِيعُوا الذَّهَبَ، وَالذَّهَبُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْوَرِقِ الْفِضَّةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِإِسْكَانِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمَضْرُوبَةُ وَبِفَتْحِهَا الْمَالُ، وَالْمُرَادُ هُنَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً وَغَيْرَ مَضْرُوبَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ) بِالْمَدِّ فِيهِمَا وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ، وَقِيلَ: بِالسُّكُونِ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَخَطَّأَهَا الْخَطَّابِيُّ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: هِيَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ قَلِيلَةٌ، وَالْمَعْنَى خُذْ وَهَاتِ، وَحُكِيَ هَاكَ بِزِيَادَةِ كَافٍ مَكْسُورَةٍ، وَيُقَالُ: هَاءِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى هَاتِ وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنَى خُذْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَاءَ وَهَاءَ هُوَ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَيِّعَيْنِ هَاءَ فَيُعْطِيهِ مَا فِي يَدِهِ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ يَعْنِي: مُقَابَضَةً فِي الْمَجْلِسِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خُذْ وَأَعْطِ، قَالَ: وَغَيْرُ الْخَطَّابِيِّ يُجِيزُ فِيهَا السُّكُونَ عَلَى حَذْفِ الْعِوَضِ وَيَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هَا اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ إِلَّا فَيَجِبُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ قَبْلَهُ يَكُونُ بِهِ مَحْكِيًّا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مَقُولًا عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ: هَاءَ وَهَاءَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُنَاوَلَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: هَاءَ وَهَاءَ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِصَاحِبِهِ: هَاءَ فَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حَقُّهَا أَنْ لَا تَقَعَ بَعْدُ إِلَّا كَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا خُذْ، قَالَ: فَالتَّقْدِيرُ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مَقُولًا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ هَاءَ وَهَاءَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَّا عِنْدَ الْإِيجَابِ بِالْكَلَامِ، وَلَوِ انْتَقَلَا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى آخَرَ لَمْ يَصِحَّ تَقَابُضُهُمَا، وَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَرَاخِي الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ سَوَاءٌ كَانَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ تَفَرَّقَا، وَحُمِلَ قَوْلُ عُمَرَ: لَا يُفَارِقُهُ عَلَى الْفَوْرِ
حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الصَّيْرَفِيُّ الْقَبْضَ حَتَّى يَقُومَ إِلَى قَعْوِ دُكَّانِهِ ثُمَّ يَفْتَحَ صُنْدُوقَهُ لَمَا جَازَ.
قَوْلُهُ: (الْبُرُّ بِالْبُرِّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ رَاءٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعْرُوفٌ، وَحُكِيَ جَوَازُ كَسْرِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ صِنْفَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فَقَالُوا: هُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَبِيرَ يَلِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وُكَلَاءُ وَأَعْوَانُ يَكْفُونَهُ. وَفِيهِ الْمُمَاكَسَةُ فِي الْبَيْعِ وَالْمُرَاوَضَةُ وَتَقْلِيبُ السِّلْعَةِ، وَفَائِدَتُهُ الْأَمْنُ مِنَ الْغَبْنِ، وَأَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَخْفَى عَلَى الرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْقَدْرِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى شَيْئًا لَا يَجُوزُ يَنْهَى عَنْهُ وَيُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى بِحُكْمٍ حَسَنٍ أَنْ يَذْكُرَ دَلِيلَهُ، وَأَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَيَهْتَمَّ بِمَصَالِحِهِمْ.
وَفِيهِ الْيَمِينُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، وَفِيهِ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ حَدِيثِ رَسُولِهِ. وَفِيهِ أَنَّ النَّسِيئَةَ لَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا مَعَ تَفَاضُلِهِمَا بِالنَّسِيئَةِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْوَرِقُ بِالْوَرِقِ، يَعْنِي: إِذَا لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ مَحْفُوظَةً فَيُؤْخَذُ الْحُكْمُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، أَيِ: التَّسْوِيَةُ فِي الْمَنْعِ بَيْنَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَبَيْنَ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ فَيُسْتَغْنَى حِينَئِذٍ بِذَلِكَ عَنِ الْقِيَاسِ.
77 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ
2175 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ.
[الحديث 2175_ طرفه في: 2182]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ) تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبَى إِسْحَاقَ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادَيْنِ بَصْرِيُّونَ كُلُّهُمْ. وَأُخِذَ حُكْمُ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْتَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
78 - بَاب بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
2176 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّرْفِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلًا بِمِثْلٍ.
[الحديث 2176 - طرفاه في: 2177، 2178]
2177 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ) تَقَدَّمَ حُكْمُهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّرْفِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، هَكَذَا سَاقَهُ وَفِيهِ اخْتِصَارٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ حَدِيثًا مِثْلَ حَدِيثِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّرْفِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ: مِثْلَ حَدِيثِ عُمَرَ، أَيْ: حَدِيثُ عُمَرَ الْمَاضِي قَرِيبًا فِي قِصَّةِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَتَكَلَّفَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا فَقَالَ: قَوْلُهُ: مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ: مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَمَا عَدَلَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَيْ: بَعْدَ أَنْ كَانَ سَمِعَ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَهُ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ لِأَبِي سَعِيدٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةٌ وَهِيَ هَذِهِ، وَوَقَعَتْ لَهُ فِيهِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ قِصَّةٌ أُخْرَى كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَأَمَّا قِصَّتُهُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَانْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ وَلَفْظُهُ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ: إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَأْثُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ نَافِعٌ: فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَا مَعَهُ وَاللَّيْثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ تُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ الْحَدِيثَ، فَأَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَقَالَ: أَبَصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ الْحَدِيثَ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِابْنِ عُمَرَ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَفْتَى بِهِ لَمَّا حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي سَعِيدٍ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَذْكُرُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ) يَجُوزُ فِي الذَّهَبِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَقَدْ تَقَدَّمُ تَوْجِيهُهُ، وَيَدْخُلُ فِي الذَّهَبِ جَمِيعُ أَصْنَافِهِ مِنْ مَضْرُوبٍ وَمَنْقُوشٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ وَصَحِيحٍ وَمُكَسَّرٍ وَحُلِيٍّ وَتِبْرٍ وَخَالِصٍ وَمَغْشُوشٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ.
قَوْلُهُ: (مِثْلٌ بِمِثْلٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ، وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيِ: الذَّهَبُ يُبَاعُ بِالذَّهَبِ مَوْزُونًا بِمَوْزُونٍ، أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: يُوزَنُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُشِفُّوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: تُفَضِّلُوا، وَهُوَ رُبَاعِيٌّ مَنْ أَشَفَّ، وَالشِّفُّ بِالْكَسْرِ الزِّيَادَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى النَّقْصِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) بِنُونٍ وَجِيمٍ وَزَايٍ مُؤَجَّلًا بِحَالٍّ، أَيْ: وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤَجَّلِ كَالْغَائِبِ عَنِ الْمَجْلِسِ مُطْلَقًا مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ حَالًّا وَالنَّاجِزُ الْحَاضِرُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاصَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِمَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ غَائِبٌ بِنَاجِزٍ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجُوزَ غَائِبٌ بِغَائِبٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ: أَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ،
وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ.
فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَلَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ. فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ عَنِ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّأْخِيرِ فِي الصَّرْفِ. قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: مِثْلًا بِمِثْلٍ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِقَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ مِثْلًا، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَنْعِ حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رَدِّ الْبَيْعِ فِي الْقِلَادَةِ الَّتِي فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ حَتَّى تُفْصَلَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا.
79 - بَاب بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً
2178 و 2179 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُهُ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً) بِفَتْحِ النُّونِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ وَالتَّنْوِينِ مَنْصُوبًا، أَيْ: مُؤَجَّلًا مُؤَخَّرًا، يُقَالُ: أَنْسَأَهُ نَسَاءً وَنَسِيئَةً.
قَوْلُهُ: (الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) هُوَ أَبُو عَاصِمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ حَدَّثَ فِي مَوَاضِعَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَهَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَزَادَ فِيهِ: مِثْلًا بِمِثْلٍ، مِنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى.
قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَأَلْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَقَدْ لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ) بِنَصْبِ كُلَّ ; عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَظِيرُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ: كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَالْمَنْفِيُّ هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: لَمْ أَسمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: فَقَالَ كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَلَا أَعْلَمُهُ أَيْ: لَا أَعْلَمُ هَذَا الْحُكْمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي لِكَوْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَنْظَارِهِ كَانُوا أَسَنَّ مِنْهُ، وَأَكْثَرَ مُلَازَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، وَعَطَاءٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: أَلَا إِنَّمَا الرِّبَا وَزَادَ فِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا بَأْسَ. فَأَخْبَرْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ إِنَّا سَنَكْتُبُ إِلَيْهِ فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ
بَأْسًا، فَإِنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِمَكَّةَ فَكَرِهَهُ. وَالصَّرْفُ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ -: دَفْعُ ذَهَبٍ وَأَخْذُ فِضَّةٍ وَعَكْسُهُ، وَلَهُ شَرْطَانِ: مَنْعُ النَّسِيئَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَمَنْعُ التَّفَاضُلِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ رَجَعَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ: سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزٍ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ، وَفِيهِ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقِيلَ: مَنْسُوخٌ، لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَا رِبًا الرِّبَا الْأَغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمُ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ، مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَلِ لَا نَفْيُ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ: لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْبَيْعِ وَالْفَضْلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ رِبًا؛ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ يَقُولُ: لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ هَذَا عِنْدَنَا فِي الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً.
قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ
(1)
وَفِي قِصَّةِ أَبِي سَعِيدٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ وَمَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَالِمَ يُنَاظِرُ الْعَالِمَ وَيُوقِفُهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ، وَيَرُدُّهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ، وَفِيهِ إِقْرَارُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ بِفَضْلِ التَّقَدُّمِ.
80 - بَاب بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً
2180 و 2181 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنهم عَنْ الصَّرْفِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِنِّي، فَكِلَاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً) الْبَيْعُ كُلُّهُ إِمَّا بِالنَّقْدِ أَوْ بِالْعَرَضِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَبَيْعُ النَّقْدِ إِمَّا بِمِثْلِهِ وَهُوَ الْمُرَاطَلَةُ، أَوْ بِنَقْدٍ غَيْرِهِ وَهُوَ الصَّرْفُ. وَبَيْعُ الْعَرَضِ بِنَقْدٍ يُسَمَّى النَّقْدُ ثَمَنًا وَالْعَرَضُ عِوَضًا، وَبَيْعُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ يُسَمَّى مُقَابَضَة. وَالْحُلُولُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَمَّا التَّأْجِيلُ فَإِنْ كَانَ النَّقْدُ بِالنَّقْدِ مُؤَخَّرًا فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْعَرَضُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْعَرَضُ مُؤَخَّرًا فَهُوَ السَّلَمُ، وَإِنْ كَانَا مُؤَخَّرَيْنِ فَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ بِجَائِزٍ إِلَّا فِي الْحَوَالَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا بَيْعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الصَّرْفِ) أَيْ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ
(1)
بياض في الأصل.
بِالذَّهَبِ أَوْ عَكْسُهُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِصَرْفِهِ عَنْ مُقْتَضَى الْبِيَاعَاتِ مِنْ جَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِ، وَقِيلَ: مِنَ الصَّرِيفِ وَهُوَ تَصْوِيتُهُمَا فِي الْمِيزَانِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ - أَيْ: بِذَهَبٍ - فِي السُّوقِ نَسِيئَةً، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيَصْلُحُ هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَسَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (هَذَا خَيْرٌ مِنِّي) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: فَالْقَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا تِجَارَةً، فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ: صَدَقَ الْبَرَاءُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التِّجَارَةِ فِي الْبُرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ بِلَفْظِ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَإِنْصَافِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمَعْرِفَةِ أَحَدِهِمْ حَقَّ الْآخَرِ، وَاسْتِظْهَارُ الْعَالِمِ فِي الْفُتْيَا بِنَظِيرِهِ فِي الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الشَّرِكَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
81 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ يَدًا بِيَدٍ
2182 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْتَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ يَدًا بِيَدٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ الْمَاضِي قَبْلُ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّقْيِيدُ بِالْحُلُولِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ عَبَّادٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَفِيهِ: فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، فَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَالْفِضَّةُ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ وَاشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، وَأَصْرَحُ بِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ.
82 - بَاب بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ،
وَهِيَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالثَّمَرِ، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ، وَبَيْعُ الْعَرَايَا قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ
2183 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ.
2184 -
قَالَ سَالِمٌ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ
الْعَرَايَا بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ.
2185 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا"
2186 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ"
2187 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ"
2188 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ) بِالزَّايِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ، مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزَّبْنِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الدَّفْعُ الشَّدِيدُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ الزَّبُونَ لِشِدَّةِ الدَّفْعِ فِيهَا، وَقِيلَ: لِلْبَيْعِ الْمَخْصُوصِ الْمُزَابَنَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ عَنْ حَقِّهِ، أَوْ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا وَقَفَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْغَبْنِ أَرَادَ دَفْعَ الْبَيْعِ بِفَسْخِهِ، وَأَرَادَ الْآخَرُ دَفْعَهُ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ بَيْعُ التَّمْرِ) بِالْمُثَنَّاةِ وَالسُّكُونِ (بِالثَّمَرِ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الرُّطَبُ خَاصَّةً.
وَقَوْلُهُ: بَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ أَيْ: بِالْعِنَبِ وَهَذَا أَصْلُ الْمُزَابَنَةِ، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ كُلَّ بَيْعٍ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ، أَوْ بِمَعْلُومٍ مِنْ جِنْسٍ يَجْرِي الرِّبَا فِي نَقْدِهِ، قَالَ: وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَضْمَنُ لَكَ صُبْرَتَكَ هَذِهِ بِعِشْرِينَ صَاعًا مَثَلًا، فَمَا زَادَ فَلِي وَمَا نَقَصَ فَعَلَيَّ، فَهُوَ مِنَ الْقِمَارِ وَلَيْسَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ.
قُلْتُ: لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إِنْ زَادَ فَلِي وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ صُوَرِ الْمُزَابَنَةِ أَيْضًا هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْقِمَارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا قِمَارًا أَنْ لَا تُسَمَّى مُزَابَنَةً.
وَمِنْ صُوَرِ الْمُزَابَنَةِ أَيْضًا بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ ثَمَرِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا وَسَتَأْتِي هَذِهِ الزِّيَادَةُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُزَابَنَةُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجُزَافِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ وَلَا وَزْنُهُ وَلَا عَدَدُهُ إِذَا بِيعَ بِشَيْءٍ مُسَمًّى مِنَ الْكَيْلِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسٍ يَجْرِي الرِّبَا فِي نَقْدِهِ أَمْ لَا. وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْهُ مَا يَدْخُلُهُ مِنَ الْقِمَارِ وَالْغَرَرِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: نَظَرَ مَالِكٌ إِلَى مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ لُغَةً - وَهِيَ الْمُدَافَعَةُ - وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقِمَارُ وَالْمُخَاطَرَةُ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمُزَابَنَةَ بِأَنَّهَا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَهُوَ خَطَأٌ فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ مِنْ أَوَّلِ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقِيلَ: هِيَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْجُزْءِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ فِي تَفْسِيرِهَا أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ إِلَخْ) يَأْتِي مَوْصُولًا فِي بَابِ بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ وَفِيهِ تَفْسِيرُ الْمُحَاقَلَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ سَالِمٍ
وَمِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْهُ، ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ. وَفِي طَرِيقِ نَافِعٍ تَفْسِيرُ الْمُزَابَنَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا مِنَ الْمَرْفُوعِ. وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْبَابِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا رِوَايَةُ سَالِمٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا لِذِكْرِ الْمُزَابَنَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ فَهُمْ أَعْرَفُ بِتَفْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُزَابَنَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ كَيْلٌ بِجُزَافٍ وَلَا جُزَافٌ بِجُزَافٍ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِلْحَاقِ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سَالِمٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أُفْرِدَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ مَضْمُومًا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ يَفْصِلْ حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لِأَهْلِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا وَمُرَادُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ لَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ اسْتِثْنَاءَ الْعَرَايَا بِوَاسِطَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ مَحْفُوظَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ حَمَلَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَ عِنْدَهُ بَعْضُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ مِنْهُ وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالتَّسَاوِي إِنَّمَا يَصِحُّ حَالَةَ الْكَمَالِ، وَالرُّطَبُ قَدْ يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ عَنِ الْيَابِسِ نَقْصًا لَا يَتَقَدَّرُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُسَاوَاةِ حَالَةَ الرُّطُوبَةِ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إِذًا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: (رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالثَّمَرِ (فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) وَهَذَا مِنْ أَصْرَحِ مَا وَرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ حَمَلَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ عَلَى عُمُومِهِ، وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَيْعُ الْعَرَايَا مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَزَعَمَ أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَرَدَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ أَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يَكُونُ بَعْدَ النَّاسِخِ.
قَوْلُهُ: (بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ) كَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ أَوْ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ تَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بِالرُّطَبِ وَبِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ هَكَذَا ذَكَرَهُ بِالْوَاوِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ أَوْ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ لَا الشَّكِّ بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ هُوَ اخْتِلَافًا عَلَى الزُّهْرِيِّ؛ فَإِنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بالْإِسْنَادَيْنِ أَخْرَجَهُمَا النَّسَائِيُّ وَفَرَّقَهُمَا، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَانَتْ فِيهَا حُجَّةٌ لِلْوَجْهِ الصَّائِرِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ الْمَخْرُوصِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالرُّطَبِ الْمَخْرُوصِ أَيْضًا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ خَيْرَانَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ رَأْيُ الْإِصْطَخْرِيِّ وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَا نَوْعًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَوْعَيْنِ جَازَ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي إِسْحَاقَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّخْلِ وَالْآخَرُ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: وَمِثْلُهُ
مَا إِذَا كَانَا مَعًا عَلَى النَّخْلِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَا نَوْعَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ فُرُوعٌ أُخَرُ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِإِلْحَاقِ الْبُسْرِ فِي ذَلِكَ بِالرُّطَبِ.
قَوْلُهُ: (بَيْعُ الثَّمَرِ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَتَحْرِيكِ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثَمَرِ النَّخْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّمْرَ مِنْ غَيْرِ النَّخْلِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ بِالْمُثَنَّاةِ وَالسُّكُونِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِكَوْنِهِ مُتَفَاضِلًا مِنْ جِنْسِهِ.
قَوْلُهُ: (كَيْلًا) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَبَيْعُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا وَالْكَرْمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ هُوَ شَجَرُ الْعِنَبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا نَفْسُ الْعِنَبِ كَمَا أَوْضَحَتْهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَبِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُزَابَنَةِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا فَلَا حُجَّةَ عَلَى الْجَوَازِ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ: هَلْ يَلْحَقُ الْعِنَبُ أَوْ غَيْرُهُ بِالرُّطَبِ فِي الْعَرَايَا؟ فَقِيلَ: لَا. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَقِيلَ: يَلْحَقُ الْعِنَبَ خَاصَّةً وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: يَلْحَقُ كُلَّ مَا يُدَّخَرُ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقِيلَ: يَلْحَقُ كُلَّ ثَمَرَةٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَكُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لِدَاوُدَ وَلَا لِشَيْخِهِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَشَيْخُهُ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ وَأَبُو سُفْيَانَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، لَكِنْ حَكَى أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِهِ فِيهِ أَنَّ اسْمَهُ قَزْمَانُ، وَابْنُ أَبِي أَحْمَدَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ ابْنُ أَخِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ مَوْلًى لِبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَكَانَ يُجَالِسُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَحْمَدَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ) زَادَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَيْلًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذِكْرُ الْكَيْلِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ لِأَنَّهُ صُورَةُ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي وَقَعَتْ إِذْ ذَاكَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِخُرُوجِهِ عَلَى سَبَبٍ أَوَّلُهُ مَفْهُومٌ، لَكِنَّهُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَنْطُوقِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مِعْيَارَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْكَيْلُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ فِي بَابِ بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلُهُ، وَالْمُزَابَنَةُ فِي النَّخْلِ وَالْمُحَاقَلَةُ فِي الزَّرْعِ.
قَوْلُهُ: (أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْجَمْعُ عَرَايَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا لُغَةً.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا) زَادَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ كَيْلًا وَمِثْلُهُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، وَنَحْوُهُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ: رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ: رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا قَالَ يَحْيَى: الْعَرِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ تَمْرَ النَّخَلَاتِ بِطَعَامِ أَهْلِهِ رُطَبًا بِخَرْصِهَا تَمْرًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ إِدْرَاجًا، وَأَخْرَجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا، النَّخْلَةُ وَالنَّخْلَتَانِ يُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ فَيَبِيعُهُمَا بِخَرْصِهِمَا تَمْرًا زَادَ فِيهِ: يُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ بَابٍ.
83 - بَاب بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ
2189 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلَّا الْعَرَايَا.
[الحديث 2190 - طرفه في: 2384]
2190 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا وَسَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدَّثَكَ دَاوُدُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَالَ نَعَمْ"
2191 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ بُشَيْرًا قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَبِيعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا قَالَ هُوَ سَوَاءٌ قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِيَحْيَى وَأَنَا غُلَامٌ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَقَالَ وَمَا يُدْرِي أَهْلَ مَكَّةَ قُلْتُ إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ فَسَكَتَ قَالَ سُفْيَانُ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ جَابِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِيلَ لِسُفْيَانَ وَلَيْسَ فِيهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ قَالَ لَا"
[الحديث 2191 - طرفه في: 2384]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الثَّمَرِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ (عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَطِيبَ. وَقَوْلُهُ: بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ اتَّبَعَ فِيهِ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، كَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ وَهْبٍ، وَتَابَعَهُ أَبُو عَاصِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَكِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُمَا سَمِعَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ أَيِ: الرُّطَبُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَطِيبَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُمَا جُلُّ مَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ، وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِالْعُرُوضِ يَعْنِي: بِشَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْعَرَايَا) زَادَ
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ فِي رِوَايَتِهِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِيهَا أَيْ: فَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يُخْرَصَ وَيُعْرَفَ قَدْرُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَرِ، كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ادَّعَى الْكُوفِيُّونَ أَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا مَنْسُوخٌ بِنَهْيهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي رَوَى النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ هُوَ الَّذِي رَوَى الرُّخْصَةَ فِي الْعَرَايَا، فَأَثْبَتَ النَّهْيَ وَالرُّخْصَةَ مَعًا.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ سَالِمٍ الْمَاضِيَةُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَلَفْظُهُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ قَالَ: وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الرُّخْصَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ مَنْعٍ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا اسْتِثْنَاءُ الْعَرَايَا بَعْدَ ذِكْرِ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِيضَاحَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) هُوَ الْحَجَبِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ مَالِكًا إِلَخْ) فِيهِ إِطْلَاقُ السَّمَاعِ عَلَى مَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ فَأَقَرَّ بِهِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ مَخْصُوصٌ بِمَا حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ لَفْظًا.
قَوْلُهُ: (وَسَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ، وَالرَّبِيعُ أَبُوهُ هُوَ حَاجِبُ الْمَنْصُورِ وَهُوَ وَالِدُ الْفَضْلِ وَزِيرُ الرَّشِيدِ.
قَوْلُهُ: (رَخَّصَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: أَرْخَصَ.
قَوْلُهُ: (فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) أَيْ: فِي بَيْعِ ثَمَرِ الْعَرَايَا؛ لِأَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ النَّخْلَةُ وَالْعَرَايَا جَمْعُ عَرِيَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
قَوْلُهُ: (فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ الشُّرْبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ أَنَّ دَاوُدَ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: وَمَا رَوَاهُ عَنْهُ إِلَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْعَرَايَا بِمَفْهُومِ هَذَا الْعَدَدِ وَمَنَعُوا مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخَمْسَةِ لِأَجْلِ الشَّكِّ الْمَذْكُورِ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازُ فِي الْخَمْسَةِ فَمَا دُونَهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ فِيمَا دُونَ الْخَمْسَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْخَمْسَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، فَمَأْخَذُ الْمَنْعِ أَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ وَبَيْعُ الْعَرَايَا رُخْصَةٌ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْجَوَازُ وَيُلْغَى مَا وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، هَلْ وَرَدَ مُتَقَدِّمًا ثُمَّ وَقَعَتِ الرُّخْصَةُ فِي الْعَرَايَا، أَوِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَقَعَ مَقْرُونًا بِالرُّخْصَةِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ فِي الْخَمْسَةِ لِلشَّكِّ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لِلشَّكِّ فِي قَدْرِ التَّحْرِيمِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ سَالِمٍ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ لَفْظَةَ دُونَ صَالِحَةٌ لِجَمِيعِ مَا تَحْتَ الْخَمْسَةِ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِهَا لَلَزِمَ رَفْعُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَقَلِّ مَا تُصَدِّقُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ ذَهَبَ إِلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِيهِ فَتَعَيَّنَ طَرْحُ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الشَّكُّ وَالْأَخْذُ بِالرِّوَايَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، قَالَ: وَأَلْزَمَ الْمُزَنِيُّ، الشَّافِعِيَّ الْقَوْلَ بِهِ، اهـ، وَفِيمَا نَقَلَهُ نَظَرٌ، أَمَّا ابْنُ الْمُنْذِرِ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ لَا تَجُوزُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ مَا دُونَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَ الْمُزَنِيُّ أَنْ يَقُولَ بِهِ الشَّافِعِيُّ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ قَوْمٍ قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُمَا فِي جَوَازِ الْعَرَايَا فِي أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ جَابِرٍ.
قُلْتُ: حَدِيثُ
جَابِرٍ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ أَخْرَجُوهُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ أَذِنَ لِأَصْحَابِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِخَرْصِهَا يَقُولُ: الْوَسْقُ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَ لَفْظُ أَحْمَدَ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ؟ وَأَمَّا جَعْلُهُ حَدًّا لَا يَجُوزُ تَجَاوُزُهُ فَلَيْسَ بِالْوَاضِحِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِمَالِكٍ بِقَوْلِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: إِنَّ الْعَرِيَّةَ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَرْبَعَةً أَوْ خَمْسَةً وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ زَادَ فِي صَفْقَةٍ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْجَمِيعِ. وَخَرَجَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ، وَلَوْ بَاعَ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي صَفْقَةٍ ثُمَّ بَاعَ مِثْلَهَا الْبَائِعُ بِعَيْنِهِ لِلْمُشْتَرِي بِعَيْنِهِ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَنَعَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ) الْقَائِلُ هُوَ مَالِكٌ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ أَحَدَّثَكَ دَاوُدُ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: نَعَمْ وَهَذَا التَّحَمُّلُ يُسَمَّى عَرْضَ السَّمَاعِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَخْتَارُهُ عَلَى التَّحْدِيثِ مَنْ لَفْظِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ الشَّيْخُ: نَعَمْ أَمْ لَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ سُكُوتَهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إِقْرَارِهِ إِذَا كَانَ عَارِفًا وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ، وَإِذَا قَالَ نَعَمْ فَهُوَ أَوْلَى بِلَا نِزَاعٍ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُفْيَانَ صَرَّحَ بِتَحْدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ لَهُ بِهِ وَهُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ بُشَيْرًا) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا، وَهُوَ ابْنُ يَسَارٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفًا الْأَنْصَارِيَّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ) زَادَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَشَارَ ابْنُ التِّينِ إِلَى جَوَازِ كَسْرِهَا، وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِالْكَسْرِ وَأَنْكَرَ الْفَتْحَ، وَجَوَّزَهُمَا النَّوَوِيُّ وَقَالَ: الْفَتْحُ أَشْهَرُ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ تَقْدِيرُ مَا فِيهَا: إِذَا صَارَ تَمْرًا، فَمَنْ فَتَحَ قَالَ هُوَ اسْمُ الْفِعْلِ، وَمَنْ كَسَرَ قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَخْرُوصِ، اهـ. وَالْخَرْصُ هُوَ التَّخْمِينُ وَالْحَدْسُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فِي تَفْسِيرِ الْعَرَايَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى. . . إِلَخْ) هُوَ كَلَامُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَهُمْ بِهِ مَرَّتَيْنِ عَلَى لَفْظَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هُوَ سَوَاءٌ أَيِ: الْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (فَقُلْتُ لِيَحْيَى) أَيِ: ابْنِ سَعِيدٍ لَمَّا حَدَّثَهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا غُلَامٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْغَرَضُ الْإِشَارَةُ إِلَى قِدَمِ طَلَبِهِ وَتَقَدُّمِ فِطْنَتِهِ وَأَنَّهُ كَانَ فِي سِنِّ الصِّبَا يُنَاظِرُ شُيُوخَهُ وَيُبَاحِثُهُمْ.
قَوْلُهُ: (رَخَّصَ لَهُمْ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا) مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرِوَايَةِ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَيَّدَ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِالْخَرْصِ وَأَنْ يَأْكُلَهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَطْلَقَ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قُلْتُ: أَخْبَرَهُمْ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَابِرٍ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَأَنَّهَا تَأْتِي فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَهِيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (إِنَّمَا أَرَدْتُ) أَيِ: الْحَامِلُ لِي عَلَى قَوْلِي لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ (أَنَّ جَابِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) فَيَرْجِعُ
الْحَدِيثُ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ: وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رَوَوْا أَيْضًا فِيهِ التَّقْيِيدَ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَرْصِ زِيَادَةُ حَافِظٍ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْأَكْلِ كَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا أَنَّهُ قَيْدٌ، وَسَيَأْتِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ شَرْطُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ: لِسُفْيَانَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ.
قَوْلُهُ: (أَلَيْسَ فِيهِ) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ؟ قَالَ: لَا) أَيْ: لَيْسَ هُوَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ صَحِيحًا مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ. وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي نَفَاهُ سُفْيَانُ، وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ.
84 - بَاب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ مِنْ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا تَكُونُ بِالْجِزَافِ، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالْأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَانَتْ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ، وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا فرُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنْ التَّمْرِ.
2192 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ -، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَالْعَرَايَا نَخَلَاتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا) هِيَ جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ عَطِيَّةُ ثَمَرِ النَّخْلِ دُونَ الرَّقَبَةِ، كَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَدْبِ يَتَطَوَّعُ أَهْلُ النَّخْلِ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا ثَمَرَ لَهُ كَمَا يَتَطَوَّعُ صَاحِبُ الشَّاةِ أَوِ الْإِبِلِ بِالْمَنِيحَةِ وَهِيَ عَطِيَّةُ اللَّبَنِ دُونَ الرَّقَبَةِ، قَالَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لِسُوَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ:
لَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رَجَبِيَّةٍ
…
وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الْجَوَائِحِ
وَمَعْنَى سَنْهَاءٍ أَنْ تَحْمِلَ سَنَةً دُونَ سَنَةٍ والرَّجَبِيَّةُ الَّتِي تُدْعَمُ حِينَ تَمِيلُ مِنَ الضَّعْفِ، وَالْعَرِيَّةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ أَوْ فَاعِلَةٍ، يُقَالُ: عَرَّى النَّخْلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ بِالتَّعْدِيَةِ يَعْرُوهَا إِذَا أَفْرَدَهَا عَنْ غَيْرِهَا، بِأَنْ أَعْطَاهَا لِآخَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمِنْحَةِ؛ لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا وَتَبْقَى رَقَبَتُهَا لِمُعْطِيهَا، وَيُقَالُ: عَرِيَتِ النَّخْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ تَعْرَى عَلَى أَنَّهُ قَاصِرٌ فَكَأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ حُكْمِ أَخَوَاتِهَا وَاسْتَثْبَتَتْ بِالْعَطِيَّةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَا شَرْعًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ) أَيْ: يَهَبُهَا لَهُ أَوْ يَهَبُ لَهُ ثَمَرَهَا (ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرَخَّصَ لَهُ) أَيْ: لِلْوَاهِبِ (أَنْ يَشْتَرِيَهَا) أَيْ: يَشْتَرِي رُطَبَهَا (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَوْهُوبَةِ لَهُ (بِتَمْرٍ) أَيْ: يَابِسٍ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْعَرِيَّةَ النَّخْلَةُ لِلرَّجُلِ فِي حَائِطِ غَيْرِهِ، وَكَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ بِأَهْلِيهِمْ فِي وَقْتِ الثِّمَارِ إِلَى الْبَسَاتِينِ فَيَكْرَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ الْكَثِيرِ دُخُولَ الْآخَرِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا أُعْطِيكَ بِخَرْصِ نَخْلَتِكَ تَمْرًا فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَرِيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إِلَّا مَعَ الْمُعْرِي خَاصَّةً لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَالِكِ مِنَ الضَّرَرِ بِدُخُولِ حَائِطِهِ، أَوْ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنِ الْآخَرِ بِقِيَامِ صَاحِبِ النَّخْلِ بِالسَّقْيِ وَالْكَلَفِ. وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ. وَأَنْ يَكُونَ بِتَمْرٍ مُؤَجَّلٍ. وَخَالَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الشَّرْطِ الْأَخِيرِ فَقَالَ: يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا تَكُونُ بِالْجُزَافِ) ابْنُ إِدْرِيسَ هَذَا رَجَّحَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ الْكُوفِيُّ، وَتَرَدَّدَ ابْنُ بَطَّالٍ ثُمَّ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَجَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ بِأَنَّهُ الشَّافِعِيُّ، وَالَّذِي فِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ عَنْهُ قَالَ: الْعَرَايَا أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلَةِ فَأَكْثَرَ بِخَرْصِهِ مِنَ التَّمْرِ، بِأَنْ يَخْرُصَ الرُّطَبَ ثُمَّ يُقَدِّرَ كَمْ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِخَرْصِهِ تَمْرًا، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا فَسَدَ الْبَيْعُ. انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ غَايَرَ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ لَفْظًا فَهُوَ يُوَافِقُهُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مُحَصِّلَهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ جُزَافًا وَلَا نَسِيئَةً، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِلَفْظٍ آخَرَ قَرَأْتُهُ بِخَطِّ أَبِي عَلَى الصَّدَفِيِّ بِهَامِشِ نُسْخَتِهِ قَالَ: لَفْظُ الشَّافِعِيِّ وَلَا تُبْتَاعُ الْعَرِيَّةُ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنْ تُخْرَصَ الْعَرِيَّةُ كَمَا يُخْرَصُ الْمُعَشَّرُ فَيُقَالُ: فِيهَا الْآنَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الرُّطَبِ، فَإِذَا يَبِسَ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَيَدْفَعُ مِنَ التَّمْرِ بِكَيْلِهِ خَرْصًا وَيَقْبِضُ النَّخْلَةَ بِثَمَرِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهَا فَسَدَ.
قَوْلُهُ: (وَمِمَّا يُقَوِّيهِ) أَيْ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ لَا يَكُونَ جُزَافًا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ بِالْأَوْسُقِ الْمُوسِقَةِ وَقَوْلُ سَهْلٍ هَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ سَهْلٍ مَوْقُوفًا، وَلَفْظُهُ: لَا يُبَاعُ الثَّمَرُ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالْأَوْسَاقِ الْمُوسَقَةِ إِلَّا أَوْسُقًا ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً أَوْ خَمْسَةً يَأْكُلُهَا النَّاسُ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الشَّافِعِيِّ هُوَ شَرْطُ الْعَرِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَضَابِطُ الْعَرِيَّةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا بَيْعُ رُطَبٍ فِي نَخْلٍ يَكُونُ خَرْصُهُ إِذَا صَارَ تَمْرًا أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِنَظِيرِهِ فِي الْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ مَعَ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: احْتِجَاجُ الْبُخَارِيُّ، لِابْنِ إِدْرِيسَ بِقَوْلِ سَهْلٍ بِالْأَوْسُقِ الْمُوسَقَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُؤَجَّلَةً، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ يَعْنِي: الْآتِي.
قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا أَوْرَدَهُ بَعْدَ قَوْلِ ابْنِ إِدْرِيسَ يُقَوِّي قَوْلَ ابْنِ إِدْرِيسَ، ثُمَّ إِنَّ صُوَرَ الْعَرِيَّةِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِ حَائِطٍ: بِعْنِي ثَمَرَ نَخَلَاتٍ بِأَعْيَانِهَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ. فَيَخْرُصُهَا وَيَبِيعُهُ وَيَقْبِضُ مِنْهُ التَّمْرَ، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ النَّخَلَاتِ بِالتَّخْلِيَةِ فَيَنْتَفِعُ بِرُطَبِهَا. وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ نَخَلَاتٍ أَوْ ثَمَرَ نَخَلَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ حَائِطِهِ، ثُمَّ يَتَضَرَّرَ بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَيَخْرُصَهَا وَيَشْتَرِيَ مِنْهُ رُطَبَهَا بِقَدْرِ خَرْصِهِ بِتَمْرٍ يُعَجِّلُهُ لَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَهُ إِيَّاهَا فَيَتَضَرَّرَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِانْتِظَارِ صَيْرُورَةِ الرُّطَبِ تَمْرًا وَلَا يُحِبُّ أَكْلَهَا رُطَبًا لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى التَّمْرِ فَيَبِيعَ ذَلِكَ الرُّطَبَ بِخَرْصِهِ مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِتَمْرٍ يَأْخُذُهُ مُعَجَّلًا. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ تَمْرَ حَائِطِهِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهُ نَخَلَاتٍ مَعْلُومَةً يُبْقِيَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِعِيَالِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَفَّ لَهُ عَنْ خَرْصِهَا فِي الصَّدَقَةِ، وَسُمِّيَتْ عَرَايَا؛ لِأَنَّهَا أُعْرِيَتْ مِنْ أَنْ تُخْرَصَ فِي الصَّدَقَةِ، فَرُخِّصَ لِأَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ لَا نَقْدَ لَهُمْ، وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مَنْ تَمْرِ قُوتِهِمْ أَنْ يَبْتَاعُوا بِذَلِكَ التَّمْرِ مَنْ رُطَبِ تِلْكَ النَّخَلَاتِ بِخَرْصِهَا. وَمِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ عَرِيَّةٍ أَنْ يُعْرِيَ رَجُلًا تَمْرَ نَخَلَاتٍ يُبِيحُ لَهُ أَكْلَهَا وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا، وَهَذِهِ هِبَةٌ مَخْصُوصَةٌ. وَمِنْهَا أَنْ يُعْرِيَ عَامِلُ الصَّدَقَةِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ مَنْ حَائِطِهِ نَخَلَاتٍ مَعْلُومَةً لَا يَخْرُصُهَا فِي الصَّدَقَةِ. وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مِنَ الْعَرَايَا لَا يَبِيعُ
فِيهَا.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَصَرَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةَ فِي الْبَيْعِ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَصَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صُوَرِ الْبَيْعِ وَزَادَ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الرُّطَبَ وَلَا يَشْتَرُوهُ لِتِجَارَةٍ وَلَا ادِّخَارٍ.
وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ صُوَرَ الْبَيْعِ كُلَّهَا وَقَصَرَ الْعَرِيَّةَ عَلَى الْهِبَةِ، وَهُوَ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ تَمْرَ نَخْلَةٍ مِنْ نَخْلِهِ وَلَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِي ارْتِجَاعِ تِلْكَ الْهِبَةِ فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْتَبِسَ ذَلِكَ وَيُعْطِيَهُ بِقَدْرِ مَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الرُّطَبِ بِخَرْصِهِ تَمْرًا، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخْذُهُ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَتُعُقِّبَ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ أَنَّ الَّذِي وُهِبَتْ لَهُ الْعَرِيَّةُ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ بَدَلَهَا تَمْرًا وَهُوَ لَمْ يَمْلِكِ الْمُبْدَلَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَدَلَ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى وَكَانَ رُخْصَةً.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: بَلْ مَعْنَى الرُّخْصَةِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ مَا وَعَدَ بِهِ وَيُعْطِي بَدَلَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مَا وَعَدَ بِهِ وَيُعْطِيَ بَدَلَهُ وَلَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ ظَهَرَ بِذَلِكَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ، وَاحْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْعَطِيَّةُ. وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَصْلِ الْعَرِيَّةِ الْعَطِيَّةَ أَنْ لَا تُطْلَقَ الْعَرِيَّةُ شَرْعًا عَلَى صُوَرٍ أُخْرَى، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الَّذِي رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي السَّلَمِ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ قَالَ: فَمَنْ أَجَازَ السَّلَمَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَمَنَعَ الْعَرِيَّةَ مَعَ كَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فَقَدْ تَنَاقَضَ.
وَأَمَّا حَمْلُهُمُ الرُّخْصَةَ عَلَى الْهِبَةِ فَبَعِيدٌ مَعَ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِالْبَيْعِ وَاسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهِبَةَ لَمَا اسْتُثْنِيَتِ الْعَرِيَّةُ مِنَ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالرُّخْصَةِ، وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَمْنُوعٍ وَالْمَنْعُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْبَيْعِ لَا الْهِبَةِ، وَبِأَنَّ الرُّخْصَةَ قُيِّدَتْ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ مَا دُونَهَا، وَالْهِبَةُ لَا تَتَقَيَّدُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَغَيْرِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ جَائِزًا فَلَيْسَ إِعْطَاؤُهُ بِالتَّمْرِ بَدَلَ الرُّطَبِ بَلْ هُوَ تَجْدِيدُ هِبَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الرُّجُوعَ لَا يَجُوزُ فَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَتِ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ) أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ فَوَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ دُونَ تَفْسِيرِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ فَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بِلَفْظِ النَّخَلَاتِ وَزَادَ فِيهِ: فَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَبِيعُهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي قَصَرَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَزِيدُ) يَعْنِي: ابْنَ هَارُونَ (عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ) وَهَذَا وَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا فِي الْعَرَايَا، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذِهِ إِحْدَى الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاحْتَجَّ لِمَالِكٍ فِي قَصْرِ الْعَرِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ: يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا فَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: أَهْلُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي أَعْرَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَهْلِ مَنْ تَصِيرُ إِلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ حَدِيثَ سَهْلٍ دَلَّ عَلَى صُورَةٍ مَنْ صُوَرِ الْعَرِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِكَوْنِ غَيْرِهَا لَيْسَ عَرِيَّةً وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَقْيِيدُهَا بِالْمَسَاكِينِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ نَقْلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَ مَنْ أَثْبَتَهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الرُّطَبَ يَحْضُرُ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ يَشْتَرُونَ بِهَا مِنْهُ وَعِنْدَهُمْ فَضْلُ
تَمْرٍ مِنْ قُوتِ سَنَتِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ سُفْيَانَ يَدُلُّ لِهَذَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَأْكُلُهُ
أَهْلُهَا رُطَبًا يُشْعِرُ بِأَنَّ مُشْتَرِي الْعَرِيَّةِ يَشْتَرِيهَا لِيَأْكُلَهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رُطَبٌ يَأْكُلُهُ غَيْرُهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَ الْحَائِطِ يَعْنِي: كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَكَانَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ فِي حَائِطِهِ مِنَ الرُّطَبِ مَا يَأْكُلُهُ غَيْرُهَا وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى بَيْعِ الْعَرِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا الْكَلَامُ لَا أَعْرِفُ أَحَدًا ذَكَرَهُ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ إِسْنَادَهُ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَهُ إِنَّمَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَجِدِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ لَهُ إِسْنَادًا، قَالَ: وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَخَذَهُ مِنَ السِّيَرِ، يَعْنِي: سِيَرَ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلتَّقْيِيدِ بِالْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقِصَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلسُّؤَالِ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ إِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الْمَنْصُوصَةِ مِنَ الشَّارِعِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ هَذَا الْقَيْدَ الْحَنَابِلَةُ مَضْمُومًا إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ، فَعِنْدَهُمْ لَا تَجُوزُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا لِحَاجَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إِلَى الْبَيْعِ أَوْ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى الرُّطَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَرَايَا نَخَلَاتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا) أَيْ: تَشْتَرِي ثَمَرَتَهَا بِتَمْرٍ مَعْلُومٍ، وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْهُ إِلَّا هَكَذَا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَرَوْتَ إِذَا أَتَيْتَ وَتَرَدَّدْتَ إِلَيْهِ لَا مِنَ الْعُرْيِ بِمَعْنَى التَّجَرُّدِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخَلَاتِ لِطَعَامِ أَهْلِهِ رُطَبًا بِخَرْصِهَا تَمْرًا، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: أَنَّ الْعَرِيَّةَ النَّخْلَةُ تُجْعَلُ لِلْقَوْمِ فَيَبِيعُونَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَمَدَ فِي تَفْسِيرِ الْعَرِيَّةِ عَلَى قَوْلِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَلَيْسَ يَحْيَى صَحَابِيًّا حَتَّى يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ مَعَ مُعَارَضَةِ رَأْيِ غَيْرِهِ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَتَفْسِيرُ يَحْيَى مَرْجُوحٌ بِأَنَّهُ عَيَّنُ الْمُزَابَنَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي قِصَّةٍ لَا تُرْهَقُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ أَكِيدَةٌ وَلَا تَنْدَفِعُ بِهَا مَفْسَدَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَهَا بِالتَّمْرِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ بَيْعِ ثَمَرِهِ بِعَيْنٍ وَشِرَائِهِ بِالْعَيْنِ مَا يُرِيدُ مِنَ الرُّطَبِ، فَإِنْ قَالَ: يَتَعَذَّرُ هَذَا، قِيلَ لَهُ: فَأَجِزْ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ عَلَى النَّخْلِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ. انْتَهَى.
وَالشَّافِعِيُّ أَقْعَدُ بِاتِّبَاعِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِاسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَأَمَّا إِلْزَامُهُ الْأَخِيرُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ وَقَعَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ فَيُتَّبَعُ الْقَيْدُ، وَهُوَ كَوْنُ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَهَبُوا إِلَى إِلْحَاقِ الرُّطَبِ بَعْدَ الْقَطْعِ بِالرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا فِي الْأَحَادِيثِ لَا يُخَالِفُهُ الشَّافِعِيُّ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: الْعَرِيَّةُ: الرَّجُلُ يُعْرِي الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، أَوِ: الرَّجُلُ يَسْتَثْنِي مِنْ مَالِهِ النَّخْلَةَ يَأْكُلُهَا رُطَبًا فَيَبِيعُهَا تَمْرًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: سَمِعْنَا فِي تَفْسِيرِ الْعَرِيَّةِ أَنَّهَا النَّخْلَةُ يَرِثُهَا الرَّجُلُ أَوْ يَشْتَرِيهَا فِي بُسْتَانِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِصُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِ الْعَرِيَّةِ وَمَنَعَ غَيْرَهَا، وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ بِهَا كُلِّهَا وَنَظَمَهَا فِي ضَابِطٍ يَجْمَعُهَا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
85 - بَاب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
2193 -
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ - مِنْ بَنِي
حَارِثَةَ - أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَذَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ: إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ، أَصَابَهُ قُشَامٌ - عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ: فَإِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ، كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الْأَصْفَرُ مِنْ الْأَحْمَرِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ زَيْدٍ.
2194 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ"
2195 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ"
2196 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَا قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا) يَبْدُو بِغَيْرِ هَمْزٍ، أَيْ: يَظْهَرُ، وَالثِّمَارُ بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَمَرَةٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الرُّطَبِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُجْزَمْ بِحُكْمٍ فِي الْمَسْأَلَةِ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: يَبْطُلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَوَهَمَ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْبُطْلَانِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا وَلَوْ شُرِطَ التَّبْقِيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَوَهَمَ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَيْضًا.
وَقِيلَ: إِنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ لَمْ يَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: يَصِحُّ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّبْقِيَةُ، وَالنَّهْيُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَكِنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمُصَدَّرُ بِهِ الْبَابُ يَدُلُّ لِلْأَخِيرِ، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. . . إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَلَكِنْ بِالْإِسْنَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَنِي حَارِثَةَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ مِثْلِهِ عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ مِثْلِهِ، وَالْأَرْبَعَةُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا جَذَّ النَّاسُ) بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: قَطَعُوا ثَمَرَ النَّخْلِ، أَيِ: اسْتَحَقَّ الثَّمَرَ الْقَطْعُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ أَجَذَّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَمِثْلُهُ النَّسَفِيُّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ دَخَلُوا فِي زَمَنِ الْجِذَاذِ
كَأَظْلَمَ إِذَا دَخَلَ فِي الظَّلَامِ، وَالْجِذَاذُ صِرَامُ النَّخْلِ، وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرَتِهَا وَأَخْذُهَا مِنَ الشَّجَرِ.
قَوْلُهُ: (وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْمُبْتَاعُ) أَيِ: الْمُشْتَرِي.
قَوْلُهُ: (الدَّمَانُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ضَبَطَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: هُمَا صَحِيحَانِ وَالضَّمُّ رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ وَالْفَتْحُ رِوَايَةٌ السَّرَخْسِيِّ، قَالَ: وَرَوَاهَا بَعْضُهُمْ بِالْكَسْرِ. وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ الْأَدَمَانِ، زَادَ فِي أَوَّلِهِ الْأَلِفَ وَفَتَحَهَا وَفَتَحَ الدَّالَ، وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَنَّهُ فَسَادُ الطَّلْعِ وَتَعَفُّنُهُ وَسَوَادُهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الدُّمَالُ بِاللَّامِ: الْعَفَنُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: الدُّمَانُ: فَسَادُ النَّخْلِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الطَّلْعِ يَخْرُجُ قَلْبُ النَّخْلَةِ أَسْوَدَ مَعْفُونًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الدُّمَارُ بِالرَّاءِ بَدَلَ النُّونِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ، وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْهَلَاكَ كَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (أَصَابَهُ مَرَضٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ مِرَاضٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ بِضَمِّهِ وَهُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ بِوَزْنِ الصُّدَاعِ وَالسُّعَالِ، وَهُوَ دَاءٌ يَقَعُ فِي الثَّمَرَةِ فَتَهْلَكُ، يُقَالُ: أَمْرَضَ إِذَا وَقَعَ فِي مَالِهِ عَاهَةٌ، وَزَادَ الطَّحَاوِيُّ فِي رِوَايَةٍ أَصَابَهُ عَفَنٌ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قُشَامٌ) بِضَمِّ الْقَافِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ زَادَ الطَّحَاوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَالْقُشَامُ شَيْءٌ يُصِيبُهُ حَتَّى لَا يَرْطُبَ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ أَنْ يَنْتَقِضَ ثَمَرُ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ بَلَحًا، وَقِيلَ: هُوَ أَكَّالٌ يَقَعُ فِي الثَّمَرِ.
قَوْلُهُ: (عَاهَاتٌ) جَمْعُ عَاهَةٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ أَوَّلًا، وَالْعَاهَةُ الْعَيْبُ وَالْآفَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا يُصِيبُ الثَّمَرَ مِمَّا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (فَإِمَّا لَا) أَصْلُهَا إِنِ الشَّرْطِيَّةُ وَمَا زَائِدَةٌ فَأُدْغِمَتْ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فَاكْتَفَى بِلَفْظِهِ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: مَنْ أَكْرَمَنِي أَكْرَمْتُهُ وَمَنْ لَا، أَيْ: وَمَنْ لَمْ يُكْرِمْنِي لَمْ أُكْرِمْهُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَا تَفْعَلْ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَقَدْ نَطَقَتِ الْعَرَبُ بِإِمَالَةِ لَا إِمَالَةً خَفِيفَةً، وَالْعَامَّةُ تُشْبِعُ إِمَالَتَهَا وَهُوَ خَطَأٌ.
قَوْلُهُ: (كَالْمَشُورَةِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ لُغَتَانِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ فَعُولَةٌ وَعَلَى الثَّانِي مَفْعَلَةٌ. وَزَعَمَ الْحَرِيرِيُّ أَنَّ الْإِسْكَانَ مِنْ لَحْنِ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَهَا الْجَامِعُ وَالصِّحَاحُ وَالْمُحْكَمُ وَغَيْرُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) الْقَائِلُ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا) أَيْ: مَعَ الْفَجْرِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا رُفِعَتِ الْعَاهَةُ عَنْ كُلِّ بَلَدٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبَى حَنِيفَةَ، عَنْ عَطَاءٍ: رُفِعَتِ الْعَاهَةُ عَنِ الثِّمَارِ وَالنَّجْمُ هُوَ الثُّرَيَّا، وَطُلُوعُهَا صَبَاحًا يَقَعُ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَابْتِدَاءِ نُضْجِ الثِّمَارِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحَقِيقَةِ النُّضْجُ وَطُلُوعُ النَّجْمِ عَلَامَةٌ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: وَيَتَبَيَّنُ الْأَصْفَرُ مِنَ الْأَحْمَرِ وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ. قُلْتُ: وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ عَنْ أَبِيهِ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَسَمِعَ خُصُومَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَفَادَ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ وَقْتَ صُدُورِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ) هُوَ الّقَطَّانُ الرَّازِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَحَكَّامٌ هُوَ ابْنُ سَلْمٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ رَازِيٌّ أَيْضًا، وَعَنْبَسَةُ بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الضُّرَيْسِ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرُ ضِرْسٍ كُوفِيٌّ وَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ فَعُرِفَ بِالرَّازِيِّ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ غَيْرُ هَذَا، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ فَرَأَيْتُ بِخَطِّهِ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ مَا نَصُّهُ: حَدِيثُ عَنْبَسَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حَكَّامٍ أَخْرَجَهُ
الْبَاجِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ. انْتَهَى. فَظَنَّ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا اثْنَانِ، وَشَيْخُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَلَيْسَ لِعَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَوْقُوفِ، بِخِلَافِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ. وَكَذَا زَكَرِيَّا شَيْخُهُ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ الرَّازِيُّ، وَلَا أَعْرِفُ عَنْهُ رَاوِيًا غَيْرَ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: عَنْ سَهْلٍ أَيْ: ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَزَيْدٌ هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الطَّرِيقَ الْأُولَى عَنْ أَبِي الزِّنَادِ لَيْسَتْ غَرِيبَةً فَرْدَةً.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ أَمَّا الْبَائِعُ فَلِئَلَّا يَأْكُلَ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِئَلَّا يُضَيِّعَ مَالَهُ وَيُسَاعِدَ الْبَائِعَ عَلَى الْبَاطِلِ. وَفِيهِ أَيْضًا قَطْعُ النِّزَاعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اشْتَرَطَ الْإِبْقَاءَ أَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ جَعَلَ النَّهْيَ مُمْتَدًّا إِلَى غَايَةِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ تُؤْمَنَ فِيهَا الْغَايَةُ، وَتَغْلِبَ السَّلَامَةُ فَيَثِقُ الْمُشْتَرِي بِحُصُولِهَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ بِصَدَدِ الْغَرَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: حَتَّى يَأْمَنَ الْعَاهَةَ وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ بِبُدُوِّ صَلَاحِهِ حُمْرَتُهُ وَصُفْرَتُهُ وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَقِيلَ: لِابْنِ عُمَرَ مَا صَلَاحُهُ؟ قَالَ: تَذْهَبُ عَاهَتُهُ وَإِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّمَا يَصِحُّ بَيْعُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِبْقَاءُ، فَإِنْ شَرَطَهُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ شَرْطَ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَحَّحَ الْبَيْعَ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحٍ وَبَعْدَهُ، وَأَبْطَلَهُ بِشَرْطِ الْإِبْقَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَأَهْلُ مَذْهَبِهِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا هَلِ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الثِّمَارِ حَتَّى لَوْ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بُسْتَانٍ مِنَ الْبَلَدِ مَثَلًا جَازَ بَيْعُ ثَمَرَةِ جَمِيعِ الْبَسَاتِينِ وَإِنْ لَمْ يَبْدُ الصَّلَاحُ فِيهَا، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي كُلِّ بُسْتَانٍ عَلَى حِدَةٍ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي كُلِّ جِنْسٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ عَلَى حِدَةٍ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: وَالْأَوَّلُ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الصَّلَاحُ مُتَلَاحِقًا. وَالثَّانِي قَوْلُ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ كَالرَّابِعِ، وَالثَّالِثُ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِمُسَمَّى الْإِزْهَارِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ تَكَامُلِهِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِزَهْوِ بَعْضِ الثَّمَرَةِ وَبِزَهْوِ الشَّجَرَةِ مَعَ حُصُولِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَمْنُ مِنَ الْعَاهَةِ، وَلَوْلَا حُصُولُ الْمَعْنَى لَكَانَ تَسْمِيَتُهَا مُزْهِيَةً بِإِزْهَاءِ بَعْضِهَا قَدْ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَأَيْضًا فَلَوْ قِيلَ: بِإِزْهَاءِ الْجَمِيعِ لَأَدَّى إِلَى فَسَادِ الْحَائِطِ أَوْ أَكْثَرِهِ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِ الثِّمَارِ لَا تَطِيبُ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِيَطُولَ زَمَنُ التَّفَكُّهِ بِهَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (نَهَى أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ) كَذَا وَقَعَ التَّقْيِيدُ بِالنَّخْلِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَأُطْلِقَ فِي غَيْرِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّخْلَ لِكَوْنِهِ كَانَ الْغَالِبَ عِنْدَهُمْ. الحديث الثالث حديث أنس.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي: حَتَّى تَحْمَرَّ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ. وَرِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تُشْعِرُ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، فَلَعَلَّ أَدَاةَ الْكُنْيَةِ فِي رِوَايَتِنَا مَزِيدَةٌ وَسَيَأْتِي هَذَا التَّفْسِيرُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَنَذْكُرُ فِيهِ مَنْ حَكَى أَنَّهُ مُدْرَجٌ.
الحديث الرابع حديث جابر.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تُشْقَحَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، يُقَالُ: أَشْقَحَ ثَمَرُ النَّخْلِ إِشْقَاحًا إِذَا احْمَرَّ أَوِ اصْفَرَّ، وَالِاسْمُ الشُّقْحُ
بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: حَتَّى تُشْقَهَ فَأَبْدَلَ مِنَ الْحَاءِ هَاءً لِقُرْبِهَا مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: وَمَا تُشْقَحُ)؟ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ رَاوِي الْحَدِيثِ، بَيَّنَ ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ مِينَاءَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بَهْزٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: مَا تُشْقَحُ. . . إِلَخْ فَظَهَرَ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ سَعِيدٌ، وَالَّذِي فَسَّرَهُ هُوَ جَابِرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ جَابِرٍ مُطَوَّلًا وَفِيهِ: وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشْقَهَ، وَالْإِشْقَاءُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ زَيْدٌ: فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْتَ جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ هَذَا جَمِيعَ الْحَدِيثِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّفْسِيرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَا التَّفْسِيرَ، فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ جَابِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُقَوِّي كَوْنَهُ مَرْفُوعًا وُقُوعُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ خَوْفُ الْغَرَرِ لِكَثْرَةِ الْجَوَائِحِ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ: فَإِذَا احْمَرَّتْ وَأُكِلَ مِنْهَا أُمِنَتِ الْعَاهَةُ عَلَيْهَا أَيْ: غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ اللَّوْنَ الْخَالِصَ مِنَ الصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حُمْرَةً أَوْ صُفْرَةً بِكُمُودَةٍ فَلِذَلِكَ قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ اللَّوْنَ الْخَالِصَ لَقَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: التَّشْقِيحُ تَغَيُّرُ لَوْنِهَا إِلَى الصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ، فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ ظُهُورَ أَوَائِلِ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْبَعَ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ تَفْعَالُّ فِي اللَّوْنِ الْغَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ إِذَا كَانَ يَتَلَوَّنُ، وَأَنْكَرَ هَذَا بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ وَتَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةَ فِي احْمِرَارِهَا وَاصْفِرَارِهَا، كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ.
(تَكْمِيلٌ): قَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا عَلَيْهِمْ تَأْوِيلٌ مِنْ بَعْضِ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ وَرَدَ الْجَزْمُ بِالنَّهْيِ كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَرَتَّبَ أَحَادِيثَ الْبَابِ بِحَسْبِ ذَلِكَ، فَأَفَادَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَبَبَ النَّهْيِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ التَّصْرِيحَ بِالنَّهْيِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَجَابِرٍ بَيَانَ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا النَّهْيُ.
86 - بَاب بَيْعِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
2197 -
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا يَزْهُو؟ قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ حُكْمِ بَيْعِ الْأُصُولِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا لِحُكْمِ بَيْعِ الثِّمَارِ.
قَوْلُهُ: (مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) هُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ. وَإِنَّمَا رَوَى عَنْهُ فِي الْجَامِعِ بِوَاسِطَةٍ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فِي آخَرِ الْبَابِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَتَبْتُ أَنَا عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكْتُبْ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَزْهُوَ) يُقَالُ: زَهَا النَّخْلُ يَزْهُو إِذَا ظَهَرَتْ ثَمَرَتُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: حَتَّى تُزْهِيَ وَهُوَ مِنْ أَزْهَى يُزْهِي إِذَا احْمَرَّ أَوِ اصْفَرَّ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ: وَمَا يَزْهُو) لَمْ يُسَمِّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا الْمَسْئُولَ، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ وَفِيهِ قُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقُلْتُ لِأَنَسٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ حُمَيْدٍ لَكِنْ قَالَ: قِيلَ لِأَنَسٍ: مَا تَزْهُو؟.
87 - بَاب إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ
2198 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟
2199 -
قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ) جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، لَكِنَّهُ جَعَلَهُ قَبْلَ الصَّلَاحِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْسُدْ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُتَابِعٌ لِلزُّهْرِيِّ، كَمَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ فِي آخَرِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تُزْهِيَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّوَابُ، فَلَا يُقَالُ فِي النَّخْلِ تَزْهُو إِنَّمَا يُقَالُ: تُزْهِي لَا غَيْرَ. وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ مَا نَفَاهُ فَقَالَ: زَهَا إِذَا طَالَ وَاكْتَمَلَ، وَأَزْهَى إِذَا احْمَرَّ وَاصْفَرَّ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: وَمَا تُزْهِي) لَمْ يُسَمِّ السَّائِلَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا الْمَسْئُولَ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ وَظَاهِرُهُ الرَّفْعُ، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ حُمَيْدٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، الْحَدِيثَ) هَكَذَا صَرَّحَ مَالِكٌ بِرَفْعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ مُقْتَصَرًا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالْخَطَأُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، فَقَدْ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ كَرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَرَوَاهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ فَقَالَ فِيهِ: قَالَ. أَفَرَأَيْتَ. . . إِلَخْ قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَنَسٌ قَالَ: بِمَ يَسْتَحِلُّ أَوْ حَدَّثَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، فَعَطَفَهُ عَلَى كَلَامِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: تُزْهِي وَظَاهِرُهُ الْوَقْفُ، وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: قَالَ أَنَسٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَهُشَيْمٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عَنْ حُمَيْدٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَدْرَ الْمُخْتَلَفَ
فِيهِ، وَتَابَعَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مَرْفُوعًا؛ لِأَنَّ مَعَ الَّذِي رَفَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا عِنْدَ الَّذِي وَقَفَهُ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الَّذِي وَقَفَهُ مَا يَنْفِي قَوْلَ مَنْ رَفَعَهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَا يُقَوِّي رِوَايَةَ الرَّفْعِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ عَاهَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الثَّمَرِ يُشْتَرَى بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ثُمَّ تُصِيبُهُ جَائِحَةٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَضَعُ عَنْهُ الثُّلُثَ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَبِيدٍ: يَضَعُ الْجَمِيعَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا وَرَدَ وَضْعُ الْجَائِحَةِ فِيمَا إِذَا بِيعَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ. فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ دَيْنُ الْغُرَمَاءِ بِذَهَابِ الثِّمَارِ وَفِيهِمْ بَاعَتُهَا، وَلَمْ يُؤْخَذِ الثَّمَنُ مِنْهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ أَيْ: لَوْ تَلِفَ الثَّمَرُ لَانْتَفَى فِي مُقَابَلَتِهِ الْعِوَضُ فَكَيْفَ يَأْكُلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ؟ وَفِيهِ إِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ تَطَرُّقَ التَّلَفِ إِلَى مَا بَدَا صَلَاحُهُ مُمْكِنٌ، وَعَدَمُ التَّطَرُّقِ إِلَى مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مُمْكِنٌ، فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ فِي الْحَالَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ. . . إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ بِهَذَا وَأَتَمَّ مِنْهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ اسْتِنْبَاطِ الزُّهْرِيِّ لِلْحُكْمِ الْمُتَرْجَمِ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ.
88 - بَاب شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ
2200 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شِرَائِهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الرَّهْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
89 - بَاب إِذَا أَرَادَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ
2201، 2202 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ
بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا.
[الحديث 2201 - أطرافه في: 2302، 4244، 4246، 7350]
[الحديث 2202 - أطرافه في: 2303، 4245، 4247، 7351]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا أَرَادَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ) أَيْ: مَا يَصْنَعُ لِيَسْلَمَ مِنَ الرِّبَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ) بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا جِيمٌ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمِيمِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) زَادَ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ابْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذِكْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُوجَدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا لِعَبْدِ الْمَجِيدِ، وَقَدْ رَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْهُ. قُلْتُ: رِوَايَةُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ سِيَاقَهُ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِ قِصَّةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ، وَسِيَاقُ قَتَادَةَ يُشْبِهُ سِيَاقَ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، كَمَا سَيَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْوَكَالَةِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورَةِ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، والدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ فَسَمَّاهُ سَوَادَ بْنَ غَزِيَّةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَفِي آخِرِهِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، وَغَزِيَّةُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَزَايٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ بِوَزْنِ عَطِيَّةَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
قَوْلُهُ: (بِتَمْرٍ جَنِيبٍ) بِجِيمٍ وَنُونٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْكَبِيسُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ الطَّيِّبُ وَقِيلَ: الصُّلْبُ وَقِيلَ: الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ حَشَفُهُ وَرَدِيئُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ الَّذِي لَا يُخْلَطُ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: (بِالصَّاعَيْنِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْجَمْعِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ التَّمْرُ الْمُخْتَلِطُ.
قَوْلُهُ: (بِالثَّلَاثِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْقَابِسِيِّ بِالثَّلَاثَةِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
قَوْلُهُ: (لَا تَفْعَلْ) زَادَ سُلَيْمَانُ: وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَيْ: بِعِ الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ وَكَذَا وَقَعَ ذِكْرُ الْمِيزَانِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي فِي الْوَكَالَةِ، أَيْ: فِي بَيْعِ مَا يُوزَنُ مِنَ الْمُقْتَاتِ بِمِثْلِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ هَذَا الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ الْمِيزَانَ سِوَى مَالِكٍ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَظَرٌ لِمَا فِي الْوَكَالَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ، كُلٌّ يَقُولُ عَلَى أَصْلِهِ: إِنَّ كُلَّ مَا دَخَلَهُ الرِّبَا مِنْ جِهَةِ التَّفَاضُلِ فَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيهِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلُ لَا يُبَاعُ إِلَّا كَيْلًا وَكَذَا الْوَزْنُ، ثُمَّ مَا كَانَ أَصْلَهُ الْوَزْنُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُبَاعَ بِالْكَيْلِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ أَصْلَهُ الْكَيْلُ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُجِيزُ فِيهِ الْوَزْنَ وَيَقُولُ: إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ تُدْرَكُ بِالْوَزْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الطَّيِّبُ وَالدُّونُ، وَأَنَّهُ كُلَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَأَمَّا سُكُوتُ مَنْ سَكَتَ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ فَسْخِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ إِمَّا ذُهُولًا وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ وَرَدَ الْفَسْخُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَفِيهِ: فَقَالَ: هَذَا الرِّبَا فَرَدُّوهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا الرَّدُّ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: قِيَامُ عُذْرِ مَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى يَعْلَمَهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الرِّفْقِ بِالنَّفْسِ، وَتَرْكِ الْحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ لِاخْتِيَارِ أَكْلِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّدِيءِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَزَهِّدِينَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ
وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ مِنْ رَجُلٍ بِنَقْدٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا غَيْرَ الَّذِي بَاعَ لَهُ الْجَمْعُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يَشْمَلُ وَلَكِنْ يَشِيعُ فَإِذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ مِمَّنْ بَاعَهُ تِلْكَ السِّلْعَةَ بِعَيْنِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ صُوَرِ هَذَا الْبَيْعِ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا وَيَكُونُ الثَّمَنُ لُغْزًا، قَالَ: وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ التَّمْرِ الثَّانِي مِمَّنْ بَاعَهُ التَّمْرَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ ظَاهِرُ السِّيَاقِ بِعُمُومِهِ بَلْ بِإِطْلَاقِهِ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ إِجْمَالًا فَوَجَبَ الِاسْتِفْسَارُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَقْيِيدُهُ بِأَدْنَى دَلِيلٍ كَافٍ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الصُّورَةُ مَمْنُوعَةً. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ فَقَالَ إِنَّ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَوْفٍ: فَنُعْطِي الْجَنِيبَ وَنَأْخُذُ غَيْرَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ ابْتَعْ بِهَذَا عَرْضًا، فَإِذَا قَبَضْتَهُ وَكَانَ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ فَاهْضِمْ مَا شِئْتَ وَخُذْ أَيَّ نَقْدٍ شِئْتَ. وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِمَّنِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّعْجِيلِ فِي ذَلِكَ وَالتَّأْجِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الشَّرْطِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَعَدَمُهُ؟ فَإِنْ تَشَارَطَا عَلَى ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ قَبْلَهُ ثُمَّ وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَضُرُّ إِرَادَةُ الشِّرَاءِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَخَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْحَرَامِ إِلَى الْحَلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَبَاحَهَا، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اخْتِيَارِ طَيِّبِ الطَّعَامِ، وَجَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ تُرَدُّ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ بَيْعَ الرِّبَا جَائِزٌ بِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيْعٌ، مَمْنُوعٌ بِوَصْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رِبًا، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الرِّبَا وَيَصِحُّ الْبَيْعُ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّفْقَةَ، وَلَأَمَرَهُ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الصَّاعِ.
90 - بَاب مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ
2203 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ:، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُخْبِرُ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَذِهِ الثَّلَاثَ.
[الحديث 2203 - أطرافه في: 2204، 2206، 2379، 2716]
2204 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ) أَيْ: أَخَذَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ بِإِجَارَةٍ. وَالنَّخْلُ اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ نَخِيلٌ، وَقَوْلُهُ: أُبِّرَتْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفًا عَلَى الْمَشْهُورِ وَمُشَدَّدًا وَالرَّاءُ مَفْتُوحَةٌ يُقَالُ: أَبَرْتُ النَّخْلَ آبُرُهُ أَبْرًا، بِوَزْنِ أَكَلْتُ الشَّيْءَ آكُلُهُ أَكْلًا، وَيُقَالُ: أَبَّرْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ أُؤَبِّرُهُ تَأْبِيرًا، بِوَزْنِ
عَلَّمْتُهُ أُعَلِّمُهُ تَعْلِيمًا، وَالتَّأْبِيرُ التَّشْقِيقُ وَالتَّلْقِيحُ، وَمَعْنَاهُ شَقُّ طَلْعِ النَّخْلَةِ الْأُنْثَى لِيَذُرَّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلَةِ الذَّكَرِ، وَالْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ بِمُجَرَّدِ التَّشْقِيقِ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ فِيهِ شَيْئًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيُلَقَّحُ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ) يَعْنِي: ابْنَ مُوسَى الرَّازِيَّ، وَهِشَامٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَيُّمَا نَخْلٍ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَنَافِعٌ يَرْوِي حَدِيثَ النَّخْلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثَ الْعَبْدِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: وَقَدْ أَسْنَدَ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثَ الْعَبْدِ مَرْفُوعًا، كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُمْدَةِ وَشَارِحِيهَا مِنَ الْوَهَمِ فِيهِ، وَحَدِيثُ الْحَارِثِ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمَوْصُولَةُ ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ كَمَا تَرَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَوَصَلَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قِصَّةَ النَّخْلِ دُونَ غَيْرِهَا. وَاخْتُلِفَ عَلَى نَافِعٍ، وَسَالِمٍ فِي رَفْعِ مَا عَدَا النَّخْلَ، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا فِي قِصَّةِ النَّخْلِ وَالْعَبْدِ مَعًا، هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحُفَّاظُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُمْ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ فَزَادَ فِيهِ ابْنَ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا لِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قِصَّةَ النَّخْلِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قِصَّةَ الْعَبْدِ مَوْقُوفَةً، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وَسَيَأْتِي فِي الشُّرْبِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ مَوْقُوفَةً.
وَجَزَمَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ بِتَرْجِيحِ رِوَايَةِ نَافِعٍ الْمُفَصَّلَةِ عَلَى رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَمَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ رَفْعُ الْقِصَّتَيْنِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ وَهُوَ وَهَمٌ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا عَنْ عُمَرَ شَأْنُ الْعَبْدِ؛ وَهَذَا لَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ صَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ) يُشِيرُ بِالْعَبْدِ إِلَى حَدِيثِ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَصُورَةُ تَشْبِيهِهِ بِالنَّخْلِ مِنْ جِهَةِ الزَّوَائِدِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْحَرْثُ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِبَارُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّهُ إِذَا فُعِلَ فِيهِ نَبَتَتِ الثَّمَرَةُ، ثَمَرَتُهُ وَانْعَقَدَتْ فِيهِ، ثُمَّ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَنِ انْعِقَادِهَا وَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ فِيهَا شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ) فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ يَسِيرٍ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَبَّرَ نَخْلًا ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا إِلَخْ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ نَخْلًا وَعَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لَمْ تَدْخُلِ الثَّمَرَةُ فِي الْبَيْعِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَخَالَفَهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَا: تَكُونُ لِلْبَائِعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ، وَعَكَسَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ: تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مُطْلَقًا. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ إِطْلَاقِ بَيْعِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلثَّمَرَةِ، فَإِنْ شَرَطَهَا الْمُشْتَرِي بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ النَّخْلَ بِثَمَرَتِهَا كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَرَطَهَا الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ كَانَتْ لَهُ. وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَرْطُهَا لِلْبَائِعِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ حُكْمَانِ وَمِنْ مَفْهُومِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَالْآخَرُ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقَوْلُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ يَعْنِي: بِالْمَفْهُومِ فِي هَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ حُكْمَ الْمُؤَبَّرَةِ لَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
(تَنْبِيهٌ): لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّأْبِيرِ أَنْ يُؤَبِّرَهُ أَحَدٌ، بَلْ لَوْ تَأَبَّرَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) الْمُرَادُ بِالْمُبْتَاعِ الْمُشْتَرِي بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَائِعِ بِقَوْلِهِ: مَنْ بَاعَ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا
الْإِطْلَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ بَعْضِ الثَّمَرَةِ كَمَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ جَمِيعِهَا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ. وَانْفَرَدَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ شَرْطُ بَعْضِهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَبَّرَ يُخَالِفُ فِي الْحُكْمِ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ بَاعَ نَخْلَةً بَعْضَهَا مُؤَبَّرٌ وَبَعْضَهَا غَيْرَ مُؤَبَّرٍ فَالْجَمِيعُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ بَاعَ نَخْلَتَيْنِ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ أَفْرَدَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا فِي بُسْتَانٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ وَالَّذِي لَا يُؤَبَّرُ لِلْمُشْتَرِي، وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّأْبِيرِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ مُخْتَصٌّ بِإِنَاثِ النَّخْلِ دُونَ ذُكُورِهِ وَأَمَّا ذُكُورُهُ فَلِلْبَائِعِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ التَّأْبِيرِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أُنْثَى وَذَكَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ بَاعَ نَخْلَةً وَبَقِيَتْ ثَمَرَتُهَا لَهُ ثُمَّ خَرَجَ طَلْعٌ آخَرُ مِنْ تِلْكَ النَّخْلَةِ فَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ إِلَّا مَا وُجِدَ دُونَ مَا لَمْ يُوجَدْ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ لِلْبَائِعِ لِكَوْنِهِ مِنْ ثَمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَاحْتَجَّ بِهِ لِمَذْهَبِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، بِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ حَتَّى إِذَا جَاءَ مَا وَرَدَ فِيهِ اسْتُدِلَّ بِغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، فَيُسْتَدَلُّ لِجَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِحَدِيثِ التَّأْبِيرِ، وَلَا يُعْمَلُ بِحَدِيثِ التَّأْبِيرِ، بَلْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ؛ فَإِنَّ الثَّمَرَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ شَرَطَهَا الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ التَّأْبِيرِ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ سَهْلٌ؛ بِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي ب يْعِ النَّخْلِ تَابِعَةٌ لِلنَّخْلِ، وَفِي حَدِيثِ النَّهْيِ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
91 - بَاب بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلًا
2205 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُزَابَنَةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلًا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ: وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَعْلُومٍ، وَأَمَّا بَيْعُ رُطَبِ ذَلِكَ بِيَابِسِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ وَإِمْكَانُ الْمُمَاثَلَةِ فَالْجُمْهُورُ لَا يُجِيزُونَ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِجِنْسِهِ لَا مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَمَاثِلًا. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَبْوَابٍ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ، لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الزَّرْعِ الرُّطَبِ بِالْحَبِّ الْيَابِسِ بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، مَعَ أَنَّ رُطُوبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَتْ كَرُطُوبَةِ الْآخَرِ، بَلْ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَبِأَنَّ الرُّطَبَ بِالرُّطَبِ وَإِنْ تَفَاوَتَ لَكِنَّهُ نُقْصَانٌ يَسِيرٌ فَعُفِيَ عَنْهُ لِقِلَّتِهِ، بِخِلَافِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ فَإِنَّ تَفَاوُتَهُ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
92 - بَاب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ
2206 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلًا ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا فَلِلَّذِي أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّأْبِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ بِبَابٍ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلًا ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ مَنِ اشْتَرَى النَّخْلَ وَحْدَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَرَاهُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فَيَجُوزُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازَ مُطْلَقًا قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.
93 - بَاب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ
2207 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ.
2208 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ مَا زَهْوُهَا قَالَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ) بِالْخَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَضِرَةِ، وَالْمُرَادُ بَيْعُ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ) أَيْ: الْعَلَّافُ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ لَيْسَ لَهُ وَلَا لِشَيْخِهِ وَلَا لِشَيْخِ شَيْخِهِ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ يُونُسُ بْنُ الْقَاسِمِ الْيَمَامِيُّ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْمُحَاقَلَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ فِي سُنْبُلِهِ بِالْبُرِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَقْلِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحَقْلُ الزَّرْعُ إِذَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْلُظَ سُوقُهُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ، وَقِيلَ: بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَقِيلَ: بَيْعُ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ، وَعَنْ مَالِكٍ هُوَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِكَيْلِ طَعَامٍ أَوْ إِدَامٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُحَاقَلَةَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا تُنْبِتُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي بَابِهِ وَكَذَلِكَ الْمُزَابَنَةُ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ يُونُسُ بْنُ الْقَاسِمِ: وَالْمُخَاضَرَةُ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُطْعَمَ وَبَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ وَيُفْرَكَ مِنْهُ. وَلِلطَّحَاوِيِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ يُونُسَ: فَسَّرَ لِي أَبِي فِي الْمُخَاضَرَةِ قَالَ: لَا يُشْتَرَى مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يُونِعَ: يَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ وَبَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ مِمَّا يُحْصَدُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ مِمَّا يُهْتَمُّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ إِذَا اخْتُلِفَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ وَلِلْمُشْتَرِي مَا يَتَجَدَّدُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ، وَيُغْتَفَرُ الْغَرَرُ فِي ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَشَبَّهَهُ بِجَوَازِ كِرَاءِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَخْتَلِفُ، وَبِكِرَاءِ الْمُرْضِعَةِ مَعَ أَنَّ لَبَنَهَا يَتَجَدَّدُ وَلَا يُدْرَى كَمْ يَشْرَبُ مِنْهُ الطِّفْلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُطْلَقًا، وَقَبْلَهُ يَصِحُّ بِشَرْطِ الْقَطْعِ.
وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ.
2208 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ، فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ، أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا.
94 - بَاب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ
2209 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ. قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، هُوَ قَلْبُ النَّخْلَةِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَيْعِ، لَكِنِ الْأَكْلُ مِنْهُ يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِ يَدُلُّ بِمُطَابَقَتِهِ عَلَى بَيْعِ الْجُمَّارِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: بَيْعُ الْجُمَّارِ وَأَكْلُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَكُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ لِلْأَكْلِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، قُلْتُ: فَائِدَةُ التَّرْجَمَةِ رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ إِفْسَادًا وَإِضَاعَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَكْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ، فَيُرَدُّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ كَرِهَ إِظْهَارَ الْأَكْلِ وَاسْتَحَبَّ إِخْفَاءَهُ قِيَاسًا عَلَى إِخْفَاءِ مَخْرَجِهِ.
95 - بَاب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ
وَسُنَنِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ الْمَشْهُورَةِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِدَانَقَيْنِ. فَرَكِبَهُ ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ وَلَمْ يُشَارِطْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ.
2210 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ.
2211 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا قَالَ خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ
[الحديث 2211 - أطرافه في: 2460، 3825، 5359، 5364، 5370، 6641، 7161، 7180]
2212 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ ح
و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ فَرْقَدٍ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ"
[الحديث 2212 - طرفاه في: 2765، 4575]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَسُنَنُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: مَقْصُودُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ فَبَاعَهَا بِغَيْرِ النَّقْدِ الَّذِي عَرَفَ النَّاسُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ مَوْزُونًا أَوْ مَكِيلًا بِغَيْرِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْعُرْفِ أَحَدُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ، فَمِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِي مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ؛ كَصِغَرِ ضَبَّةِ الْفِضَّةِ وَكِبَرِهَا، وَغَالِبِ الْكَثَافَةِ فِي اللِّحْيَةِ وَنَادِرِهَا، وَقُرْبِ مَنْزِلِهِ وَبُعْدِهِ، وَكَثْرَةِ فِعْلٍ أَوْ كَلَامٍ وَقِلَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَمُقَابَلًا بِعِوَضٍ فِي الْبَيْعِ
(1)
، وَعَيْنًا وَثَمَنِ مِثْلٍ، وَمَهْرِ مِثْلٍ، وَكُفْءِ نِكَاحٍ، وَمُؤْنَةٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِ الشَّخْصِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْمَقَادِيرِ كَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَسِنِّ الْيَأْسِ، وَمِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي فِعْلٍ غَيْرِ مُنْضَبِطٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالْإِذْنِ فِي الضِّيَافَةِ وَدُخُولِ بَيْتِ قَرِيبٍ، وَتَبَسُّطٍ مَعَ صَدِيقٍ وَمَا يُعَدُّ قَبْضًا وَإِيدَاعًا وَهَدِيَّةً وَغَصْبًا وَحِفْظَ وَدِيعَةٍ وَانْتِفَاعًا بِعَارِيَةٍ، وَمِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مُخَصَّصٍ كَأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ، وَفِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّفْوِيضِ وَمَقَادِيرِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ) بِالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ.
قَوْلُهُ: (سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ) أَيْ: جَائِزَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يُقْرَأَ سُنَّتُكُمْ بِالرَّفْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَأَ بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ أَيِ: الْزَمُوا. وَهَذَا وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْغَزَّالِينَ اخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْحٍ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّ سُنَّتَنَا بَيْنَنَا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الصَّحِيحِ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحًا وَقَوْلُهُ: رِبْحًا لَفْظَةٌ زَائِدَةٌ لَا مَعْنًى لَهَا هُنَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي آخِرِ الْأَثَرِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ (عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَهَذَا وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا.
قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشْرَ) أَيْ: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهُ بِأَحَدَ عَشَرَ، فَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ عَشَرَةً وَالرِّبْحُ دِينَارًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَصْلُ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مِقْدَارُ الصُّبْرَةِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. قُلْتُ: وَفِي كَوْنِ هَذَا الْفَرْعِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَثَرِ ابْنِ سِيرِينَ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَأْخُذُ إِلَّا فِيمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي السِّلْعَةِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ، وَأَمَّا أُجْرَةُ السِّمْسَارِ وَالطَّيِّ وَالشَّدِّ فَلَا، قَالَ: فَإِنْ أَرْبَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ جَازَ إِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْسِبَ فِي الْمُرَابَحَةِ جَمِيعَ مَا صَرَفَهُ وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ
(1)
في طبعة بولاق: كذا بالنسخ التي بأيدينا، ولعل قبل ومقابلا سقط من الناسخ
بِكَذَا. وَوَجْهُ دُخُولِ هَذَا الْأَثَرِ فِي التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي عُرْفِ الْبَلَدِ أَنَّ الْمُشْتَرَى بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يُبَاعُ بِأَحَدَ عَشَرَ فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ الْعُرْفِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ) أَيْ: بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهَا مَوْصُولَةً فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَاكْتَرَى الْحَسَنُ) أَيْ: الْبَصْرِيُّ (مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَقَوْلُهُ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ: أَحْضِرْ أَوِ اطْلُبْ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ: الْمَطْلُوبُ، وَالدَّانِقُ بِالْمُهْمَلَةِ وَنُونٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا قَافٌ: وَزْنُ سُدُسِ دِرْهَمٍ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشَارِطْهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْأُجْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَزَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى طَرِيقِ الْفَضْلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي طَيْبَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ وَسَاقَهُ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُشَارِطْهُ عَلَى أُجْرَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْعُرْفِ فِي مِثْلِهِ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا قَوْلُهُ: خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكَ بِالْمَعْرُوفِ فَأَحَالَهَا عَلَى الْعُرْفِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدٌ شَرْعِيٌّ.
ثالثها حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ سَاقَهُ عَنْ إِسْحَاقَ هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَظَهَرَ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهُ هُنَا بِلَفْظِ: عُثْمَانَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَهُنَاكَ بِلَفْظِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ هُنَا بِلَفْظِ: وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّوَابُ يَقُومُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْقِيَامِ لَا مِنَ الْإِقَامَةِ، قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فِي الْوَصَايَا، وَرِوَايَةُ: يُقِيمُ مُوَجَّهَةٌ أَيْ: يُلَازِمُهُ أَوْ يُقِيمُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَإِسْحَاقُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ خَلَفٌ وَغَيْرُهُ فِي الْأَطْرَافِ وَقَدِ اسْتَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ. وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ فَرْقَدٍ بِفَاءٍ وَقَافٍ وَزْنُ جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الْعَطَّارُ الْبَصْرِيُّ فِيهِ مَقَالٌ، لَكِنْ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَرَنَهُ بِابْنِ نُمَيْرٍ، وَذَكَرَ لَهُ آخَرُ تَعْلِيقًا فِي الْمَغَازِي، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ حَوَالَةُ وَالِي الْيَتِيمِ فِي أَكْلِهِ مِنْ مَالِهِ عَلَى الْعُرْفِ.
96 - بَاب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ
2213 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.
[الحديث 2213 - أطرافه في: 2214، 2257، 2495، 2496، 2976]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُشَاعٍ، وَهُوَ كَبَيْعِهِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ بَاعَهُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ فَلِلشَّرِيكِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ بَاعَهُ مِنَ الشَّرِيكِ ارْتَفَعَتِ الشُّفْعَةُ.
وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الشُّفْعَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ: وَحَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى التَّرْجَمَةِ حُكْمُ بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَضُّ الشَّرِيكِ أَنْ لَا يَبِيعَ مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ إِلَّا مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَاعَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ لِلشَّرِيكِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ قَهْرًا، وَقِيلَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الدَّارَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمْ لِلْآخَرِ كَانَ لِلثَّالِثِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا. وَقِيلَ: يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ. هَلِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ أَخْذٌ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ؟ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ شَرِيكًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ فَهُوَ شَرِيكُ شَرِيكِهِ. وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ إِنْ كَانَ لَهُ الْأَخْذُ قَهْرًا فَلِلْبَائِعِ إِذَا كَانَ شَرِيكُهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ بَلْ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
97 - بَاب بَيْعِ الْأَرْضِ وَالدُّورِ وَالْعُرُوضِ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ
2214 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بِهَذَا، وَقَالَ: فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ. تَابَعَهُ هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فِي كُلِّ مَالٍ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْأَرْضِ وَالدُّورِ وَالْعُرُوضِ مَشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ) ذُكِرَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الشُّفْعَةِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ. وَذَكَرَ هُنَا اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِهِ: كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ أَوْ كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ فَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، وَهِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ: كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: كُلِّ مَالٍ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَطَرِيقُ هِشَامٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَطَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَصَلَهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَطَرِيقُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ وَصَلَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كُلِّ مَالٍ وَلِلْبَاقِينَ كُلِّ مَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَكُلِّ مَالٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ: قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ تُقْسَمْ وَهُوَ يُرَجِّحُ رِوَايَةَ غَيْرِ السَّرَخْسِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ يَعْنِي: قَوْلَهُ: تَابَعَهُ وَقَالَ وَرَوَاهُ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يَرْوِيَ الرَّاوِي الْآخَرُ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، وَالرِّوَايَةُ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُذَاكَرَةِ، وَالْقَوْلُ أَعَمُّ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاتِّحَادِ فِي الْمُتَابَعَةِ مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْمَعْنَى، وَحَصْرُهُ الرِّوَايَةَ فِي الْمُذَاكَرَةِ مَرْدُودٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رَوَاهُ فُلَانٌ ثُمَّ أَسْنَدَهُ هُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِصِيغَةِ حَدَّثَنَا.
وَأَمَّا الَّذِي هُنَا بِخُصُوصِهِ فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَفَهُ مَعَ كَوْنِهِ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ مُسَدَّدٍ الَّذِي وَصَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
98 - بَاب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ
2215 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمْ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى، ثُمَّ أَجِيءُ، فَأَحْلُبُ فَأَجِيءُ بِالْحِلَابِ فَآتِي بِهِ
أَبَوَيَّ، فَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي، فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ، قَالَ: فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَفُرِجَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي، كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لَا تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ.
اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمْ الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا؛ فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا، فَكُشِفَ عَنْهُمْ.
[الحديث 2215 - أطرافه في: 2273، 2333، 3465، 5974]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَقَدْ مَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهَا إِلَى الْجَوَازِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْحَطَّتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ فِي الْغَارِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُ أَحَدِهِمْ: إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرْقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى، فَعَمَدْتُ إِلَى الْفَرْقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا فَإِنَّ فِيهِ تَصَرُّفَ الرَّجُلِ فِي مَالِ الْأَجِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ثَمَّرَهُ لَهُ وَنَمَّاهُ وَأَعْطَاهُ أَخَذَهُ وَرَضِيَ، وَطَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا ش رْعٌ لَنَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ، لَكِنْ يَتَقَرَّرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَهُ مَسَاقَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَبَيَّنَهُ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا، وَفِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ لِهَذَا الْحُكْمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ فِي فَضْلِ الْخَيْلِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ فِي قِصَّةِ بَيْعِهِ الشَّاةَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِفَرْقٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ الْفَرْقُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ اسْتَمَرَّ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجَرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَلَمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمَالِكُ صَحَّ تَصَرُّفُهُ سَوَاءٌ اعْتَقَدَهُ
لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَجِيرِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَا اجْتَمَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَجِيرِ بِرِضًى مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا طَعَامًا فَبَاعَهُ الْمُودَعُ بِثَمَنٍ فَرَضِيَ الْمُودِعُ فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِثْلَ طَعَامِهِ. وَمَنَعَ أَشْهَبُ قَالَ: لِأَنَّهُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ فِيهِ خِيَارٌ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ لِأَبِي ثَوْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَنْ غَصَبَ قَمْحًا فَزَرَعَهُ إِنَّ كُلَّ مَا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْقَمْحِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَهْلِ الْغَارِ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فِيهِ إِدْخَالُ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ ابْنِ جُرَيْجٍ وَنَافِعٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ قَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ نَافِعٍ. فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قِلَّةِ تَدْلِيسِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مُوسَى
مِنْ نَوْعِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ. وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ. وَقَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ الْحِلَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ آخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ: الْإِنَاءُ الَّذِي يُحْلَبُ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ اللَّبَنُ. وَقَوْلُهُ: يَتَضَاغَوْنَ بِمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ: يَتَبَاكَوْنَ مِنَ الضُّغَاءِ وَهُوَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ. وَقَوْلُهُ: فُرْجَةٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، وَالْفَرْقُ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ وَالذُّرَةُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مَعْرُوفٌ.
99 - بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ
2216 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً؟ قَالَ: لَا، بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً.
[الحديث 2216 - طرفاه في: 2618، 5382]
قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُعَامَلَةُ الْكُفَّارِ جَائِزَةٌ، إِلَّا بَيْعَ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُبَايَعَةِ مَنْ غَالِبُ مَالِهِ الْحَرَامُ، وَحُجَّةُ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُشْرِكِ: أَبَيْعًا أَمْ هِبَةً؟ وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْكَافِرِ وَإِثْبَاتُ مِلْكِهِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَجَوَازُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ. قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ الْبَابِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فِيهِ مُشْعَانٌّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَآخِرُهُ نُونٌ ثَقِيلَةٌ، أَيْ: طَوِيلٌ شَعِثُ الشَّعْرِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِبَةِ. وَقَوْلُهُ: أَبَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: أَتَجْعَلُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ: أَهَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمُبَايَعَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ.
100 - بَاب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَلْمَانَ: كَاتِبْ، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِيَ عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
2217 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي؛ فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ غَيْرِي وَغَيْرِكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ
وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ الْأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: - قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، يُقَالُ: هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: - فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ: هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ - أَوْ فِي الثَّالِثَةِ - فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً.
[الحديث 2217 - أطرافه في: 2635، 3357، 3358، 5084، 6950]
2218 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ فَقَالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ"
2219 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّي قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ.
2220 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ أَوْ أَتَحَنَّتُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ قَالَ حَكِيمٌ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ، وَجَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهَا، إِذْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَلْمَانَ عِنْدَ مَالِكِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ، وَقَبِلَ الْخَلِيلُ هِبَةَ الْجَبَّارِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَلْمَانَ) أَيْ: الْفَارِسِيِّ (كَاتِبْ. وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارٌ فَحَمَلُونِي مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ، قَالَ: فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَدِيَةٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، عَنْ سَلْمَانَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِمَعْنَاهُ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: كَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ لَخَّصَهُ مِنْ قِصَّتِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي عَلَّقَهُ، وَظَنَّ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ لِسَلْمَانَ: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَكَانَ حُرًّا حَالٌ، مِنْ قَالَ النَّبِيُّ، لَا مِنْ قَوْلِهِ: كَاتِبْ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ أَمَرَهُ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ حُرٌّ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْكِتَابَةِ صُورَتَهَا لَا حَقِيقَتَهَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ افْدِ نَفْسَكَ وَتَخَلَّصْ مِنَ الظُّلْمِ، كَذَا قَالَ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ حُرًّا، مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهُ حَمْلُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ حُرًّا، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَيَقَعَ فِي أَسْرِ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ تَقْرِيرُ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا أَقَرَّ الْيَهُودِيَّ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي سَلْمَانَ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ لَمْ يَكُنْ سَلْمَانُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ، وَحُكْمُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ غَلَبَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى نَفْسِ غَيْرِهِ أَوْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنِ الْمَغْلُوبُ فِيمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَالِبِ.
قَوْلُهُ: (وَسُبِيَ عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ) أَمَّا قِصَّةُ سَبْيِ عَمَّارٍ فَمَا ظَهَرَ لِي الْمُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ عَمَّارًا كَانَ عَرَبِيًّا عَنْسِيًّا بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ، مَا وَقَعَ عَلَيْهِ سَبْيٌ، وَإِنَّمَا سَكَنَ أَبُوهُ يَاسِرٌ مَكَّةَ وَحَالَفَ بَنِي مَخْزُومٍ، فَزَوَّجُوهُ سُمَيَّةَ وَهِيَ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمَّارًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُونَ عَامَلُوا عَمَّارًا مُعَامَلَةَ السَّبْيِ؛ لِكَوْنِ أُمِّهِ مِنْ مَوَالِيهِمْ دَاخِلًا فِي رِقِّهِمْ. وَأَمَّا صُهَيْبٌ فَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، وَكَانَ عَامِلًا لِكِسْرَى، فَسَبَتِ الرُّومُ صُهَيْبًا لَمَّا غَزَتْ أَهْلَ فَارِسَ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَقِيلَ: بَلْ هَرَبَ مِنَ الرُّومِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَ ابْنَ جُدْعَانَ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّتِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا بِلَالٌ فَقَالَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ لِأَيْتَامِ أَبِي جَهْلٍ، فَعَذَّبَهُ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا فَقَالَ: اشْتَرِ لِي بِلَالًا، فَأَعْتَقَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ، لِلْعَبَّاسِ: اشْتَرِ لِي بِلَالًا فَاشْتَرَاهُ، فَأَعْتَقَهُ أَبُو بَكْرٍ وَفِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ، بِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَهُوَ يُعَذِّبُ بِلَالًا فَقَالَ: أَلَّا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟ قَالَ: أَنْقِذْهُ أَنْتَ مِمَّا تَرَى، فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامًا أَجْلَدَ مِنْهُ وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ أُمَيَّةَ، وَأَبِي جَهْلٍ كَانَ يُعَذِّبُ بِلَالًا، وَلَهُمَا شَوْبٌ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الْآيَةَ) مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فَأَثْبَتَ لَهُمْ مِلْكَ الْيَمِينِ مَعَ كَوْنِ مِلْكِهِمْ غَالِبًا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُهُ صِحَّةُ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ وَمِلْكِ الْمُسْلِمِ عَنْهُ، وَالْمُخَاطَبُ فِي الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّوْبِيخُ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَامَلُوا بِهِ أَصْنَامَهُمْ مِنَ التَّعْظِيمِ وَلَمْ يُعَامِلُوا رَبَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ غَرَضِ هَذَا الْبَابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، أَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَسَارَةَ مَعَ الْجَبَّارِ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَعْطَاهَا هَاجَرَ، وَوَقَعَ هُنَا آجَرُ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْهَاءِ، وَقَوْلُهُ: كَبَتَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، أَيْ: أَخْزَاهُ، وَقِيلَ: رَدَّهُ خَائِبًا، وَقِيلَ: أَحْزَنَهُ، وَقِيلَ: صَرَعَهُ، وَقِيلَ: صَرَفَهُ، وَقِيلَ: أَذَلَّهُ، حَكَاهَا كُلَّهَا ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ: إِنَّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَقِيلَ: أَصْلُ كَبَتَ: كَبَدَ، أَيْ: بَلَغَ الْهَمُّ كَبِدَهُ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُ مُثَنَّاةً. وَقَوْلُهُ: أَخْدَمَ، أَيْ: مَكَّنَ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُ الْكَافِرِ: أَعْطُوهَا هَاجَرَ وَقَبُولُ سَارَةَ مِنْهُ، وَإِمْضَاءُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ذَلِكَ، فَفِيهِ صِحَّةُ هِبَةِ الْكَافِرِ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ
ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ثَمَّ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِلْكَ زَمْعَةَ لِلْوَلِيدَةِ، وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهَا.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ صُهَيْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدٍ) أَيِ: ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُدْعَ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ) كَانَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: إِنَّهُ ابْنُ سِنَانِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ عُقَيْلٍ، وَيَسُوقُ نَسَبًا يَنْتَهِي إِلَى النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، وَأَنَّ أُمَّهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ لِسَانُهُ أَعْجَمِيًّا؛ لِأَنَّهُ رُبِّيَ بَيْنَ الرُّومِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ لِسَانُهُمْ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ، لِصُهَيْبٍ: مَا وَجَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: اكْتَنَيْتَ أَبَا يَحْيَى، وَأَنَّكَ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا، وَتُدْعَى إِلَى النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ.
فَقَالَ: أَمَّا الْكُنْيَةُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَنَّانِي، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وَأَمَّا النَّسَبُ فَلَوْ كُنْتُ مِنْ رَوْثَةٍ لَانْتَسَبْتُ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ كَانَ الْعَرَبُ يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَسَبَانِي نَاسٌ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُ مَوْلِدِي وَأَهْلِي، فَبَاعُونِي فَأَخَذْتُ بِلِسَانِهِمْ يَعْنِي: لِسَانَ الرُّومِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، وَيَقُولُ: إِنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُطْعِمُ الْكَثِيرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَنَّانِي، وَإِنِّي رَجُلٌ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ مِنْ أَهْلِ الْمُوصِلِ وَلَكِنْ سَبَتْنِي الرُّومُ غُلَامًا صَغِيرًا بَعْدَ أَنْ عَقَلْتُ قَوْمِي وَعَرَفْتُ نَسَبِي، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى صُهَيْبٍ، فَلَمَّا رَآهُ صُهَيْبٌ قَالَ: يَا نَاسُ يَا نَاسُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا لَهُ يَدْعُو النَّاسَ؟ فَقِيلَ: إِنَّمَا يَدْعُو غُلَامَهُ يُحَنَّسَ، فَقَالَ: يَا صُهَيْبُ مَا فِيكَ شَيْءٌ أَعِيبُهُ إِلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ فِيهِ: وَمَا انْتِسَابِي إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّ الرُّومَ سَبَتْنِي وَأَنَا صَغِيرٌ وَإِنِّي لَأَذْكُرُ أَهْلَ بَيْتِي، وَلَوْ أَنِّي انْفَلَقْتُ عَنْ رَوْثَةٍ لَانْتَسَبْتُ إِلَيْهَا.
فَهَذِهِ طُرُقٌ تَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَعَلَّهُ اتَّفَقَتْ لَهُ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ مَرَّةً، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ السِّيَاقِ.
رَابِعُهَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا) الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ مِنْ وُقُوعِ الصَّدَقَةِ وَالْعَتَاقَةِ مِنَ الْمُشْرِكِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ صِحَّةَ مِلْكِ الْمُشْرِكِ، إِذْ صِحَّةُ الْعِتْقِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْمِلْكِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَتَحَنَّثُ هَلْ هُوَ بِالْمُثَلَّثَةِ أَوِ الْمُثَنَّاةِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رَوَى هُنَا: أَتَحَبَّبُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَنْسُبَهَا لِقَائِلِهَا.
101 - بَاب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ
2221 -
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ) أَيْ: هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهَا أَمْ لَا؟ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ جَوَازَ الْبَيْعِ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَمَا لَا فَلَا، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ تَعَرُّضٌ لِلْبَيْعِ، وَالِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ مُطْلَقًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبَعْدَهُ مَشْهُورٌ مِنْ مَذْهَبِ الزُّهْرِيِّ، وَكَأَنَّهُ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَحُجَّتُهُ مَفْهُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ
مَا عَدَا أَكْلَهَا مُبَاحٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
102 - بَاب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ.
وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الْخِنْزِيرِ.
2222 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.
[الحديث 2222 - أطرافه في: 2476، 3448، 3449]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ) أَيْ: هَلْ يُشْرَعُ كَمَا شُرِعَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ؟ وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: شَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: لَا يُقْتَلُ الْخِنْزِيرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَةٌ. قَالَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِ مُطْلَقًا. وَالْخِنْزِيرُ بِوَزْنِ غِرْبِيبٍ، وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْجَوْهَرِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الْخِنْزِيرِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ تِسْعَةِ أَبْوَابٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، أَيْ: يَأْمُرُ بِإِعْدَامِهِ مُبَالَغَةً فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ عِيسَى، ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ، وَيُبَالِغُونَ فِي مَحَبَّتِهِ.
103 - بَاب لَا يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلَا يُبَاعُ وَدَكُهُ
رَوَاهُ جَابِرٌ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
2223 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا.
[الحديث 2223 - طرفه في 3460]
2224 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَعَنَهُمْ {قُتِلَ} لُعِنَ {الْخَرَّاصُونَ} الْكَذَّابُونَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلَا يُبَاعُ وَدَكُهُ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: رَوَى مَعْنَاهُ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي بَابِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ.
قَوْلُهُ: (بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ زَادَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزَّعْفَرَانِيِّ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ بَيْعِ سَمُرَةَ لِلْخَمْرِ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِيمَةِ الْجِزْيَةِ فَبَاعَهَا مِنْهُمْ، مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ، وَرَجَّحَهُ، وَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ بَيْعَهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي مَحْظُورٍ، وَإِنْ أَخَذَ أَثْمَانَهَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ مُحَرَّمًا، وَيَكُونُ شَبِيهًا بِقِصَّةِ بَرِيرَةَ، حَيْثُ قَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
وَالثَّانِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاعَ الْعَصِيرَ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَالْعَصِيرُ يُسَمَّى خَمْرًا كَمَا قَدْ يُسَمَّى الْعِنَبُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إِلَيْهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: وَلَا يُظَنُّ بِسَمُرَةَ أَنَّهُ بَاعَ عَيْنَ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ شَاعَ تَحْرِيمُهَا، وَإِنَّمَا بَاعَ الْعَصِيرُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَلَّلَ الْخَمْرَ وَبَاعَهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاعْتَقَدَ سَمُرَةُ الْجَوَازَ كَمَا تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَحِلُّ التَّخْلِيلُ، وَلَا يَنْحَصِرُ الْحِلُّ فِي تَخْلِيلِهَا بِنَفْسِهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِابْنِ الْجَوْزِيِّ: وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ.
قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَخْذهَا عَنِ الْجِزْيَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَصَلَتْ لَهُ عَنْ غَنِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ أَبْدَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمَدْخَلِ فِيهِ احْتِمَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ سَمُرَةَ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ بَيْعِهَا وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عُمَرُ عَلَى ذَمِّهِ دُونَ عُقُوبَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِهِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ سَمُرَةَ كَانَ وَالِيًا لِعُمَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَطْلَقَ أَنَّهُ كَانَ وَالِيًا عَلَى الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ وَهَمٌ؛ فَإِنَّمَا وَلِيَ سَمُرَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ وَابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بَعْدَ عُمَرَ بِدَهْرٍ، وُلَاةُ الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ قَدْ ضُبِطُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ سَمُرَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أُمَرَائِهَا اسْتَعْمَلَ سَمُرَةَ عَلَى قَبْضِ الْجِزْيَةِ.
قَوْلُهُ: (حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ) أَيْ: أَكْلُهَا، وَإِلَّا فَلَوْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حِيلَةٌ فِيمَا صَنَعُوهُ مِنْ إِذَابَتِهَا.
قَوْلُهُ: (فَجَمَلُوهَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ، أَيْ: أَذَابُوهَا، يُقَالُ: جَمَلَهُ إِذَا أَذَابَهُ، وَالْجَمِيلُ: الشَّحْمُ الْمُذَابُ، وَوَجْهُ تَشْبِيهِ عُمَرَ بَيْعَ الْمُسْلِمِينَ الْخَمْرَ بِبَيْعِ الْيَهُودِ الْمُذَابَ مِنَ الشَّحْمِ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَنَاوُلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا حُرِّمَ تَنَاوُلُهُ حُرِّمَ بَيْعُهُ كَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَارَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَنَاوُلِهِ نَجَسًا، هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ الطَّبَرِيِّ وَأَقَرَّهُ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ بَلْ كُلُّ مَا حُرِّمَ تَنَاوُلُهُ حُرِّمَ بَيْعُهُ، وَتَنَاوُلُ الْحُمُرِ وَالسِّبَاعِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا حُرِّمَ أَكْلُهُ إِنَّمَا يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَبْحِهِ، وَهُوَ بِالذَّبْحِ يَصِيرُ مَيْتَةً؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ لَهُ، وَإِذَا صَارَ مَيْتَةً صَارَ نَجَسًا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. فَالْإِيرَادُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ وَارِدٍ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي بَعْضِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الِابْنُ إِذَا وَرِثَ جَارِيَةَ أَبِيهِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، وَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا وَأَكْلُ ثَمَنِهَا، فَأَجَابَ عِيَاضٌ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَمْوِيهٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لِغَيْرِهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ إِذَا مَلَكَهَا، بِخِلَافِ الشُّحُومِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَهُوَ الْأَكْلُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْيَهُودِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ شَخْصٍ فَافْتَرَقَا.
وَفِي الْحَدِيثِ لَعْنُ الْعَاصِي الْمُعِينِ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَ عُمَرَ قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ لَمْ يُرِدْ بِهِ ظَاهِرَهُ، بَلْ هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ إِرَادَةِ الزَّجْرِ، فَقَالَهَا فِي حَقِّهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِقَالَةُ ذَوِي الْهَيْئَاتِ زَلَّاتِهِمْ؛ لِأَنَّ عُمَرَ اكْتَفَى بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَنْ مَزِيدِ عُقُوبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ إِبْطَالُ الْحِيَلِ وَالْوَسَائِلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، وَفِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعُنْقُودِ الْمُسْتَحِيلِ بَاطِنُهُ خَمْرًا، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ فَقِيلَ: لِنَجَاسَتِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقِيلَ: لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا، وَفِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا حُرِّمَ عَيْنُهُ حُرِّمَ ثَمَنُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ مِنَ الذِّمِّيِّ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ بَيْعِهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي خِطَابِ الْكَافِرِ بِالْفُرُوعِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ جُثَّةِ الْكَافِرِ إِذَا قَتَلْنَاهُ، وَأَرَادَ الْكَافِرُ شِرَاءَهُ.
وَعَلَى مَنْعِ بَيْعِ كُلِّ
مُحَرَّمٍ نَجَسٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَالسِّرْقِينِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِاحْتِيَاجِ الْمُشْتَرِي دُونَهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَفِيهِ الْبَحْثُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ حَرُمَ بَيْعُهَا، وَمَا يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودًا) كَذَا بِالتَّنْوِينِ عَلَى إِرَادَةِ الْبَطْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى إِرَادَةِ الْقَبِيلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّ مَعْنَاهُ لَعَنَهُمْ، وَاسْتَشْهَدَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} مَعْنَاهُ: لُعِنَ وَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُتِلَ، وَقَوْلُهُ:{الْخَرَّاصُونَ} الْكَذَّابُونَ هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ رَوَاهُمَا الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَى قَاتَلَهُمْ: قَتَلَهُمْ، قَالَ: وَفَاعَلَ أَصْلُهَا أَنْ يَقَعَ الْفِعْلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَرُبَّمَا جَاءَ مِنْ وَاحِدٍ كَسَافَرْتُ وَطَارَقْتُ النَّعْلَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى قَاتَلَهُمْ: عَادَاهُمْ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مَنْ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَجَبَ قَتْلُهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: قَاتَلَ، أَيْ: عَادَى أَوْ قَتَلَ، وَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عُبِّرَ عَنْهُ بِمَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِمَا اخْتَرَعُوا مِنَ الْحِيلَةِ انْتَصَبُوا لِمُحَارَبَةِ اللَّهِ، وَمَنْ حَارَبَهُ حُرِبَ، وَمَنْ قَاتَلَهُ قُتِلَ.
104 - بَاب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ
2225 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا. فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ هَذَا الْوَاحِدَ.
[الحديث 2225 - طرفاه في: 5963، 7042]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِنَ الِاتِّخَاذِ أَوِ الْبَيْعِ أَوِ الصَّنْعَةِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَاوِيرِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُصَوَّرُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ الْحَدِيثَ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَاضِحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ رَاوِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَمَاتَ قَبْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ مَوْصُولًا سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَرَبَا الرَّجُلُ) بِالرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: انْتَفَخَ، قَالَ الْخَلِيلُ: رَبَا الرَّجُلُ أَصَابَهُ نَفَسٌ فِي جَوْفِهِ، وَهُوَ الرَّبْوُ وَالرَّبْوَةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ذُعِرَ وَامْتَلَأَ خَوْفًا. وَقَوْلُهُ: رُبْوَةً بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: (فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِخَفْضِ كُلِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عَلَيْكَ بِمِثْلِ الشَّجَرِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ وَاوِ الْعَطْفِ، أَيْ: وَكُلِّ شَيْءٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي التَّحِيَّاتِ: الصَّلَوَاتُ إِذِ الْمَعْنَى: وَالصَّلَوَاتُ،
وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: فَاصْنَعَ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ هَوْذَةَ، عَنْ عَوْفٍ: فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ بِإِثْبَاتِ وَاوِ الْعَطْفِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: كُلِّ شَيْءٍ هُوَ بَيَانٌ لِلشَّجَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ عَنِ التَّصْوِيرِ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الشَّجَرِ كَانَ غَيْرَ وَافٍ بِمَقْصُودِهِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ كُلَّ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ خُصُوصَ الشَّجَرِ، وَقَوْلُهُ: كُلِّ بِالْخَفْضِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ هَذَا الْوَاحِدَ) أَيِ: الْحَدِيثَ، سَقَطَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ هُنَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ، وَسَأَذْكُرُ مَا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مِنَ التَّغَايُرِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ قَبْلَ قَوْلِهِ: سَمِعَ سَعِيدٌ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَعَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبَعْدَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعَ سَعِيدٌ إِلَخْ فَزَالَ الْإِشْكَالُ بِهَذَا، وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَمُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.
105 - بَاب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ
وَقَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الْخَمْرِ
2226 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ آخِرِهَا، خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: حُرِّمَتْ التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ) تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ لَكِنْ بِقَيْدِ الْمَسْجِدِ، وَهَذِهِ أَعَمُّ مِنْ تِلْكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَمْرَ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ، وَنَذْكُرُ تَحْرِيرَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ أَكْلِ الرِّبَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَتَمَّ سِيَاقًا، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ شِرَاؤُهَا وَثَمَنُهَا.
106 - بَاب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا
2227 -
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ.
[الحديث 2227 - طرفه في: 2270]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا) أَيْ: عَالِمًا مُتَعَمِّدًا، وَالْحُرُّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ مِثْلُ الْمَوْقُوفِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ) هُوَ بِشْرُ بْنُ عُبَيْسٍ - بِمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا - ابْنُ مَرْحُومِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ الْعَطَّارُ فَنُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ مَا أَخْرَجَ عَنْهُ مِنَ السِّتَّةِ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ وَافَقَ بِشْرًا فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ شَيْخِهِمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ هُوَ الطَّائِفِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ مَوْصُولًا سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ،
وَذَكَرَهُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ خَاصَّةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَتِهِ، وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْمَحْفُوظُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ) زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ سبحانه وتعالى خَصْمٌ لِجَمِيعِ الظَّالِمِينَ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْدِيدَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّصْرِيحِ، وَالْخَصْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الِاثْنَيْنِ وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْوَاحِدُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوَّلُ قَوْلُ الْفُصَحَاءِ، وَيَجُوزُ فِي الِاثْنَيْنِ خَصْمَانِ وَالثَّلَاثَةِ خُصُومٌ.
قَوْلُهُ: (أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ أَعْطَى يَمِينَهُ بِي، أَيْ: عَاهَدَ عَهْدًا وَحَلَفَ عَلَيْهِ بِاللَّهِ ثُمَّ نَقَضَهُ.
قَوْلُهُ: (بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ) خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَقْصُودٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ صَلَاةٌ فَذَكَرَ فِيهِمْ: وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ فِي الْفِعْلِ وَأَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اعْتِبَادُ الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ أَوْ يَجْحَدَ، وَالثَّانِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّهُمَا. قُلْتُ: وَحَدِيثُ الْبَابِ أَشَدُّ لِأَنَّ فِيهِ مَعَ كَتْمِ الْعِتْقِ أَوْ جَحْدِهِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ مِنَ الْبَيْعِ وَأَكْلِ الثَّمَنِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ أَشَدَّ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَإِنَّمَا كَانَ إِثْمُهُ شَدِيدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْفَاءُ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ بَاعَ حُرًّا فَقَدْ مَنَعَهُ التَّصَرُّفَ فِيمَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ، وَأَلْزَمَهُ الذُّلَّ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْحُرُّ عَبْدُ اللَّهِ، فَمَنْ جَنَى عَلَيْهِ فَخَصْمُهُ سَيِّدُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ مَنْ بَاعَ حُرًّا أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَسْرِقْهُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ تُقْطَعُ يَدُ مَنْ بَاعَ حُرًّا، قَالَ: وَكَانَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْحُرِّ خِلَافٌ قَدِيمٌ ثُمَّ ارْتَفَعَ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَهُوَ عَبْدٌ.
قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَنْ لَمْ تُعْلَمْ حُرِّيَّتُهُ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ نَفْسَهُ فَقَضَى عُمَرُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنْ طَرِيقِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَحَدُ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا فِي دَيْنٍ، وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى نَزَلَتْ:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ رِوَايَةِ زُرَارَةَ، وَلَا يُثْبِتُ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَنْعِ.
قَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) هُوَ فِي مَعْنَى مِنْ بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَكَأَنَّهُ أَكَلَهَا، وَلِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَكَأَنَّهُ اسْتَعْبَدَهُ.
107 - بَاب أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلَاهُمْ فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَوْلُهُ: (بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ أَرْضٍ وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ جَمْعِ السَّلَامَةِ وَلَمْ يَبْقَ مُفْرَدُهُ سَالِمًا؛ لِأَنَّ الرَّاءَ فِي الْمُفْرَدِ سَاكِنَةٌ وَفِي الْجَمْعِ مُحَرَّكَةٌ.
قَوْلُهُ: (حِينَ أَجْلَاهُمْ) أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى الْيَهُودِ - وَفِيهِ - فَقَالَ إِنِّي أُرِيدَ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ
وَقَعَتْ لِبَنِي النَّضِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخَذَ بَيْعَ الْأَرْضِ مِنْ عُمُومِ بَيْعِ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْخِيَارِ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ إِطْلَاقُ الْمَالِ عَلَى الْأَرْضِ، وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مُقْتَضِبًا؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَلَى شَرْطِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اكْتَفَى هُنَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؛ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِهِ عِنْدَهُ، فَفَرَّ مِنْ تَكْرَارِ الْحَدِيثِ عَلَى صُورَتِهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ عَادَتِهِ.
108 - بَاب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنْ الْبَعِيرَيْنِ. وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: آتِيكَ بِالْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا رِبَا فِي الْحَيَوَانِ؛ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ ودرهم بدرهم نَسِيئَةً
2228 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً) التَّقْدِيرُ: بَيْعُ الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ نَسِيئَةً، وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَبْدِ جِنْسَ مَنْ يُسْتَعْبَدُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ قِصَّةَ صَفِيَّةَ، أَوْ أَشَارَ إِلَى إِلْحَاقِ حُكْمِ الذَّكَرِ بِحُكْمِ الْأُنْثَى فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، لَكِنْ شَرَطَ مَالِكٌ أَنْ يَخْتَلِفَ الْجِنْسُ، وَمَنَعَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي السُّنَنِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّحَاوِيِّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، فَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِرْسَالَهُ، وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَاحْتُجَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا - وَفِيهِ - فَابْتَاعَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ، بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ هُنَا بِقِصَّةِ صَفِيَّةَ وَاسْتَشْهَدَ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةِ. . الْحَدِيثَ) وَصَلَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى نَاقَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ بِالرَّبَذَةِ فَقَالَ لِصَاحِبِ النَّاقَةِ: اذْهَبْ فَانْظُرْ فَإِنْ رَضِيتَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَقَوْلُهُ: رَاحِلَةً أَيْ: مَا أَمْكَنَ رُكُوبُهُ مِنَ الْإِبِلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَقَوْلُهُ: مَضْمُونَةً صِفَةُ رَاحِلَةٍ أَيْ: تَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ حَتَّى يُوفِيَهَا، أَيْ: يُسَلِّمَهَا لِلْمُشْتَرِي، وَالرَّبَذَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنَ الْبَعِيرَيْنِ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ بَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ فَقَالَهُ.
قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ
فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: آتِيكَ بِالْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: رَهْوًا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ: سَهْلًا، وَالرَّهْوُ السَّيْرُ السَّهْلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا رِبًا فِي الْحَيَوَانِ؛ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ) أَمَّا قَوْلُ سَعِيدٍ فَوَصَلَهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ: لَا رِبًا فِي الْحَيَوَانِ وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ: لَا بَأْسَ بِالْبَعِيرِ بِالْبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ نَسِيئَةً) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَسِيئَةً، وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْهُ بِلَفْظِ: لَا بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ وَدِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ نَسِيئَةً، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ يَدًا بِيَدٍ أَوِ الدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً، وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ نَقْدًا وَالْحَيَوَانُ نَسِيئَةً.
قَوْلُهُ: (كَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصَارَتْ إِلَى دِحْيَةَ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِمَّا يُنَاسِبُ تَرْجَمَتَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَوَّضَ دِحْيَةَ عَنْهَا بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي فَقَالَ لِدِحْيَةَ: خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَنْزِلُ تَبْدِيلُهَا بِجَارِيَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ يَخْتَارُهَا مَنْزِلَةَ بَيْعِ جَارِيَةٍ بِجَارِيَةٍ نَسِيئَةً، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ صَفِيَّةَ هَذِهِ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
109 - بَاب بَيْعِ الرَّقِيقِ
2229 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا، فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ، فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: أَوَإِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ خَارِجَةٌ.
[الحديث 2229 - أطرافه في: 2542، 4138، 5210، 6603، 7409]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الرَّقِيقِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبَايَا فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ الْحَدِيثَ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: فِي هَذَا السِّيَاقِ: أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا يُوهِمُ أَنَّهُ السَّائِلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وَقَعَ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ ظَهَرَ بَيَانُهُ مِمَّا سَاقَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ فَذَكَرَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ.
110 - بَاب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
2230 -
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَبَّرَ.
2231 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ بَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"
2232 -
2233 - حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ الأَمَةِ تَزْنِي وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ اجْلِدُوهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ"
2234 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عليها، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ) أَيْ: الَّذِي عَلَّقَ مَالِكُهُ عِتْقَهُ بِمَوْتِ مَالِكِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ دُبُرُ الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنَّ فَاعِلَهُ دَبَّرَ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ: أَمَّا دُنْيَاهُ فَبِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، وَأَمَّا آخِرَتُهُ فَبِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْعِتْقِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمْرِ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، فَيَرْجِعُ إِلَى دُبُرِ الْأَمْرِ وَهُوَ آخِرُهُ. وَقَدْ أَعَادَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَصَارَتْ أَحَادِيثُهَا دَاخِلَةً فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ وَتَوْجِيهُهَا وَاضِحٌ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ: إِسْمَاعِيلُ، وَسَلَمَةُ، وَعَطَاءٌ، فَإِسْمَاعِيلُ، وَسَلَمَةُ قَرِينَانِ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ وَعَطَاءٌ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَبَّرَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ، لَكِنْ زَادَ: عَنْ سُفْيَانَ، وَإِسْمَاعِيلَ جَمِيعًا عَنْ سَلَمَةَ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ وَكِيعٍ، وَلَفْظُهُ: فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ شَيْخِهِ فِيهِ هُنَا، لَكِنْ قَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ - بَدَلَ وَكِيعٍ - عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، وَلَفْظُهُ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ: بَيْعُ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَقَالَ فِي التَّرْجَمَةِ: وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَذْكُورٍ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ، بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا
لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَاحْتَاجَ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَفَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَبَبَ بَيْعِهِ وَهُوَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى ثَمَنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خَلَّادٍ زِيَادَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الدَّيْنُ، فَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ: مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْأَوَّلِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ: اقْضِ دَيْنَكَ، وَبِالثَّانِي إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةِ نَحْوُهُ وَلَفْظُهُ: وَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلٌ فَعَلَى عِيَالِهِ الْحَدِيثَ، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ كَانَ فِي حَيَاةِ الَّذِي دَبَّرَهُ، إِلَّا مَا رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: إِنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ مُدَبَّرًا وَدَيْنًا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ فِي دَيْنِهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ شَرِيكًا أَخْطَأَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ عَنْ سَلَمَةَ وَفِيهِ: وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَى مَوْلَاهُ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ شَرِيكٍ بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلًا دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَلَيْسَ فِيهِ لِلْمَوْتِ ذِكْرٌ، وَشَرِيكٌ كَانَ تَغَيَّرَ حِفْظُهُ لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ، وَسَمَاعُ مَنْ حَمَلَهُ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَصَحُّ، وَمِنْهُمْ أَسْوَدُ الْمَذْكُورُ.
(تَنْبِيهَاتٌ): الْأَوَّلُ: اتَّفَقَتِ الطُّرُقُ عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَبْعُمِائَةٍ أَوْ تِسْعُمِائَةٍ.
الثَّانِي: وَجَدْتُ لِوَكِيعٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِسْنَادًا آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَدْرَمِيِّ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ مُخْتَصَرًا.
الثَّالِثُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ وَاللَّهُ أَغْنَى عَنْهُ
الطريق الثاني.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (بَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُخْتَصَرًا وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو بِكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سُفْيَانَ فَزَادَ فِي آخِرِهِ يَعْنِي: الْمُدَبَّرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النَّحَّامِ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلٍ فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بِتَمَامِهِ نَحْوَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو نَحْوَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَلَا عَيَّنَ الثَّمَنَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدْبِيرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الثُّلُثِ، غَيْرَ اللَّيْثِ، وَزُفَرَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: مِنْ رَأَسِ الْمَالِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ أَوْ لَازِمٌ، فَمَنْ قَالَ: لَازِمٌ مَنَعَ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلَّا بِالْعِتْقِ، وَمَنْ قَالَ: جَائِزٌ أَجَازَ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ الْبَابِ، وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ انْفَرَدَ السَّيِّدُ بِهَا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ كَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا، وَلِأَنَّ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ شَخْصٍ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ بِاتِّفَاقٍ، فَيَلْحَقُ بِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَقَيَّدَ اللَّيْثُ الْجَوَازَ بِالْحَاجَةِ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ
بِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيُحْمَلُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْجَوَازِ بِمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَدَّ تَصَرُّفَ هَذَا الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رَدِّ تَصَرُّفِ مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ
مَالِهِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ لَا رَقَبَتَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْمُدَبَّرِ الَّذِي اشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ كَانَ فِي مَنْفَعَتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ.
وَأَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِبَيْعِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ، فَيَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُدَبَّرَةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اعْتِذَارٍ.
111 - بَاب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؟
وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا وُهِبَتْ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلَا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
2235 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا) هَكَذَا قَيَّدَ بِالسَّفَرِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْهُ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُصِيبُ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنْ كَانَ فِي الْمَسْبِيَّةِ صَوَابٌ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ عُتِقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلَا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ) أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ، فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْبَكَارَةَ تَمْنَعُ الْحَمْلَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ الْوَطْءِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَفِي الِاسْتِبْرَاءِ شَائِبَةُ تَعَبُّدٍ، وَلِهَذَا تُسْتَبْرَأُ الَّتِي أَيِسَتْ مِنَ الْحَيْضِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنْ أَرَادَ عَطَاءٌ بِالْحَامِلِ مَنْ حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْتَابُ فِي حِلِّهِ، وَإِنْ أَرَادَ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ.
قُلْتُ: وَالثَّانِي أَشْبَهَ بِمُرَادِهِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِالآيةِ أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ، فَخَرَجَ الْوَطْءُ بِدَلِيلٍ، فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي الْمَغَازِي، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَلَّتْ أَيْ: طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَبْرَأَ صَفِيَّةَ بِحَيْضَةٍ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ صَفِيَّةَ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَقَدْ شَكَّ حَمَّادٌ رَاوِيهِ عَنْ ثَابِتٍ فِي رَفْعهِ، وَفِي ظَاهِرِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بِهَا مُنْصَرِفَهُ مِنْ خَيْبَرَ بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِهَا بِيَسِيرٍ فَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَسَعُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَا نَقَلُوا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا فَتُحْمَلُ الْعِدَّةُ عَلَى طُهْرِهَا مِنَ الْمَحِيضِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالصَّرِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضُ حَيْضَةً قَالَهُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
112 - بَاب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ
2236 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؛ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ؛ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ: كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ: سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 2236 - طرفاه في: 4296، 4633]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ) أَيْ: تَحْرِيمُ ذَلِكَ، وَالْمَيْتَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَا زَالَتْ عَنْهُ الْحَيَاةُ لَا بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالْمِيتَةُ بِالْكَسْرِ: الْهَيْئَةُ وَلَيْسَتْ مُرَادًا هُنَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ. وَالْأَصْنَامُ جَمْعُ صَنَمٍ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْوَثَنُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَثَنُ مَا لَهُ جُثَّةٌ، وَالصَّنَمُ مَا كَانَ مُصَوَّرًا، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَإِنْ كَانَ مُصَوَّرًا فَهُوَ وَثَنٌ وَصَنَمٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ تِلْوَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُتَّصِلَةِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَلِيَزِيدَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ، فَقَالَ: قَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَيَزِيدُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ مُتَابِعًا لِعَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَحَلُّهُ الصِّدْقَ. قُلْتُ: قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرِوَايَةُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْهُ الْمُوَافِقَةُ لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْ يَزِيدَ أَرْجَحُ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَاذَّةً.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِسَنَدِهِ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ) فِيهِ بَيَانُ تَارِيخِ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ
فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهُ صلى الله عليه وسلم لِيَسْمَعَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاحِدِ وَكَانَ الْأَصْلُ حَرَّمَا فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَأَدَّبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ فِي ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ مَا رَدَّ بِهِ عَلَى الْخَطِيبِ الَّذِي قَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا كَذَا قَالَ، وَلَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ لَيْسَ فِيهِ وَرَسُولَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَرْدَوْيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ اللَّيْثِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَنْهَاكُمْ وَالتَّحْقِيقُ جَوَازُ الْإِفْرَادِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَوَجْهُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ نَاشِئٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَالْمُخْتَارُ فِي هَذَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى حُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْـ
…
ـدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقِيلَ: أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ خَبَرٌ عَنِ الِاسْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ تَابِعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْقَائِلِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآتِيَةِ فَقَالَ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ) أَيْ: فَهَلْ يَحِلُّ بَيْعُهَا لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَنَافِعِ؛ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ) أَيِ: الْبَيْعُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَقَالَ: يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يُنْتَفَعُ مِنَ الْمَيْتَةِ أَصْلًا عِنْدَهُمْ إِلَّا مَا خُصَّ بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَتَنَجَّسُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَتْ لَهُ دَابَّةٌ سَاغَ لَهُ إِطْعَامُهَا لِكِلَابِ الصَّيْدِ فَكَذَلِكَ يَسُوغُ دَهْنُ السَّفِينَةِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ وَلَا فَرْقَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ. . . إِلَخْ) وَسِيَاقُهُ مُشْعِرٌ بِقُوَّةِ مَا أَوَّلَهُ الْأَكْثَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُوَ حَرَامٌ الْبَيْعُ لَا الِانْتِفَاعُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: الْوَيْلُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ بَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا، وَكَذَلِكَ ثَمَنُ الْخَمْرِ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ) هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَفْظُهُ بَلْ قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَصْلَ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَفِي سِيَاقِهِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَلَفْظُهُ: يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعَ الْمَيْتَةِ وَبَيْعَ الْخَمْرِ وَبَيْعَ الْأَصْنَامِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَرَى فِي بَيْعِ شُحُومِ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهَا تُدْهَنُ بِهَا السُّفُنُ وَالْجُلُودُ وَيُسْتَصْبَحُ بِهَا. فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ الْحَدِيثَ. فَظَهَرَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ بَيْعِ الشُّحُومِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُوَ عِنْدَ الرُّكْنِ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ النَّجَاسَةُ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى كُلِّ نَجَاسَةٍ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ مَالِكٍ طَهَارَةُ الْخِنْزِيرِ.
وَالْعِلَّةُ فِي مَنْعِ بَيْعِ
الْأَصْنَامِ عَدَمُ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ إِذَا كُسِرَتْ يُنْتَفَعُ بِرُضَاضِهَا جَازَ بَيْعُهَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْمَنْعِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا، وَيَلْتَحِقُ بِهَا فِي الْحُكْمِ الصُّلْبَانُ الَّتِي تُعَظِّمُهَا النَّصَارَى، وَيَحْرُمُ نَحْتُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَصَنْعَتُهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إِلَّا مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلِذَلِكَ رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَلِيلِ مِنْ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَزِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا لَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْعَظْمَ وَالسِّنَّ وَالْقَرْنَ وَالظِّلْفَ، وَقَالَ بِنَجَاسَةِ الشُّعُورِ الْحَسَنُ وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَلَكِنَّهَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ بِالْغَسْلِ، وَكَأَنَّهَا مُتَنَجِّسَةٌ عِنْدَهُمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ رُطُوبَاتِ الْمَيْتَةِ لَا نَجِسَةَ الْعَيْنِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي عَظْمِ الْفِيلِ إِنَّهُ يَطْهُرُ إِذَا سُلِقَ بِالْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ لَا يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ.
113 - بَاب ثَمَنِ الْكَلْبِ
2237 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
[الحديث 2237 - أطرافه في: 2282، 5346، 5761]
2238 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْأَمَةِ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ثَمَنِ الْكَلْبِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدَهُمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. ثَانِيَهُمَا حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ: نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْأَمَةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مُوكِلِ الرِّبَا فِي أَوَائِلِ الْبَيْعِ.
وَاشْتَمَلَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ أَوْ خَمْسَةٍ إِنْ غَايَرْنَا بَيْنَ كَسْبِ الْأَمَةِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ: الْأَوَّلُ: ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ تَحْرِيمُ بَيْعِهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ أَنْ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَعَنْهُ كَالْجُمْهُورِ، وَعَنْهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَقَالَ: إِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجَاسَتُهُ مُطْلَقًا، وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِهِ، وَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى نَجَاسَتَهُ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِهِ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِهِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ مِنْهُ مَا أُذِنَ
فِي اتِّخَاذِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ طَعَنَ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ: نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَإِنْ كَانَ ضَارِيًا، يَعْنِي: مِمَّا يَصِيدُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ:
نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَقَالَ: طُعْمَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَنَحْوُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْكَلْبِ، وَكَرَاهِيَةُ بَيْعِهِ وَلَا يُفْسَخُ إِنْ وَقَعَ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَجِسًا وَأَذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ لِمَنَافِعِهِ الْجَائِزَةِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ جَمِيعِ الْمَبِيعَاتِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ تَنْزِيهًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، قَالَ: وَأَمَّا تَسْوِيَتُهُ فِي النَّهْيِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَلْبِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِي اتِّخَاذِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ كَلْبٍ، فَالنَّهْيُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْكَرَاهَةِ أَعَمُّ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ تُؤْخَذُ خُصُوصِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ فَإِنَّا عَرَفْنَا تَحْرِيمَ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ مِنَ الْإِجْمَاعِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّهْيِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ إِذْ قَدْ يُعْطَفُ الْأَمْرُ عَلَى النَّهْيِ، وَالْإِيجَابُ عَلَى النَّفْيِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الزَّانِيَةُ عَلَى الزِّنَا، سَمَّاهُ مَهْرًا مَجَازًا، وَالْبَغِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَجَمْعُ الْبَغِيِّ بَغَايَا، وَالْبِغَاءُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ: الزِّنَا وَالْفُجُورُ، وَأَصْلُ الْبِغَاءِ الطَّلَبُ غَيْرَ أَنَّهُ أَكْثَرَ مَا يَسْتَعْمِلُ فِي الْفَسَادِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: كَسْبُ الْأَمَةِ، وَسَيَأْتِي فِي الْإِجَارَةِ بَابُ كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالْإِمَاءِ وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: نَهَى عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ فَعُرِفَ بِذَلِكَ النَّهْيُ، وَالْمُرَادُ بِهِ كَسْبُهَا بِالزِّنَا لَا بِالْعَمَلِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ مَرْفُوعًا: نَهَى عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ إِلَّا مَا عَمِلَتْ بِيَدِهَا وَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ نَحْوَ الْغَزْلِ وَالنَّفْشِ - وَهُوَ بِالْفَاءِ، أَيْ: نَتْفِ الصُّوفِ - وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَسْبِ الْأَمَةِ: جَمِيعُ كَسْبِهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤْمَنُ إِذَا أُلْزِمَتْ بِالْكَسْبِ أَنْ تَكْسِبَ بِفَرْجِهَا، فَالْمَعْنَى أَنْ لَا يُجْعَلَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ مَعْلُومٌ تُؤَدِّيهِ كُلَّ يَوْمٍ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ، وَفِي مَعْنَاهُ التَّنْجِيمُ وَالضَّرْبُ بِالْحَصَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَانَاهُ الْعَرَّافُونَ مِنِ اسْتِطْلَاعِ الْغَيْبِ، وَالْحُلْوَانُ مَصْدَرُ حَلَوْتُهُ حُلْوَانًا إِذَا أَعْطَيْتُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَلَاوَةِ شُبِّهَ بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَأْخُذُهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، يُقَالُ: حَلَوْتُهُ إِذَا أَطْعَمْتُهُ الْحُلْوَ، وَالْحُلْوَانُ أَيْضًا الرِّشْوَةُ، وَالْحُلْوَانُ أَيْضًا أَخْذُ الرَّجُلِ مَهْرَ ابْنَتِهِ لِنَفْسِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْكَهَانَةِ وَأَصْلِهَا وَحُكْمِهَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحُكْمُ الْخَامِسُ: ثَمَنُ الدَّمِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ: أُجْرَةُ الْحِجَامَةِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ بَيْعِ الدَّمِ كَمَا حُرِّمَ بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، أَعْنِي بَيْعَ الدَّمِ وَأَخْذَ ثَمَنِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ فِي الْإِجَارَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْبُيُوعِ مِنَ الْمَرْفُوعِ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ وَسَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَمَا عَدَاهَا مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةُ أَحَادِيثَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا؛ وَهِيَ: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قِصَّةِ تَزْوِيجِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّمْرَةِ السَّاقِطَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي، وَحَدِيثُ الْمِقْدَامِ: أَطْيَبُ مَا أَكَلَ مِنْ كَسْبِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا، وَحَدِيثُ الْعَدَّاءِ فِي الْعُهْدَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي الْحَجَّامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ عَلَى جَمَلٍ صَعْبٍ، وَحَدِيثُهُ فِي الْإِبِلِ الْهِيمِ، وَحَدِيثُ: اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا، وَحَدِيثُ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ، وَحَدِيثُ الْمِقْدَامِ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ، وَحَدِيثُ: الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَحَدِيثُ: إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُزَابَنَةِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ، وَحَدِيثُ سَلْمَانَ فِي مُكَاتَبَتِهِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ مَعَ صُهَيْبٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ، وَحَدِيثُهُ فِي إِجْلَاءِ الْيَهُودِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
35 - كِتَاب السَّلَمِ
1 - بَاب السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ
2239 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ - أَوْ قَالَ: عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، شَكَّ إِسْمَاعِيلُ - فَقَالَ: مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِهَذَا: فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ السَّلَمِ. بَابُ السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْبَسْمَلَةُ مُتَقَدِّمَةٌ عِنْدَهُ، وَمُتَوَسِّطَةٌ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَيْنَ كِتَابٍ وَبَابٍ، وَحَذَفَ النَّسَفِيُّ كِتَابَ السَّلَمِ، وَأَثْبَتَ الْبَابَ وَأَخَّرَ الْبَسْمَلَةَ عَنْهُ. وَالسَّلَمُ - بِفَتْحَتَيْنِ - السَّلَفُ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ السَّلَفَ لُغَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالسَّلَمَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: السَّلَفُ: تَقْدِيمُ رَأْسِ الْمَالِ، وَالسَّلَمُ: تَسْلِيمُهُ فِي الْمَجْلِسِ. فَالسَّلَفُ أَعَمُّ. وَالسَّلَمُ شَرْعًا: بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، وَمَنْ قَيَّدَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ زَادَهُ فِي الْحَدِّ، وَمَنْ زَادَ فِيهِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: بَابُ السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَيْ: فِيمَا يُكَالُ، وَاشْتِرَاطُ تَعْيِينِ الْكَيْلِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ مِنَ الْمَكِيلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِ
الْمَكَايِيلِ، إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْبَلَدِ سِوَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَفِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَذَكَرَهُ بَعْدُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَمَدَارُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَجَزَمَ الْقَابِسِيُّ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ وَالْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ الْمَكِّيُّ الْقَارِي الْمَشْهُورُ، وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ، وَابْنُ طَاهِرٍ، وَالدِّمْيَاطِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ، وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ شَيْخُهُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُطْعِمٍ الَّذِي تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ قَرِيبًا عَنِ الْبَرَاءِ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
قَوْلُهُ: (عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ) يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ، وَلَمْ يَشُكَّ سُفْيَانُ، فَقَالَ: وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ وَقَوْلُهُ: عَامَيْنِ، وَقَوْلُهُ: السَّنَتَيْنِ مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ) كَذَا لِابْنِ عُلَيَّةَ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ وَهِيَ أَشْمَلُ، وَقَوْلُهُ: وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَالْمُرَادُ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ فِيمَا يُكَالُ وَالْوَزْنِ فِيمَا يُوزَنُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَاخْتُلِفَ فِي مُحَمَّدٍ فَقَالَ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ ابْنُ سَلَامٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ، زَادَ السُّفْيَانَانِ: إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِهِ.
2 - بَاب السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ
2240 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَقَالَ: فَليُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
2241 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
…
وَقَالَ: فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
2242، 2243 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ و حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي السَّلَفِ فَبَعَثُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ"
[الحديث 2242 - طرفاه في: 2244، 2255]
[الحديث 2243 - طرفاه في: 2245، 2254]
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ) أَيْ: فِيمَا يُوزَنُ، وَكَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَا يُوزَنُ لَا يُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلًا وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ، وَحَمَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى مَا يُعَدُّ الْكَيْلُ فِي مِثْلِهِ ضَابِطًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْكَيْلِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ مِنَ الْمَكِيلِ، كَصَاعِ الْحِجَازِ، وَقَفِيزِ الْعِرَاقِ، وَإِرْدَبِّ مِصْرَ، بَلْ مَكَايِيلُ هَذِهِ الْبِلَادِ فِي نَفْسِهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَإِذَا أُطْلِقَ صُرِفَ إِلَى الْأَغْلَبِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، ذَكَرَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ حَدَّثُوهُ بِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ فِي الْأُولَى: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَزْنَ، وَذَكَرَهُ فِي الثَّالِثَةِ. وَصَرَّحَ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ أُخِذَ مِنْهُ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ إِلْحَاقًا لِلْعَدَدِ بِالْكَيْلِ الْمُخَالِفِ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ عَنِ الْحَسَنِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. ثَانِيهُمَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ) كَذَا أَبْهَمَهُ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَسَمَّاهُ غَيْرُهُ عَنْهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْمُجَالِدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْرَدَهُ عَلَى الشَّكِّ مُحَمَّدًا، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ، وَأَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ مَرَّةً: مُحَمَّدٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَجَمَاعَةٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي اسْمِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ فِي الْمُحَمَّدِينِ، وَجَزَمَ أَبُو دَاوُدَ بِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَانَ صِهْرَ مُجَاهِدٍ، وَبِأَنَّهُ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَوَثَّقَهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِدَادٍ) أَيِ: ابْنُ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ (وَأَبُو بُرْدَةَ) أَيِ: ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
قَوْلُهُ: (فِي السَّلَفِ) أَيْ: هَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ الْمُسْلَمُ فِيهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ كَذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْخُزَاعِيُّ أَحَدُ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ أَبْزَى صُحْبَةٌ عَلَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ وَزْنَ أَعْلَى، وَوَجْهُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ، الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ: فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ مِنْ جِنْسِ مَا يُوزَنُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي السَّلَمِ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْكَيْلِ الْمَعْلُومِ وَالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَدَدٍ مَعْلُومٍ. قُلْتُ: أَوْ ذَرْعٌ مَعْلُومٌ، وَالْعَدَدُ وَالذَّرْعُ مُلْحَقٌ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِلْجَامِعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَدَمُ الْجَهَالَةِ بِالْمِقْدَارِ، وَيَجْرِي فِي الذَّرْعِ مَا تَقَدَّمَ شَرْطُهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنْ تَعْيِينِ الذِّرَاعِ؛ لِأَجْلِ اخْتِلَافِهِ فِي الْأَمَاكِنِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَةِ الشَّيْءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ صِفَةً تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِذِكْرِ مَا كَانُوا يُهْمِلُونَهُ.
3 - بَاب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ
2244، 2245 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْمُجَالِدِ، قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما، فَقَالَا: سَلْهُ: هَلْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُسْلِفُونَ فِي الْحِنْطَةِ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِي الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ، فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَانِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لَا.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُجَالِدٍ، بِهَذَا، وَقَالَ: فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ: وَقَالَ: وَالزَّيْتِ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ: وَقَالَ: فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ.
2246 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيَّ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُوكَلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ فَقَالَ الرَّجُلُ وَأَيُّ شَيْءٍ يُوزَنُ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ حَتَّى يُحْرَزَ وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم" مِثْلَهُ
[الحديث 2246 - طرفاه في: 2248، 2250]
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَمِ إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ) أَيْ: مِمَّا أَسْلَمَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ أَصْلُ الشَّيْءِ الَّذِي يُسْلَمُ فِيهِ، فَأَصْلُ الْحَبِّ مَثَلًا الزَّرْعُ، وَأَصْلُ الثَّمَرِ مَثَلًا الشَّجَرُ، وَالْغَرَضُ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ.
وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ طَرِيقِ الشَّيْبَانِيِّ، فَأَوْرَدَهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ - وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ - عَنْهُ، فَذَكَرَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالزَّيْتَ، وَمِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّيْتَ، وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ فَقَالَ: الزَّبِيبَ بَدَلَ الزَّيْتِ، وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ فَقَالَ - وَذَكَرَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ - كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (نَبِيطُ أَهْلِ الشَّامِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ دَخَلُوا فِي الْعَجَمِ وَالرُّومِ، وَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابُهُمْ وَفَسَدَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكَانَ الَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِالْعَجَمِ مِنْهُمْ يَنْزِلُونَ الْبَطَائِحَ بَيْنَ الْعِر اقَيْنِ، وَالَّذِينَ اخْتَلَطُوا بِالرُّومِ يَنْزِلُونَ فِي بِوَادِي الشَّامِ، وَيُقَالُ لَهُمُ: النَّبَطُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالنَّبِيطُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةٍ، وَالْأَنْبَاطُ قِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنْبَاطِ الْمَاءِ، أَيِ: اسْتِخْرَاجُهُ لِكَثْرَةِ مُعَالَجَتِهِمُ الْفِلَاحَةَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ) أَيِ: الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: قُلْتُ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ) كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْحُكْمَ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ، وَتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ) هُوَ الْعَدَنِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَطَرِيقُهُ مَوْصُولَةٌ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْهِلَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ السَّلَمِ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ الْقَبْضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَزَادَ: وَيَقْبِضُهُ فِي مَكَانِ السَّلَمِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ فِي تَسْلِيمِهِ مَكَانًا مَعْلُومًا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ السَّلَمِ إِذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي وَقْتِ حُلُولِ السَّلَمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ الْمَحَلِّ وَبَعْدَهُ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ فِيمَا يَنْقَطِعُ قَبْلَهُ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيمَا يَعُمُّ فَانْقَطَعَ فِي مَحَلِّهِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي وَجْهٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّفَرُّقِ فِي السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى جَوَازُ مُبَايَعَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالسَّلَمِ إِلَيْهِمْ، وَرُجُوعُ الْمُخْتَلِفِينَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى السُّنَّةِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ السُّنَّةَ إِذَا وَرَدَتْ بِتَقْرِيرِ حُكْمٍ كَانَ أَصْلًا بِرَأْسِهِ لَا يَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ أَصْلٍ آخَرَ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِذْ لَا ذِكْرَ لِلسَّلَمِ فِيهِ، وَغَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي، إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ مَأْخُوذٌ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنِ السَّلَمِ مَعَ مَنْ لَهُ نَخْلٌ فِي ذَلِكَ النَّخْلِ، رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِذَا كَانَ السَّلَمُ فِي النَّخْلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَجُوزُ تَعْيِينُ جَوَازِهِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ؛ لِلْأَمْنِ فِيهِ مِنْ غَائِلَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى ذَلِكَ النَّخْلِ بِعَيْنِهِ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي بَابِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّلَمِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، أَيِ: السَّلَفُ لَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَكَأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ فِي الذِّمَّةِ.
2246 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُوكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ: حَتَّى يُحْرَزَ. وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يُوزَنُ؟) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَزَعَمَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ نَفْسُهُ؛ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ بِالتَّعْرِيفِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَوْلُهُ:(حَتَّى يُحْرَزَ) بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، أَيْ: يُحْفَظَ وَيُصَانَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ، أَيْ: يُوزَنُ أَوْ يُخْرَصُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ كَمِّيَّةِ حُقُوقِ الْفُقَرَاءِ قَبْلَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمَالِكُ، وَصَوَّبَ عِيَاضٌ الْأَوَّلَ، وَلَكِنَّ الثَّانِي أَلْيَقُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ، وَرَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: حَتَّى يُحَرَّرَ بِرَاءَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ، وَلَكِنَّهُ رَوَاهُ بِالشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ، بِهِ.
4 - بَاب السَّلَمِ فِي النَّخْلِ
2247، 2248 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، فَقَالَ: نُهِيَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ، وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ، أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ.
2249، 2250 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَنَهَى عَنْ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ، وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يُؤْكَلَ، وَحَتَّى يُوزَنَ، قُلْتُ: وَمَا يُوزَنُ؟ قَالَ: رَجُلٌ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرَزَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ) أَيْ: فِي ثَمَرِ النَّخْلِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ)
أَيْ: نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّهُ نُهِيَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَاخْتُلِفَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ غُنْدَرٍ: فَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: فَقَالَ: نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاقْتَصَرَ مُسْلِمٌ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ) أَيْ: بِالذَّهَبِ نسيئة، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ.
قَوْلُهُ: (نَسَاءً) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، أَيْ: تَأْخِيرًا، تَقُولُ: نَسَأْتُ الدَّيْنَ، أَيْ: أَخَّرْتُهُ نَسَاءً، أَيْ: تَأْخِيرًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنْ صَحَّ، فَمَحْمُولٌ عَلَى السَّلَمِ الْحَالِّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، أَوْ مَا قَرُبَ أَجَلُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمُعَيَّنِ لَكِنْ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ النَّجْرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يُسْلَمُ فِي نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي حَدِيقَةِ نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ تُطْلِعَ، فَلَمْ تُطْلِعْ ذَلِكَ الْعَامَ شَيْئًا، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ لِي حَتَّى تُطْلِعَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ هَذِهِ السَّنَةَ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: ارْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ، وَلَا تُسْلِمُوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْأَكْثَرِ عَلَى مَنْعِ السَّلَمِ فِي بُسْتَانٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ، وَقَدْ حَمَلَ الْأَكْثَرُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَلَى السَّلَمِ الْحَالِّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعنِي تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ. قَالَ: لَا أَبِيعُكَ مِنْ حَائِطٍ مُسَمًّى، بَلْ أَبِيعُكَ أَوْسُقًا مُسَمَّاةً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
5 - باب الْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ
2251 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.
6 - بَاب الرَّهْنِ فِي السَّلَمِ
2252 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: اشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ نَسِيئَةً، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ تَرْجَمَ لَهُ بَابُ الرَّهْنِ فِي السَّلَمِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَمَّا الْكَفِيلُ فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا تُرْجِمَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِلْحَاقَ الْكَفِيلِ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ الرَّهْنُ بِهِ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ فِيهِ. قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ بِعَيْنِهِ سَبَقَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ، فَسَيَأْتِي فِي الرَّهْنِ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْكَفِيلَ فِي السَّلَفِ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْحَدِيثَ فَوَضَحَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَنْبَطُ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عَلَى عَادَتِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ
الْأَعْمَشِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ هُوَ الرِّبَا الْمَضْمُونُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُوَفَّقُ: رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْبَاقُونَ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَاللَّفْظُ عَامٌّ فَيَدْخُلُ السَّلَمُ فِي عُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ، وَاسْتُدِلَّ لِأَحْمَدَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَشْتَرِطُ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرَ قَضَائِهِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى شَرْطٍ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ،
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَسْوَدُ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا بَأْسَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ
2253 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ: أَسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَقَالَ: فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ.
2254، 2255 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُجَالِدٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو بُرْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ السَّلَفِ، فَقَالَا: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّأْمِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قَالَ: قُلْتُ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) يُشِيرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ السَّلَمَ الْحَالَّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى الْمَنْعِ، وَحَمَلَ مَنْ أَجَازَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ عَلَى الْعِلْمِ بِالْأَجَلِ فَقَطْ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: مَنْ أَسْلَمَ إِلَى أَجَلٍ فَلْيُسْلِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَا مَجْهُولٍ، وَأَمَّا السَّلَمُ لَا إِلَى أَجَلٍ فَجَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ مَعَ الْأَجَلِ وَفِيهِ الْغَرَرُ، فَمَعَ الْحَالِّ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْغَرَرِ. وَتُعُقِّبَ بِالْكِتَابَةِ، وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ: لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْكِتَابَةِ شُرِعَ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: بِاخْتِصَاصِ السَّلَمِ بِالْأَجَلِ، وَقَوْلُهُ: وَأَبُو سَعِيدٍ هُوَ الْخُدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ أَيِ: الْبَصْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ أَيِ: ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ. فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي حَسَّانَ، الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تُسْلِفْ إِلَى الْعَطَاءِ وَلَا إِلَى الْحَصَادِ وَاضْرِبْ أَجَلًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ آخَرَ سَيَأْتِي.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ نُبَيْحٍ - بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ - وَهُوَ الْعَنَزِيُّ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ ثُمَّ الزَّايِ الْكُوفِيُّ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: السَّلَمُ بِمَا يَقُومُ بِهِ السِّعْرُ رِبًا، وَلَكِنْ أَسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ: فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالسَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ شَيْئًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَسْوَدِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ السَّلَمِ فِي الطَّعَامِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ كَيْلٌ مَعْلُومٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَمَّيْتَ فِي السَّلَمِ قَفِيزًا وَأَجَلًا فَلَا بَأْسَ وَعَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ مِثْلَهُ.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي: لَا تُسْلِفْ إِلَى الْعَطَاءِ لِاشْتِرَاطِ تَعْيِينِ وَقْتِ الْأَجَلِ بِشَيْءٍ لَا يَخْتَلِفُ؛ فَإِنَّ زَمَنَ الْحَصَادِ يَخْتَلِفُ وَلَوْ بِيَوْمٍ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْعَطَاءِ وَمِثْلُهُ قُدُومُ الْحَاجِّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَوَافَقَهُ أَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْقِيتَهُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى يَهُودِيٍّ: ابْعَثْ لِي ثَوْبَيْنِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَطَعَنَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي صِحَّتِهِ بِمَا وَهِمَ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاسْتِدْعَاءِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ قُيِّدَ بِشُرُوطِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِفِ الثَّوْبَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا بَأْسَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسْلِفَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: أَوْ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ نَحْوَهُ، وَقَدْ مَضَى حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ السَّلَمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ) هُوَ مَوْصُولٌ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْعَدَنِيُّ عَنْهُ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ التَّحْدِيثِ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مَذْكُورٌ بِالْعَنْعَنَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَابْنِ أَبْزَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى عَنْ قَرِيبٍ.
8 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ
2256 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْجَزُورَ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ. فَسَّرَهُ نَافِعٌ: إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَرْكُ جَوَازِ السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَلَوْ أُسْنِدَ إِلَى شَيْءٍ يُعْرَفُ بِالْعَادَةِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ السَّلَمِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْخَالِصُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَحَادِيثَ، وَالْبَقِيَّةُ مُكَرَّرَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَاصَّةً. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سِتَّةُ آثَارٍ.
بسم الله الرحمن الرحيم
36 - كِتَاب الشُّفْعَةِ
1 - بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ
2257 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.
قَوْلُه: (كِتَابُ الشُّفْعَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. السَّلَمُ فِي الشُّفْعَةِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَسَقَطَ مَا سِوَى الْبَسْمَلَةِ لِلْبَاقِينَ، وَثَبَتَ لِلْجَمِيعِ بَابُ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ. وَالشُّفْعَةُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَغَلِطَ مَنْ حَرَّكَهَا، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ لُغَةً مِنَ الشَّفْعِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: مِنَ الزِّيَادَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِعَانَةِ. وَفِي الشَّرْعِ: انْتِقَالُ حِصَّةِ شَرِيكٍ إِلَى شَرِيكٍ كَانَتِ انْتَقَلَتْ إِلَى أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ مِنْ إِنْكَارِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى رِوَايَتِهِ فِي بَابِ بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهِ:(كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ) أَوْ كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِ الشُّفْعَةِ بِمَا يَكُونُ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ) أَيْ: بُيِّنَتْ مَصَارِفُ الطُّرُقِ وَشَوَارِعِهَا، كَأَنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ أَوْ مِنَ التَّصْرِيفِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مَعْنَاهُ خَلَصَتْ وَبَانَتْ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصِّرْفِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ: الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ؛ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ فِي الْمُشَاعِ، وَصَدْرُهُ يُشْعِرُ بِثُبُوتِهَا فِي الْمَنْقُولَاتِ، وَسِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَقَارِ وَبِمَا فِيهِ الْعَقَارُ. وَقَدْ أَخَذَ بِعُمُومِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ تَثْبُتُ فِي الْحَيَوَانَاتِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَنْقُولَاتِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِرُوَاتِهِ. قَالَ عِيَاضٌ: لَوِ اقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْقِطْعَةِ الْأُولَى لَكَانَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سُقُوطِ شُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَلَكِنْ أَضَافَ إِلَيْهَا صَرْفَ الطُّرُقِ، وَالْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَعَلَى ثُبُوتِهَا لِكُلِّ شَرِيكٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا شُفْعَةَ لِذِمِّيٍّ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَا شُفْعَةَ لِمَنْ لَمْ يَسْكُنِ الْمِصْرَ.
(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَ مَالِكٌ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، كَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ، وَالْمَاجِشُونُ عَنْهُ، فَوَصَلَهُ بِذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ: عَنْهُمَا، أَوْ: عَنْ أَحَدِهِمَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ مَوْصُولًا، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَمَا
سِوَى ذَلِكَ شُذُوذٌ مِمَّنْ رَوَاهُ. وَيُقَوِّي طَرِيقَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ مُتَابَعَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ سَاقَهُ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: حَكَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ. . . إِلَخْ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ جَابِرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْهُ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِدْرَاجُ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ نَقَلَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَجَّحَ رَفْعَهَا.
2 - بَاب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لَا يُغَيِّرُهَا، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ
2258 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ. وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ.
[الحديث 2258 - أطرافه في: 6977، 6978، 6980، 6981]
قَوْلُهُ: (بَابُ عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ) أَيْ: هَلْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ شُفْعَتُهُ أَمْ لَا؟ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أُذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهُوَ شَاهِدٌ لَا يُغَيِّرُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ) أَمَّا قَوْلُ الْحَكَمِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: إِذَا أَذِنَ الْمُشْتَرِي فِي الشِّرَاءِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا بِنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ وَالشَّرِيدُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَزْنُ طَوِيلٍ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، وَوَلَدُهُ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَوَهَمَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مُعَلَّقًا وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيْ) في رِوَايَةُ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةُ مُخَالِفَةٌ ل هَذَا يَأْتِي بَيَانُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ) أَيِ: الْكَائِنَيْنِ فِي دَارِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا) بَيَّنَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ سَأَلَ الْمِسْوَرَ أَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَرْبَعَةِ آلَافٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالٍ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِثْقَالَ إِذْ ذَاكَ كَانَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
قَوْلُهُ: (مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ مُؤَجَّلَةً عَلَى أَقْسَاطٍ مَعْلُومَةٍ.
قَوْلُهُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ)
بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَالسَّقَبُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالصَّادِ أَيْضًا وَيَجُوزُ فَتْحُ الْقَافِ وَإِسْكَانُهَا: الْقُرْبُ وَالْمُلَاصَقَةُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ، يُنْتَظَرُ بِهِ إِذَا كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرِيكُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ شَرِيكَ سَعْدٍ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَلِذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَا يَقْتَضِي تَسْمِيَةَ الشَّرِيكِ جَارًا، فَمَرْدُودٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَارَبَ شَيْئًا قِيلَ لَهُ: جَارٌ، وَقَدْ قَالُوا لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ: جَارَةٌ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُخَالَطَةِ، انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ يَمْلِكُ بَيْتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ سَعْدٍ، لَا شِقْصًا شَائِعًا مِنْ مَنْزِلِ سَعْدٍ، وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّ سَعْدًا كَانَ اتَّخَذَ دَارَيْنِ بِالْبَلَاطِ مُتَقَابِلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَكَانَتِ الَّتِي عَنْ يَمِينِ الْمَسْجِدِ مِنْهُمَا لِأَبِي رَافِعٍ، فَاشْتَرَاهَا سَعْدٌ مِنْهُ. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْبَابِ، فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ سَعْدًا كَانَ جَارًا لِأَبِي رَافِعٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ دَارَهُ لَا شَرِيكًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَنْ يَقُولُوا بِشُفْعَةِ الْجَارِ؛ لِأَنَّ الْجَارَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُجَاوِرِ مَجَازٌ فِي الشَّرِيكِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ، وَقَدْ قَامَتِ الْقَرِينَةُ هُنَا عَلَى الْمَجَازِ فَاعْتُبِرَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيْ جَابِرٍ، وَأَبِي رَافِعٍ، فَحَدِيثُ جَابِرٍ صَرِيحٌ فِي اخْتِصَاصِ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِيكِ، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ مَصْرُوفُ الظَّاهِرِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَارُ أَحَقَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى مِنَ الشَّرِيكِ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِشُفْعَةِ الْجَارِ قَدَّمُوا الشَّرِيكَ مُطْلَقًا ثُمَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّرِيقِ. ثُمَّ الْجَارَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُجَاوِرٍ، فَعَلَى هَذَا فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: أَحَقُّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْفَضْلِ أَوِ التَّعَهُّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ أَيْضًا، بِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِمَعْنًى مَعْدُومٍ فِي الْجَارِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ فَتَأَذَّى بِهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مُقَاسَمَتِهِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الضَّرَرُ بِنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْسُومِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب أَيُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ
2259 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا.
[الحديث 2259 - طرفاه في: 2595، 6020]
قَوْلُهُ: (بَابٌ أَيُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَارِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، لِحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِوَاسِطَةٍ، وَاشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شُعْبَةَ، لَكِنَّهُ سَمِعَ مِنَ ابْنِ مِنْهَالٍ دُونَ ابْنِ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَكَرِيمَةَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَلِابْنِ شَبَّوَيْهِ، عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ اللَّبَقِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَبِهِ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ، وَابْنُ طَاهِرٍ، وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَنْسُبْهُ وَإِنَّمَا نَسَبَهُ مَنْ نَسَبَهُ مِنَ الرُّوَاةِ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ لِمَنْ يَكُونُ أَشْهَرَ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ أَشْهَرُ مِنَ اللَّبَقِيِّ، وَمِنْ عَادَةِ الْبُخَارِيِّ إِذَا أَطْلَقَ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ.
(تَنْبِيهٌ): سَاقَ الْمَتْنَ هُنَا عَلَى لَفْظِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ
فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ وَحْدَهُ، وَسَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ) هُوَ الْجَوْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) جَزَمَ الْمِزِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ عُثْمَانَ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ رَوَى عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا، وَيَتَرَجَّحُ مَا قَالَ الْمِزِيُّ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ: طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ وَلَيْسَ لِطَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْجِوَارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِكَسْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا يُرْوَى قَالَ: أَقْرَبُهُمَا بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى إِبْقَاءِ عَمَلِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ حَذْفِهِ أَيْ: أَقْرَبُ الْجَارَيْنِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا سَأَلَتْ عَمَّنْ تَبْدَأُ بِهِ مِنْ جِيرَانِهَا بِالْهَدِيَّةِ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَ دُخُولِهِ فِي الشُّفْعَةِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي رَافِعٍ يُثْبِتُ شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَاسْتُنْبِطَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ لِلْعِلَّةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الضَّرَرِ بِمُشَارَكَةِ الْغَيْرِ الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الدَّارِ وَاللَّصِيقِ لِلدَّارِ.
(خَاتِمَةٌ): جَمِيعُ مَا فِي الشُّفْعَةِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ مَوْصُولَةٌ: الْأَوَّلُ مِنْهَا مُكَرَّرٌ، وَالْآخَرَانِ انْفَرَدَ بِهِمَا الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسْلِمٍ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ اثْنَانِ غَيْرَ قِصَّةِ الْمِسْوَرِ، وَأَبِي رَافِعٍ مَعَ سَعْدٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
37 - كِتَاب الْإِجَارَةِ
1 - بَاب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وَالْخَازِنُ الْأَمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ
2260 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ.
2261 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي رَجُلَانِ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَقُلْتُ مَا عَمِلْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ فَقَالَ لَنْ أَوْ لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ"
[الحديث 2261 - أطرافه في: 3038، 4341، 4343، 4344، 6124، 6923، 7149، 7756، 7157، 7172]
قَوْلُه: (كِتَابُ الْإِجَارَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فِي الْإِجَارَاتِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَسَقَطَ لِلنَّسَفِيِّ قَوْلُهُ: فِي الْإِجَارَاتِ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ: كِتَابُ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهِيَ لُغَةُ الْإِثَابَةِ يُقَالُ آجَرْتُهُ بِالْمَدِّ وَغَيْرِ الْمَدِّ إِذَا أَثَبْتُهُ، وَاصْطِلَاحًا تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ رَقَبَةٍ بِعِوَضٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَقَالَ اللَّهُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام مَعَ ابْنَةِ شُعَيْبٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَقْصُورًا أَنَّهُ قَالَ: اسْمُ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا مُوسَى صَفُورَةُ وَاسْمُ أُخْتِهَا ليا، وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اسْمُ أُخْتِهَا شرقا وَقِيلَ: ليا. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ اسْمَهُمَا، صَفُورَا وعبرا، وَأَنَّهُمَا كَانَتَا تَوْأَمًا، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ أَبَاهُمَا هَلْ هُوَ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ أَوِ ابْنُ أَخِيهِ أَوْ آخَرُ اسْمُهُ يثرُونَ أَوْ يثرَى أَقْوَالٌ لَمْ يُرَجِّحْ مِنْهَا شَيْئًا. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} قَالَ: قَوِيٌّ فِيمَا وُلِّيَ أَمِينٌ فِيمَا اسْتُوْدِعَ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ أَنَّ أَبَاهَا سَأَلَهَا عَمَّا رَأَتْ مِنْ قُوَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ فَذَكَرَتْ قُوَّتَهُ فِي حَالِ السَّقْيِ وَأَمَانَتَهُ فِي غَضِّ طَرْفِهِ عَنْهَا وَقَوْلِهِ لَهَا: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ فِيهِ: فَزَوَّجَهُ وَأَقَامَ مُوسَى مَعَهُ يَكْفِيهِ
(1)
، وَيَعْمَلُ لَهُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْخَازِنُ الْأَمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ) ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ حَدِيثَ: الْخَازِنُ الْأَمِينُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَحَدِيثَهُ الْآخَرَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ جَاءَا يَطْلُبَانِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا، وَالْأَوَّلُ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ، وَالثَّانِي سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا مَعْنَى الْإِجَارَةِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ حَدِيثُ الْخَازِنِ الْأَمِينِ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذِكْرَ لِلْإِجَارَةِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْخَازِنَ لَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ أَمِينٌ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ضَمَانٌ إِنْ فَسَدَ أَوْ تَلِفَ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَضْيِيعِهِ اهـ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: دُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ خَازِنَ مَالِ الْغَيْرِ كَالْأَجِيرِ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَأَمَّا دُخُولُ الْحَدِيثِ الثَّانِي فِي الْإِجَارَةِ فَظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ الْعَمَلَ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ غَالِبًا لِتَحْصِيلِ الْأُجْرَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلْعَامِلِ، وَالْعَمَلُ الْمَطْلُوبُ يَشْمَلُ الْعَمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي جَمْعِهَا وَتَفْرِقَتِهَا فِي وَجْهِهَا وَلَهُ سَهْمٌ مِنْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فَدُخُ لُهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ طَلَبِ الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
قَوْلُهُ في الحديث الثاني: (وَمَعِيَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ تَامًّا، وَفِيهِ: وَمَعِيَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَكِلَاهُمَا سَأَلَ أَيْ: لِلْعَمَلِ، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ مَا اطَّلَعْتُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَا عَلِمْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَنْ - أَوْ: لَا - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ) هَكَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ لَنْ أَوْ قَالَ لَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أُوَلِّي بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَعَ كَسْرِهَا فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ مِنَ الْوِلَايَةِ، قَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ لَفْظُ نَسْتَعْمِلُ زَائِدًا، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَنْ أُوَلِّيَ عَلَى عَمَلَنَا. وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بِلَفْظِ: إِنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا وَهُوَ يُعَضِّدُ هَذَا التَّقْرِيرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَمَّا كَانَ طَلَبُ الْعِمَالَةِ دَلِيلًا عَلَى الْحِرْصِ ابْتُغِيَ أَنْ يُحْتَرَسَ مِنَ الْحَرِيصِ
(1)
في نسخة "يكريه " نبه عليه في طبعة بولاق
فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَنْعُ تَوْلِيَةِ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى الْوِلَايَةِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، وَإِلَى التَّحْرِيمِ جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
2 - بَاب رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ
2262 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ) عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُعَارِضَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُ.
قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ) وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا رَاعَى الْغَنَمَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: كُنْتُ أَرْعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ وَكَذَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْمَنِيعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، قَالَ سُوَيْدٌ أَحَدُ رُوَاتِهِ: يَعْنِي: كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ، يَعْنِي: الْقِيرَاطَ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قَرَارِيطُ اسْمُ مَوْضِعٍ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرِدِ الْقَرَارِيطَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ تَبَعًا لِابْنِ نَاصِرٍ وَخَطَّأَ سُوَيْدًا فِي تَفْسِيرِهِ، لَكِنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَعْرِفُونَ بِهَا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ: قَرَارِيطُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ قَالَ: افْتَخَرَ أَهْلُ الْإِبِلِ وَأَهْلُ الْغَنَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثَ دَاوُدُ وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثْتُ وَأَنَا أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي بِجِيَادٍ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ رَدًّا لِتَأْوِيلِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَرْعَى بِالْأُجْرَةِ لِأَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَكَانَ فَعَبَّرَ تَارَةً بِجِيَادٍ وَتَارَةً بِقَرَارِيطَ. وَلَيْسَ الرَّدُّ بِجَيِّدٍ إِذْ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ يَرْعَى لِأَهْلِهِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَلِغَيْرِهِمْ بِأُجْرَةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلِي أَهْلُ مَكَّةَ فَيَتَّحِدُ الْخَبَرَانِ وَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بَيَّنَ الْأُجْرَةَ وَفِي الْآخَرِ بَيَّنَ الْمَكَانَ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْقِيرَاطَ الَّذِي هُوَ مِنَ النَّقْدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: يَسْتَفْتِحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ بِوَاضِحٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ لَهُمُ الْحِلْمَ وَالشَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ وَدَفْعِ عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كَالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا وَشِدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى الْمُعَاهَدَةِ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الْأُمَّةِ وَعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا وَتَفَاوُتَ عُقُولِهَا فَجَبَرُوا كَسْرَهَا وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلَ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، وَخُصَّتِ الْغَنَمُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِإِمْكَانِ ضَبْطِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا فِي الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَمَعَ أَكْثَرِيَّةِ تَفَرُّقِهَا فَهِيَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا.
وَفِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عُلِمَ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ التَّوَاضُعِ لِرَبِّهِ وَالتَّصْرِيحِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
3 - بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَعَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ
2263 -
حَدَّثَنَي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا - الْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. وَعَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ يَرَى بِامْتِنَاعِ اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا إِلَّا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ كَتَعَذُّرِ وُجُودِ مُسْلِمٍ يَكْفِي فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُمَّالٌ يَعْمَلُونَ بِهَا نَخْلَ خَيْبَرَ وَزَرْعَهَا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ الْحَدِيثَ. وَفِي اسْتِشْهَادِهِ بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا وَبِاسْتِئْجَارِهِ الدَّلِيلَ الْمُشْرِكَ لَمَّا هَاجَرَ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَصْرِيحٌ بِالْمَقْصُودِ مِنْ مَنْعِ اسْتِئْجَارِهِمْ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَضْمُومًا إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، فَأَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِمَا تَرْجَمَ بِهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَ اسْتِئْجَارَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَذَلَّةِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ مِنَ الْمُشْرِكِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِذْلَالِ الْمُسْلِمِ اهـ.
وَحَدِيثُ مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ يَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ مَوْصُولًا، وَأَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ دَعْنَا نَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَنَا الشَّطْرُ وَلَكُمُ الشَّطْرُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا يُصْلِحُ أَرْضَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَنَزَّلَ الْمُصَنِّفُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُوجَدْ، وَحَدِيثُ الدَّلِيلِ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: اسْتَأْجَرَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: وَاسْتَأْجَرَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قِصَّةٍ قَبْلَهَا، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بَعْدَهَا بِسَنَدِهِ الْآتِي مُطَوَّلًا، وَوَقَعَ هُنَا فَاسْتَأْجَرَ بِالْفَاءِ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ زَادَ الْوَاوَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ اقْتَطَعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (هَادِيًا) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: خِرِّيتًا وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ، وَقَوْلُهُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ كَذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ، وَنَحْكِي الْخِلَافَ فِي تَسْمِيَةِ الْهَادِي الْمَذْكُورِ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ عَلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ إِذَا أُمِنَ إِلَيْهِ، وَاسْتِئْجَارُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ.
4 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ
2264 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فأتهاهما بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ، وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ أَنَّهُمَا وَاعَدَا الدَّلِيلَ بِرَاحِلَتَيْهِمَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ، بَلِ الَّذِي فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ وَابْتَدَأَ فِي الْعَمَلِ مِنْ وَقْتِهِ بِتَسْلِيمِهِ رَاحِلَتَيْهِمَا مِنْهُمَا يَرْعَاهُمَا وَيَحْفَظُهُمَا إِلَى أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُمَا الْخُرُوجُ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ مَا أَلْزَمَهُ بِهِ، وَالَّذِي تَرْجَمَ بِهِ هُوَ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ، وَمَنْ قَالَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ إِذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي الْعَمَلِ مِنْ حِينِ الْإِجَارَةِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ مُتَعَقِّبًا عَلَى مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى الْبُخَارِيِّ بِذَلِكَ: إِنَّ الْخِدْمَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْإِجَارَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَتْ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَأَخَّرَتْ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَرْعَى رَوَاحِلَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لَا الدَّلِيلُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الْحُكْمِ لَا إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَقَدْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لِنُدُورِ الْغَرَرِ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ حَيْثُ حَدَّ الْجَوَازَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لَا تَتَغَيَّرُ السِّلْعَةُ فِي مِثْلِهِ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازَ إِجَارَةِ الدَّارِ مُدَّةً مَعْلُومَةً قَبْلَ مَجِيءِ أَوَّلِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْأَصْلِ فَيَلْحَقُ بِهِ الْفَرْعُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب الْأَجِيرِ فِي الْغَزْوِ
2265 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا؟ قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ.
2266 -
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ رَجُلًا
عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَجِيرِ فِي الْغَزْوِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتِئْجَارُ الْأَجِيرِ لِلْخِدْمَةِ وَكِفَايَةِ مُؤْنَةِ الْعَمَلِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ اهـ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ بِهِ تَحْصِيلَ الْأَجْرِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ يَخْدُمُ الْمُجَاهِدَ، وَيَكْفِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَتَعَاطَاهَا بِنَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْحَجِّ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى.
قَوْلُهُ: (الْعُسْرَةِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي الدِّيَاتِ، وَرِوَايَةُ هَمَّامٍ الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَرَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْدَرَ) أَيْ: أَسْقَطَ.
قَوْلُهُ: (فَأَهْدَرَ) أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ دِيَةً وَلَا قِصَاصًا.
قَوْلُهُ: (تَقْضَمُهَا) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَمَاضِيَةٌ بِكَسْرِهَا، وَالِاسْمُ الْقَضْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَالْفَحْلُ الذَّكَرُ مِنَ الْإِبِلِ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. . . إِلَخْ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَقَعَتْ هُنَا فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. زَادَ فِيهِ: عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي الْكُنَى وَابْنُ شَاهِينَ فِي الصَّحَابَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِلَى جَدِّ أَبِيهِ فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَاسْمُهُ زُهَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيُّ وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي نَسَبِهِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي يُكَنَّى أَبَا مُلَيْكَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُهَيْرٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَيَتَرَدَّدُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَنْ جَدِّهِ عَلَى مَنْ يَعُودُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ مُنْقَطِعَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب إذا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الْأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ
لِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يَأْجُرُ فُلَانًا: يُعْطِيهِ أَجْرًا، وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ آجَرَكَ اللَّهُ
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: مَنِ اسْتَأْجَرَ.
قَوْلُهُ: (فَبَيَّنَ لَهُ الْأَجَلَ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: الْأَجْرَ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالرَّاءِ، وَالْأُولَى أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُبَيِّنِ الْعَمَلَ) أَيْ: هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ مَالَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ لِذَلِكَ فَقَالَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} الآيةَ، وَلَمْ يُفْصِحْ مَعَ ذَلِكَ بِالْجَوَازِ لِأَجْلِ الِاحْتِمَالِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ وَالِدِ الْمَرْأَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّمَا تَتِمُّ الدَّلَالَةُ بِذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا وَرَدَ شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ، وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الآيةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجَارَةِ، فَقَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَجَّرَ نَفْسَهُ حِجَجًا مُسَمَّاةً مَلَكَ بِهَا بُضْعَ امْرَأَةٍ; وَقِيلَ: اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَرْعَى لَهُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ فِي الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى جَهَالَةِ الْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا حُذِفَ ذِكْرُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدْ جَوَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ لَيْسَ مَشْرُوطًا، وَأَنَّ الْمُتَّبَعَ الْمَقَاصِدُ لَا الْأَلْفَاظُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْعَمَلِ مِنْ قِبَلِ مُوسَى، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الرَّعْيِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُعَيْبٌ أَنْ يَكُونَ يَرْعَى غَنَمَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَيُزَوِّجُهُ ابْنَتَهُ فَذَكَرَ لَهُ الْأَمْرَيْنِ، وَعَلَّقَ التَّزْوِيجَ عَلَى الرِّعْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاهَدَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاقَدَةِ، فَاسْتَأْجَرَهُ لِرَعْيِ غَنَمِهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ بِمَهْرٍ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (يَأْجُرُ) بِضَمِّ الْجِيمِ (فُلَانًا) أَيْ: (يُعْطِيهِ أَجْرًا) هَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} أَيْ: تَكُونُ لِي أَجِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي نَفْسَكَ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ آجَرَكَ اللَّهُ) هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَزَادَ: يَأْجُرُكَ أَيْ: يُثِيبُكَ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى أَصْلِ الْمَادَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي الْأَجْرِ وَالْأُجْرَةِ مُخْتَلِفًا.
7 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ
2267 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ - وَغَيْرُهُمَا قَالَ: قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَهِ فَاسْتَقَامَ. قَالَ يَعْلَى حَسِبْتُ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ)، أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُبَيَّنًا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لِقَوْلِ مُوسَى: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَيْ: لَوْ تَشَارَطْتُ عَلَى عَمَلِهِ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَنَفَعَنَا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَقَصَدَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُضْبَطُ بِتَعَيُّنِ الْعَمَلِ كَمَا تُضْبَطُ بِتَعَيُّنِ الْأَجَلِ.
8 - بَاب الْإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ
2268 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَتَرْجَمَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ الْإِجَارَةُ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَالتَّقْدِيرُ أَيْضًا أَنَّ الِابْتِدَاءَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. ثُمَّ تَرْجَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَابَ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ أَيْ: إِلَى أَوَّلِ دُخُولِ اللَّيْلِ، قِيلَ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِذَلِكَ وَلَوْلَا الْجَوَازُ مَا أَقَرَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ إِثْبَاتُ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِقِطْعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَقَلَّ الْمَعْلُومِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَامِلًا.
قَوْلُهُ: (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ رَجُلٍ) فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: مَثَلُكُمْ مَعَ نَبِيِّكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ، فَالْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِلْأُمَّةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ وَالْمُمَثَّلُ بِهِ الْأُجَرَاءُ مَعَ مَنِ اسْتَأْجَرَهُمْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى قِيرَاطٍ). زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ وَهُوَ الْمُرَادُ.
قَوْلُهُ: (فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ) زَادَ ابْنُ دِينَارٍ: عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ وَزَادَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ: حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَكَذَا وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْقِيرَاطِ النَّصِيبُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ نِصْفُ دَانِقٍ وَالدَّانِقُ سُدُسُ دِرْهَمٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَوَّلَ وَقْتِ دُخُولِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَوَّلَ حِينِ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَالثَّانِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ السَّابِقَ فِي الْمَوَاقِيتِ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْوَقْتَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ، أَيْ: مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ النَّصَارَى إِنَّهُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ وَقَدْ قَدَّمْتُ هُنَاكَ عِدَّةَ أَجْوِبَةٍ عَنْ ذَلِكَ فَلْتُرَاجَعْ مِنْ ثَمَّ، وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي لَمْ تَتَقَدَّمْ أَنَّ قَائِلَ: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَالَ ذَلِكَ، أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ أَطْوَلُ زَمَانًا فَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهُمْ وَازَنُوا كَثْرَةَ أَتْبَاعِهِمْ بِكَثْرَةِ زَمَنِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى جَمِيعًا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرِيَّةُ النَّصَارَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا إِلَى آخِرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْن الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ، فَالْقَائِلُ: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا الْيَهُودُ، وَالْقَائِلُ: نَحْنُ أَقَلُّ أَجْرًا النَّصَارَى وَفِيهِ بُعْدٌ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ عَمَلَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا أَكْثَرُ وَزَمَانَهُمْ أَطْوَلُ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ السِّيَاقِ.
قَوْلُهُ: (فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) أَيِ: الْكُفَّارُ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً) بِنَصْبِ أَكْثَرَ وَأَقَلَّ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ حَقِّكُمْ) أَطْلَقَ لَفْظَ الْحَقِّ لِقَصْدِ الْمُمَاثَلَةِ وَإِلَّا فَالْكُلُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ جل جلاله.
9 - بَاب الْإِجَارَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ
2269 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ،
ثُمَّ عَمِلَتْ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِجَارَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِهِ التَّصْرِيحُ بِالْعَمَلِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ عَمَلِ الطَّائِفَةِ عِنْدَ انْتِهَاءِ عَمَلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، نَعَمْ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ (إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) هُوَ بِخَفْضِ الْيَهُودِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: يَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِعْطَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِعْرَابَهُ.
قُلْتُ: وَوَجَدْتُهُ مَضْبُوطًا فِي أَصْلِ أَبِي ذَرٍّ بِالنَّصْبِ وَهُوَ مُوَجَّهٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعِيَّةِ، وَيُرَجِّحُ تَوْجِيهَ ابْنِ مَالِكٍ مَا سَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
قَوْلُهُ: (إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ) كَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ لِمَالِكٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِاعْتِبَارِ الطَّوَائِفِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ الْآتِيَةِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ.
قَوْلُهُ: (هَلْ ظَلَمْتُكُمْ) أَيْ: نَقَصْتُكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِهِ بَعْدَ بَابَيْنِ.
10 - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أَجْرَ الْأَجِيرِ
2270 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أَجْرَ الْأَجِيرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ.
(تَنْبِيهٌ): أَخَّرَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا الْبَابَ عَنِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَأَنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ لِلْمُنَاسَبَةِ.
11 - بَاب الْإِجَارَةِ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ
2271 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا لَهُ نِصْفَ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ.
فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا. وَاسْتَأْجَرَ آخرين بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلَوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَ هَذَا، وَلَكُم الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنْ الْأَجْرِ فَعَمِلُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ حِينُ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ لَهُمَ: أَكْمِلَوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمَ؛ فإن مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَأَبوا، فاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى أَوَّلِ دُخُولِ اللَّيْلِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ مَضَى سَنَدُهُ وَمَتْنُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَشَيْخُهُ أَبُو كُرَيْبٍ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ، وَبُرَيْدٌ بِالمُوَحَّدَةِ وَالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ.
قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا) هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ وَالتَّقْدِيرُ: كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَأْجَرَهُمْ رَجُلٌ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ بِالْمُرَكَّبِ.
قَوْلُهُ: (يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ) هَذَا مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوَاقِيتِ، وَأَنَّهُمَا حَدِيثَانِ سِيقَا فِي قِصَّتَيْنِ، نَعَمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ مَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَبِي مُوسَى، فَرَجَّحَهَا الْخَطَّابِيُّ عَلَى رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّتَانِ جَمِيعًا كَانَتَا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَحَدَّثَ بِهِمَا فِي وَقْتَيْنِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ التِّينِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا غَضِبُوا أَوَّلًا، فَقَالُوا مَا قَالُوا، إِشَارَةً إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطَوْا قَدْرًا زَائِدًا تَرَكُوا فَقَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ.
انْتَهَى، وَفِيهِ مَعَ بُعْدِهِ مُخَالَفَةٌ لِصَرِيحِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَوَاقِيتِ وَفِي التَّوْحِيدِ، فَفِيهَا: قَالُوا: رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا، فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ أَعْطَيْتَنَا أَيْ أَمَرْتَ لَنَا أَوْ وَعَدْتَنَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بِكَوْنِهِمَا قِصَّتَيْنِ أَوْضَحُ، وَظَاهِرُ الْمَثَلِ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْيَهُودِ: آمِنُوا بِي وَبِرُسُلِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَآمَنُوا بِمُوسَى إِلَى أَنْ بُعِثَ عِيسَى فَكَفَرُوا بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَدْرِ نِصْفِ الْمُدَّةِ الَّتِي مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَقَوْلُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا من إِطْلَاقُ الْقَوْلِ وإِرَادَةِ لَازِمِهِ؛ لِأَنَّ لَازِمَهُ تَرْكُ الْعَمَلِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنْ تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُمْ: وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْبَاطِ عَمَلِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بِمُوسَى وَحْدَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ كَانَتْ قَدْرَ نِصْفِ الْمُدَّةِ فَاقْتَصَرُوا عَلَى نَحْوِ الرُّبُعِ مِنْ جَمِيعِ النَّهَارِ، وَقَوْلُهُ: وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ.
زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: الَّذِي شَرَطْتُ لِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَجْرِ يَعْنِي الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَضَى مِنْهُ وَالْمُرَادُ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ: بِإِيمَانِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ الْإِشَارَةَ إِلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنَ الدُّنْيَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) هُوَ بِنَصْبِ حِينَ وَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَخَطَّأَهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ لَهُ وَجْهٌ.
قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أَيِ: الْمُسْلِمِينَ (وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا
مِنْ هَذَا النُّورِ). فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَذَلِكَ مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَبِلُوا هُدَى اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مُدَّةَ الْيَهُودِ نَظِيرُ مُدَّتَيِ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْيَهُودِ إِلَى بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَمُدَّةَ النَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ، وَقِيلَ: أَقَلُّ، فَتَكُونُ مُدَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ قَطْعًا، وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ أَجْرَ النَّصَارَى كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ عَمِلُوا نِصْفَ النَّهَارِ بِقِيرَاطٍ وَالنَّصَارَى نَحْوَ رُبُعِ النَّهَارِ بِقِيرَاطٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا حَصَلَ لِمَنْ آمَنَ مِنَ النَّصَارَى بِمُوسَى وَعِيسَى فَحَصَلَ لَهُمْ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ، بِخِلَافِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا بُعِثَ عِيسَى كَفَرُوا بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَوْفِيرُ أَجْرِهَا مَعَ قِلَّةِ عَمَلِهَا. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِدَامَةُ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، إِشَارَةٌ إِلَى قِصَرِ مُدَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّةِ غَيْرِهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الطَّوَائِفِ كَانَ مُسَاوِيًا فِي الْمِقْدَارِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مَشْرُوحًا.
12 - باب مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ أَجْرَهُ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِر فَزَادَ أَوْ مَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ
2272 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ قوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلك ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْلكَ، مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ أَجْرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَتَرَكَ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ) أَيِ: اتَّجَرَ فِيهِ أَوْ زَرَعَ (فَزَادَ) أَيْ: رَبِحَ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْجَرًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَأْجَرٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ الْجَوَابَ إِشَارَةً إِلَى الِاحْتِمَالِ كَعَادَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَرِيبًا. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْمُهَلَّبُ تَرْجَمَةَ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَإِنَّمَا اتَّجَرَ الرَّجُلُ فِي أَجْرِ أَجِيرِهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ يَلْزَمُهُ قَدْرُ الْعَمَلِ خَاصَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: لَا أُغْبِقُ هُوَ مِنَ الْغَبُوقِ بَالِغِينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ قَافٌ: شُرْبُ الْعَشِيِّ، وَضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَغْبِقُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، إِلَّا الْأَصِيلِيَّ فَبِضَمِّهَا مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَخَطَّئُوهُ. وَقَوْلُهُ: أَهْلًا وَلَا مَالًا الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ مَا لَهُ مِنْ زَوْجٍ وَوَلَدٍ، وَبِالْمَالِ مَا لَهُ مِنْ رَقِيقٍ وَخَدَمٍ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ الدَّوَابُّ وَتَعَقَّبُوهُ وَلَهُ وَجْهٌ. وَقَوْلُهُ: فَنَأَى بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ مَقْصُورًا بِوَزْنِ سَعَى أَيْ: بَعُدَ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ فَنَاءَ بِمَدٍّ بَعْدَ النُّونِ بِوَزْنِ جَاءَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: فَلَمْ أُرِحْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَوْلُهُ: بَرَقَ الْفَجْرُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: أَضَاءَ، وَقَوْلُهُ: فَافْرُجْ بِالْوَصْلِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَبِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْفَرَجِ أَوْ مِنَ الْإِفْرَاجِ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْلِكَ كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَلِلْبَاقِينَ: مِنْ أَجْرِكَ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ.
13 - بَاب مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَأُجْرَ الْحَمَّالِ
2273 -
حَدَّثَنَي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: مَا تَرَاهُ إِلَّا نَفْسَهُ قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ثُمَّ تَصَدَّقَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَأَجْرِ الْحَمَّالِ أَيْ: وَبَابُ أَجْرِ الْحَمَّالِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ الْأُمَوِيُّ صَاحِبُ الْمَغَازِي. وَقَوْلُهُ: عَنْ شَقِيقٍ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَقَوْلُهُ: فَيُحَامِلُ أَيْ: يَطْلُبُ أَيْ: يَحْمِلُ بِالْأُجْرَةِ، وَقَوْلُهُ: بِالْمُدِّ أَيْ: يَحْمِلُ الْمَتَاعَ بِالْأُجْرَةِ، وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَالْمُحَامَلَةُ مُفَاعَلَةٌ وَهِيَ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْأُجْرَةَ مِنَ الْآخَرِ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَوَقَعَ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: يَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ.
قَوْلُهُ:
(وَأَنَّ بعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ) هَذِهِ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ لِدُخُولِهَا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَتَقَدَّمَ الْخَبَرُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} وَمُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ: وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ. زَادَ النَّسَائِيُّ: وَمَا كَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ دِرْهَمٌ، أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مَا نَرَاهُ إِلَّا نَفْسَهُ) بَيَّنَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ أَبُو وَائِلٍ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
14 - بَاب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ بِعْهُ بِكَذَا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فلَكَ أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
2274 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: نَهَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلَا يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا قَوْلُهُ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ السَّمْسَرَةِ) أَيْ: حُكْمُهُ وَهِيَ بِمُهْمَلَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: لَا بَأْسَ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ إِذَا اشْتَرَى يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: سُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ السَّمْسَرَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَهَا، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْكُوفِيِّينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأَسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ نَحْوَهُ، وَهَذِهِ أَجْرُ سَمْسَرَةٍ أَيْضًا لَكِنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِزْهَا الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنْ بَاعَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ إِجَازَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُقَارِضِ، وَبِذَلِكَ أَجَابَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَنَّ ثَمَنَ السِّلْعَةِ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْجَهْلَ بِمِقْدَارِ الْأُجْرَةِ بَاقٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَلَكَ أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْهُ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِصُورَةِ الْمُقَارِضِ مِنَ السِّمْسَارِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُوصِلْهَا الْمُصَنِّفُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ فَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَكُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ يُقَوُّونَ أَمْرَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِهِ أَيْضًا دُونَ زِيَادَةِ كَثِيرٍ، فَزَادَ بَدَلَهَا: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، وَزَادَ: مَا وَافَقَ الْحَقَّ.
(تَنْبِيهٌ): ظَنَّ ابْنُ التِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ. بَقِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، فَشَرَحَ عَلَى ذَلِكَ فَوَهَمَ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ عُلَمَائِنَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي فِي الْبُيُوعِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَنْعِ لِبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي: أَنْ لَا ي كُونَ لَهُ سِمْسَارًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سِمْسَارًا فِي بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْحَاضِرِ، وَلَكِنْ شَرَطَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ دَفَعَ لَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا بَزًّا بِأُجْرَةِ عَشَرَةٍ فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنِ اشْتَرَى فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَا يَجُوزُ مَا سَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ. وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ إِذَا جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ أَلْفٍ شَيْئًا مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَمِلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ أَنَّهَا إِجَارَةٌ فِي أَمْرٍ لِأَمَدٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَهُ أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْأُجْرَةَ كَفَى وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
15 - بَاب هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ؟
2275 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلَا. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَأَقْضِيكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} .
قَوْلُهُ: (بَابٌ هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابٍ - وَهُوَ إِذْ ذَاكَ مُسْلِمٌ - فِي عَمَلِهِ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَهِيَ إِذْ ذَاكَ دَارُ حَرْبٍ، وَاطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ، وَلَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ مُقَيَّدًا بِالضَّرُورَةِ، أَوْ أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَابَذَتِهِمْ، وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِعَدَمِ إِذْلَالِ الْمُؤْمِنِ نَفْسَهُ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: كَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِيمَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ فِعْلُهُ، وَالْآخَرُ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَى مَا يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اسْتَقَرَّتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ الصُّنَّاعَ فِي حَوَانِيتِهِمْ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَمَلُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الذِّلَّةِ، بِخِلَافِ أَنْ يَخْدُمَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَبِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ خَبَّابٍ فِي الْبُيُوعِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ.
16 - بَاب مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ
وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ
وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا،
وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ
2276 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ. فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا. فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ
…
بِهَذَا.
[الحديث 2279 - أطرافه في: 5007، 5736، 5749]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، كَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْجَمِيعِ، وَالْأَحْيَاءُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ حَيٍّ وَالْمُرَادُ بِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ مَخْصُوصَةٌ، قَالَ الْهَمْدَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ: الشِّعْبُ وَالْحَيُّ بِمَعْنَى، وَسُمِّيَ الشِّعْبَ؛ لِأَنَّ الْقَبِيلَةَ تَتَشَعَّبُ مِنْهُ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِأَحْيَاءِ الْعَرَبِ يُشْعِرُ بِحَصْرِهِ فِيهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِالْوَاقِعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي الطِّبِّ الشُّرُوطُ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، وَتَرْجَمَ فِيهِ أَيْضًا: الرُّقْيَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالرُّقْيَةُ كَلَامٌ يُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ دُرَسْتَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله فِي الطِّبِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فَمَنَعُوهُ فِي التَّعْلِيمِ وَأَجَازُوهُ فِي الرُّقَى كَالدَّوَاءِ، قَالُوا: لِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْأَجْرُ فِيهِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْقِيَاس فِي الرُّقَى إِلَّا أَنَّهُمْ أَجَازُوهُ فِيهَا لِهَذَا الْخَبَرِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْأَجْرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الثَّوَابِ، وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ نَسْخَهُ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْوَعِيدِ عَلَى أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَقَدْ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلنَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَبِأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالْمَنْعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ هِيَ وَقَائِعُ أَحْوَالٍ مُحْتَمِلَةٍ لِلتَّأْوِيلِ لِتَوَافُقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَحَدِيثَيِ الْبَابِ، وَبِأَنَّ الْأَحَادِيثَ
الْمَذْكُورَةَ أَيْضًا لَيْسَ فِيهَا مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَلَا تُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ التَّزْوِيجِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ، إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ، وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ، وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً) أَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: وَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ وَأَمَّا قَوْلُ الْحَكَمِ فَوَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، سَأَلْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ عَنْ أَجْرِ الْمُعَلِّمِ، فَقَالَ: أَرَى لَهُ أَجْرًا، وَسَأَلْتُ الْحَكَمَ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فَقِيهًا يَكْرَهُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا حَذَقْتُ قُلْتُ لِعَمِّي: يَا عَمَّاهُ إِنَّ الْمُعَلِّمَ يُرِيدُ شَيْئًا، قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: أَعْطِهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: أَعْطِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَجْرًا وَكَرِهَ الشَّرْطَ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا، وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ) أَمَّا قَوْلُهُ فِي أُجْرَةِ الْقَسَّامِ فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ، فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أُجُورَ الْقَسَّامِ وَيَقُولُ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ، وَأَرَى هَذَا حُكْمًا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ: مَا تَرَى فِي كَسْبِ الْقَسَّامِ؟ فَكَرِهَهُ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ كَسْبَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. وَجَاءَتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ يُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدٍ - هُوَ ابْنُ سِيرِينَ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُشَارِطَ الْقَسَّامَ، وَكَأَنَّهُ يَكْرَهُ لَهُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَطَةِ، وَلَا يَكْرَهُهَا إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ اشْتِرَاطٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَظَهَرَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ بَقِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، وَأَشَارَ ابْنُ سِيرِينَ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي تَفْسِيرِ السُّحْتِ: إِنَّهُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَسَانِيدِهِ عَنْهُمْ، وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنَّهُ مُرْسَلٌ وَلَفْظُهُ: كُلُّ لَحْمٍ أَنْبَتَهُ السُّحْتُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ.
(تَنْبِيهٌ): الْقَسَّامُ بِفَتْحِ الْقَافِ، فَعَّالٌ مِنَ الْقَسَمِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَهُوَ الْقَاسِمُ، وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ بِضَمِّ الْقَافِ جَمْعُ قَاسِمٍ. وَالسُّحْتُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَحُكِيَ ضَمُّ الْحَاءِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ أَكْلِهِ الْعَارُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَرَامِ. وَالرَّشْوَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَتُضَمُّ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانُوا يُعْطُونَ عَلَى الْخَرْصِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ الْحَزْرُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبُيُوعِ، أَيْ: كَانُوا يُعْطُونَ أُجْرَةَ الْخَارِصِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ أُجْرَةِ الْقَسَّامِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَفْصِلُ التَّنَازُعَ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلِأَنَّ الْخَرْصَ يُقْصَدُ لِلْقِسْمَةِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْقَسَّامِ وَالْخَارِصِ لِلتَّرْجَمَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي أَنَّ جِنْسَهُمَا وَجِنْسَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالرُّقْيَةِ وَاحِدٌ، وَمِنْ ثَمَّ كَرِهَ مَالِكٌ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى عَقْدِ الْوَثَائِقِ لِكَوْنِهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَكَرِهَ أَيْضًا أُجْرَةَ الْقَسَّامِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرِهَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً أُخْرَى، وَأَشَارَ سَحْنُونٌ إِلَى الْجَوَازِ عِنْدَ فَسَادِ أُمُورِ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَحْدَثَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ لَمْ يَكُنْ يُؤْخَذُ عَلَيْهِنَّ أَجْرٌ: ضِرَابَ الْفَحْلِ، وَقِسْمَةَ الْأَمْوَالِ، وَالتَّعْلِيمَ اهـ. وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَتَبَرَّعُونَ بِهَا، فَلَمَّا فَشَا الشُّحُّ طَلَبُوا الْأُجْرَةَ فَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَتُحْمَلُ كَرَاهَةُ مَنْ كَرِهَهَا عَلَى التَّنْزِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ
أَبِي وَحْشِيَّةَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ كَأَبِيهِ اسْمُهُ إِيَاسٌ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ) هُوَ النَّاجِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ تَصْرِيحَ أَبِي بِشْرٍ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَتَابَعَ أَبَا عَوَانَةَ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ شُعْبَةُ كَمَا فِي آخِرِ الْبَابِ، وَهُشَيْمٌ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَخَالَفَهُمُ الْأَعْمَشُ فَرَوَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، جَعَلَ بَدَلَ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، أَبَا نَضْرَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِ قِهِ، فَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: طَرِيقُ شُعْبَةَ أَصَحُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: إِنَّهَا الصَّوَابُ، وَرَجَّحَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي السُّنَنِ شَيْئًا وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَقْدِي أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ لِاشْتِمَالِ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَلَى زِيَادَاتٍ فِي الْمَتْنِ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ، فَكَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ شَيْخَيْنِ، فَحَدَّثَ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَلَمْ يُصِبِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ، فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَتَّةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ.
قَوْلُهُ: (انْطَلَقَ نَفَرٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِنْهُمْ سِوَى أَبِي سَعِيدٍ، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الطَّرِيقِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ السَّفَرَ كَانَ فِي جِهَادٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا. زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ: بَعَثَ سَرِيَّةً عَلَيْهَا أَبُو سَعِيدٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَغَازِي، بَلْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْحَيِّ الَّذِينَ نَزَلُوا بِهِمْ مِنْ أَيِّ: الْقَبَائِلِ هُمْ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَضَافُوهُمْ) أَيْ: طَلَبُوا مِنْهُمُ الضِّيَافَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَنَزَلْنَا بِقَوْمٍ لَيْلًا فَسَأَلْنَاهُمُ الْقِرَى فَأَفَادَتْ عَدَدَ السَّرِيَّةِ وَوَقْتَ النُّزُولِ كَمَا أَفَادَتْ رِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ تَعْيِينَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ، وَالْقِرَى - بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ -: الضِّيَافَةُ.
قَوْلُهُ: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ) بِالتَّشْدِيدِ لِلْأَكْثَرِ وَبِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُخَفَّفًا.
قَوْلُهُ: (فَلُدِغَ) بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَاللَّدْغُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ اللَّسْعُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَأَمَّا اللَّذْعُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْإِحْرَاقُ الْخَفِيفُ، وَاللَّدْغُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ ضَرْبُ ذَاتِ الْحُمَّةِ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْرَبِ. وَقَدْ أَفَادَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ تَعْيِينُ الْعَقْرَبِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ أَوْ لَدِيغٌ فَشَكٌّ مِنْ هُشَيْمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَاقُونَ فَلَمْ يَشُكُّوا فِي أَنَّهُ لَدِيغٌ، وَلَا سِيَّمَا تَصْرِيحَ الْأَعْمَشِ بِالْعَقْرَبِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدَ بِلَفْظِ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ، وَكَذَا فِي الطِّبِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ، وَالسَّلِيمُ هُوَ اللَّدِيغُ نَعَمْ، وَقَعَتْ لِلصَّحَابَةِ قِصَّةٌ أُخْرَى فِي رَجُلٍ مُصَابٍ بِعَقْلِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَبَرَأَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَعِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَيْرٍ، فَارْقِ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ الْحَدِيثَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي قِصَّةِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ لَدِيغٌ.
قَوْلُهُ: (فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنْ يُتَدَاوَى بِهِ مِنْ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ السَّعْيِ أَيْ: طَلَبُوا لَهُ مَا يُدَاوِيهِ، وللْكُشْمِيهَنِيِّ فَشَفَوْا بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَعَلَيْهِ شَرْحُ الْخَطَّابِيِّ فَقَالَ: مَعْنَاهُ طَلَبُوا الشِّفَاءَ، تَقُولُ: شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَيْ: أَبْرَأَهُ وَشَفَى لَهُ الطَّبِيبُ أَيْ: عَالَجَهُ بِمَا يَشْفِيهِ أَوْ وَصَفَ لَهُ مَا فِيهِ الشِّفَاءُ، لَكِنِ ادَّعَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ). قَالَ ابْنُ التِّينِ قَالَ تَارَةً: نَفَرًا، وَتَارَةً: رَهْطًا، وَالنَّفَرُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالثَّلَاثَةِ، وَالرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: يَصِلُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، قُلْتُ: وَهَذَا
الْحَدِيثُ يَدُلُّ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَوْهُمْ) فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، زَادَ الْبَزَّارُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ جَاءَ بِالنُّورِ وَالشِّفَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (وَسَعَيْنَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَشَفَيْنَا بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهَا.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: يَنْفَعُ صَاحِبَنَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي بِكَسْرِ الْقَافِ، وَبَيَّنَ الْأَعْمَشُ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ رَاوِي الْخَبَرِ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا. وَلَكِنْ لَا أَرْقِيهِ حَتَّى تُعْطُونَا غَنَمًا فَأَفَادَ بَيَانَ جِنْسِ الْجُعْلِ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مَا يُعْطَى عَلَى عَمَلٍ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ كَوْنَ الرَّاقِي هُوَ أَبُو سَعِيدٍ رَاوِي الْخَبَرِ مَعَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ: فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَظُنُّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِلَفْظٍ آخَرَ وَفِيهِ: فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً فَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُكَنِّيَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَعَلَّ أَبَا سَعِيدٍ صَرَّحَ تَارَةً وَكَنَّى أُخْرَى وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْأَعْمَشُ بِتَعْيِينِهِ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ بِلَفْظِ: فَأَتَيْتُهُ فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَا أَرْقِيهِ وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَعْمَشِ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَنْصَارِيٌّ، وَأَمَّا حَمْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ ذَلِكَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ وَأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى قِصَّتَيْنِ كَانَ فِي إِحْدَاهُمَا رَاقِيًا وَفِي الْأُخْرَى كَانَ الرَّاقِي غَيْرَهُ فَبَعِيدٌ جِدًّا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ وَالسِّيَاقِ وَالسَّبَبِ، وَيَكْفِي فِي رَدِّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلَا حَامِلَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ عَمِّهِ فَإِنَّ
السِّيَاقَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا السَّبَبُ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِيهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَصَالَحُوهُمْ) أَيْ: وَافَقُوهُمْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْقَطِيعُ هُوَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْغَنَمِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَطِيعَ هُوَ الشَّيْءُ الْمُقْتَطَعُ مِنْ غَنَمٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ قُرْقُولٍ وَغَيْرُهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْأَرْبَعِينَ; وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: فَقَالُوا: إِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً. وَكَذَا ثَبَتَ ذِكْرُ عَدَدِ الشِّيَاهِ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِعَدَدِ السَّرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَكَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا عَدَدَهُمْ، فَجَعَلُوا الْجُعْلَ بِإِزَائِهِ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِكَسْرِهَا وَهُوَ نَفْخٌ مَعَهُ قَلِيلُ بُزَاقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ: مَحَلُّ التَّفْلِ فِي الرُّقْيَةِ يَكُونُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِتَحْصِيلِ بَرَكَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْجَوَارِحِ الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْهَا الرِّيقُ فَتَحْصُلُ الْبَرَكَةُ فِي الرِّيقِ الَّذِي يَتْفُلُهُ.
قَوْلُهُ: (وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: فَجَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْفَاتِحَةِ الْحَمْدَ، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عَدَدَ مَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ، لَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَأَنَّهُ سَبْعُ مَرَّاتٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْحُكْمُ لِلزَّائِدِ.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّمَا نُشِطَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ لُغَةٌ، وَالْمَشْهُورُ نُشِطَ إِذَا عُقِدَ وَأُنْشِطَ إِذَا حُلَّ، وَأَصْلُهُ الْأُنْشُوطَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَهِيَ الْحَبْلُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى أُنْشِطَ: حُلَّ، وَمَعْنَى نُشِطَ: أُقِيمَ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ نَشِيطٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى نُشِطَ فَزِعَ، وَلَوْ قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، أَيْ: حُلَّ شَيْئًا فَشَيْئًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ عِقَالٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ ذِرَاعُ الْبَهِيمَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ) بِحَرَكَاتٍ أَيْ: عِلَّةٌ، وَقِيلَ: لِلْعِلَّةِ: قَلَبَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي تُصِيبُهُ يُقْلَبُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ لِيُعْلَمَ مَوْضِعُ الدَّاءِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ بَرِئْتُ فَمَا فِي الصَّدْرِ مِنْ قَلَبَهْ.
وَفِي نُسْخَةِ الدِّمْيَاطِيِّ بِخَطِّهِ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَلَبَةُ دَاءٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُلَابِ، يَأْخُذُ الْبَعِيرَ فَيَأْلَمُ قَلْبُهُ فَيَمُوتُ مِنْ يَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الَّذِي رَقَى) بِفَتْحِ الْقَافِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: فَلَمَّا قَبَضْنَا الْغَنَمَ عَرَضَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ: فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ: فَبُعِثَ إِلَيْنَا بِالشِّيَاهِ وَالنُّزُلِ فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ، وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا الْغَنَمَ حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْ تَنَاوُلِهَا هُوَ الرَّاقِي، وَأَمَّا فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ فَأَبْهَمَهُ.
قَوْلُهُ: (فَنَنْطُرُ مَا يَأْمُرُنَا) أَيْ: فَنَتَّبِعُهُ، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ يُخَيَّرُونَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ وَمَا أَدْرَاكَ، وَقَدْ رُوِيَ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْمَحْفُوظُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ: إِذَا قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ فَلَمْ يُعْلَمْ، وَإِذَا قَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أُعْلِمَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اللُّغَةِ أَيْ: فِي نَفْيِ الدِّرَايَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ: وَمَا أَدْرَاكَ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ: وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ مِنَ الشَّيْءِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَعْظِيمِ الشَّيْءِ أَيْضًا، وَهُوَ لَائِقٌ هُنَا، زَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُ نَهْيًا أَيْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَزَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ قَتَّةَ فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ: قُلْتُ: أُلْقِيَ فِي رُوعِي. وللدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مُتَقَدِّمٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ الرُّقَى بِالْفَاتِحَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ لَمَّا رَجَعَ: مَا كُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَوَّبَ فِعْلَهُمْ فِي الرُّقْيَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ فِي تَوَقُّفِهِمْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْجُعْلِ حَتَّى اسْتَأْذَنُوهُ، وَيَحْتَمِلُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا) أَيِ: اجْعَلُوا لِي مِنْهُ نَصِيبًا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْنِيسِهِمْ كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ سَمِعْتُ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ) هَذِهِ الطَّرِيقُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَصَلَهَا التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ لَكِنْ بِالْعَنْعَنَةِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَزْوِهِ إِلَى التِّرْمِذِيِّ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَغَفَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَنْ ذَلِكَ فَعَابَ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَى التِّرْمِذِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا كَانَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ، وَكَذَا غَيْرُ الْمَأْثُورِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ مَا فِي الْمَأْثُورِ، وَأَمَّا الرُّقَى بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا مَا يَنْفِيهِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الطِّبِّ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الضِّيَافَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي وَالنُّزُولُ عَلَى مِيَاهِ الْعَرَبِ، وَطَلَبُ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْقِرَى أَوِ الشِّرَاءِ، وَفِيهِ مُقَابَلَةُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمَكْرُمَةِ بِنَظِيرِ صَنِيعِهِ لِمَا صَنَعَهُ الصَّحَابِيُّ مِنَ الِامْتِنَاعِ مِنَ الرُّقْيَةِ فِي مُقَابَلَةِ امْتِنَاعِ أُولَئِكَ مِنْ ضِيَافَتِهِمْ، وَهَذِهِ طَرِيقُ مُوسَى عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وَلَمْ يَعْتَذِرِ الْخَضِرُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ. وَفِيهِ إِمْضَاءُ مَا يَلْتَزِمُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْتَزَمَ أَنْ يَرْقِيَ وَأَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَوْهُوبِ إِذَا كَانَ أَصْلُهُ مَعْلُومًا، وَجَوَازُ طَلَبِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يُعْلَمُ رَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ وَإِجَابَتُهُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ جَوَازُ قَبْضِ الشَّيْءِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْحِلُّ وَتَرْكِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِذَا عَرَضَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَفِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ وَعَظَمَةُ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا الْفَاتِحَةَ، وَفِيهِ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَقْسُومَ لَا يَسْتَطِيعُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ مَنْعُهُ مِمَّنْ قُسِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ مَنَعُوا الضِّيَافَةَ وَكَانَ اللَّهُ قَسَمَ لِلصَّحَابَةِ فِي مَالِهِمْ نَصِيبًا فَمَنَعُوهُمْ فَسَبَّبَ لَهُمْ لَدْغَ الْعَقْرَبِ حَتَّى سِيقَ لَهُمْ مَا قُسِمَ لَهُمْ. وَفِيهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ حَيْثُ اخْتَصَّ بِالْعِقَابِ مَنْ كَانَ رَأْسًا فِي الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ الِائْتِمَارُ بِأَمْرِ كَبِيرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ رَأْسَهُمْ فِي الْمَنْعِ اخْتُصَّ بِالْعُقُوبَةِ دُونَهُمْ جَزَاءً
وِفَاقًا، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَيْضًا إِرَادَةُ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا يَلْتَمِسُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الشِّفَاءُ وَلَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْمَلْدُوغَ لَوْ كَانَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ.
17 - بَاب ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الْإِمَاءِ
2277 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الْإِمَاءِ) الضَّرِيبَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ: مَا يُقَدِّرُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَضَرَائِبُ جَمْعُهَا، وَيُقَالُ لَهَا: خَرَاجٌ، وَغَلَّةٌ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ وَأَجْرٌ، وَقَدْ وَقَعَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمَ مَوَالِيهِ فَخَفَّفُوا عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَيَانُ حُكْمِ ذَلِكَ، وَفِي تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَسَأَذْكُرُ كَمْ كَانَ قَدْرُ الضَّرِيبَةِ بَعْدَ بَابٍ. وَأَمَّا ضَرَائِبُ الْإِمَاءِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ وَاخْتِصَاصُهَا بِالتَّعَاهُدِ لِكَوْنِهَا مَظِنَّةَ تَطَرُّقِ الْفَسَادِ فِي الْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَكَمَا يُخْشَى مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمَةِ بِفَرْجِهَا يُخْشَى مِنِ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ مَثَلًا، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ هُوَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْأَحْمَرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا حُذَيْفَةُ حِينَ قَدِمَ الْمَدَائِنَ، فَقَالَ: تَعَاهَدُوا ضَرَائِبَ إِمَائِكُمْ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ بِلَفْظِ: ضَرَائِبَ غِلْمَانِكُمْ وَاسْمُ الْأَحْمَرِيِّ هَذَا مَالِكٌ.
وَأَوْرَدَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ شِدَادِ بْنِ الْفُرَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَالَ: كُنْتُ تَحْتَ مِنْبَرِ حُذَيْفَةَ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا: نُهِيَ عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّعَاهُدِ التَّفَقُّدَ لِمِقْدَارِ ضَرِيبَةِ الْأَمَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ ثَقِيلَةً فَتَحْتَاجَ إِلَى التَّكَسُّبِ بِالْفُجُورِ، وَدَلَالَتُهُ مِنَ الْحَدِيثِ أَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام بِتَخْفِيفِ ضَرِيبَةِ الْحَجَّامِ، فَلُزُومُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَمَةِ أَقْعَدُ وَأَوْلَى لِأَجْلِ الْغَائِلَةِ الْخَاصَّةِ بِهَا.
18 - بَاب خَرَاجِ الْحَجَّامِ
2278 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أجره.
2279 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ.
2280 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ حَدِيثٌ فِي الطَّهَارَةِ وَآخَرُ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا، وَهُوَ جَمِيعُ مَا لَهُ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ خَرَاجِ الْحَجَّامِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَزَادَ
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ بِلَفْظِ: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ وَعُرِفَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرَاهَةِ هُنَا كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ. وَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ حَرَامٌ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَلَالٌ وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا: هُوَ كَسْبٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَحَمَلُوا الزَّجْرَ عَنْهُ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ وَأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا ثُمَّ أُبِيحَ وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَكَرِهُوا لِلْحُرِّ الِاحْتِرَافَ بِالْحِجَامَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا وَيَجُوزُ لَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَى الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ مِنْهَا وَأَبَاحُوهَا لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ مُحَيِّصَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ، فَذَكَرَ لَهُ الْحَاجَةَ فَقَالَ: اعْلِفْهُ نَوَاضِحَكَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِعَانَةً لَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لَهُ، فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا. وَجَمَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَبَيْنَ إِعْطَائِهِ الْحَجَّامَ أُجْرَتَهُ، بِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَيُحْمَلُ الزَّجْرُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ. وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْحِجَامَةِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا يُتَدَاوَى مِنْ إِخْرَاجِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ. وَفِيهِ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُعَالَجَةِ بِالطِّبِّ، وَالشَّفَاعَةُ إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْهَا، وَجَوَازُ مُخَارَجَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَكْتَسِبَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كُلَّ يَوْمٍ كَذَا، وَمَا زَادَ فَهُوَ لَك. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ قَدْ تَضَمَّنَ تَمْكِينُهُ مِنَ الْعَمَلِ إِذْنَهُ الْعَامَّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِالْمُوَاظَبَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ) فِيهِ إِثْبَاتُ إِعْطَائِهِ أُجْرَةَ الْحَجَّامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَفِيهَا الْجَزْمُ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّنْصِيصِ.
19 - بَاب مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ
2281 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا حَجَّامًا، فَحَجَمَهُ وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ مِنْهُمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِلْزَامِ إِذَا كَانَ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا.
قَوْلُهُ: (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا) هُوَ أَبُو طَيْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابٍ، وَاسْمُ أَبِي طَيْبَةَ نَافِعٌ عَلَى الصَّحِيحِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ، يُقَالُ لَهُ: نَافِعٌ أَبُو طَيْبَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنْ خَرَاجِهِ. الْحَدِيثَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي اسْمِ أَبِي طَيْبَةَ أَنَّهُ دِينَارٌ، وَوَهَمُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ تَابِعِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي طَيْبَةَ لَا أَنَّهُ اسْمُ أَبِي طَيْبَةَ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ بَسَّامٍ الْحَجَّامِ، عَنْ دِينَارٍ الْحَجَّامِ، عَنْ أَبِي طَيْبَةَ الْحَجَّامِ قَالَ: حَجَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى أَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ يَرْوِي عَنْ أَبِي طَيْبَةَ لَا أَنَّهُ أَبُو طَيْبَةَ نَفْسُهُ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي
الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَيْبَةَ مَيْسَرَةٌ، وَأَمَّا الْعَسْكَرِيُّ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْحَذَّاءِ فِي رِجَالِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ) شَكٌّ مِنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ صَاعًا أَوْ صَاعَيْنِ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْمُدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ: فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَفَادَ تَعْيِينَ مَا فِي الصَّاعِ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ فَأَفَادَ تَعْيِينَ مَنْ بَاشَرَ الْعَطِيَّةَ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْحَجَّامِ: كَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ: صَاعَانِ، قَالَ: فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي الشَّكِّ الْمَاضِي. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَجْمَعُ الْخِلَافَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ خَرَاجَهُ كَانَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ، وَكَذَا لِأَبِي يَعْلَى، عَنْ جَابِرٍ، فَإِنْ صَحَّ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ صَاعَيْنِ وَزِيَادَةً فَمَنْ قَالَ: صَاعَيْنِ، أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةً، جَبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَلَّمَ فِيهِ)، لَمْ يَذْكُرِ الْمَفْعُولَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ فَقَالَ: كَلَّمَ مَوَالِيهِ، وَمَوَالِيهِ هُمْ بَنُو حَارِثَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَوْلَاهُ مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا تَرَاهُ هُنَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْمَوَالِي مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا رَجُلًا، وَيَكُونُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ فَهُوَ وَهَمٌ، فَإِنَّ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو هِنْدٍ.
20 - بَاب كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالْإِمَاءِ.
وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَتَيَاتِكُمْ} إِمَاءَكُمْ
2282 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
2283 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ.
[الحديث 2283 - طرفه في: 5348]
قَوْلُهُ: (بَابُ كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالْإِمَاءِ) بَيْنَ الْبَغِيِّ وَالْإِمَاءِ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ وَجْهِيٌّ، فَقَدْ تَكُونُ الْبَغِيُّ أَمَةً وَقَدْ تَكُونُ حُرَّةً، وَالْبَغِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ، بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ أَوْ مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ الزَّانِيَةُ، وَلَمْ يُصَرِّحِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ كَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ كَسْبُ الْأَمَةِ بِالْفُجُورِ لَا بِالصَّنَائِعِ الْجَائِزَةِ.
قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ: النَّخَعِيُّ (أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هَاشِمٍ عَنْهُ، وَزَادَ: وَالْكَاهِنِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِهَذَا الْأَثَرِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَتِ الْحِرْفَةُ فِيهِ مَمْنُوعَةً أَوْ تَجُرُّ إِلَى أَمْرٍ مَمْنُوعٍ شَرْعًا لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ
عَلَى الْبِغَاءِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَتَيَاتِكُمْ: إِمَاءَكُمْ)، وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} قَالَ: لَا تُكْرِهُوا إِمَاءَكُمْ عَلَى الزِّنَا، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} قَالَ: إِمَاءَكُمْ عَلَى الزِّنَا، وَزَادَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ: أَمَرَ أَمَةً لَهُ بِالزِّنَا فَزَنَتْ فَجَاءَتْ بِبُرْدٍ، فَقَالَ: ارْجِعِي فَازْنِي عَلَى آخَرَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِرَاجِعَةٍ فَنَزَلَتْ وَهَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَسَمَّاهَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ مُعَاذَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَاتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا مُعَاذَةَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: جَاءَتْ مُسَيْكَةُ أَمَةٌ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدِي يُكْرِهُنِي عَلَى الْبِغَاءِ، فَنَزَلَتْ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا، وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمَا مَعًا كَانَتَا أَمَتَيْنِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَزَادَ مَعَهُنَّ غَيْرَهُنَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ؛ لِأَنَّهُنَّ حِينَئِذٍ فِي مَقَامِ الِاخْتِيَارِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَتَيَاتِكُمْ: إِمَاءَكُمْ وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَذَكَرَهُ النَّسَفِيُّ لَكِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ لِمُجَاهِدٍ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: فَتَيَاتِكُمُ الْإِمَاءَ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} يَقُولُ: إِمَاءَكُمْ. {عَلَى الْبِغَاءِ} عَلَى الزِّنَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ فِي النَّهْيِ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْإِمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ وَفِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ شَرْحِهِمَا مَا فِيهِ مَزِيدُ كِفَايَةٍ.
21 - بَاب عَسْبِ الْفَحْلِ
2284 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَسْبِ الْفَحْلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَالْعَسْبُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِرِهِ مُوَحَّدَةٍ، وَيُقَالُ لَهُ: الْعَسِيبُ أَيْضًا، وَالْفَحْلُ: الذَّكَرُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَرَسًا كَانَ أَوْ جَمَلًا أَوْ تَيْسًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى عَنْ عَسْبِ التَّيْسِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ مِمَنُ مَاءِ الْفَحْلِ، وَقِيلَ: أُجْرَةُ الْجِمَاعِ، وَعَلَى الْأَخِيرِ جَرَى الْمُصَنِّفُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: نَهَى عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ مَنْفَعَةٍ، وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الْإِجَارَةِ لَا الثَّمَنِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ قَتَادَةَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَجْرَ ضِرَابِ الْجَمَلِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ: أَعْسَبَ الرَّجُلُ عَسِيبًا اكْتَرَى مِنْهُ فَحْلًا يُنْزِيهِ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَبَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَلَا مَعْلُومٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ قَوَّاهَا الْأَبْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ لِأَمَدٍ مَجْهُولٍ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَلَا بَأْسَ كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِتَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَتُعُقِّبَ بِالْفَرْقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَاءُ الْفَحْلِ وَصَاحِبُهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِخِلَافِ التَّلْقِيحِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ الشِّرَاءِ وَالْكِرَاءِ إِنَّمَا صَدَرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَمَّا عَارِيَةُ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، فَإِنْ
أُهْدِيَ لِلْمُعِيرِ هَدِيَّةٌ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِلَابٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ فَنُكْرِمُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ. وَلِابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَطْرَقَ فَرَسًا فَأَعْقَبَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ سَبْعِينَ فَرَسًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ) هُوَ الْبُنَانِيُّ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا نُونٌ خَفِيفَةٌ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَيَّنَهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ ثِقَةٌ مِنْ أَعَزِّ الْبَصْرِيِّينَ حَدِيثًا. انْتَهَى. وَقَدْ وَهِمَ فِي اسْتِدْرَاكِهِ، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا تَرَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْهُ.
22 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لِأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الْأَجَلِ
وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الْإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ فَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ جَدَّدَا الْإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
2285 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ الْمَزَارِعَ كَانَتْ تُكْرَى عَلَى شَيْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُهُ.
[الحديث 2285 - أطرافه في: 3238، 2339، 2331، 2338، 2499، 2720، 3152، 4748]
2886 -
وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ.
[الحديث 2286 - أطرافه في: 227، 2232، 2344، 2722]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا) أَيْ: هَلْ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ الْفَسْخِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَاللَّيْثُ إِلَى الْفَسْخِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْوَارِثَ مَلَكَ الرَّقَبَةَ، وَالْمَنْفَعَةُ تَبَعٌ لَهَا فَارْتَفَعَتْ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْهَا بِمَوْتِ الَّذِي آجَرَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ قَدْ تَنْفَكُّ عَنِ الرَّقَبَةِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَسْلُوبِ الْمَنْفَعَةِ، فَحِينَئِذٍ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بَاقٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ نَاظِرِ الْوَقْفِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ لِأَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلُ الْمَيِّتِ (أَنْ يُخْرِجُوهُ) أَيْ: يُخْرِجُوا الْمُسْتَأْجِرَ (إِلَى تَمَامِ الْأَجَلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تَمْضِي الْإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَإِيَاسَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوَهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُعَلَّقَةِ آخِرَ الْبَابِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ. يُرِيدُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ، كَمَا حَدَّثَ بِهِ جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْقَائِلُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّاوِي عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَهُوَ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِيثِهِ، وَبِهِ تَحْصُلُ التَّرْجَمَةُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُوسَى فَغَلَطٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ مُوسَى لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَصْلًا، وَالْقَائِلُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ تَعْلِيقٌ سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: حَتَّى أَجْلَاهُمْ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِيثِهِ إِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ فَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّهُ غَلَطٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَصَحِيحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَبِهِ تَحْصُلُ التَّرْجَمَةُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ فَسْخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَآجِرَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَدَّدَ الْإِجَارَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي كِرَاءِ الْمَزَارِعِ.
وَحَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُمَا فِي الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ، وَحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَثَرًا. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
38 - كِتَاب الْحَوَالَة
1 - بَاب الْحَوَالَةِ. وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ نَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ
2287 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ.
[الحديث 2287 - طرفاه في: 2288، 2400]
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. بَابُ الْحَوَالَةِ). كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَزَادَ النَّسَفِيُّ، وَالْمُسْتَمْلِي بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ (كِتَابُ الْحَوَالَةِ). وَالْحَوَالَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَقَدْ تُكْسَرُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّحْوِيلِ أَوْ مِنَ الْحُئُولِ، تَقُولُ: حَالَ عَنِ الْعَهْدِ إِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ حُئُولًا. وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَقْلُ دَيْنٍ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ رُخِّصَ فِيهِ فَاسْتُثْنِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ هِيَ اسْتِيفَاءٌ؟ وَقِيلَ: هِيَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مُسْتَقِلٍّ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رِضَا الْمُحِيلِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْمُحْتَالِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضٍ شَذَّ. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا تَمَاثُلُ الْحَقَّيْنِ فِي الصِّفَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهَا بِالنَّقْدَيْنِ وَمَنَعَهَا فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.
قَوْلُهُ: (وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ). هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافٍ فِيهَا هَلْ هِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ أَوْ جَائِزٌ؟
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ إِذَا كَانَ) أَيِ: الْمُحَالُ عَلَيْهِ (يَوْمَ أُحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ) أَيْ: بِلَا رُجُوعٍ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُفْلِسًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ. وَهَذَا الْأَثَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْأَثْرَمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ رَجُلٍ احْتَالَ عَلَى رَجُلٍ فَأَفْلَسَ، قَالَا: إِنْ كَانَ مَلِيًّا يَوْمَ احْتَالَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ. وَقَيَّدَهُ أَحْمَدُ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُحْتَالُ بِإِفْلَاسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَعَنِ الْحَكَمِ لَا يَرْجِعُ إِلَّا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ يَرْجِعُ بِالْمَوْتِ وَأَمَّا بِالْفَلَسِ فَلَا يَرْجِعُ إِلَّا بِمَحْضَرِ الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ بِالْفَلَسِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ عَاشَ أَوْ مَاتَ، وَلَا يَرْجِعُ بِغَيْرِ الْفَلَسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْجِعُ إِلَّا إِنْ غَرَّهُ كَأَنْ عَلِمَ فَلَسَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَشُرَيْحٌ، وَزُفَرُ: الْحَوَالَةُ كَالْكَفَالَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، وَبِهِ يُشْعِرُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ أَبْوَابَ الْكَفَالَةِ فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ أَحَلْتُهُ وَأَبْرَأَنِي حَوَّلْتُ حَقَّهُ عَنِّي وَأَثْبَتُّهُ عَلَى غَيْرِي.
وَذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ: يَرْجِعُ صَاحِبُهَا لَا تَوًى أَيْ: لَا هَلَاكَ، عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ إِسْنَادِهِ فَذَكَرَهُ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ عَنْ آخَرَ مَعْرُوفٍ، لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ، فَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ أَوْجُهٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ، فَالْمَجْهُولُ خُلَيْدٌ وَالِانْقِطَاعُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَعُثْمَانَ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ مَعَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، وَقَدْ
شَكَّ رَاوِيهِ هَلْ هُوَ فِي الْحَوَالَةِ أَوِ الْكَفَالَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي مَعَ اسْتِوَاءِ الدَّيْنِ، وَقَوْلُهُ: تَوِيَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: هَلَكَ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُفْلِسَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْ يَمُوتُ أَوْ يَجْحَدَ فَيَحْلِفَ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا رُجُوعَ لِمَنْ رَضِيَ بِالدَّيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَهَلَكَ فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَيْنًا فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَأَلْحَقَ الْبُخَارِيُّ الْحَوَالَةَ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا كَانَ بَيْنَ وَرَثَةٍ أَوْ شُرَكَاءَ مَالٌ وَهُوَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَبَايَعُوهُ بَيْنَهُمْ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) قَدْ رَوَاهُ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: الْمَطْلُ ظُلْمُ الْغَنِيِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الْمَطْلِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ مِنَ الظُّلْمِ مَطْلَ الْغَنِيِّ وَهُوَ يُفَسِّرُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَصْلُ الْمَطْلِ الْمَدُّ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مَطَلْتُ الْحَدِيدَةَ أَمْطُلُهَا مَطْلًا إِذَا مَدَدْتُهَا لِتَطُولَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَطْلُ الْمُدَافَعَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَالْغَنِيُّ مُخْتَلَفٌ فِي تَفْرِيعِهِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ فَأَخَّرَهُ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَهَلْ يَتَّصِفُ بِالْمَطْلِ مَنْ لَيْسَ الْقَدْرُ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالتَّكَسُّبِ مَثَلًا؟ أَطْلَقَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَفَصَلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الدَّيْنِ وَجَبَ بِسَبَبٍ يُعْصَى بِهِ فَيَجِبُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَوْلُهُ: مَطْلُ الْغَنِيِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِلْفَاعِلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ الْقَادِرِ أَنْ يَمْطُلَ بِالدَّيْنِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ وَفَاءُ الدَّيْنِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ غَنِيًّا وَلَا يَكُونُ غِنَاهُ سَبَبًا لِتَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ فَهُوَ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا التَّأْوِيلِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيء فَلْيَتْبَعْ) الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ وَاللُّغَةِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ إِسْكَانُ الْمُثَنَّا فِي أُتْبِعَ وَفِي فَلْيَتْبَعْ وَهُوَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ مِثْلُ إِذَا أُعْلِمَ فَلْيَعْلَمْ، تَقُولُ: تَبِعْتُ الرَّجُلَ بِحَقِّي أَتْبَعُهُ تَبَاعَةً - بِالْفَتْحِ - إِذَا طَلَبْتَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا أُتْبِعَ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا فَلْيَتْبَعْ فَالْأَكْثَرُ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ. انْتَهَى.
وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أُتْبِعَ يَرُدُّهُ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالصَّوَابُ التَّخْفِيفُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أُتْبِعَ فَلْيَتْبَعْ أَيْ: أُحِيلَ فَلْيَحْتَلْ، وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِ يَعْلَى بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ كَمَا تَرَاهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: فَإِذَا أُحِلْتَ عَلَى مَلِيءٍ فَاتَّبِعْهُ وَهَذَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْمَلِيءُ بِالْهَمْزِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُلَاءِ، يُقَالُ: مَلُؤَ الرَّجُلُ بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: صَارَ مَلِيًّا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَلِيُّ كَالْغَنِيِّ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَاقْتَضَى أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ بِالْهَمْزِ وَمَنْ رَوَاهُ بِتَرْكِهَا فَقَدْ سَهَّلَهُ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَتْبَعْ، لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَوَهَمَ مَنْ نَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِرْشَادٍ وَهُوَ شَاذٌّ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعِبَارَةُ الْخِرَقِيِّ: وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَالَ.
(تَنْبِيهٌ): ادَّعَى الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْأَشْهَرَ فِي الرِّوَايَاتِ وَإِذَا أُتْبِعَ وَأَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا بِالْوَاوِ، وَغَفَلَ عَمَّا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ هُنَا؛ فَإِنَّهُ بِالْفَاءِ فِي
جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ كَالتَّوْطِئَةِ وَالْعِلَّةِ لِقَبُولِ الْحَوَالَةِ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْمَطْلُ ظُلْمًا فَلْيَقْبَلْ مَنْ يَحْتَالُ بِدَيْنِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الظُّلْمِ فَلَا يَمْطُلَ. نَعَمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِالْوَاوِ وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ لَكِنْ قَالَ: وَمَنْ أُتْبِعَ وَمُنَاسَبَةُ الْجُمْلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ عَقَّبَهُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي قَبُولُ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ لِمَا فِي قَبُولِهَا مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمَطْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَكُونُ مُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ سَهْلَةً عَلَى الْمُحْتَالِ دُونَ الْمُحِيلِ، فَفِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ إِعَانَةٌ عَلَى كَفِّهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ الزَّجْرُ عَنِ الْمَطْلِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعَدُّ فِعْلُهُ عَمْدًا كَبِيرَةً أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ يَفْسُقُ، لَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ فِسْقُهُ بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ، وَرَدَّهُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِأَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا عَدَمُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَنْعَ الْحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ وَابْتِغَاءِ الْعُذْرِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ ظُلْمًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَالْكَبِيرَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْرَارُ. نَعَمْ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ عُذْرِهِ، انْتَهَى.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَفْسُقُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ الْبَابِ التَّوَقُّفُ عَلَى الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلَ يُشْعِرُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَطْلِ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ كَالزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَالسَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَالْحَاكِمِ لِرَعِيَّتِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْأَدَاءِ لَا يَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الذَّاتِ عِنْدَ انْتِفَاءِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ أَجَابَ بِأَنَّ الْعَاجِزَ لَا يُسَمَّى مَاطِلًا، وَعَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي مَالُهُ غَائِبٌ عَنْهُ لَا يَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ، وَهَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ الْغَنِيِّ أَوْ لَيْسَ هُوَ فِي الْحُكْمِ بِغَنِيٍّ؟ الْأَظْهَرُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْحُكْمِ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُطَالَبُ حَتَّى يُوسِرَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَتُهُ لَكَانَ ظَالِمًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمٍ لِعَجْزِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ إِذَا صَحَّتْ ثُمَّ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ بِحُدُوثِ حَادِثٍ كَمَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الْغِنَى فَائِدَةٌ، فَلَمَّا شُرِطَتْ عُلِمَ أَنَّهُ انْتَقَلَ انْتِقَالًا لَا رُجُوعَ لَهُ كَمَا لَوْ عَوَّضَهُ عَنْ دَيْنِهِ بِعِوَضٍ ثُمَّ تَلِفَ الْعِوَضُ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ لَهُ رُجُوعٌ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ يَرْجِعُ عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَشَبَّهُوهُ بِالضَّمَانِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مُلَازَمَةِ الْمُمَاطِلِ وَإِلْزَامِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَأَخْذِهِ مِنْهُ قَهْرًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ رِضَى الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ دُونَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّة، وَفِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْقَاطِعَةِ لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ؛ لِأَنَّهُ زَجْرٌ عَنِ الْمُمَاطَلَةِ، وَهِيَ تُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ.
عع
2 - بَاب إِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ
2288 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتَّبِعْ.
3 - بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ
2289 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه،
قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
[الحديث 2289 - طرفه في 2795]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ، وَإِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِيءٍ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ). كَذَا ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ. وَالتَّرْجَمَةُ الثَّانِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى الْبَابِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ ذَلِكَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ النَّعَيْمِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ عِنْدَ الْحَمَوِيِّ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهَا حَمَّادُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: وَثَبَتَتْ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَرَوَاهَا أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ النَّسَفِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ. وَيُؤَيِّدُ صَنِيعَ النَّسَفِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ تَرْجَمَ بَعْدَ أَبْوَابٍ لِحَدِيثِ سَلَمَةَ بَابُ مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَلَوْ كَانَ مَا صَنَعَهُ أَبُو ذَرٍّ مَحْفُوظًا لَكَانَ قَدْ كَرَّرَ التَّرْجَمَةَ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ.
(تَنْبِيهَانِ):
الْأَوَّلُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، فَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ بْنِ وَاقِدِ بْنِ عُثْمَانَ الْفِرْيَابِيُّ صَاحِبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التِّنِّيسِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَلَمْ يَلْقَ الْفِرْيَابِيُّ، مَالِكًا وَلَا التِّنِّيسِيُّ، سُفْيَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا تَرْجَمَ بِالْحَوَالَةِ، فَقَالَ: إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ ثُمَّ أَدْخَلَ حَدِيثَ سَلَمَةَ وَهُوَ فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ وَالضَّمَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مُتَقَارِبَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُمَا يَنْتَظِمَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقَلَ ذِمَّةَ رَجُلٍ إِلَى ذِمَّةِ رَجُلٍ آخَرَ، وَالضَّمَانُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَقْلُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ إِلَى ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَصَارَ كَالْحَوَالَةِ سَوَاءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَتَى بِجِنَازَةٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ صَاحِبِ هَذِهِ الْجِنَازَةِ وَلَا عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ، وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: مَاتَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَفِظْنَاهُ وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ مَقَامِ جِبْرِيلَ، ثُمَّ آذَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ) سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ سَبَبُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً؟ فَإِنْ حَدَثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. الْحَدِيثَ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى)، ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ وَتُرِكَ حَالٌ رَابِعٌ، الْأَوَّلُ: لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ وَفَاءٌ، وَالثَّالِثُ: عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ، وَالرَّابِعُ: مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَهُ مَالٌ، وَهَذَا حُكْمُهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ بَلْ لِكَوْنِهِ كَانَ كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ: دِينَارَانِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ
بِنْتِ يَزِيدَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا كَانَا دِينَارَيْنِ وَشَطْرًا، فَمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ جَبَرَ الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ: دِينَارَانِ أَلْغَاهُ، أَوْ كَانَ أَصْلُهُمَا ثَلَاثَةً فَوَفَى قَبْلَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَبَقِيَ عَلَيْهِ دِينَارَانِ، فَمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَمَنْ قَالَ: دِينَارَانِ، فَبِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهَذَا دُونَ دِينَارَيْنِ وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: دِرْهَمَيْنِ، وَيُجْمَعُ إِنْ ثَبَتَ بِالتَّعَدُّدِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ نَفْسِهِ: فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ وَأَنَا أَتَكَفَّلُ بِهِ. زَادَ الْحَاكِمُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَقَالَ: هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَقِيَ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: مَا صَنَعَتِ الدِّينَارَانِ؟ حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ قَالَ: قَدْ قَضَيْتُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الْآنَ حِينَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَرَّةً أُخْرَى; فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الرَّجُلِ، وَيَسْأَلُ عَنْ دَيْنِهِ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ دَيْنٌ كَفّ، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَلَّى. فَأُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَلَمَّا قَامَ لِيُكَبِّرَ سَأَلَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: دِينَارَانِ، فَعَدَلَ عَنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمَا. فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَفَكَّ اللَّهُ رِهَانَكَ. الْحَدِيثَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ. وَعَنْ مَالِكٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِنْ قَالَ: إِنَّمَا ضَمِنْتُ لِأَرْجِعَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ وَعَلِمَ الضَّامِنُ بِذَلِكَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً جَازَ الضَّمَانُ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِصُعُوبَةِ أَمْرِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَحَمُّلُهُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
39 - كِتَاب الْكَفَالَةِ
1 - بَاب الْكَفَالَةِ فِي الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا
2290 -
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنْ الرَّجُلِ كفلاء حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ.
وَقَالَ جَرِيرٌ، وَالْأَشْعَثُ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ.
وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ يَضْمَنُ.
2291 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ. وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذلكَ. وَإنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.
قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَالَةِ فِي الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا) ذِكْرُ الدُّيُونِ بَعْدَ الْقَرْضِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْأَبَدَانِ الْأَمْوَالُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ. . . إِلَخْ) هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةٍ أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَهُ لِلصَّدَقَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ: صَدِّقِي مَالَ مَوْلَاكِ، وَإِذَا الْمَرْأَةُ تَقُولُ: بَلْ أَنْتَ صَدِّقْ مَالَ ابْنِكَ، فَسَأَلَ حَمْزَةُ عَنْ أَمْرِهِمَا فَأُخْبِرَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ تَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ لَهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَأَعْتَقَتْهُ امْرَأَتُهُ، ثُمَّ وَرِثَ مِنْ أُمِّهِ مَالًا، فَقَالَ حَمْزَةُ لِلرَّجُلِ: لَأَرْجُمَنَّكَ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الْمَاءِ: إِنَّ أَمْرَهُ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَجَلَدَهُ مِائَةً وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ رَجْمًا. قَالَ: فَأَخَذَ حَمْزَةُ بِالرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهُمْ عُمَرُ بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا دَرَأَ عُمَرُ عَنْهُ الرَّجْمَ؛ لِأَنَّهُ عَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ؛ فَإِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا جَلْدُ عُمَرَ لِلرَّجُلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَزَّرَهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ التِّينِ. قَالَ: وَفِيهِ شَاهِدٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي مُجَاوَزَةِ الْإِمَامِ فِي التَّعْزِيرِ قَدْرَ الْحَدِّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ عَارَضَهُ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ جَلَدَهُ ذَلِكَ تَعْزِيرًا، فَلَعَلَّ مَذْهَبَ عُمَرَ أَنَّ الزَّانِي الْمُحْصَنَ إِنْ كَانَ عَالِمًا رُجِمَ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا جُلِدَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَرِيرٌ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ (وَالْأَشْعَثُ) أَيِ: ابْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ) وَهَذَا أَيْضًا مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةٍ أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِطُولِهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى مَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَسَمِعَ مُؤَذِّنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّوَّاحَةِ يَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَلَيَّ بِابْنِ النَّوَّاحَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَجِيءَ بِهِمْ. فَأَمَرَ قُرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ، ثُمَّ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ بِقَتْلِهِمْ، فَقَامَ جَرِيرٌ، وَالْأَشْعَثُ فَقَالَا: بَلِ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفّ لْهُمْ عَشَائِرَهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عِدَّةَ الْمَذْكُورِينَ كَانَتْ مِائَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالْأَبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَالَ بِهَا الْجُمْهُورُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ قَالَ بِهَا أَنَّ الْمَكْفُولَ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ إِذَا غَابَ أَوْ مَاتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَى الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا أَدَّى الْمَالَ وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ مِثْلُهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْأَثَرِ، فَتَابُوا مِنَ التَّوْبَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَعَبْدُوسٍ: فَأَبَوْا بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ قَبْلَ الْأَلِفِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهَمٌ مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ فَآبُوا بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى فَرَجَعُوا فَلَا يَفْسُدُ الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) أَيِ: ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: (إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ، فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَكَمُ يَضْمَنُ)، وَصَلَهُ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، وَالْحَكَمِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ يُفْصَلُ بَيْنَ الدَّيْنِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ فَيَغْرَمُ فِي الْحَالِّ وَيُفْصَلُ فِي الْمُؤَجَّلِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَوْ قَدِمَ لَأَدْرَكَهُ أَمْ لَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ. . . إِلَخْ) وَقَعَ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ، وَأَبَا الْوَقْتَ وَصَلَاهُ فِي آخِرِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ، وَوَصَلَهُ أَبُو ذَرٍّ هُنَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ وَصِيفٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَسَّانَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ وَصَلَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي بَابِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، وَآدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ مَنْصُورٍ كُلُّهُمْ عَنِ اللَّيْثِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ اللَّيْثِ أَيْضًا، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَّقَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَصَلَهَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُسْلِفُ النَّاسَ إِذَا أَتَاهُ الرَّجُلُ بِكَفِيلٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، لَكِنْ رَأَيْتُ فِي مُسْنَدِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْجِيزِيِّ بِإِسْنَادٍ لَهُ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَرْفَعُهُ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِفْنِي أَلْفَ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ: مَنِ الْحَمِيلُ بِكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، فَأَعْطَاهُ الْأَلْفَ، فَضَرَبَ بِهَا الرَّجُلُ - أَيْ: سَافَرَ بِهَا - فِي تِجَارَةٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَجَلَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ فَحَبَسَتْهُ الرِّيحُ، فَعَمِلَ تَابُوتًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ الَّذِي أَقْرَضَ هُوَ النَّجَاشِيُّ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَتُهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِطَرِيقِ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ لَا أَنَّهُ مِنْ نَسْلِهِمْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ). فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) أَيِ: الْأَلْفُ دِينَارٍ، فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ فَعَدَّ لَهُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَةِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ، فَيَكُونُ الْوَزْنُ مَثَلًا أَلْفًا، وَالْعَدَدُ سِتَّمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، فَرَكِبَ الرَّجُلُ الْبَحْرَ بِالْمَالِ يَتَّجِرُ فِيهِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ حَلَّ الْأَجَلُ وَارْتَجَّ الْبَحْرُ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا). زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: وَغَدَا رَبُّ الْمَالِ إِلَى السَّاحِلِ يَسْأَلُ عَنْهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اخْلُفْنِي وَإِنَّمَا أَعْطَيْتُ لَكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا) أَيْ: حَفَرَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: فَنَجَرَ خَشَبَةً وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَعَمِلَ تَابُوتًا وَجَعَلَ فِيهِ الْأَلْفَ.
قَوْلُهُ: (وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ، إِنِّي دَفَعْتُ مَالَكَ إِلَى وَكِيلِي الَّذِي تَوَكَّلَ بِي.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِزَايٍ وَجِيمَيْنِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ: سَوَّى مَوْضِعَ النَّقْرِ وَأَصْلَحَهُ، وَهُوَ مِنْ تَزْجِيجِ الْحَوَاجِبِ، وَهُوَ حَذْفُ زَوَائِدِ الشَّعْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الزُّجِّ وَهُوَ النَّصْلُ كَأَنْ يَكُونَ النَّقْرُ فِي طَرَفِ الْخَشَبَةِ فَشَدَّ عَلَيْهِ زُجًّا لِيُمْسِكَهُ وَيَحْفَظَ مَا فِيهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ سَمَّرَهَا بِمَسَامِيرَ كَالزُّجِّ، أَوْ حَشَى شُقُوقَ لِصَاقِهَا بِشَيْءٍ وَرَقَعَهُ بِالزُّجِّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ أَصْلَحَ مَوْضِعَ النَّقْرِ.
قَوْلُهُ: (تَسَلَّفْتُ فُلَانًا) كَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَالْمَعْرُوفُ تَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: اسْتَسْلَفْتُ مِنْ فُلَانٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَضِيَ بِذَلِكَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: فَرَضِيَ بِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَرَضِيَ بِكَ قَوْلُهُ: (وَإِنِّي جَهَدْتُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَدِّ حَمَالَتَكَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: دَخَلَتْ فِي الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا) أَيْ: قَطَعَهَا بِالْمِنْشَارِ (وَجَدَ الْمَالَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، فَلَمَّا كَسَرَهَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: وَغَدَا رَبُّ الْمَالِ يَسْأَلُ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا كَانَ يَسْأَلُ فَيَجِدُ الْخَشَبَةَ فَيَحْمِلُهَا إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: أَوْقِدُوا هَذِهِ، فَكَسَرُوهَا فَانْتَثَرَتِ الدَّنَانِيرُ مِنْهَا وَالصَّحِيفَةُ، فَقَرَأَهَا وَعَرَفَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ). وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَاهُ رَبُّ الْمَالِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ مَالِي قَدْ طَالَتِ النَّظِرَةُ، فَقَالَ: أَمَّا مَالُكَ فَقَدْ دَفَعْتُهُ إِلَى وَكِيلِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَهَذَا مَالُكَ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لَهُ: هَذِهِ أَلْفُكَ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: لَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: لَقَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْكَ قَوْلُهُ: (وَانْصَرَفَ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا) فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: قَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْكَ، وَقَدْ بَلَغَنَا الْأَلْفُ فِي التَّابُوتِ، فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ أَلْفَكَ. زَادَ أَبُو سَلَمَةَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْثُرُ
مِرَاؤُنَا وَلَغَطُنَا، أَيُّهُمَا آمَنُ؟ وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْأَجَلِ فِي الْقَرْضِ وَوُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ، وَفِيهِ التَّحَدُّثُ عَمَّا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَجَائِبِ لِلِاتِّعَاظِ وَالِائْتِسَاءِ، وَفِيهِ التِّجَارَةُ فِي الْبَحْرِ وَجَوَازُ رُكُوبِهِ، وَفِيهِ بُدَاءَه الْكَاتِبِ بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ طَلَبُ الشُّهُودِ فِي الدَّيْنِ وَطَلَبُ الْكَفِيلِ بِهِ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّلُهُ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ أَخْذِ مَا لَقَطَهُ الْبَحْرُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى الْكَفَالَةِ تَحَدُّثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِيُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ.
2 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
2292 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ: وَرَثَةً. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ورِثُ الْمُهَاجِرُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نَسَخَتْ. ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، إِلَّا النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ، وَيُوصِي لَهُ.
[الحديث 2292 - طرفاه في: 4580، 6747]
2293 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ.
2294 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي.
[الحديث 2294 - طرفاه في: 6083، 7340]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ مَالٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَطَوُّعًا، فَيَلْزَمُ كَمَا لَزِمَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِالْحَلِفِ الَّذِي عُقِدَ عَلَى وَجْهِ التَّطَوُّعِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ، وَغَرَضُهُ إِثْبَاتُ الْحَلِفِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَنَسٍ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ الْحَلِفِ فِي الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَاصِمٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَحْوَلِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) الْحِلْفُ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا فَاءٌ -: الْعَهْدُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتَعَاهَدُونَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاهَدُونَ عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَكَأَنَّ عَاصِمًا يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ مِنْهَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مِثْلُهُ، أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، وَأَصْلُهُ فِي السُّنَنِ. وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِلْفِ، فَقَالَ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَمِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَحِدَّةً. أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَمِنْ مُرْسَلِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرَادَتِ الْأَوْسُ أَنْ تُحَالِفَ سَلْمَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ.
وَمِنْ مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ رَفَعَهُ: لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْدُودٌ
(1)
، وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّ أَوَّلَ حِلْفٍ كَانَ بِمَكَّةَ حِلْفُ الْأَحَابِيشِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ شَكَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ تَسَلُّطَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ عَلَيْهِمْ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ لَهُمْ: ذَلَّتْ قُرَيْشٌ لِبَنِي بَكْرٍ فَانْصُرُوا إِخْوَانَكُمْ، فَرَكِبُوا إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، فَسَمِعَتْ بِهِمْ بَنُو الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ فَاجْتَمَعُوا بِذَنْبِ حَبَشٍ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ - وَهُوَ جَبَلٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَتَحَالَفُوا: إِنَّا لَيَدٌ عَلَى غَيْرِنَا مَارسى حَبَشٌ مَكَانَهُ، وَكَانَ هَذَا مَبْدَأَ الْأَحَابِيشِ. وَعِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ مُرْسَلِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، ثُمَّ دَخَلَتْ فِيهِمُ الْقَارَّةُ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا سُمُّوا الْأَحَابِيشَ لِتَحَالُفِهِمْ عِنْدَ حَبَشٍ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ سُمُّوا لِتَحَبُّشِهِمْ أَيْ: تَجَمُّعِهِمْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: ثُمَّ كَانَ حِلْفُ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَدَوْسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا رَغِبَتْ فِي وَجٍّ وَهُوَ مِنَ الطَّائِفِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، فَخَافَتْهُمْ ثَقِيفٌ فَحَالَفَتْهُمْ، وَأَدْخَلَتْ مَعَهُمْ بَنِي دَوْسٍ وَكَانُوا إِخْوَانَهُمْ وَجِيرَانَهُمْ. ثُمَّ كَانَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ وَأَزْدٍ. وَأُسْنِدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ رَفَعَهُ: مَا شَهِدْتُ مِنْ حِلْفٍ إِلَّا حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَنْكُثَهُ وَأَنَّ لِي حُمُرَ النَّعَمِ. وَمِنْ مُرْسَلِ طَلْحَةَ بْنِ عَوْفٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ. وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَفَعَهُ: شَهِدْتُ وَأَنَا غُلَامٌ حِلْفًا مَعَ عُمُومَتِي الْمُطَيَّبِينَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمُرَ النَّعَمِ وَأَنِّي نَكَثْتُهُ.
قَالَ: وَحِلْفُ الْفُضُولِ - وَهُمْ فَضْلٌ، وَفَضَالَةُ، وَمُفَضَّلٌ - تَحَالَفُوا، فَلَمَّا وَقَعَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ بَيْنَ هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ وَأَسَدٍ وَزُهْرَةَ، قَالُوا: حِلْفٌ كَحِلْفِ الْفُضُولِ، وَكَانَ حِلْفُهُمْ أَنْ لَا يُعِينَ ظَالِمٌ مَظْلُومًا بِمَكَّةَ، وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مُحَصِّلُهَا أَنَّ الْقَادِمَ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ كَانَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، فَرُبَّمَا ظَلَمَهُ بَعْضُ أَهْلِهَا فَيَشْكُوهُ إِلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْقَبَائِلِ فَلَا يُفِيدُ، فَاجْتَمَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ يَكْرَهُ الظُّلْمُ وَيَسْتَقْبِحُهُ إِلَى أَنْ عَقَدُوا الْحِلْفَ، وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ وَفِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (قَدْ حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَنَسٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَلْفِ لَا يُنَافِي حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فِي نَفْيِهِ، فَإِنَّ الْإِخَاءَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهِ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ الْمِيرَاثُ وَبَقِيَ مَا لَمْ يُبْطِلْهُ الْقُرْآنُ وَهُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّصْرُ، وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا النَّصْرَ وَالنَّصِيحَةَ وَالرِّفَادَةَ، وَيُوصَى لَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ.
قُلْتُ: وَعُرِفَ بِذَلِكَ وَجْهُ
(1)
في طبعة بولاق "مشذوذ"، بمعجمتين، ويأتى قريبا أثر عمر بمهملتين وهو الصواب.
إِيرَادِ حَدِيثَيْ أَنَسٍ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَالَفَ بَيْنَهُمْ أَيْ: آخَى بَيْنَهُمْ، يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى الْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ فِي الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَحُدُودِهِ، وَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ جَرَى عَلَى مَا كَانُوا يَتَوَاضَعُونَهُ بَيْنَهُمْ بِآرَائِهِمْ، فَبَطَلَ مِنْهُ مَا خَالَفَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى حَالِهِ. وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحِلْفِ الْوَاقِعِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الآيةِ الْمَذْكُورَةِ جَاهِلِيٌّ وَمَا بَعْدَهَا إِسْلَامِيٌّ. وَعَنْ عَلِيٍّ مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} جَاهِلِيٌّ. وَعَنْ عُثْمَانَ: كُلُّ حِلْفٍ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ جَاهِلِيٌّ، وَمَا بَعْدَهَا إِسْلَامِيٌّ. وَعَنْ عُمَرَ: كُلُّ حِلْفٍ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ فَهُوَ مَشْدُودٌ، وَكُلُّ حِلْفٍ بَعْدَهَا مَنْقُوضٌ، أَخْرَجَ كُلَّ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِأَسَانِيدِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَظُنُّ قَوْلَ عُمَرَ أَقْوَاهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ.
3 - بَاب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ
2295 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
2296 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا.
[الحديث 2369 - أطرافه في: 2598، 2683، 3137، 4383]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ). يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، أَيْ: عَنِ الْكَفَالَةِ بَلْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الْحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي التَّرِكَةِ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَكَفَّلَ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمَقْصُودِهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَوَجْهُ الْأَخْذِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَبِي قَتَادَةَ أَنْ يَرْجِعَ لَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِدْيَانِ حَتَّى يُوفِيَ أَبُو قَتَادَةَ الدَّيْنَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَكُونَ قَدْ صَلَّى عَلَى مِدْيَانٍ دَيْنُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ. (تَنْبِيهٌ): اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الطُّرُقِ عَلَى ذِكْرِ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَمْوَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ تَامًّا، وَقَدْ سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا تَامًّا وَسَاقَ فِي قِصَّتِهِ الْمَحْذُوفَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: ثَلَاثُ كَيَّاتٍ وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يَدَّخِرَ شَيْئًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ ضَمَانِ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ بَالَغَ الطَّحَاوِيُّ فِي نُصْرَةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ) أَيْ: ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَدْ سَمِعَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِنْ جَابِرٍ الْكَثِيرَ، وَرُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً، وَلِسُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ.
قَوْلُهُ: (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ) هُوَ مَالُ الْجِزْيَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمَغَازِي، وَكَانَ عَامِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا.
قَوْلُهُ: (قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا) فِي الطَّرِيقِ الَّتِي فِي الشَّهَادَاتِ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا. وَعُرِفَ بِقَوْلِهِ فِيهِ: فَحَثَى لِي حَثْيَةً تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: خُذْ هَكَذَا، كَأَنَّهُ أَشَارَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَامَ مَقَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَكَفَّلَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، فَلَمَّا الْتَزَمَ ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يُوفِيَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عِدَّةٍ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فَنَفَذَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ أَخْذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي سِيَاقِهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ وَلَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَوْ جَرَّ ذَلِكَ نَفْعًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَلْتَمِسْ مِنْ جَابِرٍ شَاهِدًا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ عَلِمَ بِذَلِكَ فَقَضَى لَهُ بِعِلْمِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ.
4 - بَاب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقْدِهِ
2297 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ، وأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ؛ فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ. فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ.
فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟ فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ
رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ؛ فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ. ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ، أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَوْلُهُ:
(بَابُ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ، تُكْسَرُ الْجِيمِ وَتُضَمُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذِّمَامُ وَالْأَمَانُ.
قَوْلُهُ: (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَقْدِهِ). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ)، فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِكَذَا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا رِضَا أَبِي بَكْرٍ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَائِقٌ بِكَفَالَةِ الْأَبَدَانِ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَجَارَهُ كَأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِنَفْسِ الْمُجَارِ أَنْ لَا يُضَامَ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.
(تَنْبِيهٌ): سَاقَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ هُنَا
(1)
عَلَى لَفْظِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَاقَهُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى لَفْظِ عُقَيْلٍ، وَسَأُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَضَبْطِهِ وَضَبْطِ بَرْكِ الْغِمَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ:، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ). هَذَا التَّعْلِيقُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنْ عُقَيْلٍ وَحْدَهُ. وَأَبُو صَالِحٍ هَذَا اتَّفَقَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْأَصِيلِيُّ، وَالْجَيَّانِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ
(1)
هو الطريق الثاني لا الأول.
الْمَرْوَزِيُّ وَلَقَبُهُ سَلْمَوَيْهِ وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْأَصِيلِيُّ. وَجَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى هَذَا هُوَ ابْنُ وَهْبٍ. وَزَعَمَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى الْفَرَّاءُ الْأَنْطَاكِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ مُسْتَنِدًا، وَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى عَدِّ مَحْبُوبِ بْنِ مُوسَى فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.
5 - بَاب الدَّيْن
2298 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ.
[الحديث 2398 - أطرافه في: 2598، 2683، 3137، 4383]
قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّيْنِ). كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ، وَسَقَطَ الْبَابُ وَتَرْجَمَتُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَقَطَ الْحَدِيثُ أيضًا مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَوَقَعَ لِلنَّسْفِيِّ، وابْنِ شَبَّوَيْهِ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَمَّا ابْنُ بَطَّالٍ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي آخِرِ بَابِ مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ بَدَيْنٍ وَصَنِيعُهُ أَلْيَقُ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَرْجَمَةِ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا، أَوْ ثَبَتَتْ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ فَيَكُونُ كَالْفَصْلِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ تَرْجَمَ لَهُ: بَابُ الدَّيْنِ، فَبَعِيدٌ إِذِ اللَّائِقُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ). هَكَذَا رَوَاهُ عُقَيْلٌ وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ كَمًّا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَخَالَفَهُمْ مَعْمَرٌ فَرَوَاهُ عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ: (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا)، أَيْ: قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: قَضَاءً بَدَلَ فَضْلًا، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَهُوَ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَإِنْ حَدَّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً.
قَوْلُهُ: (فَتَرَكَ دَيْنًا). فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَتَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ هُنَاكَ، إِنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضَّيَاعُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: هُوَ وَصْفٌ لِمَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: تَرَكَ ذَوِي ضَيَاعٍ، أَيِّ لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: كَلًّا
(1)
بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَصْلُهُ الثِّقْلُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِيَالُ.
قَوْلُهُ: (فَلِوَرَثَتِهِ). فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ: فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ،
(1)
ليست هذه الكلمة في روايى المتن الذي بأيدينا، ولهلها في بعض طرق الحديث الأخرى.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَأنَ الَّذِي فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِيُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ فِي حَيَاتِهِمْ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لِئَلَّا تَفُوتَهُمْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَلْ كَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوْ جَائِزَةً؟ وَجْهَانِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ الضَّامِنِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنِ اسْتَدَانَ دَيْنًا غَيْرَ جَائِزٍ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَانَ لِأَمْرٍ هُوَ جَائِزٌ، فَمَا كَانَ يَمْتَنِعُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَوْ كَانَ الْحَالُ مُخْتَلِفًا لَبَيَّنَهُ. نَعَمْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّمَا الظَّالِمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي حُمِلَتْ فِي الْبَغْيِ وَالْإِسْرَافِ، فَأَمَّا الْمُتَعَفِّفُ ذُو الْعِيَالِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ أُؤَدِّي عَنْهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَنْ تَرَكَ ضَيَاعًا الْحَدِيثَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ الْحَازِمِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ كَانَ مُسْتَمِرًّا، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ طَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ السَّبَبُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ، وَفِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَقْضِيهِ مِنْ خَالِصِ نَفْسِهِ، وَهَلْ كَانَ الْقَضَاءُ واجبًا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ: مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ، نَاسِخٌ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَقَوْلُهُ: فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ أَيْ: مِمَّا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ، قَالَ: وَهَكَذَا يَلْزَمُ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ فِي بَيْتِ الْمَالِ يَفِي بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَإِلَّا فَبِقِسْطِهِ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْحَوَالَةِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا طَرِيقَانِ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سِتَّةُ أَحَادِيثَ، وَالسِّتَّةُ الْأُخْرَى خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمِيرَاثِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَمَانِيَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
40 - كِتَاب الْوَكَالَةِ
1 - بَاب وَكَالَةُ الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ فِي الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا
وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا
2299 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتِي نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا.
2300 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ.
[الحديث 2300 - أطرافه في: 2500، 5542، 5555]
قَوْلُه: (كِتَابُ الْوَكَالَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَكَالَةُ الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ فِي الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا). كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدَّمَ غَيْرُهُ الْبَسْمَلَةَ، وَزَادَ وَاوًا، وَلِلنَّسَفِيِّ: كِتَابُ الْوَكَالَةِ. وَوَكَالَةِ الشَّرِيكِ، وَلِغَيْرِهِ: بَابٌ بَدَلَ الْوَاوِ. وَالْوَكَالَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَدْ تُكْسَرُ التَّفْوِيضُ وَالْحِفْظُ، تَقُولُ: وَكَّلْتُ فُلَانًا إِذَا اسْتَحْفَظْتَهُ، وَوَكَلْتَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَوَّضْتَهُ إِلَيْهِ. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ إِقَامَةُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا) هَذَا الْكَلَامُ مُلَفَّقٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الشَّرِكَةِ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ مَضَى فِي الْحَجِّ. ثَانِيهِمَا حَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا طَرَفًا مِنَ الْحَدِيثِ مَوْصُولًا فِي الْأَمْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِجِلَالِ الْبُدْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ هُنَا ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَغَيْرِهَا، أَيْ: وَفِي غَيْرِ الْقِسْمَةِ، فَيُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ. وَالْجِلَالُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ فَإِنَّهُ عُلِمَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ فِي تِلْكَ الْقِسْمَةِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ. وَأَبْدَى ابْنُ الْمُنِيرِ احْتِمَالًا أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَقْسُومِ فِيهِمْ مَا صَارَ إِلَيْهِ فَلَا تُتَّجَهُ الشَّرِكَةُ.
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ سَاقَ الْحَدِيثَ فِي الْأَضَاحِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَفْظِ: أَنَّهُ قَسَمَ بَيْنَهُمْ ضَحَايَا قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَيَّنَ تِلْكَ الْغَنَمَ لِلضَّحَايَا، فَوَهَبَ لَهُمْ جُمْلَتَهَا، ثُمَّ أَمَرَ عُقْبَةَ بِقِسْمَتِهَا، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَمَّا تَرْجَمَ لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَكَالَةُ الشَّرِيكِ جَائِزَةٌ كَمَا تَجُوزُ شَرِكَةُ الْوَكِيلِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَاسْتَدَلَّ الدَّاوُدِيُّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَى جَوَازِ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى رَأْيِ الشَّرِيكِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُعْطِيهِ كَمَا عَيَّنَ لَهُ مَا يُعْطِيهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَفْوِيضٌ.
قَوْلُهُ: (عَتُودٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ: الصَّغِيرُ مِنَ الْمَعْزِ إِذَا قَوِيَ، وَقِيلَ: إِذَا أَتَى عَلَيْهِ
حَوْلٌ، وَقِيلَ: إِذَا قَدَرَ عَلَى السِّفَادِ.
2 - باب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ.
2301 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ: عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ. فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا - وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا - فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَجلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ.
[الحديث 2301 - طرفه في: 2971]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ). أَيْ: إِذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) يَأْتِي تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ آخِرَ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ) أَيْ: كَتَبْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كِتَابًا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَاهَدْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَكَاتَبْتُهُ.
قَوْلُهُ: (بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي) الصَّاغِيَةُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ خَاصَّةُ الرَّجُلِ، مَأْخُوذٌ مِنْ صَغَى إِلَيْهِ إِذَا مَالَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: صَاغِيَةُ الرَّجُلِ كُلُّ مَنْ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: رَوَاهُ الدَّاوُدِيُّ ظَاعِنَتِي بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَسْفُرُ إِلَيْهِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ) أَيْ: لَا أَعْتَرِفُ بِتَوْحِيدِهِ، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ يُسَمِّيهِ عَبْدَ الْإِلَهِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ نَامَ النَّاسُ) أَيْ: رَقَدُوا، وَأَرَادَ بِذَلِكَ اغْتِنَامَ غَفْلَتِهِمْ لِيَصُونَ دَمَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: عَلَيْكُمْ أُمَيَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: هَذَا أُمَيَّةُ.
قَوْلُهُ: (خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ) هُوَ عَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ، سَمَّاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي شَرْحِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَنَذْكُرُ تَسْمِيَةَ مَنْ بَاشَرَ قَتْلَ أُمَيَّةَ، وَمَنْ بَاشَرَ قَتْلَ ابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمَنْ أَصَابَ رِجْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالسَّيْفِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجْهُ أَخْذِ التَّرْجَمَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَّضَ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَهُوَ كَافِرٌ فِي دَارَ الْحَرْبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِهِ، وَالظَّاهِرُ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا، وَتَوْكِيلُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ مُسْلِمًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا) أَيْ: ضَخْمَ الْجُثَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَتَجَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ) بِالْجِيمِ، أَيْ: غَشَوْهُ. كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: أَدْخَلُوا أَسْيَافَهُمْ
خِلَالَهُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ وَطَعَنُوهُ بِهَا مِنْ تَحْتِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَّلْتُهُ بِالرُّمْحِ وَاخْتَلَلْتُهُ إِذَا طَعَنْتُهُ بِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْخَبَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فَتَخَلَّوْهُ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ ثَقِيلَةٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ يُوسُفُ، صَالِحًا، وَإِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ)، كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ.
3 - بَاب الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ وَالْمِيزَانِ.
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ
2302، 2303 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا. وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ وَالْمِيزَانِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الصَّرْفِ جَائِزَةٌ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا يَصْرِفُ لَهُ دَرَاهِمَ، وَوَكَّلَ آخَرَ يَصْرِفُ لَهُ دَنَانِيرَ فَتَلَاقَيَا وَتَصَارَفَا صَرْفًا مُعْتَبَرًا بِشَرْطِهِ جَازَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ) أَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَاهُ آنِيَةً مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فباعها مِنْ يَهُودِيٍّ بِضِعْفِ وَزْنِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْدُدْهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: أَزِيدُكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا إِلَّا بِوَزْنِهِ. وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَتْ لِي عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ دَرَاهِمُ، فَأَصَبْتُ عِنْدَهُ دَنَانِيرَ، فَأَرْسَلَ مَعِي رَسُولًا إِلَى السُّوقِ، فَقَالَ: إِذَا قَامَتْ عَلَى سِعْرٍ فَاعْرِضْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهَا وَإِلَّا فَاشْتَرِ لَهُ حَقَّهُ، ثُمَّ اقْضِهِ إِيَّاهُ. وَإِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ). كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الْجِيمِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ قَبْلَ الْمِيمِ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَعَلَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ: وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ خَطَأٌ.
قَوْلُهُ: (اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ) تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهُ أَنْصَارِيٌّ، وَأَنَّ اسْمَهُ سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ: وَالْمَوْزُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يُبَاعُ رِطْلٌ بِرِطْلَيْنِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَيْ: لَا يَجُوزُ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ التَّمْرَ لَا يُوزَنُ وَهُوَ عَجِيبٌ فَلَعَلَّهُ الثَّمَرُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ لِتَفْوِيضِهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ عَنْهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الصَّرْفُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: بَيْعُ الطَّعَامِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلُ الصَّرْفِ سَوَاءٌ، أَيْ: فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. قَالَ: وَوَجْهُ أَخْذِ الْوَكَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَامِلِ خَيْبَرَ: بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَاعَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، فَنَهَاهُ عَنْ بَيْعِ الرِّبَا، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ.
4 - بَاب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوْ الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ ذَبَحَ أو أَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ
2304 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْ: أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ - وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَاكَ - أَوْ: أَرْسَلَ - فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. تَابَعَهُ عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ.
[الحديث 2304 - أطرافه في: 5501، 5503، 5504]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوِ الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ ذَبَحَ أَوْ أَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ). كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَعَلَيْهِ جَرَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَلِابْنِ شَبَّوَيْهِ: فَأَصْلَحَ بَدَلَ أَوْ أَصْلَحَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: جَازَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ بِحَذْفِ أَوْ فَصَارَ الْجَوَابُ أَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ، وَأَمَّا الْأَصِيلِيُّ فَعِنْدَهُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ ذَبَحَ وَأَصْلَحَ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ. الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ غَرَضُ الْبُخَارِيِّ بِحَدِيثِ الْبَابِ الْكَلَامَ فِي تَحْلِيلِ الذَّبِيحَةِ أَوْ تَحْرِيمِهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ إِسْقَاطُ الضَّمَانِ عَنِ الرَّاعِي وَكَذَا الْوَكِيلُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الَّتِي ذُبِحَتْ كَانَتْ مِلْكًا لِصَاحِبِ الشَّاةِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ أَرَادَ تَضْمِينَهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّضْمِينِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ)، جَزَمَ الْمِزِيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبَدَةُ) أَيِ: ابْنُ سُلَيْمَانَ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ الْعُمَرِيُّ الْمَذْكُورُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَنَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى نَافِعٍ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى مَا اؤتمن عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُ الْخِيَانَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا أَنْزَى عَلَى إِنَاثِ الْمَاشِيَةِ فَحْلًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فَهَلَكَتْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
5 - باب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ
وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
2305 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جمل سِنٌّ مِنْ الْإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.
[الحديث 2305 - أطرافه في: 2306، 2390، 2393، 2401، 2606، 2609]
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (وَكَالَةُ الشَّاهِدِ) أَيِ: الْحَاضِرُ (وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَخَذَ الْجُمْهُورُ بِجَوَازِ تَوْكِيلِ الْحَاضِرِ بِالْبَلَدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا بِعُذْرٍ: مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، أَوْ بِرِضَا الْخَصْمِ، وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَصْمِ عَدَاوَةٌ، وَقَدْ بَالَغَ الطَّحَاوِيُّ فِي نُصْرَةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْجَوَازِ حَدِيثَ الْبَابِ، قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الْحَاضِرِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، قَالَ: وَوَكَالَةُ الْغَائِبِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى قَبُولِ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى قَبُولٍ فَحُكْمُ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنُ الْعَاصِ (إِلَى قَهْرَمَانِهِ) أَيْ: خَازِنُهُ الْقَيِّمُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ الْوَكِيلُ، وَاللَّفْظَةُ فَارِسِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَهْلِهِ) أَيْ: زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْقَهْرَمَانِ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَلُ سِنٍّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ. الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ لِوَكَالَةِ الْحَاضِرِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا الْغَائِبُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ إِذَا جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَجَوَازُهُ لِلْغَائِبِ عَنْهُ أَوْلَى لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَفْظُ أَعْطُوهُ يَتَنَاوَلُ وُكَلَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُضُورًا وَغَيْبًا.
6 - بَاب الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ
2306 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا. ثُمَّ قَالَ: أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَكَالَةِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: قَالَ: أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ. كَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ حَذْفٌ يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ إِلَّا أَمْثَلَ. . . إِلَخْ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِقْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ رُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ امْتَنَعَتِ الْوَكَالَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا تَأْخِيرٌ مِنَ الْمُوَكِّلِ إِلَى الْوَكِيلِ فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مَطْلًا.
7 - بَاب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَصِيبِي لَكُمْ
2307، 2308 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، فقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ - وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ
بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ - فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ.
فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.
[الحديث 2307 - أطرافه في: 2539، 2584، 2607، 3131، 4318، 7176]
[الحديث 2308 - أطرافه في: 2040، 2583، 3123، 4319، 7177]
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ)، يَجُوزُ فِي وَكِيلٍ التَّنْوِينُ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لِوَكِيلِ قَوْمٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَصِيبِي لَكُمْ). وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هُنَا حَدِيثَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي قِصَّةِ وَفْدِ هَوَازِنَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ. الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ الْوَفْدُ رُسُلًا مِنْ هَوَازِنَ، وَكَانُوا وُكَلَاءَ وَشُفَعَاءَ فِي رَدِّ سَبْيِهِمْ، فَشَفَّعَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ، فَإِذَا طَلَبَ الْوَكِيلُ أَوِ الشَّفِيعُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فَأُعْطِيَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّ الْعُرَفَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ فِيمَا أُقِيمُوا لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ بِالْحَاكِمِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْعُرَفَاءَ لَيْسُوا وُكَلَاءَ، وَإِنَّمَا هُمْ كَالْأُمَرَاءِ عَلَيْهِمْ، فَقَبُولُ قَوْلِهِمْ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ قَوْلِ الْحَاكِمِ فِي حقِّ مَنْ هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لِقَوْلِهِ: حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْوَفْدِ وَهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا شُفَعَاءَ فِي قَوْمِهِمْ: نَصِيبِي لَكُمْ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْمَوْهِبَةَ وَقَعَتْ لِلْوَسَائِطِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ تَكَلَّمُوا بِسَبَبِهِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأُمُورَ تَنْزِلُ عَلَى الْمَقَاصِدِ لَا عَلَى الصُّوَرِ، وَأَنَّ مَنْ شَفَعَ لِغَيْرِهِ فِي هِبَةٍ، فَقَالَ: الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ لِلشَّفِيعِ قَدْ وَهَبْتُكَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَيَخُصَّ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، بَلِ الْهِبَةُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ وَكَّلَ عَلَى شِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَوَى نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ. انْتَهَى. وَهَذَا قَالَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ.
8 - بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي، فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ
2309 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَغَيْرِهِ - يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّه، وَرَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ، إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ، قَالَ: أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَعْطِنِيهِ، فَأَعْطَيْتُهُ فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ. قَالَ: بِعْنِيهِ، فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً قَدْ خَلَا مِنْهَا، قَالَ: فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ أَبِي تُوُفِّيَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً قَدْ جَرَّبَتْ خَلَا مِنْهَا، قَالَ: فَذَلِكَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: يَا بِلَالُ، اقْضِهِ وَزِدْهُ. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَزَادَهُ قِيرَاطًا. قَالَ جَابِرٌ: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَكُنْ الْقِيرَاطُ يُفَارِقُ جِرَابَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ) أَيْ: فَهُوَ جَائِزٌ، فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ بَيْعِهِ الْجَمَلَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ.
وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: يَا بِلَالُ، اقْضِهِ وَزِدْهُ. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَزَادَهُ قِيرَاطًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يُعْطِيهِ عِنْدَ أَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الزِّيَادَةِ، فَاعْتَمَدَ بِلَالٌ عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ فَزَادَهُ قِيرَاطًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ). كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، أَيْ: لَيْسَ جَمِيعُ الْحَدِيثِ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ: لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُمْ، رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَعَلَيْهِ شَرَحَ ابْنُ التِّينِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَيْنَ جَابِرٍ فِيهِ وَاسِطَةً. وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ عَنْ جَابِرٍ وَمِثْلُهُ لِلْحُمَيْدِيِّ فِي جَمْعِهِ، وَبِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ فِي نُسْخَتِهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: لَمْ يُبِلِّغْهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ: يَزِيدُ بَعْضُهُمْ الضَّمِيرُ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى الْغَيْرِ، وَفِي: لَمْ يُبَلِّغْهُ إِلَى الْحَدِيثِ أَوِ الرَّسُولِ، ورَجُلٌ بَدَلٌ مِنْ كُلٍّ. قُلْتُ: الضَّمِيرُ لِلْحِدِّيثِ جَزْمًا لَا لِلرَّسُولِ؛ لِأَنَّ السَّنَدَ مُتَّصِلٌ. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَةُ: وَغَيْرِهِ بِالْجَرِّ، وَأَمَّا رَفْعُهُ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ ويَزِيدُ خَبَرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ فَاعِلَ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ لِيُبَلِّغَهُ، وَعَلَى التَّقَادِيرِ لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مِنَ التَّعَجْرُفِ.
قُلْتُ: إِنَّمَا جَاءَ التَّعَجْرُفُ مِنْ عَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ غَيْرِ عَطَاءٍ كُلُّهُمْ عَنْ جَابِرٍ، لَكِنَّهُ عِنْدَهُ عَنْهُمْ بِالتَّوْزِيعِ: رَوَى عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ قِطْعَةً مِنَ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ رَجُلٌ أَيْ: لَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، فَهُوَ بَيَانٌ مِنْهُ لِصُورَةِ تَحَمُّلِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا لَكِنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ: نَفَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ، فَأَيُّ تَعَجْرُفٍ فِي هَذَا؟ وَالْعَجَبُ مِنْ شَارِحٍ تَرَكَ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي لَا قَلَقَ فِي تَرْكِيبِهَا وَتَشَاغَلَ بِتَجْوِيزِ شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ فِي
الرِّوَايَةِ، ثُمَّ يُطْلِقُ عَلَى الْجَمِيعِ التَّعَجْرُفَ، أَفَهَذَا شَارِحٌ أَوْ جَارِحٌ؟ وَوَقَفْتُ مِنْ تَسْمِيَةِ مَنْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ عَلَى أَبِي الزُّبَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ خَفِيفَةٌ هُوَ الْبَعِيرُ الْبَطِيءُ السَّيْرِ، يُقَالُ: ثَفَالٌ وَثَفِيلٌ، وَأَمَّا الثِّفَالُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ فَهُوَ مَا يُوضَعُ تَحْتَ الرَّحَى لِيَنْزِلَ عَلَيْهِ الدَّقِيقُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَنْ ضَبَطَ الثَّفَالَ الَّذِي هُوَ الْبَعِيرُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَقَوْلُهُ: أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَذَكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ بِلَفْظِ: أَرْبَعُ الدَّنَانِيرِ وَقَالَ: سَقَطَتِ الْهَاءُ لَمَّا دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَكُنِ الْقِيرَاطُ يُفَارِقُ قِرَابَ جَابِرٍ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ بِقَافٍ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: يَعْنِي: خَرِيطَتَهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قِرَابُ سَيْفِهِ، وَأَنَّ الْخَرِيطَةَ لَا يُقَالُ لَهَا قِرَابٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ جِرَابٌ، فَهُوَ الَّذِي حَمَلَ الدَّاوُدِيَّ عَلَى تَأْوِيلِهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَأَخَذَهُ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَيِّنْ قَدْرَ الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَزِدْهُ، فَاعْتَمَدَ بِلَالٌ عَلَى الْعُرْفِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى قِيرَاطٍ، فَلَوْ زَادَ مَثَلًا دِينَارًا لَتَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ الزِّيَادَةِ لَكِنَّ الْعُرْفَ يَأْبَاهُ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِي ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي زِيَادَتِهِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي زِيدَ عَلَيْهِ كَأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مَنْ يَأْمُرُ لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى كُلِّ دِينَارٍ رُبْعَ قِيرَاطٍ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ فِي ذَلِكَ بِالنَّصِّ لَا بِالْعُرْفِ.
9 - بَاب وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الْإِمَامَ فِي النِّكَاحِ
2310 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ.
[الحديث 2310 - أطرافه في: 5029، 5030، 5087، 5121، 5126، 5132، 5135، 5141، 5149، 5150، 5871، 7417]
قَوْلُهُ: (بَابُ وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الْإِمَامَ فِي النِّكَاحِ) أَيْ: تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ. وَالْإِمَامُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الدَّاوُدِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَهَا وَلَا أَنَّهَا وَكَّلَتْهُ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا الرَّجُلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ نَفْسِي فَفَوَّضَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ الَّذِي خَطَبَهَا: زَوِّجْنِيهَا فَلَمْ تُنْكِرْ هِيَ ذَلِكَ، بَلِ اسْتَمَرَّتْ عَلَى الرِّضَا، فَكَأَنَّهَا فَوَّضَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ رَأَى، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إِنِّي وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي وَخَلَتْ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ لَفْظِ مِنْ، فَقَالَ النَّوَوِيُّ: قوْلُ الْفُقَهَاءِ وَهَبْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا مِمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ مَرْدُودٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ مِنَ النُّحَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَائِيَّةً، وَهُنَاكَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: طَيِّبَةً مَثَلًا.
10 - بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ
فَهُوَ جَائِزٌ
وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ
2311 -
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَعل يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، إنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ.
قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُن؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ.
[الحديث 2311 - طرفه في: 3275، 5010]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَكَّلَ رَجُلًا فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِهِ زَكَاةُ رَمَضَانَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَفْهُومُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: وإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ أَيْ: إِنْ أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ أَيْضًا، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ إِذَا أَقْرَضَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ.
قَالَ: وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِطَرِيقِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ مَجْمُوعًا لِلصَّدَقَةِ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَهُ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ، وَإِخْرَاجُهُ كَانَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، فَلَمَّا شَكَا السَّارِقُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ الْحَاجَةَ تَرَكَهُ، فَكَأَنَّهُ أَسْلَفَهُ لَهُ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْهَلَهُ إِلَى أَنْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ)، هَكَذَا أَوْرَدَ
الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا وَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَأَعَادَهُ كَذَلِكَ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ، وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ إِلَى عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ، وَذَكَرْتُهُ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُنِيبٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَلَّامٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيِّ، وَهِلَالِ بْنِ بِشْرٍ الصَّوَّافِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: تِمْتَامٌ، وَأَقْرَبُهُمْ لِأَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَهُ عَنْهُ - إِنْ كَانَ مَا سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ الْهَيْثَمِ - هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ، فَإِنَّهُ مِنْ شُيُوخِهِ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي جَزْءِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَخْرَجَهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الرُّويَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو) بِإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، يُقَالُ: حَثَا يَحْثُو وَحَثَى يَحْثِي، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَانَ عَلَى تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَوَجَدَ أَثَرَ كَفٍّ كَأَنَّهُ قَدْ أُخِذُ مِنْهُ. وَلِابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا التَّمْرُ قَدْ أُخِذَ مِنْهُ مِلْءُ كَفٍّ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذْتُهُ). زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَهُ، فَقُلْ: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكَ لِمُحَمَّدٍ، قَالَ: فَقُلْتُهَا فَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْ فَأَخَذْتُهُ.
قَوْلُهُ: (لَأَرْفَعَنَّكَ) أَيْ: لَأَذْهَبَنَّ بِكَ أَشْكُوكَ، يُقَالُ: رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا أَحْضَرَهُ لِلشَّكْوَى.
قَوْلُهُ: (إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ) أَيْ: نَفَقَةُ عِيَالٍ أَوْ عَلَيَّ بِمَعْنَى لِي، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنَ الْجِنِّ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَلَا أَعُودُ.
قَوْلُهُ: (وَلِي حَاجَةٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَبِي حَاجَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَرَصَدْتُهُ) أَيْ: رَقَبْتُهُ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: فَجَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمُكَ). فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: خَلِّ عَنِّي.
قَوْلُهُ: (يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: إِذَا قُلْتَهُنَّ لَمْ يَقْرُبْكَ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى مِنَ الْجِنِّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَا يَقْرُبُكَ مِنَ الْجِنِّ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: مَا هُنَّ؟) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا هُوَ؟ أَيِ: الْكَلَامُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: قُلْتُ: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ). فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ.
قَوْلُهُ: (آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَخَاتِمَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {آمَنَ الرَّسُولُ} إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: ضَمَّ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمْرَ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ أَجِدُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ نُقْصَانًا، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: هُوَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ فَارْصُدْهُ، فَرَصَدْتُهُ فَأَقْبَلَ فِي صُورَةِ فِيلٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ دَخَلَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ، فَدَنَا مِنَ التَّمْرِ فَجَعَلَ يَلْتَقِمُهُ، فَشَدَدْتُ عَلَي ثِيَابِي فَتَوَسَّطْتُهُ. وَفِي رِوَايَةِ الرُّويَانِيِّ: فَأَخَذْتُهُ فَالْتَفَّتْ يَدِي عَلَى وَسَطِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَثَبْتَ إِلَى تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَخَذْتَهُ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ، لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَفْضَحُكَ. وَفِي رِوَايَةِ الرُّويَانِيِّ: مَا أَدْخَلَكَ بَيْتِي تَأْكُلُ التَّمْرَ؟ قَالَ: أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ، وَمَا أَتَيْتُكَ إِلَّا مِنْ نَصِيبِينَ، وَلَوْ أَصَبْتَ شَيْئًا دُونَهُ مَا أَتَيْتُكَ، وَلَقَدْ كُنَّا فِي مَدِينَتِكُمْ هَذِهِ حَتَّى بُعِثَ صَاحِبُكُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ تَفَرَّقْنَا مِنْهَا، فَإِنْ خَلَّيْتَ سَبِيلِي عَلَّمْتُكَهُمَا. قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ} إِلَى آخِرِهَا.
قَوْلُهُ: (لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمْ يَزَلْ، وَوَقَعَ عَكْسُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ، وَهُوَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ) أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ
اللَّهِ أَوْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْرَبُكَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانُوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ (أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: وَكُنَّا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مَسُوقٌ لِلِاعْتِذَارِ عَنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حِرْصًا عَلَى تَعْلِيمِ مَا يَنْفَعُ.
قَوْلُهُ: (صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ) فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: صَدَقَ الْخَبِيثُ وَهُوَ كَذُوبٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ: أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مُذْ ثَلَاثٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مُنْذُ ثَلَاثٍ.
قَوْلُهُ: (ذَاكَ شَيْطَانٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، أَيْ: شَيْطَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَوَقَعَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذَّهَبِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قِصَصٌ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُشْبِهُ قِصَّةَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا قِصَّةَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَدُّدِ، فَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدُهُ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْهَ الْغُلَامِ الْمُحْتَلِمِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَجِنِّيٌّ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: بَلْ جِنِّيٌّ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ وَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ: فَمَا الَّذِي يَجْبُرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الآيةُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقَ الْخَبِيثُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ - أَيْ: بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ الصُّفَّةُ - فِيهَا تَمْرٌ، وَكَانَتِ الْغُولُ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَهَا فَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَتْ: إِنِّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئًا آيَةَ الْكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلَا غَيْرُهُ.
الْحَدِيثُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ تَمْرَ حَائِطِهِ جَعَلَهَا فِي غُرْفَةٍ، وَكَانَتِ الْغُولُ تُخَالِفُهُ فَتَسْرِقُ تَمْرَهُ وَتُفْسِدُهُ عَلَيْهِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ سَوَاءٌ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَدُلُّكَ عَلَى آيَةٍ تَقْرَؤُهَا فِي بَيْتِكَ فَلَا يُخَالَفُ إِلَى أَهْلِكَ، وَتَقْرَؤُهَا عَلَى إِنَائِكَ فَلَا يُكْشَفُ غِطَاؤُهُ وَهِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ حَلَّتِ اسْتَهَا فَضَرَطَتْ، الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حَائِطِهِ فَسَمِعَ جَلَبَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، أَصَابَتْنَا السَّنَةُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنْ ثِمَارِكُمْ. قَالَ لَهُ: فَمَا الَّذِي يُعِيذُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ كَذُوبٌ) مِنَ التَّتْمِيمِ الْبَلِيغِ الْغَايَةِ فِي الْحُسْنِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الصِّدْقَ، فَأَوْهَمَ لَهُ صِفَةَ الْمَدْحِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ كَذُوبٌ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَعْلَمُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ قَدْ يَتَلَقَّاهَا الْفَاجِرُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَتُؤْخَذُ عَنْهُ فَيَنْتَفِعُ بِهَا، وَأَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَصْدُقُ بِبَعْضِ مَا يَصْدُقُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا، وَبِأَنَّ الْكَذَّابَ قَدْ يَصْدُقُ، وَبِأَنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكْذِبَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَتُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ مَنْ أُقِيمَ فِي حِفْظِ شَيْءٍ سُمِّيَ وَكِيلًا، وَأَنَّ الْجِنَّ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ، وَأَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ لِلْإِنْسِ لَكِنْ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الْإِنْسِ، وَأَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَيَخْدَعُونَ، وَفِيهِ فَضْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَفَضْلُ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُصِيبُونَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ السَّارِقَ لَا يُقْطَعُ فِي الْمَجَاعَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمَسْرُوقُ لَمْ يَبْلُغِ النِّصَابَ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ تَبْلِيغِهِ إِلَى الشَّارِعِ. وَفِيهِ قَبُولُ الْعُذْرِ وَالسَّتْرِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ الصِّدْقُ. وَفِيهِ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ جَمْعِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ لَيْلَةِ الْفِطْرِ
وَتَوْكِيلِ الْبَعْضِ لِحِفْظِهَا وَتَفْرِقَتِهَا.
11 - بَاب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ
2312 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ - هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ -، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بهِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالرَّدِّ بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَقَالَ: هَذَا الرِّبَا فَرُدَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَفِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْأَمْرُ بِالرَّدِّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، وَمَرَّةً وَقَعَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالرَّدِّ وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْعِلْمِ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ فِي إِحْدَى الْقِصَّتَيْنِ، سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ عَامِلُ خَيْبَرَ، وَفِي الْأُخْرَى بِلَالٌ.
وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: كَانَ عِنْدِي تَمْرٌ دُونٌ، فَابْتَعْتُ مِنْهُ تَمْرًا أَجْوَدَ مِنْهُ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا الرِّبَا بِعَيْنِهِ، انْطَلِقْ فَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَخُذْ تَمْرَكَ وَبِعْهُ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ مِنْ هَذَا التَّمْرِ ثُمَّ جِئْنِي بِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَجَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ ابْنَ رَاهْوَيْهِ تَغَايُرُ السِّيَاقَيْنِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، فَهُنَا قَالَ إِسْحَاقُ:، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَمِنْ عَادَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْ مَشَايِخِهِ بِالْإِخْبَارِ لَا التَّحْدِيثِ. وَوَقَعَ هُنَا: عَنْ يَحْيَى، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْمُغَايَرَةُ فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: (جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرِ بَرْنِيٍّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ مَعْرُوفٌ، قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ تَمْرَةٍ تُشْبِهُ الْبَرْنِيَّةَ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا: خَيْرُ تَمَرَاتِكُمُ الْبَرْنِيُّ، يُذْهِبُ الدَّاءَ وَلَا دَاءَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ عِنْدِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عِنْدَنَا.
قَوْلُهُ: (رَدِيءٌ) بِالْهَمْزَةِ وَزْنَ عَظِيمٍ.
قَوْلُهُ: (لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ، وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَالْعَيْنُ مَفْتُوحَةٌ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمِيمِ.
قَوْلُهُ: (أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا)، كَذَا فِيهِ بِالتَّكْرَارِ مَرَّتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمُرَادُهُ بِعَيْنِ الرِّبَا نَفْسُهُ، وَقَوْلُهُ: أَوَّهْ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ التَّوَجُّعِ وَهِيَ مُشَدَّدَةُ الْوَاوِ مَفْتُوحَةٌ، وَقَدْ تُكْسَرُ وَالْهَاءُ سَاكِنَةٌ، وَرُبَّمَا حَذَفُوهَا، وَيُقَالُ: بِسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ مَدَّ الْهَمْزَةِ بَدَلَ التَّشْدِيدِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا تَأَوَّهَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَقَالَهُ إِمَّا لِلتَّأَلُّمِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ
وَإِمَّا مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ.
قَوْلُهُ: (فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ). فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ، وَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الْمُرَادُ بِهِ التَّمْرُ الرَّدِيءُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى التَّمْرِ، أَيْ: بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: اشْتَرِ بِهِ تَمْرًا جَيِّدًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَالْمُرَادُ بِالتَّمْرِ الْجَيِّدُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اشْتَرِهِ لِلْجَيِّدِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْبَحْثُ عَمَّا يَسْتَرِيبُ بِهِ الشَّخْصُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ. وَفِيهِ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ. وَاهْتِمَامُ الْإِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ وَتَعْلِيمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَإِرْشَادُهُ إِلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُبَاحَاتِ وَغَيْرِهَا، وَاهْتِمَامُ التَّابِعِ بِأَمْرِ مَتْبُوعِهِ، وَانْتِقَاءُ الْجَيِّدِ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِهَا. وَفِيهِ أَنَّ صَفْقَةَ الرِّبَا لَا تَصِحُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ.
12 - بَاب الْوَكَالَةِ فِي الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ
2313 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ فِي صَدَقَةِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَيْسَ عَلَى الْوَلِيِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ، يُهْدِي لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ) ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ عُمَرَ فِي وَقْفِهِ مُخْتَصَرَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ.
قَوْلُهُ: (فِي صَدَقَةِ عُمَرَ) أَيْ: فِي رِوَايَتِهِ لَهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا جَزَمَ بِذَلِكَ الْمِزِيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَيُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: غَيْرَ جَامِعٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُهْدِي مِنْهُ أَخَذًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ صَدِيقَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا يُطْعِمُهُمْ مِنْ نَصِيبِهِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَكَانَ يُوَفِّرُهُ لِيُهْدِيَ لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: فِي صَدَقَةٍ عُمَرُ صَدَقَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَعُمَرُ فَاعِلٌ، قَالَ: وَهُوَ بِصُورَةِ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي: - عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ - لَمْ يَذْكُرْ عُمَرَ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْإِضَافَةِ أَيْ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي وَقْفِ عُمَرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَخِيرَةِ غَلَطٌ، وَقَوْلُهُ: صَدَقَةٍ بِالتَّنْوِينِ غَلَطٌ مَحْضٌ، وَصَدَقَةُ عُمَرَ بِالْإِضَافَةِ هِيَ الَّتِي عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ حَكَى عَنْ صَدَقَةِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى صَنِيعِ ابْنِ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ حَمَلَ مَا ذَكَرَهُ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ الْخَيْرُ مَوْصُولًا بِهَذَا التَّقْرِيرِ، وَبِهَذَا تَرْجَمَ الْمِزِيُّ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ: عَمْرُو بْنَ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا السَّنَدِ.
قَوْلُهُ: (لِنَاسٍ) بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُمْ آلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَخَذَ عُمَرُ شَرْطَ وَقْفِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْمَعْرُوفُ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
13 - بَاب الْوَكَالَةِ فِي الْحُدُودِ
2314، 2315 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا.
[الحديث 2314 - أطرافه في: 2649، 2696، 2125، 6634، 6828، 6831، 6386، 6843، 6860، 7194، 7259، 7279]
[الحديث 2315 - أطرافه في: 2695، 2724، 6633، 6827، 6835، 6842، 6859، 7193، 7193، 7258، 7528، 7260، 7278]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْحُدُودِ). أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ مُقْتَصِرًا مِنْهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2316 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَّامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ - أَوْ ابْنِ النُّعَيْمَانِ - شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوه، قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ.
[الحديث 2316 - طرفاه في: 6774، 6775]
قَوْلُهُ: (جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ) بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْلُهُ: (أَوِ ابْنِ النُّعْمَانِ)، هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةٍ: جِيءَ بِنُعْمَانَ أَوْ نُعَيْمَانَ فَشَكَّ هَلْ هُوَ بِالتَّكْبِيرِ أَوِ التَّصْغِيرِ، وَيَأْتِي مِثْلُهَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. وَفِي رِوَايَةِ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: جِئْتُ بِالنُّعَيْمَانِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الَّذِي أَحْضَرَ النُّعَيْمَانَ، وَأَنَّهُ النُّعَيْمَانُ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: النُّعَيْمَانُ يُصِيبُ الشَّرَابَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ، وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ السُّلَمِيِّ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ يُقَالُ لَهُ: نُعَيْمَانُ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ النُّعَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيُّ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ مَزَّاحًا.
قَوْلُهُ: (شَارِبًا) سَيَأْتِي فِي الْحُدُودِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ سَكْرَانُ. وَزَادَ فِيهِ: فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَمَّا لَمْ يَتَوَلَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ، وَوَلَّاهُ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِهِ لَهُمْ فِي إِقَامَتِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ لَا يُسْتَأْنَى بِهِ الْإِفَاقَةُ كَحَدِّ الْحَامِلِ لِتَضَعَ الْحَمْلَ.
14 - بَاب الْوَكَالَةِ فِي الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا
2317 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي فَتْلِهَا الْقَلَائِدَ وَتَقْلِيدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا بِيَدَيْهِ
وَبَعَثِهِ إِيَّاهَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ فِي الْبُدْنِ، وَأَمَّا تَعَاهُدُهَا فَلَعَلَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا بِنَفْسِهِ حَتَّى قَلَّدَهَا بِيَدَيْهِ، فَمِنْ شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَعْتَنِيَ بِمَا اعْتَنَى بِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ.
15 - بَاب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. وَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ
2318 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. فَلَمَّا نَزَلَتْ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ مَالِكٍ: رَابِحٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، وَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ) أَيْ: فَوَضَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ جَازَ. فِيهِ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ صَدَقَةِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا صَدَقَةُ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا وَضَعَهَا بِنَفْسِهِ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِيهِ تَقْرِيرُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ.
قَوْلُهُ: (أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) مَضْبُوطٌ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ فِيهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ، أَيِ: افْعَلْ ذَلِكَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَأَنَّ السِّيَاقَ يَأْبَاهُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ) يَأْتِي مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَوْحٌ، عَنْ مَالِكٍ: رَابِحٌ) يَعْنِي: أَنَّ رُوحَ بْنَ عُبَادَةَ وَافَقَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَرِوَايَتُهُ الْمَذْكُورَةُ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ ضَبْطُ بَيْرُحَاءَ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
16 - بَاب وَكَالَةِ الْأَمِينِ فِي الْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا
2319 -
حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِقُ - وَرُبَّمَا قَالَ: الَّذِي يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا
مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَكَالَةِ الْأَمِينِ فِي الْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي الْخَازِنِ الْأَمِينِ، وَقَدْ سَبَقَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَذَكَرَ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى فِي أَوَّلِ الْإِجَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْوَكَالَةِ عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَتْلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَحَدِيثِ وَفْدِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقَيْهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ النُّعَيْمَانِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سِتَّةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.