المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌41 - كِتَاب الحرث والْمُزَارَعَةِ ‌ ‌1 - بَاب - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ٥

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌41 - كِتَاب الحرث والْمُزَارَعَةِ

‌1 - بَاب فَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ.

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}

2320 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ح.

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا من مُسْلِمٍ يغرس غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2320 - طرفه في: 6012]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ - بَابُ فَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الْآيَةَ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، إِلَّا أَنَّهُمَا أَخَّرَا الْبَسْمَلَةَ، وَزَادَ النَّسَفِيُّ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحَرْثِ وَالْمُزَارَعَةِ وَفَضْلِ الزَّرْعِ إِلَخْ وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَمِثْلُهُ لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِلَّا أَنَّهُمَا حَذَفَا لَفْظَ: كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلِلْمُسْتَمْلِي: كِتَابُ الْحَرْثِ وَقَدَّمَ الْحَمَوِيُّ الْبَسْمَلَةَ وَقَالَ: فِي الْحَرْثِ بَدَلَ كِتَابِ الْحَرْثِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الزَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الِامْتِنَانِ بِهِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ بِالْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى إِبَاحَةِ الزَّرْعِ، وَأَنَّ مَنْ نَهَى عَنْهُ كَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ فَمَحَلُّهُ مَا إِذَا شَغَلَ الْحَرْثُ عَنِ الْحَرْبِ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَطْلُوبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَالْمُزَارَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزَّرْعِ وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهَا بَعْدَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ إِلَخْ) أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخَيْنِ حَدَّثَهُ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَلَمْ أَرَ فِي سِيَاقِهِمَا اخْتِلَافًا، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَحْدَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْهُمَا.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ) أَخْرَجَ الْكَافِرَ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ كَوْنَ مَا أُكِلَ مِنْهُ يَكُونُ لَهُ صَدَقَةً، وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، نَعَمْ مَا أُكِلَ مِنْ زَرْعِ الْكَافِرِ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يُرْزَقْ فِي الدُّنْيَا وَفَقَدَ الْعَافِيَةَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَزْرَعُ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّ الزَّرْعَ غَيْرُ الْغَرْسِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُسْلِمٌ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبَانُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَالْبُخَارِيُّ لَا يُخَرِّجُ لَهُ إِلَّا اسْتِشْهَادًا، وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا مَوْصُولًا إِلَّا هَذَا، وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَا يُخَرِّجُ لَهُ إِلَّا اسْتِشْهَادًا. وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي الرِّقَاقِ.

قَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ:، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَهِيَ: قَالَ لَنَا يَسْتَعْمِلُهَا الْبُخَارِيُّ - عَلَى مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ كِتَابِهِ - فِي الِاسْتِشْهَادَاتِ غَالِبًا، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي الْمَوْقُوفَاتِ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ هُنَا إِسْنَادَ أَبَانَ وَلَمْ يَسُقْ مَتْنَهُ، لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْهُ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ:

ص: 3

إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نَخْلًا لِأُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ، أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟ فَقَالُوا: مُسْلِمٌ، قَالَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ.

فَأَحَالَ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَبَاقِيهِ: فَقَالَ: لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ طُرُقٍ مِنْهَا بِلَفْظِ: سَبُعٌ بَدَلَ بَهِيمَةٍ، وَفِيهَا: إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً فِيهَا أَجْرٌ وَمِنْهَا أُمِّ مُبَشِّرٍ أَوْ أُمِّ مَعْبَدٍ عَلَى الشَّكِّ، وَفِي أُخْرَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِي أُخْرَى امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَهِيَ وَاحِدَةٌ لَهَا كُنْيَتَانِ وَقِيلَ: اسْمُهَا خُلَيْدَةُ، وَفِي أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالْحَضُّ عَلَى عِمَارَةِ الْأَرْضِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ اتِّخَاذُ الضَّيْعَةِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا. وَفِيهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَزَهِّدَةِ. وَحُمِلَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا شَغَلَ عَنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا الْحَدِيثَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ بِحَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ عَنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَحَمْلَ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى اتِّخَاذِهَا لِلْكَفَافِ أَوْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَتَحْصِيلِ ثَوَابِهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَ الْغَرْسُ أَوِ الزَّرْعُ مَأْكُولًا مِنْهُ وَلَوْ مَاتَ زَارِعُهُ أَوْ غَارِسُهُ وَلَوِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لِمُتَعَاطِي الزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ وَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ ثُمَّ سَأَلَهَا عَمَّنْ غَرْسَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: نَكَّرَ مُسْلِمًا وَأَوْقَعَهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَزَادَ مِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةَ وَعَمَّ الْحَيَوَانَ لِيَدُلَّ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَلَى أَنَّ أَيَّ مُسْلِمٍ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا يَعْمَلُ أَيَّ عَمَلٍ مِنَ الْمُبَاحِ يَنْتَفِعُ بِمَا عَمِلَهُ أَيُّ حَيَوَانٍ كَانَ؛ يَرْجِعُ نَفْعُهُ إِلَيْهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ.

وَفِيهِ جَوَازُ نِسْبَةِ الزَّرْعِ إِلَى الْآدَمِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ حَدِيثٌ غَيْرُ قَوِيٍّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: زَرَعْتُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: حَرَثْتُ، أَلَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيَّ قَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ بِمِثْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرِ مَرْفُوعٍ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُهَلَّبُ أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ كَانَ الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، وَفِي أَخْذِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بُعْدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَفْضَلِ الْمَكَاسِبِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

‌2 - بَاب مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الِاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ

2321 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ - وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ - سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ. قَالَ محمد: وَاسْمُ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الِاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ) هَكَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ، وَلِابْنِ شَبَّوَيْهِ أَوْ تَجَاوَزَ وَلِلنَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ جَاوَزَ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِّ مَا شُرِعَ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ) هُوَ الْحِمْصِيُّ يُكْنَى أَبَا يُوسُفَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِشَيْخِهِ فِي هَذَا الصَّحِيحِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ،

ص: 4

وَالْأَلْهَانِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ شَامِيُّونَ وَكُلُّهُمْ حِمْصِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ.

قَوْلُهُ: (سِكَّةً) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا الْأَرْضُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا دَخَلَهُ الذُّلُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَذْكُورَةِ: إِلَّا أَدْخَلُوا عَلَى أَنْفُسَهُمْ ذُلًّا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ الَّتِي تُطَالِبُهُمْ بِهَا الْوُلَاةُ، وَكَانَ الْعَمَلُ فِي الْأَرَاضِي أَوَّلَ مَا افْتُتِحَتْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَكْرَهُونَ تَعَاطِيَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا مِنْ إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُغَيَّبَاتِ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَ الْآنَ أَنَّ أَكْثَرَ الظُّلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْثِ.

وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَالْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي فَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنَ الذَّمِّ عَلَى عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ فَضَيَّعَ بِسَبَبِهِ مَا أُمِرَ بِحِفْظِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُضَيِّعْ إِلَّا أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ فِيهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ أَبِي أُمَامَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، أَمَّا مَنْ لَهُ عُمَّالٌ يَعْمَلُونَ لَهُ وَأَدْخَلَ دَارَهُ الْآلَةَ الْمَذْكُورَةَ لِتُحْفَظَ لَهُمْ فَلَيْسَ مُرَادًا، وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الذُّلَّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَسْتَلْزِمُ مُطَالَبَةَ آخَرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُطَالِبُ مِنَ الْوُلَاةِ.

وَعَنِ الدَّاوُدِيِّ هَذَا لِمَنْ يَقْرُبُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالْحَرْثِ لَا يَشْتَغِلُ بِالْفُرُوسِيَّةِ فَيَتَأَسَّدُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، فَحَقُّهُمْ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالْفُرُوسِيَّةِ وَعَلَى غَيْرِهِمْ إِمْدَادُهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اسْمُ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ إِلَخْ) كَذَا وَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لِأَبِي أُمَامَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثٍ آخَرَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْجِهَادِ مِنْ قَوْلِهِ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ

2322 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: من أمسك كَلْبًا فإنه يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو صَالِحٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ.

[الحديث 2322 - طرفه في: 3324]

2323 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ - رَجُلً مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِي وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ"

[الحديث 2323 - طرفه في: 3325]

قَوْلُهُ: (بَابُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ) الِاقْتِنَاءُ بِالْقَافِ افْتِعَالٌ مِنَ الْقِنْيَةِ بِالْكَسْرِ وَهِيَ الِاتِّخَاذُ؛ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ

ص: 5

الْبُخَارِيُّ إِبَاحَةَ الْحَرْثِ بِدَلِيلِ إِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ الْمَنْهِيِّ عَنِ اتِّخَاذِهَا لِأَجْلِ الْحَرْثِ، فَإِذَا رُخِّصَ مِنْ أَجْلِ الْحَرْثِ فِي الْمَمْنُوعِ مِنِ اتِّخَاذِهِ كَانَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَمُفَسِّرٌ لِلْإِمْسَاكِ الَّذِي هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ: مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ كَلْبَ صَيْدٍ وَلَا مَاشِيَةٍ وَلَا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ، فَأَمَّا زِيَادَةُ الزَّرْعِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ. فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ.

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى تَثْبِيتِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّ سَبَبَ حِفْظِهِ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ دُونَهُ أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ دُونَهُ، وَمَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِشَيْءٍ احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفِ أَحْكَامِهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا الْحَدِيثَ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ، وَأَصْلُهُ لِلْبُخَارِيِّ فِي الصَّيْدِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى ذِكْرِ الزَّرْعِ سُفْيَانُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ كَمَا تَرَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ مَاشِيَةٍ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّرْدِيدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ)، أَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ فَوَصَلَهَا أَبُو الشَّيْخِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطًا، لَمْ يَقُلْ سُهَيْلٌ: أَوْ حَرْثٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ) وَصَلَهَا أَبُو الشَّيْخِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: أَيُّمَا أَهْلِ دَارٍ رَبَطُوا كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلَا مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ اتِّخَاذُهَا لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ قِيَاسًا، فَتَمَحَضَّ كَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ لِلْبَيْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ - أَيْ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ - مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، لِأَنَّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا امْتَنَعَ اتِّخَاذُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ نَقَصَ الْأَجْرُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ.

قَالَ: وَوَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُتَعَبَّدَ بِهَا فِي الْكِلَابِ مِنْ غَسْلِ الْإِنَاءِ سَبْعًا لَا يَكَادُ يَقُومُ بِهَا الْمُكَلَّفُ وَلَا يَتَحَفَّظُ مِنْهَا فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِهَا مَا يَنْقُصُ أَجْرَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيُرْوَى أَنَّ الْمَنْصُورَ سَأَلَ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَقَالَ الْمَنْصُورُ: لِأَنَّهُ يَنْبَحُ الضَّيْفَ، وَيُرَوِّعُ السَّائِلَ اهـ.

وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَاسْتَنَدَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ تَقَعُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاطٍ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الْكَلْبَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّخَاذُ حَرَامًا، وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ أَنَّ الْإِثْمَ

ص: 6

الْحَاصِلَ بِاتِّخَاذِهِ يُوَازِي قَدْرَ قِيرَاطٍ أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْرٍ فَيَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِ الْمُتَّخِذِ قَدْرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ بِاتِّخَاذِهِ وَهُوَ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ، وَقِيلَ سَبَبُ النُّقْصَانِ امْتِنَاعُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهِ أَوْ مَا يَلْحَقُ الْمَارِّينَ مِنَ الْأَذَى، أَوْ لِأَنَّ بَعْضَهَا شَيَاطِينُ، أَوْ عُقُوبَةٌ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ، أَوْ لِوُلُوغِهَا فِي الْأَوَانِي عِنْدَ غَفْلَةِ صَاحِبِهَا فَرُبَّمَا يَتَنَجَّسُ الطَّاهِرُ مِنْهَا، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعِبَادَةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الطَّاهِرِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ لَكَانَ عَمَلُهُ كَامِلًا، فَإِذَا اقْتَنَاهُ نَقَص مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عَمَلٍ مَضَى وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُهُ فِي الْكَمَالِ عَمَلَ مَنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ اهـ.

وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ مُنَازَعٌ فِيهِ، فَقَدْ حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ اخْتِلَافًا فِي الْأَجْرِ هَلْ يَنْقُصُ مِنَ الْعَمَلِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي مُحَصَّلِ نُقْصَانِ الْقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ: مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ قِيرَاطٌ وَمِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ آخَرُ، وَقِيلَ: مِنَ الْفَرْضِ قِيرَاطٌ وَمِنَ النَّفْلِ آخَرُ، وَفِي سَبَبِ النُّقْصَانِ يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقِيرَاطَيْنِ وَالْقِيرَاطِ فَقِيلَ: الْحُكْمُ الزَّائِدُ لِكَوْنِهِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْآخَرُ أَوْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَوَّلًا بِنَقْصِ قِيرَاطٍ وَاحِدٍ فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الْأَوَّلُ ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِنَقْصِ قِيرَاطَيْنِ زيادة فِي التَّأْكِيدِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْ ذَلِكَ فَسَمِعَهُ الرَّاوِي الثَّانِي.

وَقِيلَ: يَنْزِلُ عَلَى حَالَيْنِ: فَنُقْصَانُ الْقِيرَاطَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْأَضْرَارِ بِاتِّخَاذِهَا، وَنَقْصُ الْقِيرَاطِ بِاعْتِبَارِ قِلَّتِهِ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ نَقْصُ الْقِيرَاطَيْنِ بِمَنِ اتَّخَذَهَا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ خَاصَّةً وَالْقِيرَاطِ بِمَا عَدَاهَا، وَقِيلَ: يَلْتَحِقُ بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَيَخْتَصُّ الْقِيرَاطُ بِأَهْلِ الْبَوَادِي، وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّأَذِّي وَقِلَّتِهِ.

وَكَذَا مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ: فَفِيمَا لَابَسَهُ آدَمِيٌّ قِيرَاطَانِ وَفِيمَا دُونَهُ قِيرَاطٌ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَكُونَ الْقِيرَاطُ الَّذِي يَنْقُصُ أَجْرَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَوَاتِ الْأَكْبَادِ الرَّطْبَةِ أَوِ الْحَرَّى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْقِيرَاطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا هَلْ هُمَا كَالْقِيرَاطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَاتِّبَاعِهَا؟ فَقِيلَ: بِالتَّسْوِيَةِ، وَقِيلَ: اللَّذَانِ فِي الْجِنَازَةِ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، وَاللَّذَانِ هُنَا مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ وَبَابُ الْفَضْلِ أَوْسَعُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأَصَحُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِحِفْظِ الدَّرْبِ إِلْحَاقًا لِلْمَنْصُوصِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ فِي اتِّخَاذِهِ مَا لَمْ يَحْصُلِ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَتْلِهِ وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَقُورِ فَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ مُطْلَقًا أَمْ لَا؟ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَرْبِيَةِ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَئُولُ أَمْرُهُ إِلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ لِذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْحَالِ لِكَوْنِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْمَآلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ الْجَائِزِ اتِّخَاذُهُ لِأَنَّ فِي مُلَابَسَتِهِ مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَالْإِذْنُ فِي اتِّخَاذِهِ إِذْنٌ فِي مُكَمِّلَاتِ مَقْصُودِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لَوَازِمِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا عُمُومُ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي الْأَمْرِ مِنْ غَسْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إِذَا سَوَّغَهُ الدَّلِيلُ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يَنْقُصُهَا، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَسْبَابِ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا لِتُجْتَنَبَ أَوْ تُرْتَكَبَ، وَبَيَانُ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي إِبَاحَةِ مَا لَهُمْ بِهِ نَفْعٌ، وَتَبْلِيغُ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ أُمُورَ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَفِيهِ تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ لِوُقُوعِ اسْتِثْنَاءِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِمَّا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ) بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْفَاءِ مُصَغَّرٌ، وَ (السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ مَشْهُورٌ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مُدَّةً، وَفِيهِ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ نُسِبُوا إِلَى شَنُوءَةَ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ

ص: 7

الْأَزْدِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا) فِيهِ التَّثَبُّتُ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ:(إِي وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ) الْقَسَمُ لِلتَّوْكِيدِ وَإِنْ كَانَ السَّامِعُ مُصَدِّقًا.

‌4 - بَاب اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ

2324 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ. قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ. وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي الْقَوْمِ.

[الحديث 2324 - أطرافه في: 3471، 3663، 3690]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِ الْبَقَرَةِ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَنَاقِبِ فَإِنَّ سِيَاقَهُ هُنَاكَ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِهِ هُنَا، وَفِيهِ سَبَبُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِذَلِكَ، وَهُوَ حَيْثُ تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَأْتِي هُنَاكَ أَيْضًا الْكَلَامُ عن اخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ السَّبُعِ وَهَلْ هِيَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَوْ إِسْكَانِهَا وَمَا مَعْنَاهَا؟ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ أَكْلَ الْخَيْلِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوهَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى مَنْعِ أَكْلِهَا لَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ الْبَقَرِ، لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ أَكْلِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جِهَةِ الِامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوهَا، وَالْمُسْتَفَادِ مِنْ صِيغَةِ إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ: عُمُومٌ مَخْصُوصٌ.

‌5 - بَاب إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مؤونة النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ

2325 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لَا. فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمؤنَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

[الحديث 2325 - طرفاه في: 2719، 3782]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مَؤونة النَّخْلِ وَغَيْرِهِ) أَيْ كَالْعِنَبِ (وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ) أَيْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ بَيْنَنَا، وَيَجُوزُ فِي تُشْرِكُنِي فَتْحُ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ وَضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَنَشْرَكَكُمْ فَإِنَّهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ حَسْبُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتِ الْأَنْصَارُ) أَيْ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ قَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ وَيَكْفُوهُمُ المؤنة وَالْعَمَلَ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (النَّخِيلَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ النَّخْلَ وَالنَّخِيلَ جَمْعُ نَخْلٍ كَالْعَبِيدِ جَمْعُ عَبْدٍ وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ.

قَوْلُهُ: (المؤنة) أَيِ الْعَمَلَ فِي الْبَسَاتِينِ مِنْ سَقْيِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْفُتُوحَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِمْ فَكَرِهَ

ص: 8

أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ عَقَارِ الْأَنْصَارِ عَنْهُمْ، فَلَمَّا فَهِمَ الْأَنْصَارُ ذَلِكَ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ: امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَعْجِيلِ مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُسَاعِدُوهُمْ فِي الْعَمَلِ وَيُشْرِكُوهُمْ فِي الثَّمَرِ.

قَالَ: وَهَذِهِ هِيَ الْمُسَاقَاةُ بِعَيْنِهَا. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا مَلَكُوا مِنَ الْأَنْصَارِ نَصِيبًا مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَالِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَنْصَارِ مُوَاسَاةَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، قَالَ: فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فِي شَيْءٍ، وَمَا ادَّعَاهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ دَلِيلًا ; وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُوَاسَاةِ ثُبُوتُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِسُؤَالِهِمْ لِذَلِكَ وَرَدِّهِ عَلَيْهِمْ مَعْنًى، وَهَذَا وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

‌6 - بَاب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ.

وَقَالَ أَنَسٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ

2326 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ.

لهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ

حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

[الحديث 2326 - أطرافه في: 3021، 4031، 4032، 4884]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ) أَيْ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا فِي نِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ قَطْعُ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ أَصْلًا، وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى غَيْرِ الْمُثْمِرِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ الَّذِي قُطِعَ فِي قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِلْجَوَازِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيقِ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِلْجَوَازِ لِأَجْلِ نِكَايَةِ الْعَدُوِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَفِي كِتَابِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ.

وَ (الْبُوَيْرَةُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ، وَ (سَرَاةِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَ (مُسْتَطِيرُ) أَيْ مُنْتَشِرٌ. وَأَوْرَدَ الْقَابِسِيُّ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ مَخْرُومًا بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ أَوَّلِهِ.

‌7 - باب

2327 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ دُخُولَهُ فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ: وَسَأَلْتُ الْمُهَلَّبَ عَنْهُ فَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنِ اكْتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا وَيَغْرِسَ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ: اقْلَعْ شَجَرَكَ عَنْ أَرْضِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فِي

ص: 9

إِبَاحَةِ قَطْعِ الشَّجَرِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ غَرَضَهُ الْإِشَارَةُ بِهِ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ الْجَائِزَ هُوَ الْمُسَيَّبُ لِلْمَصْلَحَةِ كَنِكَايَةِ الْكُفَّارِ أَوْ الِانْتِفَاعِ بِالْخَشَبِ أَوْ نَحْوِهِ، وَالْمُنْكَرَ هُوَ الَّذِي عَنِ الْعَبَثِ وَالْإِفْسَادِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنِ الْمُخَاطَرَةِ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ إِبْقَاءً عَلَى مَنْفَعَتِهَا مِنَ الضَّيَاعِ مَجَّانًا فِي عَوَاقِبِ الْمُخَاطَرَةِ، فَإِذَا كَانَ يَنْهَى عَنْ تَضْيِيعِ مَنْفَعَتِهَا وَهِيَ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ وَلَا مُشَخَّصَةٍ فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ تَضْيِيعِ عَيْنِهَا بِقَطْعِ أَشْجَارِهَا عَبَثًا أَجْدَرُ وَأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (نُكْرِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَقَوْلُهُ: (لِسَيِّدِ الْأَرْضِ) أَيْ مَالِكُهَا. وَقَوْلُهُ: (بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى) ذَكَرَهُ عَلَى إِرَادَةِ الْبَعْضِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الزَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: (فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمِ الْأَرْضُ وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَمَهْمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَمَعْنَاهُ فَكَثِيرًا مَا يُصَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ. وَزَادَ الْكَرْمَانِيُّ هُنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا بِمَعْنَى رُبَّمَا لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ تَتَنَاوَبُ وَلَا سِيَّمَا مِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ تُنَاسِبُ رُبَّ التَّقْلِيلِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لَفْظَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْفِضَّةُ بَدَلَ الْوَرِقِ. وَقَوْلُهُ: (فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ) أَيْ يُكْرَى بِهِما، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَ وُجُودِهِمَا. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌8 - بَاب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَزَارَعَ عَلِيٌّ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ. وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى: إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكرى الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

2328 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ. ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ. وقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ؟ فَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْأَرْضَ وَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتْ الْأَرْضَ.

ص: 10

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ) رَاعَى الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الشَّطْرِ لِوُرُودِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَلْحَقَ غَيْرَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَكَانَ قَوْلُهُ: الْمُزَارَعَةُ بِالْجُزْءِ أَخْصَرَ وَأَبْيَنَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ) هُوَ الْكُوفِيُّ (عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَاقِرُ.

قَوْلُهُ: (مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى الْفِعْلِ لَا عَلَى الْمَجْرُورِ، أَيْ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَيَزْرَعُونَ عَلَى الرُّبُعِ، أَوِ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ بِهِ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْقَابِسِيَّ أَنْكَرَ هَذَا وَقَالَ: كَيْفَ يَرْوِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ هَذَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَيْسٌ كُوفِيٌّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مَدَنِيٌّ وَلَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحَدٌ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ؟ وَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَكَمْ مِنْ ثِقَةٍ تَفَرَّدَ بِمَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ ثِقَةٌ آخَرُ، وَإِذَا كَانَ الثِّقَةُ حَافِظًا لَمْ يَضُرُّهُ الِانْفِرَادُ.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ قَيْسًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ فَقَدْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. ثُمَّ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الْقَابِسِيِّ أَغْرَبَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْآثَارَ فِي هَذَا الْبَابِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْجُزْءِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ آخِرِ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُعْتَمَدُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِسِيَاقِ هَذِهِ الْآثَارِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافٌ فِي الْجَوَازِ خُصُوصًا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَيَلْزَمُ مَنْ يُقَدِّمُ عَمَلَهُمْ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمَرْفُوعَةِ أَنْ يَقُولُوا بِالْجَوَازِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَزَارَعَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ)، أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو ابْنِ صُلَيْعٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ، وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعْدِ ومَالِكٍ - وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - فَوَصَلَهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ يُزَارَعَانِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَقْطَعَ خَمْسَةً مِنَ الصَّحَابَةِ الزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَخَبَّابًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ: فَرَأَيْتُ جَارَيَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَسَعْدًا يُعْطِيَانِ أَرْضَيْهِمَا بِالثُّلُثِ.

وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ أَنْ يُزَارِعَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَرُوِّينَا فِي الْخَرَاجِ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ: انْظُرْ مَا قِبَلَكُمْ مِنْ أَرْضٍ فَأَعْطُوهَا بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ وَإِلَّا فَعَلَى الثُّلُثِ حَتَّى تَبْلُغَ الْعُشْرَ. فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا أَحَدٌ فَامْنَحْهَا، وَإِلَّا فَأَنْفِقْ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُبِيرَنَّ قِبَلَكَ أَرْضًا.

وَأَمَّا أَثَرُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ لِيَسْأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: اعْمَلْ فِي حَائِطِي هَذَا وَلَكَ الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ، قَالَ: لَا بَأْسَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مَا يُصْنَعُ فِي الْأَرْضِ.

وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ - يَقُولُ: الْأَرْضُ عِنْدِي مِثْلُ الْمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَمَا صَلَحَ فِي الْمَالِ الْمُضَارَبَةِ صَلَحَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ فِي الْمَالِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصْلُحْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: وَكَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ إِلَى الْأَكَّارِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَعْوَانِهِ وَبَقَرِهِ وَلَا يُنْفِقَ شَيْئًا وَتَكُونَ النَّفَقَةُ كُلُّهَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ.

وَأَمَّا أَثَرُ عُرْوَةَ وَهُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ نَظَرْتُ فِي آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ وَجَدْتُهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ سِيرِينَ فَتَقَدَّمَ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ

ص: 11

مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ طَائِفَةً مِنْ زَرْعِهِ أَوْ حَرْثِهِ عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ مُؤْنَتَهَا وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزَادَ فِيهِ: وَأَحْمِلُهُ إِلَى عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، فَلَوْ رَأَيَا بِهِ بَأْسًا لَنَهَيَانِي عَنْهُ وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ عَمَّايَ يُزَارِعَانِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَأَنَا شَرِيكُهُمَا، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ يَعْلَمَانِ فَلَا يُغَيِّرَانِ.

قَوْلُهُ: (وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَاشْتَرَى بَيَاضَ أَرْضِهِمْ وَكُرُومَهُمْ، فَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ إِنْ هُمْ جَاءُوا بِالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَهُمُ الثُّلُثَانِ وَلِعُمَرَ الثُّلُثُ، وَإِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَعَامَلَهُمْ فِي النَّخْلِ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الْخُمُسَ وَلَهُ الْبَاقِيَ، وَعَامَلَهُمْ فِي الْكَرْمِ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الثُّلُثَ وَلَهُ الثُّلُثَانِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَأَهْلَ فَدَكَ وَتَيْمَاءَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ، وَاشْتَرَى عَقَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ فَأَعْطَى الْبَيَاضَ - يَعْنِي بَيَاضَ الْأَرْضِ - عَلَى إِنْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عُمَرَ فَلَهُمُ الثُّلُثُ وَلِعُمَرَ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَهُمُ الشَّطْرُ وَلَهُ الشَّطْرُ، وَأَعْطَى النَّخْلَ وَالْعِنَبَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرَ الثُّلُثَيْنِ وَلَهُمُ الثُّلُثُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَيْضًا فَيَتَقَوَّى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفُ أَبْهَمَ الْمِقْدَارَ بِقَوْلِهِ: فَلَهُمْ كَذَا لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ أَجَازَ الْمُعَامَلَةَ بِالْجُزْءِ.

وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا الصَّنِيعُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّنْوِيعُ وَالتَّخْيِيرُ قَبْلَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ جَعَالَةً فَلَا يَضُرُّهُ. نَعَمْ فِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْأَثَرَ وَغَيْرَهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُخَابَرَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى: فَالْمُزَارَعَةُ الْعَمَلُ فِي الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَالْبَذْرُ مِنَ الْمَالِكِ، وَالْمُخَابَرَةُ مِثْلُهَا لَكِنِ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ.

وَقَدْ أَجَازَهُمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَسَكَتَ عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَعَكْسُهُ الْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا يَجُوزُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَحَمَلُوا الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَسَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا فَيَنْتَفِعَانِ جَمِيعًا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ). أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِنَحْوِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُ الْحَسَنِ فِي الْقُطْنِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: مَا جَنَيْتُ فَلَكَ نِصْفُهُ، وَمَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ. أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ أَرَادَ أَنَّهُ جَعَالَةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ) أَيْ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى لِلنَّسَّاجِ الْغَزْلُ بِنَسْجِهِ وَيَكُونَ ثُلُثُ الْمَنْسُوجِ لَهُ وَالْبَاقِي لِمَالِكِ الْغَزْلِ، وَأَطْلَقَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ فَوَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْحَوَّاكِ يُعْطَى الثَّوْبَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ سَأَلَتُ مُحَمَّدًا هُوَ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ الرَّجُلِ يَدْفَعُ إِلَى النَّسَّاجِ الثَّوْبَ

ص: 12

بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ أَوْ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ فَوَصَلَهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ بِالثُّلُثِ. وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَدْفَعَ الثَّوْبَ إِلَى النَّسَّاجِ بِالثُّلُثِ:

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: لَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُخَابَرَةَ لِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَجَمِيعِ الشَّجَرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَخَصَّهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ، وَأُلْحِقَ الْمُقِلُّ بِالنَّخْلِ لِشَبَهِهِ بِهِ. وَخَصَّهُ دَاوُدُ بِالنَّخْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِأَنَّهَا إِجَارَةٌ بِثَمَرَةٍ مَعْدُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ، وَأَجَابَ مَنْ جَوَّزَهُ بِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الْمَالِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ فَهُوَ كَالْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ فِي الْمَالِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ وَهُوَ مَعْدُومٌ وَمَجْهُولٌ، وَقَدْ صَحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا. وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ فِي إِبْطَالِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مَرْدُودٌ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ قِصَّةِ خَيْبَرَ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَأُقِرُّوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ مِلْكُهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطُوا نِصْفَ الثَّمَرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ بِحَقِّ الْجِزْيَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُعْظَمَ خَيْبَرَ فُتِحَ عَنْوَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَبِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا قُسِّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا سَيَأْتِي، وَبِأَنَّ عُمَرَ أَجْلَاهُمْ مِنْهَا. فَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مِلْكَهُمْ مَا أَجْلَاهُمْ عَنْهَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ فِي جَمِيعِ الثَّمَرِ بِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الشَّطْرُ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَشَجَرٍ وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ لَا مَجْهُولٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الْبَذْرِ مِنَ الْعَامِلِ أَوِ الْمَالِكِ لِعَدَمِ تَقْيِيدِهِ فِي الْحَدِيثِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ الْعَامِلَ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ بَاعَ الْبَذْرَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِمَجْهُولٍ مِنَ الطَّعَامِ نَسِيئَةً وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ: ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ وَعِشْرُونَ وَسْقِ شَعِيرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْهَا ثَمَانُونَ وَمِنْهَا عِشْرُونَ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ ثَمَانِينَ وَعِشْرِينَ عَلَى الْبَدَلِ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي فَهُوَ صَدَقَةٌ وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَسَمَ عُمَرُ) أَيْ خَيْبَرَ، صَرَّحَ بِذَلِكَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌9 - بَاب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ

2329 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ.

ص: 13

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَشْرِطِ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ.

قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ مِنَ الحبر الَّذِي سَاقَهُ. كَذَا قَالَ، وَوَجْهُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ مُقَيَّدًا بِسِنِينَ مَعْلُومَةٍ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ إِذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: نُقِرُّكُمْ مَا شِئْنَا، هُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ النَّخْلِ مُسَاقَاةً وَالْأَرْضِ مُزَارَعَةً مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سِنِينَ مَعْلُومَةٍ فَيَكُونُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ مَتَى شَاءَ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ مَنْ أَجَازَ الْمُخَابَرَةَ وَالْمُزَارَعَةَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا أُطْلِقَا حُمِلَ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا قَالَ سَاقَيْتُكَ كُلَّ سَنَةٍ بِكَذَا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَمَدًا وَحَمَلَ قِصَّةَ خيير عَلَى ذَلِكَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَرْيَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ.

‌10 - باب

2330 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: لَوْ تَرَكْتَ الْمُخَابَرَةَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ. قَالَ: أَيْ عَمْرُو، إِنِّي أُعْطِيهِمْ وَأعينهمْ، وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَالَ: أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا.

[الحديث 2330 - طرفاه في: 2342، 2634]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ أَخْذِ أُجْرَةِ الْأَرْضِ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ جُزْءًا مَعْلُومًا فَجَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (لَوْ تَرَكْتُ الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ). أَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا قَبْلُ بِبَابٍ، وَإِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُخَابَرَةَ بِمَعْنًى، قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِلَفْظِ لَوْ تَرَكْتُ الْمُزَارَعَةَ وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ اللُّغَوِيِّ: إِنَّ أَصْلَ الْمُخَابَرَةِ مُعَامَلَةُ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَاسْتُعْمِلَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ إِذَا قِيلَ خَابَرَهُمْ عُرِفَ أَنَّهُ عَامَلَهُمْ نَظِيرَ مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ.

وَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، لِطَاوُسٍ: يَزْعُمُونَ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ طَاوُسٌ يَكْرَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَرَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَأْسًا، فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدٌ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَاسْمَعْ حَدِيثَهُ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ لَمْ أَفْعَلْهُ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَخَذْتُ بِيَدِ طَاوُسٍ فَأَدْخَلْتُهُ إِلَى ابْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَحَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَأَبَى طَاوُسٌ وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ تَرَكْتُ الْمُخَابَرَةَ فَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَوْ هِيَ لِلتَّمَنِّي.

قَوْلُهُ: (وَأُعِينُهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَأُغْنِيهِمْ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ مِنَ الْغِنَى، وَالْأَوَّلُ

ص: 14

هُوَ الصَّوَابُ

(1)

وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ) سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَنْهَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ إِعْطَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ نَفْيَ الرِّوَايَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلنَّهْيِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْهُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، لَكِنْ قَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمِ الْمُزَارَعَةَ وَهِيَ تُقَوِّي مَا أَوَّلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَمْنَحَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا تَعْلِيلِيَّةٌ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةُ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَقَوْلُهُ: خَرْجًا أَيْ أُجْرَةً، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ طَاوُسٍ: وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَيْهَا عِنْدَنَا يَعْنِي بِالْيَمَنِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الِانْقِطَاعِ بَيْنَ طَاوُسٍ، وَمُعَاذٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌11 - بَاب الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ

2331 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يخرج مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ قَبْلُ بِبَابٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَأَرَادَ بِهَذَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.

‌12 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ

2332 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى، سَمِعَ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ، عَنْ رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى حَمْلِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ عَلَى مَا إِذَا تَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَرْطًا فِيهِ جَهَالَةٌ أَوْ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: حَقْلًا هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَأَصْلُ الْحَقْلِ الْقَرَاحُ الطَّيِّبُ، وَقِيلَ الزَّرْعُ إِذَا تَشَعَّبَ وَرَقُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْلُظَ سُوقُهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الزَّرْعِ، وَاشْتُقَّ مِنْهُ الْمُحَاقَلَةُ فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْمُزَارَعَةِ. وَقَوْلُهُ: ذِهْ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِطْعَةِ.

(1)

في هامش طبعة بولاق: قال بعد أن نقل تصويب الفتح هنا لرواية الأكثر " ولأبي ذر عن الكشميهنى كما في الفرع وأصله وأعينهم بضم الهمزة وسكون المين المهلة وكسر النون بعدها تحية ساكنة " فلينظر

ص: 15

‌13 - بَاب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمْ

2333 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ. قَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ. وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ ولم آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ فَرَأَوْا السَّمَاءَ. وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ مِنْهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَبَغَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فَرْجَةً، فَفَرَجَ.

وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا ورعاتها، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ. فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي. فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ. فَأَخَذَهُ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ. فَفَرَجَ اللَّهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ: فَسَعَيْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمْ) أَيْ لِمَنْ يَكُونُ الزَّرْعُ؟ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي شَرْحِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى الْأَجِيرِ - حَقَّهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعْهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرُعَاتِهَا فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ أُجْرَتَهُ فَلَمَّا تَرَكَهَا بَعْدَ أَنْ تَعَيَّنَتْ لَهُ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِعَيْنِهَا صَارَتْ مِنْ ضَمَانِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ قَدْ عَيَّنَ لَهُ حَقَّهُ وَمَكَّنَهُ مِنْهُ فَبَرِئَتْ ذِمَّتَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا تَرَكَهُ وَضَعَ الْمُسْتَأْجِرُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَضْعًا مُسْتَأْنَفًا ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِصْلَاحِ لَا بِطَرِيقِ التَّضْيِيعِ فَاغْتُفِرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَدَّ تَعَدِّيًا، وَلِذَلِكَ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَجَعَلَهُ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِهِ، وَأُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ وَوَقَعَتْ لَهُ الْإِجَابَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ هَلَكَ الْفَرْقُ لَكَانَ ضَامِنًا لَهُ إِذْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَمَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ إِنَّمَا هُوَ خَلَاصُ الزَّارِعِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الْقَصْدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الضَّمَانِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَوَسُّلَهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ أَعْطَى الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ مُضَاعَفًا لَا بِتَصَرُّفِهِ، كَمَا أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ رِجْلَيِ الْمَرْأَةِ

ص: 16

مَعْصِيَةٌ، لَكِنَّ التَّوَسُّلَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَرْكِ الزِّنَا وَالْمُسَامَحَةِ بِالْمَالِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ عَنْ هَذَا فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ فِي تَرْجَمَةِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَرَقِ أَرُزٍّ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ بِلَفْظِ: فَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ وَأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا حَبَّيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ أُطْلِقَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَقَوْلُهُ: فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فِي رِوَايَةٍ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَبَتْ عَلَيَّ.

قَوْلُهُ: (فَبَغَيْتُ) بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ طَلَبْتُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ:(فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَائِمَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: وَرُعَاتِهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَرَاعِيهَا عَلَى الْإِفْرَادِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوَّلِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ وَالثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهَا وَالثَّالِثُ إِنِّي وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ، وَالْهَاءُ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَفِي الثَّانِي لِلْقِصَّةِ، وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ فِي امْرَأَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فَسَعَيْتُ) يَعْنِي أَنَّ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَاهُ عَمُّهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، إِلَّا أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَبَغَيْتُ فَقَالَهَا: فَسَعَيْتُ بِالسِّينِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ هَذَا وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابِ إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ وَفِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ وَهُوَ وَهَمٌ وَالصَّوَابُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُقْبَةَ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ ابْنِ أَخِي مُوسَى.

‌14 - بَاب أَوْقَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ. فَتَصَدَّقَ بِهِ.

2334 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.

[الحديث 2334 - أطرافه في: 3125، 4235، 4236]

قَوْلُهُ: (بَابُ أَوْقَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي وَقْفِ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا. وَأَخْذُ الْمُصَنِّفِ صَدْرَ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكِنَّ النَّظَرَ لِآخِرِ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ لَا أَقْسِمَهَا بَلْ أَجْعَلَهَا وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ عُمَرُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَرْضِ الْخَرَاجِ إِلَخْ فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَإِنَّ عُمَرَ لَمَّا وَقَفَ السَّوَادَ ضَرَبَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَرَاجَ فَزَارَعَهُمْ وَعَامَلَهُمْ، فَبِهَذَا يَظْهَرُ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَدُخُولِهَا فِي أَبْوَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُزَارِعُونَ أَوْقَافَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَامَلَ عَلَيْهِ يَهُودَ خَيْبَرَ.

وَقَوْلُهُ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ إِلَخْ قَالَ ابْنُ التِّينِ: ذَكَرَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَرِهِ وَيُوقِفَ أَصْلَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي رَدَّهُ هُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ وَصَلَ الْبُخَارِيُّ اللَّفْظَ الَّذِي عَلَّقَهُ هُنَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مِنْ طَرِيقِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَصَدَّقَ عُمَرُ بِمَالٍ لَهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَالِكٍ) وَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ،

ص: 17

عَنْ مَالِكٍ عند الْإِسْمَاعِيلِيِّ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ.

قَوْلُهُ: (مَا فُتِحَتْ) بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَ (قَرْيَةٌ) بِالرَّفْعِ وَبِفَتْحِ الْفَاءِ وَنَصْبِ قَرْيَةٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا قَسَمْتُهَا) زَادَ ابْنُ إِدْرِيسَ فِي رِوَايَتِهِ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْكُفَّارِ إِلَّا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا.

قَوْلُهُ: (كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ) زَادَ ابْنُ إِدْرِيسَ فِي رِوَايَتِهِ: لَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ جِزْيَةً تَجْرِي عَلَيْهِمْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سَبَبَ قَوْلِ عُمَرَ هَذَا وَلَفْظُهُ لَمَّا فَتَحَ عُمَرُ الشَّامَ قَامَ إِلَيْهِ بِلَالٌ فَقَالَ: لَتَقْسِمَنَّهَا أَوْ لَنُضَارِبَنَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ، فَقَالَ عُمَرُ فَذَكَرَهُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَأَوَّلَ عُمَرُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فَرَأَى أَنَّ لِلْآخِرِينَ أُسْوَةً بِالْأَوَّلِينَ فَخَشِيَ لَوْ قَسَمَ مَا يُفْتَحُ أَنْ تَكْمُلَ الْفُتُوحُ فَلَا يَبْقَى لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ حَظٌّ فِي الْخَرَاجِ، فَرَأَى أَنْ تُوقَفَ الْأَرْضُ الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا يَدُومُ نَفْعُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ نَظَرُ الْعُلَمَاءِ فِي قِسْمَةِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً عَلَى قَوْلَيْنِ شَهِيرَيْنِ، كَذَا قَالَ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أَشْهَرُهَا ثَلَاثَةٌ: فَعَنْ مَالِكٍ: تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْفَتْحِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ: يَتَخَيَّرُ الْإِمَام بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَوَقْفِيَّتِهَا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: يَلْزَمُهُ قِسْمَتُهَا إِلَّا أَنْ يَرْضَى بِوَقْفِيَّتِهَا مَنْ غَنِمَهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌15 - بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا.

وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ مَوَاتٌ

وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ: وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ

وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

2335 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ. قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ الْخَفِيفَةِ، قَالَ الْقَزَّازُ: الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعْمَرْ، شُبِّهَتِ الْعِمَارَةُ بِالْحَيَاةِ، وَتَعْطِيلُهَا بِفَقْدِ الْحَيَاةِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ أَنْ يَعْمِدَ الشَّخْصُ لِأَرْضٍ لَا يَعْلَمُ تَقَدُّمَ ملك عَلَيْهَا لِأَحَدٍ فَيُحْيِيهَا بِالسَّقْيِ أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ أَوِ الْبِنَاءِ فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مِلْكَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِيمَا قَرُبَ مِنَ الْعُمْرَانِ أَمْ بَعُدَ، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا، وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا قَرُبَ، وَضَابِطُ الْقُرْبِ مَا بِأَهْلِ الْعُمْرَانِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ رَعْيٍ وَنَحْوِهِ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْجُمْهُورِ مَعَ حَدِيثِ الْبَابِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ وَالنَّهَرِ وَمَا يُصَادُ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوَانٍ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَهُ أَوْ صَادَهُ يَمْلِكُهُ سَوَاءٌ قَرُبَ أَمْ بَعُدَ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ) كَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: فِي أَرْضِ الْكُوفَةِ مَوَاتًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ، وَرُوِّينَا فِي الْخَرَاجِ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ سَبَبُ ذَلِكَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَجَّرُونَ - يَعْنِي الْأَرْضَ - عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فقَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ.

ص: 18

قَالَ يَحْيَى: كَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ التَّحْجِيرِ حَتَّى يُحْيِيَهَا.

قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ مِثْلَ حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ فِيهِ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ) وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا حَقُّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيِّ، وَكَثِيرٌ هَذَا ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ لِجَدِّهِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ غَيْرُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ الْآتِي حَدِيثُهُ فِي الْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا عِنْدَهُ غَيْرُهُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَوْفٍ

(1)

عَلَى أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ وَعُمَرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ ; وَشَرَحَهُ الْكَرْمَانِيُّ ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُ عُمَرَ مُكَرَّرًا، وَأَجَابَ بِأَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ؛ كَوْنَهُ تَعْلِيقًا بِالْجَزْمِ وَالْآخَرِ بِالتَّمْرِيضِ، وَكَوْنَهُ بِزِيَادَةٍ وَالْآخَرِ بِدُونِهَا، وَكَوْنَهُ مَرْفُوعًا وَالْأَوَّلِ مَوْقُوفٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ.

قُلْتُ: فَضَاعَ مَا تَكَلَّفَهُ مِنَ التَّوْجِيهِ. وَلِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُعَلَّقِ شَاهِدٌ قَوِيٌّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ مُرْسَلًا وَزَادَ: قَالَ عُرْوَةُ: فَلَقَدْ خَبَّرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا.

وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَنْ سَمُرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَعَنْ عُبَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ آدَمَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ. وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ، لَكِنْ يَتَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (لِعِرْقٍ ظَالِمٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِتَنْوِينِ عِرْقٍ، وَظَالِمٍ نَعْتٌ لَهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى صَاحِبِ الْعِرْقِ أَيْ لَيْسَ لِذِي عِرْقٍ ظَالِمٍ، أَوْ إِلَى الْعِرْقِ أَيْ لَيْسَ لِعِرْقٍ ذِي ظُلْمٍ، وَيُرْوَى بِالْإِضَافَةِ وَيَكُونُ الظَّالِمُ صَاحِبَ الْعِرْقِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعِرْقِ الْأَرْضُ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَزْهَرِيُّ، وَابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُمْ، وَبَالَغَ الْخَطَّابِيُّ فَغَلَّطَ رِوَايَةَ الْإِضَافَةِ، قَالَ رَبِيعَةُ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ يَكُونُ ظَاهِرًا وَيَكُونُ بَاطِنًا فَالْبَاطِنُ مَا احْتَفَرَهُ الرَّجُلُ مِنَ الْآبَارِ أَوِ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ، وَالظَّاهِرُ مَا بَنَاهُ أَوْ غَرَسَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الظَّالِمُ مَنْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ أَوْ بَنَى أَوْ حَفَرَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا شُبْهَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى فِيهِ) أَيْ فِي الْبَابِ أَوِ الْحُكْمِ (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَهُ أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَهُ وَلَفْظُهُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَصَحَّحَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامٍ فَرَوَاهُ عَنْهُ عَبَّادٌ هَكَذَا، وَرَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَأَبُو ضَمْرَةَ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عُرْوَةَ فَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ هِشَامٍ مَوْصُولًا، وَخَالَفَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ فَقَالَ: عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا كَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَرْكِ جَزْمِ الْبُخَارِيِّ بِهِ.

(تَنْبِيهٌ): اسْتَنْبَطَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْكَافِرَ لَا أَجْرَ لَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا

(1)

لعل صواب العبارة " وقال عمرو بن عوف"

ص: 19

تَصَدَّقَ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَيُحْمَلُ الْأَجْرُ فِي حَقِّهِ عَلَى ثَوَابِ الدُّنْيَا وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَجْرِ إِلَّا الْأُخْرَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ) هُوَ الْمِصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخُهُ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَتِيمُ عُرْوَةَ، وَنِصْفُ الْإِسْنَادِ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْآخَرُ مِصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَعْمَرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ قَالَ عِيَاضٌ كَذَا وَقَعَ وَالصَّوَابُ عَمَرَ ثُلَاثِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا عَمَارًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَنِ اعْتَمَرَ أَرْضًا أَيِ اتَّخَذَهَا، وَسَقَطَتِ التَّاءُ مِنَ الْأَصْلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ سُمِعَ فِيهِ الرُّبَاعِيُّ، يُقَالُ: أَعْمَرَ اللَّهُ بِكَ مَنْزِلَكَ فَالْمُرَادُ مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَذَفَ مُتَعَلَّقَ أَحَقُّ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مَنْ أُعْمِرَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَعْمَرَهُ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ الْإِمَامُ. وَذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ بِلَفْظِ مَنْ عَمَرَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ أَحَقُّ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا أَيْ مِنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى عُرْوَةَ، وَلَكِنْ عُرْوَةُ، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ قَالَهُ خَلِيفَةُ، وَهُوَ قَضِيَّةُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً لِأَنَّ الْجَمَلَ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَقَتْلَ عُمَرَ كَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رُدِدْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ، اسْتُصْغِرْتُ.

قَوْلُهُ: (قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَوْصُولًا إِلَى عُمَرَ: وَرُوِّينَا فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَرَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ عَطَّلَ أَرْضًا ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَعْمُرْهَا فَجَاءَ غَيْرُهُ فَعَمَرَهَا فَهِيَ لَهُ. وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّعْطِيلِ أَنْ يَتَحَجَّرَهَا وَلَا يَحُوطَهَا بِبِنَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ الطَّرِيقَ الْأُولَى أَتَمَّ مِنْهُ بِالسَّنَدِ إِلَى الثَّقَفِيِّ الْمَذْكُورِ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ بِأَرْضِ الْبَصْرَةِ أَرْضًا لَا تَضُرُّ بِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَتْ بِأَرْضِ خَرَاجٍ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقْطِعَنِيهَا أَتَّخِذْهَا قَضْبًا وَزَيْتُونًا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى: إِنْ كَانَت كَذَلِكَ فَأَقْطِعْهَا إِيَّاهُ.

‌16 - باب

2336 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بذِي الْحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.

2337 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّيْلَةَ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِيهِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ

ص: 20

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ: أنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَحَدِيثَ عُمَرَ مَرْفُوعًا: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْحَجِّ مُسْتَوْفًى، وَلَكِنْ أَشْكَلَ تَعَلُّقُهُمَا بِالتَّرْجَمَةِ فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: حَاوَلَ الْبُخَارِيُّ جَعْلَ مَوْضِعِ مُعَرَّسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوْقُوفًا أَوْ مُتَمَلَّكًا لَهُ لِصَلَاتِهِ فِيهِ وَنُزُولِهِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيُصَلِّي فِيهِ فَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مِلْكَهُ كَمَا صَلَّى فِي دَارِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.

وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنَّ الْمُعَرَّسَ نُسِبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنُزُولِهِ فِيهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مِلْكَهُ، وَنَفَى ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ مَا ادَّعَاهُ الْمُهَلَّبُ: وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْبَطْحَاءَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّعْرِيسُ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمَوَاتِ الَّذِي يُحْيَا وَيُمْلَكُ إِذْ لَمْ يَقَعْ فِيهَا تَحْوِيطٌ وَنَحْوُهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِحْيَاءِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا تَلْحَقُ بِحُكْمِ الْإِحْيَاءِ لِمَا ثَبَتَ لَهَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِذَلِكَ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا أُرْصِدَتْ لِلْمُسْلِمِينَ كَمِنًى مَثَلًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا وَيَتَحَجَّرَهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِهَا عُمُومًا.

قُلْتُ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْوَادِيَ الْمَذْكُورَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَوَاتِ لَكِنْ مَكَانُ التَّعْرِيسِ مِنْهُ مُسْتَثْنًى لِكَوْنِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ فَلَا يَصِحُّ احْتِجَارُهُ لِأَحَدٍ وَلَوْ عَمِلَ فِيهِ بِشُرُوطِ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْبُقْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ كُلُّ مَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ.

(تَنْبِيهٌ): الْمُعَرَّسُ بِمُهْمَلَاتٍ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعُ التَّعْرِيسِ، وَهُوَ نُزُولُ آخِرِ اللَّيْلِ لِلرَّاحَةِ.

‌17 - بَاب إِذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ - وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا - فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا

2338 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . ح. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي مُعَامَلَةِ يَهُودِ خَيْبَرَ، أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ الْفُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَمُعَلَّقًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَقَدْ وَصَلَ مُسْلِمٌ طَرِيقَ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِتَمَامِهَا، وَسَيَأْتِي لَفْظُ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ) سَيَأْتِي سَبَبُ ذَلِكَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: جَلَى الْقَوْمَ عَنْ مَوَاطِنِهِمْ وَأَجْلَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالِاسْمُ الْجَلَاءُ وَالْإِجْلَاءُ، وَأَرْضُ الْحِجَازِ هِيَ مَا يَفْصِلُ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَا بَيْنَ وَجْرَةَ وَغَمْسِ الطَّائِفِ نَجْدٌ، وَمَا كَانَ مِنْ وَرَاءِ وَجْرَةَ إِلَى الْبَحْرِ تِهَامَةُ. وَوَقَعَ هُنَا لِلْكَرْمَانِيِّ تَفْسِيرُ الْحِجَازِ بِمَا فَسَرُّوا بِهِ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ الْآتِي فِي بَابِ هَلْ يُسْتَشْفَعُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَهُوَ خَطَأٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ) هُوَ

ص: 21

مَوْصُولٌ لِابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتِ الْأَرْضُ لما ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ) فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْآتِيَةِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَالَ الْمُهَلَّبُ: يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي آلَ إِلَيْهَا الْأَمْرُ بَعْدَ الصُّلْحِ وَرِوَايَةُ فُضَيْلٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً، فَالَّذِي فُتِحَ عَنْوَةً كَانَ جَمِيعُهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِي فُتِحَ صُلْحًا كَانَ لِلْيَهُودِ ثُمَّ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا وَهُوَ أَوْضَحُ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ ابْنِ سُلَيْمَانَ الْآتِيَةُ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: فَقَرُّوا بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ سَكَنُوا. وَتَيْمَاءَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمَدِّ، وَأَرِيحَاءَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ وَبِالْمَدِّ أَيْضًا، هُمَا مَوْضِعَانِ مَشْهُورَانِ بِقُرْبِ بِلَادِ طَيِّئٍ عَلَى الْبَحْرِ فِي أَوَّلِ طَرِيقِ الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَلَاذُرِيُّ فِي الْفُتُوحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَلَبَ عَلَى وَادِي الْقُرَى بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ تَيْمَاءَ فَصَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَقَرَّهُمْ بِبَلَدِهِمْ.

‌18 - بَاب مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَر

2339 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ ظُهَيْرٌ: لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا. قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حق. قَالَ: دعاني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبيعِ وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا. قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً.

[الحديث 2339 - طرفه في: 2346، 4012]

2340 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقال النبي: صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ"

[الحديث 2340 - طرفه في: 2632]

2341 -

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ"

2342 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: "ذَكَرْتُهُ لِطَاوُسٍ فَقَالَ يُزْرِعُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَكِنْ قَالَ: أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا"

ص: 22

2343 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ"

[الحديث 2343 - طرفه في: 2345]

2344 -

ثُمَّ حُدِّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ"

2345 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ يُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَرِ) الْمُرَادُ بِالْمُوَاسَاةِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَالِ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ يَاءٌ ثَقِيلَةٌ: تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ اسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ صُهَيْبٍ، وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، فَكَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِسَنَدِهِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّجَاشِيِّ، وَقَوْلُهُ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ: صَحِبْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ سِتَّ سِنِينَ وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ، عَنْ رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرٍ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعٍ حَدَّثَنِي عَمَّايَ وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ نَهَانَا) قَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ صِيغَةَ النَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا تَفْعَلُوا وَبِهَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الرَّافِقِ، وَقَوْلُهُ: رَافِقًا أَيْ ذَا رِفْقٍ.

قَوْلُهُ: (بِمَحَاقِلِكُمْ) أَيْ بِمَزَارِعِكُمْ، وَالْحَقْلُ الزَّرْعُ وَقِيلَ: مَا دَامَ أَخْضَرَ، وَالْمُحَاقَلَةُ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ، وَقِيلَ: هُوَ بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الرَّبِيعِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّ الْأَرْبِعَاءَ جَمْعُ رَبِيعٍ وَهُوَ النَّهَرُ الصَّغِيرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الرُّبَيْعُ بِالتَّصْغِيرِ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى الرُّبُعِ بِضَمَّتَيْنِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بَعْدُ، لَكِنِ الْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ وَيَشْتَرِطُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَنْهَارِ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَى الْأَوْسُقِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ.

قَوْلُهُ: (ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا) الْأَوَّلُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَهِيَ أَلِفُ وَصْلٍ وَالرَّاءُ مَفْتُوحَةٌ، وَالثَّانِي بِأَلِفِ قَطْعٍ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ، وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ لَا لِلشَّكِّ، وَالْمُرَادُ ازْرَعُوهَا أَنْتُمْ أَوْ أَعْطُوهَا لِغَيْرِكُمْ يَزْرَعُهَا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَوْ لِيَمْنَحْهَا. (أَوْ أَمْسِكُوهَا) أَيِ اتْرُكُوهَا مُعَطَّلَةً. وَقَوْلُهُ:(سَمْعًا وَطَاعَةً) بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَقَوْلُهُ:(أَوِ اتْرُكُوهَا) أَيْ بِغَيْرِ زَرْعٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ جَابِرٍ إِيرَادُ حَدِيثِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ

ص: 23

فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ اعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا.

قَوْلُهُ: (كَانُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ) الْوَاوُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى أَوْ، أَشَارَ إِلَيْهِ التَّيْمِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَمْنَحْهَا) أَيْ يَجْعَلْهَا مَنِيحَةً أَيْ عَطِيَّةً، وَالنُّونُ فِي يَمْنَحْهَا مَفْتُوحَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَطَرٍ بِلَفْظِ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُؤَاجِرْهَا. وَرِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ لِذِكْرِهَا لِلسَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَى النَّهْيِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) أَيْ فَلَا يَمْنَحُهَا وَلَا يُكْرِيهَا، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ فِي إِمْسَاكِهَا بِغَيْرِ زِرَاعَةٍ تَضْيِيعًا لِمَنْفَعَتِهَا فَيَكُونُ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا، وَأُجِيبَ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ عَيْنِ الْمَالِ أَوْ مَنْفَعَةٍ لَا تُخْلِفُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا تُرِكَتْ بِغَيْرِ زَرْعٍ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَتُهَا فَإِنَّهَا قَدْ تُنْبِتُ مِنَ الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ مَا يَنْفَعُ فِي الرَّعْيِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ تَأْخِيرُ الزَّرْعِ عَنِ الْأَرْضِ إِصْلَاحًا لَهَا فَتُخَلِّفُ فِي السَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا مَا لَعَلَّهُ فَاتَ فِي سَنَةِ التَّرْكِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ حُمِلَ النَّهْيُ عَنِ الْكِرَاءِ عَلَى عُمُومِهِ فَأَمَّا لَوْ حُمِلَ الْكِرَاءُ عَلَى مَا كَانَ مَأْلُوفًا لَهُمْ مِنَ الْكِرَاءِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَعْطِيلَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الزِّرَاعَةِ بَلْ يُكْرِيهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ الْحَلَبِيُّ، ثِقَةٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الطَّلَاقِ. وَقَدْ وَصَلَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْبَابِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ. وَشَيْخُهُ مُعَاوِيةُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ وَكَذَا عَلَى شَيْخِهِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي جَمْعِ طُرُقِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرْتُهُ) أَيْ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ (لِطَاوُسٍ) أَيْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَقَوْلُهُ:(لَمْ يَنْهَ عَنْهُ) أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَبِهَا صَرَّحَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ. وَقَوْلُهُ:(إِنْ يَمْنَحْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إِنْ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ يُقَالُ أَكْرَى أَرْضَهُ يُكْرِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ) أَيْ خِلَافَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُمَرَ خِلَافَةَ عَلِيٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَايِعْهُ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ، وَكَانَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُبَايِعُ لِمَنْ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَايِعْ أَيْضًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَلَا لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي حَالِ اخْتِلَافِهِمَا، وَبَايَعَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَعَلَّ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ - أَعْنِي مُدَّةَ خِلَافَةِ عَلِيٍّ - لَمْ يُؤَاجِرْ أَرْضَهُ فَلَمْ يَذْكُرْهَا لِذَلِكَ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ آخِرُ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَيُّوبَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوُ هَذَا السِّيَاقِ وَزَادَ فِيهِ: فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ وَكَانَ لَا يُكْرِيهَا، فَإِذَا سُئِلَ يَقُولُ: زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَذَكَرَهُ.

وَقَوْلُهُ (ثُمَّ حُدِّثَ عَنْ رَافِعٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَحَذْفِ عَنْ. وَلِابْنِ مَاجَهْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ فَأَتَاهُ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَافِعٍ فَذَكَرَهُ وَزَادَ. وَقَدِ اسْتَظْهَرَ الْبُخَارِيُّ لِحَدِيثِ رَافِعٍ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَادًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ رَافِعٍ فَرْدٌ وَأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَأَشَارَ إِلَى صِحَّةِ

ص: 24

الطَّرِيقَيْنِ عَنْهُ حَيْثُ روى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ وَرِوَايَتَهُ عَنْ عَمِّهِ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ إِرَادَةِ الرِّفْقِ وَالتَّفْضِيلِ وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَأَذْكُرُ مَزِيدًا لِذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ مُطَوَّلًا وَأَوَّلُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ خَدِيجٍ مَا هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّيَّ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فَذَكَرَهُ.

‌19 - بَاب كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنْ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ

2346، 2347 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الَّذِي نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ.

[الحديث 2347 - طرفه في: 4013]

قَوْلُهُ: (بَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُكْرِيَتْ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ كِرَائِهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.

وَبَالَغَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا إِلَّا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ طَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ وَقَوَّاهُ وَاحْتَجَّ لَهُ بِالْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ الْبَابِ دَالٌّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ اتِّفَاقَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْمَزَارِعِ يُكْرُونَهَا بِمَا يَكُونُ عَلَى الْمُسَاقِي مِنَ الزَّرْعِ، فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عِكْرِمَةَ الْمَخْزُومِيَّ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِبَعْضِ خَرَاجِهَا أَوْ بِدَرَاهِمَ فَقَدْ أَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ بِأَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ رَافِعٍ. قُلْتُ: وَرَاوِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ فِي حِفْظِهِ مَقَالٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ وَهُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ عَنْ شَيْخِهِ فِيهِ فَلَمْ يَذْكُرِ الدَّرَاهِمَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي حَدِيثِهِ: وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ

ص: 25

أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ يَعْنِي مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حَنْظَلَةَ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُ ذِكْرُ عَمَّيْ رَافِعٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيٌّ عَنْ مِثْلِهِ وَصَحَابِيٌّ عَنْ مِثْلِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَمَّايَ) هُمَا ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَالْآخَرُ قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ اسْمَهُ مُظَهِّرٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الظَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَضَبَطَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَابْنُ مَاكُولَا، هَكَذَا زَعَمَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمُبْهَمَاتِ، وَرَأَيْتُ فِي الصَّحَابَةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَلِأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ قَالَ سَعِيدٌ: زَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ اسْمَهُ مُهَيْرٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ وَهُوَ بِوَزْنِ أَخِيهِ ظُهَيْرٍ كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَثْنِيهِ) مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ لِيُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَافِعٌ لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَالَهُ رَافِعٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْصِيصِ عَلَى جَوَازِهِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلْ بِمَا إِذَا كَانَ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَاسْتَنْبَطَ مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ الْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَجِّحُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ، وَرَجُلٌ مَنَحَ أَرْضًا، وَرَجُلٌ اكْتَرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، لَكِنْ بَيَّنَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَأَنَّ بَقِيَّتَهُ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ وَكَانَ الَّذِي نَهَى من ذَلِكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَنِ اللَّيْثِ وَهُوَ مُوصولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ إِلَى اللَّيْثِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ هُنَا: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُصَنِّفَ مِنْ هَاهُنَا قَالَ اللَّيْثُ: أُرَاهُ، وَسَقَطَ هَذَا النَّقْلُ عَنِ اللَّيْثِ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مَصَابِيحِ الْبَغَوِيِّ فَصَارَ مُدْرَجًا عِنْدَهُمَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّسَفِيُّ وَلَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: لَمْ يَظْهَرْ لِي هَلْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَوْ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ رَافِعٍ اهـ.

وَقَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ أَكْثَرِ الطُّرُقِ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّيْثِ، وَقَوْلُهُ:(ذو الْفَهْمِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ ذوو الْفَهْمِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَقَالَا: لَمْ يُجْزِهِ. وَقَوْلُهُ: (الْمُخَاطَرَةِ) أَيِ الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ، وَكَلَامُ اللَّيْثِ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ حَمْلِ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفْضِي إِلَى الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ لَا عَنْ كِرَائِهَا مُطْلَقًا حَتَّى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي جَوَازِ كِرَائِهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ حَمَلَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، حَيْثُ قَالَ: وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَمَنْ لَمْ يُجِزْ إِجَارَتَهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا قَالَ: النَّهْيُ عَنْ كِرَائِهَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَاحِيَةً مِنْهَا أَوْ شَرَطَ مَا يَنْبُتُ عَلَى النَّهَرِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ كِرَاؤُهَا بِالطَّعَامِ أَوِ التَّمْرِ لِئَلَّا يَصِيرَ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمُكْرَى بِهِ مِنَ الطَّعَامِ جُزْءًا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَمَّا إِذَا اكْتَرَاهَا بِطَعَامٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّةِ الْمُكْتَرِي أَوْ بِطَعَامٍ حَاضِرٍ يَقْبِضُهُ الْمَالِكُ فَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 26

‌20 - باب

2348 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ ح. وَحَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2348 طرفه في: 7519]

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةِ وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ بَطَّالٍ لَفْظَ بَابٌ وكأن مُنَاسَبَتُهُ لَهُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُهُ أَنَّهُ نُبِّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ ابْنُ آدَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اسْتِمْرَارَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَبَقَاءُ حِرْصِ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى فِي الْجَنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ كِرَاءِ الْأَرْضِ لَفَطَمَ نَفْسَهُ عَنِ الْحِرْصِ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ هَذَا الْقَدْرُ فِي ذِهْنِهِ هَذَا الثُّبُوتَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُسَامَةَ، وَالْإِسْنَادُ الْعَالِي كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الْإِسْنَادِ الثَّانِي، وَسَاقَهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَلَى لَفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ.

قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ) أَيْ فِي أَنْ يُبَاشِرَ الزِّرَاعَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ أَوَلَسْتَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ.

قَوْلُهُ: (فَبَذَرَ) أَيْ أَلْقَى الْبَذْرَ فَنَبَتَ فِي الْحَالِ، وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأُذِنَ لَهُ فَبَذَرَ (فَبَادَرَ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فَأَسْرَعَ فَتَبَادَرَ.

قَوْلُهُ: (الطَّرْفَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ امْتِدَادُ لَحْظِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَقْصَى مَا يَرَاهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى حَرَكَةِ جَفْنِ الْعَيْنِ وَكَأَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَاسْتِحْصَادُهُ) زَادَ فِي التَّوْحِيدِ: وَتَكْوِيرُهُ أَيْ جَمْعُهُ، وَأَصْلُ الْكُورِ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا بَذَرَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الزَّرْعِ وَنَجَازِ أَمْرِهِ كُلِّهِ مِنَ الْقَلْعِ وَالْحَصْدِ وَالتَّذْرِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّكْوِيمِ إِلَّا قَدْرَ لَمْحَةِ الْبَصَرِ. وَقَوْلُهُ:(دُونَكَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيْ خُذْهُ.

قَوْلُهُ (لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ لَا يَسَعُكَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَهُوَ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ كُلَّ مَا اشْتُهِيَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُمْكِنٌ فِيهَا قَالَهُ الْمُهَلَّبُ. وَفِيهِ وَصْفُ النَّاسِ بِغَالِبِ عَادَاتِهِمْ قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. وَفِيهِ أَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ الْقَنَاعَةِ وَذَمِّ الشَّره، وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ الْآتِي بِلَفْظِ الْمَاضِي.

‌21 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْغَرْسِ

2349 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا كُنَّا لنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِي أَرْبِعَائِنَا فَتَجْعَلُهُ

ص: 27

فِي قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ - لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ - فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلَا نَقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ.

وَقَوْلُهُ: (لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ) الْوَدَكُ بِفَتْحَتَيْنِ: دَسَمُ اللَّحْمِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ.

2350 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ. وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَءا مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا: لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ - حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ - ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرُهَا حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا. وَاللَّهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} - إِلَى - {الرَّحِيمُ}

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغَرْسِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: كُنَّا نَغْرِسُهُ فِي أَرْبِعَائِنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَرْبِعَاءِ. وَالسِّلْقُ بِكَسْرِ السِّينِ.

وحديث أبي هريرة (يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ) أَيْ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَعِنْدَ اللَّهِ الْمَوْعِدُ، لِأَنَّ الْمَوْعِدَ إِمَّا مَصْدَرٌ وَإِمَّا ظَرْفُ زَمَانٍ أَوْ ظَرْفُ مَكَانٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُخْبَرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَاسِبُنِي إِنْ تَعَمَّدْتُ كَذِبًا وَيُحَاسِبُ مَنْ ظَنَّ بِي ظَنَّ السَّوْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي مِنْهُ شَيْءٌ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَغَرَضُهُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ:(وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ) فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَلِ الشُّغْلُ فِي الْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا تِسْعَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى جَمِيعِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي آلَةِ الْحَرْثِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُؤَالِ الْأَنْصَارِ الْقِسْمَةَ، وَحَدِيثِ عُمَرَ لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 28

بسم الله الرحمن الرحيم

‌42 - كِتَاب الشُّرْبِ والْمُسَاقَاةِ

بَاب فِي الشُّرْبِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} - إلى قوله - {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}

ثجاجا: منصبا. الْمُزْنُ: السَّحَابُ. الْأُجَاجُ: الْمُرُّ. فراتا: عذبا.

قَوْلُهُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فِي الشِّرْبِ. وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي أَوَّلِهِ (كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ) وَلَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ التَّرَاجِمَ الَّتِي فِيهِ غَالِبُهَا تَتَعَلَّقُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ (كِتَابُ الْمِيَاهِ) وَأَثْبَتَ النَّسَفِيُّ بَابٌ خَاصَّةً، وَسَاقَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْآيَتَيْنِ.

وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ: ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ بِالضَّمِّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَنْ ضَبَطَهُ بِالضَّمِّ أَرَادَ الْمَصْدَرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْمَصْدَرُ مُثَلَّثٌ وَقُرِئَ: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} مُثَلَّثًا، وَالشِّرْبُ فِي الْأَصْلِ بِالْكَسْرِ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ تَقُولُ: كَمْ شِرْبُ أَرْضِكُمْ؟ وَفِي الْمَثَلِ آخِرُهَا شُرْبًا أَقَلُّهَا شِرْبًا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَرَادَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يَعِيشُ بِالْمَاءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَاءِ النُّطْفَةَ، وَمَنْ قَرَأَ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيًّا دَخَلَ فِيهِ الْجَمَادُ أَيْضًا لِأَنَّ حَيَاتَهَا هُوَ خُضْرَتُهَا وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَاءِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَخْرُجُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَخْرُجُ مِنْ تَفْسِيرِ قَتَادَةَ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ فَمِنَ الْمَاءِ خُلِقَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ النُّطْفَةُ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (ثَجَّاجًا مُنْصَبًّا) هُوَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (الْمُزْنُ: السَّحَابُ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْمُزْنُ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ وَاحِدُهُ مُزْنَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَالْأُجَاجُ: الْمُرُّ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ أَوِ الْمَرَارَةِ، وَقِيلَ الْمَالِحُ وَقِيلَ الْحَارُّ حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ.

قَوْلُهُ: (فُرَاتًا: عَذْبًا) هُوَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى:{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْعَذْبُ الْفُرَاتُ الْحُلْوُ.

‌‌

‌1 - بَاب مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً، مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ

وَقَالَ عُثْمَانُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه

2351 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ

ص: 29

رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.

[الحديث 2351 - أطرافه في: 2366، 2451، 2605، 5620]

2352 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ - وَهِوَ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَدَحَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَزَعَ الْقَدَحَ عنْ فِيهِ وَعَن يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِيَّ - أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ، فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ"

[الحديث 2352 - أطرافه في: 2571، 5612، 5619]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً، مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلنَّسَفِيِّ وَمَنْ رَأَى إِلَخْ جَعَلَهُ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِغَيْرِهِمَا بَابٌ فِي الشِّرْبِ وَمَنْ رَأَى وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ) أَيِ ابْنُ عَفَّانَ (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ) سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ حَيْثُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يَجْعَلُ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ بِغَيْرِ هَذَا السِّيَاقِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الدَّلْوِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَوْ حَبَسَ بِئْرًا عَلَى مَنْ يَشْرَبُ مِنْهَا فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَشْرَبُ. ثُمَّ فَرَّقَ بِفَرْقٍ غَيْرِ قَوِيٍّ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْ سَهْلٍ، وَأَنَسٍ فِي شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْدِيمِهِ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ. وَمُنَاسَبَتُهُمَا لِمَا تَرْجَمَ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَشْرُوعِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَاءِ، لِأَنَّ اخْتِصَاصَ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ بِالْبَدَاءَةِ به دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُرَادُهُ أَنَّ الْمَاءَ يُمْلَكُ، وَلِهَذَا اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ، وَرَتَّبَ قِسْمَتَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى إِبَاحَتِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ مِلْكٌ، لَكِنْ حَدِيثُ سَهْلٍ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْقَدَحَ كَانَ فِيهِ مَاءٌ، بَلْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بِأَنَّهُ كَانَ لَبَنًا، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ جَرَى فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ الَّذِي شِيبَ بِهِ اللَّبَنُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَجْرَى اللَّبَنِ الْخَالِصِ الَّذِي فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ.

وَقَوْلُهُ فِي

ص: 30

حَدِيثِ سَهْلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ الْمَدَنِيُّ، وَالْإِسْنَادُ مِصْرِيُّونَ

(1)

إِلَّا شَيْخَهُ. وَقَوْلُهُ: وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقِيلَ: أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ قِيلَ: إِنَّ الْأَعْرَابِيَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ لَهُ: أَعْرَابِيٌّ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَلَى شِمَالِهِ، فَقَالَ لِي: الشَّرْبَةُ لَكَ فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا، فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ أُوثِرُ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدًا فَظَنَّ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ وَقِصَّةَ أَنَسٍ فِي دَارِ أَنَسٍ فَافْتَرَقَا.

نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ خَالِدٌ مِنَ الْأَشْيَاخِ الْمَذْكُورِينَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَالْغُلَامُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ أَيْضًا: مَا كُنْتُ أُوثِرُ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ غَيْرُهُ، بَلْ قَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ذِكْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِيمَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَخَطَّأَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامُ وَلَمْ يَسْتَأْذِنِ الْأَعْرَابِيُّ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرِيعَةِ فَاسْتَأْلَفَهُ بِتَرْكِ اسْتِئْذَانِهِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ.

(تَنْبِيهٌ): أَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِتَقْدِيمِ الْأَيْمَنِ فِي الْمَشْرُوبِ تَقْدِيمَهُ فِي الْمَأْكُولِ، وَنُسِبَ لِمَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يَصِحُّ عَنْهُ.

‌2 - بَاب مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ

2353 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ.

[الحديث 2353 - طرفاه في: 2354، 6962]

2354 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِمَائِهِ حَتَّى يَرْوَى، قُلْتُ: وَمَا نَفَاهُ مِنَ الْخِلَافِ هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَاءَ يُمْلَكُ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُمْلَكُ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - هُمُ الَّذِينَ لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَا يُمْنَعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَبِالرَّفْعِ عَل ى أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْمُرَادُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ النَّهْيُ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالْجَزْمِ بِلَفْظِ النَّهْيِ. وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي إِيرَادِ

(1)

وجد بهامش احدى النسخ التي طبع عليها بمطبعة بولاق "والاسناد مدنيون، إلا شيخه سعيد بن أبي مريم فإنه مصري كما يعلم من مراجعة كلامهم"

ص: 31

الْبُخَارِيِّ الطَّرِيقَ الثَّانِيَ كَوْنُهَا وَرَدَتْ بِصَرِيحِ النَّهْيِ وَهُوَ لَا تَمْنَعُوا وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ.

وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُمْنَعُ فَضْلَ مَاءٍ بَعْدَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَهُوَ، مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوَاتِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَحَرْمَلَةَ أَنَّ الْحَافِرَ يَمْلِكُ مَاءَهَا، وَأَمَّا الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ لِقَصْدِ الِارْتِفَاقِ لَا التَّمَلُّكِ فَإِنَّ الْحَافِرَ لَا يَمْلِكُ مَاءَهَا بَلْ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْتَحِلَ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ، وَالْمُرَادُ حَاجَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَزَرْعِهِ وَمَاشِيَتِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَخَّصَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِالْمَوَاتِ، وَقَالُوا فِي الْبِئْرِ الَّتِي فِي الْمِلْكِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلَ فَضْلِهَا، وَأَمَّا الْمَاءُ الْمُحْرَزُ فِي الْإِنَاءِ فَلَا يَجِبُ بَذْلَ فَضْلِهِ لِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (فَضْلَ الْمَاءِ) فِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَنْعُ الْفَضْلِ لَا مَنْعُ الْأَصْلِ، وَفِيهِ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ مَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَأْمُورَ بِالْبَذْلِ لَهُ مَاءً غَيْرَهُ، وَالْمُرَادُ تَمْكِينُ أَصْحَابِ الْمَاشِيَةِ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْمَاءِ مُبَاشَرَةُ سَقْيِ مَاشِيَةِ غَيْرِهِ مَعَ قُدْرَةِ الْمَالِكِ.

قَوْلُهُ: (لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَقْصُورٌ هُوَ النَّبَاتُ رَطْبُهُ وَيَابِسُهُ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ حَوْلَ الْبِئْرِ كَلَأٌ لَيْسَ عِنْدَهُ مَاءٌ غَيْرُهُ وَلَا يُمْكِنُ أَصْحَابَ الْمَوَاشِي رَعْيُهُ إِلَّا إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ سَقْيِ بَهَائِمِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرُوا بِالْعَطَشِ بَعْدَ الرَّعْيِ فَيَسْتَلْزِمُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْمَاءِ مَنْعَهُمْ مِنَ الرَّعْيِ، وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْبَذْلِ بِمَنْ لَهُ مَاشِيَةٌ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الرُّعَاةُ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الشُّرْبِ لِأَنَّهُمْ إِذَا مُنِعُوا مِنَ الشُّرْبِ امْتَنَعُوا مِنَ الرَّعْيِ هُنَاكَ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُهُمْ حَمْلُ الْمَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ لِقِلَّةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الزَّرْعُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَاشِيَةِ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ - فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ - بَيْنَ الْمَوَاشِي وَالزَّرْعِ بِأَنَّ الْمَاشِيَةَ ذَاتُ أَرْوَاحٍ يُخْشَى مِنْ عَطَشِهَا مَوْتُهَا بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَبِهَذَا أَجَابَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لَكِنَّهُ مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كَلَأٌ يُرْعَى فَلَا مَانِعَ مِنَ الْمَنْعِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالنَّهْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلتَّنْزِيهِ فَيُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا وُجُوبُ بَذْلِهِ مَجَّانًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ.

وَقِيلَ: لِصَاحِبِهِ طَلَبُ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ كَمَا فِي إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْمَنْعِ حَالَةَ امْتِنَاعِ الْمُحْتَاجِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ، وَرُدَّ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ وَتَتَرَتَّبُ لَهُ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَبْذُولِ لَهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَخْذُ الْقِيمَةِ مِنْهُ مَتَى أَمْكَنَ ذَلِكَ، نَعَمْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُبَاعُ فَضْلُ الْمَاءِ، فَلَوْ وَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ لَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ مَالِكَيْنِ فِيهَا مَاءٌ فَاسْتَغْنَى أَحَدُهُمَا فِي نَوْبَتِهِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا لِأَنَّهُ مَاءٌ فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ لَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ مَنْعِ الْمَاءِ لِئَلَّا يُتَذَرَّعَ بِهِ إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ، لَكِنْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ بِالنَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الْكَلَأِ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا تَمْنَعُوا الْكَلَأَ فَيَهْزِلُ الْمَالُ وَتَجُوعُ الْعِيَالُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَأِ هُنَا النَّابِتُ فِي الْمَوَاتِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ثَلَاثَةٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنَّارُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الْكَلَأُ يَنْبُتُ فِي مَوَاتِ الْأَرْضِ،

ص: 32

وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَحَدٍ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ الْحِجَارَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ النَّارُ حَقِيقَةً وَالْمَعْنَى لَا يُمْنَعُ مَنْ يَسْتَصْبِحُ مِنْهَا مِصْبَاحًا أَوْ يُدْنِي مِنْهَا مَا يُشْعِلُهُ مِنْهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا إِذَا أَضْرَمَ نَارًا فِي حَطَبٍ مُبَاحٍ بِالصَّحْرَاءِ. فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَضْرَمَ فِي حَطَبٍ يَمْلِكُهُ نَارًا فَلَهُ الْمَنْعُ.

‌3 - بَاب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ

2355 -

حَدَّثَني مَحْمُودٌ، أَخْبَرَني عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمَعْدِنُ جبار، وَالْبِئْرُ جبار، وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْبِئْرُ جُبَارٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ هَدَرٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ، وَالتَّرْجَمَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالْمِلْكِ وَهِيَ إِحْدَى صُوَرِ الْمُطْلَقِ وَأَقْعَدَهَا سُقُوطُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَضْمَنْ إِذَا حَفَرَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَالَّذِي يَحْفِرُ فِي مِلْكِهِ أَحْرَى بِعَدَمِ الضَّمَانِ اهـ. وَإِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ وَغَيْرِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ومَحْمُودٌ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ شَيْخُ مَحْمُودٍ هُوَ ابْنُ مُوسَى وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَرُبَّمَا أَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَهَذَا.

‌4 - بَاب الْخُصُومَةِ فِي الْبِئْرِ، وَالْقَضَاءِ فِيهَا

2356، 2357 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} الْآيَةَ. فَجَاءَ الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَقَالَ لِي: شُهُودَكَ. قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ. قَالَ: فَيَمِينُهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذن يَحْلِفَ. فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ.

[الحديث 2356 - أطرافه في: 2416، 2515، 2666، 2669، 2673، 2676، 4549، 6659، 6676، 7183، 7445]

[الحديث 2357 - أطرافه في: 2417، 2516، 2667، 2670، 2677، 4550، 6660، 6677، 7184]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُصُومَةِ فِي الْبِئْرِ وَالْقَضَاءِ فِيهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْأَشْعَثِ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي يَعْنِي فَتَخَاصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ مَوْضِعٍ.

اسْمُ ابْنِ عَمِّهِ مَعْدَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيُّ وَلَقَبُهُ الْجَفَشِيشُ بِوَزْنِ فَعَلِيلٍ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ هَذَا الْأَوَّلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَشْهَرُهَا بِالْجِيمِ وَالشِّينِ مُعْجَمَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضٍ. زَعَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ تَفَرَّدَ بِذِكْرِ الْبِئْرِ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ فِيمَنْ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ إِلَّا قَالَ: فِي أَرْضٍ

ص: 33

قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ أَبِي حَمْزَةَ اهـ.

وَذِكْرُ الْبِئْرِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَنَذْكُرُ فِي التَّفْسِيرِ الْخِلَافَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: شُهُودَكَ أَوْ يَمِينَهُ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيْ أَحْضِرْ شُهُودَكَ أَوِ اطْلُبْ يَمِينَهُ. وَقَوْلُهُ: إِذَنْ يَحْلِفَ. بِالنَّصْبِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا غَيْرَ، وَحَكَى ابْنُ خَرُوفٍ جَوَازَ الرَّفْعِ فِي مِثْلِ هَذَا.

‌5 - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنْ الْمَاءِ

2358 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لا يَنْظُرُ الله إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامه لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ. وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا}

[الحديث 2358 - أطرافه في: 2369، 2672، 7212، 7446]

قَوْلُه (بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنَ الْمَاءِ) أَيِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَإِذَا أَخَذَ حَاجَتَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ مَنْعُ ابْنِ السَّبِيلِ اهـ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ أَحَقُّ بِمَائِهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامَهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِمَامًا.

‌6 - بَاب سَكْرِ الْأَنْهَارِ

2359، 2360 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ. فَأَبَى عَلَيْهِ. فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ: ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ. فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ أَحَدٌ يَذْكُرُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا اللَّيْثَ فَقَطْ.

[الحديث 2360 - أطرافه في: 2361، 2362، 2708، 4585]

ص: 34

قَوْلُهُ (بَابُ سَكْرِ الْأَنْهَارِ) السَّكْرُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ: السَّدُّ وَالْغَلَقِ، مَصْدَرُ سَكَرْتُ النَّهَرَ إِذَا سَدَدْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَصْلُهُ مِنْ سَكَرَتِ الرِّيحُ إِذَا سَكَنَ هُبُوبُهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) يَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَيُونُسَ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامِّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ حَمَلَ رِوَايَةَ اللَّيْثِ عَلَى رِوَايَةِ يُونُسَ وَإِلَّا فَرِوَايَةُ اللَّيْثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الزُّبَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصُّلْحِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بِغَيْرِ ذِكْرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، وَأَعَادَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَلِكَ بِالْإِرْسَالِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ - مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَرِوَايَةِ شُعَيْبٍ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ ابْنَ أَبِي عَتِيقٍ، وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَافَقَا شُعَيْبًا، وَابْنَ جُرَيْجٍ عَلَى قَوْلِهِمَا: عُرْوَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا صَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ عُرْوَةَ مِنْ أَبِيهِ وَعَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَمَا دَارَ فَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالزُّبَيْرِ فَدَاعِيَةُ وَلَدِهِ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى ضَبْطِهِ، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَصْحِيحِ طَرِيقِ اللَّيْثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الزُّبَيْرِ، وَزَعَمَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا النَّسَائِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهَا التِّرْمِذِيُّ خَاصَّةً، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهَا الطَّبَرِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهِيَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَوْسِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ الْمُقْرِي فِي مُعْجَمِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اسْمَهُ حُمَيْدٌ، قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِ الصَّحَابَةِ: لِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ لَا أَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ حُمَيْدٍ إِلَّا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اهـ.

وَلَيْسَ فِي الْبَدْرِيِّينَ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنِ اسْمُهُ حُمَيْدٌ، وَحَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي مُبْهَمَاتِهِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ مُغِيثٍ أَنَّهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ثَابِتٌ بَدْرِيًّا، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ وَلَيْسَ بَدْرِيًّا أَيْضًا، نَعَمْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْبَدْرِيِّينَ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ هَذَا ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَذَاكَ عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا وَشَيْخُهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَاطِبًا وَإِنْ كَانَ بَدْرِيًّا لَكِنَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَكِنْ مُسْتَنَدَ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ. قَالَ: نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ الْحَدِيثَ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ مَعَ إِرْسَالِهِ.

فَإِنْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ

ص: 35

سَمِعَهُ مِنَ الزُّبَيْرِ فَيَكُونُ مَوْصُولًا، وَعَلَى هَذَا فيؤول قَوْلُهُ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ وَاحِدٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْكَرْمَانِيِّ بِأَنَّ حَاطِبًا كَانَ حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مَسْكَنُهُ هُنَا كَعُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ.

وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِغَيْرِ سَنَدٍ أَنَّ الزُّبَيْرَ، وَحَاطِبًا لَمَّا خَرَجَا مَرَّا بِالْمِقْدَادِ قَالَ: لِمَنْ كَانَ الْقَضَاءُ؟ فَقَالَ حَاطِبٌ: قَضَى لِابْنِ عَمَّتِهِ، وَلَوَى شِدْقَهُ، فَفَطِنَ لَهُ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَيَتَّهِمُونَهُ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ، وَيَتَرَشَّحُ بِأَنَّ حَاطِبًا كَانَ حَلِيفًا لِآلِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامِّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَكَأَنَّهُ كَانَ مُجَاوِرًا لِلزُّبَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ خَصْمَ الزُّبَيْرِ كَانَ مُنَافِقًا فَقَدْ وَجَّهَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعْنِي نَسَبًا لَا دِينًا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنْ أَصْدَرَ ذَلِكَ مِنْهُ بَادِرَةُ النَّفْسِ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَقَوَّى هَذَا شَارِحُ الْمَصَابِيحِ التُّورِبِشْتِيُّ وَوَهَّى مَا عَدَاهُ وَقَالَ: لَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِوَصْفِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَةِ النُّصْرَةِ الَّتِي هِيَ الْمَدْحُ وَلَوْ شَارَكَهُمْ فِي النَّسَبِ، قَالَ: بَلْ هِيَ زَلَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَمَكَّنَ بِهِ مِنْهَا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَنْكَرٍ مِنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ اهـ.

وَقَدْ قَالَ الدَّاوُدِيُّ بَعْدَ جَزْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا: وَقِيلَ كَانَ بَدْرِيًّا، فَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ شُهُودِهَا لِانْتِفَاءِ النِّفَاقِ عَمَّنْ شَهِدَهَا اهـ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ صُدُورِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْهُ وَبَيْنَ النِّفَاقِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ إِنْ كَانَ بَدْرِيًّا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، لَا يَسْتَكْمِلُونَ الْإِيمَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (خَاصَمَ الزُّبَيْرُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا وَالْمُخَاصَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُخَاصِمٌ لِلْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْجِيمِ جَمْعُ شَرْجٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ مِثْلُ بَحْرٍ وَبِحَارٍ وَيُجْمَعُ عَلَى شُرُوجٍ أَيْضًا، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ شَرَجٍ بِفَتْحِ الرَّاءٍ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ شَرْجَةٍ وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَسِيلُ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى الْحَرَّةِ لِكَوْنِهَا فِيهَا، وَالْحَرَّةُ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَهِيَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْمَشْهُورُ مِنْهَا اثْنَتَانِ حَرَّةُ وَاقِمٍ، وَحَرَّةُ لَيْلَى. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ نَهَرٌ عِنْدَ الْحَرَّةِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَغْرَبَ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ نَهَرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَادِيَانِ يَسِيلَانِ بِمَاءِ الْمَطَرِ فَيَتَنَافَسُ النَّاسُ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْلَى فَالْأَعْلَى.

قَوْلُهُ (الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهَا كِلَاهُمَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) يَعْنِي لِلزُّبَيْرِ (سَرِّحْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ التَّسْرِيحِ أَيْ أَطْلِقْهُ. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَمُرُّ بِأَرْضِ الزُّبَيْرِ قَبْلَ أَرْضِ الْأَنْصَارِيِّ فَيَحْبِسُهُ لِإِكْمَالِ سَقْيِ أَرْضِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَالْتَمَسَ مِنْهُ الْأَنْصَارِيُّ تَعْجِيلَ ذَلِكَ فَامْتَنَعَ.

قَوْلُهُ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنَ الرُّبَاعِيِّ تَقُولُ سَقَى وَأَسْقَى، زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقَدْ أَوْضَحَهُ شُعَيْبٌ فِي رِوَايَتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِهِ وَكَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فِيهِ سَعَةٌ لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ وَضَبَطَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَأَمِرَّهُ هُنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْإِمْرَارِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.

قَوْلُهُ: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: حَكَمْتَ لَهُ بِالتَّقْدِيمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ، وَكَانَتْ أُمُّ الزُّبَيْرِ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْ أَنْ كَثِيرًا تَخْفِيفًا، وَالتَّقْدِيرُ لِأَنْ كَانَ أَوْ بِأَنْ كَانَ، وَنَحْوُ:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أَيْ لَا تُطِعْهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، حَكَى الْقُرْطُبِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ أَنَّ هَمْزَةَ أَنْ مَمْدُودَةٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ إِنْكَارٍ. قُلْتُ: وَلَمْ يَقَعْ لَنَا فِي الرِّوَايَةِ مَدٌّ، لَكِنْ يَجُوزُ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.

وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ إِنْ كَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَلَا أَعْرِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ. نَعَمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ

ص: 36

فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ بِالْكَسْرِ، وَابْنَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ يَجُوزُ فِي أَنَّهُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَكَسْرُهَا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ كَلَامٍ تَامٍّ مُعَلَّلٍ بِمَضْمُونِ مَا صُدِّرَ بِهَا، فَإِذَا كُسِرَتْ قُدِّرَ مَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ، وَإِذَا فُتِحَتْ قُدِّرَ مَا قَبْلَهَا بِاللَّامِ، وَبَعْضُهُمْ يُقَدِّرُ بَعْدَ الْكَلَامِ الْمُصَدَّرِ بِالْمَكْسُورَةِ مِثْلَ مَا قَبْلَهَا مَقْرُونًا بِالْفَاءِ فَيَقُولُ فِي قَوْلِهِ مَثَلًا: اضْرِبْهُ إِنَّهُ مُسِيءٌ: اضْرِبْهُ إِنَّهُ مُسِيءٌ فَاضْرِبْهُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَلَمْ يُقْرَأْ هُنَا إِلَّا بِالْكَسْرِ، وَإِنْ جَازَ الْفَتْحُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ.

قَوْلُهُ: (فَتَلَوَّنَ) أَيْ تَغَيَّرَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَضَبِ، زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ حَتَّى عَرَفْنَا أَنْ قَدْ سَاءَهُ مَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) أَيْ يَصِيرَ إِلَيْهِ، وَالْجَدْرُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ - هُوَ الْمُسَنَّاةُ، وَهُوَ مَا وُضِعَ بَيْنَ شَرَبَاتِ النَّخْلِ كَالْجِدَارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَوَاجِزُ الَّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ وَجَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ، وَيُرْوَى الْجُدُرُ بِضَمِّ الدَّالِ حَكَاهُ أَبُو مُوسَى وَهُوَ جَمْعُ جِدَارٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَفِي بَعْضِهَا بِالسُّكُونِ وَهُوَ الَّذِي فِي اللُّغَةِ وَهُوَ أَصْلُ الْحَائِطِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمْ يَقَعْ فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا بِالسُّكُونِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى أُصُولِ النَّخْلِ، قَالَ وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ الْجِدَارُ وَالْمُرَادُ بِهِ جُدْرَانُ الشَّرَبَاتِ الَّتِي فِي أُصُولِ النَّخْلِ فَإِنَّهَا تُرْفَعُ حَتَّى تَصِيرَ تُشْبِهُ الْجِدَارَ، وَالشَّرَبَاتُ بِمُعْجَمَةٍ وَفَتَحَاتٍ هِيَ الْحُفَرُ الَّتِي تُحْفَرُ فِي أُصُولِ النَّخْلِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ الْجَذْرَ بِسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ جَذْرُ الْحِسَابِ وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْلُغَ تَمَامَ الشُّرْبِ.

قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَمْسِكْ أَيْ: أَمْسِكْ نَفْسَكَ عَنِ السَّقْيِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَمْسِكِ الْمَاءَ لَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ. قُلْتُ: قَدْ قَالَهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِي التَّفْسِيرِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: احْبِسِ الْمَاءَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَمْرَهُ بِإِرْسَالِ الْمَاءِ كَانَ قَبْلَ اعْتِرَاضِ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَمْرَهُ بِحَبْسِهِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ): {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ إِلَى قَوْلِهِ: {تَسْلِيمًا} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْآتِيَةِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ وَنَزَلَتْ فَلَا وَرَبِّكَ الْآيَةَ وَالرَّاجِحُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَأَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ الْجَزْمُ بِذَلِكَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الزُّبَيْرِ وَخَصْمِهِ، وَكَذَا فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَجَزَمَ مُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الْآيَةَ، فَرَوَى إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ وَرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ خُصُومَةٌ، فَدَعَا الْيَهُودِيُّ الْمُنَافِقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ، وَدَعَا الْمُنَافِقُ الْيَهُودِيَّ إِلَى حُكَّامِهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ:{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ حَاكِمَ الْيَهُودِ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَيَصْحَبَ، وَرَوَى بِإِسْنَادٍ آخَرَ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَقَدْ رَوَى الْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِيٍّ خُصُومَةٌ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَلْ نَأْتِي

ص: 37

كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ الْمُنَافِقَ وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَسْمِيَةِ عُمَرَ الْفَارُوقَ.

وَهَذَا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنْ تَقَوَّى بِطَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَلَا يَضُرُّهُ الِاخْتِلَافُ لِإِمْكَانِ التَّعَدُّدِ، وَأَفَادَ الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ اسْمَ الْأَنْصَارِيِّ الْمَذْكُورِ قَيْسٌ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَزَاهُ إِلَى أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَهْذِيبِهِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا هَذِهِ الْقِصَّةُ لِيَتَّسِقَ نِظَامُ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي سَبَبٍ وَاحِدٍ، قَالَ وَلَمْ يَعْرِضْ بَيْنَهَا مَا يَقْتَضِي خِلَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ الزُّبَيْرِ وَخَصْمِهِ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَيَتَنَاوَلُهَا عُمُومُ الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ أَحَدٌ يَذْكُرُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا اللَّيْثَ فَقَطْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَهُوَ الْقَائِلُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ هُوَ السُّلَمِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِتَفَرُّدِ اللَّيْثِ بِذِكْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي إِسْنَادِهِ فَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقًا ورد عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَيُونُسَ جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ بَلْ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَمُسَلَّمٌ، فَإِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ فِيهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ كَمَا تَق دَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى عَنِ اللَّيْثِ، وَيُونُسَ نَحْوَ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ.

‌7 - بَاب شُرْبِ الْأَعْلَى قَبْلَ الْأَسْفَلِ

2361 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ. فَقَالَ عليه السلام: اسْقِ يَا زُبَيْرُ حتى يَبْلُغُ الْمَاءُ الْجَدْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ الْأَعْلَى قَبْلَ الْأَسْفَلِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ قَبْلَ السُّفْلَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى ثُمَّ الْأَسْفَلُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الشُّرْبُ مِنْ نَهَرٍ أَوْ مَسِيلٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يُقَدَّمُ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَلَا حَقَّ لِلْأَسْفَلِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ الْأَعْلَى، وَحَدُّهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَاءَ الْأَرْضَ حَتَّى لَا تَشْرَبَهُ وَيَرْجِعَ إِلَى الْجِدَارِ ثُمَّ يُطْلِقَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَرْسِلْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ يَبْلُغَ الْمَاءُ الْجَدْرَ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ ذِكْرُ الْمَاءِ، زَادَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، وَاسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الصُّلْحِ فَاسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حِينَئِذٍ حَقَّهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فِيهِ سَعَةٌ لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ فَقَوْلُهُ اسْتَوْعَى أَيِ اسْتَوْفَى، وَهُوَ مِنَ الْوَعْيِ كَأَنَّهُ جَمَعَهُ لَهُ فِي وِعَائِهِ، وَقَوْلُهُ: أَحْفَظَهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَيْ أَغْضَبَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَصِلَ بِالْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ.

قُلْتُ: لَكِنِ الْأَصْلُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ كُلُّهُ وَاحِدًا حَتَّى يَرِدَ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِدْرَاجُ بِالِاحْتِمَالِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ

ص: 38

وَغَيْرُهُ: وَإِنَّمَا حَكَمَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَنْصَارِيِّ فِي حَالِ غَضَبِهِ - مَعَ نَهْيِهِ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ وَهُوَ غَضْبَانُ - لِأَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُخَافُ عَلَى الْحَاكِمِ مِنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَأْمُونٌ لِعِصْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ حَالَ السَّخَطِ.

‌8 - بَاب شِرْبِ الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ

2362 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ ليَسْقِي بِه النَّخْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يَا زُبَيْرُ - فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ - ثُمَّ أَرْسِله إِلَى جَارِكَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: آن كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَالَ: اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حتى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ - وَاسْتَوْعَى لَهُ حَقَّهُ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فقَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتْ الْأَنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ. وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ) يُشِيرُ إِلَى مَا حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ) كَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ بِلَفْظِ فِعْلِ الْأَمْرِ مِنَ الْإِمْرَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَمَرَهُ بِالْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي مِقْدَارِ الشُّرْبِ اهـ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمَرَهُ بِالْقَصْدِ وَالْأَمْرِ الْوَسَطِ مُرَاعَاةً لِلْجِوَارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ، وَمِثْلُهَا لِمَعْمَرٍ فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ أَوَّلًا أَنْ يُسَامِحَ بِبَعْضِ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ، وَبِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي الصُّلْحِ إِذَا أَشَارَ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْضَ الْأَنْصَارِيُّ بِذَلِكَ اسْتَقْصَى الْحُكْمَ وَحَكَمَ بِهِ.

وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ فَسْخِ الْحَاكِمِ حُكْمَهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ فَقَدَّمَ الْأَسْهَلَ إِيثَارًا لِحُسْنِ الْجِوَارِ، فَلَمَّا جَهِلَ الْخَصْمُ مَوْضِعَ حَقِّهِ رَجَعَ عَنْ حُكْمِهِ الْأَوَّلِ وَحَكَمَ بِالثَّانِي لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ أَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَالَ: وَقِيلَ بَلِ الْحُكْمُ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ أَوَّلًا، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلِ الْخَصْمُ ذَلِكَ عَاقَبَهُ بِمَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ ثَانِيًا عَلَى مَا بَدَرَ مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِالْأَمْوَالِ اهـ.

وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَسِيَاقُ طُرُقِ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَرَى، لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: وَاسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صْرِيحِ الْحُكْمِ وَهِيَ رِوَايَةُ شُعَيْبٍ فِي الصُّلْحِ وَمَعْمَرٍ فِي التَّفْسِيرِ، فَمَجْمُوعُ الطُّرُقِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَوَّلًا أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَثَانِيًا أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ رَاوِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَقَدَّرَتِ الْأَنْصَارُ وَالنَّاسُ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْجَدْرَ يَخْتَلِفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ قَاسُوا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ فَوَجَدُوهُ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِعْيَارًا لِاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَبْدَأُ الْمَاءِ مِنْ نَاحِيَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُرَادُ بِهِ

ص: 39

مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَحَدٌ فِي الْغِرَاسِ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ، وَالَّذِي يَلِيهِ مَنْ أَحْيَا بَعْدَهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا.

قَالَ: وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مَجْرَى الْمَاءِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ أَنْ يُمْسِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَخَصَّهُ ابْنُ كِنَانَةَ بِالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ، قَالَ: وَأَمَّا الزُّرُوعُ فَإِلَى الشِّرَاكِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْأَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ، فَيُمْسِكُ لِكُلِّ أَرْضٍ مَا يَكْفِيهَا، لِأَنَّ الَّذِي فِي قِصَّةِ الزُّبَيْرِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: هَلْ يُرْسِلُ الْأَوَّلُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ جَمِيعَ الْمَاءِ، أَوْ يُرْسِلُ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ؟ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي مَسِيلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ أَنْ يُمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ. وَمَهْزُورٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَمُذَيْنِبٍ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ بِالتَّصْغِيرِ: وَادِيَانِ مَعْرُوفَانِ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ إِسْنَادٌ مَوْصُولٌ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَإِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ مَوْصُولٍ، ثُمَّ رَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِهِ: احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اهـ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ الزُّهْرِيِّ يَقُولُ: نَظَرُوا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَكَأَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ ذَلِكَ مِنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَأَرْسَلَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ احْبِسِ الْمَاءَ إِلَى الْجَدْرِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَهُوَ شَكٌّ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَى الْجَدْرِ أَيْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ الْجَدْرُ مُرَادِفًا لِلْكَعْبِ.

قَوْلُهُ: (الْجَدْرُ هُوَ الْأَصْلُ) كَذَا هُنَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مِيَاهِ الْأَوْدِيَةِ وَالسُّيُولِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ إِذَا اسْتَغْنَى أَنْ يَحْبِسَ الْمَاءَ عَنِ الَّذِي يَلِيهِ. وَفِيهِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشِيرَ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَأْمُرَ بِهِ وَيُرْشِدَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْزِمُهُ بِهِ إِلَّا إِذَا رَضِيَ. وَأَنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَوْفِي لِصَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ إِذَا لَمْ يَتَرَاضَيَا، وَأَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ لِمَنْ تَوَجَّهَ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ مِنَ الْمُخَاصِمِ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الدَّعْوَى وَلَا تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي وَلَا حَصْرِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ.

وَفِيهِ تَوْبِيخُ مَنْ جَفَى عَلَى الْحَاكِمِ وَمُعَاقَبَتُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ التَّعْزِيرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، لَكِنْ مَحَلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْقِصَّةِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَأْلِيفِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَوْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا مِنْ أَحَدٍ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي حَقِّ شَرِيعَتِهِ لَقُتِلَ قِتْلَةَ زِنْدِيقٍ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ نَحْوَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ

2363 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ

ص: 40

بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ.

2364 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَقَالَ: دَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ. قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا.

2365 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، قَالَ: فَقَالوا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِيهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ.

[الحديث 2365 - طرفاه في: 3318، 3482]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ) أَيْ لِكُلِّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُمَيٍّ) بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا، زَادَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) زَادَ فِي الْمَظَالِمِ: السَّمَّانِ وَالْإِسْنَادُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِه.

قَوْلُهُ: (يَمْشِي) قَالَ فِي الْمَظَالِمِ بَيْنَمَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ، عَنْ مَالِكٍ يَمْشِي بِفَلَاةٍ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ يَمْشِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ) وَقَعَتِ الْفَاءُ هُنَا مَوْضِعَ إِذَا كَمَا وَقَعَتْ إِذَا مَوْضِعَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وَسَقَطَتْ هَذِهِ الْفَاءُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَذَا مِنَ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ لِلْأَكْثَرِ:

قَوْلُهُ: (فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْعُطَاشُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْعُطَاشُ دَاءٌ يُصِيبُ الْغَنَمَ تَشْرَبُ فَلَا تَرْوَى وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا، قَالَ: وَقِيلَ يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْعَطَشَ يَحْدُثُ مِنْهُ هَذَا الدَّاءُ كَالزُّكَامِ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ سَقَى الْكَلْبَ حَتَّى رَوِيَ وَلِذَلِكَ جُوزِيَ بِالْمَغْفِرَةِ.

قَوْلُهُ: (يَلْهَثُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ، اللَّهْثُ بِفَتْحِ الْهَاءِ هُوَ ارْتِقَاعُ النَّفَسِ مِنَ الْإِعْيَاءِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَهَثَ الْكَلْبُ أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ وَكَذَلِكَ الطَّائِرُ، وَلَهَثَ الرَّجُلُ إِذَا أَعْيَا، وَيُقَالُ إِذَا بَحَثَ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (يَأْكُلُ الثَّرَى) أَيْ يَكْدُمُ بِفَمِهِ الْأَرْضَ النَّدِيَّةَ، وَهِيَ إِمَّا صِفَةٌ وَإِمَّا حَالٌ، وَلَيْسَ بِمَفْعُولٍ ثَانٍ لِرَأَى.

قَوْلُهُ: (بَلَغَ هَذَا مِثْلَ) بِالْفَتْحِ أَيْ بَلَغَ مَبْلَغًا مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي، وَضَبَطَهُ الدِّمْيَاطِيُّ بِخَطِّهِ بِضَمِّ مِثْلٍ وَلَا يَخْفَى تَوْجِيهُهُ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فَرَحِمَهُ.

قَوْلُهُ: (فَمَلَأَ خُفَّهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فَنَزَعَ أَحَدَ خُفَّيْهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمْسَكَهُ) أَيْ أَحَدَ خُفَّيْهِ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَالِجُ بِيَدَيْهِ لِيَصْعَدَ مِنَ الْبِئْرِ، وَهُوَ يَشْعُرُ بِأَنَّ الصُّعُودَ مِنْهَا كَانَ عَسِرًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَقِيَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ كَصَعِدَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَذَكَرَهُ ابْنُ التِّينِ بِفَتْحِ الْقَافِ بِوَزْنِ مَضَى وَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ هِيَ لُغَةُ طَيّ يَفْتَحُونَ الْعَيْنَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ مُعْتَلَّ اللَّامِ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.

قَوْلُهُ: (فَسَقَى الْكَلْبَ) زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَتَّى أَرْوَاهُ أَيْ جَعَلَهُ رَيَّانًا، وَقَدْ مَضَى فِي الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَوْ قَبِلَ عَمَلَهُ أَوْ جَازَاهُ بِفِعْلِهِ، وَعَلَى الْأَخِيرِ فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَغَفَرَ لَهُ تَفْسِيرِيَّةٌ أَوْ مِنْ

ص: 41

عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ أَيْ أَظْهَرَ مَا جَازَاهُ بِهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارِ بَدَلَ فَغَفَرَ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا) سُمِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لَنَا) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ وَإِنَّ لَنَا (فِي الْبَهَائِمِ) أَيْ فِي سَقْيِ الْبَهَائِمِ أَوِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْبَهَائِمِ (أَجْرًا).

قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٍ) أَيْ كُلُّ كَبِدٍ حَيَّةٍ، وَالْمُرَادُ رُطُوبَةُ الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ لَازِمَةٌ لِلْحَيَاةِ فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ هُنَا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ، أَيِ الْأَجْرُ ثَابِتٌ فِي إِرْوَاءِ كُلِّ كَبِدٍ حَيَّةٍ، وَالْكَبِدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِي سَبَبِيَّةً كَقَوْلِكَ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَعْنَى فِي كُلٍّ كَبِدٍ حَيٍّ أَجْرٌ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي كُلِّ كَبِدٍ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْبَهَائِمِ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِقَتْلِهِ كَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْوَى لِيَزْدَادَ ضَرَرُهُ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ فَيَحْصُلُ الثَّوَابُ بِسَقْيِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ إِطْعَامُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا يَمْتَنِعُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، يَعْنِي فَيُسْقَى ثُمَّ يُقْتَلُ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نُحْسِنَ الْقِتْلَةَ وَنُهِينَا عَنِ الْمُثْلَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَمِمَّا قِيلَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ: إِنَّهُ فِعْلُ بَعْضِ النَّاسِ وَلَا يَدْرِي هَلْ هُوَ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَمْ لَا، وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَحْتَجَّ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَلْ إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَإِنَّا لَا نَأْخُذُ بِكُلِّ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ، بَلْ إِذَا سَاقَهُ إِمَامُ شَرْعِنَا مَسَاقَ الْمَدْحِ إِنْ عُلِمَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ السَّفَرِ مُنْفَرِدًا وَبِغَيْرِ زَادٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا مَا إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْمَغْفِرَةُ بِسَبَبِ سَقْيِ الْكَلْبِ فَسَقْيُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ أَجْرًا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ، وَكَذَا إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَالْآدَمِيِّ الْمُحْتَرَمِ وَاسْتَوَيَا فِي الْحَاجَةِ فَالْآدَمِيُّ أَحَقُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَبَطَتِ الْهِرَّةَ حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتِ النَّارَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي أَوَائِلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ مَعْنَ بْنَ عِيسَى تَفَرَّدَ بِذِكْرِهِ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ: وَرَوَاهُ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَمُطَرِّفٍ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طُرُقِهِمْ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ، بْنِ وَهْبٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ. وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ الْهِرَّةِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ عُوقِبَتْ عَلَى كَوْنِهَا لَمْ تَسْقِهَا، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَوْ سَقَتْهَا لَمْ تُعَذَّبْ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ عَطَشًا وَلَوْ كَانَ هِرَّةً. وَلَيْسَ فِيهِ ثَوَابُ السَّقْيِ وَلَكِنْ كَفَى بِالسَّلَامَةِ فَضْلًا.

‌10 - بَاب مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ

3266 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: يَا غُلَامُ

ص: 42

أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الْأَشْيَاخَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.

2367 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنْ الْإِبِلِ عَنْ الْحَوْضِ.

2368 -

حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ - يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا. وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ.

[الحديث 2368 - أطرافه في: 3362، 3363، 3364، 3365]

2369 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ"

قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - غَيْرَ مَرَّةٍ - عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ أَوِ الْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ) ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهُا: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ إِلْحَاقًا لِلْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ بِالْقَدَحِ، فَكَانَ صَاحِبُ الْقَدَحِ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ شُرْبًا وَسَقْيًا. وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الْأَيْمَنَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِالْقَدَحِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ الْأَيْمَنُ مَا فِي الْقَدَحِ بِمُجَرَّدِ جُلُوسِهِ وَاخْتَصَّ بِهِ فَكَيْفَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُ الْيَدِ وَالْمُتَسَبِّبُ فِي تَحْصِيلِهِ؟

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ حَوْضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ النَّبَوِيِّ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَقَوْلُهُ: لَأَذُودَنَّ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيْ لَأَطْرُدَنَّ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ يَطْرُدُ إِبِلَ غَيْرِهِ عَنْ حَوْضِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الْمُهَلَّبِ أَيْضًا فَقَالَ: إِنَّ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ جِهَةِ إِضَافَةِ الْحَوْضِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ أَحْكَامَ التَّكَالِيفِ لَا تَنْزِلُ عَلَى وَقَائِعِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا جَازَ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ طَرْدُ إِبِلِ غَيْرِهِ عَنْ حَوْضِهِ إِلَّا وَهُوَ أَحَقُّ بِحَوْضِهِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هَاجَرَ وَزَمْزَمَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهَا لِلَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهَا وَلَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنْ أَنْبَطَ مَاءً فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ مَلَكَهُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ فَضْلَهُ إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا شَرَطَتْ هَاجَرُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكُوهُ.

ص: 43

رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ وَفِيهِ: وَرَجُلٌ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ وَقَالَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَائِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُعَاقَبَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَنْعِهِ الْفَضْلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأَصْلِ، وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ عَالَجَهُ لَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا يَخْفَى مَعْنَاهُ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْبِئْرَ لَيْسَتْ مِنْ حَفْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَنْعِهِ غَاصِبَ ظَالِمٍ، وَهَذَا لَا يَرِدُ فِيمَا حَازَهُ وَعَمِلَهُ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ حَفَرَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ صَاحِبِ الشَّفَةِ أَيِ الْعَطْشَانِ، وَيَكُونُ مَعْنَى مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ أَيْ لَمْ تُنْبِعِ الْمَاءَ وَلَا أَخْرَجْتَهُ، قَالَ: وَهَذَا أَيِ الْأَخِيرُ لَيْسَ مِنَ الْبَابِ فِي شَيْءٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يُرْسِلُ هَذَا الْحَدِيثَ كَثِيرًا، وَلَكِنَّهُ صَحَّحَ الْمَوْصُولَ لِكَوْنِ الَّذِي وَصَلَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ فَوَصَلُوهُ قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: وَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُمْ. قُلْتُ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا عَمْرٌو النَّاقِدُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، وَصَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌11 - بَاب لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

2370 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ.

[الحديث 2370 - طرفه في: 3013]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمُا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْآخَرُ مَعْنَاهُ إِلَّا عَلَى مِثْلِ مَا حَمَاهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْوُلَاةِ بَعْدَهُ أَنْ يَحْمِيَ، وَعَلَى الثَّانِي يَخْتَصُّ الْحِمَى بِمَنْ قَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْخَلِيفَةُ خَاصَّةً. وَأَخَذَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا أَنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَيْنِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَكِنْ رَجَّحُوا الْأَوَّلَ بِمَا سَيَأْتِي أَنَّ عُمَرَ حَمَى بَعْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; وَالْمُرَادُ بِالْحِمَى مَنْعُ الرَّعْيِ فِي أَرْضٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَيَجْعَلُهَا الْإِمَامُ مَخْصُوصَةً بِرَعْيِ بَهَائِمِ الصَّدَقَةِ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنْهُ مِنَ الْأَقْرَانِ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِ ابْنِ شِهَابٍ، وفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (لَا حِمَى) أَصْلُ الْحِمَى عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ الرَّئِيسَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا مُخْصِبًا اسْتَعْوَى كَلْبًا عَلَى مَكَانٍ عَالٍ فَإِلَى حَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ وَيَرْعَى هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْحِمَى هُوَ الْمَكَانُ الْمَحْمِيُّ وَهُوَ خِلَافُ الْمُبَاحِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوَاتِ لِيَتَوَفَّرَ فِيهِ الْكَلَأُ فَتَرْعَاهُ مَوَاشٍ مَخْصُوصَةٌ وَيُمْنَعُ غَيْرُهَا، وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحِمَى يَخْتَصُّ بِالْخَلِيفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ وُلَاةُ الْأَقَالِيمِ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ مُطْلَقًا أَنْ لَا يَضُرَّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ لِمَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَتُعُقِّبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْحِمَى أَخَصُّ مِنَ

ص: 44

الْإِحْيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُعَارَضَةٌ، فَالْحِمَى الْمَنْهِيُّ مَا يُحْمَى مِنَ الْمَوَاتِ الْكَثِيرِ الْعُشْبِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِحْيَاءُ الْمُبَاحُ مَا لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ شَامِلَةً فَافْتَرَقَا، وَإِنَّمَا تُعَدُّ أَرْضُ الْحِمَى مَوَاتًا لِكَوْنِهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ، لَكِنَّهَا تُشْبِهُ الْعَامِرَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيعَ) كَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ إِلَّا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْقَائِلُ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَذَكَرَ الْمَوْصُولَ وَالْمُرْسَلَ جَمِيعًا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: بَلَغَنَا إِلَخْ فَظَنَّ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ الْمُصَنِّفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِلْحَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَذَكَرَ الْمَوْصُولَ وَالْمُرْسَلَ جَمِيعًا عَلَى الصَّوَابِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَوَقَعَ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ تَخْبِيطٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَاقْتَصَرَ فِي الْإِسْنَادِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْمَتْنِ الْمُرْسَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حَمَى النَّقِيعَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَلَاغٌ لِلزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ جَامِعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ وَنَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ وَهَمٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّ قَوْلَهُ حَمَى النَّقِيعَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي مِنْ بَلَاغِهِ، ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهِ وَفِي إِسْنَادِهِ الْعُمَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (النَّقِيعَ) بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ فَقَالَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَدْرُهُ مِيلٌ فِي ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ، وَأَصْلُ النَّقِيعِ كُلُّ مَوْضِعٍ يُسْتَنْقَعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النَّقِيعِ الْخُضُمَّاتِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي جَمْعَ فِيهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ غَيْرُ النَّقِيعِ الَّذِي فِيهِ الْحِمَى وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (وَإنَّ عُمَرَ حَمَى الشَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ مِنْ بَلَاغِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ وُقُوعُ الْحِمَى مِنْ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ إنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ عَلَى الْحِمَى الْحَدِيثَ. وَالشَّرَفُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ فِي الْمَشْهُورِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، قَالَ وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ أَوْ أَصْلَحَهُ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَأَمَّا سَرِفُ فَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ وَلَا تَدْخُلُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَالرَّبَذَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ حَمَى الرَّبَذَةَ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ.

‌12 - بَاب شُرْبِ النَّاسِ وَسقي الدَّوَابِّ مِنْ الْأَنْهَارِ

2371 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لها فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ

ص: 45

رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

[الحديث 2371 - أطرافه في: 2860، 3646، 4962، 4963، 7356]

3272 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: أعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ شُرْبِ النَّاسِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنَ الْأَنْهَارِ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْأَنْهَارَ الْكَائِنَةَ فِي الطُّرُقِ لَا يَخْتَصُّ بِالشُّرْبِ مِنْهَا أَحَدٌ دُونَ أَحَدٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ الْخَيْلِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُفَصَّلًا فِي الْجِهَادِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ. فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبَهَائِمِ طَلَبَ الْمَاءِ وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ صَاحِبُهَا، فَإِذَا أُجِرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيُؤْجَرُ بِقَصْدِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، فَثَبَتَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ.

ثَانِيهُمُا: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي اللُّقَطَةِ وَسَيَأْتِي فِيهَا مَشْرُوحًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ.

‌13 - بَاب بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلَإِ

2373 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلًا فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ وَجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أُعْطِيَ أَمْ مُنِعَ.

2374 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: لَأَنْ يحتطب أَحَدُكُمْ حزمة عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ.

2375 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: أَصَبْتُ

ص: 46

شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرَى، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ مَعَهُ قَيْنَةٌ. فَقَالَتْ: أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ، فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْفِ فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا - قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنْ السَّنَامِ. قَالَ: قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا فَذَهَبَ بِهَا - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ وَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي! فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلَأِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ بِغَيْرِ مَدٍّ وَهُوَ الْعُشْبُ رَطْبُهُ وَيَابِسُهُ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ كِتَابِ الشُّرْبِ اشْتَرَاكُ الْمَاءِ وَالْحَطَبِ وَالْمَرْعَى فِي جَوَازِ انْتِفَاعِ النَّاسِ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِبَاحَةُ الِاحْتِطَابِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَتَرْتَفِعُ الْإِبَاحَةُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ بِالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ بِالْإِحْيَاءِ لَهُ أَوْلَى. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَوَّلُهَا وَثَانِيهَا حَدِيثُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الِاكْتِسَابِ بِالِاحْتِطَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرَى، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ مَعَهُ قَيْنَةٌ. فَقَالَتْ:

أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ،

فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْفِ فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا - قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنْ السَّنَامِ. قَالَ: قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا فَذَهَبَ بِهَا - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ وَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي! فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.

ثَالِثُهُا: حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ شَارِفِيهِ مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ جَوَازِ الِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌14 - بَاب الْقَطَائِعِ

2376 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: أَرَادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا. قَالَ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي.

[الحديث 2376 - أطرافه في: 2377، 3163، 3794]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَطَائِعِ) جَمْعُ قَطِيعَةٍ تَقُولُ قَطَعْتُهُ أَرْضًا جَعَلْتُهَا لَهُ قَطِيعَةً، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَخُصُّ بِهِ الْإِمَامُ بَعْضَ الرَّعِيَّةِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ فَيَخْتَصُّ بِهِ وَيَصِيرُ أَوْلَى بِإِحْيَائِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْبِقْ إِلَى إِحْيَائِهِ. وَاخْتِصَاصُ الْإِقْطَاعِ بِالْمَوَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْإِقْطَاعَ تَسْوِيغُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِ اللَّهِ شَيْئًا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهَا لِمَنْ يَرَاهُ مَا يَحُوزُهُ إِمَّا بِأَنْ يُمَلِّكَهُ إِيَّاهُ فَيُعَمِّرَهُ، وَإِمَّا بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ غَلَّتَهُ مُدَّةً انْتَهَى.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي زَمَانِنَا هَذَا إِقْطَاعًا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ.

ص: 47

وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقٍ فِقْهِيٍّ مُشْكِلٍ. قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لِلْمُقْطَعِ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ كَاخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ، لَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَادَّعَى الْأَذْرَعِيُّ نَفْيَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْإِمَامِ بَعْضَ الْجُنْدِ بِغَلَّةِ أَرْضٍ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَوَقَعَ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ لِحَمَّادٍ مِنْ يَحْيَى.

قَوْلُهُ: (أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ) يَعْنِي لِلْأَنْصَارِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ دَعَا الْأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ الْبَحْرَيْنَ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ لِيُقْطِعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنَ أَوْ طَائِفَةً مِنْهَا وَكَأَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ حَمَّادٍ، فَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ دَعَا الْأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنَ وَلَهُمْ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى إِلَى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمْ الْبَحْرَيْنَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُمْ أقْطَاعًا.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَوَاتَ مِنْهَا لِيَتَمَلَّكُوهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْعَامِرَ مِنْهَا لَكِنْ فِي حَقِّهِ مِنَ الْخُمُسِ ; لِأَنَّهُ كَانَ تَرَكَ أَرْضَهَا فَلَمْ يَقْسِمْهَا.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِتَنَاوُلِ جِزْيَت هَا، وَبِهِ جَزَمَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَابْنُ قُرْقُولٍ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ أَرْضَ الصُّلْحِ لَا تُقْسَمُ فَلَا تُمْلَكُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا يُسَمَّى إِقْطَاعًا إِذَا كَانَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَقَارٍ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ مِنَ الْفَيْءِ وَلَا يُقْطَعُ مِنْ حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْإِقْطَاعُ تَمْلِيكًا وَغَيْرَ تَمْلِيكٍ، وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ إِقْطَاعُهُ صلى الله عليه وسلم الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ الدُّورَ يَعْنِي أَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ فِي دُورِ الْأَنْصَارِ بِرِضَاهُمُ انْتَهَى.

وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْخُمُسِ حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ يَعْنِي بَعْدَ أَنْ أَجْلَاهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهَا وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا إِقْطَاعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ الْأَنْصَارَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، أَمَّا النَّاجِزُ يَوْمَ عَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا صَالَحُوا عَلَيْهَا، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَتِ الْفُتُوحُ فَخَرَاجُ الْأَرْضِ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَرَاضٍ بَعْدَ فَتْحِهَا وَقَبْلَ فَتْحِهَا، مِنْهَا إِقْطَاعُهُ تَمِيمًا الدَّارِيَّ بَيْتَ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا فُتِحَتْ فِي عَهْدِ عُمَرَ نَجَزَ ذَلِكَ لِتَمِيمٍ، وَاسْتَمَرَّ فِي أَيْدِي ذُرِّيَّتِهِ مِنَ ابْنَتِهِ رُقَيَّةَ، وَبِيَدِهِمْ كِتَابٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ يَعْنِي سَبَبَ قِلَّةِ الْفُتُوحِ يَوْمَئِذٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِعْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ الْمُهَاجِرِينَ أَرْضَ بَنِي النَّضِيرِ.

قَوْلُهُ: (سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ مِنِ اسْتِئْثَارِ الْمُلُوكِ مِنْ قُرَيْشٍ عَنِ الْأَنْصَارِ بِالْأَمْوَالِ وَالتَّفْضِيلِ فِي الْعَطَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌15 - بَاب كِتَابَةِ الْقَطَائِعِ

2377 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ

ص: 48

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ كِتَابَةِ الْقَطَائِعِ) أَيْ لِتَكُونَ تَوْثِقَةً بِيَدِ الْمُقْطَعِ دَفْعًا لِلنِّزَاعِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْرَدَهُ عَنِ اللَّيْثِ غَيْرَ مَوْصُولٍ، زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ. وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ لَا ذِكْرَ لِلْكِتَابَةِ فِيهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الشِّقِّ الثَّانِي، وَبِأَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَرِدُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْأَنْصَارِ لِتَوَقُّفِهِمْ عَنْ الِاسْتِئْثَارِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا دُونَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ كَانُوا: يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، فَحَصَلُوا فِي الْفَضْلِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إِيثَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمُوَاسَاتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ، وَالِاسْتِئْثَارُ عَلَيْهِمْ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْرَيْنِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌16 - بَاب حَلَبِ الْإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ

2378 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ حَقِّ الْإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَلَبِ الْإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ) أَيْ عِنْدَ الْمَاءِ، وَالْحَلَبُ بِفَتْحِ اللَّامِ الِاسْمُ وَالْمَصْدَرُ سَوَاءٌ. قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ، تَقُولُ: حَلَبْتُهَا أَحْلُبُهَا حَلَبًا بِفَتْحِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تُحْلَبَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَأَشَارَ الدَّاوُدِيُّ إِلَى أَنَّهُ رُوِيَ بِالْجِيمِ وَقَالَ: أَرَادَ أَنَّهَا تُسَاقُ إِلَى مَوْضِعِ سَقْيِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ أَنْ تُحْلَبَ إِلَى الْمَاءِ لَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ حَلَبُهَا هُنَاكَ لِنَفْعِ مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ الْإِبِلَ أَيْضًا، وَهُوَ نَحْوُ النَّهْيِ عَنِ الْجِدَادِ بِاللَّيْلِ، أَرَادَ أَنْ تُجَدَّ نَهَارًا لِتَحْضُرَ الْمَسَاكِينُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْمَاءِ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْبَرْقَانِيُّ فِي الْمُصَافَحَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ فُلَيْحٍ يَوْمَ وُرُودِهَا وَسَاقَ الْبَرْقَانِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِي نَسَقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا وَفِيهِ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.

‌17 - بَاب الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِي حَائِطٍ أَوْ فِي نَخْلٍ.

وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، ولِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ

2379 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ.

ص: 49

وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي الْعَبْدِ.

2380 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم قَالَ: "رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا"

2381 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَعَنْ الْمُزَابَنَةِ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَأَنْ لَا تُبَاعَ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَّ الْعَرَايَا"

2382 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ شَكَّ دَاوُدُ فِي ذَلِكَ"

2383، 2384 - حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ إِلاَّ أَصْحَابَ الْعَرَايَا فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ"

قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بُشَيْرٌ .. مِثْلَهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِي حَائِطٍ أَوْ نَخْلٍ) هُوَ مِنَ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي الْحَائِطِ أَوْ نَصِيبٌ فِي النَّخْلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَصَلَهُ بِمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ) أَيْ ثَمَرَتَهُ (وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ)، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتَنْبَطَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَتَوَهَّمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فَوَهَمَ فِي ذَلِكَ وَهَمًا فَاحِشًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْفِقْهِ التَّنْبِيهُ عَلَى إِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْحُقُوقِ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ، هَذَا لَهُ الْمِلْكُ وَهَذَا لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْبَائِعِ الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ لِاقْتِطَافِهَا فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْعَرِيَّةِ. قَالَ: وَعِنْدَنَا خِلَافٌ فِيمَنْ يَسْقِي الْعَرِيَّةَ، هَلْ هُوَ عَلَى الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبَةِ لَهُ؟ وَكَذَلِكَ سَقْيُ الثَّمَرَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْبَيْعِ، قِيلَ: عَلَى الْبَائِعِ وَقِيلَ: عَلَى الْمُشْتَرِي، فَلَا تَغْتَرَّ بِنَقْلِ ابْنِ بَطَّالٍ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ وَعَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِيهِ فِي بَابِ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ) إِلَخْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِإِضَافَةِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ بِاللَّامِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْمِلْكِ. قَالَ غَيْرُهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، لَكِنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بَعْدَ

ص: 50

ذَلِكَ رَجَعَ الْمَالُ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَكَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ شَيْئًا أَصْلًا وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِانْتِفَاعِ كَمَا يُقَالُ: السَّرْجُ لِلْفَرَسِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِهِ أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَمَعَهُ مَالٌ وَشَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَالُ رِبَوِيًّا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ وَمَعَهُ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُمْنَعُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَكَأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْعَبْدِ خَاصَّةً، وَالْمَالُ الَّذِي مَعَهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعَقْدِ.

وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَالُ ثِيَابًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهَا حُكْمُ الْمَالِ، وَقِيلَ تَدْخُلُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ يَدْخُلُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنْ شَرَطَهُ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ صَحَّ مُطْلَقًا، وَإِنْ شَرَطَ بَعْضَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ فَرِوَايَتَانِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ.: إِنْ زَالَ مِلْكُ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ بِبَيْعٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ فَالْمَالُ لِلسَّيِّدِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ يَتْبَعُ الْعَبْدَ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى قَائِلِ هَذَا. وَإِنْ زَالَ بِالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ فَالْمَالُ لِلْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ السَّيِّدُ، وَإِنْ زَالَ بِالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا فَرِوَايَتَانِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَرْجَحُهُمَا إِلْحَاقُهَا بِالْبَيْعِ، وَكَذَا إِنْ سَلَّمَهُ فِي الْجِنَايَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَهُ مَالٌ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى الْعَبْدِ مَجَازٌ كَإِضَافَةِ الثَّمَرَةِ إِلَى النَّخْلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ مَالِكٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ فَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالتَّقْدِيرُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَتَرَدَّدَ الْكَرْمَانِيُّ. وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّخْلِ مَرْفُوعًا، وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي الْعَبْدِ مَوْقُوفًا، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بِقِصَّةِ الْعَبْدِ، وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقِصَّةِ النَّخْلِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: فِي الْعَبْدِ أَيْ فِي شَأْنِ الْعَبْدِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ مَالَهُ لِبَائِعِهِ، أَوْ زَادَ لَفْظَ الْعَبْدِ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ أَيْ وَالْعَبْدُ كَذَلِكَ. قُلْتُ: وَأَرْجَحُهَا الْأَوَّلُ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْتُهُ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بِقِصَّةِ الْعَبْدِ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِالْقِصَّتَيْنِ، وقَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّهُ أَخْطَأَ، وَالصَّوَابُ مَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ اللَّيْثُ وَأَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ فِي الْعَبْدِ مَوْقُوفًا.

وَقَوْلُهُ: مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ هَكَذَا ثَبَتَتْ قِصَّةُ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَصَنِيعُ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ الْعَرَايَا فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ مَنْ بَاعَ نَخْلًا ثُمَّ قَالَ: وَلِمُسْلِمٍ مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعَ وَكَأَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ كِتَابَ الْبُيُوعِ مِنَ الْبُخَارِيِّ فَلَمْ يَجِدْهُ فِيهِ تَوَهَّمَ أَنَّهَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ.

وَاعْتَذَرَ الشَّارِحُ ابْنُ الْعَطَّارِ عَنْ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ فَقَالَ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: فَالْمُصَنِّفُ لَمَّا نَسَبَ الْحَدِيثَ لِابْنِ عُمَرَ احْتَاجَ أَنْ يَنْسُبَ الزِّيَادَةُ لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَبَالَغَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يَذْكُرَا فِي طَرِيقِ سَالِمٍ، عُمَرَ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَاسِطَةِ عُمَرَ، لَكِنَّ مُسْلِمَ، وَالْبُخَارِيَّ ذَكَرَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَالشِّرْبِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ وَهَمِ الْمَقْدِسِيِّ مَا ذَكَرْتُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: لَمْ تَقَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ فَإِنَّ سَالِمًا ثِقَةٌ بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ. وَقَدْ أَشَارَ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَهِيَ إِشَارَةٌ مَرْدُودَةٌ انْتَهَى.

قُلْتُ: أَمَّا نَفْيُ تَخْرِيجِهَا فَمَرْدُودٌ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ نَافِعٍ لَكِنْ

ص: 51

بِاخْتِصَارٍ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ سَالِمٍ وَنَافِعٍ فَإِنَّمَا هُوَ فِي رَفْعِهَا وَوَقْفِهَا لَا فِي إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا، فَسَالِمٌ رَفَعَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا وَنَافِعٌ رَفَعَ حَدِيثَ النَّخْلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَ حَدِيثَ الْعَبْدِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رَجَّحَ مُسْلِمٌ مَا رَجَّحَهُ النَّسَائِيُّ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا سَالِمٌ، وَنَافِعٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: اتَّفَقَا عَلَى رَفْعِ حَدِيثِ النَّخْلِ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْعَبْدِ فَرَفَعَهَا سَالِمٌ وَوَقَفَهَا نَافِعٌ عَلَى عُمَرَ، وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ سَالِمٍ فِي رَفْعِ الْحَدِيثَيْنِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ هُوَ وَهَمٌ مِنْ نَافِعٍ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ سَالِمٌ مَرْفُوعًا فِي الْعَبْدِ وَالثَّمَرَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُدْخِلَ الْوَهَمُ عَلَى نَافِعٍ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ قَالَ ذَلِكَ - يَعْنِي عَلَى جِهَةِ الْفَتْوَى - مُسْتَنِدًا إِلَى مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَصِحَّ الرِّوَايَتَانِ. قُلْتُ: قَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَنَقَلَ عَنْهُ فِي الْعِلَلِ تَرْجِيحَ قَوْلِ سَالِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَرْثُ

(1)

) أَيِ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ، فَمَنْ بَاعَ أَرْضًا مَحْرُوثَةً وَفِيهَا زَرْعٌ فَالزَّرْعُ لِلْبَائِعِ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ كَالْخِلَافِ فِي النَّخْلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَجَرَ أَرْضًا وَلَهُ فِيهَا زَرْعٌ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْمُؤْجِرِ لَا لِلْمُسْتَأْجِرِ إِنْ تُصُوِّرَتْ صُورَةُ الْإِجَارَةِ.

قَوْلُهُ (سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ

(1)

) قَائِلُ سَمَّى هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ تَدْلِيسِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ عَنْ نَافِعٍ وَمَعَ ذَلِكَ أَفْصَحَ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاسِطَةً.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي الْعَرَايَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي بَابِهِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَبَيْعُهُ بِغَيْرِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلَّا الْعَرَايَا. فَأَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمُزَارَعَةِ. وَأَمَّا الْمُحَاقَلَةُ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي بَابِ بَيْعِ الْمُحَاضَرَةِ. وَأَمَّا الْمُزَابَنَةُ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا فِي بَابِ الْمُزَابَنَةِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُ فَتَقَدَّمَ فِي بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤوسِ النَّخْلِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَشْرُوحًا فِي بَابِهِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُشَيْرٌ. . . مِثْلَهُ.

خَامِسُهُا: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ إِلَّا أَصْحَابَ الْعَرَايَا وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رؤوسِ النَّخْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: قَالَ: وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:، حَدَّثَنِي بَشِيرٌ يَعْنِي ابْنَ يَسَارٍ مِثْلَهُ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَلَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِهِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (خَاتِمَةٌ)

: اشْتَمَلَ كِتَابُ الشِّرْبِ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ رُومَةَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هَاجَرَ، وَحَدِيثِ الصَّعْبِ فِي الْحِمَى، وَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُرْسَلِ فِي حِمَى النَّقِيعِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْقَطَائِعِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ اثْنَانِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(1)

في هامش طبعة بولاق: قول الشارح (قوله والحرث الخ) و (قوله سمي له نافع هؤلاء الثلاثة الخ) هاتان العبارتان غير موجودتين في نسخ المتن التي بايدينا، ولعلهما في الرواية التي وقعت للشارح فشرح عليها

ص: 52

بسم الله الرحمن الرحيم

‌43 - كِتَاب فِي الِاسْتِقْرَاضِ

وَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ

‌1 - بَاب مَنْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَته

2385 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ - هو البيكندي -، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْمُغِيرَةِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ أَتَبِيعه - قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ.

2386 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.

قَوْلُهُ: (كِتَابٌ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي أَوَّلِهِ الْبَسْمَلَةَ. وَلِلنَّسَفِيِّ بَابٌ بَدَلَ كِتَابٍ، وَعَطَفَ التَّرْجَمَةَ الَّتِي تَلِيهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَابٍ. وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِقِلَّةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا وَلِتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ) أَيْ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا أَشْتَرِي مَا لَيْسَ عِنْدِي ثَمَنُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ تَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي شِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ جَمَلَهُ فِي السَّفَرِ وَقَضَائِهِ ثَمَنَهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ. وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي شِرَائِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِيِّ الطَّعَامَ إِلَى أَجَلٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلرُّكْنِ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ حَضَرَهُ الثَّمَنُ مَا أَخَّرَهُ، وَكَذَا ثَمَنُ الطَّعَامِ لَوْ حَضَرَهُ لَمْ يُرَتِّبْ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا، لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى إِخْرَاجِ مَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ، قُلْتُ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الشُّرُوطِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ.

وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ جَابِرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَأُهْمِلَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَجَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ سَلَّامٍ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ كَذَلِكَ. وَجَرِيرٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ.

‌2 - بَاب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَوْ إِتْلَافَهَا

2387 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي

ص: 53

هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلَافَهَا)

حَذَفَ الْجَوَابَ اغْتِنَاءً بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ فَقَدْ أَخَذَ لَا يُرِيدُ الْوَفَاءَ إِلَّا بِطَرِيقِ التَّمَنِّي وَالتَّمَنِّي خِلَافُ الْإِرَادَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الْوَفَاءَ مِمَّا سَيَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ نَطَقَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ اللَّهَ يُؤَدِّي عَنْهُ إِمَّا بِأَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا بِأَنْ يَتَكَفَّلَ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ التَّقْيِيدُ بِالْقُدْرَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ سُلِّمَ مَا قَالَ: فَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ ثَالِثَةٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْلَمَ هَلْ يَقْدِرُ أَوْ يَعْجِزُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَهُوَ الدِّيلِيُّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْغَيْثِ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ. قُلْتُ: وَاسْمُهُ سَالِمٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ وَلِابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدَّانُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَدَاءَهُ إِلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَظَاهِرُهُ يُحِيلُ الْمَسْأَلَةَ الْمَشْهُورَةَ فِيمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ كَأَنْ يَعْسُرَ مَثَلًا أَوْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ وَلَهُ مَالٌ مَخْبُوءٌ وَكَانَتْ نِيَّتُهُ وَفَاءَ دَيْنِهِ وَلَمْ يُوَفَّ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ عَلَى الْغَالِبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي الْآخِرَةِ بِحَيْثُ يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، بَلْ يَتَكَفَّلُ اللَّهُ عَنْهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَتْلَفَهُ اللَّهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ يَقَعُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ فِي مَعَاشِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِمَا نَرَاهُ بِالْمُشَاهَدَةِ مِمَّنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِتْلَافِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ الْحَضُّ عَلَى تَرْكِ اسْتِئْكَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي حُسْنِ التَّأْدِيَةِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ وَأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَعْتِقُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَإِنْ فَعَلَ رُدَّ اهـ. وَفِي أَخْذِ هَذَا مِنْ هَذَا بُعْدٌ كَثِيرٌ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي تَحْسِينِ النِّيَّةِ وَالتَّرْهِيبُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَأَنَّ مَدَارَ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الدَّيْنِ لِمَنْ يَنْوِي الْوَفَاءَ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِينُ، فَسُئِلَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَبْدٍ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ إِلَّا كَانَ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَوْنٌ، قَالَتْ: فَأَنَا أَلْتَمِسُ ذَلِكَ الْعَوْنَ، وَسَاقَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ.

وَفِيهِ: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَيْنٍ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ بَلْ يُنْتَظَرُ بِهِ حُلُولُ الْأَجَلِ لِاقْتِصَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِرَدِّ الْبَيْعِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.

‌3 - بَاب أَدَاءِ الدَّيْون،

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}

2388 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ

ص: 54

اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَبْصَرَ - يَعْنِي أُحُدًا - قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا - وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَقَالَ: مَكَانَكَ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ. فَلَمَّا جَاءَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي سَمِعْتُ - أَوْ قَالَ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ - قَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

2389 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، إِلَّا شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، رَوَاهُ صَالِحٌ وَعُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 2389 - طرفاه في: 6445، 7228]

قَوْلُهُ: (بَابُ أَدَاءِ الدَّيْنِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الدُّيُونُ بِالْجَمْعِ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أُدْخِلَ الدَّيْنُ فِي الْأَمَانَةِ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِأَدَائِهِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُرَادُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَفُسِّرَتْ هُنَاكَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ اهـ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَدَائِهَا وَمَدَحَ فَاعِلَهُ وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَحَالُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ حَاجِبِ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَزَلَتْ فِي الْوُلَاةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: كَانَ لِي دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ لَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَبْصَرَ أُحُدًا قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ يُحَوَّلُ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

وَغَرَضُهُ هُنَا هَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي كَثِيرِ الدَّيْنِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْهُ أَخْذًا مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ دِينَارٍ مَثَلًا لَمْ يَرْصُدْ لِأَدَائِهَا دِينَارًا وَاحِدًا اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَفِيهِ الِاهْتِمَامُ بِأَمْرِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ تَحَوَّلَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَلِغَيْرِهِ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ حَوَّلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النُّحَاةِ، وَعَابَ بَعْضُهُمُ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى الْحَرِيرِيِّ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ هُنَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ جَارِيًا مَجْرَى صَارَ فِي رَفْعِ مَا كَانَ مُبْتَدَأً وَنَصْبِ مَا كَانَ خَبَرًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا صِيغَ مِنْ حَوَّلَ مِثْلُ تَحَوَّلَ فَإِنَّهُ بِزِيَادَةِ الْمُثَنَّاةِ تَجَدَّدَ لَهُ حَذْفُ مَا كَانَ فَاعِلًا وَجُعِلَ أَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ فَاعِلًا وَثَانِيهِمَا

ص: 55

خَبَرًا مَنْصُوبًا.

قَوْلُهُ: (أَرْصُدُهُ) ثَبَتَ فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ رَصَدَ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ تَقُولُ: أَرْصَدْتُهُ أَيْ هَيَّأْتُهُ وَأَعْدَدْتُهُ وَرَصَدْتُهُ أَيْ رَقَبْتُهُ، وَقَوْلُهُ: الْأَكْثَرُونَ؛ أَيْ: مَالًا وَالْأَقَلُّونَ أَيْ: ثَوَابًا إِلَّا مَنْ ذَكَرَ، وَقَوْلُهُ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ مَا زَائِدَةٌ أَوْ صِفَةٌ، وَقَوْلُهُ: مَكَانَكَ بِالنَّصْبِ مَحْذُوفُ الْعَامِلِ أَيِ الْزَمْ مَكَانَكَ، وَقَوْلُهُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي سَمِعْتُ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَا هُوَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فُسِّرَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي الرِّقَاقِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي هُنَا وَإِنْ بَدَلَ وَمَنْ.

قَوْلُهُ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ (وَرَوَاهُ صَالِحٌ، وَعُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَرِيقُهُمَا مَوْصُولٌ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ وُقُوعُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ مِثْلٍ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} قَوْلُهُ: (مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ وُقُوعُ جَوَابِ لَوْ مُضَارِعًا مَنْفِيًّا بِمَا، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا مُثْبَتًا، وَكَأَنَّهُ أَوْقَعَ الْمُضَارِعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، أَوْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَا كَانَ يَسُرُّنِي فَحَذَفَ كَانَ وَهُوَ جَوَابُ لَوْ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ هُوَ الِاسْمُ وَيَسُرُّنِي الْخَبَرُ، وَحَذْفُ كَانَ مَعَ اسْمِهَا وَبَقَاءُ خَبَرِهَا كَثِيرٌ وَهَذَا أَوْلَى اهـ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَا يَسُرُّنِي أَنْ يَمْكُثَ عِنْدِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمْكُثَ وَمَفْهُومُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُطَابِقٌ لِمَنْطُوقِ الْآخَرَ، وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمْكُثَ وَعَلَى هَذَا فَلَا زَائِدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب اسْتِقْرَاضِ الْإِبِلِ

2390 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بِمِنًى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ. وَقَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: اشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْرَاضِ الْإِبِلِ) أَيْ جَوَازُهُ لِيَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ نَظِيرَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ فِي الْهِبَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ سِنًّا فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَفِي أَوَّلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ يَتَقَاضَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا، وَلَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ: اسْتَقْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ: اسْتَقْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِنًّا.

قَوْلُهُ: (فَأَغْلَظَ لَهُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِغْلَاظُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ زَائِدٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ كَافِرًا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ كَانَ أَعْرَابِيًّا، وَكَأَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ مِنْ جَفَاءِ الْمُخَاطَبَةِ. وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مَا يُفْهِمُ أَنَّهُ هُوَ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِأَعْرَابِيٍّ، وَوَقَعَ لِلْعِرْبَاضِ نَحْوُهَا.

قَوْلُهُ: (فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ) أَيْ أَرَادَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْذُوهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، لَكِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَدَبًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) أَيْ

ص: 56

صَوْلَةَ الطَّلَبِ وَقُوَّةَ الْحُجَّةِ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ الْمَشْرُوعِ.

قَوْلُهُ: (وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْتَمِسُوا لَهُ مِثْلَ سِنِّ بَعِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا لَا نَجِدُ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا فَوْقَهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَالْتَمَسُوا لَهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا فَوْقَ سِنِّ بَعِيرِهِ وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ هُوَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَالَ: إِذَا جَاءَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ قَضَيْنَاكَ، فَلَمَّا جَاءَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ أَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: اشْتَرُوا لَهُ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِالشِّرَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ قَدِمَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَأَعْطَاهُ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ أَمَرَ بِالشِّرَاءِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ مِمَّنِ اسْتَحَقَّ مِنْهَا شَيْئًا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ الْمَذْكُورَةُ: إِذَا جَاءَتِ الصَّدَقَةُ قَضَيْنَاكَ اهـ. وَالْبَكْرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ الصَّغِيرُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْخِيَارُ الْجَيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَالرَّبَاعِي، بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ أَلْقَى رَبَاعِيَتَهُ.

قَوْلُهُ (فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ فِي الْهِبَةِ: فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرَكُمْ كَذَا عَلَى الشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ خِيَارُكُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْمُفْرَدَ بِمَعْنَى الْمُخْتَارِ أَوِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ أَوْ تَكُونَ مِنْ مُقَدَّرَةً وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ.

وَقَوْلُهُ: أَحْسَنُكُمْ لَمَّا أُضِيفَ أَفْعَلُ وَالْمَقْصُودُ بِهِ الزِّيَادَةُ جَازَ فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بَعْدَ بَابِ مِنْ خِيَارِكُمْ وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إِذَا حَلَّ أَجَلُهُ. وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِظَمُ حِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَإِنْصَافِهِ، وَأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَنْبَغِي لَهُ مُجَافَاةُ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْإِمَامِ كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهُوَ اسْتِقْرَاضُ الْإِبِلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَهُوَ حَدِيثٌ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ الْحُفَّاظَ رَجَّحُوا إِرْسَالَهُ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، وَفِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ اخْتِلَافٌ. وَفِي الْجُمْلَةِ هُوَ حَدِيثٌ صَالِحٌ لِلْحُجَّةِ.

وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ نَسِيئَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ بَقِيَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ وَالسَّلَمِ فِيهِ. وَاعْتَلَّ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا حَتَّى لَا يُوقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِثْلِيَّةِ فِيهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهِ بِالْوَصْفِ بِمَا يَدْفَعُ التَّغَايُرَ، وَقَدْ جَوَّزَ الْحَنَفِيَّةُ التَّزْوِيجَ وَالْكِتَابَةَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ، وَفِيهِ جَوَازُ وَفَاءِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمِثْلِ الْمُقْتَرَضِ إِذَا لَمْ تَقَعْ شَرْطِيَّةُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ اتِّفَاقًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الزِّيَادَةِ إِنْ كَانَتْ بِالْعَدَدِ مُنِعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْوَصْفِ جَازَتْ. وَفِيهِ أَنَّ الِاقْتِرَاضَ فِي الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ وَكَذَا الْأُمُورُ الْمُبَاحَةُ لَا يُعَابُ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِحَاجَةِ بَعْضِ الْمُحْتَاجِينَ لِيُوَفِّيَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.

هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي تَوْجِيهُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قِيلَ فِي سَبَبِ اقْتِرَاضِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كَانَ اقْتَرَضَهُ لِبَعْضِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ

ص: 57

الصَّدَقَةِ فَلَمَّا جَاءَتِ الصَّدَقَةُ أَوْفَى صَاحِبَهُ مِنْهَا، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْفَاهُ أَزْيَدَ مِنْ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَرَضُ مِنْهُ كَانَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ أَوِ التَّأَلُّفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِجِهَتَيْنِ: جِهَةِ الْوَفَاءِ فِي الْأَصْلِ، وَجِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الزَّائِدِ، وَقِيلَ: كَانَ اقْتَرَضَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَجِدِ الْوَفَاءَ صَارَ غَارِمًا فَجَازَ لَهُ الْوَفَاءُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: كَانَ اقْتِرَاضُهُ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ بَعِيرًا مِمَّنِ اسْتَحَقَّهُ أَوِ اقْتَرَضَهُ مِنْ آخَرَ أَوْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ لِيُوَفِّيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَيُؤَيِّدُهُ سِيَاقُ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، قَالَ الْبَزَّارُ لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَمَدَارُهُ عَلَى سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِمِنًى وَذَلِكَ لَمَّا حَجَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب حُسْنِ التَّقَاضِي

2391 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ حُسْنِ التَّقَاضِي) أَيِ اسْتِحْبَابِ حُسْنِ الْمُطَالَبَةِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَتَجَوَّزُ عَنِ الْمُوسِرِ وَيُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقِيلَ لَهُ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ؟ وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَقِيلَ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ.

‌6 - بَاب هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ؟

2392 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطُوهُ، فَقَالُوا: مَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ)؟ هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يُعْطَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَ قَبْلُ بِبَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِيهِ.

(وَيَحْيَى) الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ شَيْخُهُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخٍ لَهُ آخَرَ وَهُوَ شُعْبَةُ.

‌7 - بَاب حُسْنِ الْقَضَاءِ

2393 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنْ الْإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْطُوهُ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ

ص: 58

إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.

2394 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ قَالَ ضُحًى - فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ حُسْنِ الْقَضَاءِ)

أَيِ اسْتِحْبَابِ حُسْنِ أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (سِنٌّ) أَيْ جَمَلٌ لَهُ سِنٌّ مُعَيَّنٌ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ.

2395 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي وَقَالَ: سَنَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ: وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي بَعْضِهَا بَيَانُ قَدْرِ الزِّيَادَةِ وَأَنَّهَا قِيرَاطٌ وَهُوَ فِي الْوَكَالَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ.

‌8 - بَاب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا، وَالصَّوَابُ وَحَلَّلَهُ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ. قُلْتُ: رَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ بِالْوَاوِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ وَفِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، لَكِنَّ بَقِيَّةَ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ أَوْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ دُونَ الْحَقِّ بِغَيْرِ مُحَالَلَةٍ، وَلَوْ حَلَّلَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ جَازَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، فَكَذَلِكَ إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ بَعْضِهِ اهـ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ بِرِضَا صَاحِبِ الدَّيْنِ، أَوْ حَلَّلَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ، وَفِيهِ فَسَأَلْتُهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. فَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ غَرِيمَهُ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَخَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ وَتَبِعَهُمَا الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ يُونُسَ بِالسَّنَدِ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. قُلْتُ: وَالرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ جَابِرًا قُتِلَ أَبُوهُ وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ وَلَا حَدَّثَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ اللَّهِ لَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، نَعَمْ رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ جَابِرٍ قِصَّةَ

ص: 59

شُهَدَاءِ أُحُدٍ كَمَا مَضَى فِي الْجَنَائِزِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِهِ هُنَا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب إِذَا قَاصَّ، أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ

2396 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ تَمْرَ نَخْلِهِ بِالَّتِي لَهُ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ، فَجَدَّهُ بَعْدَ مَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ، فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ) أَيْ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ (تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَهُ دَيْنٌ تَمْرٌ مِنْ غَرِيمِهِ تَمْرًا مُجَازَفَةً بِدَيْنِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغَرَرِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مُجَازَفَةً فِي حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ دَيْنِهِ إِذَا عَلِمَ الْآخِذُ ذَلِكَ وَرَضِيَ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ مَا أَثْبَتَهُ الْمُعْتَرِضُ لَا مَا نَفَاهُ، وَغَرَضُهُ بَيَانُ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ مَا لَا يُغْتَفَرُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعَرَايَا، وَيَجُوزُ فِي الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ الْغَرِيمَ أَنْ يَأْخُذَ تَمْرَ الْحَائِطِ وَهُوَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فِي الْأَوْسَاقِ الَّتِي هِيَ لَهُ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ، وَكَانَ تَمْرُ الْحَائِطِ دُونَ الَّذِي لَهُ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفِيهِ فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً وَقَدْ أَخَذَ الدِّمْيَاطِيُّ كَلَامَ الْمُهَلَّبِ فَاعْتَرَضَ بِهِ فَقَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ. ثُمَّ اعْتَلَّ بِنَحْوِ مَا ذَكَرَهُ الْمُهَلَّبُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِنَحْوِ مَا أَجَبْتُ بِهِ فَقَالَ: بَيْعُ الْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُولِ مُزَابَنَةٌ فَإِنْ كَانَ تَمْرًا نَحْوَهُ فَمُزَابَنَةٌ وَرِبًا، لَكِنِ اغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَحَقَّقٌ فِي الْعُرْفِ فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُزَابَنَةً، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ هُوَ ابْنُ عِيَاضٍ أَبُو ضَمْرَةَ وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَوَهْبٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

‌10 - بَاب مَنْ اسْتَعَاذَ مِنْ الدَّيْنِ

2397 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح

وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ.

ص: 60

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ. حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ ثَمَّ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي هُنَا كَأَنَّهُ لِلْإِسْنَادِ الثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي الْيَمَانِ الْمُفْرَدَةَ هُنَاكَ صَرَّحَ فِيهَا بِالْإِخْبَارِ مِنْ عُرْوَةَ، لِلزُّهْرِيِّ وَذَكَرَ هَهُنَا بِالْعَنْعَنَةِ. وَإِسْمَاعِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ سَدُّ الذَّرَائِعِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ وَالْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ مَعَ مَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَالِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الدَّيْنِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي هَذِهِ الْغَوَائِلِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى وَفَائِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي إِطْلَاقِ التَّرْجَمَةِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ الْمُنِيرِ: لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الدَّيْنِ وَجَوَازِ الِاسْتِدَانَةِ، لِأَنَّ الَّذِي اسْتُعِيذَ مِنْهُ غَوَائِلُ الدَّيْنِ، فَمَنِ ادَّانَ وَسَلِمَ مِنْهَا فَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ وَفَعَلَ جَائِزًا.

‌11 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا

2398 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا.

2399 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْجٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلَاهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُخِلُّ بِالدِّينِ، وَأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْهُ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا يُخْشَى مِنْ غَوَائِلِهِ، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَلْيَأْتِنِي وَأَشَارَ بِهِ إِلَى بَقِيَّتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَمَّا فُتِحَتِ الْفُتُوحُ صَارَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى بِتَمَامِهِ فِي الْكَفَايَةِ. وَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ وَفِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: كَلًّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ عِيَالًا.

وَقَوْلُهُ: ضَيَاعًا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ عِيَالًا أَيْضًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جُعِلَ اسْمًا لِكُلِّ مَا هُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَضِيعَ مِنْ وَلَدٍ أَوْ خَدَمٍ، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ كَسْرَ الضَّادِ، وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ ضَائِعٍ كَجِيَاعٍ وَجَائِعٍ.

‌12 - بَاب مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ

2400 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَضَى تَامًّا فِي الْحَوَالَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

وِعَبْدُ الْأَعْلَى الَّذِي فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْبَصْرِيُّ.

ص: 61

‌13 - بَاب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ.

وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ يَقُولُ مَطَلْتَنِي وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ

2401 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ: لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمَ قَرِيبًا وَهُوَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُعَلَّقَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمَقَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) اللَّيُّ بِالْفَتْحِ الْمَطْلُ، لَوَى يَلْوِي. وَالْوَاجِدُ بِالْجِيمِ الْغَنِيُّ، مِنَ الْوُجْدِ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ. وَيُحِلُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُجَوِّزُ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ ظَالِمًا. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِهِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ يَقُولُ مَطَلَنِي وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ عِرْضُهُ أَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي حَقِّي وَعُقُوبَتُهُ أَنْ يُسْجَنَ وَقَالَ إِسْحَاقُ: فَسَّرَ سُفْيَانُ عِرْضَهُ أَذَاهُ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَمَّا رَوَاهُ وَكِيعٌ بِسَنَدِهِ قَالَ وَكِيعٌ: عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: عُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ الْمَدِينِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ تَأْدِيبًا لَهُ وَتَشْدِيدًا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ: الْوَاجِدِ عَلَى أَنَّ الْمُعْسِرَ لَا يُحْبَسُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الرَّافِعِيِّ فِي الْمَتْنِ الْمَرْفُوعِ لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ وَهُوَ تَغْيِيرٌ، وَتَفْسِيرُ الْعُقُوبَةِ بِالْحَبْسِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ كَمَا تَرَى.

‌14 - بَاب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنْ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهُوَ لَهُ وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ

2402 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) الْمُفْلِسُ شَرْعًا: مَنْ تَزِيدُ دُيُونُهُ عَلَى مَوْجُودِهِ، سُمِّيَ مُفْلِسًا لِأَنَّهُ صَارَ ذَا فُلُوسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ صَارَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَدْنَى الْأَمْوَالِ وَهِيَ الْفُلُوسُ، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ التَّصَرُّفَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ كَالْفُلُوسِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا إِلَّا فِي الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَارَ إِلَى حَالَةٍ لَا يَمْلِكُ فِيهَا فَلْسًا، فَعَلَى هَذَا فَالْهَمْزَةُ فِي أَفْلَسَ لِلسَّلْبِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْبَيْعِ

ص: 62

إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ نَصًّا، وَقَوْلُهُ: وَالْقَرْضُ هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَوْ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي آخَرِينَ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ: وَالْوَدِيعَةُ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَدْخَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إِمَّا لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْبَيْعِ، وَالْآخَرَانِ أَوْلَى لِأَنَّ مِلْكَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَنْتَقِلْ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى وَفَاءِ مَنِ اصْطَنَعَ بِالْقَرْضِ مَعْرُوفًا مَطْلُوبٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ) أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَبَيَّنَ فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ التَّصَرُّفَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَمَحَلُّهُ مَا إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا سَائِرُ تَبَرُّعَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا يَنْفُذَانِ أَيْضًا إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ الْبَيْعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُوقَفُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهِ وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِأَثَرِ الْحَسَنِ إِلَى مُعَارَضَةِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: بَيْعُ الْمَحْجُورِ وَابْتِيَاعُهُ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ) أَيِ ابْنُ عَفَّانَ إِلَخْ، وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ أَفْلَسَ مَوْلًى لِأُمِّ حَبِيبَةَ فَاخْتُصِمَ فِيهِ إِلَى عُثْمَانَ فَقَضَى فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: قَبْلَ أَنْ يَبِينَ إِفْلَاسُهُ بَدَلَ قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ، وَالْبَاقِي سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَفِي هَذَا السَّنَدِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ هُوَ أَوَّلُهُمْ وَكُلُّهُمْ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَكُلُّهُمْ سِوَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ وَأَظُنُّهُ مِنْ زُهَيْرٍ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى مَعَ كَثْرَتِهِمْ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِالسَّمَاعِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ صَاحِبِ الْمَالِ دُونَ غَيْرِهِ أَنْ يَجِدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ، وَإِلَّا فَإِنْ تَغَيَّرَتِ الْعَيْنُ فِي ذَاتِهَا بِالنَّقْصِ مَثَلًا أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا فَهِيَ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ إِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ وَلَمْ يُفَرِّقْهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ مُرْسَلًا أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الْبَائِعَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.

وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ شِهَابٍ فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَالِكٍ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ إِرْسَالُهُ، وَكَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحَدِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اقْتَضَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ لِاسْتِشْهَادِهِ بِأَثَرِ عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ طَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ صَحِيحًا وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ مَنْ أَخَذَ بِعُمُومِ حَدِيثِ الْبَابِ، إِلَّا أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا هُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِهِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَغَيُّرِ السِّلْعَةِ أَوْ بَقَائِهَا، وَلَا بَيْنَ قَبْضِ بَعْضِ ثَمَنِهَا أَوْ عَدَمِ قَبْضِ شَيْءٍ مِنْهُ، عَلَى التَّفَاصِيلِ الْمَشْرُوحَةِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (قَدْ أَفْلَسَ) أَيْ تَبَيَّنَ إِفْلَاسُهُ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَارِثًا وَغَرِيمًا وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فَتَأَوَّلُوهُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ خَالَفَ الْأُصُولَ، لِأَنَّ السِّلْعَةَ صَارَتْ بِالْبَيْعِ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَمِنْ ضَمَانِهِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْبَائِعِ أَخْذَهَا مِنْهُ نَقْضٌ لِمِلْكِهِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى صُورَةٍ وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْمَتَاعُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً أَوْ لُقَطَةً، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالْفَلَسِ وَلَا

ص: 63

جُعِلَ أَحَقَّ بِهَا لِمَا يَقْتَضِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالشُّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ وَرَدَ التَّنْصِيصُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ فِي صُورَةِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَبْلُ: إِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ، وَفِي مُرْسَلِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: مَنْ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَنْقُدْهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَوَجَدَهَا بِعَيْنِهَا فَلْيَأْخُذْهَا مِنْ بَيْنِ الْغُرَمَاءِ، وَفِي مُرْسَلِ مَالِكٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مَنْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ وَصَلَهُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ،

وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْقَرْضُ وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الرَّافِعِيِّ سِيَاقُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الثَّوْرِيِّ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، فَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ أَيِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عَامٌّ أَوْ مُحْتَمِلٌ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ نَصٌّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَهُوَ لَفْظُ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَجَاءَ بِلَفْظِهِ بِسَنَدٍ آخَرَ صَحِيحٍ انْتَهَى.

وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ مَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مَا قَدَّمْتُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَحَمَلَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا عَلَى مَا إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ السِّلْعَةَ، وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِهِ في حَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَ رَجُلٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ عِنْدَهُ وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ يَحْيَى إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ فَلَوْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ مَا نَصَّ فِي الْخَبَرِ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَاعْتِذَارُهُمْ بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَضَى بِهِ عُثْمَانُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا مَضَى، وَبِدُونِ هَذَا يَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنْ كَوْنِهِ فَرْدًا غَرِيبًا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْرِفُ لِعُثْمَانَ فِي هَذَا مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ عُثْمَانَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: تَعَسَّفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ بِتَأْوِيلَاتٍ لَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلَاتٍ ضَعِيفَةٍ مَرْدُودَةٍ انْتَهَى.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ فِي صُورَةٍ - وَهِيَ مَا إِذَا مَاتَ وَوُجِدَتِ السِّلْعَةُ - فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَصَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَاحْتَجَّا بِمَا فِي مُرْسَلِ مَالِكٍ وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ بِأَنَّ الْمَيِّتَ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ مَحَلٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فَاسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ قَاضِي الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي آخِرِهِ إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ صَاحِبُهُ وَفَاءً وَرَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْمُرْسَلِ وَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ مِنْ رَأْيِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَلُوهُ عَنْهُ لَمْ يَذْكُرُوا قَضِيَّةَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ خَلْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْإِفْلَاسِ وَالْمَوْتِ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ. وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي مُرْسَلِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي، وَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ حَدِيثِ ابْنِ خَلْدَةَ عَلَى مَا إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ

ص: 64

عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى مَا إِذَا مَاتَ مَلِيئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا أَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَوِ الْوَرَثَةُ إِعْطَاءَ صَاحِبِ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ فَزَاحَمَهُ فِيمَا أَخَذَ. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَحَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا سِلْعَتُهُ. وَيَلْتَحِقُ بِالْمَبِيعِ الْمُؤَجَّرُ فَيَرْجِعُ مُكْتَرِي الدَّابَّةِ أَوِ الدَّارِ إِلَى عَيْنِ دَابَّتِهِ وَدَارِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَإِدْرَاجُ الْإِجَارَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَتَاعِ أَوِ الْمَالِ، أَوْ يُقَالُ اقْتَضَى الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الرُّجُوعُ فِي الْمَنَافِعِ؛ فَثَبَتَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُلُولِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ بِالْفَلَسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَدْرَكَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمُؤَجَّلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ مَقْصُودٌ لَهُ فَلَا يَفُوتُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَمَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْفَلَسِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ مَعَ قُدْرَتِهِ بِمَطْلٍ أَوْ هَرَبٍ قِيَاسًا عَلَى الْفَلَسِ بِجَامِعِ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ حَالًا، وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي عَيْنِ الْمَتَاعِ دُونَ زَوَائِدِهِ الْمُنْفَصِلَةِ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَتْ بِمَتَاعِ الْبَائِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب مَنْ أَخَّرَ الْغَرِيمَ إِلَى الْغَدِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَطْلًا

وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي، فَسَأَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ الْحَائِطَ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ وَقَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكُمْ غَدًا، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ فَقَضَيْتُهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخَّرَ الْغَرِيمَ إِلَى الْغَدِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَطْلًا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ دَيْنِ أَبِيهِ مُعَلَّقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَذَكَرَهَا فِي حَدِيثِهِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَاسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم سَأَغْدُو عَلَيْكُمْ، جَوَازَ تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ لِانْتِظَارِ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مَطْلًا.

(تَنْبِيهٌ): سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ بَطَّالٍ وَلَا أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ.

‌16 - بَاب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ

2403 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوِ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ

ص: 65

الْمُدَبَّرِ مُخْتَصَرًا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْعِتْقِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الَّذِي دَبَّرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَ الْغُلَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنَّمَا بَاعَهُ لِأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيَبْقَى فَقِيرًا. وَلِذَلِكَ قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى انْتَهَى.

وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرَ الشَّارِحُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِدْيَانًا وَمَالُ الْمِدْيَانِ إِمَّا أَنْ يَقْسِمَهُ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمِدْيَانِ لِيَقْسِمَهُ، فَلِهَذَا تَرْجَمَ عَلَى الْتَّقَدِيرَيْنِ، مَعَ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ يَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ فَلَأَنْ يَبِيعَهُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ أَوْلَى انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي التَّرْجَمَةِ لَفًّا وَنَشْرًا، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَمَنْ بَاعَ مَالَ الْمُعْدِمِ فَأَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ، وَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْمُدَبَّرِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ فِي ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَ فَلَسُهُ فَعَلَى الْحَاكِمِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ عَلَيْهِ وَيَقْسِمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَاحْتَجُّوا بِقِصَّةِ جَابِرٍ حَيْثُ قَالَ فِي دَيْنِ أَبِيهِ: فَلَمْ يُعْطِهِمُ الْحَائِطَ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ لِيَحْضُرَ فَتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ فِي الثَّمَرِ بِحُضُورِهِ فَيَحْصُلَ الْخَيْرُ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَكَذَلِكَ كَانَ.

‌17 - بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ

2404 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ) أَمَّا الْقَرْضُ إِلَى أَجَلٍ فَهُوَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ فَجَائِزٌ اتِّفَاقًا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ احْتَجَّ لِلْجَوَازِ فِي الْقَرْضِ بِالْجَوَازِ فِي الْبَيْعِ مَعَ مَا اسْتَظْهَرَ بِهِ مِنْ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي أُسْلِفُ جِيرَانِي إِلَى الْعَطَاءِ فَيَقْضُونِي أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِي، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ تَشْتَرِطْ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الشِّقِّ فِي بَابِ اسْتِقْرَاضِ الْإِبِلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الَّذِي أَسْلَفَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْكَفَالَةِ.

ص: 66

‌18 - بَاب الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ

2405 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا، فَقَالَ: صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ: عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَاءَ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ) أَيْ فِي تَخْفِيفِهِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ، وَفِيهِ حَدِيثُهُ فِي قِصَّةِ بَيْعِ الْجَمَلِ جَمَعَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا فَأَبَوْا، فَاسْتَشْفَعْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ فَأَبَوُا الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَنِّفْ تَمْرَكَ أَيِ اجْعَلْ كُلَّ صِنْفٍ وَحْدَهُ، وَقَوْلُهُ: عَلَى حِدَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ عَلَى انْفِرَادٍ، وَقَوْلُهُ: عَذْقُ ابْنِ زَيْدٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ نَوْعٌ جَيِّدٌ مِنَ التَّمْرِ، وَالْعَذْقُ بِالْفَتْحِ النَّخْلَةُ، وَاللِّينُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّدِيءُ.

2406 -

وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، فَأَزْحَفَ الْجَمَلُ فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ: بِعْنِيهِ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَمَا تَزَوَّجْتَ، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: ثَيِّبًا، أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَارًا فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا تُعَلِّمُهُنَّ وَتُؤَدِّبُهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ائْتِ أَهْلَكَ، فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِ الْجَمَلِ فَلَامَنِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِإِعْيَاءِ الْجَمَلِ، وَبِالَّذِي كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَكْزِهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْجَمَلِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ.

وَقَوْلُهُ: فَأَزْحَفَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَلَّ وَأَعْيَا، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْبَعِيرَ إِذَا تَعِبَ يَجُرُّ رَسَنَهُ وَكَأَنَّهُمْ كَنَّوْا بِقَوْلِهِمْ: أَزْحَفَ رَسَنَهُ أَيْ جَرَّهُ مِنَ الْإِعْيَاءِ ثُمَّ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.

وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوَابَ زَحَفَ الْجَمَلُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَوَكَزَهُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاوِ أَيْ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ وَرَكَزَهُ بِالرَّاءِ أَيْ رَكَزَ فِيهِ الْعَصَا وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي ضَرْبِهِ بِهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى دَيْنِ أَبِيهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَعَلَى بَيْعِ جَمَلِهِ فِي الشُّرُوطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌19 - بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}

وَ {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ

ص: 67

نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وَقَالَ تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وَالْحَجْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنْ الْخِدَاعِ

2407 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ.

2408 -

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي التِّلَاوَةِ.

قَوْلُهُ وَ {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَالنَّسَفِيِّ لَا يُحِبُّ بَدَلَ لَا يُصْلِحُ، قِيلَ: وَهُوَ سَهْوٌ، وَوَجْهُهُ عِنْدِي - إِنْ ثَبَتَ - أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ لِأَنَّ أَصْلَ التِّلَاوَةِ:{إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - مَا نَشَاءُ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنْ إِفْسَادِهَا فَقَالُوا ذَلِكَ، أَيْ: إِنْ شِئْنَا حَفِظْنَاهَا وَإِنْ شِئْنَا طَرَحْنَاهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الْآيَةَ قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ: الصَّوَابُ عِنْدَنَا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ سَفِيهٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَالسَّفِيهُ هُوَ الَّذِي يُضَيِّعُ الْمَالَ وَيُفْسِدُهُ بِسُوءِ تَدْبِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَجْرِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي السَّفَهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِضَاعَةِ الْمَالِ وَالْحَجْرُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَتَارَةً يَقَعُ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَتَارَةً لِحَقِّ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وَوَافَقَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْعَ الْحَجْرِ عَنِ الْكَبِيرِ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى نَجْدَةَ وَكَتَبَتْ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا أَخَذَ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُنْهَى عَنِ الْخِدَاعِ) أَيْ فِي حَقِّ مَنْ يُسِيءُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ.

ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَفِيهِ تَوْجِيهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِلْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَرَدُّ قَوْلِ مَنِ احْتَجَّ بِهِ لِمَنْعِ ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ لَكِنْ سَكَنَ جَرِيرٌ الرَّيَّ، وَمَنْصُورٌ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ تَابِعِيُّونَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ) قِيلَ خَصَّ الْأُمَّهَاتِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ إِلَيْهِنَّ أَسْرَعُ مِنَ الْآبَاءِ لِضَعْفِ النِّسَاءِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى بِرِّ الْأَبِ فِي التَّلَطُّفِ وَالْحُنُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا قَوْلُهُ فِيهِ: وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّرَفُ فِي إِنْفَاقِهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنْفَاقُهُ فِي الْحَرَامِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 68

‌20 - بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

2409 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

قَوْلُهُ (بَابٌ الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَفِيهِ: وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ: فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَلَفْظُ التَّرْجَمَةِ يَأْتِي فِي النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَنْبَطَ قَوْلَهُ: وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ مَسْئُولٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ هَلْ جَاوَزَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ وَقَفَ عِنْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْقَائِلَ وَأَحْسَبُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ جَزْمَ الْكَرْمَانِيِّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى بِأَنَّهُ يُونُسُ الرَّاوِي لَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَتَعَقَّبْتُهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي أَوَّلِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 69

بسم الله الرحمن الرحيم

‌44 - كِتَاب الْخُصُومَاتِ

‌1 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْإِشْخَاصِ والملازمة، وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِي

2410 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي، قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا.

[الحديث 2410 - أطرافه في: 1408، 3414، 3476، 4813، 5063، 6517، 6518، 7428، 7477]

2411 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَنِبَ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ"

2412 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ ضَرَبَ وَجْهِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ فَقَالَ مَنْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ ادْعُوهُ فَقَالَ: أَضَرَبْتَهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ قُلْتُ أَيْ خَبِيثُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الأُولَى"

[الحديث 2412 - أطرافه في: 3398، 4638، 6916، 6917، 7427]

ص: 70

2413 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ "يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"

[الحديث 2413 - أطرافه في: 2746، 5295، 6876، 6877، 6879، 6884، 6885]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَا يُذْكَرُ فِي الْإِشْخَاصِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِبَعْضِهِمْ وَالْيَهُودِيِّ بِالْإِفْرَادِ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ أَوَّلَهُ فِي الْخُصُومَاتِ وَزَادَ فِي أَثْنَائِهِ وَالْمُلَازَمَةِ. وَالْإِشْخَاصُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ إِحْضَارُ الْغَرِيمِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، يُقَالُ: شَخَصَ بِالْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَأَشْخَصَ غَيْرَهُ. وَالْمُلَازَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللُّزُومِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَمْنَعَ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَتَّى يُعْطِيَهُ حَقَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الأول:

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي) هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّاوِي عَلَى الصِّيغَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، وَابْنُ مَيْسَرَةَ الْمَذْكُورُ هِلَالِيٌّ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ يُقَالُ لَهُ الزَّرَّادُ بِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ ثَقِيلَةٍ، وَشَيْخُهُ النَّزَّالُ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ ابْنُ سَبْرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، هِلَالِيٌّ أَيْضًا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ لِإِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَآخَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ أَعَادَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلتَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَجُلًا) سَيَأْتِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِعُمَرَ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (آيَةً) فِي الْمُبْهَمَاتِ لِلْخَطِيبِ أَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: أَظُنُّهُ قَالَ فَاعِلُ الْقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وحديث أبي سعيد فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي لَطَمَهُ الْمُسْلِمُ حَيْثُ قَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى النَّبِيِّينَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ الْجَارِيَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌2 - بَاب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ

وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ، ثُمَّ نَهَاهُ وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ) يَعْنِي وِفَاقًا لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَصَرَهُ أَصْبَغُ عَلَى مَنْ ظَهَرَ سَفَهُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُرَدُّ مُطْلَقًا إِلَّا مَا تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقِصَّةِ الْمُدَبَّرِ حَيْثُ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ; وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقِصَّةِ الَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ حَيْثُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْسَخْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بُيُوعِهِ. وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الْإِضَاعَةُ فَيُرَدُّ تَصَرُّفُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَوِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ قِصَّةُ الْمُدَبَّرِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ أَوْ جَعَلَهُ لَهُ شَرْطًا يَأْمَنُ بِهِ مِنْ إِفْسَادِ مَالِهِ فَلَا يُرَدُّ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ قِصَّةُ الَّذِي كَانَ

ص: 71

يُخْدَعُ.

قَوْلُهُ (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ) قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: مُرَادُهُ قِصَّةُ الَّذِي دَبَّرَ عَبْدَهُ فَبَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ بَعْدَهُ حَتَّى جَعَلَهُ مُغَلْطَايْ حُجَّةً فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ حَيْثُ قَرَّرَ أَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْبُخَارِيُّ بِغَيْرِ صِيغَةِ الْجَزْمِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا بِصِحَّتِهِ فَقَالَ مُغَلْطَايْ: قَدْ ذَكَرَهُ بِغَيْرِ صِيغَةِ الْجَزْمِ هُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا فِي النُّكَتِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا التَّعْلِيقِ قِصَّةَ الْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي دَخَلَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَأَمَرَهُمْ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.

قُلْتُ: لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ بَلْ هُوَ إِمَّا صَحِيحٌ وَإِمَّا حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَوَّلًا أَنَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهَا فِي مَعْدِنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْهَا مِنِّي صَدَقَةً فَوَاللَّهِ مَا لِي مَالٌ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَعَادَ فَحَذَفَهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ قِصَّةَ الْمُدَبَّرِ كَمَا قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا. الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ لَا يَجْزِمُ غَالِبًا إِلَّا بِمَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ إِلَخْ) هَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ، وَأَخَذَ مَالِكٌ ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ الْمُدَبَّرِ كَمَا تَرَى.

‌3 - باب مَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ

فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَلَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ

2414 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، فَكَانَ يَقُولُهُ.

2415 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِصْلَاحِ إِلَخْ) هَكَذَا لِلْجَمِيعِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ هُنَا بَابُ مَنْ بَاعَ إِلَخْ وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْإِفْسَادِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ قَبْلَ بَابَيْنِ.

وَحَدِيثُ الَّذِي يُخْدَعُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

ص: 72

ويَأْتِي حَدِيثُ الْمُدَبَّرِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌4 - بَاب كَلَامِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ

2416، 2417 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الْأَشْعَثُ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ، قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَنْ يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

2418 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: يَا كَعْبُ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا - وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ - قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.

2419 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ لِي: أَرْسِلْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَقَرَأَ، قَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ.

[الحديث 2419 - أطرافه في: 4992، 5041، 6936، 7550]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَلَامِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ) أَيْ فِيمَا لَا يُوجِبُ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَشْعَثِ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الْخُصُومَةِ فِي الْبِئْرِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَإِنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ فِي حَالِ التَّظَلُّمِ مِنْهُ.

الثَّالِثُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ

ص: 73

مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّقَاضِي وَالْمُلَازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَإِنَّهُ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ، لَكِنْ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَتَلَاحَيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ مَا تَرْجَمَ بِهِ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ عُمَرَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَفِيهِ مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

‌5 - بَاب إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْخُصُومِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ

2420 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْخُصُومِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ) أَيْ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوْ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحُكْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَقَامَتْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ النَّوْحَ، فَبَلَغَ عُمَرَ فَنَهَاهُنَّ فَأَبَيْنَ، فَقَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: اخْرُجْ إِلَى بَيْتِ أَبِي قُحَافَةَ - يَعْنِي أُمَّ فَرْوَةَ - فَعَلَاهَا بِالدِّرَّةِ ضَرَبَاتٍ فَتَفَرَّقَ النَّوَائِحُ حِينَ سَمِعْنَ بِذَلِكَ، وَوَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ فَجَعَلَ يُخْرِجُهُنَّ امْرَأَةً امْرَأَةً وَهُوَ يَضْرِبُهُنَّ بِالدِّرَّةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِرَادَةِ تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَقَهَا عَلَيْهِمْ بَادَرُوا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَثَبَتَ مَشْرُوعِيَّةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَمَحَلُّ إِخْرَاجِ الْخُصُومِ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْمِرَاءِ وَاللَّدَدِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.

‌6 - بَاب دَعْوَى الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ

2421 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَانِي أَخِي إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِي، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ.

ص: 74

قَوْلُهُ: (بَابُ دَعْوَى الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ) أَيْ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الِاسْتِلْحَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَعْدٍ، وَابْنِ زَمْعَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: دَعْوَى الْوَصِيِّ عَنِ الْمُوصَى عَلَيْهِ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بَيَانَ مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ، وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَمَضَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

‌7 - بَاب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ

وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عِكْرِمَةَ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ

2422 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّوَثُّقِ مِمَّنْ يُخْشَى مَعَرَّتُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ فَسَادُهُ وَعَبَثُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ - عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَجْعَلُ فِي رِجْلِي الْكَبْلَ فَذَكَرَهُ، وَالْكَبْلُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ الْقَيْدُ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ مُخْتَصَرًا، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌8 - بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ

وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَلَى إِنْ رضي عمر فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ، فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ

2423 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ مَا ذُكِرَ عَنْ طَاوُسٍ، فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ السَّجْنَ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ مُعَارَضَةَ قَوْلِ طَاوُسٍ بِأَثَرِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَصَفْوَانَ، وَنَافِعٍ وَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَوَّى ذَلِكَ بِقِصَّةِ ثُمَامَةَ وَقَدْ رُبِطَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَيْضًا حَرَمٌ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الرَّبْطِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسَّجْنِ

ص: 75

بِمَكَّةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخٍ بِهِ، وَلَيْسَ لِنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ وَلَا لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاسْتَشْكَلَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ التَّرْدِيدِ فِي هَذَا الْبَيْعِ حَيْثُ قَالَ: إِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْعُهْدَةَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ اهـ.

وَكَأَنَّهُ وَقَفَ مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ وَلَمْ يَرَ سِيَاقَهُ تَامًّا فَظَنَّ أَنَّ الْأَرْبَعَمِائَةَ هِيَ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ نَافِعٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ الثَّمَنُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَكَانَ نَافِعٌ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ لِعُمَرَ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ الْعَقْدَ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَنْ ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ وَصَلُوهُ، وَأَمَّا كَوْنُ نَافِعٍ شَرَطَ لِصَفْوَانَ أَرْبَعَمِائَةٍ إِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعْلَهَا فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاعِهِ بِتِلْكَ الدَّارِ إِلَى أَنْ يَعُودَ الْجَوَابُ مِنْ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَبِي غَسَّانَ الْكِنَانِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى مَكَّةَ فَابْتَاعَ دَارًا لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ بَدَلَ الْأَرْبَعِمِائَةٍ: خَمْسَمِائَةٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سِجْنُ عَارِمٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ) وَصَلَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ فِي الْأَغَانِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أَخَذَنِي ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحَبَسَنِي فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي سِجْنِ عَارِمٍ، فَانْفَلَتُّ مِنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَتَخَطَّى الْجِبَالَ حَتَّى سَقَطْتُ عَلَى أَبِي بِمِنًى وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ يُخَاطِبُ ابْنَ الزُّبَيْرِ:

تُخَبِّرُ مَنْ لَاقَيْتَ أَنَّكَ عَابِدٌ

بَلِ الْعَابِدُ الْمَظْلُومُ فِي سِجْنِ عَارِمِ

وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ سِجْنُ عَارِمٍ لِأَنَّ عَارِمًا كَانَ مَوْلًى لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ فَبَنَى لَهُ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ ثُمَّ سَدَّ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ حَتَّى غَيَّبَهُ فِيهِ فَمَاتَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ سِجْنَ عَارِمٍ، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: وَكَانَ السِّجْنُ فِي دُبُرِ دَارِ النَّدْوَةِ. وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّ سَبَبَ غَضَبِ مُصْعَبٍ عَلَى عَارِمٍ أَنَّ عَارِمًا كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَلَمَّا جَهَّزَ عَمْرٌو الْبَعْثَ بِأَمْرِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ صَحِبَهُ عَمْرُو بنُ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ يُعَادِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ - فَخَرَجَ عَارِمٌ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ فَظَفِرَ بِهِ مُصْعَبٌ فَفَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌9 - بَاب فِي الْمُلَازَمَةِ

2424 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عن جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ - وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ - عَنْ عَبْدِ الله بْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ دَيْنٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا كَعْبُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ - فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي الْمُلَازَمَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ص: 76

الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّقَاضِي وَالْمُلَازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

وقَوْلُهُ فِيهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ قَبْلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَسْمَلَةً وَسَقَطَتْ لِلْبَاقِينَ.

‌10 - بَاب التَّقَاضِي

2425 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثَكَ، قَالَ فَدَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ أُبْعَثَ فَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا ثُمَّ أَقْضِيَكَ، فَنَزَلَتْ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّقَاضِي) أَيِ الْمُطَالَبَةِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي مُطَالَبَةِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الِاسْتِقْرَاضِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْإِشْخَاصِ وَالْمُلَازَمَةِ عَلَى خَمْسِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى جَمِيعِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا وَحَدِيثِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا وَحَدِيثِ لَيُّ الْوَاجِدِ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَثَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 77

بسم الله الرحمن الرحيم

‌45 - كِتَاب اللُّقَطَة

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ اللُّقَطَةِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَاللُّقَطَةُ الشَّيْءُ الَّذِي يُلْتَقَطُ، وَهُوَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: اللُّقَطَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْعَامَّةُ تُسَكِّنُهَا. كَذَا قَالَ، وَقَدْ جَزَمَ الْخَلِيلُ بِأَنَّهَا بِالسُّكُونِ قَالَ: وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهُوَ اللَّاقِطُ: وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّ الَّذِي سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ الْفَتْحُ. وَقَالَ ابْنُ بِرِّيٍّ: التَّحْرِيكُ لِلْمَفْعُولِ نَادِرٌ، فَاقْتَضَى أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ هُوَ الْقِيَاسُ. وَفِيهَا لُغَتَانِ أَيْضًا: لُقَاطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ، وَلَقْطَةٌ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ نَظَمَ الْأَرْبَعَةَ ابْنُ مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ:

لُقَاطَةٌ وَلَقْطَةٌ وَلُقَطَهْ

وَلُقْطَةٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ

وَوَجَّهَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَتْحَ الْقَافِ فِي الْمَأْخُوذِ أَنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَاهَا يَمِيلُ لِأَخْذِهَا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ.

‌1 - بَاب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلَامَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ

2426 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أصبت صُرَّةً فيها مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا.

[الحديث 2426 - طرفه في: 2437]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلَامَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَصَبْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَجَدْتُ وَلِلْبَاقِينَ أَخَذْتُ. وَلَمْ يَقَعْ فِي سِيَاقِهِ مَا تَرْجَمَ بِهِ صَرِيحًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) هَكَذَا سَاقَهُ عَالِيًا وَنَازِلًا، وَالسِّيَاقُ لِلْإِسْنَادِ النَّازِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ مُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أُنَيْسَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ كُلُّهُمْ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ زَادَهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهَا فَلَمْ يُصِبْ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَنْ وَافَقَ

ص: 78

حَمَّادًا عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ شَاذَّةً، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهَا، وَهِيَ فَائِدَةٌ قَوْلُهُ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا إِلَخْ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاطُ مَعَ مَنْ لَمْ يَرَ الرَّدَّ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ، قَالَ: وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِمَالِهِ، أَوْ لِتَكُونَ الدَّعْوَى فِيهَا مَعْلُومَةً. وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَعْرِفَ صِدْقَ الْمُدَّعِي مِنْ كَذِبِهِ، وَأَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى حِفْظِ الْوِعَاءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِإِلْقَائِهِ إِذَا أُخِذَتِ النَّفَقَةُ، وَأَنَّهُ إِذَا نَبَّهَ عَلَى حِفْظِ الْوِعَاءِ كَانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. قُلْتُ: قَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي آخِرِ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ، وَمَا اعْتَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا وَصَفَهَا فَأَصَابَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَجَاءَ شَخْصٌ آخَرُ فَوَصَفَهَا فَأَصَابَ لَا يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَجَاءَ آخَرُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً أُخْرَى أَنَّهَا لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ وُجُوبُ الدَّفْعِ لِمَنْ أَصَابَ الْوَصْفَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّمَلُّكِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَالٌ ضَائِعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ ثَانٍ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إِلَى الْبَيِّنَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إِذَا صَحَّتِ الزِّيَادَةُ فَتَخُصُّ صُورَةَ الْمُلْتَقَطِ مِنْ عُمُومِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا الْوِعَاءُ بِالْمَدِّ وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَدْ تُضَمُّ، وَقَرَأَ بِهَا الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ:{قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِعَاءِ بِقَلْبِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ هَمْزَةً. وَالْوِعَاءُ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوِكَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الصُّرَّةُ وَغَيْرُهَا. وَزَادَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْعِفَاصَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَشَرْحُهُ وَحُكْمُ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ) الْقَائِلُ شُعْبَةُ، وَالَّذِي قَالَ: لَا أَدْرِي هُوَ شَيْخُهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَاخْتَصَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ شُعْبَةُ: فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ يَقُولُ: عَرِّفْهَا عَامًا وَاحِدًا. وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا فَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، قَالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُ سَلَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: الَّذِي شَكَّ فِيهِ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْقَائِلُ هُوَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ انْتَهَى. وَلَمْ يُصِبْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ تَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُنْذِرِيُّ، بَلِ الشَّكُّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ وَهُوَ سَلَمَةُ لَمَّا اسْتَثْبَتَهُ فِيهِ شُعْبَةُ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِغَيْرِ شَكٍّ جَمَاعَةٌ، وَفِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كُلُّهُمْ عَنْ سَلَمَةَ وَقَالَ: قَالُوا فِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا: ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، إِلَّا حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حَدِيثِ أُبَيٍّ هَذَا وَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: يُحْمَلُ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَلَى مَزِيدِ الْوَرَعِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّعَفُّفِ عَنْهَا، وَحَدِيثِ زَيْدٍ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ لِاحْتِيَاجِ الْأَعْرَابِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ أُبَيٍّ.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى: إنَّ اللُّقَطَةَ تُعَرَّفُ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ، إِلَّا شَيْءٌ جَاءَ عَنْ عُمَرَ انْتَهَى. وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ شَوَاذَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، عَامًا وَاحِدًا، ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ اللُّقَطَةِ وَحَقَارَتِهَا. وَزَادَ ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ غَلَطٌ. قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سَلَمَةَ أَخْطَأَ فِيهَا ثُمَّ

ص: 79

تَثَبَّتَ وَاسْتَذْكَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِمَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ رَاوِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ أَنَّ تَعْرِيفَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فَأَمَرَ أُبَيًّا بِإِعَادَةِ التَّعْرِيفِ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ صِلَاتَهُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا عَلَى مِثْلِ أُبَيٍّ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَةً عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي التَّعْرِيفِ مُفَوَّضٌ لِأَمْرِ الْمُلْتَقِطِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌2 - بَاب ضَالَّةِ الْإِبِلِ

2427 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعرف عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: ضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ.

قَوْلُهُ (بَابُ ضَالَّةِ الْإِبِلِ) أَيْ هَلْ تُلْتَقَطُ أَمْ لَا؟ وَالضَّالُّ: الضَّائِعُ، وَالضَّالُّ فِي الْحَيَوَانِ كَاللُّقَطَةِ فِي غَيْرِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْأَوْلَى أَنْ تُلْتَقَطَ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنِ الْتَقَطَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا لَا لِيَحْفَظَهَا فَيَجُوزُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَكَذَا إِذَا وُجِدَتْ بِقَرْيَةٍ فَيَجُوزُ التَّمَلُّكُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: حِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْتِقَاطِ الْإِبِلِ أَنَّ بَقَاءَهَا حَيْثُ ضَلَّتْ أَقْرَبُ إِلَى وِجْدَانِ مَالِكِهَا لَهَا مِنْ تَطَلُّبِهِ لَهَا فِي رِحَالِ النَّاسِ. وَقَالُوا: فِي مَعْنَى الْإِبِلِ كُلُّ مَا امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ عَنْ صِغَارِ السِّبَاعِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ رَبِيعَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالرَّأْيِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَبِيعَةَ حَدَّثَهُمْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْعِلْمِ وَالشِّرْبِ وَهُنَا فِي مَوَاضِعَ، وَيَأْتِي فِي الطَّلَاقِ وَالْأَدَبِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ جَاءَ رَجُلٌ وَزَعَمَ ابْنُ بَشْكُوَالَ وَعَزَاهُ لِأَبِي دَاوُدَ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ السَّائِلَ الْمَذْكُورَ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ، وَلَمْ أَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ بُعْدٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَقِيلَ: السَّائِلُ هُوَ الرَّاوِي وَفِيهِ بُعْدٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَمُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ رَبِيعَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ فِيهِ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَقَالَ فِيهِ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَلَى الشَّكِّ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ الْمَذْكُورَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَتَى رَجُلٌ وَأَنَا مَعَهُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ نَسَبَ السُّؤَالَ إِلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ كَانَ مَعَ السَّائِلِ. ثُمَّ ظَفِرْتُ بِتَسْمِيَةِ السَّائِلِ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَالْبَارُودِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ،

ص: 80

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ أَوْثِقْ وِعَاءَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ طَرَفًا مِنْهُ تَعْلِيقًا وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ. وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ. وَهُوَ أَوْلَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ هَذَا الْمُبْهَمُ لِكَوْنِهِ مِنْ رَهْطِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْوَرِقُ يُوجَدُ عِنْدَ الْقَرْيَةِ، قَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ سُؤَالُهُ عَنِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَجَوَابُهُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَ أَصْلَهُ النَّسَائِيُّ. وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَعْرِفُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ جِدًّا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْجَارُودِ الْعَبْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اللُّقَطَةُ نَجِدُهَا، قَالَ: أَنْشِدْهَا وَلَا تَكْتُمْ وَلَا تُغَيِّبِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ) فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَهُوَ كَالْمِثَالِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجَوْهَرِ وَاللُّؤْلُؤِ مَثَلًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَمْتِعُ بِهِ غَيْرُ الْحَيَوَانِ فِي تَسْمِيَتِهِ لُقَطَةً وَفِي إِعْطَائِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ. وَوَقَعَ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ.

قَوْلُهُ: (عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا) فِي رِوَايَةِ الْعَقَدِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْعِلْمِ اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ عِفَاصَهَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بَشِيرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا، زَادَ فِيهِ الْعَدَدَ كَمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً. وَوَافَقَهُ الْأَكْثَرُ. نَعَمْ وَافَقَ الثَّوْرِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ بِلَفْظِ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اقْبِضْهَا فِي مَالِكَ الْحَدِيثَ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّعْرِيفَ يَقَعُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْعَلَامَاتِ.

وَرِوَايَةُ الْبَابِ تَقْتَضِي أَنَّ التَّعْرِيفَ يَسْبِقُ الْمَعْرِفَةَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْمَعْرِفَةِ فِي حَالَتَيْنِ، فَيُعَرِّفُ الْعَلَامَاتِ أَوَّلَ مَا يَلْتَقِطُ حَتَّى يَعْلَمَ صِدْقَ وَاصِفِهَا إِذَا وَصَفَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا سَنَةً إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَيُعَرِّفُهَا مَرَّةً أُخْرَى تَعَرُّفًا وَافِيًا مُحَقَّقًا لِيَعْلَمَ قَدْرَهَا وَصِفَتَهَا فَيَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ فِي الرِّوَايَتَيْنِ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا وَلَا تَقْتَضِي تَخَالُفًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ وَيُقَوِّيهِ كَوْنُ الْمَخْرَجِ وَاحِد وَالْقِصَّةِ وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُحَسِّنُ مَا تَقَدَّمَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَخْرَجُ مُخْتَلِفًا فَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ إِلَّا أَنْ يَقَعَ التَّعَرُّفُ وَالتَّعْرِيفُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَيِّهِمَا أَسْبَقُ.

وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَظْهَرُهُمَا الْوُجُوبُ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ عِنْدَ الِالْتِقَاطِ، وَيُسْتَحَبُّ بَعْدَهُ. وَالْعِفَاصُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُهْمَلَةٌ: الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَقِيلَ لَهُ الْعِفَاصُ أَخْذًا مِنَ الْعَفْصِ وَهُوَ الثَّنْيُ لِأَنَّ الْوِعَاءَ يُثَنَى عَلَى مَا فِيهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ وَخِرْقَتَهَا بَدَلَ عِفَاصِهَا، وَالْعِفَاصُ أَيْضًا الْجِلْدُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْقَارُورَةِ، وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ فَمَ الْقَارُورَةِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ الصِّمَامُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.

قُلْتُ: فَحَيْثُ ذُكِرَ الْعِفَاصُ مَعَ الْوِعَاءِ فَالْمُرَادُ الثَّانِي، وَحَيْثُ لَمْ يُذْكَرِ الْعِفَاصُ مَعَ الْوِعَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ، وَالْغَرَضُ مَعْرِفَةُ الْآلَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ النَّفَقَةَ. وَيَلْتَحِقُ بِمَا ذُكِرَ حِفْظُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ وَالْكَيْلِ فِيمَا يُكَالُ وَالْوَزْنِ فِيمَا يُوزَنُ وَالذَّرْعِ فِيمَا يُذْرَعُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ تَقْيِيدُهَا بِالْكِتَابَةِ خَوْفَ النِّسْيَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عَرَّفَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الدَّفْعِ لِمَنْ عَرَّفَ الصِّفَةَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:

ص: 81

لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ جَمِيعِهَا، وَكَذَا قَالَ أَصْبَغُ، لَكِنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَدَدِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَقْوَى لِثُبُوتِ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَزِيَادَةُ الْحَافِظِ حُجَّةٌ.

وَقَوْلُهُ: عَرِّفْهَا بِالتَّشْدِيدِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيِ اذْكُرْهَا لِلنَّاسِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَحَلُّ ذَلِكَ الْمَحَافِلُ كَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، يَقُولُ: مَنْ ضَاعَتْ لَهُ نَفَقَةٌ. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ.

وَقَوْلُهُ: سَنَةً أَيْ مُتَوَالِيَةً فَلَوْ عَرَّفَهَا سَنَةً مُتَفَرِّقَةً لَمْ يَكْفِ كَأَنْ يُعَرِّفَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا فَيَصْدُقُ أَنَّهُ عَرَّفَهَا سَنَةً فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُعَرِّفُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَرَّةً ثُمَّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ ثُمَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُعَرِّفَهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجُوزُ بِوَكِيلِهِ، وَيُعَرِّفُهَا فِي مَكَانِ سُقُوطِهَا وَفِي غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا) جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِهَا وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا تَخَيَّرَ بَيْنَ إِمْضَاءِ الصَّدَقَةِ أَوْ تَغْرِيمِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: إِلَّا إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَيَجُوزُ لِلْغَنِيِّ كَمَا فِي قِصَّةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ) أَيْ مَا حُكْمُهَا؟ فَحَذَفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الضَّالَّةُ لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى الْحَيَوَانِ، وَمَا سِوَاهُ يُقَالُ لَهُ: لُقَطَةٌ. وَيُقَالُ لِلضَّوَالِّ أَيْضًا الْهَوَامِي وَالْهَوَافِي بِالْمِيمِ وَالْفَاءِ وَالْهَوَامِلُ.

قَوْلُهُ: (لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ أَخْذِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ ضَعِيفَةٌ لِعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ، مُعَرَّضَةٌ لِلْهَلَاكِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَوْ أَخُوكَ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ مِنْ مُلْتَقِطٍ آخَرَ، وَالْمُرَادُ بِالذِّئْبِ جِنْسُ مَا يَأْكُلُ الشَّاةَ مِنَ السِّبَاعِ. وَفِيهِ حَثٌّ لَهُ عَلَى أَخْذِهَا لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا بَقِيَتْ لِلذِّئْبِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى أَخْذِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَدِّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: يَتْرُكُ الْتِقَاطَ الشَّاةِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْأَخْذِ وَلَا يَلْزَمُهُ غَرَامَةٌ وَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا.

وَاحْتَجَّ لَهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْمُلْتَقِطِ، وَالذِّئْبُ لَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ لِأَنَّ الذِّئْبَ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا الْمُلْتَقِطُ عَلَى شَرْطِ ضَمَانِهَا. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهَا الْمُلْتَقِطُ لَأَخَذَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الشَّاةِ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي اللُّقَطَةِ شَأْنَكَ بِهَا أَوْ خُذْهَا بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ مَعَهُ ذِئْبًا وَلَا غَيْرَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَالُوا فِي النَّفَقَةِ: يَغْرَمُهَا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ تَعْرِيفُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ أَكَلَهَا إِنْ شَاءَ وَغَرِمَ لِصَاحِبِهَا، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا إِذَا وُجِدَتْ فِي الْفَلَاةِ، وَأَمَّا فِي الْقَرْيَةِ فَيَجِبُ فِي الْأَصَحِّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ وَأَجَابُوا عَنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْغَرَامَةَ وَلَا نَفَاهَا فَثَبَتَ حُكْمُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ انْتَهَى. وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مِنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ فِيهَا ذِكْرُ حُكْمِ الشَّاةِ إِذَا أَكَلَهَا الْمُلْتَقِطُ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، نَعَمْ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي ضَالَّةِ الشَّاةِ فَاجْمَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا.

قَوْلُهُ: (فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ أَيْ تَغَيَّرَ، وَأَصْلُهُ فِي الشَّجَرِ إِذَا قَلَّ مَاؤُهُ فَصَارَ قَلِيلَ النَّضْرَةِ عَدِيمَ الْإِشْرَاقِ، وَيُقَالُ لِلْوَادِي الْمُجْدِبِ: أَمْعَرَ. وَلَوْ رُوِيَ تَمَغَّرَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ أَيْ صَارَ بِلَوْنِ الْمَغْرَةِ وَهُوَ حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ إِلَى كُمُودَةٍ،

ص: 82

وَيُقَوِّيهِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ: (مَا لَكَ وَلَهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ السَّابِقَةِ فِي الْعِلْمِ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا) الْحِذَاءُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَعَ الْمَدِّ أَيْ خُفُّهَا، وَسِقَاؤُهَا أَيْ جَوْفُهَا وَقِيلَ: عُنُقُهَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى اسْتِغْنَائِهَا عَنِ الْحِفْظِ لَهَا بِمَا رُكِّبَ فِي طِبَاعِهَا مِنَ الْجَلَادَةِ عَلَى الْعَطَشِ وَتَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ بِغَيْرِ تَعَبٍ لِطُولِ عُنُقِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُلْتَقِطٍ.

‌3 - بَاب ضَالَّةِ الْغَنَمِ

2428 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً (يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفْ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، قَالَ يَحْيَى: فَهَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ) ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، (قَالَ يَزِيدُ: وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا) ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: فَقَالَ: دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ ضَالَّةِ الْغَنَمِ) كَأَنَّهُ أَفْرَدَهَا بِتَرْجَمَةٍ لِيُشِيرَ إِلَى افْتِرَاقِ حُكْمِهَا عَنِ الْإِبِلِ، وَقَدِ انْفَرَدَ مَالِكٌ بِتَجْوِيزِ أَخْذِ الشَّاةِ وَعَدَمِ تَعْرِيفِهَا مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ: هِيَ لَكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ كَمَا أَنَّهُ قَالَ: أَوْ لِلذِّئْبِ وَالذِّئْبُ لَا يَمْلِكُ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَالِكَهَا لَوْ جَاءَ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهَا الْوَاجِدُ لَأَخَذَهَا مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَقَدْ رَوَى الْكَثِيرَ عَنْ شَيْخِهِ هَنَا سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَبَقَ فِي الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ فَكَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَهْمِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ فَجَعَلَ رَبِيعَةَ شَيْخَ يَحْيَى لَا رَفِيقَهُ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي آخِرِ الطَّلَاقِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ مُرْسَلًا قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ يَحْيَى: وَقَالَ رَبِيعَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سُفْيَانُ: وَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَحَدَّثَنِي بِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدٍ يَكُونُ قَدْ سَوَّى الْإِسْنَادَ فَإِنَّ يَحْيَى إِنَّمَا سَمِعَ ذِكْرَ زَيْدٍ فِيهِ بِوَاسِطَةِ رَبِيعَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى لَمَّا حَدَّثَ بِهِ سُفْيَانُ كَانَ ذَاهِلًا عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ سُلَيْمَانُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَزَعَمَ) أَيْ قَالَ. وَالزَّعْمُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا) أَيْ مُلْتَقِطُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ (قَالَ يَحْيَى: هَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي أَهُوَ فِي الْحَدِيثِ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ) أَيْ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ، وَالْقَائِلُ: يَقُولُ يَزِيدُ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَالْقَائِلُ: قَالَ هُوَ سُلَيْمَانُ، وَهُمَا مَوْصُولَانِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَالْغَرَضُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ شَكَّ هَلْ قَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ مَرْفُوعٌ أَوْ لَا، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ لِثُبُوتِ مَا قَبْلَهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَخُلُوِّهَا عَنْ ذِكْرِ الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ جَزَمَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِرَفْعِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ،

ص: 83

وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى فَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ وَكَذَلِكَ جَزَمَ بِرَفْعِهَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْفَهْمِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى، وَرَبِيعَةَ جَمِيعًا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى رُجْحَانِ رَفْعِهَا فَتَرْجَمَ بَعْدَ أَبْوَابٍ إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِكَوْنِهَا وَدِيعَةً هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَزِيدُ وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا) هُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَشُكَّ يَحْيَى فِي كَونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى يَزِيدَ، وَلَمْ أَرَهَا مَرْفُوعَةً فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌4 - بَاب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا

2429 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا) أَيْ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْمَذْكُورَ مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ وَفِيهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا شَأْنَكَ بِهَا فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَشَأْنَكَ بِهَا، فَحَذَفَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَوَابَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَشَرْطَ إِنِ الثَّانِيَةِ وَالْفَاءَ مِنْ جَوَابِهَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ بِلَفْظِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَذْفُ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أُبَيٍّ فِي أَوَّلِ اللُّقَطَةِ بِلَفْظِ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا بِإِثْبَاتِ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي، وَمَضَى مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ: وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْهَا وَمِثْلُهُ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ: ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ الْمُقْدَّمِ ذِكْرُهَا، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ لَهَا طَالِبٌ فَاسْتَنْفِقْهَا.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّاقِطَ يَمْلِكُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: شَأْنَكَ بِهَا تَفْوِيضٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَوْلُهُ: فَاسْتَنْفِقْهَا الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ التَّلَفُّظِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقِيلَ: تَكْفِي النِّيَّةُ وَهُوَ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا، وَقِيلَ: تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاطِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ: وَإِلَّا فَتَصْنَعُ بِهَا مَا تَصْنَعُ بِمَالِكَ.

قَوْلُهُ: (شَأْنَكَ بِهَا) الشَّأْنُ الْحَالُ أَيْ تَصَرَّفْ فِيهَا، وَهُوَ بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمْ شَأْنَكَ بِهَا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ بِهَا أَيْ شَأْنُكَ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إِذَا تَصَرَّفَ فِي اللُّقَطَةِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا سَنَةً ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا هَلْ يَضْمَنُهَا لَهُ أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً، أَوِ الْبَدَلِ إِنْ كَانَتِ اسْتُهْلِكَتْ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْكَرَابِيسِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَوَافَقَهُ صَاحِبَاهُ لْبُخَارِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ إِمَامُ الظَّاهِرِيَّةِ، لَكِنْ وَافَقَ دَاوُدُ الْجُمْهُورَ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، وَمِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ

ص: 84

الْمَاضِيَةِ: وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ وَقَوْلُهُ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا إِلَخْ. بَعْدَ قَوْلِهِ: كُلْهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ رَدِّهَا بَعْدَ أَكْلِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى رَدِّ الْبَدَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا إِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ.

وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ بِأَدَائِهَا إِلَيْهِ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهَا وَبَعْدَهُ، وَهِيَ أَقْوَى حُجَّةٍ لِلْجُمْهُورِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعْتَهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا عَرَفْتَ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اقْبِضْهَا فِي مَالِكَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أَمْكَنَ حَمْلُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّرْجَمَةِ: فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا أَيْ فِي إِبَاحَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا حِينَئِذٍ، وَأَمَّا أَمْرُ ضَمَانِهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُلْتَقِطُ أَخَذَهَا بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّمَلُّكِ فَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا وَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا اسْتَحَقَّهَا بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَمَهْمَا تَلِفَ مِنْهَا لَزِمَ الْمُلْتَقِطَ غَرَامَتُهُ لِلْمَالِكِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌5 - بَاب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ

2430 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَسَاقَ الْحَدِيثَ - فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ) أَيْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ، هَلْ يَأْخُذُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ؟ وَإِذَا أَخَذَهُ هَلْ يَتَمَلَّكُهُ أَوْ يَكُونُ سَبِيلُهُ سَبِيلَ اللُّقَطَةِ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْكَفَالَةِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَبَقَ تَوْجِيهُ اسْتِنْبَاطِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ وَأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَأْتِ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا سَاقَهُ الشَّارِعُ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، فَبِهَذَا التَّقْدِيرِ تَمَّ الْمُرَادُ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ الْخَشَبَةِ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ. وَأَمَّا السَّوْطُ وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْبَابِ، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اسْتَنْبَطَهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ.

وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أَثَرٍ يَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَوْ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْطِ وَالْحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي اللُّقَطَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ أَصْلًا، وَقِيلَ: تُعَرَّفُ مَرَّةً وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقِيلَ: زَمَنًا يَظُنُّ أَنَّ فَاقِدَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي قَلِيلٍ لَهُ قِيمَةٌ أَمَّا مَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ فَلَهُ الِاسْتِبْدَادُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فِي حَدِيثِ التَّمْرَةِ حُجَّةٌ لِذَلِكَ،

ص: 85

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ كَالنَّوَاةِ جَازَ أَخْذُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قَدْرٌ وَمَنْفَعَةٌ وَجَبَ تَعْرِيفُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ جَازَ أَكْلُهُ وَلَا يَضْمَنُ عَلَى الْأَصَحِّ.

‌6 - بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ

2431 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا.

2432 -

وَقَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، وَقَالَ: زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا وَأَكْلُهَا وَكَذَا نَحْوُهَا مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَجْزُومُ بِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَشَارَ الرَّافِعِيُّ إِلَى تَخْرِيجِ وَجْهٍ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا وَجَدَتْ تَمْرَةً فَأَكَلَتْهَا وَقَالَتْ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْفَسَادَ، تَعْنِي أَنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ فَلَمْ تُؤْخَذْ فَتُؤْكَلْ فَسَدَتْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ طَلْحَةَ) هُوَ ابْنُ مُصَرِّفٍ.

قَوْلُهُ: (لَأَكَلْتُهَا) ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ أَكْلِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ مُلْقًى فِي الطُّرُقَاتِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَكْلِهَا إِلَّا تَوَرُّعًا لِخَشْيَةِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، لَا لِكَوْنِهَا مَرْمِيَّةً فِي الطَّرِيقِ فَقَطْ. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ عَلَى فِرَاشِي فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَرَكَ أَخْذَهَا تَوَرُّعًا لِخَشْيَةِ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَلَوْ لَمْ يَخْشَ ذَلِكَ لَأَكَلَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْرِيفًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ، لَكِنْ هَلْ يُقَالُ إِنَّهَا لُقَطَةٌ رخص في ترك تعريفها، أو ليست لقطة لِأَنَّ اللُّقَطَةَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَمَلَّكَ دُونَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ؟ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهُ صلى الله عليه وسلم التَّمْرَةَ فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ الْمَالَ الضَّائِعَ لِلْحِفْظِ وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِيهِ، أَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا لِيَنْتَفِعَ بِهَا مَنْ يَجِدُهَا مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُ الْمَالِ الَّذِي يَعْلَمُ تَطَلُّعَ صَاحِبِهِ لَهُ، لَا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ لِحَقَارَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ. قُلْتُ: وَلِسُفْيَانَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى طَلْحَةَ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وَجَدَ تَمْرَةً فَأَكَلَهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَائِدَةُ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ زَائِدَةَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ.

‌7 - بَاب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟

وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا،

ص: 86

وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَلْتَقِطُهَا إِلَّا مُعَرِّفٌ.

2433 -

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زكَرِيَّاءُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُعْضَدُ عِضَاهُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.

2434 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ من بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَقَامَ أَبُو شَاهٍ - رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ، قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قوله: (بَابُ كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ لُقَطَةِ الْحَرَمِ، فَلِذَلِكَ قَصَرَ التَّرْجَمَةَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ، أَوْ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الْتِقَاطِهَا لِلتَّمَلُّكِ لَا لِلْحِفْظِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ صَحَّحَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ. ثُمَّ لَيْسَ فِيمَا سَاقَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ كَيْفِيَّةُ التَّعْرِيفِ الَّتِي تَرْجَمَ لَهَا. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْحَجِّ فِي بَابِ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ (عَنْ عِكْرِمَةَ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ أَيْضًا، وَصَلَهُ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ فِي بَابِ مَا قِيلَ فِي الصُّوَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الرِّبَاطِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ طَاهِرٍ، وَالدَّارِمِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، وَزَكَرِيَّا هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ سَالِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى) هُوَ الْبَلْخِيُّ، وَفِي الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ تَصْرِيحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاتِهِ بِالتَّحْدِيثِ مَعَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةً مِنَ الْمُدَلِّسِينَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخُطْبَةَ وَقَعَتْ عَقِبَ الْفَتْحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ وَقَعَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ عَقِبَ قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ هَذَا بَيَانُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (الْقَتْلُ) بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، وَالثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ) أَيْ مُعَرِّفٍ

ص: 87

وَأَمَّا الطَّالِبُ فَيُقَالُ لَهُ: النَّاشِدُ، تَقُولُ: نَشَدْتُ الضَّالَّةَ إِذَا طَلَبْتَهَا، وَأَنْشَدْتُهَا إِذَا عَرَّفْتَهَا، وَأَصْل الْإِنْشَادِ وَالنَّشِيدِ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَرِّفَهَا فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهَا ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا فَلَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا عَدَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْحَجِّ إِلَّا قَوْلَهُ: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأُحِيلُ بِهِ عَلَى كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَإِلَّا قَوْلَهُ: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، وَالْقَائِلُ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّاوِي، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ لُقَطَةَ مَكَّةَ لَا تُلْتَقَطُ لِلتَّمْلِيكِ بَلْ لِلتَّعْرِيفِ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِإِمْكَانِ إِيصَالِهَا إِلَى رَبِّهَا، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِلْمَكِّيِّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْآفَاقِيِّ فَلَا يَخْلُو أُفُقٌ غَالِبًا مِنْ وَارِدٍ إِلَيْهَا، فَإِذَا عَرَّفَهَا وَاجِدُهَا فِي كُلِّ عَامٍ سَهُلَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.

وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ مَكَّةُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ إِلَى بَلَدِهِ وَقَدْ لَا يَعُودُ فَاحْتَاجَ الْمُلْتَقِطُ بِهَا إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنِيرِ لِمَذْهَبِهِ بِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ نَفَى الْحِلَّ وَاسْتَثْنَى الْمُنْشِدَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ لِلْمُنْشِدِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، قَالَ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَكَّةَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّخْصِيصَ إِذَا وَافَقَ الْغَالِبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّ لُقَطَةَ مَكَّةَ يَيْأَسُ مُلْتَقِطُهَا مِنْ صَاحِبِهَا، وَصَاحِبُهَا مِنْ وِجْدَانِهَا لِتَفَرُّقِ الْخَلْقِ إِلَى الْآفَاقِ الْبَعِيدَةِ، فَرُبَّمَا دَاخَلَ الْمُلْتَقِطَ الطَّمَعُ فِي تَمَلُّكِهَا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَلَا يُعَرِّفُهَا فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَفَارَقَتْ فِي ذَلِكَ لُقَطَةُ الْعَسْكَرِ بِبِلَادِ الْحَرْبِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ فَإِنَّهَا لَا تُعَرَّفُ فِي غَيْرِهِمْ بِاتِّفَاقٍ، بِخِلَافِ لُقَطَةِ مَكَّةَ فَيُشْرَعُ تَعْرِيفُهَا لِإِمْكَانِ عَوْدِ أَهْلِ أُفُقِ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ إِلَى مَكَّةَ فَيَحْصُلُ مُتَوَصَّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: قَوْلُهُ: إِلَّا لِمُنْشِدٍ أَيْ لِمَنْ سَمِعَ نَاشِدًا يَقُولُ: مَنْ رَأَى لِي كَذَا؟ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ أَنْ يُعَرِّفَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ أَضْيَقُ مِنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِحَالَةٍ لِلْمُعَرِّفِ دُونَ حَالَةٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُنْشِدِ الطَّالِبُ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ الطَّالِبِ مُنْشِدًا.

قُلْتُ: وَيَكْفِي فِي رَدِّ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مُعَرِّفٌ وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي تَصْدِيرِ الْبُخَارِيِّ الْبَابَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ أَثْبَتَ الْحَرْبِيُّ جَوَازَ تَسْمِيَةِ الطَّالِبِ مُنْشِدًا وَحَكَاهُ عِيَاضٌ أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لُقَطَةَ عَرَفَةَ وَالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَسَائِرِ الْبِلَادِ لِاخْتِصَاصِ مَكَّةَ بِذَلِكَ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي وَجْهًا فِي عَرَفَةَ أَنَّهَا تَلْتَحِقُ بِحُكْمِ مَكَّةَ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْحَاجَّ كَمَكَّةَ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَلَيْسَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّوْضَةِ وَلَا أَصْلِهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَعْرِيفِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب لَا تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ

2435 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ) هَكَذَا أَطْلَقَ التَّرْجَمَةَ عَلَى وَفْقِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ

ص: 88

خَصَّصَهُ أَوْ قَيَّدَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ) فِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قَطَنٍ فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَحَدَّثَكَ نَافِعٌ؟.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَحْلُبَنَّ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُوَطَّآتِ بِضَمِّ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهَادِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَحْتَلِبَنَّ بِكَسْرِهَا وَزِيَادَةِ الْمُثَنَّاةِ قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (مَاشِيَةَ امْرِئٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهَادِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ مَاشِيَةَ رَجُلٍ وَهُوَ كَالْمِثَالِ وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالرِّجَالِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ مَاشِيَةَ أَخِيهِ وَقَالَ: هُوَ لِلْغَالِبِ إِذْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ وَبِإِثْبَاتِ الْفَرْقِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُحْتَلَبَ مَوَاشِي النَّاسِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَاشِيَةُ تَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْغَنَمِ يَقَعُ أَكْثَرَ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ.

قَوْلُهُ: (مَشْرُبَتُهُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَقَدْ تُفْتَحُ أَيْ غُرْفَتُهُ، وَالْمَشْرَبَةُ مَكَانُ الشُّرْبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ خَاصَّةً، وَالْمَشْرِبَةُ بِالْكَسْرِ إِنَاءُ الشُّرْبِ.

قَوْلُهُ: (خِزَانَتُهُ) الْخِزَانَةُ الْمَكَانُ أَوِ الْوِعَاءُ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ مَا يُرَادُ حِفْظُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَيُكْسَرَ بَابُهَا.

قَوْلُهُ: (فَيُنْتَقَلَ) بِالنُّونِ وَالْقَافِ وَضَمِّ أَوَّلِهِ يُفْتَعَلُ مِنَ النَّقْلِ أَيْ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: فَيُنْتَثَلَ بِمُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْقَافِ، وَالنَّثْلُ النَّثْرُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِسُرْعَةٍ، وَقِيلَ: الِاسْتِخْرَاجُ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ نَافِعٍ، وَرَوَاهُ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِالْقَافِ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِالْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (تَخْزُنُ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ وَالزَّايِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَهَا نُونٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُحْرِزُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِهْمَالِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ.

قَوْلُهُ: (ضُرُوعُ) الضَّرْعُ لِلْبَهَائِمِ كَالثَّدْيِ لِلْمَرْأَةِ.

قَوْلُهُ: (أُطْعُمَاتِهِمْ) هُوَ جَمْعُ أَطْعِمَةٍ وَالْأَطْعِمَةُ جَمْعُ طَعَامٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا اللَّبَنُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّبَنَ بِالذِّكْرِ لِتَسَاهُلِ النَّاسِ فِيهِ فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْجُمْهُورُ، لَكِنْ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنٍ خَاصٍّ أَوْ إِذْنٍ عَامٍّ، وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مَا إِذَا عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِذْنٌ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالْحُجَّةُ لَهُمْ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ، فَمَنْ صَحَّحَ سَمَاعَهُ مِنْ سَمُرَةَ صَحَّحَهُ وَمَنْ لَا أَعَلَّهُ بِالِانْقِطَاعِ، لَكِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ مِنْ أَقْوَاهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلَّا فَاشْرَبْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ أَصَحُّ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَبِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْقَوَاعِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ

جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْجَمْعِ: مِنْهَا حَمْلُ الْإِذْنِ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَالنَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ.

وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْإِذْنِ بِابْنِ السَّبِيلِ دُونَ غَيْرِهِ أَوْ بِالْمُضْطَرِّ أَوْ بِحَالِ الْمَجَاعَةِ مُطْلَقًا وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ حَدِيثَ الْإِذْنِ كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثَ النَّهْيِ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ التَّشَاحِّ وَتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ

ص: 89

النَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ أَحْوَجَ مِنَ الْمَارِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ إِذْ رَأَيْنَا إِبِلًا مَصْرُورَةً فَثُبْنَا إِلَيْهَا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذِهِ الْإِبِلَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ قُوتُهُمْ، أَيَسُرُّكُمْ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَزَاوِدِكُمْ فَوَجَدْتُمْ مَا فِيهَا قَدْ ذَهَبَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ فَابْتَدَرَهَا الْقَوْمُ لِيَحْلِبُوهَا قَالُوا: فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْإِذْنِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ مُحْتَاجًا، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْإِذْنَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَصْرُورَةٍ وَالنَّهْيَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ مَصْرُورَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي آخِرِهِ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَاشْرَبُوا وَلَا تَحْمِلُوا فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ الْإِذْنِ فِي الْمَصْرُورِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ بِقَيْدِ عَدَمِ الْحَمْلِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْحَمْلَ عَلَى الْعَادَةِ قَالَ: وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمُ الْمُسَامَحَةَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ بَلَدِنَا، قَالَ: وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَهْمَا كَانَ عَلَى طَرِيقٍ لَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ وَلَا يُقْصَدُ جَازَ لِلْمَارِّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُحْتَاجِ.

وَأَشَارَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ إِلَى قَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي الْغَزْوِ، وَآخَرُونَ إِلَى قَصْرِ الْإِذْنِ عَلَى مَا كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالنَّهْيِ عَلَى مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاسْتُؤْنِسَ بِمَا شَرَطَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُسَافِرِ يَنْزِلُ بِالذِّمِّيِّ قَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، قِيلَ لَهُ: فَالضِّيَافَةُ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهَا ; وَأَمَّا الْآنَ فَلَا. وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَسْخِ الْإِذْنِ وَحَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، قَالُوا: وَكَانَتِ الضِّيَافَةُ حِينَئِذٍ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَتِ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَتْ فَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ الضِّيَافَةِ فِي الْمَظَالِمِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ مَرَّ بِبُسْتَانٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ، قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ. فَيَأْخُذَ وَيَغْرَمَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبُسْتَانِ حَائِطٌ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنَ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ - وَلَوْ لَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ، وَفِي الْأُخْرَى: إِذَا احْتَاجَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خَبِيئَةً، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ يَصِحَّ، وَجَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ غَيْرِ قَوِيَّةٍ. قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّ مَجْمُوعَهَا لَا يَقْصُرُ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، وَقَدِ احْتَجُّوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِمَا هُوَ دُونَهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمِنْحَةِ فِيمَا عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى الصِّحَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلتَّقْرِيبِ لِلْإِفْهَامِ وَتَمْثِيلِ مَا قَدْ يَخْفَى بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي النَّظَائِرِ.

وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ بِعِلَّتِهِ وَإِعَادَتُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْعِلَّةِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ لِلْأَصْلِ مَزِيَّةٌ لَا يَضُرُّ سُقُوطُهَا فِي الْفَرْعِ إِذَا تَشَارَكَا فِي أَصْلِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الضَّرْعَ لَا يُسَاوِي الْخِزَانَةَ فِي الْحِرْزِ كَمَا أَنَّ الصَّرَّ لَا يُسَاوِي الْقُفْلَ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَلْحَقَ الشَّارِعُ الضَّرْعَ الْمَصْرُورَ فِي الْحُكْمِ بِالْخِزَانَةِ الْمُقْفَلَةِ فِي تَحْرِيمِ تَنَاوُلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ.

وَفِيهِ إِبَاحَةُ خَزْنِ الطَّعَامِ وَاحْتِكَارِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ خِلَافًا لِغُلَاةِ الْمُتَزَهِّدَةِ الْمَانِعِينَ مِنْ الِادِّخَارِ مُطْلَقًا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَفِيهِ أَنَّ اللَّبَنَ يُسَمَّى طَعَامًا فَيَحْنَثُ بِهِ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَنَاوَلُ طَعَامًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي إِخْرَاجِ اللَّبَنِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ.

قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَ لَبَنِ الشَّاةِ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بَاطِلٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيُّ.

وَفِيهِ أَنَّ الشَّاةَ إِذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ مَقْدُورٌ عَلَى حَلْبِهِ قَابَلَهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ; وَهُوَ يُؤَيِّدُ خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ وَيُثْبِتُ حُكْمَهَا فِي تَقْوِيمِ اللَّبَنِ.

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَبَ مِنْ ضَرْعِ نَاقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فِي

ص: 90

مَصْرُورَةٍ مُحَرَّزَةٍ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَطْعَ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ صَاحِبُهَا تَعْيِينًا أَوْ إِجْمَالًا، لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ أَفْصَحَ بِأَنَّ ضُرُوعَ الْأَنْعَامِ خَزَائِنُ الطَّعَامِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْغَنَمُ فِي حِرْزٍ اكْتِفَاءً بِحِرْزِ الضَّرْعِ لِلَّبَنِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ.

‌9 - بَاب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ

2436 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ - أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ - ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ زَيْدِ ابْنِ خَالِدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوَدِيعَةِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رُجْحَانِ رَفْعِ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَرَابَ الْبُخَارِيُّ بِالشَّكِّ الْمَذْكُورِ فَتَرْجَمَهُ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَسْقَطَهَا لَفْظًا وَضَمَّنَهَا مَعْنًى لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِ صَاحِبِهَا خِلَافًا لِمَنْ أَبَاحَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِلَا ضَمَانٍ.

قَوْلُهُ: وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ الِاسْتِنْفَاقِ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، فَتَجُوزُ بِذِكْرِ الْوَدِيعَةِ عَنْ وُجُوبِ رَدِّ بَدَلِهَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَدِيعَةِ أَنْ تَبْقَى عَيْنُهَا، وَالْجَامِعُ وُجُوبُ رَدِّ مَا يَجِدُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ وَإِلَّا فَالْمَأْذُونُ فِي اسْتِنْفَاقِهِ لَا تَبْقَى عَيْنُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ بِمَعْنَى أَوْ، أَيْ إِمَّا أَنْ تَسْتَنْفِقَهَا وَتَغْرَمَ بَدَلَهَا وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكَهَا عِنْدَكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَدِيعَةِ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا فَتُعْطِيَهَا لَهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا وَدِيعَةً أَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَدَلُّ بِهِ لِأَحَدِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِذَا أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَانْقِضَاءِ زَمَنِهِ ثُمَّ أَخْرَجَ بَدَلَهَا ثُمَّ هَلَكَتْ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَكَلَهَا ثُمَّ غَرِمَهَا ثُمَّ ضَاعَتْ قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

وَقَوْلُهُ هُنَا: حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْوَجْنَةُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْخَدَّيْنِ، وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: بِالْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ، وَالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْكَسْرِ.

‌10 - بَاب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ

2437 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالَا لِي: أَلْقِهِ، قُلْتُ: لَا، وَلَكِنِّي إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلَّا اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ

ص: 91

رضي الله عنه فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا.

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بِهَذَا قَالَ: فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَتْ لَا بَعْدَ حَتَّى عِنْدَ ابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَأَظُنُّ الْوَاوَ سَقَطَتْ مِنْ قَبْلِ حَتَّى، وَالْمَعْنَى لَا يَدَعْهَا فَتَضِيعَ وَلَا يَدَعْهَا حَتَّى يَأْخُذَهَا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ اللُّقَطَةَ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ حَدِيثُ الْجَارُودِ مَرْفُوعًا: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يُعَرِّفُهَا، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ آوَى الضَّالَّةَ فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا، وَأَمَّا مَا أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أُبَيٍّ أَخْذَهُ الصُّرَّةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ شَرْعًا، وَيَسْتَلْزِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَإِلَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ تَحْصُلُ بِحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا عَنِ الْخَوَنَةِ وَتَعْرِيفِهَا لِتَصِلَ إِلَى صَاحِبِهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَرْجَحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَمَتَى رَجَحَ أَخْذُهَا وَجَبَ أَوِ اسْتُحِبَّ، وَمَتَى رَجَحَ تَرْكُهَا حَرُمَ أَوْ كُرِهَ، وَإِلَّا فَهُوَ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَبُو أُمَيَّةَ الْجُعْفِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي زَمَنِهِ رَجُلًا وَأَعْطَى الصَّدَقَةَ فِي زَمَنِهِ وَلَمْ يَرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا قَدِمَ المَدِينَةَ حِينَ نَفَضُوا أَيْدِيَهُمْ مِنْ دَفْنِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ شَهِدَ الْفُتُوحَ وَنَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانِينَ أَوْ بَعْدَهَا وَلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا لِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَصْغَرُ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ.

قَوْلُهُ: (مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ) هُوَ الْبَاهِلِيُّ يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَيُقَالُ لَهُ: سَلْمَانُ الْخَيْلِ لِخِبْرَتِهِ بِهَا، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى بَعْضِ الْمَغَازِي فِي فُتُوحِ الْعِرَاقِ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءُ الْكُوفَةِ، وَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَتِهِ فِي فُتُوحِ الْعِرَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْضًا الْعَبْدِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ أَيْضًا، وَزَعَمَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً. وَرَوَى أَبُو يُعْلَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ سَبَقَهُ بَعْضُ أَعْضَائِهِ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، وَكَانَ قُدُومُ زَيْدٍ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَشَهِدَ الْفُتُوحَ، وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَاقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَالَ: زَيْدٌ زَيْدُ الْخَيْرِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَجُلٌ تَسْبِقُهُ يَدُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقُطِعَتْ يَدُ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي بَعْضِ الْفُتُوحِ، وَقُتِلَ مَعَ عَلِيِّ يَوْمَ الْجَمَلِ.

قَوْلُهُ (فِي غَزَاةٍ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعُذَيْبِ وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ: مَوْضِعٌ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزَاتِنَا حَجَجْتُ.

قَوْلُهُ: (مِائَةُ دِينَارٍ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ قَلِيلِ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرِهَا فَيُعَرَّفُ الْكَثِيرُ سَنَةً وَالْقَلِيلُ أَيَّامًا، وَحَدُّ الْقَلِيلِ عِنْدَهُ مَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَهُوَ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَالْخِلَافَ فِي الْقَدْرِ الْمُلْتَقَطِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ اعْرِفْ عِدَّتَهَا) هِيَ رَابِعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَجِيئِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 92

وَثَالِثَةٌ بِاعْتِبَارِ التَّعْرِيفِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ أَوَّلَ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ ثَلَاثًا وَقَالَ فِيهَا فَلَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ رُوَاتِهِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

‌11 - بَاب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ

2438 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ، قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَإِلَّا فَاسْتَنْفِقْ بِهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَرْفَعْهَا بِالرَّاءِ بَدَلَ الدَّالِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى رَدِّ قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَلِيلًا عَرَّفَهُ وَإِنْ كَانَ مَالًا كَثِيرًا رَفَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، نَعَمْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ اللُّقَطَةِ وَالضَّوَالِّ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْمُؤْتَمَنِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: يُعَرِّفُ الْمُؤْتَمَنُ ; وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْتَمَنِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى السُّلْطَانِ لِيُعْطِيَهَا الْمُؤْتَمَنَ لِيُعَرِّفَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالسُّلْطَانُ جَائِرٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا فَإِنِ الْتَقَطَهَا لَا يَدْفَعُهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَكَذَلِكَ وَيُخَيَّرُ فِي دَفْعِهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غير مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ جَائِرٌ تَخَيَّرَ الْمُلْتَقِطُ وَعَمِلَ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَكَذَلِكَ.

‌12 - باب

2439 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْبَرَاءُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ - فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ: هَكَذَا - ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالْأُخْرَى - فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِدَاوَةً، عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ.

[الحديث 2439 - أطرافه في: 3615، 3652، 3908، 3917، 5607]

ص: 93

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَهُوَ إِمَّا مِنَ الْبَابِ أَوْ كَالْفَصْلِ مِنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحَالَيْنِ، فَإِنَّهُ سَاقَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ شُرْبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ مِنْ لَبَنِ الشَّاةِ الَّتِي وُجِدَتْ مَعَ الرَّاعِي، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِحَدِيثِ اللُّقَطَةِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَبْوَابِ اللُّقَطَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُبِيحَ لِلَّبَنِ هُنَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الضَّائِعِ إِذْ لَيْسَ مَعَ الْغَنَمِ فِي الصَّحْرَاءِ سِوَى رَاعٍ وَاحِدٍ فَالْفَاضِلُ عَنْ شُرْبِهِ مُسْتَهْلَكٌ، فَهُوَ كَالسَّوْطِ الَّذِي اغْتُفِرَ الْتِقَاطُهُ، وَأَعْلَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالشَّاةِ الْمُلْتَقَطَةِ فِي الضَّيْعَةِ وَقَدْ قَالَ فِيهَا: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ بِخُصُوصِهَا. وَقَوْلُهُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ لِلْأَكْثَرِ وَحَكَى عِيَاضٌ رِوَايَةً بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ شَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَجَازَ أَخْذَ ذَلِكَ اللَّبَنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حَرْبِيٌّ فَكَانَ حَلَالًا لَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ الْجِهَادَ وَحِلَّ الْغَنِيمَةِ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ حَرْبِيٌّ لَمْ يَسْتَفْهِمِ الرَّاعِي هَلْ تُحْلَبُ أَمْ لَا، وَلَكَانَ سَاقَ الْغَنَمَ غَنِيمَةً وَقَتَلَ الرَّاعِيَ أَوْ أَسَرَهُ قَالَ: وَلَكِنَّهُ كَانَ بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرُمَةِ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَدْ أَذِنَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مَنْ مَرَّ بِهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ وَاسْتِيفَاءُ شَرْحِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ عَالِيًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَنَازِلًا عَنْ إِسْحَاقَ، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، لِتَصْرِيحِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي الرِّوَايَةِ النَّازِلَةِ بِأَنَّ الْبَرَاءَ أَخْبَرَهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ ذِكْرَ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ فِي اللُّقَطَةِ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ اللُّقَطَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا؛ الْمُعَلَّقُ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرٌ وَاحِدٌ لِزَيْدٍ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 94

بسم الله الرحمن الرحيم

‌46 - كِتَاب الْمَظَالِمِ والغصب

في المظالم وَالْغَصْبِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رَافِعِي رءوسهم، الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْمَظَالِمِ. فِي الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَسَقَطَ كِتَابٌ لِغَيْرِهِ، وَلِلنَّسَفِيِّ كِتَابُ الْغَصْبِ بَابٌ فِي الْمَظَالِمِ. وَالْمَظَالِمُ جَمْعُ مَظْلِمَةٍ مَصْدَرُ ظَلَمَ يَظْلِمُ وَاسْمٌ لِمَا أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الشَّرْعِيِّ، وَالْغَصْبُ أَخْذُ حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} - إِلَى - {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رَافِعِي رُءُوسِهِمُ؛ الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ) سَقَطَ لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ قَوْلَهُ: رَافِعِي رُءُوسِهِمْ وَهُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَكَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:

أَنْهَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا

كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَا

وَحَكَى ثَعْلَبٌ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ، يُقَالُ أَقْنَعَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَأَقْنَعَ إِذَا طَأْطَأَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْوَجْهَانِ: أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ يَنْظُرُ، ثُمَّ يُطَأْطِئُهُ ذُلًّا وَخُضُوعًا قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ فَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي الْمَجَازِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يس، وَزَادَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَجْذِبَ الذَّقَنَ حَتَّى تَصِيرَ فِي الصَّدْرِ ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَهَذَا يُسَاعِدُ قَوْلَ ابْنِ التِّينِ لَكِنَّهُ بِغَيْرِ تَرْتِيبٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُسْرِعِينَ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَوَقَعَ لَهُ هُوَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، وَأَمَّا تَفْسِيرُ غَيْرِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا فَكَذَا قَالَهُ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْمُهْطِعُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي ذُلٍّ وَخُشُوعٍ لَا يَقْطَعُ بَصَرَهُ.

قَوْلُهُ: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا لَا عُقُولَ لَهُمْ) وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي الْمَجَازِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ حَسَّانَ:

أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي

فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ

وَالْهَوَاءُ: الْخَلَاءُ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ الْأَجْرَامُ، أَيْ لَا قُوَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَرَاءَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَعْنَاهُ نُزِعَتْ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ أَجْوَافِهِمْ.

‌1 - بَاب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ

قَالَ مُجَاهِدٌ: {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ، وَقَالَ غيره: مُسْرِعِينَ {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا لَا عُقُولَ لَهُمْ، {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ

ص: 95

ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}

2440 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَعْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَاصِ الْمَظَالِمِ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ بَابُ الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ.

وَقَوْلُهُ: بِقَنْطَرَةٍ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا طَرَفُ الصِّرَاطِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ بَيْنَ الصِّرَاطِ وَالْجَنَّةِ.

وَقَوْلُهُ: فَيَتَقَاصُّونَ بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ يَتَفَاعَلُونَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْمُرَادُ بِهِ تَتَبُّعُ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَظَالِمِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.

وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا نُقُّوا بِضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا قَافٌ مِنَ التَّنْقِيَةِ، وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِيِّ هُنَا تَقَصَّوْا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَكْمَلُوا التَّقَاصَّ.

قَوْلُهُ: (وَهُذِّبُوا) أَيْ خُلِّصُوا مِنَ الْآثَامِ بِمُقَاصَصَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي التَّوْحِيدِ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا بَعْضُهُمْ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهِ تَصْرِيحَ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ بِالتَّحْدِيثِ، وَاسْمُ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَلِيُّ بْنُ دُؤَادَ بِضَمِّ الدَّالِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ.

[الحديث 2440 - طرفه في: 6535]

‌2 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

2441 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حدثني قَتَادَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ:{هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

[الحديث 2441 - أطرافه في: 4685، 6070، 7514]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يُدْنِي اللَّهُ الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي كِتَابِ الرِّقَاقِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ

ص: 96

كَنَفَهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْفَاءِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَبِيحٌ قَالَهُ عِيَاضٌ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْغَصْبِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ هُنَا أَغْفِرُهَا لَكَ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.

‌3 - بَاب لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ

2442 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

[الحديث 2442 - طرفه في: 6951]

قَوْلُهُ (بَابُ لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ يُقَالُ: أَسْلَمَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا أَلْقَاهُ إِلَى الْهَلَكَةِ وَلَمْ يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أُسْلِمَ لِغَيْرِهِ، لَكِنْ غَلَبَ فِي الْإِلْقَاءِ إِلَى الْهَلَكَةِ.

قَوْلُهُ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) هَذِهِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ كُلَّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُطْلِقُ بَيْنَهُمَا اسْمَ الْأُخُوَّةِ، وَيَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْبَالِغُ وَالْمُمَيِّزُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَظْلِمُهُ) هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَإِنَّ ظُلْمَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يُسْلِمُهُ أَيْ لَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيهِ وَلَا فِيمَا يُؤْذِيهِ، بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ تَرْكِ الظُّلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَالِمٍ وَلَا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يَحْقِرُهُ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، وَفِيهِ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً) أَيْ غُمَّةً، وَالْكَرْبُ هُوَ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ النَّفْسَ، وَكُرُبَاتٌ بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ كُرْبَةٍ وَيَجُوزُ فَتْحُ رَاءِ كُرُبَاتٍ وَسُكُونُهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أَيْ رَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَمْ يُظْهِرْهُ أَيْ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَنَصَحَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ قَبِيحِ فِعْلِهِ ثُمَّ جَاهَرَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَتِرَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَوْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحَاكِمِ وَأَقَرَّ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّتْرَ مَحَلُّهُ فِي مَعْصِيَةٍ قَدِ انْقَضَتْ، وَالْإِنْكَارَ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْ حَصَلَ التَّلَبُّسُ بِهَا فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَإِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْغِيبَةِ لِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مَسَاوِئَ أَخِيهِ لَمْ يَسْتُرْهُ.

قَوْلُهُ: (سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ حَضٌّ عَلَى التَّعَاوُنِ وَحُسْنِ التَّعَاشُرِ وَالْأُلْفَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّ فُلَانًا أَخُوهُ وَأَرَادَ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْنَثْ. وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ فِي أَبِي دَاوُدَ فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ.

ص: 97

‌4 - بَاب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

2443 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.

[الحديث 2443 - طرفاه في: 2444، 6952]

2444 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْإِعَانَةِ، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ النَّصْرِ، فَأَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ خَدِيجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ مُصَغَّرٌ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا عَنْ عُثْمَانَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْإِكْرَاهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ هُشَيْمٍ عَنْهُمَا نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ في الطريق الثانية: (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ فِي الْبُخَارِيِّ قَالُوا وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْإِكْرَاهِ فَقَالَ رَجُلٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ) كَنَّى بِهِ عَنْ كَفِّهِ عَنِ الظُّلْمِ بِالْفِعْلِ إِنْ لَمْ يَكُفَّ بِالْقَوْلِ، وَعَبَّرَ بِالْفَوْقِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى الْأَخْذِ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ يَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ، فَذَاكَ نَصْرُهُ إِيَّاهُ وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُ الْحَدِيثِ وَفِيهِ: إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نُصْرَةٌ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّصْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِعَانَةُ، وَتَفْسِيرُهُ لِنَصْرِ الظَّالِمِ بِمَنْعِهِ مِنَ الظُّلْمِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ وَجِيزِ الْبَلَاغَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الظَّالِمَ مَظْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ رَدْعُ الْمَرْءِ عَنْ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ حِسًّا وَمَعْنًى، فَلَوْ رَأَى إِنْسَانًا يُرِيدُ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ مَفْسَدَةَ طَلَبِهِ الزِّنَا مَثَلًا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ نَصْرًا لَهُ، وَاتَّحَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّرْكَ كَالْفِعْلِ فِي بَابِ الضَّمَانِ وَتَحْتَهُ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ سَبَبًا لِحَدِيثِ الْبَابِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ زَمَنُ وُقُوعِهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(لَطِيفَةٌ): ذَكَرَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاخِرِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا جُنْدُبُ بْنُ الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ ظَاهَرَهُ وَهُوَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:

إِذَا أَنَا لَمْ أَنْصُرْ أَخِي وَهْوَ ظَالِمٌ

عَلَى الْقَوْمِ لَمْ أَنْصُرْ أَخِي حِينَ يُظْلَمُ

ص: 98

‌5 - بَاب نَصْرِ الْمَظْلُومِ

2445 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلَامِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ.

2446 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَصْرِ الْمَظْلُومِ) هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمَظْلُومِينَ، وَكَذَلِكَ فِي النَّاصِرِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْجَمِيعُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَيَتَعَيَّنُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِنْكَارِهِ مَفْسَدَةٌ أَشَدُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَبَقِيَ أَصْلُ الِاسْتِحْبَابِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، فَلَوْ تَسَاوَتِ الْمَفْسَدَتَانِ تَخَيَّرَ، وَشَرْطُ النَّاصِرِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَوْنِ الْفِعْلِ ظُلْمًا. وَيَقَعُ النَّصْرُ مَعَ وُقُوعِ الظُّلْمِ وَهُوَ حِينَئِذٍ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ يَقَعُ قَبْلَ وُقُوعِهُ كَمَنْ أَنْقَذَ إِنْسَانًا مِنْ يَدِ إِنْسَانٍ طَالَبَهُ بِمَالٍ ظُلْمًا وَهَدَّدَهُ إِنْ لَمْ يَبْذُلْهُ، وَقَدْ يَقَعُ بَعْدُ وَهُوَ كَثِيرٌ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي الْأَمْرِ بِسَبْعٍ وَالنَّهْيِ عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَاللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: يَشُدُّ بَعْضُهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.

‌6 - بَاب الِانْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ،

لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} ، {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ، لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} وَالَّذِينَ) يَعْنِي: وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} أَيْ فَانْتَصَرَ بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَلَامٌ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ {إِلا مَنْ ظُلِمَ} فَانْتَصَرَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ، وَعَنْهُ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ.

قُلْتُ: وَنُزُولُهَا فِي وَاقِعَةِ عَيْنٍ لَا يَمْنَعُ حَمْلَهَا عَلَى عُمُومِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ بِالْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الدُّعَاءُ فَرَخَّصَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قَالَ: يَعْنِي مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَسَبَّتْنِي، فَرَدَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَبَتْ، فَقَالَ لِي: سُبِّيهَا. فَسَبَبْتُهَا حَتَّى جَفَّ رِيقُهَا فِي فَمِهَا فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ يَتَهَلَّلُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ النَّخَعِيُّ (كَانُوا) أَيِ السَّلَفُ (يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا) بِالذَّالِ

ص: 99

الْمُعْجَمَةِ مِنَ الذُّلِّ وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِمَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

‌7 - بَاب عَفْوِ الْمَظْلُومِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ عَفْوِ الْمَظْلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} أَيْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} إِلَخْ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أَيْ عَنْ ظُلْمٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ: إِذَا شَتَمَكَ شَتَمْتَهُ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَدِيَ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَعَنِ الْحَسَنِ رَخَّصَ لَهُ إِذَا سَبَّهُ أَحَدٌ أَنْ يَسُبَّهُ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ مَظْلِمَةً فَعَفَا عَنْهَا إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ.

‌8 - بَاب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

2447 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الظُّلْمَ وَفِي رِوَايَةٍ إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ فِيهِ: قَالَ مُحَارِبٌ: أَظْلَمُ النَّاسِ مَنْ ظَلَمَ لِغَيْرِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ بِلَفْظِ: اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الظُّلْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْصِيَتَيْنِ: أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمُبَارَزَةِ الرَّبِّ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بِالضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِصَارِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الظُّلْمُ عَنْ ظُلْمَةِ الْقَلْبِ لَوِ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْهُدَى لَاعْتَبَرَ، فَإِذَا سَعَى الْمُتَّقُونَ بِنُورِهِمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ التَّقْوَى اكْتَنَفَتْ ظُلُمَاتُ الظُّلْمِ الظَّالِمَ حَيْثُ لَا يُغْنِي عَنْهُ ظُلْمُهُ شَيْئًا.

‌9 - بَاب الِاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

2448 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 100

بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْثِ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ مُخْتَصَرًا مُقْتَصِرًا مِنْهُ عَلَى الْمُرَادِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ.

‌10 - بَاب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ؟

2449 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْزِلَ نَاحِيَةَ الْمَقَابِرِ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ.

[الحديث 2449 - طرفه في: 6534]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلِمَتَهُ)؟ الْمَظْلِمَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ التِّينِ، وَالْجَوْهَرِيُّ فَتْحَهَا وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ أَنَّ الْقَزَّازَ حَكَى الضَّمَّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: هَلْ يُبَيِّنُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ، وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْدَ بَابِ إِذَا حَلَّلَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمُجْمَلِ أَيْضًا، وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حُجَّةً لِاشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَظْلِمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ مُشَارًا إِلَيْهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ التَّقْدِيرُ حَيْثُ يَقْتَصُّ الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا أَسْقَطَ الْمَظْلُومُ حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَهُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ أُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. نَعَمْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّحْلِيلِ مِنَ الْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً صَحَّتْ هِبَتُهَا دُونَ الْإِبْرَاءِ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ) اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ بِلَفْظِ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ مَظْلِمَةٌ.

قَوْلُهُ: (مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ بِأَصْنَافِهِ وَالْجِرَاحَاتُ حَتَّى اللَّطْمَةُ وَنَحْوُهَا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ عِرْضٍ أَوْ مَالٍ.

قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ) أَيْ صَاحِبِ الْمَظْلِمَةِ (فَحُمِلَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الظَّالِمِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَوْضَحُ سِيَاقًا مِنْ هَذَا

ص: 101

وَلَفْظُهُ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ وَطُرِحَ فِي النَّارِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ وَظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ بَلْ بِجِنَايَتِهِ، فَقُوبِلَتِ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ إِلَخْ) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَإِسْمَاعِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

‌11 - بَاب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلَا رُجُوعَ فِيهِ

2450 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.

[الحديث 2450 - أطرافه في: 2694، 4601، 5206]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلَا رُجُوعَ فِيهِ) أَيْ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهُ أَوْ مَجْهُولًا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ، وَهُوَ فِيمَا مَضَى بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا فِيمَا سَيَأْتِي فَفِيهِ الْخِلَافُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الَّتِي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ عَقْدٍ لَازِمٍ كَذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ فَوَهَمَ، وَمَوْرِدُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ تُسْقِطُ حَقَّهَا مِنَ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْخُلْعِ فِي شَيْءٍ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْإِشْكَالُ فَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَتِ التَّرْجَمَةُ بِمُطَابِقَةٍ لِلْحَدِيثِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ التَّرْجَمَةَ تَتَنَاوَلُ إِسْقَاطَ الْحَقِّ مِنَ الْمَظْلِمَةِ الْفَائِتَةِ، وَالْآيَةُ مَضْمُونُهَا إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى لَا يَكُونَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ مَظْلِمَةً لِسُقُوطِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ تَلَطَّفَ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا نَفَذَ الْإِسْقَاطُ فِي الْحَقِّ الْمُتَوَقَّعِ فَلَأَنْ يَنْفُذَ فِي الْحَقِّ الْمُحَقَّقِ أَوْلَى. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هِبَةِ الْمَرْأَةِ يَوْمَهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌12 - بَاب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ

2451 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ - وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ - فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَذِنَ لَهُ) أَيْ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ (أَوْ أَحَلَّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ أَحَلَّ لَهُ، (وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ

ص: 102

هُوَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي اسْتِئْذَانِ الْغُلَامِ فِي الشُّرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الشِّرْبِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَمُطَابَقَتُهُ - وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى ابْنِ التِّينِ فَأَنْكَرَهَا - مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغُلَامَ لَوْ أَذِنَ فِي شُرْبِ الْأَشْيَاخِ قَبْلَهُ لَجَازَ لَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فَائِدَةُ اسْتِئْذَانِهِ، فَلَوْ أَذِنَ لَكَانَ قَدْ تَبَرَّعَ بِحَقِّهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ مَا يَشْرَبُونَ وَلَا قَدْرَ مَا كَانَ هُوَ يَشْرَبُهُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مَزِيدٌ لِذَلِكَ.

‌13 - بَاب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ

2452 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.

[الحديث 2452 - طرفه في: 3198]

2453 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"

[الحديث 2453 - طرفه في: 3195]

2454 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنْ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ". قال: الفربري قال: أبو جعفر بن أبي حاتم قال أبو عبد الله: هذا الحديث ليس بخراسان في كتب ابن المبارك، أملى عليهم بالبصرة.

[الحديث 2454 - طرفه في: 3196]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَوْجِيهِ تَصْوِيرِ غَصْبِ الْأَرْضِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عَوْفٍ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ) هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، وَقَدْ نَسَبَهُ الْمِزِّيُّ أَنْصَارِيًّا وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِهِ، بَلْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قُرَشِيٌّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَنْ قُتِلَ بِالْحَرَّةِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرٍ الْعَامِرِيَّ الْقُرَشِيَّ وَأَظُنُّهُ وَلَدَ هَذَا، وَكَانَتْ الْحَرَّةُ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَيْسَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ

ص: 103

وَقَدْ أَسْقَطَ بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ - فِي رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ وَجَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ طَلْحَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ نَفْسِهِ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَتْنِي أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَقَالَتْ: إِنَّ سَعِيدًا انْتَقَصَ مِنْ أَرْضِي إِلَى أَرْضِهِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْتُوهُ فَتُكَلِّمُوهُ. قَالَ: فَرَكِبْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ طَلْحَةُ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَثَبَّتَهُ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ رُبَّمَا أَدْخَلَهُ فِي السَّنَدِ وَرُبَّمَا حَذَفَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ ظَلَمَ) قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قِصَّةٌ لِسَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ادَّعَتْ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا وَلِلزُّبَيْرِ فِي كِتَابِ النَّسَبِ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ اسْتَعْدَتْ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ وَالِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فِي أَرْضِهِ بِالشَّجَرَةِ وَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخَذَ حَقِّي، وَأَدْخَلَ ضَفِيرَتِي فِي أَرْضِهِ فَذَكَرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ فَتَرَكَ سَعِيدٌ مَا ادَّعَتْ وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَزَادَ فَقَالَ لَنَا مَرْوَانُ أَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ثَانِيَ أَحَادِيثِ الْبَابِ قِيدَ شِبْرٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ قَدْرَهُ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الشِّبْرَ إِشَارَةً إِلَى اسْتِوَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْوَعِيدِ.

قَوْلُهُ: (طُوِّقَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَ بِهِ مُقَلَّدَهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ، وَأَبِي بَكْرٍ نَحْوُهُ وَزَادَ قَالَ: وَجَاءَ سَيْلٌ فَأَبْدَى عَنْ ضَفِيرَتِهَا فَإِذَا حَقُّهَا خَارِجًا عَنْ حَقِّ سَعِيدٍ، فَجَاءَ سَعِيدٌ إِلَى مَرْوَانَ فَرَكِبَ مَعَهُ وَالنَّاسُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا وَذَكَرُوا كُلُّهُمْ أَنَّهَا عَمِيَتْ وَأَنَّهَا سَقَطَتْ فِي بِئْرِهَا فَمَاتَتْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ: طُوِّقَهُ لَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَلَّفُ نَقْلَ مَا ظَلَمَ مِنْهَا فِي الْقِيَامَةِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَيَكُونُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقِهِ، لَا أَنَّهُ طَوْقٌ حَقِيقَةً.

الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْخَسْفِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ أَيْ فَتَكُونُ كُلُّ أَرْضٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ انْتَهَى. وَهَذَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَالْأَوَّلِ، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَنْقُلَ جَمِيعَهُ يُجْعَلُ كُلُّهُ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا وَيَعْظُمُ قَدْرُ عُنُقِهُ حَتَّى يَسَعَ ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي غِلَظِ جِلْدِ الْكَافِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، وَلِأَبِي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ مَرْفُوعًا: مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَقِّ مَنْ غَلَّ بَعِيرًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ - أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُطَوَّقُهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ طَوْقًا وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَيُعَذَّبُ بِذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي حَقِّ مَنْ كَذَبَ فِي مَنَامِهِ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْوَجْهُ الْخَامِسُ - أَنْ يَكُونَ

ص: 104

التَّطْوِيقُ تَطْوِيقَ الْإِثْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الظُّلْمَ الْمَذْكُورَ لَازِمٌ لَهُ فِي عُنُقِهِ لُزُومَ الْإِثْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ جَزَمَ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَنَوَّعَ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِصَاحِبِ هَذِهِ

الْجِنَايَةِ أَوْ تَنْقَسِمَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَيُعَذَّبُ بَعْضُهُمْ بِهَذَا وَبَعْضُهُمْ بِهَذَا بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَفْسَدَةِ وَضَعْفِهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ: أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذِرَاعُ أَرْضٍ يَسْرِقُهُ رَجُلٌ فَيُطَوَّقُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَتَغْلِيظُ عُقُوبَتِهِ، وَإِمْكَانُ غَصْبِ الْأَرْضِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَكَأَنَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى أَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا وَرَدَ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَ أَسْفَلَهَا إِلَى مُنْتَهَى الْأَرْضِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ حَفَرَ تَحْتَهَا سَرَبًا أَوْ بِئْرًا بِغَيْرِ رِضَاهُ.

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مَلَكَ بَاطِنَهَا بِمَا فِيهِ مِنْ حِجَارَةٍ ثَابِتَةٍ وَأَبْنِيَةٍ وَمَعَادِنَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِالْحَفْرِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِمَنْ يُجَاوِرُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ مُتَرَاكِمَةٌ لَمْ يُفْتَقْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهَا لَوْ فُتِقَتْ لَاكْتُفِيَ فِي حَقِّ هَذَا الْغَاصِبِ بِتَطْوِيقِ الَّتِي غَصَبَهَا لِانْفِصَالِهَا عَمَّا تَحْتَهَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ طِبَاقٌ كَالسَّمَاوَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: سَبْعُ أَرَضِينَ؛ سَبْعَةُ أَقَالِيمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطَوَّقِ الْغَاصِبُ شِبْرًا مِنْ إِقْلِيمٍ آخَرَ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَهُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا كَانَ بِسَبَبِهَا، وَإِلَّا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ.

(تَنْبِيهٌ): أَرْوَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالْقَصْرِ بِاسْمِ الْحَيَوَانِ الْوَحْشِيِّ الْمَشْهُورِ، وَفِي الْمَثَلِ يَقُولُونَ إِذَا دَعَوْا: كَعَمَى الْأَرْوَى قَالَ الزُّبَيْرُ فِي رِوَايَتِهِ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا دَعَوْا قَالُوا: أَعْمَاهُ اللَّهُ كَعَمَى أَرْوَى، يُرِيدُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، قَالَ: ثُمَّ طَالَ الْعَهْدُ فَصَارَ أَهْلُ الْجَهْلِ يَقُولُونَ: كَعَمَى الْأَرْوَى، يُرِيدُونَ الْوَحْشَ الَّذِي بِالْجَبَلِ وَيَظُنُّونَهُ أَعْمَى شَدِيدَ الْعَمَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ) هُوَ الْمُعَلِّمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ مَا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ تَدْلِيسِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لِأَنَّهُ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، فَفِيهِ نَوْعُ تَعْيِينٍ لِلْخُصُومِ وَتَعْيِينُ الْمُتَخَاصَمِ فِيهِ.

قَوْلُهُ (فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ) حَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَسَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ.

قال الفربري قال أبو جعفر بن أبي حاتم، قال أبو عبد الله: هذا الحديث ليس بخراسان في كتب ابن المبارك، أملى عليهم بالبصرة.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ): هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الْبُخَارِيُّ وَرَّاقُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرَبْرِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَوَائِدَ كَثِيرَةً عَنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ الثَّلَاثَةِ وَسَقَطَتْ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِخُرَاسَانَ فِي كُتُبِ ابْنِ الْمُبَارَكِ) يَعْنِي أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ صَنَّفَ كُتُبَهُ بِخُرَاسَانَ وَحَدَّثَ بِهَا هُنَاكَ وَحَمَلَهَا عَنْهُ أَهْلُهَا وَحَدَّثَ فِي أَسْفَارِهِ بِأَحَادِيثَ مِنْ حِفْظِهِ زَائِدَةٍ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِ هَذَا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (أَمْلَى عَلَيْهِمْ بِالْبَصْرَةِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَأَثْبَتَهُ الْكُشْمِيهَنِيُّ فَقَالَ: أَمْلَاهُ عَلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ فِي كُتُبِهِ الَّتِي حَدَّثَ بِهَا بِخُرَاسَانَ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَّثَ بِهِ بِخُرَاسَانَ، فَإِنَّ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيَّ مِمَّنْ حَمَلَ عَنْهُ بِخُرَاسَانَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُعَيْمٌ أَيْضًا إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ.

ص: 105

‌14 - بَاب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لِآخَرَ شَيْئًا جَازَ

2455 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْإِقْرَانِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.

[الحديث 2455 - أطرافه في: 2489، 2490، 5446]

2456 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ - وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ - فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا قَدْ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لِآخَرَ شَيْئًا جَازَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: نَصَبَ شَيْئًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا} وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: لابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقِرَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَقْرِنَ تَمْرَةً بِتَمْرَةٍ عِنْدَ الْأَكْلِ لِئَلَّا يُجْحِفَ بِرُفْقَتِهِ، فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوهُ، وَهَذَا يُقَوِّي مَذْهَبَ مَنْ يُصَحِّحُ فيه الْمَجْهُولِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ مَعَ بَيَانِ حَالِ قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُدْرَجٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْجَزَّارِ الَّذِي عَمِلَ الطَّعَامَ وَالرَّجُلِ الَّذِي تَبِعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَأْذَنُ لَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَطْعِمَةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ: اصْنَعْ لِي فِي حَالِ رُؤْيَتِهِ تِلْكَ، وَقَوْلُهُ: فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ افْتَعَلَ مِنْ تَبِعَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَخَبَطَ الدَّاوُدِيُّ هُنَا لِظَنِّهِ أَنَّهَا هَمْزَةُ قَطْعٍ فَقَالَ: مَعْنَى اتَّبَعَنَا سَارَ مَعَنَا، وَتَبِعَهُمْ أَيْ لَحِقَهُمْ، وَأَطَالَ ابْنُ التِّينِ فِي تَعَقُّبِ كَلَامِهِ.

‌15 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}

2457 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ.

[الحديث 2457 - طرفاه في: 4533، 7188]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الْأَلَدُّ الشَّدِيدُ اللَّدَدِ أَيِ الْجِدَالِ، مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّدِيدَيْنِ وَهُمَا صَفْحَتَا الْعُنُقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ أُخِذَ فِي الْخُصُومَةِ قَوِيَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ.

وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَسَيَأْتِي مُسْتَوْفًى فِي

ص: 106

تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌16 - بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ

2458 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا.

[الحديث 2458 - أطرافه في: 2680، 6967، 7169، 7181، 7185]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ وَفِيهِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌17 - بَاب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ

2459 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) أَيْ ذَمِّ مَنْ إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ أَوْ إِثْمِهِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِيهِ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

‌18 - بَاب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}

2460 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ.

2461 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ

ص: 107

عَامِرٍ قَالَ: "قُلْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنَا إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ"

[الحديث 2461 - طرفه في: 6137]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ)؛ أَيْ: هَلْ يَأْخُذُ مِنْهُ بِقَدْرِ الَّذِي لَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ؟ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ الظَّفَرِ، وَقَدْ جَنَحَ الْمُصَنِّفُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ أَثَرَ ابْنِ سِيرِينَ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّرْجِيحِ بِالْآثَارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ) هُوَ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصْلُهُ: يُقَاصِصُهُ (وَقَرَأَ)؛ أَيِ ابْنُ سِيرِينَ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} الْآيَةَ، وَهَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِنْ أَخَذَ أَحَدٌ مِنْكَ شَيْئًا فَخُذْ مِثْلَهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَفِيهِ: أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهَا بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهَا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ هِنْدَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ مَالِ مَنْ لَمْ يُوفِهِ أَوْ جَحَدَهُ قَدْرَ حَقِّهِ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (رَجُلٌ مِسِّيكٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالتَّشْدِيدِ لِلْأَكْثَرِ؛ قَالَهُ عِيَاضٌ، قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْفَتْحُ وَالتَّخْفِيفُ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ الْكَسْرُ وَالتَّشْدِيدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عَامِرٍ قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَنا، فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَزِيدُ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ ضِدُّ الشَّرِّ، وَاسْمُهُ مَرْثَدٌ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مِصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لَا يَقْرُونَنَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: لَا يَقْرُونَا؛ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَدَّدَهَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ: فَلَا هُمْ يُضَيِّفُونَنَا، وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَبَوْا

(1)

فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَخُذا مِنْهُ؛ أَيْ مِنْ مَالِهِمْ. وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قِرَى الضَّيْفِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الْمَنْزُولَ عَلَيْهِ لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الضِّيَافَةِ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا. وَقَالَ بِهِ اللَّيْثُ مُطْلَقًا، وَخَصَّهُ أَحْمَدُ بِأَهْلِ الْبَوَادِي دُونَ الْقُرَى، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الضِّيَافَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ؛ أَحَدُهَا حَمْلُهُ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ هَلْ يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ الْعِوَضُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ اللُّقَطَةِ. وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ طَلَبَ الشِّرَاءَ مُحْتَاجًا فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الطَّعَامِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ كَرْهًا قَالَ: وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا.

ثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتِ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةً، فَلَمَّا فُتِحَتِ الْفُتُوحُ نُسِخَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَقِّ الضَّيْفِ: وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالْجَائِزَةُ تَفَضُّلٌ لَا وَاجِبَةٌ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالتَّفَضُّلِ تَمَامُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَا أَصْلُ الضِّيَافَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ مَرْفُوعًا: أَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَظْفَرْ مِنْهُ بِشَيْءٍ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعُمَّالِ الْمَبْعُوثِينَ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ، فَكَانَ عَلَى الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ إِنْزَالُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِمُ الَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَامَ لَهُمْ

(1)

في النسخ المتداولة من صحيح البخاري "فإن لم يفعلوا" وعليها شرح القسطلاني

ص: 108

إِلَّا بِذَلِكَ. حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: وَكَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَيْتُ مَالٍ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَأَرْزَاقُ الْعُمَّالِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ: وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي الضِّيَافَةِ عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ خَاصَّةً. قَالَ: وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ بَعَثْتَنَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّا نَمُرُّ بِقَوْمٍ.

رَابِعُهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ شَرَطَ عُمَرُ حِينَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ ضِيَافَةَ مَنْ نَزَلَ بِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا حُجَّةَ لِذَلِكَ فِيمَا صَنَعَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَانِ سُؤَالِ عُقْبَةَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ.

خَامِسُهَا: تَأْوِيلُ الْمَأْخُوذِ، فَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ أَعْرَاضِهِمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَذْكُرُوا لِلنَّاسِ عَيْبَهُمْ. وَتَعَقَّبَهُ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الْعِرْضِ وَذِكْرَ الْعَيْبِ نُدِبَ فِي الشَّرْعِ إِلَى تَرْكِهِ لَا إِلَى فِعْلِهِ. وَأَقْوَى الْأَجْوِبَةِ الْأَوَّلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ، وَبِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَجَزَمَ بِجَوَازِ الْأَخْذِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ الْحَقِّ بِالْقَاضِي كَأَنْ يَكُونَ غَرِيمُهُ مُنْكِرًا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَخْذُهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ وَأَخْذُ غَيْرِهِ بِقَدْرِهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، وَيَجْتَهِدُ فِي التَّقْوِيمِ وَلَا يَحِيفُ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْحَقِّ بِالْقَاضِي فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْخِلَافُ، وَجَوَّزَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمِثْلِيِّ دُونَ الْمُتَقَوِّمِ لِمَا يُخْشَى فِيهِ مِنَ الْحَيْفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لِكَثْرَةِ الْغَوَائِلِ فِي ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ فِي الْأَمْوَالِ أَيْضًا مَا إِذَا أَمِنَ الْغَائِلَةَ كَنِسْبَتِهِ إِلَى السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

‌19 - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ

وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ

2462 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ. وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا. فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

[الحديث 2462 - أطرافه في: 3445، 3928، 4021، 6829، 6830، 7323]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ) جَمْعُ سَقِيفَةٍ؛ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُظَلَّلُ كَالسَّابَاطِ أَوِ الْحَانُوتِ بِجَانِبِ الدَّارِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَامَّةِ جَائِزٌ، وَأَنَّ اتِّخَاذَ صَاحِبِ الدَّارِ سَابَاطًا أَوْ مُسْتَظَلًّا جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ.

قَوْلُهُ: (وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَسْنَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَشْرِبَةِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ - يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ فِي السَّقِيفَةِ، انْتَهَى. وَالسَّبَبُ فِي غَفْلَتِهِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حَذَفَ الْحَدِيثَ الْمُعَلَّقَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ عُمَرَ الْمَوْصُولِ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُتَرْجِمْ بِجُلُوسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وإِنَّمَا تَرْجَمَ بِمَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُصَرِّحَ بِجُلُوسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا، ثُمَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ جَلَسُوا فِيهَا وَأَوْرَدَهُ مَوْصُولًا، فَكَأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَجَلَسَ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ لَا أَنَّهُ حَدِيثٌ مُعَلَّقٌ، وَسَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، وَكَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ، وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ فِيهَا عِنْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ)؛ أَيِ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ

ص: 109

ابْنِ شِهَابٍ، يَعْنِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَاهُ لِابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَكَانَ ابْنُ وَهْبٍ حَرِيصًا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ مُرَاعَاةً لِلِاصْطِلَاحِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اصْطَلَحَ عَلَى ذَلِكَ بِمِصْرَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ) هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ بِطُولِهِ وَنَسْتَوْفِي شَرْحَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْجُلُوسِ فِي السَّقِيفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْجُلُوسَ فِي السَّقِيفَةِ الْعَامَّةِ لَيْسَ ظُلْمًا.

‌20 - بَاب لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَة فِي جِدَارِهِ

2463 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ.

[الحديث 2463 - طرفاه في: 5627، 5628]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالتَّنْوِينِ عَلَى إِفْرَادِ الْخَشَبَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ اللَّفْظَانِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى قَدْ يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَمْرَ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ أَخَفُّ فِي مُسَامَحَةِ الْجَارِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْكَثِيرِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فَقَالَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَهُ بِالْجَمْعِ إِلَّا الطَّحَاوِيَّ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي الصَّحِيحِ يَرُدُّ عَلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، إِلَّا إِنْ أَرَادَ خَاصًّا مِنَ النَّاسِ كَالَّذِينِ رَوَى عَنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ فَلَهُ اتِّجَاهٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) كَذَا فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ مَالِكٍ: عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بَدَلَ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ مَالِكٍ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بَدَلَ الْأَعْرَجِ، وَوَافَقَهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ وَقَالَ: الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ الْأَوَّلُ. وَقَالَ فِي الْعِلَلِ: رَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَ الْأَعْرَجِ، وَكَذَا قَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَدَلَ الْأَعْرَجِ، وَالْمَحْفُوظُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَمْنَعْ) بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ لَا نَاهِيَةٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ. وَلِأَحْمَدَ: لَا يَمْنَعَنَّ؛ بِزِيَادَةِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْجَزْمِ.

قَوْلُهُ: (جَارٌ جَارَهُ. . . إِلَخْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجِدَارَ إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ وَلَهُ جَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَ جِذْعَهُ عَلَيْهِ جَازَ سَوَاءٌ أَذِنَ الْمَالِكُ أَمْ لَا، فَإِنِ امْتَنَعَ أُجْبِرَ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَعَنْهُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ أَشْهَرُهُمَا اشْتِرَاطُ إِذْنِ الْمَالِكِ فَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ مَالِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَجَزَمَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ بِالْقَوْلِ الْقَدِيمِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ نَجِدْ فِي السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذَا الْحُكْمَ إِلَّا عُمُومَاتٍ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ نَخُصَّهَا، وَقَدْ حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ

ص: 110

بِمَا حَدَّثَ بِهِ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ، وَلِأَحْمَدَ: فَلَمَّا حَدَّثَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ طَأْطَؤوا رُءُوسَهُمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْهَا)؛ أَيْ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ، أَوْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ.

قَوْلُهُ: (لَأَرْمِيَنَّهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: لَأُلْقِيَنَّهَا؛ أَيْ لَأُشِيعَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِيكُمْ، وَلَأُقَرِّعَنَّكُمْ بِهَا كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ لِيَسْتَيْقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِّينَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالنُّونِ. وَالْأَكْنَافُ بِالنُّونِ جَمْعُ كَنَفٍ بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْجَانِبُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَتَعْمَلُوا بِهِ رَاضِينَ لَأَجْعَلَنَّهَا - أَيِ الْخَشَبَةَ - عَلَى رِقَابِكُمْ كَارِهِينَ. قَالَ: وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمْ، وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ بِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا جَهِلَ الصَّحَابَةُ تَأْوِيلَهُ وَلَا أَعْرَضُوا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ حَدَّثَهُمْ بِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ لَمَا جَازَ عَلَيْهِمْ جَهْلُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْبَابِ، انْتَهَى.

وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمُعْرِضِينَ كَانُوا أصَحَابَه وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدًا لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُمُ الْحُكْمَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ فُقَهَاءَ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانُوا صَحَابَةً أَوْ فُقَهَاءَ مَا وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، فَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَدَعْوَى الِاتِّفَاقِ هُنَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْمُهَلَّبِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ عَصْرِ عُمَرَ كَانُوا صَحَابَةً، وَغَالِبَ أَحْكَامِهِ مُنْتَشِرَةٌ لِطُولِ وِلَايَتِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ نِيَابَةً عَنْ مَرْوَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَرَوَاهُ هُوَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَسُوقَ خَلِيجًا لَهُ فَيَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فامتنع، فَكَلَّمَهُ عُمَرُ فِي ذَلِكَ فَأَبَى، فَقَالَ: وَاللَّهُ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ. فَحَمَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدَّاهُ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْجَارُّ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ دَارِ جَارِهِ وَأَرْضِهِ.

وَفِي دَعْوَى الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِهِ نَظَرٌ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا إِنْ غَرَزَ أَحَدٌ فِي جِدَارِهِ خَشَبًا، فَأَقْبَلَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ. . . الْحَدِيثَ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَا أَخِي، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مَقْضِيٌّ لَكَ عَلَيَّ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَاجْعَلْ أُسْطُوَانًا دُونَ جِدَارِي فَاجْعَلْ عَلَيْهِ خَشَبَكَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَمَنَعَهُ، فَإِذَا مَنْ شِئْتُ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، فَجُبِرَ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْوُجُوبَ بِمَا إِذَا تَقَدَّمَ اسْتِئْذَانُ الْجَارِ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى ذِكْرِ الْإِذْنِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَعُقَيْلٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ: مَنْ سَأَلَهُ جَارُهُ، وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الضَّمِيرَ فِي جِدَارِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجِذْعِ؛ أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَضَعَ جِذْعَهُ عَلَى جِدَارِ نَفْسِهِ وَلَوْ تَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْعِ الضَّوْءِ مَثَلًا وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، وَقَدْ رَدَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لِهَذَا

ص: 111

الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ لَا أَنَّهُ الْمُرَادُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ الْجَارُ وَلَا يَضَعَ عَلَيْهِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ وَلَا يُقَدَّمَ عَلَى حَاجَةِ الْمَالِكِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْتَاجَ فِي وَضْعِ الْجِذْعِ إِلَى نَقْبِ الْجِدَارِ أَوْ لَا، لِأَنَّ رَأْسَ الْجِذْعِ يَسُدُّ الْمُنْفَتِحَ وَيُقَوِّي الْجِدَارَ.

‌21 - بَاب صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ

2464 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا. فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ.

[الحديث 2464 - أطرافه في: 4617، 4620، 5580، 5582، 5583، 5584، 5600، 5622، 7253]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ)؛ أَيِ الْمُشْتَرَكَةِ، إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ مَفْسَدَةٍ تَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْحَاصِلَةِ بِصَبِّهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ، وَشَيْخُهُ عَفَّانُ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ) سَيَأْتِي تَسْمِيَةُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ)؛ أَيْ طُرُقِهَا، وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: حُرِّمَتْ

(1)

، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِرَاقَتِهَا، فَأُرِيقَتْ فَجَرَتْ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا صُبَّتِ الْخَمْرُ فِي الطَّرِيقِ لِلْإِعْلَانِ بِرَفْضِهَا وَلِيُشْهَرَ تَرْكُهَا، وَذَلِكَ أَرْجَحُ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنَ التَّأَذِّي بِصَبِّهَا فِي الطَّرِيقِ.

‌22 - بَاب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ

فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ

2465 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ. فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ: فَإِذَا أَتيْتُمْ إلى الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا. قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.

[الحديث 2465 - طرفه في: 6229]

(1)

بهامش طبعة بولاق: قوله "وفي السياق حذف إلخ" لعله كتب على رواية أبي ذر، فالرواية التي هنا ليست كذلك

ص: 112

قَوْلُهُ: (بَابُ أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ) أَمَّا الْأَفْنِيَةُ فَهِيَ جَمْعُ فِنَاءٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ وَقَدْ تُقْصَرُ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ أَمَامَ الدُّورِ، وَالتَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِجَوَازِ تَحْجِيرِهِ بِالْبِنَاءِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاطِبِ فِي أَبْوَابِ الدُّورِ، وَالْجَوَازُ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الضَّرَرِ لِلْجَارِ وَالْمَارِّ، وَالصُّعُدَاتُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ صُعُدٍ بِضَمَّتَيْنِ أَيْضًا وَقَدْ يُفْتَحُ أَوَّلُهُ، وَهُوَ جَمْعُ صَعِيدٍ كَطَرِيقٍ وَطُرُقَاتٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ مِنَ الْفِنَاءِ. وَزَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّعُدَاتِ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَيَلْتَحِقُ بِمَا ذَكَرَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ وَفِي الشَّبَابِيكِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمَارِّ حَيْثُ تَكُونُ فِي غَيْرِ الْعُلُوِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا. . . الْحَدِيثَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْهِجْرَةِ بِطُولِهِ، وَمَضَى فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَتَرْجَمَ لَهُ: الْمَسْجِدُ يَكُونُ بِالطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ.

قَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّحْذِيرِ.

قَوْلُهُ: (والطُّرُقَاتِ) تُرْجِمَ بِالصُّعُدَاتِ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ: الطُّرُقَاتِ إِشَارَةٌ إِلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: الصُّعُدَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: الطُّرُقَاتِ، وَزَادَ فِي الْمَتْنِ: وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ. وَمِنْ حَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَزَادَ فِي الْمَتْنِ: وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ، وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ رِوَايَتِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَتَيْتُمْ إِلَى الْمَجَالِسِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِإِلَى الَّتِي لِلْغَايَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ بِالْمُوَحَّدَةِ. وَقَالَ: إلَّا بِالتَّشْدِيدِ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَإِلَّا الَّتِي هِيَ حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْمَجَالِسُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الْمَجَالِسِ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ لِئَلَّا يَضْعُفَ الْجَالِسُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَشَارَ بِغَضِّ الْبَصَرِ إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتْنَةِ بِمَنْ يَمُرُّ مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ، وَبِكَفِّ الْأَذَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْ الِاحْتِقَارِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا، وَبِرَدِّ السَّلَامِ إِلَى إِكْرَامِ الْمَارِّ، وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ مَا يُشْرَعُ وَتَرْكِ جَمِيعِ مَا لَا يُشْرَعُ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا عَلَى الْحَتْمِ لِأَنَّهُ نَهَى أَوَّلًا عَنِ الْجُلُوسِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، فَلَمَّا قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا بُدٌّ ذَكَرَ لَهُمُ الْمَقَاصِدَ الْأَصْلِيَّةَ لِلْمَنْعِ، فَعُرِفَ أَنَّ النَّهْيَ الْأَوَّلَ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْأَصْلَحِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِنَدْبِهِ أَوَّلًا إِلَى تَرْكِ الْجُلُوسِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ لِمَنْ عَمِلَ بِحَقِّ الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِطَلَبِ السَّلَامَةِ آكَدُ مِنَ الطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْخِصَالِ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌23 - باب الْآبَارِ التي عَلَى الطريقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا

2466 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَما رَجُلٌ بِطَرِيقٍ فاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.

ص: 113

قَوْلُهُ: (بَابُ الْآبَارِ) بِمَدَّةٍ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ مَدٍّ وَتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجَمْعِ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا) بِضَمِّ أَوَّلِ يُتَأَذَّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ؛ أَيْ إنَّ حَفْرَهَا جَائِزٌ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلُ بِهَا تَأَذٍّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي وَجَدَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ سَقَى الْكَلْبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا وَأَنْ يَكُونَ حَالًا. وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ؛ أَيْ فِي إِرْوَاءِ كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ.

‌24 - بَاب إِمَاطَةِ الْأَذَى

وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِمَاطَةِ الْأَذَى)؛ أَيْ إِزَالَتُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَمَّامٌ. . . إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ بِلَفْظِ: وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ شُعَبِ الْإِيمَانِ: أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِمَاطَةِ صَدَقَةً أَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى سَلَامَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْأَذَى، فَكَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَحَصَلَ لَهُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ صَدَقَةً عَلَى النَّفْسِ.

‌25 - بَاب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا

2467 -

حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.

2468 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَحَجَجْتُ مَعَه، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ ثم جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُمَا:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فَقَالَ: وَاعَجَبا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ - وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ. وَكُنَّا مَعْشَرَ

ص: 114

قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذ هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي.

فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ! فَأَفْزَعَتنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ. ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ. أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلِكِينَ؟ لَا تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا تَهْجُرِيهِ، وَسلِينِي مَا بَدَا لَكِ. وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكَ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ يُرِيدُ عَائِشَةَ. وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أثم هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ؛ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ! قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ. فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ! أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ؟ أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ ذَا فِي الْمَشْرُبَةِ.

فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ. فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ - فَذَكَرَ مِثْلَهُ - فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ - فَذَكَرَ مِثْلَهُ - فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا. ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ. . . فَذَكَرَهُ. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ يُرِيدُ عَائِشَةَ.

فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاث، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ،

ص: 115

فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا؛ مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ. فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا بتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - عَظِيمًا. قُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ! فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.

الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا، أَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا. وَقَدْ مَضَى فِي الْعِلْمِ مُخْتَصَرًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ هُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، ذَكَرَ الدِّمْيَاطِيُّ، عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا حَدَّثَ عَنْهُ إِلَّا الزُّهْرِيُّ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثًا فَمَا سَلِمَ لَهُ الشِّقُّ الثَّانِي.

2469 -

حَدَّثَني ابْنُ سَلَامٍ، أخبرنا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَانَتْ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ، فَجَلَسَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا. فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُرْفَةِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ؛ أَيِ الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ فِي الْبَيْتِ (وَالْعُلِّيَّةُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتُكْسَرُ، وَبِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ (الْمُشْرِفَةُ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ (وَغَيْرُ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرُهَا) وَيَجْتَمِعُ بِالتَّقْسِيمِ مِمَّا ذَكَرَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِشْرَافِ وَعَدَمِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهَا فِي السُّطُوحِ وَفِي غَيْرِهَا. وَحُكْمُ الْمُشْرِفَةِ الْجَوَازُ إِذَا أُمِنَ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمَنَازِلِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى سَدِّهِ بَلْ يُؤْمَرْ بِعَدَمِ الْإِشْرَافِ، وَلِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ. ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا. . . الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَهُ لِقَوْلِهِ: فَجَلَسَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ: فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا، وَفِيهِ: فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ الْحَدِيثَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَشْرُبَةِ الْغُرْفَةُ الْعَالِيَةُ، فَأَرَادَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهَا كَانَتْ عَالِيَةً، وَإِذَا جَازَ اتِّخَاذُ الْغُرْفَةِ الْعَالِيَةِ

ص: 116

جَازَ اتِّخَاذُ غَيْرِ الْعَالِيَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا الْمُشْرِفَةُ فَحُكْمُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ الْبَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَظُنُّ الْبُخَارِيُّ تَأَسَّى بِعُمَرَ حَيْثُ سَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَكْفِيهِ فِي جَوَابِ سُؤَالِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَكْتَفِيَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، كَمَا كَانَ يَكْفِي الْبُخَارِيُّ أَنْ يَكْتَفِيَ بِقَوْلِهِ مَثَلًا: وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا؛ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: وَاعَجَبًا بِالتَّنْوِينِ، وَأَصْلُهُ: وَا الَّتِي لِلنُّدْبَةِ، وَجَاءَ بَعْدَهُ عَجَبًا لِلتَّأْكِيدِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَاعَجَبِي. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ وَا فِي غَيْرِ النُّدْبَةِ وَهُوَ رَأْيُ الْمُبَرِّدِ، قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ تَعَجَّبَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا مَعَ اشْتِهَارِهِ عِنْدَهُ بِمَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، أَوْ عَجِبَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى تَحْصِيلِ التَّفْسِيرِ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ حَتَّى فِي تَسْمِيَةِ مَنْ أُبْهِمَ فِيهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي السُّؤَالِ عَنْ تَسْمِيَةِ مَنْ أُبْهِمَ أَوْ أُهْمِلَ.

وَقَوْلُهُ: كُنْتُ وَجَارٌ لِي بِالرَّفْعِ لِلْأَكْثَرِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: تُنْعِلُ النِّعَالَ؛ أَيْ تَضْرِبُهَا وَتُسَوِّيهَا، أَوْ هُوَ مُتعد إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَحَذَفَ أَحَدَهُمَا، وَالْأَصْلُ: تُنْعِلُ الدَّوَابَّ النِّعَالَ، وَرُوِيَ: الْبِغَالُ؛ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ: تُنْعِلُ الْخَيْلَ.

وَقَوْلُهُ: فَأَفْزَعَنِي؛ أَيِ الْقَوْلُ. وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَفْزَعْنَنِي بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ.

وَقَوْلُهُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَتْ مِنْهُنَّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: جَاءَتْ مَنْ فَعَلَتْ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ.

وَقَوْلُهُ: عَلَى رِمَالٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا. يُقَالُ: رَمَلَ الْحَصِيرَ إِذَا نَسَجَهُ، وَالْمُرَادُ ضُلُوعُهُ الْمُتَدَاخِلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخُيُوطِ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ الْحَصِيرِ فِرَاشٌ وَلَا غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَ الْحَصِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ)؛ أَيْ أَقُولُ قَوْلًا أَسْتَكْشِفُ بِهِ هَلْ يَنْبَسِطُ لِي أَمْ لَا، وَيَكُونُ أَوَّلُ كَلَامِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مَحْذُوفَ الْأَدَاةِ؛ أَيْ: أَأَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَيَكُونَ أَوَّلُ الْكَلَامِ الثَّانِي: لَوْ رَأَيْتَنِي، وَيَكُونَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفًا، وَاكْتَفَى فِيمَا أَرَادَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: أَهَبَةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَصْبَحْنَا بِتِسْعٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِتِسْعٍ.

‌26 - بَاب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلَاطِ أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ

2470 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلَاطِ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ. فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ، قَالَ: الجمل والثمن لَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلَاطِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ؛ وَهِيَ حِجَارَةٌ مَفْرُوشَةٌ كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ هُوَ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ.

وَأَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ جَمَلِهِ الَّذِي بَاعَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَغَرَضُهُ هُنَا قَوْلُهُ: فعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلَاطِ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ ضَرَرٌ.

‌27 - بَاب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ

2471 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.

ص: 117

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَجَازَ الْبَوْلُ فِي السُّبَاطَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لِإِلْقَاءِ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ.

‌28 - بَاب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ

2472 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَنْ أَخَّرَ بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظِ: غُصْنَ شَوْكٍ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: إنَّ شَجَرَةً كَانَتْ عَلَى طَرِيقِ النَّاسِ تُؤْذِيهِمْ، فَأَتَى رَجُلٌ فَعَزَلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْأَذَانِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: فَغَفَرَ لَهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَتَقَلَّبُ فِي ظِلِّهَا فِي الْجَنَّةِ. وَيُنْظَرُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ؛ وَهِيَ إِمَاطَةُ الْأَذَى. وَكَأَنَّ تِلْكَ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ لِعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِالطَّرِيقِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي فَضْلِ عُمُومِ الْمُزَالِ. وَفِيهِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ يَحْصُلُ بِهِ كَثِيرُ الْأَجْرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا تَرْجَمَ بِهِ لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ أَنَّ الرَّمْيَ بِالْغُصْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُؤْذِي تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ فَيَمْتَنِعَ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّدْبِ إِلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَنْتَفِعُ بِهِ. قَالَ: اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.

(تَنْبِيهٌ): أَبُو عَقِيلٍ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ - اسْمُهُ بَشِيرٌ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِالْمُعْجَمَةِ - ابْنُ عُقْبَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الشَّرِكَةِ قَرِيبًا زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَقِيلٍ أَيْضًا، وَهُوَ غَيْرُ هَذَا.

‌29 - بَاب إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ - وهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ -

ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ، فَتُرِكَ مِنْهَا للطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ

2473 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ الميتاء بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ.

قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ وَمَدٌّ بِوَزْنِ مِفْعَالٍ، مِنَ الْإِتْيَانِ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: الْمِيتَاءُ أَعْظَمُ الطُّرُقِ؛ وَهِيَ الَّتِي يَكْثُرُ مُرُورُ النَّاسِ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ، وَقِيلَ: الْعَامِرَةُ.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ. . . إِلَخْ) وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَقَدْ وَافَقَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: لَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعْنًى أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يُرَادُ ابْتِدَاؤُهَا إِذَا اخْتُلِفَ مَنْ يَبْتَدِئُهَا فِي قَدْرِهَا، كَبَلَدٍ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ فِيهَا طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ، وَكَمَوَاتٍ يُعْطِيهِ الْإِمَامُ لِمَنْ يُحْيِيهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا طَرِيقًا لِلْمَارَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مُرَادُ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ الطَّرِيقِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الَّتِي

ص: 118

تُزْرَعُ مَثَلًا إِذَا جَعَلَ أَصْحَابُهَا فِيهَا طَرِيقًا كَانَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ الَّتِي لَا تُسْلَكُ إِلَّا فِي النَّادِرِ يُرْجَعُ فِي أَفْنِيَتِهَا إِلَى مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْجِيرَانُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ، بَصْرِيٌّ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ وَآخَرَ فِي الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَفْرَادِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ رَاوِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ هَذَا، فَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّ شَاهِدَهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا تَشَاجَرُوا) تَفَاعَلُوا، مِنَ الْمُشَاجَرَةِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ؛ أَيْ تَنَازَعُوا. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ - وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ وَالْمُعْجَمَةِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَمِثْلُهُ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (فِي الطَّرِيقِ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ: الْمِيتَاءَ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ مُشِيرًا بِهَا إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ فَاجْعَلُوهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ فَذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَلِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: قَضَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ الَّتِي تُؤْتَى مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَذَكَرَهُ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ مَقَالٌ.

قَوْلُهُ: (بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْآدَمِيِّ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالْمُعْتَدِلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْبُنْيَانِ الْمُتَعَارَفِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يُجْعَلَ قَدْرُ الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكَةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرْضِ قَدْرُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَضُرُّ غَيْرَهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ لِتَسْلُكَهَا الْأَحْمَالُ وَالْأَثْقَالُ دُخُولًا وَخُرُوجًا وَيَسَعَ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَرْحِهِ عِنْدَ الْأَبْوَابِ. وَيَلْتَحِقُ بِأَهْلِ الْبُنْيَانِ مَنْ قَعَدَ لِلْبَيْعِ فِي حَافَّةِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ أَزْيَدَ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْقُعُودِ فِي الزَّائِدِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مُنِعَ لِئَلَّا يُضَيِّقَ الطَّرِيقَ عَلَى غَيْرِهِ.

‌30 - بَاب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ

وقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَنْتَهِبَ

2474 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ - وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ - قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ.

[الحديث 2474 - طرفه في: 5516]

2475 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَعَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . مِثْلَهُ، إِلَّا النُّهْبَةَ.

ص: 119

قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي جَعْفَرٍ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): تَفْسِيرُهُ أَنْ يُنْزَعَ مِنْهُ؛ يُرِيدُ الْإِيمَانَ.

[الحديث 2475 - أطرافه في: 5578، 6772، 6810]

قَوْلُهُ: (بَابُ النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ)؛ أَيْ صَاحِبِ الشَّيْءِ الْمَنْهُوبِ. وَالنُّهْبَى بِضَمِّ النُّونِ فُعْلَى مَنِ النَّهْبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَرْءِ مَا لَيْسَ لَهُ جِهَارًا، وَنَهْبُ مَالِ الْغَيْرِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَفْهُومُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ جَازَ، وَمَحَلُّهُ فِي الْمَنْهُوبِ الْمُشَاعِ كَالطَّعَامِ يُقَدَّمُ لِلْقَوْمِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا يَلِيهِ وَلَا يَجْذِبُ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ فَسَّرَهُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ النَّهْبَ فِي نِثَارِ الْعُرْسِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ لِلْحَاضِرِينَ فِي أَخْذِهِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَالنَّهْبُ يَقْتَضِي خِلَافَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ عَلَّقَ التَّمْلِيكَ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ لَا نَنْتَهِبَ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي وُفُودِ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْجَاهِلِيَّةِ انْتِهَابُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْغَارَاتِ، فَوَقَعَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ: ابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ (جَدُّهُ)؛ أَيْ جَدُّ عَدِيٍّ لِأُمِّهِ، وَاسْمُ أُمِّهِ فَاطِمَةُ، وَتُكَنَّى أُمَّ عَدِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْخَطْمِيُّ مَضَى ذِكْرُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَهُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ هَذَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ شُعْبَةَ لَيْسَ فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ عَلَى عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ النُّهْبَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: مَنِ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِثْلُهُ. وَحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ بِلَفْظِ: إِنَّ النُّهْبَةَ لَا تَحِلُّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْمِيمِ وَضَمُّ الْمُثَلَّثَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ترْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، وَمِنْهُ يُسْتَفَادُ التَّقْيِيدُ بِالْإِذْنِ فِي التَّرْجَمَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْبَصَرِ إِلَى الْمُنْتَهِبِ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ سَعِيدٍ) يَعْنِي ابْنَ الْمُسَيَّبِ (وَأَبِي سَلَمَةَ) يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ إِلَّا النُّهْبَةَ) يَعْنِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَانْفَرَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ النُّهْبَةِ فِيهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْحُدُودِ فَقَالَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ مِثْلُهُ إِلَّا النُّهْبَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الثَّلَاثَةِ بِتَمَامِهِ، وَكَأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَمَلَ رِوَايَةَ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالَّذِي فَصَّلَهَا أَحْفَظُ مِنْهُ فَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي جَعْفَرٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقُ الْبُخَارِيُّ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (تَفْسِيرُهُ)؛ أَيْ تَفْسِيرُ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ (أَنْ يُنْزَعَ مِنْهُ؛ يُرِيدُ

ص: 120

الْإِيمَانَ

(1)

) وَهَذَا التَّفْسِيرُ تَلَقَّاهُ الْبُخَارِيُّ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْحُدُودِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَمَنْ خَالَفَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌31 - بَاب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ

2476 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَنْزِلُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَابِ مَنْ قَتَلَ الْخِنْزِيرَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ. وَفِي إِيرَادِهِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ خِنْزِيرًا أَوْ كَسَرَ صَلِيبًا لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَأْمُورًا بِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّ عِيسَى عليه السلام سَيَفْعَلُهُ، وَهُوَ إِذَا نَزَلَ كَانَ مُقَرِّرًا لِشَرْعِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ كَسْرِ الصَّلِيبِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُحَارِبِينَ، أَوِ الذِّمِّيِّ إِذَا جَاوَزَ بِهِ الْحَدَّ الَّذِي عُوهِدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ وَكَسَرَهُ مُسْلِمٌ كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعْمِيمِ عِيسَى كَسْرَ كُلِّ صَلِيبٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ نَسْخًا لِشَرْعِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بَلِ النَّاسِخُ هُوَ شَرْعُنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا لِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ وَتَقْرِيرِهِ.

‌32 - بَاب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا خَمْرُ؟ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ؟

فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ، وأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ

2477 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فقَالَ: عَلَام تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ قَال: عَلَى الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ. قَالَ: اكْسِرُوهَا وَهرِيقُوهَا. قَالُوا: أَلَا نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: اغْسِلُوا.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الْحُمُرِ الْأَنْسِيَّةِ؛ بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ.

[الحديث 2477 - أطرافه في: 4196، 5497، 6148، 6331، 6891]

2478 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ"

[الحديث 2478 - أطرافه في: 4287، 4720]

(1)

كانت في طبعة بولاق "أن ينزع منه نور الإيمان" والتصحيح من متن صحيح البخاري

ص: 121

2479 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّهَا كَانَتْ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا"

[الحديث 2479 - أطرافه في: 5954، 5955، 6109]

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا خَمْرٌ أَوْ تُحرَقُ الزِّقَاقُ؟) لَمْ يُبَيِّنِ الْحُكْمَ، لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِيهِ التَّفْصِيلُ؛ فَإِنْ كَانَتِ الْأَوْعِيَةُ بِحَيْثُ يُرَاقُ مَا فِيهَا وَإِذَا غُسِلَتْ طَهُرَتْ وَانْتُفِعَ بِهَا لَمْ يَجُزْ إِتْلَافُهَا، وَإِلَّا جَازَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي. قَالَ: أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَكسِرِ الدِّنَانَ، وَأَشَارَ بِتَخْرِيقِ الزِّقَاقِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَفْرَةً وَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ وَبِهَا زِقَاقُ خَمْرٍ جُلِبَتْ مِنَ الشَّامِ، فَشَقَّ بِهَا مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ. فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ إِنْ ثَبَتَا فَإِنَّمَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الزِّقَاقِ عُقُوبَةً لِأَصْحَابِهَا، وَإِلَّا فَالِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ تَطْهِيرِهَا مُمْكِنٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَلَمَةَ أَوَّلَ أَحَادِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ)؛ أَيْ: هَلْ يَضْمَنُ أَمْ لَا؟ أَمَّا الصَّنَمُ وَالصَّلِيبُ فَمَعْرُوفَانِ؛ يُتَّخَذَانِ مِنْ خَشَبٍ وَمِنْ حَدِيدٍ وَمِنْ نُحَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الطُّنْبُورُ فَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ؛ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ تُفْتَحُ طَاؤُهُ. وَأَمَّا مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى أَوْ كَسَرَ شَيْئًا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِخَشَبِهِ قَبْلَ الْكَسْرِ كَآلَةِ الْمَلَاهِي؛ يَعْنِي فَيَكُونُ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى؛ أَيْ كَسَرَ مَا ذُكِرَ إِلَى حَدٍّ لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ كَسَرَ كَسْرًا لَا يُنْتَفَعُ به بَعْدَ الْكَسْرِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُ هَذَا الْأَخِيرِ وَبُعْدُ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ)؛ أَيْ لَمْ يُضَمِّنْ صَاحِبَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِلَفْظِ: إنَّ رَجُلًا كَسَرَ طُنْبُورًا لِرَجُلٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى شُرَيْحٍ فَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ؛ أَحَدُهَا: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي غَسْلِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ فِيهَا الْخَمْرُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ يُسَاعِدُ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ التَّفْصِيلِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَرَادَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِمْ فِي طَبْخِهِمْ مَا نُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى إِذْعَانَهُمُ اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِ الْأَوَانِي، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ دِنَانَ الْخَمْرِ لَا سَبِيلَ إِلَى تَطْهِيرِهَا لِمَا يُدَاخِلُهَا مِنَ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الَّذِي دَاخِلَ الْقُدُورِ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي طُبِخَتْ بِهِ الْخَمْرُ يُطَهِّرُهُ، وَقَدْ أَذِنَ صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِهَا فَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ)؛ يَعْنِي شَيْخَهُ إِسْمَاعِيلَ.

قَوْلُهُ: (الْأَنَسِيَّةُ بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ)؛ يَعْنِي أَنَّهَا نُسِبَتْ إِلَى الْأَنَسِ بِالْفَتْحِ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، تَقُولُ: أَنَسْتُهُ أَنَسَةً وَأَنْسًا بِإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِهَا، وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ نِسْبَةً إِلَى الْإِنْسِ؛ أَيْ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّهَا تَأْلَفُهُمْ، وَهِيَ ضِدُّ الْوَحْشِيَّةِ.

(تَنْبِيهٌ): ثَبَتَ هَذَا التَّفْسِيرُ لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَتَعْبِيرُهُ عَنِ الْهَمْزَةِ بِالْأَلِفِ وَعَنِ الْفَتْحِ بِالنَّصْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنْ كَانَ الِاصْطِلَاحُ أَخِيرًا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى خِلَافِهِ فَلَا يُبَادَرُ إِلَى إِنْكَارِهِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي طَعْنِ الْأَصْنَامِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (يَطْعَنُهَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِضَمِّهَا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ جَوَازُ كَسْرِ آلَاتِ الْبَاطِلِ وَمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي الْمَعْصِيَةِ حَتَّى

ص: 122

تَزُولَ هَيْئَتُهَا وَيُنْتَفَعَ بِرُضَاضِهَا.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَتْكِ السِّتْرِ الَّذِي فِيهِ التَّمَاثِيلُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي اللِّبَاسِ، وَنَذْكُرُ فِيهِ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهَا هُنَا: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَوْلِهَا فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لِتَوَسُّدِهَا. قَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَالسَّهْوَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ صُفَّةٌ، وَقِيلَ: خِزَانَةٌ وَقِيلَ: رَفٌّ، وَقِيلَ: طَاقٌ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهَا فَهَتَكَهُ؛ أَيْ شَقَّهُ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ نَزَعَهُ، ثُمَّ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ قَطَعَتْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌33 - بَاب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ

2480 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ - هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ - قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ)؛ أَيْ: مَا حُكْمُهُ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: دُونَ فِي أَصْلِهَا ظَرْفُ مَكَانٍ بِمَعْنَى تَحْتٍ، وَتُسْتَعْمَلُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى الْمَجَازِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنْ مَالِهِ غَالِبًا إِنَّمَا يَجْعَلُهُ خَلْفَهُ أَوْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الْمُقْرِئُ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَسَدِيُّ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا هَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ: أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَهُ، وَلَيْسَ لِعِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِ - فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَأَنَّهُ كَتَبَهُ مِنْ حِفْظِهِ أَوْ حَدَّثَ بِهِ الْمُقْرِئُ مِنْ حِفْظِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْمُقْرِئِ بِلَفْظِ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ مَظْلُومًا فَلَهُ الْجَنَّةُ، قَالَ: وَمَنْ أَتَى بِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي اعْتِيدَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْحِفْظِ، وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِمْ مِثْلُ دُحَيْمٍ، وَكَذَلِكَ مَا زَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِ: مَظْلُومًا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ. وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ دُحَيْمٍ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَلَّامٍ، قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْمُقْرِئِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِهَذَا اللَّفْظِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.

نَعَمْ؛ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِي رِوَايَتِهِ قِصَّةٌ قَالَ: لَمَّا كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَا كَانَ - يُشِيرُ لِلْقِتَالِ - فَرَكِبَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَوَعَظَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَمَا عَلِمْتَ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ إِلَى مَا بَيَّنَهُ حَيْوَةُ فِي رِوَايَتِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ أَوَّلَهَا: إنَّ عَامِلًا لِمُعَاوِيَةَ أَجْرَى عَيْنًا مِنْ مَاءٍ لِيَسْقِيَ بِهَا أَرْضًا، فَدَنَا مِنْ حَائِطٍ لِآلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ لِيُجْرِيَ الْعَيْنَ مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَمَوَالِيهِ بِالسِّلَاحِ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَخْرِقُونَ حَائِطَنَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَالْعَامِلُ الْمَذْكُورُ هُوَ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ عَامِلًا لِأَخِيهِ عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَالْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ كَانَتْ بِالطَّائِفِ، وَامْتِنَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ عَارَضَ بِهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ جِذْعَهُ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ:

ص: 123

مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ.

وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ لِتَعْبِيرِهِ بِلَفْظِ: قَاتَلَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ نَحْوَهُ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَهْلِ وَالدَّمِ وَالدِّينِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ ظُلْمًا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ مَنْ قَصَدَ أَخْذَ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَشَذَّ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ إِذَا طَلَبَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُ الْخِلَافِ عِنْدَنَا هَلِ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؟ أَوْ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ؟ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ الِاخْتِيَارُ أَنْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يَسْتَغِيثَ، فَإِنْ مُنِعَ أَوِ امْتَنَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِتَالُهُ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عَمْدُ قَتْلِهِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْفَعَ عَمَّا ذُكِرَ إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كالْمُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ السُّلْطَانِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ. وَفَرَّقَ الْأَوْزَاعِيُّ بَيْنَ الْحَالِ الَّتِي لِلنَّاسِ فِيهَا جَمَاعَةٌ وَإِمَامٌ فَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا فِي حَالِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ فَلْيَسْتَسْلِمْ وَلَا يُقَاتِلْ أَحَدًا. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: فَاقْتُلْهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: فَهُوَ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ شَهِيدًا إِذَا قُتِلَ فِي ذَلِكَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ إِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلَ.

‌34 - بَاب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ

2481 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا. وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2481 - طرفه في: 5225]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ)؛ أَيْ: هَلْ يَضْمَنُ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ؟

قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا. . . الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ وَقَالَ: أَظُنُّهَا عَائِشَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أُبْهِمَتْ عَائِشَةُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا، وَأنَّهُ مِمَّا لَا يَخْفَى وَلَا يَلْتَبِسُ أَنَّهَا هِيَ، لِأَنَّ الْهَدَايَا إِنَّمَا كَانَتْ تُهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْخَادِمِ، وَأَمَّا الْمُرْسِلَةُ فَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ

ص: 124

حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَيَوْمِهَا جَفْنَةً مَنْ حَيْسٍ. . . الْحَدِيثَ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ مَعْرِفَةَ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ. وَوَقَعَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ؛ فَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ. . . الْحَدِيثَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثَابِتٍ، فَقِيلَ: عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ، وَرَجَّحَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْهُ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ: إِنَّ غَيْرَهَا خَطَأٌ، فَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ إِذْ أُتِيَ بِصَحْفَةِ خُبْزٍ وَلَحْمٍ مِنْ بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا وَعَائِشَةُ تَصْنَعُ طَعَامًا عَجِلَةً، فَلَمَّا فَرَغْنَا جَاءَتْ بِهِ وَرَفَعَتْ صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ فَكَسَرَتْهَا، الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُونَ طَعَامًا، فَسَبَقَتْهَا - قَالَ عِمْرَانُ: أَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهَا حَفْصَةُ - بِصَحْفَةٍ فِيهَا ثَرِيدٌ فَوَضَعَتْهَا، فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ - فَضَرَبَتْ بِهَا فَانْكَسَرَتِ. . . الْحَدِيثَ. وَلَمْ يُصِبْ عِمْرَانُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهَا حَفْصَةُ؛ بَلْ هِيَ أُمُّ سَلَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ وَقَعَتِ الْقِصَّةُ لِحَفْصَةَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُوَاءَةَ غَيْرِ مُسَمًّى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ، فَصَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَتْ لَهُ حَفْصَةُ طَعَامًا فَسَبَقَتْنِي، فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: انْطَلِقِي فَأَكْفِئِي قَصْعَتَهَا. فَأَكْفَأَتْهَا فَانْكَسَرَتْ وَانْتَشَرَ الطَّعَامُ، فَجَمَعَهُ عَلَى النِّطَعِ فَأَكَلُوا، ثُمَّ بَعَثَ بِقَصْعَتِي إِلَى حَفْصَةَ فَقَالَ: خُذُوا ظَرْفًا مَكَانَ ظَرْفِكُمْ. وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى بِلَا رَيْبٍ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الَّتِي كَسَرَتِ الصَّحْفَةَ، وَفِي الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ عَائِشَةَ نَفْسَهَا هِيَ الَّتِي كَسَرَتْهَا.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَسْرَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ، أَهَدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَتُهُ؟ قَالَ: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْهَا: فَلَمَّا رَأَيْتُ الْجَارِيَةَ أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ. فَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى أَيْضًا، وَتَحَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ أُبْهِمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هِيَ زَيْنَبُ لِمَجِيءِ الْحَدِيثِ مِنْ مُخَرِّجِهِ وَهُوَ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَقَصَصٌ أُخْرَى لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُحَقِّقُ أَنْ يَقُولَ فِي مِثْلِ هَذَا: قِيلَ: الْمُرْسِلَةُ فُلَانَةٌ، وَقِيلَ: فُلَانَةٌ. . . إِلَخْ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (بِقَصْعَةٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ: إِنَاءٌ مِنْ خَشَبٍ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: بِصَحْفَةٍ؛ وَهِيَ قَصْعَةٌ مَبْسُوطَةٌ، وَتَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْخَشَبِ.

قَوْلُهُ: (فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ) زَادَ أَحْمَدُ: نِصْفَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَجَاءَتْ عَائِشَةُ وَمَعَهَا فِهْرٌ فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ: فَضَرَبَتِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ. وَالْفَلْقُ بِالسُّكُونِ الشَّقُّ، وَدَلَّتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَلَى أَنَّهَا انْشَقَّتْ ثُمَّ انْفَصَلَتْ.

قَوْلُهُ: (فَضَمَّهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ: فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ. وَلِأَحْمَدَ: فَأَخَذَ الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: كُلُوا، فَأَكَلُوا.

قَوْلُهُ: (وَحَبَسَ الرَّسُولُ) زَادَ ابْنُ عُلَيَّةَ: حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا.

قَوْلُهُ: (فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةِ) زَادَ ابْنُ عُلَيَّةَ: إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. زَادَ الثَّوْرِيُّ: وَقَالَ: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ فِيمَنِ اسْتَهْلَكَ عُرُوضًا أَوْ حَيَوَانًا، فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا اسْتَهْلَكَ. قَالُوا: وَلَا يُقْضَى بِالْقِيمَةِ إِلَّا عِنْدَ

ص: 125

عَدَمِ الْمِثْلِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى الْقِيمَةِ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ كَالْأَوَّلِ، وَعَنْهُ مَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ فَالْمِثْلُ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَالْقِيمَةُ. وَعَنْهُ مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَالْقِيمَةُ وَإِلَّا فَالْمِثْلُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ. وَمَا أَطْلَقَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ فِي الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ وَأَمَّا الْقَصْعَةُ فَهِيَ مِنَ الْمُتَقَوَّمَاتِ لِاخْتِلَافِ أَجْزَائِهَا. وَالْجَوَابُ مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ كَانَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتَيْ زَوْجَتَيْهِ فَعَاقَبَ الْكَاسِرَةَ بِجَعْلِ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ فِي بَيْتِهَا وَجَعْلِ الصَّحِيحَةِ فِي بَيْتِ صَاحِبَتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَضْمِينٌ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْقَصْعَتَانِ لَهُمَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ سَدَادًا بَيْنَهُمَا فَرَضِيَتَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَتِ الْعُقُوبَةُ فِيهِ بِالْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَعَاقَبَ الْكَاسِرَةَ بِإِعْطَاءِ قَصْعَتِهَا لِلْأُخْرَى.

قُلْتُ: وَيَبْعُدُ هَذَا التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الْأَوَّلُ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: فَصَارَتْ قَضِيَّةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمًا عَامًّا لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَيَبْقَى دَعْوَى مَنِ اعْتَذَرَ عَنِ الْقَوْلِ بِهِ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، لَكِنَّ مَحَلُّ ذَلِكَ مَا إِذَا أَفْسَدَ الْمَكْسُورَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكَسْرُ خَفِيفًا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ فَعَلَى الْجَانِي أَرْشُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الطَّعَامِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَعُونَةِ وَالْإِصْلَاحِ دُونَ بَتِّ الْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْمِثْلِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مَعْلُومٌ، وَفِي طُرُقِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الطَّعَامَيْنِ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاحْتَجَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ إِذَا تَغَيَّرَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعِظَمُ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْمُرْسِلَةُ بِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِيذَانًا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ عَائِشَةَ وَإِشَارَةً إِلَى غَيْرَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ أَهْدَتْ إِلَى بَيْتِ ضَرَّتِهَا. وَقَوْلُهُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ اعْتِذَارٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يُحْمَلَ صَنِيعُهَا عَلَى مَا يُذَمُّ، بَلْ يَجْرِي عَلَى عَادَةِ الضَّرَائِرِ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهَا. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي الْحَدِيثِ حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْصَافُهُ وَحِلْمُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَدِّبِ الْكَاسِرَةَ وَلَوْ بِالْكَلَامِ لِمَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ التَّعَدِّي لِمَا فَهِمَ مِنْ أَنَّ الَّتِي أَهْدَتْ أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَذَى الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا وَالْمُظَاهَرَةَ عَلَيْهَا، فَاقْتَصَرَ عَلَى تَغْرِيمِهَا لِلْقَصْعَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُغَرِّمْهَا الطَّعَامَ لِأَنَّهُ كَانَ مُهْدًى، فَإِتْلَافُهُمْ لَهُ قَبُولٌ أَوْ فِي حُكْمِ الْقَبُولِ، وَغَفَلَ رحمه الله عَمَّا وَرَدَ فِي الطُّرُقِ الْأُخْرَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هُوَ سَعِيدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ بَيَانَ التَّصْرِيحِ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ، لِحُمَيْدٍ، وَقَدْ وَقَعَ تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا مِنْ عِنْدِ ابْنِ حَزْمٍ.

‌35 - بَاب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ

2482 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ - يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا. فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى. فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،

ص: 126

فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، وأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي. قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ)؛ أَيْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَوْرَدَ فيه الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ. وَتَوْجِيهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَأْتِ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ، لَكِنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ جُرَيْجٍ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ ; لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ مَا لَا يَلْزَمُهُمُ اتِّفَاقًا وَهُوَ بِنَاؤُهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَا أَجَابَهُمْ جُرَيْجٌ إِلَّا بِقَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا. قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْهَادِمَ لَوِ الْتَزَمَ الْإِعَادَةَ وَرَضِيَ صَاحِبُهُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِمَا وَجَبَ نَاجِزًا - وَهُوَ الْقِيمَةُ - إِلى مَا يَتَأَخَّرُ - وَهُوَ الْبُنْيَانُ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِي قَوْلِهِ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ شَاهِدٌ عَلَى حَذْفِ الْمَجْزُومِ بِلَا؛ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: لَا تَبْنُوهَا إِلَّا مِنْ طِينٍ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمَظَالِمِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا؛ الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: انْصُرْ أَخَاكَ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ فِي النَّهْيِ عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ سَبْعَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 127

بسم الله الرحمن الرحيم

‌47 - كِتَاب الشَّرِكَة

‌1 - باب الشرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ

وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً، لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ.

2483 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَاه كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ: وَمَا يغْنِي تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا.

[الحديث 2483 - أطرافه في: 2983، 4360، 4361، 4362، 5493، 5494]

2484 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: "خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطَعِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ"

[الحديث 2484 - طرفه في: 2982]

2485 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَنَنْحَرُ جَزُورًا فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ"

2486 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ

ص: 128

وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"

قَوْلُهُ: (كِتَابُ الشَّرِكَةِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَلِلْأَكْثَرِ: بَابُ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: فِي الشَّرِكَةِ، وَقَدَّمُوا الْبَسْمَلَةَ وَأَخَّرَهَا.

وَالشَّرِكَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُحْذَفُ الْهَاءُ، وَقَدْ يُفْتَحُ أَوَّلُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ فَتِلْكَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ. وَهِيَ شَرْعًا: مَا يَحْدُثُ بِالِاخْتِيَارِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ الِاخْتِلَاطِ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، وَقَدْ تَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَالْإِرْثِ.

قَوْلُهُ: (الشَّرِكَةُ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ) أَمَّا الطَّعَامُ فَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَأَمَّا النَّهْدُ فَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحِهَا إِخْرَاجُ الْقَوْمِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَى قَدْرِ عَدَدِ الرُّفْقَةِ، يُقَالُ: تَنَاهَدُوا وَنَاهَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: عَلَى قَدْرِ نَفَقَةِ صَاحِبِهِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ فَارِسٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: النَّهْدُ الْعَوْنُ. وَطَرَحَ نَهْدَهُ مَعَ الْقَوْمِ أَعَانَهُمْ وَخَارَجَهُمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَقِيلَ. . . فَذَكَرَ قَوْلَ الْأَزْهَرِيِّ. وَقَالَ عِيَاضٌ مِثْلَ قَوْلِ الْأَزْهَرِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالسَّفَرِ وَالْخَلْطِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْعَدَدِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ النَّفَقَةُ بِالسَّوِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهُ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ تَتَّفِقُ رُفْقَةٌ فَيَضَعُونَهُ فِي الْحَضَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ فِعْلِ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالتَّسْوِيَةِ إِلَّا فِي الْقِسْمَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَكْلِ فَلَا تَسْوِيَةَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْآكِلِينَ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَشْهَدُ لِكُلِّ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ مَا تُخْرِجُهُ الرُّفْقَةُ عِنْدَ الْمُنَاهَدَةِ إِلَى الْغَزْوِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتَسِمُوا نَفَقَتَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ، فَزَادَهُ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ سَفَرُ الْغَزْوِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ خَلَطَ الزَّادَ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ حَيْثُ قَالَ: يَأْكُلُ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: هُوَ طَعَامُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ أَصْلُهُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التَّارِيخِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ النَّهْدَ حُضَيْنٌ - بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ - الرَّقَاشِيُّ. قلت: وَهُوَ بَعِيدٌ لِثُبُوتِهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحُضَيْنٌ لَا صُحْبَةَ لَهُ، فَإِنْ ثَبَتَتِ احْتَمَلَتْ أَوَّلِيَّتُهُ فِيهِ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ أَوْ فِي فِئَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْعُرُوضُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ عَرْضٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ مُقَابِلُ النَّقْدِ، وَأَمَّا بِفَتْحِهَا فَجَمِيعُ أَصْنَافِ الْمَالِ، وَمَا عَدَا النَّقْدَ يَدْخُلُ فِيهِ الطَّعَامُ فَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّبَوِيَّاتُ، وَلَكِنَّهُ اغْتُفِرَ فِي النَّهْدِ لِثُبُوتِ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ)؛ أَيْ: هَلْ يَجُوزُ قِسْمَتُهُ مُجَازَفَةً؟ أَوْ لَا بُدَّ مِنَ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ؟ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً؛ أَيْ مُتَسَاوِيَةً.

قَوْلُهُ: (لِمَا لَمْ تَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالنَّهْدِ بَأْسًا) هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَ فِي الْغَرِيبِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَخْرِجُوا نَهْدَكُمْ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ وَأَحْسَنُ لِأَخْلَاقِكُمْ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) كَأَنَّهُ أَلْحَقَ النَّقْدَ بِالْعَرْضِ لِلْجَامِعِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، لَكِنْ إِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الذَّهَبِ مَعَ الْفِضَّةِ، أَمَّا قِسْمَةُ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً - حَيْثُ يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ - فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: شَرَطَ مَالِكٌ فِي مَنْعِهِ أَنْ يَكُونَ مَصْكُوكًا وَالتَّعَامُلَ فِيهِ بِالْعَدَدِ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا عَدَاهُ جُزَافًا، وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ مَنْعُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ جَوَازُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَطَاءِ لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْآخِذِينَ قَبْلَ التَّمْيِيزِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وقَوْلُهُ: (وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي فِي الْمَظَالِمِ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا بَعْدَ بَابَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ

ص: 129

أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ؛

أَحَدُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي بَعْثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى جِهَةِ السَّاحِلِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ الْحَدِيثُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَا الَّذِي بَعْدَهُ ذِكْرُ الْمُجَازَفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا الْمُبَايَعَةَ وَلَا الْبَدَلَ، وَإِنَّمَا يَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَوْ أَخَذَ الْإِمَامُ مِنْ أَحَدِهِمْ لِلْآخَرِ. وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ حُقُوقَهُمْ تَسَاوَتْ فِيهِ بَعْدَ جَمْعِهِ، لَكِنَّهُمْ تَنَاوَلُوهُ مُجَازَفَةً كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي إِرَادَةِ نَحْرِ إِبِلِهِمْ فِي الْغَزْوِ، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ جَمْعُ أَزْوَادِهِمْ وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ كَوْنِ أَخْذِهِمْ مِنْهَا كَانَ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ: أَزْوَادٌ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: أَزْوِدَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَأَمْلَقُوا؛ أَيِ افْتَقَرُوا.

قَوْلُهُ: (وَبَرَّكَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ؛ أَيْ دَعَا بِالْبَرَكَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاحْتَثَى بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مُثَلَّثَةٌ افْتَعَلَ، مِنَ الْحَثْيِ؛ وَهُوَ الْأَخْذُ بِالْكَفَّيْنِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي تَعْجِيلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ رَافِعٍ تَعْجِيلَ الْمَغْرِبِ، وَفِي هَذَا تَعْجِيلَ الْعَصْرِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَنَنْحَرُ جَزُورًا فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي حَدِيثِ رَافِعٍ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ، وَجَمْعُ الْحُظُوظِ فِي الْقَسْمِ، وَنَحْرُ إِبِلِ الْمَغْنَمِ، وَالْحُجَّةُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: نَضِيجًا بِالْمُعْجَمَةِ وَبِالْجِيمِ؛ أَيِ اسْتَوَى طَبْخُهُ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُرَيْدٍ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرًا.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَرْمَلُوا)؛ أَيْ فَنِيَ زَادُهُمْ. وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنَ الْقِلَّةِ، كَمَا قِيلَ فِي:{ذَا مَتْرَبَةٍ}

قَوْلُهُ: (فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)؛ أَيْ: هُمْ مُتَّصِلُونَ بِي. وَتُسَمَّى مِنْ هَذِهِ الِاتِّصَالِيَّةَ، كَقَوْلِهِ: لَسْتُ مِنْ دَدٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَعَلُوا فِعْلِي فِي هَذِهِ الْمُوَاسَاةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّحَادِ طَرِيقِهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْأَشْعَرِيِّينَ قَبِيلَةُ أَبِي مُوسَى، وَتَحْدِيثُ الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ، وَجَوَازُ هِبَةِ الْمَجْهُولِ، وَفَضِيلَةُ الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَاسْتِحْبَابُ خَلْطِ الزَّادِ فِي السَّفَرِ وَفِي الْإِقَامَةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ

2487 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي، ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي الزَّكَاةِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ، وَقَيَّدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالصَّدَقَةِ لِوُرُودِهِ فِيهَا، لِأَنَّ التَّرَاجُعَ لَا يَصِحُّ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الرِّقَابِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِقْهُ الْبَابِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا خُلِطَ رَأْسُ مَالِهِمَا فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَنْفَقَ صَاحِبُهُ تَرَاجَعَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ بِالتَّرَاجُعِ بَيْنَهُمَا وَهُمَا شَرِيكَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرِيكَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ التَّرَاجُعَ الْوَاقِعَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ لَيْسَ مِنْ بَابِ قِسْمَةِ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا أَصْلُهُ غُرْمٌ مُسْتَهْلَكٌ، لِأَنَّا نُقَدِّرُ أَنَّ مَنْ لَمْ

ص: 130

يُعْطِ اسْتَهْلَكَ مَالَ مَنْ أَعْطَى إِذَا أَعْطَى عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُقَدَّرُ مُسْتَلِفًا مِنْ صَاحِبِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَامَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَاجِبٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقِيَامِ عَنْهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ، وَهُوَ هُنَا مُحْتَمَلٌ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ.

‌3 - بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ

2488 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا. قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. فَقَالَ جَدِّي: إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ.

[الحديث 2488 - أطرافه في: 2507، 3075، 5498، 5503، 5506، 5509، 5543، 5544]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَمِ)؛ أَيْ بِالْعَدَدِ.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌4 - بَاب الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ

2489 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ.

2490 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: لَا تَقْرُنُوا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ القران، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَلَعَلَّ حَتَّى كَانَتْ حِينَ فَتَحَرَّفَتْ، أَوْ سَقَطَ مِنَ التَّرْجَمَةِ شَيْءٌ إِمَّا لَفْظُ النَّهْيِ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ حَتَّى.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ

ص: 131

عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْأَكْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الَّذِي يُوضَعُ لِلْأَكْلِ سَبِيلُهُ سَبِيلُ الْمُكَارَمَةِ لَا التَّشَاحِّ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَكْلِ، لَكِنْ إِذَا اسْتَأْثَرَ بَعْضُهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ.

‌5 - بَاب تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ

2491 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ - أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا - وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ.

قَالَ: لَا أَدْرِي قَوْلُهُ: عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ، أَوْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2491 - أطرافه في: 2503، 2521، 2522، 2523، 2524، 2525]

2492 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"

[الحديث 2492 - أطرافه في: 2504، 2526، 2527]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعُرُوضِ وَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ بَعْدَ التَّقْوِيمِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قِسْمَتِهَا بِغَيْرِ تَقْوِيمٍ: فَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاضِي، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فَهُوَ نَصٌّ فِي الرَّقِيقِ وَأَلْحَقَ الْبَاقِيَ بِهِ.

وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌6 - بَاب هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ؟ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ

2493 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا.

[الحديث 2493 - طرفه في: 2686]

ص: 132

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ؟ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ) الِاسْتِهَامُ الِاقْتِرَاعُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بَيَانُ الْأَنْصِبَةِ فِي الْقَسْمِ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْقَسْمِ بِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ فَذَكَرَهُ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ

2494 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها. . . وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} - إِلَى - {وَرُبَاعَ} فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} يَعْنِي هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.

[الحديث 2494 - أطرافه في: 2763، 4573، 4574، 4600، 5064، 5092، 5098، 5128، 5131، 5140، 6965]

قَوْلُهُ: (بَابُ شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُشَارَكَةُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِلَّا إنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

والْأُوَيْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ ; وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ. وَقَوْلُهُ: وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ مَقْرُونًا بِطَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ:(رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ يَتِيمَتَهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَنْ يَتِيمَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَصْوَبُ.

‌8 - بَاب الشَّرِكَةِ فِي الْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَ

2495 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

ص: 133

عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ: الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ، وَأَرَادَ هُنَا الْإِشَارَةَ إِلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَإِلَى جَوَازِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ صَغُرَتِ الدَّارُ أَوْ كَبُرَتْ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لَوْ قُسِمَتْ فَتَمْتَنِعُ قِسْمَتُهَا. وَهِشَامٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.

‌9 - بَاب إِذَا قسم الشُّرَكَاءُ الدُّورَ أو غَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلَا شُفْعَةٌ

2496 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلَا شُفْعَةٌ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا نَفْيُ الشُّفْعَةِ، لَكِنْ لِكَوْنِهِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهَا نَفْيُ الرُّجُوعِ - إِذْ لَوْ كَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ لَعَادَتْ مُشَاعَةً - فَعَادَتِ الشُّفْعَةُ.

‌10 - بَاب الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ

2497، 2498 - حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ - قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنْ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فردوه.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِثْلَ مَا أَخْرَجَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ يَخْلِطَا ذَلِكَ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ، ثُمَّ يَتَصَرَّفَا جَمِيعًا، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ مَقَامَ نَفْسِهِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ. لَكِنِ اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَتِ الدَّنَانِيرُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالدَّرَاهِمُ مِنَ الْآخَرِ؛ فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَّا الثَّوْرِيَّ اهـ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ الصِّفَةُ أَيْضًا كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ، وَإِطْلَاقُ الْبُخَارِيِّ التَّرْجَمَةَ يُشْعِرُ بِجُنُوحِهِ إِلَى قَوْلِ الثَّوْرِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفِ؛ أَيْ كَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ وَالتِّبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَصِحُّ فِي كُلِّ مِثْلِيٍّ،

ص: 134

وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوبِ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي الصَّرْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ وَفِي بَابِ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً، وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ النَّبِيلُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى هُنَا وَفِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ بِلَفْظِ: كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ.

قَوْلُهُ: (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: فَذَرُوهُ بِتَقْدِيمِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ؛ أَيِ اتْرُكُوهُ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: رُدُّوهُ بِدُونِ الْفَاءِ، وَحَذْفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا وَإِثْبَاتُهَا جَائِزٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَفْرِيقِ للصَّفْقَةِ فَيَصِحُّ الصَّحِيحُ مِنْهَا وَيَبْطُلُ مَا لَا يَصِحُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ فِي السُّوقِ نَسِيئَةً إِلَى الْمَوْسِمِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلَا يَصْلُحُ. فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ؛ أَيْ مَا وَقَعَ لَكُمْ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ صَحِيحٌ فَأَمْضُوهُ، وَمَا لَمْ يَقَعْ لَكُمْ فِيهِ التَّقَابُضُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَاتْرُكُوهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ

2499 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ) الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُشْرِكِينَ عَاطِفَةٌ وَلَيْسَ بِمَعْنَى مَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: مُشَارَكَةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَمُشَارَكَةُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي إِعْطَاءِ الْيَهُودِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مُخْتَصَرًا، وقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الذِّمِّيِّ وَأَلْحَقَ الْمُشْرِكَ بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَأْمَنَ صَارَ فِي مَعْنَى الذِّمِّيِّ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَ فِي الْجَوَازِ كَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَهُ إِذَا كَانَ يَتَصَرَّفُ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِ، وَحُجَّتُهُمْ خَشْيَةُ أَنْ يَدْخُلَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ مَا لَا يَحِلُّ كَالرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ - وَإِذَا جَازَ فِي الْمُزَارَعَةِ جَازَ فِي غَيْرِهَا - وَبِمَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا فِيهَا.

‌12 - بَاب قسم الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا

2500 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَسْمِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ إِيرَادِهِ فِي الشَّرِكَةِ فِي أَوَائِلِ

ص: 135

الْوَكَالَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ شَرْحِهِ فِي الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌13 - بَاب الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ

وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا سَاوَمَ شَيْئًا فَغَمَزَهُ آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً

2501، 2502 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ - وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْهُ. فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ. فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ - وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ. فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ.

[الحديث 2501 - طرفه في: 7210]

[الحديث 2502 - طرفه في: 6353]

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ)؛ أَيْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمِثْلِيِّ، وَسَبِيلُ مَنْ أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَ عَرْضِهِ الْمَعْلُومِ بِبَعْضِ عَرْضِ الْآخَرِ الْمَعْلُومِ وَيَأْذَنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي النَّقْدِ الْمَضْرُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ تُكْرَهُ الشَّرِكَةُ فِي الطَّعَامِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمَا الْجَوَازُ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَرَأَى عُمَرُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبَّوَيْهِ: فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ، وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عُمَرَ أَبْصَرَ رَجُلًا يُسَاوِمُ سِلْعَةً وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَغَمَزَهُ حَتَّى اشْتَرَاهَا، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّهَا شَرِكَةٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْتَرِطُ لِلشَّرِكَةِ صِيغَةً وَيَكْتَفِي فِيهَا بِالْإِشَارَةِ إِذَا ظَهَرَتِ الْقَرِينَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي السِّلْعَةِ تُعْرَضُ لِلْبَيْعِ فَيَقِفُ مَنْ يَشْتَرِيهَا لِلتِّجَارَةِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَاسْتَشْرَكَهُ الْآخَرُ لَزِمَهُ أَنْ يُشْرِكَهُ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِتَرْكِهِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْمُصَنِّفَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَشْرِكْنِي، فَإِذَا سَكَتَ يَكُونُ شَرِيكَهُ فِي النِّصْفِ اهـ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبَّوَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زُهْرَةَ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ)؛ أَيِ ابْنِ زُهْرَةَ التَّيْمِيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ رَهْطِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ جَدُّ زُهْرَةَ لِأَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّ سِنِينَ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ فِي إِسْنَادِهِ ابْنَ لَهِيعَةَ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ رِوَايَتِهِ هَذِهِ؛ فَإِنَّ ذَهَابَ أُمِّهِ بِهِ كَانَ فِي الْفَتْحِ، وَوُصِفَ بِالصِّغَرِ إِذْ ذَاكَ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ لَهِيعَةَ ضَبَطَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَلَغَ فِي أَوَائِلِ سِنِّ الِاحْتِلَامِ.

قَوْلُهُ: (وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ

ص: 136

بِنْتُ حُمَيْدٍ)؛ أَيِ ابْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَبُوهُ هِشَامٌ مَاتَ قَبْلَ الْفَتْحِ كَافِرًا، وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ فَتْحَ مِصْرَ وَاخْتَطَّ بِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُ، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَدَعَا لَهُ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ زُهْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِتَمَامِهِ فَوَهَمَ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: رَوَاهُ الْخَلْقُ فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِلَى آخِرِهَا إِلَّا ابْنَ وَهْبٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. وقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولَانِ لَهُ: أَشْرِكْنَا) هُوَ شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِمَا طَلَبَا مِنْهُ الِاشْتِرَاكَ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ حُجَّةً. وَفِي الْحَدِيثِ مَسْحُ رَأْسِ الصَّغِيرِ، وَتَرْكُ مُبَايَعَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَالدُّخُولُ فِي السُّوقِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَطَلَبِ الْبَرَكَةِ حَيْثُ كَانَتْ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّعَةَ مِنَ الْحَلَالِ مَذْمُومَةٌ، وَتَوَفُّرُ دَوَاعِي الصَّحَابَةِ عَلَى إِحْضَارِ أَوْلَادِهِمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِالْتِمَاسِ بَرَكَتِهِ، وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لِإِجَابَةِ دُعَائِهِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ.

(تَنْبِيهَانِ)؛ أَحَدُهُمَا: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَكَانَ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ - يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ، فَعَزَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلْبُخَارِيِّ فَأَخْطَأَ.

ثَانِيهِمَا: وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ زِيَادَةً لَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ غَيْرِهَا، وَلَفْظُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ يَدْخُلُ السُّوقَ وَقَدْ رَبِحَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ، حَيْثُ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَبَرَّكَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

‌14 - بَاب الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ

2503 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ.

2504 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا - أَيْ نَصِيبًا - مِنْ عَبْدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعِتْقِ فَرْعُ صِحَّةِ الْمِلْكِ.

‌15 - بَاب الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْبُدْنِ

وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ رجلا فِي هَدْيِهِ بَعْدَمَا أَهْدَى

2505، 2506 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ.

ص: 137

وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم؛ قَالَا: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لَا يَخْلِطُهُمْ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً وَأَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَفَشَتْ فِي ذَلِكَ الْقَالَةُ. قَالَ عَطَاءٌ: فَقَالَ جَابِرٌ: فَيَرُوحُ أَحَدُنَا إِلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا - فَقَالَ جَابِرٌ بِكَفِّهِ - فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهِ لَأَنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ. فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ لَنَا أَوْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لَا؛ بَلْ لِلْأَبَدِ. قَالَ: وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الْآخَرُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْبُدْنِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ؛ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ رَجُلًا فِي هَدْيِهِ بَعْدَمَا أَهْدَى)؛ أَيْ: هَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ؟ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ إِهْلَالُ عَلِيٍّ، وَفِيهِ: فَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَأَشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ بَعْدَمَا سَاقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ مِنَ الْمَدِينَةِ؛ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ بَدَنَةً، وَجَاءَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ بَدَنَةً، فَصَارَ جَمِيعُ مَا سَاقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهَدْيِ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَشْرَكَ عَلِيًّا مَعَهُ فِيهَا. وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ عَلِيًّا شَرِيكًا لَهُ فِي ثَوَابِ الْهَدْيِ، لَا أَنَّهُ مَلَّكَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُ هَدْيًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ لَمَّا أَحْضَرَ الَّذِي أَحْضَرَهُ مَعَهُ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَلَّكَهُ نِصْفَهُ مَثَلًا فَصَارَ شَرِيكًا فِيهِ، وَسَاقَ الْجَمِيعَ هَدْيًا فَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ لَا فِي الَّذِي سَاقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الْآخَرُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ بَيَانُ الَّذِي عَبَّرَ بِالْعِبَارَةِ الْأُولَى وَهُوَ جَابِرٌ، وَكَذَا وَقَعَ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَتَعَيَّنَ أَنَّ الَّذِي قَالَ: بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: بِحَجَّةِ؛ أَيْ بِمِثْلِ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَرْجَمَةِ طَاوُسٍ؛ لَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَلَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ، بَلْ لَمْ يُذْكَرْ لِوَاحِد مِنْهُمَا رِوَايَةٌ عَنْ طَاوُسٍ، وَكَذَا صَنَعَ الْحُمَيْدِيُّ فَلَمْ يَذْكُرْ طَرِيقَ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ؛ لَا فِي الْمُتَّفَقِ، وَلَا فِي إفْرَادِ الْبُخَارِيِّ. لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى؛ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ أَرَ لِابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ رِوَايَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا يَرْوِي عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مَعَ كِبَرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ مُنْقَطِعٌ، فَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُجَاهِدٍ وَلَا مِنْ عِكْرِمَةَ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ عَنْهُمَا، وَطَاوُسٌ مِنْ أَقْرَانِهِمَا. وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ لِكَوْنِهِ تَأَخَّرَتْ عَنْهُمَا وَفَاتُهُ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 138

‌16 - بَاب مَنْ عَدَلَ عَشْرة مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي الْقَسْمِ

2507 -

حَدَّثَني مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا أو إِبِلًا، فَعَجِلَ الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرة مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ. ثُمَّ إِنَّ بَعِيرًا نَدَّ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ إِلَّا خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ: قَالَ جَدِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: اعْجَلْ - أَوْ أَرْنِي - مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ عَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّ الزَّايِ؛ أَيْ بَعِيرٍ (فِي الْقَسْمِ) بِفَتْحِ الْقَافِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعٍ فِي ذلكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَأَنَّهُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يُنْسَبْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبَّوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الشَّرِكَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا؛ الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّتِهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَخِيرِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 139

بسم الله الرحمن الرحيم

‌48 - كِتَاب الرَّهْنِ

‌1 - بَاب في الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَقَوْل الله عز وجل:

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}

2508 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: وَلَقَدْ رَهَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ. وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا صَاعٌ وَلَا أَمْسَى، وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فِي الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ بَدَلَ كِتَابُ، وَلِابْنِ شَبَّوَيْهِ: بَابُ مَا جَاءَ، وَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا. وَالرَّهْنُ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَاءِ - فِي اللُّغَةِ: الِاحْتِبَاسُ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَهَنَ الشَّيْءُ، إِذَا دَامَ وَثَبَتَ. وَمِنْهُ:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَفِي الشَّرْعِ: جَعْلُ مَالٍ وَثِيقَةً عَلَى دَيْنٍ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. وَأَمَّا الرُّهُنُ بِضَمَّتَيْنِ فَالْجَمْعُ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رِهَانٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ كَكُتُبٍ وَكِتَابٍ، وَقُرِئَ بِهِمَا.

وَقَوْلُهُ: فِي الْحَضَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّفَرِ فِي الْآيَةِ خَرَجَ لِلْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْحَضَرِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاحْتَجُّوا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ تَوْثِقَةً عَلَى الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّفَرِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ فَقْدِ الْكَاتِبِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ فِيمَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا فَقَال: لَا يُشْرَعُ إِلَّا فِي السَّفَرِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْكَاتِبُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَبَرَّعَ بِهِ الرَّاهِنُ جَازَ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَعَادَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي بَابِ شِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّسِيئَةِ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَعُرِفَ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنِ اعْتَرَضَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مَقْرُونًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَسَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِهِ، وَهُنَا عَلَى لَفْظِ: مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعَهُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، بَيَّنَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَهُ. وَالدِّرْعُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.

قَوْلُهُ: (بِشَعِيرٍ) وَقَعَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ. وَهَذَا الْيَهُودِيُّ هُوَ أَبُو الشَّحْمِ، بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ فِي شَعِيرٍ، انْتَهَى. وَأَبُو الشَّحْمِ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَظَفَرٌ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَالْفَاءِ بَطْنٌ مِنْ الْأَوْسِ وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَضَبَطَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَمْزَةٍ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودَةٍ وَمَكْسُورَةٍ،

ص: 140

اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ الْإِبَاءِ، وَكَأَنَّهُ الْتَبَسَ عَلَيْهِ بِأَبِي اللَّحْمِ الصَّحَابِيِّ، وَكَانَ قَدْرُ الشَّعِيرِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثِينَ صَاعًا كَمَا سَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْجِهَادِ وَأَوَاخِرِ الْمَغَازِي. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَا: بِعِشْرِينَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِينَ فَجَبَرَ الْكَسْرَ تَارَةً وَأَلْغَى أُخْرَى، وَوَقَعَ لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قِيمَةَ الطَّعَامِ كَانَتْ دِينَارًا، وَزَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ الْآتِيَةِ فِي آخِرِهِ: فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا بِهِ حَتَّى مَاتَ.

قَوْلُهُ: (وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ) وَالْإِهَالَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ مَا أُذِيبَ مِنَ الشَّحْمِ وَالْإلْيَةِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ دَسَمٍ جَامِدٍ، وَقِيلَ: مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ مِنَ الْأَدْهَانِ. وَقَوْلُهُ: سَنِخَةٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ؛ أَيِ الْمُتَغَيِّرَةِ الرِّيحِ. وَيُقَالُ فِيهَا بِالزَّايِ أَيْضًا. وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: لَقَدْ دُعِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فَكَأَنَّ الْيَهُودِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لِسَانِ أَنَسٍ، فَلِهَذَا قَالَ: مَشَيْتُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَضَرَ ذَلِكَ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ) فَاعِلُ سَمِعْتُ أَنَسٌ، وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فَاعِلُ يَقُولُ. وَجَزَمَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ أَنَسٌ وَفَاعِلُ سَمِعْتُ قَتَادَةُ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ لَفْظَ ابْنِ مَاجَهْ، وَسَاقَهُ أَحْمَدُ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا أَصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا صَاعٌ وَلَا أَمْسَى) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْكَجِّيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: مَا أَصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلَا أَمْسَى إِلَّا صَاعٌ. وَخُولِفَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ بِلَفْظِ: مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَلَا صَاعٌ مِنْ حَبٍّ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ بِلَفْظِ: بُرٍّ بَدَلَ تَمْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ) فِي رِوَايَةِ الْمَذْكُورِينَ: وَإِنَّ عِنْدَهُ يَوْمَئِذَ لَتِسْعُ نِسْوَةٍ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ أَسْمَائِهِنَّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ أَنَسٍ لِهَذَا الْقَدْرِ مَعَ مَا قَبْلَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى سَبَبِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ مُتَضَجِّرًا وَلَا شَاكِيًا - مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنَّمَا قَالَهُ مُعْتَذِرًا عَنْ إِجَابَتِهِ دَعْوَةَ الْيَهُودِيِّ وَلِرَهْنِهِ عِنْدَهُ دِرْعَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ الَّذِي زَعَمَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ أَنَسٌ فِرَارًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى التَّضَجُّرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمُتَعَامَلِ فِيهِ وَعَدَمُ الِاعْتِبَارِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ جَوَازُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ. وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ السِّلَاحِ وَرَهْنِهِ وَإِجَارَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِ مَا لَمْ يَكُنْ حَرْبِيًّا، وَفِيهِ ثُبُوتُ أَمْلَاكِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَجَوَازُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ وَاتِّخَاذِ الدُّرُوعِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ قُنْيَةَ آلَةِ الْحَرْبِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْبِيسِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَأَنَّ أَكْثَرَ قُوتِ ذَلِكَ الْعَصْرِ الشَّعِيرُ، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ. وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي قِيمَةِ الْمَرْهُونِ مَعَ يَمِينِهِ، حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ. وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّوَاضُعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَالْكَرَمِ الَّذِي أَفْضَى بِهِ إِلَى عَدَمِ الِادِّخَارِ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى رَهْنِ دِرْعِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ، وَفَضِيلَةٌ لِأَزْوَاجِهِ لِصَبْرِهِنَّ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا مَضَى وَيَأْتِي.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي عُدُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُعَامَلَةِ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ إِلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ

ص: 141

عَنْ حَاجَةِ غَيْرِهِمْ، أَوْ خَشِيَ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثَمَنًا أَوْ عِوَضًا فَلَمْ يُرِدِ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ إِذْ ذَاكَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا بِهِ مِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - باب من رهن درعه

2509 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: "تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِي السَّلَفِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَهْنَ دِرْعَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْأَعْمَشِ (قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ النَّخَعِيُّ (الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيِ الْكَفِيلَ وَزْنًا وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ) تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ) تَقَدَّمَ جِنْسُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ سُنَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنَ الْكَافِرِ، وَسَيُذْكَرُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ. وَوَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا بِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، قِيلَ: هَذَا مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ نَفْسِ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُعَلَّقَةً بِدَيْنٍ، فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْوَفَاءُ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الطَّلَّاعِ فِي الْأَقْضِيَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّ الدِّرْعَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَضَى عِدَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ عَلِيًّا قَضَى دُيُونَهُ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّ الدِّرْعَ وَسَلَّمَهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم افْتَكَّهَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَمُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

‌3 - بَاب رَهْنِ السِّلَاحِ

2510 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا. فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ. فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟! قال: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُك أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلَاحَ - فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ.

[الحديث 2510 - أطرافه في: 3031، 3032، 4037]

ص: 142

قوله: (باب رهن السلاح) قال ابن المنير: إنما ترجم لرهن السلاح بعد رهن الدرع لأن الدرع ليست بسلاح حقيقة، وإنما هي آلة يتقى بها السلاح، ولهذا قال بعضهم: لا تجوز تحليتها، وإن قلنا بجواز تحلية السلاح كالسيف.

قَوْلُهُ: (اللَّأْمَةُ) بِلَامٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ قَدْ فَسَّرَهَا سُفْيَانُ الرَّاوِي بِالسِّلَاحِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ مِنَ الْمَغَازِي. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ رَهْنِ السِّلَاحِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ الْمُبَاحَةِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ فِيهِ مَا بَوَّبَ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا إِلَّا الْخَدِيعَةَ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ جَوَازُ رَهْنِ السِّلَاحِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ عِنْدَ مَنْ تَكُونُ لَهُ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ بِاتِّفَاقٍ، وَكَانَ لِكَعْبٍ عَهْدٌ، وَلَكِنَّهُ نَكَثَ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَعْلَنَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا عِنْدَهُمْ رَهْنُ السِّلَاحِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ عَرَضُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَتُهُمْ لَاسْتَرَابَ بِهِمْ وَفَاتَهُمْ مَا أَرَادُوا مِنْ مَكِيدَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِصَدَدِ الْمُخَادَعَةِ لَهُ أَوْهَمُوهُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَجُوزُ لَهُمْ عِنْدَهُمْ فِعْلُهُ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِمَا عَهِدَهُ مِنْ صِدْقِهِمْ فَتَمَّتِ الْمَكِيدَةُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ انْتَقَضَ فَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ مَا أَعْلَنَ ذَلِكَ وَلَا أَعْلَنُوا لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْمُحَاوَرَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَالِ، وَهَذَا كَافٍ فِي الْمُطَابَقَةِ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي قَوْلِهِ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ جَوَازُ قَتْلِ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ ذَا عَهْدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ

وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا. وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ

2511 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا.

2511 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا"

[الحديث 2511 - طرفه في: 2512]

2512 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ الْحَاكِمُ: لَمْ يُخَرِّجَاهُ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ وَغَيْرَهُ وَقَفُوهُ عَلَى الْأَعْمَشِ، انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ وَبِهِ جَزَمَ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِحَدِيثِ الْبَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ زِيَادَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُغِيرَةُ)؛ أَيِ ابْنُ مِقْسَمٍ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ)؛ أَيِ النَّخَعِيِّ (تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِقَدْرِ عَمَلِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مُغِيرَةَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ)؛ أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: الدَّابَّةُ إِذَا كَانَتْ مَرْهُونَةً تُرْكَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَإِذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ يُشْرَبُ مِنْهُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا.

ص: 143

وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: إِذَا ارْتَهَنَ شَاةً شَرِبَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ لَبَنِهَا بِقَدْرِ ثَمَنِ عَلَفِهَا، فَإِنِ اسْتَفْضَلَ مِنَ اللَّبَنِ بَعْدَ ثَمَنِ الْعَلَفِ فَهُوَ رِبًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ زَكَرِيَّا: حَدَّثَنِي عَامِرٌ. وَلَيْسَ لِلشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي تَفْسِيرِ الزُّمَرِ، وَعَلَّقَ لَهُ ثَالِثًا فِي النِّكَاحِ.

قَوْلُهُ: (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِضَمِّ أَوَّلِ يُرْكَبُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَكَذَلِكَ يُشْرَبُ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ الْمَأْمُورُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّهْنِ الْمَرْهُونُ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ قَالَ: الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا.

قَوْلُهُ: (الدَّرِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّارَّةِ؛ أَيْ ذَاتِ الضَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: لَبَنُ الدَّرِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}

قَوْلُهُ في الرواية الثانية: (وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ)؛ أَيْ كَائِنًا مَنْ كَانَ، هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ إِذَا قَامَ بِمَصْلَحَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَطَائِفَةٌ قَالُوا: يَنْتَفِعُ الْمُرْتَهِنُ مِنَ الرَّهْنِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِغَيْرِهِمَا لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْإِجْمَالِ فِيهِ فَقَدْ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْفَاقِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ انْتِفَاعَ الرَّاهِنِ بِالْمَرْهُونِ لِكَوْنِهِ مَالِكَ رَقَبَتِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُنْفِقًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَنْتَفِعُ مِنَ الْمَرْهُونِ بِشَيْءٍ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ لِكَوْنِهِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: التَّجْوِيزُ لِغَيْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَرْكَبَ وَيَشْرَبَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالثَّانِي: تَضْمِينُهُ ذَلِكَ بِالنَّفَقَةِ لَا بِالْقِيمَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَرُدُّهُ أُصُولٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي فِي أَبْوَابِ الْمَظَالِمِ: لَا تُحْلَبُ مَاشِيَةُ امْرِئٍ بِغَيْرِ

إِذْنِهِ، انْتَهَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ دَرٍّ وَظَهْرٍ لَمْ يَمْنَعِ الرَّاهِنَ مِنْ دَرِّهَا وَظَهْرِهَا، فَهِيَ مَحْلُوبَةٌ وَمَرْكُوبَةٌ لَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَاعْتَرَضَهُ الطَّحَاوِيُّ بِمَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ، عَنْ زَكَرِيَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا الْحَدِيثَ. قَالَ: فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُرْتَهِنُ لَا الرَّاهِنُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا، فيما حَرَّمَ الرِّبَا حَرَّمَ أَشْكَالَهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَقَرْضِ كُلِّ مَنْفَعَةٍ تَجُرُّ رِبًا.

قَالَ: فَارْتَفَعَ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا مَا أُبِيحَ فِي هَذَا لِلْمُرْتَهِنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالتَّارِيخُ فِي هَذَا مُتَعَذَّرٌ ; وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مُمْكِنٌ، وَطَرِيقُ هُشَيْمٍ الْمَذْكُورُ زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سَالِمٍ الصَّائِغَ تَفَرَّدَ عَنْ هُشَيْمٍ بِالزِّيَادَةِ وَأَنَّهَا مِنْ تَخْلِيطِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَاهَا فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هُشَيْمٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَرْهُونِ فَيُبَاحُ حِينَئِذٍ لِلْمُرْتَهِنِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْحَيَوَانِ حِفْظًا لِحَيَاتِهِ وَلِإِبْقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ نَفَقَتِهِ الِانْتِفَاعُ بِالرُّكُوبِ أَوْ بِشُرْبِ اللَّبَنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ قَدْرُ ذَلِكَ أَوْ قِيمَتُهُ عَلَى قَدْرِ عَلَفِهِ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَسَائِلِ الظَّفَرِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْعُدُولِ عَنِ اللَّبَنِ إِلَى الدَّرِّ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إِذَا حَلَبَ جَازَ لَهُ، لِأَنَّ الدَّرَّ يُنْتَجُ مِنَ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ اللَّبَنُ فِي إِنَاءٍ مَثَلًا وَرَهَنَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا أَصْلًا، كَذَا قَالَ، وَاحْتَجَّ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ، وَقَدْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ نَمَاءِ الرَّهْنِ وَالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَالِكِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِ، فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَخْذُ مؤنتها مِنْ مَالِ زَوْجِهَا عِنْدَ امْتِنَاعِهِ بِغَيْرِ

ص: 144

إِذْنِهِ وَالنِّيَابَةُ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب الرَّهْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ

2513 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّهْنِ عَنِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمَ قَرِيبًا، وَغَرَضُهُ جَوَازُ مُعَامَلَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا.

‌6 - بَاب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ

فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

2514 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

[الحديث 2514 - طرفاه في: 2668، 4552]

2515، 2516 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ:"قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ [77 آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} - فَقَرَأَ إِلَى - {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} - إِلَى - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) سَيَأْتِي ذِكْرُ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَلْخَصُ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ إِذَا تَرَكَ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ؛ الْأَوّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:

قَوْلُهُ: (كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) حَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.

قَوْلُهُ: (فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَجُوزُ فَتْحُ هَمْزَةِ إِنَّ وَكَسْرُهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْهُ الْحَمْلَ عَلَى عُمُومِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ فِي الرَّهْنِ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ قَدْرَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ كَالشَّاهِدِ لِلْمُرْتَهِنِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: جَنَحَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ

ص: 145

شَاهِدًا.

الثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَدِيثَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَشْعَثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَأَرَادَ مِنْ إِيرَادِهِمَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْأَشْعَثِ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا لِمَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ تَرْجَمَ بِهِ، وَأَوْرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا ثَبَتَ عَلَى شَرْطِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الرَّهْنِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةِ أَحَادِيثَ مَوْصُولَةٍ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سِتَّةٌ وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرَانِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌49 - كِتَاب الْعِتْقِ

‌1 - بَاب فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}

2517 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَءا مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ. قَالَ سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنٍ رضي الله عنهما إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ - فَأَعْتَقَهُ.

[الحديث 2517 - طرفه في: 6715]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ ابْنُ شَبَّوَيْهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: بَابٌ، وَزَادَ الْمُسْتَمْلِي قَبْلَ الْبَسْمَلَة: كِتَابَ الْعِتْقِ وَلَمْ يَقُلْ: بَابٌ، وَأَثْبَتَهُمَا النَّسَفِيُّ. وَالْعِتْقُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ، يُقَالُ: عَتَقَ يَعْتِقُ عِتْقًا - بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَيُفْتَحُ - وَعِتَاقًا وَعَتَاقَةً. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَتَقَ الْفَرَسُ إِذَا سَبَقَ، وَعَتَقَ الْفَرْخُ إِذَا طَارَ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَتَخَلَّصُ بِالْعِتْقِ وَيَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ.

قَوْلُهُ: وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} سَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: مَقْرَبَةٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: (أَوْ أَطْعِمْ)، وَلِغَيْرِهِ: أَوْ إِطْعَامٌ؛ وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. وَالْمُرَادُ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ تَخْلِيصُ الشَّخْصِ مِنَ الرِّقِّ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ بَعْضِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُكْمَ السَّيِّدِ عَلَيْهِ كَالْغُلِّ فِي رَقَبَتِهِ فَإِذَا أُعْتِقَ فُكَّ الْغُلُّ مِنْ عُنُقِهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أنَّ فَكَّ الرَّقَبَةِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ أَعَانَ فِي عِتْقِهَا حَتَّى تُعْتَقَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَتَا وَاحِدَةً؟ قَالَ: لَا؛ إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا.

ص: 146

وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ وَصَحَّحَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِتْقِ ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي التَّفَرُّدِ بِالْعِتْقِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ)؛ أَيِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخُو عَاصِمٍ الَّذِي رَوَى عَنْهُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ وَاقِدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ، وَهِيَ أُمُّهُ. وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُكَنَّى سَعِيدَ أَبَا عُثْمَانَ. وَقَوْلُهُ:(صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ)؛ أَيْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ فَعُرِفَ بِصُحْبَتِهِ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ أَبُو الْحُبَابِ فَإِنَّهُ غَيْرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَلَيْسَ لِسَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي التَّابِعِينَ وَأَثْبَتَ رِوَايَتَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ غَفَلَ فَذَكَرَهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ. وَقَدْ قَالَ هُنَا: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا فَانْتَفَى مَا زَعَمَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ: (أَيُّمَا رَجُلٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ تَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ.

قَوْلُهُ: (عُضْوًا مِنَ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ، وَسَتَأْتِي مُخْتَصَرَةً لِلْمُصَنِّفِ فِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ: أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا بِعَظْمٍ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ بِهِ)؛ أَيْ بِالْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَانْطَلَقْتُ حِينَ سَمِعْتُ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرْتُهُ لِعَلِيٍّ، زَادَ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ: فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى عَبْدٍ لَهُ) اسْمُ هَذَا الْعَبْدِ مُطَرِّفٌ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا عَلَى مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ؛ أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ وَالِدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَ سَعِيدُ ابْنُ مَرْجَانَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَمَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَبْلَهُ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ. وَقَوْلُهُ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدِّينَارَ إِذْ ذَاكَ كَانَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْتَقَهُ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ: اذْهَبْ، أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْعِتْقِ، وَأَنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ الْأُنْثَى خِلَافًا لِمَنْ فَضَّلَ عِتْقَ الْأُنْثَى مُحْتَجًّا بِأَنَّ عِتْقَهَا يَسْتَدْعِي صَيْرُورَةَ وَلَدِهَا حُرًّا سَوَاءٌ تَزَوَّجَهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ بِخِلَافِ الذَّكَرِ، وَمُقَابِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَنَّ عِتْقَ الْأُنْثَى غَالِبًا يَسْتَلْزِمُ ضَيَاعَهَا، وَلِأَنَّ فِي عِتْقِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْأُنْثَى كَصَلَاحِيَتِهِ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَصْلُحُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الرَّقَبَةِ نُقْصَانٌ لِيَحْصُلَ الِاسْتِيعَابُ، وَأَشَارَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ النَّقْصُ الْمَجْبُورُ بِمَنْفَعَةٍ كَالْخَصِيِّ مَثَلًا إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِالْفَحْلِ، وَمَا قَالَهُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ فِي عِتْقِ الْخَصِيِّ وَكُلِّ نَاقِصٍ فَضِيلَةً، لَكِنَّ الْكَامِلَ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي

ص: 147

الرَّقَبَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُنْقِذَةٌ مِنَ النَّارِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَقَعَ إِلَّا بِمُنْقِذَةٍ مِنَ النَّارِ.

وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلَهُ: فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَنْبٌ يُوجِبُ لَهُ النَّارَ إِلَّا الزِّنَا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَالْمُفَاخَذَةِ لَمْ يُشْكِلْ عِتْقُهُ مِنَ النَّارِ بِالْعِتْقِ، وَإِلَّا فَالزِّنَا كَبِيرَةٌ لَا تُكَفَّرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. ثُمَّ قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِتْقَ يَرْجَحُ عِنْدَ الْمُوَازَنَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُرَجِّحًا لِحَسَنَاتِ الْمُعْتِقِ تَرْجِيحًا يُوَازِي سَيِّئَةَ الزِّنَا اهـ. وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالْفَرْجِ، بَلْ يَأْتِي فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ مِمَّا آثَارُهُ فِيهِ كَالْيَدِ فِي الْغَصْبِ مَثَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟

2518 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ. قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ ضَائعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟)؛ أَيْ لِلْعِتْقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) هَذَا مِنْ أَعْلَى حَدِيثٍ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الثُّلَاثِيَّاتِ؛ لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ شَيْخُ شَيْخِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَإِنْ كَانَ هُنَا رَوَى عَنْ تَابِعِيٍّ آخَرَ وَهُوَ أَبُوهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى فَقَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ: عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ خَفِيفَةٌ وَكَسْرِ الْوَاوِ بَعْدِهَا مُهْمَلَةٌ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: عَنْ هِشَامٍ اللَّيْثِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْغِفَارِيُّ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: اسْمُهُ سَعْدٌ. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَهُ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ فَصَارَ فِي الْإِسْنَادِ أَرْبَعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَفِي الصَّحَابَةِ أَبُو مُرَاوِحٍ اللَّيْثِيُّ غَيْرُ هَذَا سَمَّاهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَاقِدًا وَعَزَاهُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ أَبَا مُرَاوِحٍ أَخْبَرَهُ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَدَدًا كَثِيرًا نَحْوَ الْعِشْرِينَ نَفْسًا رَوَوْهُ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ فَأَرْسَلَهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الرِّوَايَةُ الْمُرْسَلَةُ عَنْ مَالِكٍ أَصَحُّ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ هِشَامٍ كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: أَعْلَاهَا) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ لِلْأَكْثَرِ وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ أَيْضًا، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ. قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ. قُلْتُ: وَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ: أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَ شَخْصٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا رَقَبَةً يُعْتِقُهَا فَوَجَدَ رَقَبَةً نَفِيسَةً أَوْ رَقَبَتَيْنِ مَفْضُولَتَيْنِ فَالرَّقَبَتَانِ أَفْضَلُ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ

ص: 148

الْأُضْحِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ السَّمِينَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا فَكُّ الرَّقَبَةِ وَهُنَاكَ طِيبُ اللَّحْمِ اهـ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَرُبَّ شَخْصٍ وَاحِدٍ إِذَا عْتِقَ انْتَفَعَ بِالْعِتْقِ وَانْتُفِعَ بِهِ أَضْعَافَ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّفْعِ بِعِتْقٍ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْهُ، وَرُبَّ مُحْتَاجٍ إِلَى كَثْرَةِ اللَّحْمِ لِتَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ هُوَ بِطِيبِ اللَّحْمِ، فَالضَّابِطُ أَنَّ مَهْمَا كَانَ أَكْثَرَ نَفْعًا كَانَ أَفْضَلَ سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَاحْتُجَّ بِهِ لِمَالِكٍ فِي أَنَّ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ إِذَا كَانَتْ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْمُسْلِمَةِ أَفْضَلُ، وَخَالَفَهُ أَصْبَغُ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا)؛ أَيْ مَا اغْتِبَاطُهُمْ بِهَا أَشَدَّ، فَإِنَّ عِتْقَ مِثْلِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا خَالِصًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ؛ أَيْ: إِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فأَطْلَقَ الْفِعْلَ وَأَرَادَ الْقُدْرَةَ. وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ بِلَفْظِ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ.

قَوْلُهُ: (تُعِينُ ضَائِعًا) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِمٍ إِلَّا فِي رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ أَيْضًا، وَجَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هِشَامًا رَوَاهُ هَكَذَا دُونَ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ وَنَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّهِ: رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، وَالصَّوَابُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ كَمَا قَال الزُّهْرِيُّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ خَبَطَ مَنْ قَالَ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ إِنَّهُ رُوِيَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ تَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: صَحَّفَ هِشَامٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْأَخْرَقِ، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِصَانِعٍ وَلَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِيْنِيِّ: يَقُولُونَ إِنَّ هِشَامًا صَحَّفَ فِيهِ اهـ.

وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَعَكَسَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِيهَا أَيْضًا كَمَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ، وَقَدْ وُجِّهَتْ رِوَايَةُ هِشَامٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّائِعِ ذُو الضَّيَاعِ مِنْ فَقْرٍ أَوْ عِيَالٍ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ أَخْرَقُ لَا صَنْعَةَ لَهُ، وَالْجَمْعُ خُرْقٌ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، وَامْرَأَةٌ خَرْقَاءُ كَذَلِكَ، وَرَجُلٌ صَانِعٌ وَصَنَعٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَامْرَأَةٌ صَنَاعٌ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟)؛ أَيْ مِنَ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْإِعَانَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ؛ أَيْ لِلْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ لَا كَسَلًا مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ عَنْ الشَّرِّ دَاخِلٌ فِي فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ حَتَّى يُؤْجَرَ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبَ، غَيْرَ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَحْصُلُ مَعَ الْكَفِّ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، لَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ؛ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مُلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْأَصْلُ تَتَصَدَّقُ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا عَلَى الْإِدْغَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْوَاوُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ هَذَا بِمَعْنَى ثُمَّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَيِ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: قَرَنَ الْجِهَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَفْضِيلُ الْجِهَادِ فِي حَالِ تَعَيُّنِهِ، وَفَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِمَنْ يَكُونُ لَهُ أَبَوَانِ فَلَا يُجَاهِدُ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَجْوِبَةَ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّائِلِينَ.

وَفِي الْحَدِيثِ حُسْنُ الْمُرَاجَعَةِ فِي السُّؤَالِ، وَصَبْرُ الْمُفْتِي وَالْمُعَلِّمِ عَلَى التِّلْمِيذِ وَرِفْقُهُ بِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَأَجْوِبَتُهَا تَشْتَمِلُ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا سُؤَالُهُ

ص: 149

عَنْ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ؟ وَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ؟ وَأَيُّ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَدِهِمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَآدَابٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَوَامِرٍ وَنَوَاهي وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِعَانَةَ الصَّانِعِ أَفْضَلُ مِنْ إِعَانَةِ غَيْرِ الصَّانِعِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الصَّانِعِ مَظِنَّةُ الْإِعَانَةِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يُعِينُهُ غَالِبًا بِخِلَافِ الصَّانِعِ؛ فَإِنَّهُ لِشُهْرَتِهِ بِصَنْعَتِهِ يُغْفَلُ عَنْ إِعَانَتِهِ، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسْتُورِ.

‌3 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعَتَاقَةِ فِي الْكُسُوفِ أَوْ الْآيَاتِ

2519 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ.

تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ.

2520 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَثَّامٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالْعَتَاقَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْعَتَاقَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَوَهَمَ مَنْ كَسَرَهَا؛ يُقَالُ: عَتَقَ يَعْتِقُ عِتَاقًا وَعَتَاقَةً، وَالْمُرَادُ الْإِعْتَاقُ وَهُوَ مَلْزُومُ الْعَتَاقَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْكُسُوفِ أَوِ الْآيَاتِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وابن شَبَّوَيْهِ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَلِلْبَاقِينَ: وَالْآيَاتِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ ; وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِمَعْنَى بَلْ، لِأَنَّ عَطْفَ الْآيَاتِ عَلَى الْكُسُوفِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ سِوَى الْكُسُوفِ. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ، فَنَاسَبَ وُقُوعُ الْعِتْقِ الَّذِي يُعْتَقُ مِنَ النَّارِ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الْكُسُوفُ بِالصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ) وَهُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي الْكُسُوفِ عَنْ رَاوٍ آخَرَ عَنْ شَيْخِهِ زَائِدَةَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَلِيٌّ)؛ يَعْنِي ابْنَ الْمَدِينِيِّ، وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ.، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، وَعَثَّامٌ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ - هُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَامِرِيُّ الْكُوفِيُّ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفَاطِمَةُ زَوْجَتُهُ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ وَتَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ زَائِدَةَ أَنَّ الْآمِرَ فِي رِوَايَةِ عَثَّامٍ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ; وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

‌4 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ

2521 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ.

ص: 150

2522 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"

2523 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ على المعتق، فَأُعْتِقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ"

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ .. اخْتَصَرَهُ

2524 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ قَالَ نَافِعٌ وَإِلَا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ، أَوْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ"

2525 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِقْدَامٍ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي الْعَبْدِ أَوْ الأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ شُرَكَاءَ فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ يَقُولُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ إِذَا كَانَ لِلَّذِي أَعْتَقَ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ يُقَوَّمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ وَيُدْفَعُ إِلَى الشُّرَكَاءِ أَنْصِبَاؤُهُمْ وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ يُخْبِرُ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"

وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجُوَيْرِيَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .. مُخْتَصَرًا

قَوْلُه: (بَابُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَ أَنَّ الْعَبْدَ كَالْأَمَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّقِّ. قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِيهِمَا بِذَلِكَ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رَدِّ قَوْلِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ: إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَمْلُوكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ الذَّكَرِ بِأَصْلِ وَضْعِهِ، وَالْأَمَةُ اسْمٌ لِمُؤَنَّثِهِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ إِمَّا لِأَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قَطْعًا، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْحَاقِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ. قَالَ: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ.

الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهِ: يُخْبِرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجَمِيعَ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي عَبْدٍ أَوْ

ص: 151

أَمَةٍ الْحَدِيثَ، وَهَذَا أَصْرَحُ مَا وَجَدْتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ فِيهِ: حُمِلَ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ فِي مَالِهِ حَتَّى يُعْتَقَ كُلُّهُ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِدْرَاكُ كَوْنِ الْأَمَةَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْعَبْدِ حَاصِلٌ لِلسَّامِعِ قَبْلَ التَّفَطُّنِ لِوَجْهِ الْجَمْعِ وَالْفَرْقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُثْمَانُ اللَّيْثِيُّ بِمَأْخَذٍ آخَرَ فَقَالَ: يَنْفُذُ عِتْقُ الشَّرِيكِ فِي جَمِيعِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَمَةُ جَمِيلَةً تُرَادُ لِلْوَطْءِ فَيَضْمَنُ مَا أَدْخَلَ عَلَى شَرِيكِهِ فِيهَا مِنَ الضَّرَرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُ إِسْحَاقَ شَاذٌّ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ فَاسِدٌ اهـ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ الْعَبْدَ بِاثْنَيْنِ وَالْأَمَةَ بِالشُّرَكَاءِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِمَا، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَعْتَقَ) ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْمَجْنُونِ وَلَا مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهه، وَفِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلْسٍ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ وَالْكَافِرِ تَفَاصِيلُ لِلْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ، وَلَا يُقَوَّمُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَّا إِذَا وَسِعَهُ الثُّلُثُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقَوَّمُ فِي الْمَرَضِ مُطْلَقًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي عِتْقِ الْكَافِرِ قَرِيبًا، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَعْتَقَ مَا إِذَا عْتِقَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَرِثَ بَعْضَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِقَرَابَةٍ فَلَا سِرَايَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَى شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ وَالْعِتْقَ يَحْصُلَانِ بِغَيْرِ فِعْلِ السَّيِّدِ فَهُوَ كَالْإِرْثِ، وَيَدْخُلُ فِي الِاخْتِيَارِ مَا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ نَصِيبِهِ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ بِعِتْقِ جُزْءٍ مِمَّنْ لَهُ كُلُّهُ لَمْ يَسْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ وَيَصِيرُ الْمَيِّتُ مُعْسِرًا، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةٌ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَعَ مَفْهُومِ الْخَبَرِ أَنَّ السِّرَايَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ فَيَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِصُدُورِ أَمْرٍ يُجْعَلُ إِتْلَافًا، ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَنْ أَعْتَقَ وُقُوعُ الْعِتْقِ مُنَجَّزًا، وَأَجْرَى الْجُمْهُورُ الْمُعَلَّقَ بِصِفَةٍ إِذَا وُجِدَتْ مُجْرَى الْمُنَجَّزِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ) هُوَ كَالْمِثَالِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي الْبَابِ: شِرْكًا وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّرِكَةِ: شِقْصًا بِمُعْجَمَةٍ وَقَافٍ ومُهْمَلَةٍ وَزْنَ الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبَابِ: نَصِيبًا؛ وَالْكُلُّ بِمَعْنًى، إِلَّا أَنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ قَالَ: هُوَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: لَا يَكُونُ الشِّقْصُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَالشِّرْكُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ، وَلَا بُدَّ فِي السِّيَاقِ مِنْ إِضْمَارِ جُزْءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْجُمْلَةُ أَوِ الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ مِنْهَا، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ رَقِيقٍ لَكِنْ يُسْتَثْنَى الْجَانِي وَالْمَرْهُونُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ فِي الرَّهْنِ وَالْجِنَايَةِ مَنْعُ السِّرَايَةِ لِأَنَّ فِيهَا إِبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَعْتَقَ

(1)

مُشْتَرَكًا بَعْدَ أَنْ كَاتَبَاهُ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ الْمُكَاتَبَ وَقَعَتِ السِّرَايَةُ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَا يَكْفِي ثُبُوتُ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ، فَقَدْ تثبت وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ دَبَّرَاهُ، لَكِنَّ تَنَاوُلَ لَفْظِ الْعَبْدِ لِلْمُدَبَّرِ أَقْوَى مِنَ الْمُكَاتَبِ فَيَسْرِي هُنَا عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ أَمَةٍ ثَبَتَ كَوْنُهَا أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ فَلَا سِرَايَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ النَّقْلَ مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْعَهَا، وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ) ظَاهِرُهُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ حَالَ

(1)

أي أحد الشريكين عبدا

ص: 152

الْعِتْقِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْحُكْمُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُقَوَّمْ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: وَإِلَّا فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَيَبْقَى مَا لَمْ يُعْتَقْ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ، هَذَا الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَهُوَ السُّكُوتُ عَنِ الْحُكْمِ بَعْدَ هَذَا الْإِبْقَاءِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامَ عَلَى حَدِيثَ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (قُوِّمَ عَلَيْهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، زَادَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فِي مَالِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسٍ وَلَا شَطَطٍ، وَالْوَكْسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: النَّقْصُ، وَالشَّطَطُ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مُكَرَّرَةٍ وَالْفَتْحُ الْجَوْرُ، وَاتَّفَقَ مَنْ قَالَ

(1)

مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عليه فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ جَمِيعُ مَا يُبَاعُ عَلَيْهِ فِي الدَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُهُ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُوسِرِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ أَمْ لَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ: فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ أَوْ قِيمَةِ عَدْلٍ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ؛ وَهُوَ الصَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُعْتَقُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ أُعْتِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّاءَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَفْتُوحَةٌ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ.

(تَنْبِيهٌ): رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا أَيْضًا، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ عَتَقَ مَا بَقِيَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ فِي الْمُدْرَجِ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ:(وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ)؛ أَيْ شَيْءُ يَبْلُغُ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَالٌ يَبْلُغُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُوَطَّأِ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: يَبْلُغُ يُخْرِجُ مَا إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ النَّصِيبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - أَنَّهُ يَسْرِي إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي هُوَ مُوسِرٌ بِهِ تَنْفِيذًا لِلْعِتْقِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.

قَوْلُهُ: (ثَمَنَ الْعَبْدِ)؛ أَيْ ثَمَنَ بَقِيَّةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِحِصَّتِهِ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: وَلَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَةَ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ أَنْصِبَاءَهُمْ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَالْمُرَادُ بِالثَّمَنِ هُنَا الْقِيمَةُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا اشْتَرَيْتَ بِهِ الْعَيْنَ، وَاللَّازِمُ هُنَا الْقِيمَةُ لَا الثَّمَنُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ: مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَشُرَكَاءَهُ بِالنَّصْبِ. وَلِبَعْضِهِمْ: فَأُعْطِيَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَشُرَكَاؤُهُ بِالضَّمِّ. وَقَوْلُهُ: حِصَصُهُمْ؛ أَيْ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ، أَيْ إِنْ كَانَ لَهُ شُرَكَاءُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ أَعْطَاهُ جَمِيعَ الْبَاقِي، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. فَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ وَهِيَ الثُّلُثُ، وَالثَّانِي حِصَّتَهُ وَهِيَ السُّدُسُ؛ فَهَلْ يُقَوَّمُ عَلَيْهِمَا نَصِيبُ صَاحِبِ النِّصْفِ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَتْ لِاثْنَيْنِ هَلْ يَأْخُذَانِ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ؟

قَوْلُهُ: (عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ فِي الثَّانِي، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: عَتَقَ بِالْفَتْحِ وَأُعْتِقَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَلَا يُعْرَفُ عُتِقَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَازِمٌ غَيْرُ مُتَعَدٍّ.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. . . اخْتَصَرَهُ.

قَوْلُهُ في الرواية الثالثة: (عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عِتْقُهُ كُلِّهِ) بِجَرِّ اللَّامِ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمُضَافِ؛ أَيْ: عِتْقُ الْعَبْدِ كُلِّهِ.

(1)

أي بذلك.

ص: 153

قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ عَلَى الْمُعْتِقِ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ التَّقْوِيمَ يُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ: يُقَوَّمُ لَيْسَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، بَلْ هُوَ صِفَةُ مَنْ لَهُ الْمَالُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ بِحَيْثُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّقْوِيمِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُعْتِقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ أُعْتِقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ ابْنَيْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ)؛ أَيِ ابْنُ الْمُفَضَّلِ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ)؛ أَيِ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (اخْتَصَرَهُ)؛ أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ بِرِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ مُسَدَّدٍ، عَنْ بِشْرٍ مُطَوَّلًا، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ بِشْرٍ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ اخْتَصَرَ هَذَا الْقَدْرَ، وَقَدْ فَهِمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: عَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ رَوَوْا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُكْمَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ مَعًا، وَالْبَصْرِيُّونَ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا حُكْمَ الْمُوسِرِ فَقَطْ.

قُلْتُ: فَمِنَ الْكُوفِيِّينَ أَبُو أُسَامَةَ كَمَا تَرَى، وَابْنُ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَزُهَيْرٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَحْمَدَ. وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ بِشْرٌ الْمَذْكُورُ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى فِيمَا ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، لَكِنْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَزَائِدَةُ كُوفِيٌّ لَكِنَّهُ وَافَقَ الْبَصْرِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ عَتِيقٌ)؛ أَيْ مُعْتَقٌ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي؛ أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ، أَوْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ) هَذَا شَكٌّ مِنْ أَيُّوبَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْمُعْسِرِ هَلْ هِيَ مَوْصُولَةٌ مَرْفُوعَةٌ أَوْ مُنْقَطِعَةٌ مَقْطُوعَةٌ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَرُبَّمَا قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْهُ، وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَيْءٌ يَقُولُهُ نَافِعٌ مِنْ قِبَلِهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَدْ وَافَقَ أَيُّوبَ عَلَى الشَّكِّ فِي رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: وَكَانَ نَافِعٌ يَقُولُ: قَالَ يَحْيَى: لَا أَدْرِي؛ أَشَيْءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ يَقُولُهُ، أَمْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَدْ جَازَ مَا صَنَعَ. وَرَوَاهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى فَجَزَمَ بِأَنَّهَا عَنْ نَافِعٍ، وَأَدْرَجَهَا فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَجَزَمَ مُسْلِمٌ بِأَنَّ أَيُّوبَ، وَيَحْيَى قَالَا: لَا نَدْرِي؛ أَهُوَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ شَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ مِنْ قِبَلِهِ. وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِي وَصْلِهَا وَلَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، لَكِنِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِهَا وَحَذْفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوهَا حُفَّاظٌ، فَإِثْبَاتُهَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مُقَدَّمٌ. وَأَثْبَتَهَا أَيْضًا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ.

وَقَدْ رَجَّحَ الْأَئِمَّةُ رِوَايَةَ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَرْفُوعَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَحْسَبُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ يَشُكُّ فِي أَنَّ مَالِكًا أَحْفَظُ لِحَدِيثِ نَافِعٍ مِنْ أَيُّوبَ، لِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَ لَهُ مِنْهُ، حَتَّى وَلَوِ اسْتَوَيَا فَشَكَّ أَحَدُهُمَا فِي شَيْءٍ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ صَاحِبُهُ كَانَتِ الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ لَمْ يَشُكَّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ الدَّارِمِيِّ: قُلْتُ لِابْنِ مَعِينٍ: مَالِكٌ فِي نَافِعٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ أَيُّوبُ؟ قَالَ: مَالِكٌ. وَسَأَذْكُرُ ثَمَرَةَ الْخِلَافِ فِي رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوْ وَقْفِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجُوَيْرِيَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي. . . إِلَخْ) كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذِهِ الطَّرِيقَ يُشِيرُ بِهَا

ص: 154

إِلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَفْتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّ الْمُوسِرِ لِيَرُدَّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَلَمْ يَتَفَرَّدْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، بَلْ وَافَقَهُ صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ اللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَجُوَيْرِيَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . مُخْتَصَرًا)؛ يَعْنِي: وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، فَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ فَقَدْ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَيُّمَا مَمْلُوكٍ كَانَ بَيْنَ شُرَكَاءَ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ فَإِنَّهُ يُقَامُ فِي مَالِ الَّذِي أَعْتَقَ قِيمَةَ عَدْلٍ فَيُعْتَقُ إِنْ بَلَغَ ذَلِكَ مَالُهُ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَوَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا فِي مَمْلُوكٍ وَكَانَ لِلَّذِي يعَتَقَ مَبْلَغُ ثَمَنِهِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ فَوَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ، وَلَفْظُهُ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ نَفَاذُهُ مِنْهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ جُوَيْرِيَةَ - وَهُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ - فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الشَّرِكَةِ كَمَا مَضَى. وَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ لَفْظَهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَهِيَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَحْوُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُوسِرَ إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ عَتَقَ كُلُّهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّقْوِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُوسِرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ الْعِتْقِ؛ فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أنَّهُ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ، وَقَالَ بَعْضُ الشافعية: لَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ بِالتَّقْوِيمِ كَانَ لَغْوًا وَيَغْرَمُ الْمُعْتِقُ حِصَّةَ نَصِيبِهِ بِالتَّقْوِيمِ، وَحُجَّتُهُمْ رِوَايَةُ أَيُّوبَ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ فَهُوَ عَتِيقٌ. وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَلَهُ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ، وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَتِهِ. وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ: فَكَانَ الَّذِي يُعْتِقُ نَصِيبَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ فَهُوَ عَتِيقٌ كُلُّهُ، حَتَّى لَوْ أَعْسَرَ الْمُوسِرُ الْمُعْتِقُ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَمَرَّ الْعِتْقُ وَبَقِيَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ مَاتَ أَخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ شَيْءٌ وَاسْتَمَرَّ الْعِتْقُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إِلَّا بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، فَلَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ رِوَايَةُ سَالِمٍ أَوَّلَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْعِتْقِ عَلَى التَّقْوِيمِ تَرْتِيبُهُ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ التَّقْوِيمَ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا الدَّفْعُ فَقَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ الَّتِي فِيهَا: فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، فَلَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا لنطقها بِالْوَاوِ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ حَيْثُ قَالَ: يَعْتِقُ كُلُّهُ وَيَكُونُ نَصِيبُ مَنْ لَمْ يَعْتِقْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِتَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِالتَّقْوِيمِ عَلَى الْمُعْتِقِ. وَعَلَى رَبِيعَةَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْجُزْءِ مِنْ مُوسِرٍ وَلَا مُعْسِرٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ. وَعَلَى بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ التَّقْوِيمَ يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعِتْقِ لَا بَعْدَ صُدُورِهِ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَ نَصِيبَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ، أَوْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى وَلَا صَاحِبَاهُ، وَطُرِدَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ، فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَقَالَ هُوَ: يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ لِمَوْلَاهُ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا أَذِنَ الشَّرِيكُ فَقَالَ لِشَرِيكِهِ: أَعْتِقْ نَصِيبَكَ، قَالُوا: فَلَا ضَمَانَ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوَانِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا مِثْلُهُ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُوسِرِ أَنْ تَكْمُلَ حُرِّيَّةُ

ص: 155

الْعَبْدِ لِتَتِمَّ شَهَادَتُهُ وَحُدُودُهُ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لِاسْتِكْمَالِ إِنْقَاذِ الْمُعْتِقِ مِنَ النَّارِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ مَرْدُودًا، بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِسْعَاءِ.

‌5 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ

عَلَى نَحْوِ الْكِتَابَةِ

2526 -

حَدَّثَني أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ. . .

2527 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شَقِيصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ. . . اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ الْكِتَابَةِ) أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ؛ أَيْ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ لَا مَالَ لَهُ يَبْلُغُ قِيمَةَ بَقِيَّةِ الْعَبْدِ فَقَدْ تَنَجَّزَ عِتْقُ الْجُزْءِ الَّذِي كَانَ يَمْلِكُهُ وَبَقِيَ الْجُزْءُ الَّذِي لِشَرِيكِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي تَحْصِيلِ الْقَدْرِ الَّذِي يُخَلِّصُ بِهِ بَاقِيَهُ مِنَ الرِّقِّ إِنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزَ نَفْسُهُ اسْتَمَرَّتْ حِصَّةُ الشَّرِيكِ مَوْقُوفَةً.

وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا وَالْحُكْمُ بِرَفْعِ الزِّيَادَتَيْنِ مَعًا، وَهُما قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانُ مَنْ تَوَقَّفَ فِيهَا أَوْ جَزَمَ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، وَسَأُبَيِّنُ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ وَمَنْ تَوَقَّفَ فِيهَا أَوْ جَزَمَ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُدْرَجِ بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا. وَقَدِ اسْتَبْعَدَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنَعَ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِمَا مَعًا وَجَزَمَ بِأَنَّهُمَا مُتَدَافِعَانِ، وَقَدْ جَمَعَ غَيْرُهُ بَيْنَهُمَا بِأَوْجُهٍ أُخَرَ يَأْتِي بَيَانُهَا فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ) سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ، فَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ، وَقَدْ حَفِظَ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَجَزَمَ بِرَفْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ. . . اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَزْنًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَعَطَفَ عَلَيْهِ طَرِيقَ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَبَقِيَّتُهُ: أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا يُسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ جَمِيعًا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ غُلَامٍ وَكَانَ الَّذِي أَعْتَقَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ أُعْتِقَ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّضْرِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ - الَّتِي قَبْلَهَا - عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي

ص: 156

النَّضْرُ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ) فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ثُمَّ يُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ؛ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ ذَلِكَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ وَاسْتُسْعِيَ فِي قِيمَتِهِ لِصَاحِبِهِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ لَا يُسْتَغْلَى عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُكَاتَبٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا. وَفِي ثُبُوتِ الِاسْتِسْعَاءِ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ حَيْثُ قَالَ: يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَاخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ) أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ تَفَرَّدَ بِهِ، فَاسْتَظْهَرَ لَهُ بِرِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِمُوَافَقَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةً تَابَعُوهُمَا عَلَى ذِكْرِهَا؛ فَأَمَّا رِوَايَةُ حَجَّاجٍ فَهُوَ فِي نُسْخَةِ حَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ وَفِيهَا ذِكْرُ السِّعَايَةِ، وَرَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبَانَ فَأَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ بَقِيَّتَهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ الْحَدِيثَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ فَوَصَلَهَا الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَفَرٍ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ مُظْهِرٍ عَنْهُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ، وَلَفْظُهُ: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَ لٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ فَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْهُ عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ، وَلَفْظِهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، قَالَ: يَضْمَنُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ مَمْلُوكٍ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ رَوْحٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ. وَقَدِ اخْتَصَرَ ذِكْرَ السِّعَايَةِ أَيْضًا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ عَتَقَ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى هِشَامٍ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَتْنِ.

وَغَفَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فَزَعَمَ أَنَّ هِشَامًا، وَشُعْبَةَ ذَكَرَا الِاسْتِسْعَاءَ فَوَصَلَاهُ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمَوَّاقِ فَأَجَادَ، وَبَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ. وَنَقَلَ الْخَلَّالُ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ضَعَّفَ رِوَايَةَ سَعِيدٍ فِي الِاسْتِسْعَاءِ، وَضَعَّفَهَا أَيْضًا الْأَثْرَمُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِسْعَاءِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الضَّرَرُ عَلَى الشَّرِيكِ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ الِاسْتِسْعَاءُ مَشْرُوعًا لَلَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ مَثَلًا كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ غَايَةُ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ اهـ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، قَالَ النَّسَائِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ هَمَّامًا رَوَاهُ فَجَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ - أَيِ الِاسْتِسْعَاءَ - مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مُسْنَدًا، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ عَلَى مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ مِنْ فُتْيَا قَتَادَةَ لَيْسَ فِي الْمَتْنِ.

قُلْتُ: وَرِوَايَةُ هَمَّامٍ قَدْ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْهُ عَنْ قَتَادَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِسْعَاءَ أَصْلًا، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ غُلَامٍ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِتْقَهُ وَغَرَّمَهُ بَقِيَّةَ ثَمَنِهِ. نَعَمْ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، عَنْ هَمَّامٍ فَذَكَرَ فِيهِ السِّعَايَةَ وَفَصَلَهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ،

ص: 157

وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْخَطِيبُ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظِهِ مِثْلَ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ سَوَاءً، وَزَادَ: قَالَ: فَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ ضَبَطَهُ وَفَصَلَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قَوْلِ قَتَادَةَ، هَكَذَا جَزَمَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ.

وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ صَاحِبَا الصَّحِيحِ فَصَحَّحَا كَوْنَ الْجَمِيعِ مَرْفُوعًا، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَجَمَاعَةٌ، لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ قَتَادَةَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ وَكَثْرَةِ أَخْذِهِ عَنْهُ مِنْ هَمَّامٍ وَغَيْرِهِ، وَهِشَامٌ، وَشُعْبَةُ وإِنْ كَانَا أَحْفَظَ مِنْ سَعِيدٍ لَكِنَّهُمَا لَمْ يُنَافِيَا مَا رَوَاهُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَا مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضِهِ، وَلَيْسَ الْمَجْلِسُ مُتَّحِدًا حَتَّى يُتَوَقَّفَ فِي زِيَادَةِ سَعِيدٍ، فَإِنَّ مُلَازَمَةَ سَعِيدٍ، لِقَتَادَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فَسَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ لَوِ انْفَرَدَ، وَسَعِيدٌ لَمْ يَنْفَرِدْ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى قَتَادَةَ: هِشَامٌ، وَسَعِيدٌ أَثْبَتُ فِي قَتَادَةَ مِنْ هَمَّامٍ، وَمَا أُعِلَّ بِهِ حَدِيثُ سَعِيدٍ مِنْ كَوْنِهِ اخْتُلِطَ أَوْ تَفَرَّدَ بِهِ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ كَيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَآخَرُونَ مَعَهُمْ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِمْ، وَهَمَّامٌ هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الَّذِي خَالَفَ الْجَمِيعَ فِي الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى رَفْعِهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ وَاقِعَةَ عَيْنٍ وَهُمْ جَعَلُوهُ حُكْمًا عَامًّا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَضْبِطْهُ كَمَا يَنْبَغِي.

وَالْعَجَبُ مِمَّنْ طَعَنَ فِي رَفْعِ الِاسْتِسْعَاءِ بِكَوْنِ هَمَّامٍ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَلَمْ يَطْعَنْ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، بِكَوْنِ أَيُّوبَ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، فَفَصَلَ قَوْلَ نَافِعٍ مِنَ الْحَدِيثِ وَمَيَّزَهُ كَمَا صَنَعَ هَمَّامٌ سَوَاءً، فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مُدْرَجًا كَمَا جَعَلُوا حَدِيثَ هَمَّامٍ مُدْرَجًا مَعَ كَوْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَافَقَ أَيُّوبَ فِي ذَلِكَ وَهَمَّامٌ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِكَوْنِ حَدِيثِ نَافِعٍ مُدْرَجًا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ وَآخَرُونَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحَانِ مَرْفُوعَانِ وِفَاقًا لِعَمَلِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّاقِ: وَالْإِنْصَافُ أَنْ لَا نُوهِمَ الْجَمَاعَةَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ قَتَادَةَ يُفْتِي بِهِ، فَلَيْسَ بَيْنَ تَحْدِيثِهِ بِهِ مَرَّةً وَفُتْيَاهُ بِهِ أُخْرَى مُنَافَاةٌ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: حَسْبُكَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ فَإِنَّهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِالِاسْتِسْعَاءِ تَعَلَّلُوا فِي تَضْعِيفِهِ بِتَعْلِيلَاتٍ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوَفَاءُ بِمِثْلِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فِيهَا بِأَحَادِيثَ يَرِدُ عَلَيْهَا مِثْلُ تِلْكَ التَّعْلِيلَاتِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ خَشِيَ مِنَ الطَّعْنِ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فَأَشَارَ إِلَى ثُبُوتِهَا بِإِشَارَاتٍ خَفِيَّةٍ كَعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِيهِ وَسَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ لَهُ بِرِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِمُتَابَعَتِهِ لِيَنْفِيَ عَنْهُ التَّفَرُّدَ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا تَابَعَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنَّ شُعْبَةَ أَحْفَظُ النَّاسِ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ، فَكَيْفَ لَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِسْعَاءَ؟! فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ضَعْفًا؛ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَغَيْرَهُ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ الِاسْتِسْعَاءِ فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، وَعُمْدَةُ مَنْ ضَعَّفَ حَدِيثَ الِاسْتِسْعَاءِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ أن الْجُزْءِ الَّذِي لِشَرِيكِ الْمُعْتِقِ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ رَقِيقًا، وَلَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ.

وَقَدِ احْتَجَّ

ص: 158

بَعْضُ مَنْ ضَعَّفَ رَفْعَ الِاسْتِسْعَاءِ بِزِيَادَةٍ وَقَعَتْ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ فِي آخِرِهِ: وَرَقَّ مِنْهُ مَا بَقِيَ، وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَرْزُوقٍ الْكَعْبِيُّ، وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَفِي حِفْظِهِ شَيْءٌ عَنْهُمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ رَقِيقًا، بَلْ هِيَ مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَحَدِيثُ الِاسْتِسْعَاءِ فِيهِ بَيَانُ الْحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلِلَّذِي صَحَّحَ رَفْعَهُ أَنْ يَقُولَ: مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمُعْسِرَ إِذَا أَعْتَقَ حِصَّتَهُ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ، بَلْ تَبْقَى حِصَّةُ شَرِيكِهِ عَلَى حَالِهَا وَهِيَ الرِّقُّ، ثُمَّ يُسْتَسْعَى فِي عِتْقِ بَقِيَّتِهِ فَيُحَصِّلُ ثَمَنَ الْجُزْءِ الَّذِي لِشَرِيكِ سَيِّدِهِ وَيَدْفَعُهُ إِلَيْهِ وَيُعْتَقُ، وَجَعَلُوهُ فِي ذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ، لِقَوْلِهِ: غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِأَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ الِاكْتِسَابَ وَالطَّلَبَ حَتَّى يَحْصُلَ ذَلِكَ لَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ غَايَةُ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ فِي الْكِتَابَةِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَهَذِهِ مِثْلُهَا.

وَإِلَى هَذَا الْجَمْعِ مَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: لَا يَبْقَى بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُعَارَضَةٌ أَصْلًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَبْقَى الرِّقُّ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ إِذَا لَمْ يَخْتَرِ الْعَبْدُ الِاسْتِسْعَاءَ، فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلَامٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَجَازَ عِتْقَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ كُلُّهُ، فَلَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمُعْتَقُ غَنِيًّا أَوْ عَلَى مَا إِذَا كَانَ جَمِيعُهُ لَهُ فَأَعْتَقَ بَعْضَهُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَلَمْ يُضَمِّنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَإِلَّا لَتَعَارَضَا.

وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِسْعَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَمِرُّ فِي حِصَّةِ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ رَقِيقًا فَيَسْعَى فِي خِدْمَتِهِ بِقَدْرِ مَا لَهُ فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ؛ أَيْ مِنْ وَجْهِ سَيِّدِهِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْخِدْمَةِ فَوْقَ حِصَّةِ الرِّقِّ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَاسْتُسْعِيَ فِي قِيمَتِهِ لِصَاحِبِهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الِاسْتِسْعَاءَ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَنَجَّزَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِتْقَ ثُلُثِهِ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِسْعَاءِ فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَ الِاسْتِسْعَاءَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِسْعَاءُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ مَا إِذَا أَعْتَقَ جَمِيعَ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُلُثَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ، وَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ عِمْرَانَ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَلَهُ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ، وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَتِهِ لِمَا أَسَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَالْجَوَابُ مَعَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِصُورَةِ الْيَسَارِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَلَهُ وَفَاءٌ، وَالِاسْتِسْعَاءُ إِنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ الْإِعْسَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاسْتِسْعَاءِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَآخَرُونَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُعْتَقُ جَمِيعُهُ فِي الْحَالِ وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي تَحْصِيلِ قِيمَةِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ: ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمُعْتِقِ الْأَوَّلِ بِمَا أَدَّاهُ لِلشَّرِيكِ، وَقَالَ

ص: 159

أَبُو حَنِيفَةَ وَحْدَهُ: يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ الِاسْتِسْعَاءِ وَبَيْنَ عِتْقِ نَصِيبِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً إِلَّا النَّصِيبُ الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُكَاتَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ. وَعَنْ عَطَاءٍ: يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِبْقَاءِ حِصَّتِهِ فِي الرِّقِّ. وَخَالَفَ الْجَمِيعَ زُفَرُ؛ فَقَالَ: يُعْتَقُ كُلُّهُ وَتُقَوَّمُ حِصَّةُ الشَّرِيكِ فَتُؤْخَذُ إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَتُرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا.

‌6 - بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، وَلَا عَتَاقَةَ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ تعالى

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَلَا نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ

2528 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ.

[الحديث 2528 - طرفاه في: 5269، 6664]

2529 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ)؛ أَيْ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِالْقَصْدِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رَدِّ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ عَامِدًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا ذَاكِرًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَلْفِظَ بِشَيْءٍ غَيْرِهِمَا فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ إِلَيْهِمَا، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَفِيمَا إِذَا حَلَفَ وَنَسِيَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا عَتَاقَةَ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ) سَيَأْتِي فِي الطَّلَاقِ نَقْلُ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍ رضي الله عنه، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا طَلَاقَ إِلَّا لِعِدَّةٍ، وَلَا عِتَاقَ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا مَعَ الْقَصْدِ، وَأَشَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ أَوِ للشَّيْطَانِ أَوْ لِلصَّنَمِ عَتَقَ لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا تُخِلُّ بِالْعِتْقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ: وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، وَاللَّفْظُ الْمُعَلَّقُ أَوْرَدَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَأَوْرَدَهُ فِي أَوَاخِرِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَإِنَّمَا فِيهِ مُقَدَّرَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: الْخَاطِئِ بَدَلَ الْمُخْطِئِ. قَالُوا: الْمُخْطِئُ مَنْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَصَارَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخَاطِئُ مَنْ تَعَمَّدَ لِمَا لَا يَنْبَغِي. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الِاسْتِنْبَاطِ إِلَى بَيَانِ أَخْذِ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَعَادَتِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ كَثِيرًا بِلَفْظِ: رَفَعَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي

ص: 160

الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّهُ بِلَفْظِ: وَضَعَ بَدَلَ رَفَعَ، وَأَخْرَجَهُ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرٍ التَّيْمِيُّ فِي فَوَائِدِهِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: رَفَعَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِعِلَّةٍ غَيْرِ قَادِحَةٍ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَزَادَ: عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ بَيْنَ عَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ.

وَهُوَ حَدِيثٌ جَلِيلٌ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ نِصْفَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ أَوْ لَا، الثَّانِي مَا يَقَعُ عَنْ خَطَأٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ إِكْرَاهٍ فَهَذَا الْقِسْمُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ الْإِثْمُ أَوِ الْحُكْمُ أَوْ هُمَا مَعًا؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرُ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ كَالْقَتْلِ فَلَهُ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى يُعْتَدُّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَبِحَسَبِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى) يَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا زُرَارَةُ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، كَانَ قَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا أَحَادِيثُ يَسِيرَةٌ.

قَوْلُهُ: (مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا) يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ بِلَفْظِ: مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَصُدُورُهَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالضَّمِّ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّ وَسْوَسَتْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى حَدَّثَتْ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا، وَالضَّمُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ) وَيَأْتِي فِي النُّذُورِ بِلَفْظِ: مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَمَّا يَقَعُ فِي النَّفْسِ حَتَّى يَقَعَ الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، أَوِ الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِالْوَسْوَسَةِ تَرَدُّدُ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّوَطُّنِ فَكَذَلِكَ الْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَا تَوَطُّنَ لَهُمَا، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي آخِرِهِ: وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَأَظُنُّهَا مُدْرَجَةً مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، دَخَلَ عَلَى هِشَامٍ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ. قِيلَ: لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالتَّرْجَمَةِ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ فِي النِّسْيَانِ، وَالْحَدِيثَ فِي حَدِيثِ النَّفْسِ، وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى إِلْحَاقِ النِّسْيَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْوَسْوَسَةِ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ لَا اسْتِقْرَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ شَغْلَ الْبَالِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمِنْ ثَمَّ رَتَّبَ عَلَى مَنْ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْغُفْرَانِ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْعِتْقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلَمْ نَرَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو مَسْعُودٍ وَلَا الطَّوْقِيُّ وَلَا ابْنُ عَسَاكِرَ، وَلَا اسْتَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى) كَذَا أَخْرَجَهُ بِحَذْفِ إِنَّمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى.

قَوْلُهُ: (إِلَى دُنْيَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِدُنْيَا، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةٌ مِنْهُ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 161

‌7 - بَاب إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ، وَالْإِشْهَادِ فِي الْعِتْقِ

2530 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ وَمَعَهُ غُلَامُهُ ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ قَدْ أَتَاكَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ: فَهُوَ حِينَ يَقُولُ:

يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا

عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ

[الحديث 2530 - أطرافه في: 2531، 3532، 4393]

2531 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:

يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا

عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ

قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَأَعْتَقْتُهُ"

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ "حُرٌّ"

2532 -

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: "لَمَّا أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَمَعَهُ غُلَامُهُ - وَهُوَ يَطْلُبُ الإِسْلَامَ فَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ - بِهَذَا وَقَالَ - أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ لِلَّهِ"

قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا قَالَ) أَيِ الشَّخْصُ (لِعَبْدِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ. (هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ) أَيْ صَحَّ.

قَوْلُهُ: (وَالْإِشْهَادُ فِي الْعِتْقِ) قِيلَ هُوَ بِجَرِّ الْإِشْهَادِ، أَيْ وَبَابُ الْإِشْهَادِ فِي الْعِتْقِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ مُنَوَّنًا احْتَاجَ إِلَى خَبَرٍ، وَإِلَّا لَزِمَ حَذْفُ التَّنْوِينِ مِنَ الْأَوَّلِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يُقْرَأَ وَالْإِشْهَادُ بِالضَّمِّ فَيَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَابٌ لَا عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَبَابٌ بِالتَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَحُكْمُ الْإِشْهَادِ فِي الْعِتْقِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ فِي الْعِتْقِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمُعْتِقِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَمَّ الْعِتْقُ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ.

قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى تَقْيِيدِ مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ لِلَّهِ، فَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا: هُوَ حُرٌّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا نَوَى الْعِتْقَ، وَإِلَّا فَلَوْ قَصَدَ أَنَّهُ لِلَّهِ بِمَعْنًى الْعِتْقِ لَمْ يَعْتِقْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٍ، وهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَرِجَالُهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ

ص: 162

الْإِسْلَامَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ غُلَامُهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ) أَيْ ضَاعَ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ حِينَ يَقُولُ) أَيِ الْوَقْتُ الَّذِي وَصَلَ فِيهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ) أَيْ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنِ الشِّعْرَ مِنْ نَظْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى غُلَامِهِ. حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، وَحَكَى الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مُقَدَّمِ بْنِ حَجَّاجٍ السُّوَانيِّ أَنَّ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ لِأَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ فِي قِصَّةٍ لَهُ، فَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ تَمَثَّلَ بِهِ.

قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ (يَا لَيْلَةً) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ فَاءٍ أَوْ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ لِيَصِيرَ مَوْزُونًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا يُسَمَّى فِي الْعَرُوضِ الْخَرْمَ بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْ أَوَّلِ الْجُزْءِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَمَا جَازَ حَذْفُهُ لَا يُقَالُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنَائِهَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالنُّونِ وَالْمَدِّ أَيْ تَعَبهَا، وَ (دَارَةِ الْكُفْرِ) الدَّارَةُ أَخَصُّ مِنَ الدَّارِ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَلَا سِيَّمَا يَوْمًا بِدَارَةِ جُلْجُلِ.

يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا

عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ

قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فبَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ. فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَأَعْتَقْتُهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: حُرٌّ.

قَوْلُهُ في الطريق الثانية (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ أَبُو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَأَبُو سَعِيدٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ مُكَبَّرٌ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ وَخَلَفٌ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ هُنَا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعُبَيْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ مِمَّنْ يَرْوِي فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبَقَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّاعِ كَسْرَهَا.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْتَقَهُ) أَيْ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْفَاءُ هِيَ التَّفْسِيرِيَّةُ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حُرٌّ) وَصَلَهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَهُوَ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: هُوَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْتِقْهُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ لَيْسَ فِيهِ حُرٌّ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ أَثْبَتَ قَوْلَهُ حُرٌّ فِي أَحَدِهِمَا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْبُخَارِيِّ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَهُوَ خَطَأٌ مِمَّنْ ذَكَرَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِتَصْرِيحِهِ بِنَفْيِهِ عَنْ شَيْخِهِ بِعَيْنِهِ.

قَوْلُهُ في الطريق الأخيرة (فَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ) بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَصْلُهُ مِنْ صَاحِبِهِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَلَوْ كَانَتْ أَضَلَّ مُعَدَّاةً بِالْهَمْزِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْعِتْقِ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَرَضِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الشِّعْرِ وَإِنْشَادِهِ وَالتَّمَثُّلِ بِهِ وَالتَّأَلُّمِ مِنَ النَّصَبِ وَالسَّهَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

‌8 - بَاب أُمِّ الْوَلَدِ

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا.

2533 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كان عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ

ص: 163

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِي ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ. مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ أُمِّ الْوَلَدِ) أَيْ هَلْ يُحْكَمُ بِعِتْقِهَا أَمْ لَا؟ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يُفْصِحُ بِالْحُكْمِ عِنْدَهُ، وَأَظُنُّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْخَلَفِ عَلَى الْمَنْعِ حَتَّى وَافَقَ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شُذُوذٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ السَّيِّدُ أَوِ الْمَالِكُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا عَدَمِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهِ إِمَامَانِ جَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْآخَرُ عَلَى مَنْعِهِ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ فَقَالَ: ظَاهِرُ قَوْلُهُ: رَبَّهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَيِّدُهَا لِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْ سَيِّدِهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ سَيِّدِهَا لِمَصِيرِ مَآلِ الْإِنْسَانِ إِلَى وَلَدِهِ غَالِبًا، وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَوْلَادَ مِنَ الْإِمَاءِ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا، وَالْحَدِيثُ مَسُوقٌ لِلْعَلَامَاتِ الَّتِي قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَدَلَّ عَلَى حُدُوثِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ التَّسَرِّي.

قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجَهْلَ يَغْلِبُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ فَيَكْثُرَ تَرْدَادُ الْأَمَةِ فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيَهَا وَلَدُهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي وَحُكْمُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ زَمْعَةَ بِأَنَّهُ أَخُوهُ، فَإِنَّ فِيهِ ثُبُوتَ أُمِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُرِّيَّتِهَا وَلَا لِإِرْقَاقِهَا، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْمُنِيرِ أَجَابَ بِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِرَاشًا فَسَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَفَادَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي آخِرِ الْبَابِ مَا نَصُّهُ فَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ وَلَدِ زَمْعَةَ أَمَةً وَوَلِيدَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَتِيقَةً اهـ. فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مَيْلٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ أَحَدَ التَّأولَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ لَمْ تَكُنْ عَتِيقَةً مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ مَنْ يَحْتَجُّ بِعِتْقِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ حُجَّةً، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ تَقْرِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ عَلَى قَوْلِهِ: أَمَةُ أَبِي يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِمَّا قَالَ أنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَزَمْعَةُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَمِينٍ فَيَكُونُ مَا فِي يَدِهِ فِي حُكْمِ الْأَحْرَارِ. قَالَ: وَلَعَلَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَقُولُ: إِنَّ الْوَلَدَ فِي الْأَمَةِ لِلْفِرَاشِ، فَلَا يُلْحِقُونَهُ بِالسَّيِّدِ، إِلَّا إِنْ أَقَرَّ بِهِ، وَيَخُصُّونَ الْفِرَاشَ بِالْحُرَّةِ، فَإِذَا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ قَالُوا: مَا كَانَتْ أَمَةً بَلْ كَانَتْ حُرَّةً، فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى رَدِّ حُجَّتِهِمْ هَذِهِ بِمَا ذَكَرَهُ.

وَتَعَلَّقَ الْأَئِمَّةُ بِأَحَادِيثَ أَصَحُّهَا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا:

ص: 164

حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي سُؤَالِهِمْ عَنِ الْعَزْلِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ فَقَالَ: بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَسَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوَصَايَا، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدًا وَلَا أَمَةً الْحَدِيثَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُصِيبُ سَبَايَا فَنُحِبُّ الْأَثْمَانَ، فَكَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ كَمَا مَضَى فِي بَابِ بَيْعِ الرَّقِيقِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ ; قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَوْلَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِعَزْلِهِمْ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ الْأَثْمَانِ فَائِدَةٌ.

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَكَانَ مِنَّا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ أَهْلًا، وَمِنَّا مَنْ يُرِيدُ الْبَيْعَ، فَتَرَاجَعْنَا فِي الْعَزْلِ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَعْزِلَ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ حَمْلِهِنَّ وَبَيْنَ اسْتِمْرَارِ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ، فَلَعَلَّهُمْ أَحَبُّوا تَعْجِيلَ الْفِدَاءِ وَأَخْذَ الثَّمَنِ، فَلَوْ حَمَلَتِ الْمَسْبِيَّةُ لَتَأَخَّرَ بَيْعُهَا إِلَى وَضْعِهَا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ مَارِيَةَ أُمَّ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ قَدْ عَاشَتْ بَعْدَهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنِ الْوَصْفِ بِالرِّقِّ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَمَةً، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِثْلُهُ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَمَةِ، وَفِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ وَقْفَةٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَجَّزَ عِتْقَهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَضَعِيفَةٌ، وَيُعَارِضُهَا حَدِيثُ جَابِرٍ كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَّنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَفِي لَفْظٍ بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ جَرَى عَمَلُ الشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَلَمْ يَسْتَنِدِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ إِلَّا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ.

قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَهَى عَنْهُ فَانْتَهَوْا صَارَ إِجْمَاعًا، يَعْنِي فَلَا عِبْرَةَ بِنُدُورِ الْمُخَالِفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَعْرِفَةُ سَنَدِ الْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: (أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ) سَعْدٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَابْنَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، وَقَوْلُهُ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ بِرَفْعِ عَبْدٍ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ، وَكَذَا ابْنٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ.

(تَنْبِيهَانِ) أَحَدُهُمَا: وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُصَنِّفَ: سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ وَلَدِ زَمْعَةَ أَمَةً وَوَلِيدَةً فَلَمْ تَكُنْ عَتِيقَةً لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ مَنْ يَحْتَجُّ بِعِتْقِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ حُجَّةً. الثَّانِي: ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ عَقِبَ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ: وَقَالَ الليث عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، نَعَمْ ذَكَرَ هَذَا التَّعْلِيقَ فِي بَابِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي مَقْرُونًا بِطَرِيقِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ

2534 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَبَاعَهُ، قَالَ جَابِرٌ: مَاتَ الْغُلَامُ عَامَ أَوَّلَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ) أَيْ جَوَازِهِ، أَوْ مَا حُكْمُهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِعَيْنِهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَأَوْرَدَ

ص: 165

هُنَا حَدِيثَ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ) لَمْ يَقَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسَمًّى فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ فَفِيهِ التَّعْرِيفُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، وَكَذَا الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ وَحَالَفَ الْأَنْصَارَ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَذَفَ الْمَفْعُولَ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةِ فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ أَيِ الْغُلَامَ.

قَوْلُهُ: (فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ كَمَا مَضَى فِي الِاسْتِقْرَاضِ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ، وَالنَّحَّامُ بِالنُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ عِنْدَ الْجُمْهورِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ، وَمَنَعَهُ الصَّغَانِيُّ، وَهُوَ لَقَبُ نُعَيْمٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَقَبُ أَبِيهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا نَحْمَةً مِنْ نُعَيْمٍ اهـ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَعِيَاضٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا تُرَدُّ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ هَذَا، فَلَعَلَّ أَبَاهُ أَيْضًا كَانَ يُقَالُ لَهُ النَّحَّامُ. وَالنَّحْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ: الصَّوْتُ. وَقِيلَ: السَّعْلَةُ. وَقِيلَ: النَّحْنَحَةُ. وَنُعَيْمٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبِيدِ بْنِ عَوِيجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأَسِيدٌ، وَعَبِيدٌ، وَعَوِيجٌ فِي نَسَبِهِ مَفْتُوحٌ أَوَّلُ كُلٍّ مِنْهَا، قُرَشِيٌّ عَدَوِيٌّ أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ فَسَأَلَهُ بَنُو عَدِيٍّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَيِّ دِينٍ شَاءَ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمْ فَفَعَلَ، ثُمَّ هَاجَرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاسْتُشْهِدَ فِي فَتُوحِ الشَّامِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ. وَرَوَى الْحَارِثُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ صَالِحًا، وَكَانَ اسْمُهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ نُعَيْمًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ جَابِرٌ مَاتَ الْغُلَامُ عَامَ أَوَّلَ) يَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مِنَ الْبُيُوعِ نَقْلُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَأَنَّ الْجَوَازَ مُطْلَقًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ مُقَابِلَهُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا تَخْصِيصُ الْمَنْعِ بِمَنْ دَبَّرَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا قَيَّدَهُ - كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَفُلَانٌ حُرٌّ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهَا كَالْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ يَمْتَنِعُ بَيْعُ الْمُدَبَّرَةِ دُونَ الْمُدَبَّرِ، وَعَنِ اللَّيْثِ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقَهُ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا مِنْ نَفْسِهِ، وَمَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى تَقْيِيدِ الْجَوَازِ بِالْحَاجَةِ فَقَالَ: مَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ مُطْلَقًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ يُنَاقِضُهُ الْجَوَازُ الْجُزْئِيُّ. وَمَنْ أَجَازَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ بِالْحَدِيثِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ.

وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ مُطْلَقًا بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ مُحْتَاجًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي الْمُبَادَرَةِ لِبَيْعِهِ لِيَتَبَيَّنَ لِلسَّيِّدِ جَوَازُ الْبَيْعِ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ لَكَانَ عَدَمُ الْبَيْعِ أَوْلَى. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَ خِدْمَتَهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَبِأَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَا يَقُولُونَ بِجَوَازِ بَيْعِ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ طُرُقُ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ غُلَامًا لَهُ فَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَعَلَّهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِرَارًا لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: فَمَاتَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ

ص: 166

أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْحُمَيْدِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَجَّهَ الْبَيْهَقِيُّ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ بِأَنَّ أَصْلَهَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثٌ فَمَاتَ، فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ مِنْ نُعَيْمٍ كَذَلِكَ رَوَاهُ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَوْلُهُ فَمَاتَ مِنْ بَقِيَّةِ الشَّرْطِ، أَيْ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدَثِ، وَلَيْسَ إِخْبَارًا عَنْ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَاتَ، فَحَذَفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَهُ: إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ فَوَقَعَ الْغَلَطُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌10 - بَاب بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ

2535 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ عبد الله بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.

[الحديث 2535 - طرفه في: 6756]

2536 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ. فَأَعْتَقْتُهَا فَدَعَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا ثَبَتُّ عِنْدَهُ. فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ) أَيْ حُكْمُهُ، وَالْوَلَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ: حَقُّ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ مِنَ الْمُعْتَقِ بِالْفَتْحِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَشْهُورَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ تَوْجِيهِ عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ مِنْ دَلَالَةِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ.

وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَهُوَ إِنْ كَانَ لَمْ يَسُقْهُ هُنَا بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ كَعَادَتِهِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ حَصْرُهُ فِي الْمُعْتِقِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمَّا كَانَ الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ كَمَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ثَبَتَ لَهُ نَسَبُهُ ; فَلَوْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ نَسَبُهُ عَنْ وَالِدِهِ، وَكَذَا إِذَا أَرَادَ نَقْلَ وَلَائِهِ عَنْ مَحَلِّهِ لَمْ يَنْتَقِلْ.

‌11 - بَاب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا.

وَكَانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ من تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ وَعَمِّهِ عَبَّاسٍ.

2537 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ رضي الله عنه: أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ

ص: 167

لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: لَا تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا.

[الحديث 2537 - طرفاه في: 3048، 4018]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَ مُشْرِكًا) قِيلَ إِنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، وَاسْتَنْكَرَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: تَفَرَّدَ بِهِ حَمَّادٌ وَكَانَ يَشُكُّ فِي وَصْلِهِ، وَغَيْرُهُ يَرْوِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ مُنْقَطِعًا، أَخْرَجَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ أَيْضًا - إِلَّا أَبَا دَاوُدَ - مِنْ طَرِيقِ ضَمْرَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: خَطَأٌ.

وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ: دَخَلَ لِضَمْرَةَ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَإِنَّمَا رَوَى الثَّوْرِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، وَجَرَى الْحَاكِمُ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْنَادِ فَصَحَّحُوهُ، وَقَدْ أَخَذَ بِعُمُومِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَعْتِقُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى الْمَرْءِ إِلَّا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ، لَا لِهَذَا الدَّلِيلِ، بَلْ لِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَزَادَ الْإِخْوَةَ حَتَّى مِنَ الْأُمِّ، وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاسُ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَلِيٌّ) أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ وَمِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ) هُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاقَهُ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ، أَيْ فَلَوْ كَانَ الْأَخُ وَنَحْوُهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ لَعَتَقَ الْعَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ عَلَى عَلِيٍّ فِي حِصَّتِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْلَكُ بِالْغَنِيمَةِ ابْتِدَاءً، بَلْ يَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ، فَالْغَنِيمَةُ سَبَبٌ إِلَى الْمِلْكِ بِشَرْطِ اخْتِيَارِ الْإِرْقَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْغَنِيمَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النُّكْتَةُ فِي إِطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ التَّرْجَمَةَ، وَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَلَا يَعْتِقُ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وُقُوفًا عِنْدَ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (إنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَعْرِفْ أَسْمَاءَهُمُ الْآنَ.

قَوْلُهُ: (لِابْنِ أُخْتِنَا) بِالْمُثَنَّاةِ (عَبَّاسٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَخْوَالُ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّ أُمَّ الْعَبَّاسِ هِيَ نُتَيْلَةُ بِالنُّونِ وَالْمُثَنَّاةِ مُصَغَّرَةٌ بِنْتُ جِنَانٍ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، وَلَيْسَتْ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهَا سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ أُحَيْحَةَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ وَهِيَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَمِثْلُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَى أَخْوَالِهِ بَنِي النَّجَّارِ، وَأَخْوَالُهُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُمْ بَنُو زُهْرَةَ. وَبَنُو النَّجَّارِ أَخْوَالُ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: صَحَّفَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ لِجَهْلِهِ بِالنَّسَبِ فَقَالَ: ابْنِ أَخِينَا بِكَسْرِ الْخَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَلَيْسَ هُوَ ابْنَ أَخِيهِمْ، إِذْ لَا نَسَبَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا: ابْنِ أُخْتِنَا لِتَكُونَ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ فِي إِطْلَاقِهِ بِخِلَافِهِ مَا لَوْ قَالُوا: عَمُّكَ لَكَانَتِ الْمِنَّةُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مِنْ قُوَّةِ الذَّكَاءِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِجَابَتِهِمْ لِئَلَّا يَكُونَ فِي الدِّينِ نَوْعُ مُحَابَاةٍ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِهِ هُنَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَرَابَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي هَذَا لَا يَخْتَلِفُ مِنْ حُكْمِ الْقَرَابَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 168

‌12 - بَاب عِتْقِ الْمُشْرِكِ

2538 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ. قَالَ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا - يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا - قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عِتْقِ الْمُشْرِكِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَعَلَى الثَّانِي جَرَى ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ عِتْقِ الْمُشْرِكِ تَطَوُّعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِتْقِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ فِي قِصَّةِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ حُجَّةٌ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَكِيمًا لَمَّا أَعْتَقَ وَهُوَ كَافِرٌ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْأَجْرُ إِلَّا بِإِسْلَامِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِدُونِهِ بَلْ أَوْلَى اهـ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا أَعْتَقَ مُسْلِمًا نَفَذَ عِتْقُهُ وَكَذَا إِذَا أَعْتَقَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صِحَّةُ التَّقَرُّبِ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْتَفَعَ بِهِ إِذَا أَسْلَمَ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّدَرُّبِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُجَاهَدَةٍ جَدِيدَةٍ، فَيُثَابُ بِفَضْلِ اللَّهِ عَمَّا تَقَدَّمَ بِوَاسِطَةِ انْتِفَاعِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمْتُ لِذَلِكَ أَجْوِبَةً أُخْرَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ) ظَاهِرُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ لِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ ذَلِكَ، لَكِنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ أَوْضَحَتِ الْوَصْلَ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَالَ: فَسَأَلْتُ فَفَاعِلُ قَالَ هُوَ حَكِيمٌ، فَكَأَنَّ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَ حَكِيمٌ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَنْ حَكِيمٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمٍ.

قَوْلُهُ: (أَتَبَرَّرُ بِهَا) بِالْمُوَحَّدَةِ وَرَاءَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ، أَيْ أَطْلُبُ بِهَا الْبِرَّ وَطَرْحَ الْحِنْثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ضَبْطِهِ فِي الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ: يَعْنِي أَتَبَرَّرُ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ رَاوِيهِ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَقَصَّرَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ تَفْسِيرُ الْبُخَارِيِّ.

‌13 - بَاب مَنْ مَلَكَ مِنْ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}

2539، 2540 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْمَالَ وَإِمَّا السَّبْيَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ،

ص: 169

فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ. فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا لَكَ ذَلِكَ. قَالَ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا، فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَادَيْتُ عَقِيلًا.

2541 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: "كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ"

2542 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ"

2543 -

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ .. " وحَدَّثَنِي ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِمْ سَمِعْتُهُ: يَقُولُ هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ"

[الحديث 2543 - طرفه في: 4366]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا سُبِيَ جَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً بِشَرْطِهِ كَانَ وَلَدُهَا رَقِيقًا. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ تَقْوِيمَ الْوَلَدِ وَيُلْزَمُ أَبُوهُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَلَا يُسْتَرَقُّ الْوَلَدُ أَصْلًا، وَقَدْ جَنَحَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْجَوَازِ، وَأَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْهِبَةِ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْفِدَاءِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ سَبْيِ الذُّرِّيَّةِ،

ص: 170

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْجِمَاعِ وَمِنَ الْفِدْيَةِ أَيْضًا، وَيَتَضَمَّنُ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْبَيْعِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْبَيْعِ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ابْتَاعِي كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهِ عَجَمِيًّا فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا لِذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ خَاصَّةً. نَعَمْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي ذِكْرُهُ فِي الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ يَمْلِكُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فَقَالَ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَقَالَ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ: فَإِنَّ الْمَالَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِشَرْطٍ. قَالَ: وَحُجَّتُهُ فِي الْبَيْعِ حَدِيثُهُ عَنْ نَافِعٍ الْمَذْكُورُ وَهُوَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُ فِي الْعِتْقِ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ بِسَيِّدِهِ.

قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفَرَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ صُورَةَ إِحْسَانٍ إِلَيْهِ نَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْزِعَ مِنْهُ مَا بِيَدِهِ تَكْمِيلًا لِلْإِحْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَتِ الْمُكَاتَبَةُ وَسَاغَ لَهُ أَنْ يَكْتَسِبَ وَيُؤَدِّيَ إِلَى سَيِّدِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ تَسَلُّطًا عَلَى مَا بِيَدِهِ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ مَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْهُ شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَأَمَّا قِصَّةُ هَوَازِنَ فسَيَأْتِي شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: ذَكَرَ عُرْوَةُ سَيَأْتِي فِي الشُّرُوطِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ.

وَقَوْلُهُ: اسْتَأْنَيْتُ بِالْمُثَنَّاةِ قَبْلَ الْأَلِفِ الْمَهْمُوزَةِ السَّاكِنَةِ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ أَيِ انْتَظَرْتُ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَفِيءَ

(1)

بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ فَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ أَيْ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدِ الْفَيْءَ الِاصْطِلَاحِيَّ وَحْدَهُ.

وَأَمَّا قِصَّةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَوْلُهُ: أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ بَطْنٌ شَهِيرٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ الْمُصْطَلِقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُصْطَلِقَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ جَذِيمَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْغَزَاةِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ غَارُّونَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ جَمْعُ غَارٍّ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ غَافِلٍ، أَيْ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ) بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَ أَبُوهَا سَيِّدَ قَوْمِهِ وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ نَافِعًا اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَسْخِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ سَاقَهُ هُنَاكَ تَامًّا، وَقَوْلُهُ هُنَا: ابْنِ حَبَّانَ هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَرَاءٍ وَزَايٍ مُصَغَّرٌ، وَقَوْلُهُ: نَسَمَةٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْ: نَفْسٍ.

وأما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَيْخَيْنِ لَهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ جَرِيرٍ، لَكِنَّهُ فَرَّقَهُمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا زَادَ فِيهِ عَنْ جَرِيرٍ إِسْنَادًا آخَرَ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى

(1)

لفظ الرواية في المتن "من أول ما يفئ علينا" بضم أوله من "أفاء"

ص: 171

لَفْظِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، وَالْحَارِثُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَالْعُكْلِيِّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَغْفَلَهُ الْكَلَابَاذِيُّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ أَقْرَانِ الرَّاوِي عَنْهُ مُغِيرَةَ لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ غَيْرَ طَرَفَيْهِ الصَّحَابِيِّ وَشَيْخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ) أَيِ الْقَبِيلَةَ الْكَبِيرَةَ الْمَشْهُورَةَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ بِضَمِّ الْمِيمِ بِلَا هَاءٍ ابْنِ أُدٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ ابْنِ طَابِخَةَ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَمُعْجَمَةٍ ابْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ.

قَوْلُهُ: (مُنْذُ ثَلَاثٍ) أَيْ مِنْ حِينِ سَمِعْتُ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَا كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُمْ فَأَحْبَبْتُهُمْ اهـ، وَكَانَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ.

قَوْلُهُ: (هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ) فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قِتَالًا فِي الْمَلَاحِمِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَامُّ فِي ذَلِكَ عَلَى الْخَاصِّ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَلَاحِمِ أَكْبَرَهَا وَهُوَ قِتَالُ الدَّجَّالِ، أَوْ ذَكَرَ الدَّجَّالَ لِيَدْخُلَ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا) إِنَّمَا نَسَبَهُمْ إِلَيْهِ لِاجْتِمَاعِ نَسَبِهِمْ بِنَسَبِهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَعَمٍ مِنْ صَدَقَةِ بَنِي سَعْدٍ، فَلَمَّا رَاعَهُ حُسْنُهَا قَالَ: هَذِهِ صَدَقَةُ قَوْمِي اهـ، وَبَنُو سَعْدٍ بَطْنٌ كَبِيرٌ شَهِيرٌ مِنْ تَمِيمٍ، يُنْسَبُونَ إِلَى سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، مِنْ أَشْهَرِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ قَيْسُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ سِنَانِ بْنِ خَالِدٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ) أَيْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ بَطْنٌ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ جَرِيرٍ: وَكَانَتْ عَلَى عَائِشَةَ نَسَمَةٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَقَدِمَ سَبْيُ خَوْلَانَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْتَاعُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا. فَلَمَّا قَدِمَ سَبْيُ بَنِي الْعَنْبَرِ قَالَ: ابْتَاعِي فَإِنَّهُمْ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: وَجِيءَ بِسَبْيِ بَنِي الْعَنْبَرِ اهـ، وَبَنُو الْعَنْبَرِ بَطْنٌ شَهِيرٌ أَيْضًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُنْسَبُونَ إِلَى الْعَنْبَرِ - وَهُوَ بِلَفْظِ الطِّيبِ الْمَعْرُوفِ - ابْنُ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّحِيحَيْنِ سَبِيَّةٌ بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ مَفْتُوحَ الْأَوَّلِ مِنَ السَّبْيِ أَوْ مِنَ السَّبَا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، لَكِنْ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ جَرِيرٍ نَسَمَةٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْ نَفْسٌ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْمَرٍ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَتْ عَلَى عَائِشَةَ نَسَمَةٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ مُحَرَّرٌ وَبَيَّنَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ الْمَذْكُورَةِ الْمُرَادَ بِالَّذِي كَانَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ كَانَ نَذْرًا وَلَفْظُهُ نَذَرَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُعْتِقَ مُحَرَّرًا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَلَهُ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ دُرَيْحٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ مُصَغَّرًا ابْنُ ذُؤَيْبِ بْنِ شُعْثُمٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ الْعَنْبَرِيُّ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ عَتِيقًا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اصْبِرِي حَتَّى يَجِيءَ فَيْءُ بَنِي الْعَنْبَرِ غَدًا، فَجَاءَ فَيْءُ بَنِي الْعَنْبَرِ فَقَالَ لَهَا: خُذِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةً، فَأَخَذَتْ رُدَيْحًا، وَزُبَيْبًا، وَزُخَيًّا، وَسَمُرَةَ اهـ.

فَأَمَّا رُدَيْحٌ فَهُوَ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا زُبَيْبٌ فَهُوَ بِالزَّايِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ أَيْضًا - وَضَبَطَهُ الْعَسْكَرِيُّ بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ - وَهُوَ ابْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَزُخَيٌّ بِالزَّايِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ أَيْضًا، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَوْنٍ بِالرَّاءِ أَوَّلَهُ، وَسَمُرَةُ وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ قُرْطٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: فَمَسَحَ النَّبِيُّ رُءُوسَهُمْ وَبَرَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ هَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ قَصْدًا اهـ.

وَالَّذِي تَعَيَّنَ لِعِتْقِ عَائِشَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ إِمَّا

ص: 172

رُدَيْحٌ وَإِمَّا زُخَيٌّ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْبِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، وَفِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ فَأَخَذُوهُمْ بِرُكْبَةٍ مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ فَاسْتَاقُوهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُكْبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ وَهِيَ غَيْرُ رَكُوبَةِ الثَّنِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ سَرِيَّةَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ هَذِهِ كَانَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَأَنَّهُ سَبَى إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ فِي حِصَّةِ تَمَلُّكِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ عِتْقَ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: مِنَ الْعَارِ أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَبِنْتَ عَمِّهِ حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَفْصِيلٍ، فَلَوْ كَانَ الْعَرَبِيُّ مَثَلًا مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ عليها السلام وَتَزَوَّجَ أَمَةً بِشَرْطِهِ لَاسْتَبْعَدْنَا اسْتِرْقَاقَ وَلَدِهِ، قَالَ: وَإِذَا أَفَادَ كَوْنُ الْمَسْبِيِّ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ إِعْتَاقِهِ، فَالَّذِي بِالْمَثَابَةِ الَّتِي فَرَضْنَاهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ حُرِّيَّتِهِ حَتْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِبَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ فِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالرُّؤَسَاءِ. وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَائِنَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ نَسَبَ جَمِيعَ الْيَمَنِ إِلَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِتَفْرِقَتِهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَوْلَانَ وَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ وَبَيْنَ بَنِي الْعَنْبَرِ وَهُمْ مِنْ مُضَرَ، وَالْمَشْهُورُ فِي خَوْلَانَ أَنَّهُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ وَلَدِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ:، خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌14 - بَاب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَ

2544 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَلَمهَا فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ) سَقَطَ لَفْظُ فَضْلِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَزَادَ النَّسَفِيُّ وَأَعْتَقَهَا، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمُطَرِّفٌ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، كُوفِيٌّ مَشْهُورٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَعَلَّمَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ فَعَالَهَا.

‌15 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: {ذِي الْقُرْبَى} الْقَرِيبُ، وَالْجُنُبُ: الْغَرِيبُ.

2545 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ قَالَ: سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ بْنَ سُويْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ

ص: 173

رَجُلًا فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ) لَفْظُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لِابْنِ مَنْدَهْ بِلَفْظِ: إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، فَمَنْ لَإيَمَكُمْ مِنْهُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَكْتَسُونَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُوَرِّقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: مَنْ لَإيَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سَلَامِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا قَالَ: أَرِقَّاؤُكُمْ إِخْوَانُكُمُ الْحَدِيثَ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوصِي بِالْمَمْلُوكِينَ خَيْرًا، وَيَقُولُ: أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ.

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ - بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ - وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ رَفَعَهُ: أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ. وَفِيهِ قِصَّتُهُ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مُخْتَالا فَخُورًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ذِي الْقُرْبَى: الْقَرِيبُ، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الْغَرِيبُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَقَدْ خُولِفَ فِي الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، فَقِيلَ: هُوَ الْمَرْأَةُ، وَقِيلَ: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَدَخَلُوا فِيمَنْ أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لِعَطْفِهِمْ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ) هُوَ ابْنُ حَيَّانَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الثَّقِيلَةِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَالْمَعْرُورُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كُوفِيٌّ أَيْضًا، يُكَنَّى أَبَا أُمَيَّةَ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، يُقَالُ: عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَتَسْمِيَةُ الرَّجُلِ الَّذِي سَابَّهُ أَبُو ذَرٍّ وَالْكَلَامُ عَلَى الْحُلَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ) كَذَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِزِيَادَةِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ وَالِاخْتِصَارُ فِيهِ مِنْ آدَمَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ آدَمَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُعْبَةُ اخْتَصَرَهُ لَهُ لَمَّا حَدَّثَهُ بِهِ. وَالْخَوَلُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ هُمُ الْخَدَمُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَخَوَّلُونَ الْأُمُورَ أَيْ يُصْلِحُونَهَا، وَمِنْهُ الْخَوْلِيُّ لِمَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِ الْبُسْتَانِ، وَيُقَالُ الْخَوَلُ جَمْعُ خَائِلٍ وَهُوَ الرَّاعِي، وَقِيلَ: التَّخْوِيلُ التَّمْلِيكُ تَقُولُ خَوَّلَكَ اللَّهُ كَذَا أَيْ مَلَّكَكَ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ: عَيَّرْتَهُ أَيْ نَسَبْتَهُ إِلَى الْعَارِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِأُمِّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَإِنَّمَا يُقَالُ عَيَّرْتَهُ أُمَّهُ، وَمِثْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ،

وَالْعَارُ الْعَيْبُ، وَفِي تَقْدِيمِ لَفْظِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى خَوَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْأُخُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: تَحْتَ أَيْدِيكُمْ مَجَازٌ عَنِ الْقُدْرَةِ أَوِ الْمِلْكِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ) أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا يَأْكُلُ لِلتَّبْعِيضِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ: فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً، فَالْمُرَادُ الْمُوَاسَاةُ لَا الْمُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. لَكِنْ مَنْ أَخَذَ بِالْأَكْمَلِ كَأَبِي ذَرٍّ فَعَلَ الْمُسَاوَاةَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، فَلَا يَسْتَأْثِرُ الْمَرْءُ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ وَهُوَ يَقْتَضِي الرَّدَّ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ،

ص: 174

عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: كَانُوا يَوْمَئِذٍ لَيْسَ لَهُمْ هَذَا الْقُوتُ وَاسْتَحْسَنَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ حَمْلَ الْأَمْرِ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ) أَيْ عَمَلَ مَا تَصِيرُ قُدْرَتُهُمْ فِيهِ مَغْلُوبَةً، أَيْ مَا يَعْجَزُونَ عَنْهُ لِعِظَمِهِ أَوْ صُعُوبَتِهِ، وَالتَّكْلِيفُ تَحْمِيلُ النَّفْسِ شَيْئًا مَعَهُ كُلْفَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَمْرُ بِمَا يَشُقُّ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ) أَيْ مَا يَغْلِبُهُمْ، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ جِنْسَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُهُ وَحْدَهُ وَإِلَّا فَلْيُعِنْهُ بِغَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرَّقِيقِ وَتَعْيِيرِهِمْ بِمَنْ وَلَدَهُمْ، وَالْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَيَلْتَحِقُ بِالرَّقِيقِ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَجِيرٍ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ عَدَمُ التَّرَفُّعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالِاحْتِقَارِ لَهُ. وَفِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِطْلَاقُ الْأَخِ عَلَى الرَّقِيقِ، فَإِنْ أُرِيدَ الْقَرَابَةُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِنِسْبَةِ الْكُلِّ إِلَى آدَمَ، أَوِ الْمُرَادُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ الْعَبْدُ الْكَافِرُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، أَوْ يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالْمُؤْمِنِ.

‌16 - بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ

2546 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ.

[الحديث 2546 - طرفه في: 2550]

2547 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ"

2548 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَاحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ"

2549 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ مَا لِأَحَدِهِمْ يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ"

قَوْلُهُ (بَابُ الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ) أَيْ بَيَانِ فَضْلِهِ أَوْ ثَوَابِهِ. أَوْرَدَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُصَرِّحُ بِأَنَّ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْرَيْنِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مِثْلُهُ وَزِيَادَةُ ذِكْرِ مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَلَّمَهَا وَأَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، فَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا مُؤْمِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ، وَاسْمُ الصَّلَاحِ يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطَيْنِ، وَهُمَا: إِحْسَانُ الْعِبَادَةِ، وَالنُّصْحُ لِلسَّيِّدِ، وَنَصِيحَةُ السَّيِّدِ تَشْمَلُ أَدَاءَ حَقِّهِ مِنَ الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِلَفْظِ: وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ. رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: نِعْمَ مَا لِأَحَدِهِمْ؛ يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ

ص: 175

مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ عَزْوُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَالِثَ أَحَادِيثِ الْبَابِ لِأَبِي مُوسَى، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ رَفْعُ هَذِهِ الْجُمَلِ إِلَى آخِرِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: لِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَصْفِيَاءَهُ بِالرِّقِّ كَمَا امْتَحَنَ يُوسُفَ اهـ.

وَجَزَمَ الدَّاوُدِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَوْلُهُ: وَبِرُّ أُمِّي فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ أُمٌّ يَبَرُّهَا، وَوَجَّهَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ: أَرَادَ بِذَلِكَ تَعْلِيمَ أُمَّتِهِ، أَوْ أَوْرَدَهُ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ حَيَاتِهَا، أَوِ الْمُرَادُ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ اهـ.

وَفَاتَهُ التَّنْصِيصُ عَلَى إِدْرَاجِ ذَلِكَ، فَقَدْ فَصَّلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَلَفْظُهُ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ .. إِلَخْ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَبِي صَفْوَانَ الْأُمَوِيِّ، وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى اللَّخْمِيِّ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، كُلُّهُمْ عَنْ يُونُسَ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: قَالَ - يَعْنِي الزُّهْرِيَّ - وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُ يَقُولُ: لَوْلَا أَمْرَانِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا، وَذَلِكَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ عَبْدًا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ إِلَّا وَفَّاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ. فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ مِنِ اسْتِنْبَاطِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لَهُ بِالْمَرْفُوعِ ; وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْحَجَّ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا إِذْنُ السَّيِّدِ، وَكَذَلِكَ بِرُّ الْأُمِّ فَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ السَّيِّدِ فِي بَعْضِ وُجُوهِهِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ إِمَّا لِكَوْنِهِ كَانَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَيُمْكِنُهُ صَرْفُهُ فِي الْقُرُبَاتِ بِدُونِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ.

(فَائِدَةٌ): اسْمُ أُمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ أُمَيْمَةُ بِالتَّصْغِيرِ، وَقِيلَ: مَيْمُونَةُ، وَهِيَ صَحَابِيَّةٌ ذُكِرَ إِسْلَامُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبَيَانُ اسْمِهَا فِي ذَيْلِ الْمَعْرِفَةِ لِأَبِي مُوسَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ وَاجِبَانِ؛ طَاعَةُ رَبّهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَطَاعَةُ سَيِّدِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، فَقَامَ بِهِمَا جَمِيعًا، كَانَ لَهُ ضِعْفُ أَجْرِ الْحُرِّ الْمُطِيعِ لِطَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَاوَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَفَضَلَ عَلَيْهِ بِطَاعَةِ مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ.

قَالَ: وَمِنْ هُنَا أَقُولُ: إِنَّ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ فَأَدَّاهُمَا أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا فَرْضٌ وَاحِدٌ فَأَدَّاهُ، كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَزَكَاةٌ فَقَامَ بِهِمَا، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَقَطْ، وَمُقْتَضَاهُ: أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فُرُوضٌ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا شَيْئًا كَانَ عِصْيَانُهُ أَكْثَرَ مِنْ عِصْيَانِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْضُهَا اهـ مُلَخَّصًا.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَزِيدَ الْفَضْلِ لِلْعَبْدِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَشَقَّةِ الرِّقِّ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْعَمَلِ لَمْ يَخْتَصَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ يُضَاعَفُ لَهُ، قَالَ: وَقِيلَ سَبَبُ التَّضْعِيفِ أَنَّهُ زَادَ لِسَيِّدِهِ نُصْحًا وَفِي عِبَادَةِ رَبِّهِ إِحْسَانًا، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ الْوَاجِبَيْنِ وَأَجْرُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا. قَالَ: وَالظَّاهِرُ خِلَافُ هَذَا، وَأَنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ ظان أَنَّهُ غَيْرُ مَأْجُورٍ عَلَى الْعِبَادَةِ اهـ.

وَمَا ادَّعَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ لَا يُنَافِي مَا نَقَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ الْمَمَالِيكِ ضِعْفُ أَجْرِ السَّادَاتِ. أَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ أَوْ يَكُونَ أَجْرُهُ مُضَاعَفًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ جِهَاتٌ أُخْرَى يَسْتَحِقُّ بِهَا أَضْعَافَ أَجْرِ الْعَبْدِ، أَوِ الْمُرَادُ تَرْجِيحُ الْعَبْدِ الْمُؤَدِّي لِلْحَقَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُؤَدِّي لِأَحَدِهِمَا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ مُخْتَصًّا بِالْعَمَلِ الَّذِي يَتَّحِدُ

ص: 176

فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ السَّيِّدِ فَيَعْمَلُ عَمَلًا وَاحِدًا وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَجْرَيْنِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُخْتَلِفُ الْجِهَةِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا جِهَادَ عَلَيْهِ وَلَا حَجَّ فِي حَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (نَعِمَّا لِأَحَدِهِمْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِدْغَامِ الْمِيمِ فِي الْأُخْرَى، وَيَجُوزُ كَسْرُ النُّونِ، وَتُكْسَرُ النُّونُ وَتُفْتَحُ أَيْضًا مَعَ إِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَحْرِيكِ الْمِيمِ، فَتِلْكَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ فَالتَّقْدِيرُ نِعْمَ الشَّيْءُ. وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ نُعْمَى بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مَقْصُورٌ بِالتَّنْوِينِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَّجَهُ الْمَعْنَى إِنْ ثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَيِ الْقَابِسِيِّ نِعِمَّ مَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنَّمَا صَوَابُهُ إِدْغَامُهَا فِي مَا، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}

قَوْلُهُ: (يُحْسِنُ) هُوَ مُبَيِّنٌ لِلْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ فِي قَوْلِهِ: نِعِمَّ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ أَيْ: يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ.

‌17 - بَاب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ: عَبْدِي أَوْ أَمَتِي.

وَقَول اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وَقَالَ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} ، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وَقَالَ:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ.

{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} سَيِّدِكَ. وَمَنْ سَيِّدُكُمْ.

2550 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ.

2551 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ لَهُ أَجْرَانِ"

2552 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي"

2553 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وَأُعْتِقَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلَا فَقَدْ أعَتَقَ مِنْهُ ما عتق"

2554 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ

ص: 177

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"

2555، 2556 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ"

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ) أَيِ التَّرَفُّعِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ.

قَوْلُهُ (عَبْدِي أَوْ أَمَتِي) أَيْ وَكَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَلِذَلِكَ اسْتَشْهَدَ لِلْجَوَازِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَوَازِ، ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ، حَتَّى أَهْلُ الظَّاهِرِ، إِلَّا مَا سَنَذْكُرُهُ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ فِي لَفْظِ الرَّبِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَحُكْمُهُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَيَأْتِي تَامًّا فِي الْمَغَازِي مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ سَيِّدُكُمْ) سَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ قُلْنَا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ. قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَكَانَ عَمْرٌو يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يُولِمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَزَوَّجَ.

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَائِشَةَ فِي نَوَادِرِهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا وَزَادَ: قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ فِي ذَلِكَ:

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ

لِمَنْ قَالَ مِنَّا مَنْ تُسَمُّونَ سَيِّدَا

فَقَالُوا لَهُ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الَّتِي

نُبَخِّلُهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَا

فَسَوَّدَ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ لِجُودِهِ

وَحُقَّ لِعَمْرٍو بِالنَّدَى أَنْ يُسَوَّدَا

انْتَهَى. وَالْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ هُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ غَنْمٍ بِسُكُونِ النُّونِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ مَعَهُ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُرْمَى بِالنِّفَاقِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَعَاشَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، ابْنُ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ، ابْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ، وَذَكَرَ لَهُ قِصَّةً فِي صَنَمِهِ وَسَبَبِ إِسْلَامِهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ:

تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ

وَكَلْبٌ وَسَطَ بِئْرٍ فِي قَرْنِ

وَرَوَى أَحْمَدُ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُرَانِي أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَكَانَتْ عَرْجَاءَ. زَادَ عُمَرُ: فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ رحمه الله. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو

ص: 178

الشَّيْخِ فِي الْأَمْثَالِ وَالْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ فِي كِتَابِ الْجُودِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ قَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: سَيِّدُكُمْ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهُوَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، ابْنُ صَخْرٍ يَجْتَمِعُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فِي صَخْرٍ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تُحْمَلَ قِصَّةُ بِشْرٍ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ قَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَمَاتَ بِشْرٌ الْمَذْكُورُ بَعْدَ خَيْبَرَ، أَكَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّاةِ الَّتِي سُمَّ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.

وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْ إِطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَالْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ، وَالْإِذْنُ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَالِكِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُ بِهَذَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَاطِبَ أَحَدًا بِلَفْظِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ بِالسَّيِّدِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ تَقِيٍّ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا .. الْحَدِيثَ. وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ غَيْرَ هَذَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ.

حَدِيثَا ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى فِي الْعَبْدِ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْغَرَضُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْمُؤَلِّفِ فِيهِ لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ وَكَذَا حَكَاهُ الْجَيَّانِيُّ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ الذُّهْلِيُّ.

قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَكَلَامُ الطَّرْقِيِّ يُشِيرُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ .. إِلَخْ) هِيَ أَمْثِلَةٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ دُونَ غَيْرِهَا لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُخَاطَبَاتِ، وَيَجُوزُ فِي أَلِفِ اسْقِ الْوَصْلُ وَالْقَطْعُ. وَفِيهِ نَهْيُ الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِسَيِّدِهِ: رَبِّي، وكَذَلِكَ نَهْيُ غَيْرِهِ، فَلَا يَقُولُ لَهُ أَحَدٌ: رَبُّكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: اسْقِ رَبَّكَ فَيَضَعُ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِنَفْسِهِ، وَالسَّبَبُ فِي النَّهْيِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَالِكُ وَالْقَائِمُ بِالشَّيْءِ، فَلَا تُوجَدُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَبَبُ الْمَنْعِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَتَرْكِ الْإِشْرَاكِ مَعَهُ، فَكَرِهَ لَهُ الْمُضَاهَاةَ فِي الِاسْمِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي مَعْنَى الشِّرْكِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَأَمَّا مَا لَا تَعَبُّدَ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فَلَا يُكْرَهُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ الثَّوْبِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ: رَبٌّ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: إِلَهٌ اهـ.

وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى إِطْلَاقُ الرَّبِّ بِلَا إِضَافَةٍ، أَمَّا مَعَ الْإِضَافَةِ فَيَجُوزُ إِطْلَاقُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عليه السلام:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وَقَوْلِهِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَرُدُّ مَا فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ وَاتِّخَاذِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَادَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ ذِكْرِهَا فِي الْجُمْلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ) فِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِكِهِ سَيِّدِي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالسَّيِّدِ لِأَنَّ الرَّبَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي

ص: 179

السَّيِّدِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ إِذْ لَا الْتِبَاسَ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَلَيْسَ فِي الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ كَلَفْظِ الرَّبِّ، فَيَحْصُلُ الْفَرْقُ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّيِّدُ اللَّهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَطْلَقَهُ لِأَنَّ مَرْجِعَ السِّيَادَةِ إِلَى مَعْنَى الرِّيَاسَةِ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ وَالسِّيَاسَةِ لَهُ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ لِأَمْرِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الزَّوْجُ سَيِّدًا، قَالَ: وَأَمَّا الْمَوْلَى فَكَثِيرُ التَّصَرُّفِ فِي الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ وَلِيٍّ وَنَاصِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ السَّيِّدُ وَلَا الْمَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَّا فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ إِطْلَاقِ مَوْلَايَ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَحْوَهُ وَزَادَ: وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ مَوْلَايَ فَإِنَّ مَوْلَاكُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي، فَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَشِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا، وَقَالَ عِيَاضٌ: حَذْفُهَا أَصَحُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَشْهُورُ حَذْفُهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى التَّرْجِيحِ لِلتَّعَارُضِ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّارِيخِ انْتَهَى. وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ إِطْلَاقَ السَّيِّدِ أَسْهَلُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَوْلَى، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا الْأَسْفَلُ وَالْأَعْلَى، وَالسَّيِّدُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَعْلَى، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْمَوْلَى أَسْهَلَ وَأَقْرَبَ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلَفْظِ الْمَوْلَى إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِلَفْظِ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ رَبِّي وَرَبَّتِي، وَلَكِنْ لِيَقُلِ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَالْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي، فَإِنَّكُمُ الْمَمْلُوكُونَ وَالرَّبُّ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الْإِطْلَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ، وَيُؤَيِّدُ كَلَامَهُ حَدِيثُ ابْنِ الشِّخِّيرِ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصُ الْكَرَاهَةِ بِالنِّدَاءِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ يَا سَيِّدِي، وَلَا يُكْرَهُ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ. وَنَحْوُ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، فَأَرْشَدَ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمًا لَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ اسْتِعْمَالُهُ لِنَفْسِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْتِزَامِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ عز وجل، وَهُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَرْبُوبِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي) زَادَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ وَجَارِيَتِي، فأرشد صلى الله عليه وسلم إِلَى مَا يُؤَدِّي الْمَعْنَى مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْفَتَى وَالْغُلَامِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى مَحْضِ الْمِلْكِ كَدَلَالَةِ الْعَبْدِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْفَتَى فِي الْحُرِّ وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَاظُمِ لَا مَنْ أَرَادَ التَّعْرِيفَ. انْتَهَى. وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ بِدُونِ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا لِلْأَدَبِ فِي اللَّفْظِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ) وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَبْدِ، وَكَأَنَّ مُنَاسَبَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِعِتْقِ كُلِّهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا لَكَانَ بِذَلِكَ مُتَطَاوِلًا عَلَيْهِ.

الْخَامِسُ: حَدِيثُهُ (كُلُّكُمْ رَاعٍ) وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَحْكَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَاصِحًا لَهُ فِي خِدْمَتِهِ مُؤَدِّيًا لَهُ الْأَمَانَةَ نَاسَبَ أَنْ يُعِينَهُ وَلَا يَتَعَاظَمَ عَلَيْهِ.

السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ:(إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا) وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ الْأَمَةِ، وَأَنَّهَا إِذَا عَصَتْ تُؤَدَّبُ، فَإِنْ لَمْ تَنجِعْ وَإِلَّا بِيعَتْ،

ص: 180

وَكُلُّ ذَلِكَ مُبَايِنٌ لِلتَّعَاظُمِ عَلَيْهَا.

‌18 - بَاب إِذَا أتى أحدكم خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ

2557 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ.

[الحديث 2557 - طرفه في: 5460]

قَوْلُهُ (بَابُ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ بِطَعَامِهِ) أَيْ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ لِيَأْكُلَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) هُوَ الْجُمَحِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً) هَكَذَا أَوْرَدَهُ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ إِبَاحَةُ تَرْكِ إِجْلَاسِهِ مَعَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أُكْلَةً بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لُقْمَةً، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنْ شُعْبَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَ عِلَاجَهُ زَادَ فِي الْأَطْعِمَةِ: وَحَرَّهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَاضِي فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ.

‌19 - بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَنَسَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ

2558 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) أَيْ وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهُ، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

قَوْلُهُ: (وَنَسَبَ صلى الله عليه وسلم الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلسَّيِّدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَفِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَكَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَاعِيًا فِي مَالِ سَيِّدِهِ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَاشْتِغَالُهُ بِرِعَايَةِ مَالِ سَيِّدِهِ يَسْتَوْعِبُ أَحْوَالَهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا سِيقَ لِغَيْرِ قَصْدِ الْعُمُومِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ إِنَّمَا سِيقَ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالتَّخْوِيفِ بِكَوْنِهِ مَسْئُولًا وَمُحَاسَبًا، فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَوْنِهِ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَمْلِكُ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ كَوْنِهِ هَلْ يَمْلِكُ قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ) إِنَّمَا قَيَّدَ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إِلَى مَا سِوَاهُ غَالِبًا

ص: 181

إِلَّا بِإِذْنٍ خَاصٍّ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌20 - بَاب إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ

2559 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ فُلَانٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ) الْعَبْدَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَذِكْرُ الْعَبْدِ لَيْسَ قَيْدًا بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلِينَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حُكْمِ الرَّقِيقِ، كَذَا قَرَّرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَأَظُنُّ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ أبو ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ ; وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَكَأَنَّ أَبَا ثَابِتٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ فُلَانٍ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو ثَابِتٍ فَهُوَ مَوْصُولٌ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَفَاعِلُ قَالَ هُوَ ابْنُ وَهْبٍ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ لَفْظِ مَالِكٍ وَبِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْآخَرِ. وَكَانَ ابْنُ وَهْبٍ حَرِيصًا عَلَى تَمْيِيزِ ذَلِكَ. وَأَمَّا ابْنُ فُلَانٍ فَقَالَ الْمِزِّيُّ: يُقَالُ هُوَ ابْنُ سَمْعَانَ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمْعَانَ الْمَدَنِيَّ، وَهُوَ يُوهِمُ تَضْعِيفَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَهُ قَبْلَهُ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ أَيْضًا ; فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمُسْتَمْلِي: قَالَ أَبُو حَرْبٍ: الَّذِي قَالَ ابْنُ فُلَانٍ هُوَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ فُلَانٍ هُوَ ابْنُ سَمْعَانَ.

قُلْتُ: وَأَبُو حَرْبٍ هَذَا هُوَ بَيَانٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خِرَاشٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ لَكِنْ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ: ابْنُ فُلَانٍ: ابْنُ سَمْعَانَ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ كَنَّى عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ عَمْدًا لِضَعْفِهِ، وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ خَارِجَ الصَّحِيحِ نَسَبَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِمَا خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي ثَابِتٍ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ سَمْعَانَ وَقَالَ بَعْدَهُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي ثَابِتٍ فَقَالَ: ابْنُ فُلَانٍ، وَأَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ: ابْنُ سَمْعَانَ، وَابْنُ سَمْعَانَ الْمَذْكُورُ مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ كَذَّبَهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ شَيْءٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ مِنْ طَرِيقِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَقْرُونًا بِمَالِكٍ، بَلْ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ فَلْيَتَّقِ بَدَلَ فَلْيَجْتَنِبْ وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَذْكُورَةُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا ضَرَبَ وَمِثْلُهُ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ قَاتَلَ بِمَعْنَى قَتَلَ، وَأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ فِيهِ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهَا لِيَتَنَاوَلَ مَا يَقَعُ عِنْدَ دَفْعِ الصَّائِلِ مَثَلًا

فَيَنْهَى دَافِعَهُ عَنِ الْقَصْدِ بِالضَّرْبِ إِلَى وَجْهِهِ، وَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ كُلُّ مَنْ ضُرِبَ فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ تَأْدِيبٍ.

ص: 182

وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الَّتِي زَنَتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا وَقَالَ: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ تَعَيَّنَ إِهْلَاكُهُ فَمَنْ دُونَهُ أَوْلَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ يَجْمَعُ الْمَحَاسِنَ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ الْإِدْرَاكُ بِأَعْضَائِهِ، فَيُخْشَى مِنْ ضَرْبِهِ أَنْ تَبْطُلَ أَوْ تَتَشَوَّهَ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَالشَّيْنُ فِيهَا فَاحِشٌ لِظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا، بَلْ لَا يَسْلَمُ إِذَا ضَرَبَهُ غَالِبًا مِنْ شَيْنٍ اهـ.

وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورٌ حَسَنٌ، لَكِنْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ تَعْلِيلٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَيُّوبَ الْمَرَاغِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ: فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْمَضْرُوبِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِكْرَامِ وَجْهِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَعَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمِيرَ عَلَى اللَّهِ مُتَمَسِّكًا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَكَأَنَّ مَنْ رَوَاهُ أَوْرَدَهُ بِالْمَعْنَى مُتَمَسِّكًا بِمَا تَوَهَّمَهُ فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ أَنْكَرَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ صِحَّةَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْبَارِي سبحانه وتعالى. قُلْتُ: الزِّيَادَةُ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَأَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ يَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ صُورَةَ وَجْهِ الْإِنْسَانِ عَلَى صُورَةِ وَجْهِ الرَّحْمَنِ فَتَعَيَّنَ إِجْرَاءُ مَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ إِمْرَارِهِ كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَشْبِيهٍ، أَوْ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَنِ جل جلاله، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ .. الْحَدِيثَ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى آدَمَ أَيْ عَلَى صِفَتِهِ أَيْ خَلَقَهُ مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ الَّذِي فَضَلَ بِهِ الْحَيَوَانَ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ: غَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَأَجْرَى هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ: صُورَةٌ لَا كَالصُّوَرِ انْتَهَى. وَقَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: صَحَّ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ الْكَوْسَجِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ - أَيْ صُورَةِ الرَّجُلِ - فَقَالَ: كَذَبَ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقُولَنَّ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْمَقُولِ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ وَجْهِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضِ النَّوَوِيُّ لِحُكْمِ هَذَا. انتهى. وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ الصَّحَابِيِّ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَطَمَ غُلَامَهُ فَقَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصُّورَةَ مُحْتَرَمَةٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

ص: 183

بسم الله الرحمن الرحيم

‌50 - كِتَابُ الْمُكَاتَبِ

قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي الْمُكَاتَبِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ كِتَابُ الْمُكَاتَبِ؛ وَأَثْبَتُوا كُلُّهُمُ الْبَسْمَلَةَ. وَالْمُكَاتَبُ بِالْفَتْحِ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْكِتَابَةُ، وَبِالْكَسْرِ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ، وَكَافُ الْكِتَابَةِ تُكْسَرُ وَتُفْتَحُ كَعَيْنِ الْعِتَاقَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ كَتَبَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} - {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَوْ بِمَعْنَى جَمَعَ وَضَمَّ، وَمِنْهُ كَتَبْتُ الْخَطَّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ مَعْنَى الِالْتِزَامِ، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْخَطِّ لِوُجُودِهِ عِنْدَ عَقْدِهَا غَالِبًا.

قَالَ الرُّويَانِيُّ: الْكِتَابَةُ إِسْلَامِيَّةٌ وَلَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَذَا قَالَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَأْبَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ التِّينِ: كَانَتِ الْكِتَابَةُ مُتَعَارَفَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ: قِيلَ: إِنَّ بَرِيرَةَ أَوَّلُ مُكَاتَبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانُوا يُكَاتِبُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ كُوتِبَ مِنَ الرِّجَالِ فِي الْإِسْلَامِ سَلْمَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.

وَحَكَى ابْنُ التِّينِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كُوتِبَ أَبُو الْمُؤَمِّلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعِينُوهُ، وَأَوَّلَ مَنْ كُوتِبَ مِنَ النِّسَاءِ بَرِيرَةُ، كَمَا سَيَأْتِي حَدِيثُهَا فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، وَأَوَّلُ مَنْ كُوتِبَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو أُمَيَّةَ مَوْلَى عُمَرَ، ثُمَّ سِيرِينُ مَوْلَى أَنَسٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْكِتَابَةِ، وَأَحْسَنُهُ: تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ عَلَى مُعَاوَضَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَالْكِتَابَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْقِيَاسِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، وَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ إِلَّا إِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ، وَجَائِزَةٌ لَهُ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا.

بَابُ إِثْمِ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ هُنَا إِلَّا النَّسَفِيَّ وَأَبَا ذَرٍّ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِيهَا حَدِيثًا، وَلَا أَعْرِفُ لِدُخُولِهَا فِي أَبْوَابِ الْمُكَاتَبِ مَعْنًى. ثُمَّ وَجَدْتُهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ مُقَدَّمَةً قَبْلَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ فَهَذَا هُوَ الْمُتَّجَهُ، وَعَلَى هَذَا فَكَأنَ الْمُصَنِّفُ تَرْجَمَ بِهَا وَأَخْلَى بَيَاضًا لِيَكْتُبَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكْتُبْ كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ تَرْجَمَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ بَابُ قَذْفِ الْعَبْدِ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ - جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. الْحَدِيثَ، فَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.

‌1 - بَاب الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ

وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَقَالَ رَوْحٌ: عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا وَاجِبًا. وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَبَى فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَيَتْلُو عُمَرُ:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَكَاتَبَهُ.

ص: 184

2560 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: إِنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَعَلَيْهَا خَمْس أَوَاقي نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَنَفِسَتْ فِيهَا: أَرَأَيْتِ إِنْ عَدَدْتُ لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً أَيَبِيعُكِ أَهْلُكِ فَأُعْتِقَكِ فَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي؟ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَنَا الْوَلَاءُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ الْمُكَاتَبُ وَنُجُومُهُ) فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الْآيَةَ، سَاقُوهَا إِلَى قَوْلِهِ:{الَّذِي آتَاكُمْ} إِلَّا النَّسَفِيَّ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَنَجْمُ الْكِتَابَةِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْمُكَاتَبُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَبْنُونَ أُمُورَهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَى طُلُوعِ النَّجْمِ وَالْمَنَازِلِ لِكَوْنِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ الْفُلَانِيُّ أَدَّيْتُ حَقَّكَ، فَسُمِّيَتِ الْأَوْقَاتُ نُجُومًا بِذَلِكَ، ثُمَّ سُمِّيَ الْمُؤَدَّى فِي الْوَقْتِ نَجْمًا.

وَعُرِفَ مِنَ التَّرْجَمَةِ اشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ فِي الْكِتَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وُقُوفًا مَعَ التَّسْمِيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّمِّ

(1)

، وَهُوَ ضَمُّ بَعْضِ النُّجُومِ إِلَى بَعْضٍ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّمُّ نَجْمَانِ، وَبِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِتَحْصِيلِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالرُّويَانِيِّ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا نَصَّ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ شَبَّهُوهُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنْ لَا يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ التَّأْجِيلَ جُعِلَ رِفْقًا بِالْمُكَاتَبِ لَا بِالسَّيِّدِ، فَإِذَا قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ، وَبِأَنَّ سَلْمَانَ كَاتَبَ - بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ تَأْجِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خَبَرِهِ، وَبِأَنَّ عَجْزَ الْمُكَاتَبِ عَنِ الْقَدْرِ الْحَالِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ كَالْبَيْعِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَنِ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ حَالَّةً وَهُوَ لَا يَقْدِرُ حِينَئِذٍ إِلَّا عَلَى دِرْهَمٍ نَفَذَ الْبَيْعُ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ أَكْثَرِ الثَّمَنِ، وَبِأَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَجَازُوا السَّلَمَ الْحَالَّ وَلَمْ يَقِفُوا مَعَ التَّسْمِيَةِ مَعَ أَنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِالتَّأْجِيلِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ فَأَخَذَهُ مِنْ صُورَةِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ بَعْدَ بَابٍ، وَلَمْ يُرِدِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّنْجِيمُ بِالْأَشْهُرِ جَازَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ نَجْمٍ فِي آخِرِهِ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} كَمَا سَيَأْتِي بيانه بَعْدَ بَابَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ خَالِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَبِيحٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، فَسَأَلْتُهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الْآيَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فِي تَرْجَمَةِ صَبِيحٍ فِي الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَوْحٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ، قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا وَاجِبًا) وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ

(1)

قال مصصح طبعة بولاق "والأولى مشتقة من الكتب بمعنى الضم"

ص: 185

الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ بِهَذَا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لَا) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْأَثَرِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ تَحْرِيفٌ لَزِمَ مِنْهُ الْخَطَأُ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ وَقَالَهُ لِي أَيْضًا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَهُوَ فَاعِلُ قُلْتُ لِعَطَاءٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ حَيْثُ قَالَ فِيهَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ - وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَا فِيهِ: وَقَالَهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ نَقَلَ عَنْ عَطَاءٍ التَّرَدُّدَ فِي الْوُجُوبِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الْجَزْمَ بِهِ أَوْ مُوَافَقَةَ عَطَاءٍ. ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ عَلَى الصَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَلَفْظُهُ وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَيِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ) الْقَائِلُ ثُمَّ أَخْبَرَنِي هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، وَمُخْبِرُهُ هُوَ عَطَاءٌ، وَوَقَعَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ، وَلَفْظُهُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ سَأَلَ .. فَذَكَرَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ أَخْبَرَهُ وَقَدْ عُرِفَ اسْمُ الْمُخْبِرِ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ، وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يَذْكُرْ وَقْتَ سُؤَالِ ابن سِيرِينَ مِنْ أَنَسٍ الْكِتَابَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَرَادَنِي سِيرِينُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فَأَبَيْتُ، فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَسِيرِينُ الْمَذْكُورُ يُكَنَّى أَبَا عَمْرَةَ، وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ الْفَقِيهِ الْمَشْهُورِ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ اشْتَرَاهُ أَنَسٌ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَرَوَى هُوَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ) زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ: فَاسْتَعْدَاهُ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: وَكَاتَبَهُ أَنَسٌ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَاتَبَ أَنَسٌ أَبِي عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَاتَبَنِي أَنَسٌ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَا مَحْفُوظَيْنِ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْوَزْنِ وَالْآخَرِ عَلَى الْعَدَدِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: هَذِهِ مُكَاتَبَةُ أَنَسٍ عِنْدَنَا: هَذَا مَا كَاتَبَ أَنَسٌ غُلَامَهُ سِيرِينَ: كَاتَبَهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا أَلْفٍ وَعَلَى غُلَامَيْنِ يَعْمَلَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ وَاسْتُدِلَّ بِفِعْلِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى بِوُجُوبِ الْكِتَابَةِ إِذَا سَأَلَهَا الْعَبْدُ، لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا ضَرَبَ أَنَسًا عَلَى الِامْتِنَاعِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَدَّبَهُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ الْمُؤَكَّدِ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ الْكِتَابَةَ: لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا فَعَلْتُ فَلَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْوُجُوبَ.

وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهَا عَنْ مَسْرُوقٍ، وَالضَّحَّاكِ، زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعِكْرِمَةُ. وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ: أَنَّ مُكَاتَبَتَهُ وَاجِبَةٌ إِذَا طَلَبَهَا، وَلَكِنْ لَا يُجْبِرُ الْحَاكِمُ السَّيِّدَ عَلَى ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِالْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا عَلَا عُمَرُ، أَنَسًا بِالدِّرَّةِ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ لِأَنَسٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ لَزِمَتْ أَنَسًا مَا أَبَى، وَإِنَّمَا نَدَبَهُ عُمَرُ إِلَى الْأَفْضَلِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ وَكَسْبَهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِكِتَابَتِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذْ كَسْبِي وَأَعْتِقْنِي يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَعْتِقْنِي بِلَا شَيْءٍ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ اتِّفَاقًا

ص: 186

وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَ السَّيِّدُ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِلْأَمْرِ فِي هَذَا عَنِ الْوُجُوبِ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَإِنَّهُ وَكَلَ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَوْلَى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَى عَدَمَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكِتَابَةُ عَقْدُ غَرَرٍ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا تَجُوزَ، فَلَمَّا وَقَعَ الْإِذْنُ فِيهَا كَانَ أَمْرًا بَعْدَ مَنْعٍ وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُهَا مُسْتَحَبَّةً لِأَنَّ اسْتِحْبَابَهَا ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ بَرِيرَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْكِتَابَةِ، فَأَوْرَدَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ طَرِيقَ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ اللَّيْثِ لَهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَفْسِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ يُونُسُ، وَاللَّيْثُ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ أَنَّ يُونُسَ رَفِيقُ اللَّيْثِ فِيهِ لَا شَيْخُهُ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ اللَّيْثِ لَهُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ أَيْضًا مُخَالَفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَظَرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَعَلَيْهَا خَمْسُ أَوَاقي نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ وَالْمَشْهُورُ مَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا كَاتَبَتْ عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةً وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ غَلَطٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ التِّسْعَ أَصْلٌ وَالْخَمْسَ كَانَتْ بَقِيَتْ عَلَيْهَا، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، وَيُجَابُ بِأَنَّهَا كَانَتْ حَصَّلَتِ الْأَرْبَعَ أَوَاقٍ قَبْلَ أَنْ تَسْتَعِينَ عَائِشَةَ، ثُمَّ جَاءَتْهَا وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا خَمْسٌ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجَابُ بِأَنَّ الْخَمْسَ هِيَ الَّتِي كَانَتِ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهَا بِحُلُولِ نُجُومِهَا مِنْ جُمْلَةِ التِّسْعِ الْأَوَاقِي الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ هِشَامٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْمَاضِيَةِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِ مَا يَبْقَى وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي الْأَصْلِ الْمَسْمُوعِ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّهَا كَاتَبَتْ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ وَقَالَ: إِنْ كَانَ مَضْبُوطًا فَهُوَ يَدْفَعُ سَائِرَ الْأَخْبَارِ.

قُلْتُ: لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا إِلَّا الْأَوَاقِي، وَكَذَا فِي نُسْخَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ يُمْكِنُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنْ يَجْمَعَ بِأَنَّ قِيمَةَ الْأَوْسَاقِ الْخَمْسَةِ تِسْعُ أَوَاقٍ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي خَمْسِ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْجَمْعِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَنَفِسَتْ فِيهَا هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ رَغِبَتْ.

‌2 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ، وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

2561 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ

ص: 187

شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ.

2562 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكِ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) جَمَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، وَأَنَّ ضَابِطَ الْجَوَازِ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي فِي الشُّرُوطِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ هُنَا حُكْمُهُ مِنْ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ جَوَازُهُ أَوْ وُجُوبُهُ، لَا أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الْكِتَابُ يَبْطُلُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ الْكَفِيلُ فَلَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ شُرُوطٌ مِنْ أَوْصَافِهِ أَوْ مِنْ نُجُومِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الشُّرُوطُ فِي الْبَيْعِ أَقْسَامٌ، أَحَدُهَا: يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ كَشَرْطِ تَسْلِيمِهِ، الثَّانِي: شَرْطٌ فِيهِ مَصْلَحَةٌ كَالرَّهْنِ وَهُمَا جَائِزَانِ اتِّفَاقًا، الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَقِصَّةِ بَرِيرَةَ، الرَّابِعُ: مَا يَزِيدُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي كَاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَأْصِيلًا وَلَا تَفْصِيلًا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُؤْخَذُ تَفْصِيلُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَالْوُضُوءِ، وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ تَأْصِيلُهُ دُونً تَفْصِيلِهِ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْهَا مَا أُصِّلَ أَصْلُهُ كَدَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِيَّةِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، فَكُلُّ مَا يُقْتَبَسُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ تَفْصِيلًا فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَأْصِيلًا.

قَوْلُهُ: (فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَدْ مَضَى بِلَفْظِ الِاشْتِرَاطِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

قَوْلُهُ: (أنَّ بَرِيرَةَ) هِيَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَرِيرِ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا فَعِيلَةٌ مِنَ الْبِرِّ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَمَبْرُورَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ كَرَحِيمَةٍ، هَكَذَا وَجَّهَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَ جُوَيْرِيَةَ وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، وَقَالَ:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} ، فَلَوْ كَانَتْ بَرِيرَةُ مِنَ الْبِرِّ لَشَارَكَتْهَا فِي ذَلِكَ. وَكَانَتْ بَرِيرَةُ لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَقِيلَ: لِنَاسٍ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ. وَكَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَعَاشَتْ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَتَفَرَّسَتْ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ يَلِي الْخِلَافَةَ فَبَشَّرَتْهُ بِذَلِكَ، وَرَوَى هُوَ ذَلِكَ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهِيَ نَظِيرُ رِوَايَةِ مَالِكٍ،

ص: 188

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ فِي الشُّرُوطِ بِلَفْظِ إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهَا إِذَا بَذَلَتْ جَمِيعَ مَالِ الْمُكَاتَبَةِ. وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إِذْ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَكَانَ اللَّوْمُ عَلَى عَائِشَةَ بِطَلَبِهَا وَلَاءَ مَنْ أَعْتَقَهَا غَيْرُهَا. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ.

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامٍ، فَعَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَهَا شِرَاءً صَحِيحًا ثُمَّ تُعْتِقَهَا إِذِ الْعِتْقُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي. وَهُوَ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ خُذِيهَا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ أَيْمَنَ الْآتِيَةِ: دَخَلْتُ عَلَى بَرِيرَةَ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي، قَالَتْ: نَعَمْ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا وَبِهَذَا يَتَّجِهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَوَالِي بَرِيرَةَ؛ إِذْ وَافَقُوا عَائِشَةَ عَلَى بَيْعِهَا ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَيْمَنَ الْمَذْكُورَةِ قَالَتْ: لَا تَبِيعُونِي حَتَّى تَشْتَرِطُوا وَلَائِي، وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ الْآتِيَةِ فِي الْفَرَائِضِ عَنْ عَائِشَةَ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ لِأُعْتِقَهَا، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْهِبَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وَأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا.

قَوْلُهُ: (ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ) الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هُنَا السَّادَةُ، وَالْأَهْلُ فِي الْأَصْلِ الْآلُ، وَفِي الشَّرْعِ: مَنْ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ) هُوَ مِنَ الْحِسْبَةِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَحْتَسِبَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يَكُونَ لَهَا وَلَاءٌ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ أَيْمَنَ الْآتِيَةِ فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ. زَادَ فِي الشُّرُوطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ: فَجَاءَتْنِي بَرِيرَةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ لِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهَا: مَا أَرَادَ أَهْلُهَا، فَقُلْتُ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي وَانْتَهَرْتُهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ لَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ.

قَوْلُهُ: (ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي) هُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْإِشْكَالِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ شَرَطَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنِ اشْتَرَطَ.

قَوْلُهُ: (مِائَةَ مَرَّةٍ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي مِائَةَ شَرْطٍ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَأَيْمَنَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ تَوْكِيدًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ: وإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ شَرْطٍ، وَفِي قَوْلِهِ: مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا دَالٌّ عَلَى بُطْلَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْيِيدِهَا بِالْمِائَةِ فَإِنَّهَا لَوْ زَادَتْ عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهَا الصِّيغَةُ. نَعَمِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رِوَايَةِ أَيْمَنَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ، وَإِنِ احْتَمَلَ التَّأْكِيدَ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعَدُّدُ، وَذَكَرَ الْمِائَةَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ، يَعْنِي أَنَّ الشُّرُوطَ الْغَيْرَ الْمَشْرُوعَةِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ كَثُرَتْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَشْرُوعَةَ صَحِيحَةٌ، وَسَيَأْتِي التَّنْصِيصُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَرَادَتْ عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ فَصَارَ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَأَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَفَرُّدِهِ عَنْ مَالِكٍ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو

ص: 189

عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَا عَنْ لَا يُرَادُ بِهَا أَدَاةُ الرِّوَايَةِ بَلْ فِي السِّيَاقِ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ فِي إِرَادَتِهَا شِرَاءَ بَرِيرَةَ، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، فَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بَرِيرَةَ أَنَّهَا كَانَ فِيهَا ثَلَاثُ سِنِينَ قَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ لَمْ يَكُنْ خَطَأً، بَلِ الْمُرَادُ عَنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَلَمْ يُرِدِ الرِّوَايَةَ عَنْهَا نَفْسِهَا.

وَقَدْ قَرَّرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِنَظَائِرِهَا فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَمْنَعُكِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ لَا يَمْنَعَنَّكِ بِنُونِ التَّأْكِيدِ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ.

‌3 - بَاب اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ

2563 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ فيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَلِيَ الْوَلَاءُ، إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ تَقَعُ بِالسُّؤَالِ وَبِغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ بَرِيرَةَ عَلَى سُؤَالِهَا عَائِشَةَ فِي إِعَانَتِهَا عَلَى كِتَابَتِهَا، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ يَرْفَعُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قَالَ: حِرْفَةً، وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، فَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ: ابْنِ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (فَأَعِينِينِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْمُؤَنَّثِ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَعْيَتْنِي بِصِيغَةِ الْخَبَرِ الْمَاضِي مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَالضَّمِيرُ لِلْأَوَاقِي، وَهُوَ مُتَّجَهُ الْمَعْنَى، أَيْ أَعْجَزَتْنِي عَنْ تَحْصِيلِهَا. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ فَأَعْتِقِينِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْمُؤَنَّثِ بِالْعِتْقِ، إِلَّا أَنَّ الثَّابِتَ فِي طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ هِشَامٍ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَانْتَهَرْتُهَا، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ عَرَفَتِ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ، وَاسْتَشْكَلَ صُدُورُ الْإِذْنِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ فِي الْحَدِيثِ، فَرَوَى الْخَطَّابِيُّ فِي الْمعَالِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ الْإِشَارَةُ إِلَى تَضْعِيفِ رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمُصَرِّحَةِ بِالِاشْتِرَاطِ لِكَوْنِهِ انْفَرَدَ بِهَا دُونَ أَصْحَابِ أَبِيهِ، وَرِوَايَاتُ

ص: 190

غَيْرِهِ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ. وَأَشَارَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ روى بِالْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ لَهُ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، وَأَثْبَتَ الرِّوَايَةَ آخَرُونَ وَقَالُوا: هِشَامٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهَا: فَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمُزَنِيَّ حَدَّثَهُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِلَفْظِ وَأَشْرِطِي بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بِغَيْرِ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ، ثُمَّ وَجَّهَهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَظْهَرِي لَهُمْ حُكْمَ الْوَلَاءِ. وَالْإِشْرَاطُ الْإِظْهَارُ، قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ: فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مِعْصَمٌ أَيْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ انْتَهَى. وَأَنْكَرَ غَيْرُهُ الرِّوَايَةَ. وَالَّذِي فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَالْأُمِّ وَغَيْرِهِمَا عَنِ الشَّافِعِيِّ كَرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ وَاشْتَرِطِي بِصِيغَةِ أَمْرِ الْمُؤَنَّثِ مِنَ الشَّرْطِ، ثُمَّ حَكَى الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا تَأْوِيلَ الرِّوَايَةِ الَّتِي بِلَفْظِ اشْتَرِطِي وَأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرِطِي لَهُمْ بِمَعْنَى على كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ حَرْمَلَةَ عَنْهُ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ غَلَطٌ، وَالتَّأْوِيلَ الْمَنْقُولَ عَنِ الْمُزَنِيِّ لَا يَصِحُّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأْوِيلُ اللَّامِ بِمَعْنَى عَلَى هُنَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَنْكَرَ الِاشْتِرَاطَ، وَلَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى عَلَى لَمْ يُنْكِرْهُ. فَإِنْ قِيلَ مَا أَنْكَرَ إِلَّا إِرَادَةَ الِاشْتِرَاطِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ. وَضَعَّفَهُ أَيْضًا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَالَ: اللَّامُ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ النَّافِعِ، بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ، فَلَا بُدَّ فِي حَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرِطِي لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ عَلَى جِهَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اشْتَرِطِي أَوْ لَا تَشْتَرِطِي فَذَلِكَ لَا يُفِيدُهُمْ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَيْمَنَ الْآتِيَةِ آخِرَ أَبْوَابِ الْمُكَاتَبِ اشْتَرِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا.

وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ الْوَلَاءَ بَاطِلٌ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ بَرِيرَةَ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَشْتَرِطُوا مَا تَقَدَّمَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِبُطْلَانِهِ أَطْلَقَ الْأَمْرَ مُرِيدًا بِهِ التَّهْدِيدَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَكَقَوْلِ مُوسَى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أَيْ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعِكُمْ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اشْتَرِطِي لَهُمْ فَسَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلَهُ حِينَ خَطَبَهُمْ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا .. إِلَخْ فَوَبَّخَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ اللَّهِ بِإِبْطَالِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَيَانُ ذَلِكَ لَبَدَأَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي الْخُطْبَةِ لَا بِتَوْبِيخِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْأَمْرُ وَبَاطِنُهُ النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَمَّا كَانَ مَنِ اشْتَرَطَ خِلَافَ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَاصِيًا وَكَانَتْ فِي الْمَعَاصِي حُدُودٌ وَآدَابٌ وَكَانَ مِنْ أَدَبِ الْعَاصِينَ أَنْ يُعَطِّلَ عَلَيْهِمْ شُرُوطَهُمْ لِيَرْتَدِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُمْ - كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأَدَبِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى اشْتَرِطِي اتْرُكِي مُخَالَفَتَهُمْ فِيمَا شَرَطُوهُ وَلَا تُظْهِرِي نِزَاعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مُرَاعَاةً لِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يُعْبَّرُ التَّرْكِ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: نَتْرُكُهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِذْنِ إِبَاحَةَ الْإِضْرَارِ بِالسِّحْرِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِعَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَأَنَّ سَبَبَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الرُّجُوعِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهُوَ كَفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْحَجَّةِ مُبَالَغَةً فِي إِزَالَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ إِذَا اسْتَلْزَمَ إِزَالَةَ أَشَدِّهِمَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ

ص: 191

لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَابِقًا لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: اشْتَرِطِي مُجَرَّدَ الْوَعْدِ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ شَخْصًا أَنْ يَعِدَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفِي بِذَلِكَ الْوَعْدِ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ بِاشْتِرَاطِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ جَائِزًا فِيهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخُطْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ مَا قَالَ، وَسِيَاقُ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ تَدْفَعُ فِي وَجْهِ هَذَا الْجَوَابِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَاءَ لَمَّا كَانَ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَالْإِنْسَانَ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ثَبَتَ لَهُ نَسَبُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ نَسَبُهُ عَنْهُ وَلَوْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا ثَبَتَ لَهُ وَلَاؤُهُ وَلَوْ أَرَادَ نَقْلَ وَلَائِهِ عَنْهُ أَوْ أَذِنَ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ لَمْ يَنْتَقِلْ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِاشْتِرَاطِهِمُ الْوَلَاءَ، وَقِيلَ: اشْتَرِطِي وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا وَنَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَقْدِ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَخَّرَ إِعْلَامَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونَ رَدُّهُ وَإِبْطَالُهُ قَوْلًا شَهِيرًا يُخْطَبُ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ ظَاهِرًا، إِذْ هُوَ أَبْلَغُ فِي النَّكِيرِ وَأَوْكَدُ فِي التَّعْبِيرِ اهـ. وَهُوَ يَئُولُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ) أَيْ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ) أَيْ بِاتِّبَاعِ حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا، وَلَيْسَتِ الْمُفَاعَلَةُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا إِذْ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِغَيْرِ التَّفْضِيلِ كَثِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ ذَلِكَ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (مَا بَالُ رِجَالٍ) أَيْ مَا حَالُهُمْ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ نَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ أَوْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُحَالَفَةٌ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَا لِلْمُلْتَقِطِ خِلَافًا لِإِسْحَاقَ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ إِثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ سَابِيَهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَصِيرُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدْخُلُ فِيمَنْ أَعْتَقَ عِتْقُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ وَلِلْكَافِرِ، وَبِالْعَكْسِ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ زَوْجِهَا وَكَانَ عَبْدًا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَتَأْتِي فِي النِّكَاحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي زَوْجِهَا هَلْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَتَسْمِيَتِهِ، وَمَا اتَّفَقَ لَهُ بَعْدَ فِرَاقِهَا.

وَفِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ هَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ - سِوَى مَا سَبَقَ وَسِوَى مَا سَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ - جَوَازُ كِتَابَةِ الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ، وَجَوَازُ كِتَابَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ كِتَابَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى فِرَاقِهَا مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمُتَزَوِّجِ مَنْعُ السَّيِّدِ مِنْ عِتْقِ أَمَتِهِ الَّتِي تَحْتَهُ وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُطْلَانِ نِكَاحِهَا.

وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ تَمْكِينِهَا مِنَ السَّعْيِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا خِدْمَتُهُ. وَفِيهِ جَوَازُ سَعْيِ الْمُكَاتَبَةِ وَسُؤَالِهَا وَاكْتِسَابِهَا وَتَمْكِينِ السَّيِّدِ لَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ إِذَا عُرِفَتْ جِهَةُ حِلِّ كَسْبِهَا، وَفِيهِ الْبَيَانُ بِأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْ كَسْبِ الْأَمَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ كَسْبِهَا، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُكَاتَبَةِ.

وَفِيهِ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ حِينِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ عَجْزُهُ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَهُ.

وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ غُرْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَعْجِيلِ مَالِ الْكِتَابَةِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْمُسَاوَمَةِ فِي الْبَيْعِ وَتَشْدِيدِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الرَّشِيدَةَ تَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدٌ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَنَّ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا

ص: 192

أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ.

وَفِيهِ جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْعِتْقِ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الرَّقَبَةِ لِيَتَسَاهَلُوا لَهُ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ. وَفِيهِ إِنْكَارُ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ وَانْتِهَارُ الرَّسُولِ فِيهِ.

وَفِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بِيعَ بِالنَّقْدِ كَانَتِ الرَّغْبَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا لَوْ بِيعَ بِالنَّسِيئَةِ، وَأَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنَهُ بِرِضَاهُ.

وَفِيهِ جَوَازُ الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ، وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَّلَ بَعْضَ كِتَابَتِهِ قَبْلَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَنْهُ سَيِّدُهُ الْبَاقِيَ لَمْ يُجْبَرِ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ. وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَأَقَلَّ مِنْهَا وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ بَيْنَ الثَّمَنِ الْمُنَجَّزِ وَالْمُؤَجَّلِ فَرْقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَذَلَتْ عَائِشَةُ الْمُؤَجَّلَ نَاجِزًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ بِالتَّأْجِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا كُوتِبَتْ بِهِ وَكَانَ أَهْلُهَا بَاعُوهَا بِذَلِكَ.

وَفِيهِ أَنَّ المُرَادَ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} الْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ، وَالْوَفَاءُ بِمَا وَقَعَتِ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَالَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ فَكَيْفَ يُكَاتِبُهُ بِمَالِهِ، لَكِنْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ، لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْمَالُ، مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، فَنُسِبَ إِلَى التَّنَاقُضِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْعَبْدَ مَالُ سَيِّدِهِ وَالْمَالَ الَّذِي مَعَهُ لِسَيِّدِهِ فَكَيْفَ يُكَاتِبُهُ بِمَالِهِ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَصِحُّ تَفْسِيرِ الْخَيْرِ بِالْمَالِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَا مَالَ فِيهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: لَا مَالَ لَهُ. أَوْ: لَا مَالَ عِنْدَهُ، فَكَذَا إِنَّمَا يُقَالُ: فِيهِ وَفَاءٌ وَفِيهِ أَمَانَةٌ وَفِيهِ حُسْنُ مُعَامَلَةٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ كِتَابَةِ مَنْ لَا حِرْفَةَ لَهُ وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ، وَاخْتَلَفَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَلَى كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْهَا شَيْئًا، فَلَوْ كَانَ لَهَا مَالٌ أَوْ حِرْفَةٌ لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا لَمْ تَكُنْ حَالَّةً. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ ابْتَاعَتْ بَرِيرَةَ مُكَاتَبَةً وَهِيَ لَمْ تَقْضِ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا وَتَقَدَّمَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْكِتَابَةِ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوْسَاخُ النَّاسِ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ مَعُونَةِ الْمُكَاتَبَةِ بِالصَّدَقَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْكِتَابَةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَجَوَازُ التَّأْقِيتِ فِي الدُّيُونِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَثَلًا كَذَا، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَجْهُولًا لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِانْقِضَاءِ الشَّهْرِ الْحُلُولُ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ بَرِيرَةَ: فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ أَيْ فِي غُرَّتِهِ مَثَلًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَيُمْكِنُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالدُّيُونِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَزَ حَلَّ لِسَيِّدِهِ مَا أَخَذَ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الدُّيُونِ وَغَيْرِهَا، وَقِصَّةُ بَرِيرَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَصَّرَ فِي بَيَانِ تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَإِلَّا يَصِيرُ الْأَجَلُ مَجْهُولًا.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّلَفِ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَدَّ فِي الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ الْمَعْلُومَةِ الْوَزْنِ يَكْفِي عَنِ الْوَزْنِ، وَأَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ بِالْأَوَاقِيِّ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ. وَزَعَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْعَدِّ إِلَى مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ثُمَّ أُمِرُوا بِالْوَزْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قِصَّةَ بَرِيرَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَقْدَمِهِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَمَانِ سِنِينَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ أَعُدُّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً أَيْ أَدْفَعُهَا لَهُمْ، وَلَيْسَ مُرَادُهَا حَقِيقَةَ الْعَدِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا فِي طَرِيقِ عَمْرَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً.

وَفِيهِ جَوَازُ الْبَيْعِ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَهَبَهُ مَثَلًا، وَأَنَّ مِنَ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يُبْطِلُ وَلَا يَضُرُّ الْبَيْعَ.

وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تَقُلْ إِنَّهَا عَجَزَتْ وَلَا اسْتَفْصَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

وَفِيهِ جَوَازُ مُنَاجَاةِ

ص: 193

الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجِهَا سِرًّا إِذَا كَانَ الْمُنَاجِي مِمَّنْ يُؤْمَنُ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى شَاهِدَ الْحَالِ يَقْتَضِي السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ سَأَلَ وَأَعَانَ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ لِزَوْجَتِهِ وَيُشْهِدَ.

وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَفِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِتْقَ، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ.

وَفِيهِ الْبَدَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُ أَمَّا بَعْدُ فِيهَا، وَالْقِيَامُ فِيهَا، وَجَوَازُ تَعَدُّدِ الشُّرُوطِ لِقَوْلِهِ: مِائَةَ شَرْطٍ وَأَنَّ الْإِيتَاءَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ السَّيِّدُ سَاقِطٌ عَنْهُ إِذَا بَاعَ مُكَاتَبَهُ لِلْعِتْقِ.

وَفِيهِ أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ قَصْدٍ وَلَا مُتَكَلَّفًا.

وَفِيهِ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَالَةً فَارَقَ فِيهَا الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ.

وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُظْهِرُ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَيُعْلِنُهَا وَيَخْطُبُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ لِإِشَاعَتِهَا، وَيُرَاعِي مَعَ ذَلِكَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَصْحَابَ بَرِيرَةَ بَلْ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ وَلِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ شَرْعٍ عَامٍّ لِلْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ قِصَّةِ عَلِيٍّ فِي خِطْبَتِهِ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ خَاصَّةً بِفَاطِمَةَ فَلِذَلِكَ عَيَّنَهَا. وَفِيهِ حِكَايَةُ الْوِقَائعِ لِتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ اكْتِسَابَ الْمُكَاتَبِ لَهُ لَا لِسَيِّدِهِ، وَجَوَازُ تَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ فِي مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَمُرَاسَلَتِهَا الْأَجَانِبَ فِي أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَذَلِكَ، وَجَوَازُ شِرَاءِ السِّلْعَةِ لِلرَّاغِبِ فِي شِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا لِأَنَّ عَائِشَةَ بَذَلَتْ مَا قُرِّرَ نَسِيئَةً عَلَى جِهَةِ النَّقْدِ مَعَ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ.

وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِدَانَةِ مَنْ لَا مَالَ لَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَكْثَرُ النَّاسِ فِي تَخْرِيجِ الْوُجُوهِ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حَتَّى بَلَّغُوهَا نَحْوَ مِائَةِ وَجْهٍ، وَسَيَأْتِي الْكَثِيرُ مِنْهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: صَنَّفَ فِيهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ تَصْنِيفَيْنِ كَبِيرَيْنِ أَكْثَرَا فِيهِمَا مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْفَوَائِدِ مِنْهَا فَذَكَرَا أَشْيَاءَ.

قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْنِيفِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَوَقَفْتُ عَلَى كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ كِتَابِهِ تَهْذِيبِ الْآثَارِ. وَلَخَّصْتُ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَلَغَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْفَوَائِدَ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ أَكْثَرُهَا مُسْتَبْعَدٌ مُتَكَلَّفٌ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ للَّذِي صَنَّفَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ فَبَلَغَ بِهِ أَلْفَ فَائِدَةٍ وَفَائِدَةً.

‌4 - بَاب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

2564 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً وأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُكِ لَنَا.

قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى: فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي الْمُكَاتَبَةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ: إِذَا رَضِيَ وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُعْجِزْ نَفْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَرَبِيعَةَ،

ص: 194

وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالْكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَلَى تَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ بِأَنَّهَا عَجَّزَتْ نَفْسَهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِعَانَةِ بَرِيرَةَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي اسْتِعَانَتِهَا مَا يَسْتَلْزِمُ الْعَجْزَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ كِتَابَةِ مَنْ لَا مَالَ عِنْدَهُ وَلَا حِرْفَةَ لَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ النَّجْمِ، وَلَا أَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ اسْتِفْصَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهَا: كَاتَبْتُ أَهْلِي فَقَالَ: مَعْنَاهُ رَاوَدْتُهُمْ وَاتَّفَقْتُ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَلَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ بَعْدُ، وَلِذَلِكَ بِيعَتْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى بَيْعِ الْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَيُقَوِّي الْجَوَازَ أَيْضًا أَنَّ الْكِتَابَةَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَعْتِقَ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ جَمِيعِ النُّجُومِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَلَا يَعْتِقُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ دُخُولِهَا، وَلِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ قَبْلَ دُخُولِهَا. وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي اشْتَرَتْهُ عَائِشَةُ كِتَابَةُ بَرِيرَةَ لَا رَقَبَتُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ رَدُّهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ بَاعُوا بَرِيرَةَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ صَحَّ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَبْطُلُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) أَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَرَفَعْتُ صَوْتِي، فَقَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ فَقُلْتُ: سُلَيْمَانُ. فَقَالَتْ: أَدَّيْتَ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ كِتَابَتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا. قَالَتِ: ادْخُلْ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ سَالِمٍ هُوَ مَوْلَى النَّضْرِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: مَا أَرَاكِ إِلَّا سَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي. فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: كَاتَبْتُ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ وَأَمَّا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ فِي الْمُكَاتَبِ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ بَرِيرَةَ، لَكِنْ إِنَّمَا تَتِمُّ الدَّلَالَةُ مِنْهُ لَوْ كَانَتْ بَرِيرَةُ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا فَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْهَا شَيْئًا، وَكَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَنِ السَّلَفِ: فَعَنْ عَلِيٍّ إِذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَهُوَ غَرِيمٌ، وَعَنْهُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ فَأَدَّى الْمِائَةَ عَتَقَ، وَعَنْ عَطَاءٍ إِذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كِتَابَتِهِ عَتَقَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا الْمُكَاتَبُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي إِرْسَالِهِ وَوَصْلِهِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَهُوَ أَقْوَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ بِيعَتْ بَعْدَ أَنْ كَاتَبَتْ، وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَصِيرُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ حُرًّا لَامْتَنَعَ بَيْعُهَا.

ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ بَرِيرَةَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ، وَصُورَةُ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ هُنَاكَ عَنْ عَمْرَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مَوْصُولٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ

ص: 195

يَكُونَ الْوَلَاءُ لَنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُكِ. وَقَوْلُهُ: قَالَ مَالِكٌ قَالَ يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

‌5 - بَاب إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: اشْتَرِنِي وَأَعْتِقْنِي، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ

2565 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَيْمَنُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: كُنْتُ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ وَمَاتَ وَوَرِثَنِي بَنُوهُ، وَإِنَّهُمْ بَاعُونِي مِنْ ابْنِ أَبِي عَمْرِو، وَاشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الْوَلَاءَ فَقَالَتْ: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، فَقَالَتْ: اشْتَرِينِي فأَعْتِقِينِي، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لَا يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلَائِي، فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ، فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ لَهَا، فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا، فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا الْوَلَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: اشْتَرِنِي وَأَعْتِقْنِي فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ) أَيْ جَازَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ الْمَكِّيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ وَالِدُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ أَيْمَنَ بْنِ نَايِلٍ الْحَبَشِيِّ الْمَكِّيِّ نَزِيلِ عَسْقَلَانَ، وَكِلَاهُمَا مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لِوَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ: هَذَا وَآخَرَانِ عَنْ عَائِشَةَ وَحَدِيثَانِ عَنْ جَابِرٍ، وَكُلُّهَا مُتَابَعَةً، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ وَلَدِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (وَوَرِثَنِي بَنُوهُ) أَعْرِفُ مِنْ أَوْلَادِ عُتْبَةَ:، الْعَبَّاسَ بْنَ عُتْبَةَ وَالِدَ الْفَضْلِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ، وَأَبَا خِرَاشِ بْنَ عُتْبَةَ ذَكَرَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ، وَهِشَامَ بْنَ عُتْبَةَ وَالِدَ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَ فِي تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ، وَيَزِيدَ بْنَ عُتْبَةَ جَدَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمَذْكُورَ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ أَرَ لَهُمْ ذِكْرًا فِي كِتَابِ الزُّبَيْرِ فِي النَّسَبِ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ لَهُ صُحْبَةٌ دُونَ أَخِيهِ عُتَيْبَةَ بِالتَّصْغِيرِ، فَإِنَّهُ مَاتَ كَافِرًا.

قَوْلُهُ: (مِنِ ابْنِ أَبِي عَمْرٍو) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو. زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: ابْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ.

قَوْلُهُ فِيهِ (اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا، فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا) فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ الَّذِي كَانَ عَقَدَ لَهَا مَوَالِيهَا انْفَسَخَ بِابْتِيَاعِ عَائِشَةَ لَهَا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْ مِنْهُمُ الْوَلَاءَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُبَاعُ إِلَّا لِلْعِتْقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْعِتْقِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُكَاتَبِ عَلَى سِتَّةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى ثَلَاثَةٍ: حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي عِتْقِ عَبْدِهِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ، وَحَدِيثِ مَنْ سَيِّدُكُمْ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سَبْعَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 196

بسم الله الرحمن الرحيم

‌51 - كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا

2566 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ.

[الحديث 2566 - طرفه في: 6017]

2567 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: لِعُرْوَةَ "ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنْ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا"

[الحديث 2567 - طرفاه في: 6458، 6459]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا) كَذَا لِلْجَمِيعِ، إِلَّا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ فَقَالَا: فِيهَا بَدَلَ عَلَيْهَا. وَأَخَّرَ النَّسَفِيُّ الْبَسْمَلَةَ.

وَالْهِبَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ تُطْلَقُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِبْرَاءِ، وَهُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ وَهِيَ هِبَةُ مَا يَتَمَحَّضُ بِهِ طَلَبُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَالْهَدِيَّةُ وَهِيَ مَا يُكْرَمُ بِهِ الْمَوْهُوبُ لَهُ. وَمَنْ خَصَّهَا بِالْحَيَاةِ أَخْرَجَ الْوَصِيَّةَ، وَهِيَ تَكُونُ أَيْضًا بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَتُطْلَقُ الْهِبَةُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ عَلَى مَا لَا يُقْصَدُ لَهُ بَدَلٌ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ قَوْلُ مَنْ عَرَّفَ الْهِبَةَ بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، وَصَنِيعُ الْمُصَنِّفِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهَا الْهَدَايَا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ، وَضَبَّبَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُبَارَكِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ آدَمَ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَقُلْ عَنْ أَبِيهِ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ .. الْحَدِيثَ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَأَبُو مَعْشَرٍ يُضَعَّفُ. وَقَالَ الطَّرْقِيُّ: إِنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ. نَعَمْ مَنْ زَادَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ.

قَوْلُهُ: (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ) قَالَ عِيَاضٌ: الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ نَصْبُ النِّسَاءِ وَجَرُّ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمَشَارِقَةِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ كَمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَهُوَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ

ص: 197

يُقَدِّرُونَ فِيهِ مَحْذُوفًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: جَاءَ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُفْرَدٌ، وَيَجُوزُ فِي الْمُسْلِمَاتِ الرَّفْعُ صِفَةً عَلَى اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى يَا أَيُّهَا النِّسَاءُ الْمُسْلِمَاتُ، وَالنَّصْبُ صِفَةً عَلَى الْمَوْضِعِ، وَكَسْرَةُ التَّاءِ عَلَامَةُ النَّصْبِ، وَرُوِيَ بِنَصْبِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ وَكَسْرَةِ التَّاءِ لِلْخَفْضِ بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِمْ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَهُوَ مِمَّا أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إِلَى الصِّفَةِ فِي اللَّفْظِ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ صِفَتِهِ مَقَامَهُ نَحْوُ يَا نِسَاءَ الْأَنْفُسِ الْمُسْلِمَاتِ أَوْ يَا نِسَاءَ الطَّوَائِفِ الْمُؤْمِنَاتِ، أَيْ لَا الْكَافِرَاتِ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ يَا فَاضِلَاتِ الْمُسْلِمَاتِ كَمَا يُقَالُ هَؤُلَاءِ رِجَالُ الْقَوْمِ أَيْ أَفَاضِلُهُمْ، وَالْكُوفِيُّونَ يَدَّعُونَ أَنْ لَا حَذْفَ فِيهِ وَيَكْتَفُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمُغَايَرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: تَوْجِيهُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ نِسَاءً بِأَعْيَانِهِنَّ فَأَقْبَلَ بِنِدَائِهِ عَلَيْهِنَّ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى الْمَدْحِ لَهُنَّ، فَالْمَعْنَى يَا خَيْرَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا يُقَالُ رِجَالُ الْقَوْمِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْصُصْهُنَّ بِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُنَّ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْحُكْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمَا يُشَارِكْنَهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةَ الْإِضَافَةِ، وَرَدَّهُ ابْنُ السَّيِّدِ بِأَنَّهَا قَدْ صَحَّتْ نَقْلًا وَسَاعَدَتْهَا اللُّغَةُ فَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُمْكِنُ تَخْرِيجُ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى تَقْدِيرٍ بَعِيدٍ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ نَعْتًا لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا نِسَاءَ الْأَنْفُسِ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ الرِّجَالُ، وَوَجْهُ بُعْدِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَدْحًا لِلرِّجَالِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا خَاطَبَ النِّسَاءَ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَنْفُسِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مَعًا، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ .. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ لِجَارَةٍ وَالْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ هَدِيَّةً مُهْدَاةً.

قَوْلُهُ: (فِرْسِنَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ نُونٌ هُوَ عَظْمٌ قَلِيلُ اللَّحْمِ، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ مَوْضِعُ الْحَافِرِ لِلْفَرَسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّاةِ مَجَازًا، وَنُونُهُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ أَصْلِيَّةٌ، وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِهْدَاءِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَقَبُولُهُ لَا إِلَى حَقِيقَةِ الْفِرْسِنِ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِإِهْدَائِهِ أَيْ لَا تَمْنَعُ جَارَةٌ مِنَ الْهَدِيَّةِ لِجَارَتِهَا الْمَوْجُودَ عِنْدَهَا لِاسْتِقْلَالِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَجُودَ لَهَا بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَذِكْرُ الْفِرْسِنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ إِنَّمَا وَقَعَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَحْتَقِرُ مَا يُهْدَى إِلَيْهَا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ تَهَادَوْا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ، فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الْمَوَدَّةَ وَيُذْهِبُ الضَّغَائِنَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى التَّهَادِي وَلَوْ بِالْيَسِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ كُلَّ وَقْتٍ، وَإِذَا تَوَاصَلَ الْيَسِيرُ صَارَ كَثِيرًا. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمَوَدَّةِ وَإِسْقَاطُ التَّكَلُّفِ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ.

قَوْلُهُ: (يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) بِضَمِّ الرَّاءِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ؛ أَوَّلُهُمْ أَبُو حَازِمٍ، وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (ابْنَ أُخْتِي) بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، وَأَدَاةُ النِّدَاءِ مَحْذُوفَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِي.

قَوْلُهُ: (إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ) هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَضَمِيرُهَا مُسْتَتِرٌ، وَلِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ) يَجُوزُ فِي ثَلَاثَةٍ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ.

قَوْلُهُ: (فِي شَهْرَيْنِ) هُوَ بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَانِيًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَالِثًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ فَالْمُدَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا وَالْمَرْئِيُّ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَقَدْ كَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ مَا يُرَى فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِ الدُّخَانُ.

قَوْلُهُ: (مَا يُعِيشُكُمْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ يُقَالُ أَعَاشَهُ اللَّهُ عِيشَةً، وَضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا يُغْنِيكُمْ بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي

ص: 198

سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: فَمَا كَانَ طَعَامُكُمْ.

قَوْلُهُ: (الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ) هُوَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ لَا لَوْنَ لَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْأَبْيَضَانِ: اللَّبَنُ وَالْمَاءُ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَتْ عَلَى التَّمْرِ الْأَسْوَدَ لِأَنَّهُ غَالِبُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، وَزَعَمَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَارْتَضَاهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْأَسْوَدَيْنِ بِالتَّمْرِ وَالْمَاءِ مُدْرَجٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَتِ الْحَرَّةَ وَاللَّيْلَ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ وُجُودَ التَّمْرِ وَالْمَاءِ يَقْتَضِي وَصْفَهُمْ بِالسَّعَةِ، وَسِيَاقُهَا يَقْتَضِي وَصْفَهُمْ بِالضِّيقِ، وَكَأَنَّهَا بَالَغَتْ فِي وَصْفِ حَالِهِمْ بِالشِّدَّةِ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا اللَّيْلُ وَالْحَرَّةُ اهـ.

وَمَا ادَّعَاهُ لَيْسَ بِطَائِلٍ، وَالْإِدْرَاجُ لَا يَثْب تُ بِالتَّوَهُّمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَا قَوْمًا وَقَالَ لَهُمْ: مَا عِنْدِي إِلَّا الْأَسْوَدَانِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْحَرَّةَ وَاللَّيْلَ. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَوْمَ فَهِمُوا التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَرَادَ هُوَ الْمَزْحَ مَعَهُمْ فَأَلْغَزَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ الْعَيْشِ نِسْبِيٌّ، وَمَنْ لَا يَجِدُ إِلَّا التَّمْرَ أَضْيَقُ حَالًا مِمَّنْ يَجِدُ الْخُبْزَ مَثَلًا، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا الْخُبْزَ أَضْيَقُ حَالًا مِمَّنْ يَجِدُ اللَّحْمَ مَثَلًا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَدْفَعُهُ الْحِسُّ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَتْ عَائِشَةُ ; وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا بِلَفْظِ وَمَا هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ لَا يَقْبَلُ الْحَمْلَ عَلَى الْإِدْرَاجِ.

قَوْلُهُ: (جِيرَانٌ) بِكَسْرِ الْجِيمِ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ: نِعْمَ الْجِيرَانُ كَانُوا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: جِيرَانَ صِدْقٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ الْإِشَارَةُ إِلَى أَسْمَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (مَنَائِحُ) بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ جَمْعُ مَنِيحَةٍ وَهِيَ كَعَطِيَّةٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَصْلُهَا عَطِيَّةُ النَّاقَةِ أَوِ الشَّاةِ، وَيُقَالُ: لَا يُقَالُ مَنِيحَةٌ إِلَّا لِلنَّاقَةِ وَتُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفِرْسِنِ سَوَاءً، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ: يَقُولُونَ مَنَحْتُكَ النَّاقَةَ وَأَعَرْتُكَ النَّخْلَةَ وَأَعْمَرْتُكَ الدَّارَ وَأَخْدَمْتُكَ الْعَبْدَ وَكُلُّ ذَلِكَ هِبَةُ مَنَافِعَ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَنِيحَةُ عَلَى هِبَةِ الرَّقَبَةِ، وَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَقَوْلُهُ: يَمْنَحُونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَكَسْرُ ثَالِثِهِ أَيْ يَجْعَلُونَهَا لَهُ مِنْحَةً.

قَوْلُهُ: (فَيَسْقِينَاهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَيَسْقِينَا مِنْهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا كَانَ فِيهِ الصَّحَابَةُ مِنَ التَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَفِيهِ فَضْلُ الزُّهْدِ، وَإِيثَارُ الْوَاجِدِ لِلْمُعْدِمِ، وَالِاشْتِرَاكُ فِيمَا فِي الْأَيْدِي. وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرْءِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ بَعْدَ أَنْ يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَذْكِيرًا بِنِعَمِهِ وَلِيَتَأَسَّى بِهِ غَيْرُهُ.

‌2 - بَاب الْقَلِيلِ مِنْ الْهِبَةِ

2568 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.

[الحديث 2568 - طرفه في: 5178]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَلِيلِ مِنَ الْهِبَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ فَلَأَنْ يَقْبَلَهُ مِمَّنْ أَحْضَرَهُ إِلَيْهِ أَوْلَى.

وَالْكُرَاعُ مِنَ الدَّابَّةِ مَا دُونَ الْكَعْبِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَكَانٍ وَلَا يَثْبُتُ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ الْخُزَاعِيَّةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَكْرَهُ رَدَّ الظِّلْفِ؟ قَالَ: مَا أَقْبَحَهُ، لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ الْحَدِيثَ. وَخَصَّ

ص: 199

الذِّرَاعَ وَالْكُرَاعَ بِالذِّكْرِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقِيرِ وَالْخَطِيرِ، لِأَنَّ الذِّرَاعَ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْكُرَاعَ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَفِي الْمَثَلِ: أَعْطِ الْعَبْدَ كُرَاعًا يَطْلُبْ مِنْكَ ذِرَاعًا.

وَقَوْلُهُ هُنَا: عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سُلَيْمَانُ مَوْلَى عَزَّةَ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ عليه الصلاة والسلام بِالْكُرَاعِ وَالْفِرْسِنِ إِلَى الْحَضِّ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَلَوْ قَلَّتْ؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ الْبَاعِثُ مِنَ الْهَدِيَّةِ لِاحْتِقَارِ الشَّيْءِ، فَحَضَّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأَلُّفِ.

‌3 - بَاب مَنْ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا.

2569 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ لَهَا غُلَامٌ نَجَّارٌ، قَالَ لَهَا: مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ، فَأَمَرَتْ عَبْدَهَا فَذَهَبَ فَقَطَعَ مِنْ الطَّرْفَاءِ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا قَضَاهُ أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ قَدْ قَضَاهُ، قَالَ: أَرْسِلِي بِهِ إِلَيَّ. فَجَاءُوا بِهِ، فَاحْتَمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.

2570 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ - وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا - وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا - وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي - فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالُوا لَا وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا - وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي - فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى نَفِدَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ" فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً جَازَ، أَيْ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ طِيبَ أَنْفُسِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) هُوَ الْخُدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الرُّقْيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، وَسَهْلٌ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ اسْتِيهَابُهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَنْفَعَةَ غُلَامِهَا، وَقَدْ سَبَقَ مَا نُقِلَ فِي تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ هُنَا فَزَعَمَ أَنَّ اسْمَ الْمَرْأَةِ مِينَا وَهُوَ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي اسْمِ النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ،

ص: 200

وَإنَّ قَوْلَ أَبِي غَسَّانَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ - وَهَمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْصَارِيَّةً حَالَفَتْ مُهَاجِرِيًّا وَتَزَوَّجَتْ بِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ سَاقَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَفْظِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالَّذِي فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ مَا وَصَفْتُهُ.

فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ طَلَبُ أَبِي قَتَادَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مُنَاوَلَتَهُ رُمْحَهُ وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ رِوَايَةَ مَنْ زَادَ فِيهِ كُلُوا وَأَطْعِمُونِي، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ.

وَقَوْلُهُ: فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَخُو إِسْمَاعِيلَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: أَخْصِفُ نَعْلِي بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ أَجْعَلُ لَهَا طَاقًا، كَأَنَّهَا كَانَتِ انْخَرَقَتْ فَأَبْدَلَهَا. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: أَعْمَلُ لَهَا شِسْعًا، وَقَوْلُهُ: حَتَّى نَفَّدَهَا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ فَرَغَ مِنْ أَكْلِهَا كُلِّهَا، وَرُوِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتِيهَابُ الصَّدِيقِ حَسَنٌ إِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ تَطِيبُ بِهِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَذَا مِنْ أَبِي قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا لِيُؤْنِسَهُمْ بِهِ وَيَرْفَعَ عَنْهُمُ اللَّبْسَ فِي تَوَقُّفِهِمْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيُّ هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الْأَنْصَارِ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ مَنْ قَالَهُ بِكَسْرِ اللَّامِ لَحَنَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ كَسْرُ اللَّامِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ الْأَصْلُ، وَيُتَعَجَّبُ مِنْ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

‌4 - بَاب مَنْ اسْتَسْقَى. وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِنِي.

2571 -

حَدَّثَني خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو طُوَالَةَ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ، أَلَا فَيَمِّنُوا.

قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَسْقَى) مَاءً أَوْ لَبَنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْقِنِي) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْقِنَا يَا سَهْلُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي تَقْدِيمِ الْأَيْمَنِ فِي الشُّرْبِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ، أَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي طُوَالَةَ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ: فَاسْتَسْقَى.

قَوْلُهُ: (الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ) فِيهِ تَقْدِيرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيِ الْمُقَدَّمُ الْأَيْمَنُونَ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا فَيَمِّنُوا كَذَا وَقَعَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّيَامُنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَيْضًا الْأَيْمَنُونَ ذَكَرَ اللَّفْظَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَمَا ذَكَرَ قَوْلَ أَنَسٍ فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ، وَعَلَى ذَلِكَ شَرَحَ ابْنُ التِّينِ كَأَنَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَتِهِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ إِلَّا كَمَا وَصَفْتُ أَوَّلًا، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأَيْمَنَ يُقَدَّمُ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِإِعَادَتِهِ أَكْمَلَ ذَلِكَ بِصَرِيحِ الْأَمْرِ بِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ

ص: 201

التَّعْمِيمُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ تَفَرَّدَ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَسْقَى. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَخَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ بِدُونِهَا. انْتَهَى. وَسُلَيْمَانُ حَافِظٌ وَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ.

وَفِيهِ جَوَازُ طَلَبِ الْأَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ إِذَا كَانَتْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ طَيِّبَةً بِهِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ السُّؤَالِ الْمَذْمُومِ.

‌5 - بَاب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ. وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ

2572 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا - قَالَ: فَخِذَيْهَا، لَا شَكَّ فِيهِ - فَقَبِلَهُ، قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ.

[الحديث 2572 - طرفاه في: - 5489، 5535]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ، وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ بَابٍ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (أَنْفَجْنَا) بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ أَيْ أَثَرْنَا.

وَقَوْلُهُ: (فَلَغَبُوا) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَعِبُوا. وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ عَطِشُوا. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: ضَبَطُوا لَغَبُوا بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالْفَتْحُ أَعْرَفُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ. وَمَرُّ الظَّهْرَانِ وَادٍ مَعْرُوفٌ عَلَى خَمْسَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى خَمْسَةِ أَمْيَالٍ. وَزَعَمَ ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِيلًا، وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَكْرِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ غَلَطٌ وَإِنْكَارٌ لِلْمَحْسُوسِ. وَمَرُّ: قَرْيَةٌ ذَاتُ نَخْلٍ وَزَرْعٍ وَمِيَاهٍ، وَالظَّهْرَانُ اسْمُ الْوَادِي، وَتَقُولُ الْعَامَّةُ: بَطْنُ مَرْوٍ.

قُلْتُ: وَقَوْلُ الْبَكْرِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ.

وَقَوْلُهُ: فَخُذِيهَا لَا شَكَّ فِيهِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَشُكُّ فِي الْوَرِكَيْنِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الشَّكَّ فِي قَوْلِهِ: فَخِذَيْهَا أَوْ وَرِكَيْهَا لَيْسَ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ كَانَ يَشُكُّ فِي الْفَخِذَيْنِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ، وَكَذَلِكَ شَكَّ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ الْقَبُولَ فَجَزَمَ بِهِ آخِرًا.

‌6 - باب قبول الهدية

2573 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ) كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هُنَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَأَوْرَدَ فِيهِ

ص: 202

حَدِيثَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فِي إِهْدَائِهِ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا لَقَبِلَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ مَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ.

‌7 - بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ

[الحديث 2574 - أطرافه في: 2580، 2581، 3775]

2575 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ - خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"

[الحديث 2575 - أطرافه في: 5389، 5402، 7358]

2575 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ وَتَرَكَ الأضَّبَّ تَقَذُّرًا.

2576 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ مَعَهُمْ.

2577 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ، قَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.

2578 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وَأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. وَخُيِّرَتْ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: زَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ؟ قَالَ شُعْبَةُ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ زَوْجِهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي أَحُرٌّ أَمْ عَبْدٌ.

2579 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا

ص: 203

شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّدَقَةِ، قَالَ: إِنَّه قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.

رَابِعُهُا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِشِرَاءِ بَرِيرَةَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ قَرِيبًا، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصِّفَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ: فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ تَكْرَارٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ بَابٌ مَنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ وَذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ (كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ) وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: مَرْضَاتَ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّضَا، وَقَوْلُهُ فِيهِ:(يَبْتَغُونَ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مِنَ الْبُغْيَةِ، وَرُوِيَ يَتَّبِعُونَ بِتَقْدِيمِ مُثَنَّاةٍ مُثَقَّلَةٍ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ) وَهِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَطْعِمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الضَّبِّ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَتَرَكَ الْأَضُبَّ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَلِغَيْرِهِ الضَّبَّ وَالْأَضُبُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ ضَبٍّ مِثْلُ أَكُفٍّ وَكَفٍّ، وقَوْلُهُ:(تَقَذُّرًا) بِالْقَافِ وَالْمُعْجَمَةِ، تَقُولُ قَذِرْتُ الشَّيْءَ وَتَقَذَّرْتُهُ إِذَا كَرِهْتَهُ.

وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ التَّقْرِيرِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَبُولِهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ وَرَدِّهِ الصَّدَقَةَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ، زَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (ضَرَبَ بِيَدِهِ) أَيْ شَرَعَ فِي الْأَكْلِ مُسْرِعًا، وَمِثْلُهُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ إِذَا أَسْرَعَ السَّيْرَ فِيهَا.

وَوَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ؟ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. فَجَعَلَ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَهُوَ الثَّابِتُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ. قوله (عن أنس في رواية الإسماعيلي) من طريق معاذ عن شعبة عن قتادة سمع أنس بن مالك.

سَادِسُهَا: حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الشَّاةِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنَّهَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.

قَوْلُهُ فِيهِ: (الَّذِي بَعَثْ إِلَيْهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بُعِثَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ قَدْ بَلَغَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ يَقَعُ عَلَى الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، أَيْ: زَالَ عَنْهَا حُكْمُ الصَّدَقَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيَّ وَصَارَتْ لِي حَلَالًا.

(تَنْبِيهٌ): أُمُّ عَطِيَّةَ اسْمُهَا نُسَيْبَةُ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَسِيبَةُ بِفَتْحِ النُّونِ، وَمِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، نُسَيْبَةُ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الصَّوَابُ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَعَثَتْ إِلَيَّ نُسَيْبَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ بِشَاةٍ فَأَرْسَلْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ .. الْحَدِيثَ.

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُسَيْبَةَ غَيْرُ أُمِّ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: سَبَبُ ذَلِكَ تَحْرِيفٌ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ فِي قَوْلِهِ: بَعَثَ، وَالصَّوَابُ بُعِثَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِيهِ نَوْعُ التَّجْرِيدِ لِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا بِمَا يُوهِمُ أَنَّ الَّذِي تُخْبِرُ عَنْهُ غَيْرُهَا.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ مَنْزِلَةُ ضَعَةٍ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى:{وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلْأَغْنِيَاءِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَدِيَّةِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالْإِثَابَةِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ

ص: 204

كَانَ شَأْنُهُ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفُ الْفَقِيرِ الَّذِي أُعْطِيَهَا بِالْبَيْعِ وَالْهَدِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ الصَّدَقَةُ كَمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ قَبِلَتْ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ وَأُمِّ عَطِيَّةَ مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةً عَلَيْهِمَا، وَظَنَّتِ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَمْ تُقَدِّمْهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَأَقَرَّهَا صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ لَهَا أَنَّ حُكْمَ الصَّدَقَةِ فِيهَا قَدْ تَحَوَّلَ فَحَلَّتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازُ اسْتِرْجَاعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِنَ الْفَقِيرِ مَا أَعْطَاهُ لَهُ مِنَ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ زَكَاتَهَا لِزَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَا شَرْطَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ): اسْتَشْكَلَتْ قِصَّةُ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مَعَ حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ لِأَنَّ شَأْنَهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ أَعْلَمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا قَبَضَهَا مَنْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا زَالَ عَنْهَا حُكْمُ الصَّدَقَةِ وَجَازَ لِمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا إِذَا أُهْدِيَتْ لَهُ أَوْ بِيعَتْ، فَلَوْ تَقَدَّمَتْ إِحْدَى الْقِصَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ الْقِصَّتَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.

‌8 - بَاب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ

2580 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِي. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِنَّ صَوَاحِبِي اجْتَمَعْنَ، فَذَكَرَتْ لَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا.

2581 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ: فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً فَلْيُهْدِها حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ. فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ قَالَتْ:

ص: 205

بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: الْكَلَامُ الْأَخِيرُ قِصَّةُ فَاطِمَةَ يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٍ مِنَ المَوَالِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ) يُقَالُ تَحَرَّى الشَّيْءَ إِذَا قَصَدَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِي، وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِنَّ صَوَاحِبِي اجْتَمَعْنَ، فَذَكَرَتْ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ فَاجْتَمَعْنَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: خَبِّرِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا لَهُ حَيْثُ كَانَ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَت: فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَتْ: فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي .. الْحَدِيثَ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِ عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ .. فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ مُرْسَلًا. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِ النِّسَاءِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ الْأَنْصَارُ يُكْثِرُونَ إِلْطَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ جِوَارِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ (حَدَّثَنِي أَخِي) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ. وَقَدْ تَابَعَ الْبُخَارِيَّ، حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، فَرَوَيَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا قَالَ، وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، فَرَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَذَفَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَسُلَيْمَانَ، وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيلَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) زَادَ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي آخِرِهِ: فَقَالَتْ - أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ - أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا إِرْسَالَهُنَّ فَاطِمَةَ، ثُمَّ إِرْسَالَهُنَّ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقَدْ تَصَرَّفَ الرُّوَاةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: الْكَلَامُ الْأَخِيرُ قِصَّةُ فَاطِمَةَ - أَيْ إِرْسَالُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ - يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي: أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ، فَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الْأَخِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بَقِيَّتُهُنَّ، وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ وَأُمُّ حَبِيبَةُ الْأُمَوِيَّةُ وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ

ص: 206

الْهِلَالِيَّةُ دُونَ زَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ أُمِّ الْمَسَاكِينِ. رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ رُمَيْثَةَ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ رُمَيْثَةُ بِالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرَةٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَلَّمَنِي صَوَاحِبِي وَهُنَّ - فَذَكَرَتْهُنَّ - وَكُنَّا فِي الْجَانِبِ الثَّانِي وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَصَوَاحِبُهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْنَ: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ النَّاسَ يُهْدُونَ إِلَيْهِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَنَحْنُ نُحِبُّ مَا تُحِبُّ .. الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَسْكَنَ أُمَّ سَلَمَةَ بَيْتَهَا لَمَّا دَخَلَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمِ النَّاسَ) بِالْجَزْمِ وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُهْدِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَلْيُهْدِ بِحَذْفِ الضَّمِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ) يَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِ عَائِشَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ دَعَيْنَ وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الَّتِي خَاطَبَتْهَا بِذَلِكَ مِنْهُنَّ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهَا: أَرْسَلَتْكِ زَيْنَبُ؟ قَالَتْ: زَيْنَبُ وَغَيْرُهَا، قَالَ: أَهِيَ الَّتِي وَلِيَتْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ يَطْلُبْنَ مِنْكَ الْعَدْلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: يُنَاشِدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ، أَيْ يَسْأَلْنَكَ بِاللَّهِ الْعَدْلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَغَيْرِهَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَبُو قُحَافَةَ هُوَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ قَالَتْ: بَلَى) زَادَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ، فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ) زَادَ مُسْلِمٌ: فَقُلْنَ لَهَا: مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) زَادَ مُسْلِمٌ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ ثَنَاءُ عَائِشَةَ عَلَيْهَا بِالصَّدَقَةِ، وَذِكْرُهَا لَهَا بِالْحِدَّةِ الَّتِي تُسْرِعُ مِنْهَا الرَّجْعَةَ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَتْهُ) فِي مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: فَذَهَبَتْ زَيْنَبُ حَتَّى اسْتَأْذَنَتْ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهَا. فَقَالَتْ: حَسْبُكَ إِذَا بَرَقَتْ لَكَ بِنْتُ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ ذِرَاعَيْهَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ وَهُوَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَغْلَظَتْ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ. وَفِي مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: فَوَقَعَتْ بِعَائِشَةَ وَنَالَتْ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْقُبُ طَرَفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا. قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ وَفِي هَذَا جَوَازُ الْعَمَلِ بِمَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَرَائِنِ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَسَبَّتْنِي، فَرَدَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَبَتْ، فَقَالَ: سُبِّيهَا، فَسَبَبْتُهَا حَتَّى جَفَّ رِيقُهَا فِي فَمِهَا. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي بَابِ انْتِصَارِ الظَّالِمِ مِنْ كِتَابِ الْمَظَالِمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعَدُّدِ.

قَوْلُهُ: (فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا غَلَبَةً. وَلِابْنِ سَعْدٍ: فَلَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَفْحَمْتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: إِنَّهَا شَرِيفَةٌ عَاقِلَةٌ عَارِفَةٌ كَأَبِيهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ يَتَهَلَّلُ وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ عَالِمًا بِمَنَاقِبِ مُضَرَ وَمَثَالِبِهَا فَلَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ بِنْتِهِ تَلَقِّي ذَلِكَ عَنْهُ وَمَنْ يُشَابَهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ فِي إِيثَارِ بَعْضِ نِسَائِهِ بِالتُّحَفِ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ الْعَدْلُ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ

ص: 207

ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ، كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ الَّذِينَ أَهْدَوْا لَهُ وَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَمَالِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَتَعَرَّضَ الرَّجُلُ إِلَى النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِطَلَبِ الْهَدِيَّةِ، وَأَيْضًا فَالَّذِي يُهْدِي لِأَجْلِ عَائِشَةَ كَأَنَّهُ مَلَّكَ الْهَدِيَّةَ بِشَرْطٍ، وَالتَّمْلِيكُ يُتَّبَعُ فِيهِ تَحْجِيرُ الْمَالِكِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُشْرِكُهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْمُنَافَسَةُ لِكَوْنِ الْعَطِيَّةِ تَصِلُ إِلَيْهِنَّ مِنْ بَيْتِ عَائِشَةَ.

وَفِيهِ قَصْدُ النَّاسِ بِالْهَدَايَا أَوْقَاتَ الْمَسَرَّةِ وَمَوَاضِعَهَا لِيَزِيدَ ذَلِكَ فِي سُرُورِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ. وَفِيهِ تَنَافُسُ الضَّرَائِرِ وَتَغَايُرُهُنَّ عَلَى الرَّجُلِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يَسَعُهُ السُّكُوتُ إِذَا تَقَاوَلْنَ، وَلَا يَمِيلُ مَعَ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّشَكِّي وَالتَّوَسُّلِ فِي ذَلِكَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَهَابَتِهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ حَتَّى رَاسَلْنَهُ بِأَعَزِّ النَّاسِ عِنْدَهُ فَاطِمَةَ. وَفِيهِ سُرْعَةُ فَهْمِهِنَّ وَرُجُوعُهُنَّ إِلَى الْحَقِّ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ. وَفِيهِ إِدْلَالُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمَّتِهِ، كَانَتْ أُمُّهَا أُمَيْمَةَ - بِالتَّصْغِيرِ - بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَفِيهِ عُذْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ.

قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مُخَاطَبَتِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِطَلَبِ الْعَدْلِ مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ أَعْدَلُ النَّاسِ، لَكِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْغَيْرَةُ فَلَمْ يُؤَاخِذْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّ زَيْنَبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام كَانَتْ حَامِلَةَ رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ، بِخِلَافِ زَيْنَبَ فَإِنَّهَا شَرِيكَتُهُنَّ فِي ذَلِكَ بَلْ رَأْسُهُنَّ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَوَلَّتْ إِرْسَالَ فَاطِمَةَ أَوَّلًا ثُمَّ سَارَتْ بِنَفْسِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ الْغَسَّانِيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ فِيهِ تَغْيِيرٌ، فَغَيَّرَهُ الْعُثْمَانِيُّ حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ خَطَأٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِأَبِي مَرْوَانَ هَذَا رِوَايَةٌ مَوْصُولَةٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَوَقَعَ لِلْقَابِسِيِّ فِيهِ تَصْحِيفٌ غَيْرُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ .. إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ أَبَا مَرْوَانَ فَصَلَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هِشَامٍ، فَجَعَلَ الْأَوَّلَ - وَهُوَ التَّحَرِّي - كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَجَعَلَ الثَّانِيَ - وَهُوَ قِصَّةُ فَاطِمَةَ - عَنْ هِشَامٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٍ مِنَ الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ.

قُلْتُ: وَطَرِيقُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ - مَشْهُورَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، زَادَ مُسْلِمٌ وَيُونُسُ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَهَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَقَالَ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَخَالَفَهُمْ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، فَجَعَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

قَالَ الذُّهْلِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمَحْفُوظُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبُو مَرْوَانَ هَذَا هُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا الْغَسَّانِيُّ، وَهُوَ شَامِيٌّ نَزَلَ وَاسِطَ، وَاسْمُ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى أَيْضًا، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُكَنَّى أَبَا مَرْوَانَ لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، وَإِنَّمَا يَرْوِي عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِيهِ اخْتِلَافًا آخَرَ، فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْهُ: عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أُخْتِهِ رُمَيْثَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لَهَا: إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ .. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِهِشَامٍ فِيهِ طَرِيقَانِ، فَإِنَّ عَبْدَةَ بْنَ سُلَيْمَانَ رَوَاهُ عَنْهُ بِالْوَجْهَيْنِ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ كَمَا مَضَى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مُتَابِعًا لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 208

‌9 - بَاب مَا لَا يُرَدُّ مِنْ الْهَدِيَّةِ

2582 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا قَالَ: كَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه لَا يَرُدُّ الطِّيبَ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.

[الحديث 2582 - طرفه في: 5929]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا لَا يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ: الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يَعْنِي بِالدُّهْنِ الطِّيبَ، إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ، وَاكْتَفَى بِحَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لِمُنَاجَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَأْكُلُ الثُّومَ وَنَحْوَهُ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَنَسًا اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ رَدِّهِ مَقْرُونًا بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْحِمْلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ قَالَ: رَيْحَانٌ بَدَلَ طِيبٍ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَثْبَتُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ وَسَبْعَةَ أَنْفُسٍ مَعَهُ رَوَوْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ الطِّيبِ، وَوَافَقَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (عَزْرَةُ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا قَالَ: كَانَ أَنَسٌ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ) فَاعِلُ قَالَ هُوَ عَزْرَةُ وَالضَّمِيرُ لِثُمَامَةَ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الضَّمِيرَ لِأَنَسٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ثُمَامَةَ فَنَاوَلَنِي طِيبًا، قُلْتُ: قَدْ تَطَيَّبْتُ، فَقَالَ: كَانَ أَنَسٌ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.

قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) أَيْ قَالَ، وَالزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ كَثِيرًا.

‌10 - بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً

2583، 2584 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما وَمَرْوَانَ أَخْبَرَاهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ قَامَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا لَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ فِي قِصَّةِ هَوَازِنَ، وَمُرَادُهُ

ص: 209

مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ. فَإِنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ طَيَّبْنَا لَكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِتْقِ فِي بَابِ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، فَفِيهِ أَنَّهُمْ وَهَبُوا مَا غَنِمُوهُ مِنَ السَّبْيِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْسَمَ، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْغَائِبِ، وَحَذَفَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ جَوَابَ الشَّرْطِ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ فَلْيَفْعَلْ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ أَمْلَاكَ قَوْمٍ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ وَاسْتِئْلَافٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَقَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَطْيِيبِ نُفُوسِ الْمَالِكِينَ.

‌11 - بَاب الْمُكَافَأَةِ فِي الْهِبَةِ

2585 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا.

لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُكَافَأَةِ فِي الْهِبَةِ) الْمُكَافَأَةُ بِالْهَمْزِ مُفَاعَلَةٌ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْهِبَةِ هُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْهِبَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْفَرَّاءِ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ.

قَوْلُهُ: (يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا) أَيْ يُعْطِي الَّذِي يُهْدِي لَهُ بَدَلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ الْمُجَازَاةُ، وَأَقَلُّهُ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ الْهَدِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ، وَمُحَاضِرٌ: عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ عَنْ هِشَامٍ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَزَّارُ: لَا نَعْرِفُهُ مَوْصُولًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَقَالَ الْآَجُرِّيُّ: سَأَلْتُ أَبَا دَاوُدَ عَنْهُ فَقَالَ: تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُرْسَلٌ. وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ وَصَلَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ وَيُثِيبُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَرِوَايَةُ مُحَاضِرٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا بَعْدُ.

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَى الْهَدِيَّةِ إِذَا أَطْلَقَ الْوَاهِبُ، وَكَانَ مِمَّنْ يَطْلُبُ مِثْلُهُ الثَّوَابَ كَالْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ، بِخِلَافِ مَا يَهَبُهُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ مُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي أَهْدَى قَصَدَ أَنْ يُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى فَلَا أَقَلَّ أَنْ يُعَوَّضَ بِنَظِيرِ هَدِيَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ كَالْحَنَفِيَّةِ: الْهِبَةُ لِلثَّوَابِ بَاطِلَةٌ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهَا بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْهِبَةِ التَّبَرُّعُ فَلَوْ أَبْطَلْنَاهُ لَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَمَا اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْهِبَةَ لَوْ لَمْ تَقْتَضِ الثَّوَابَ أَصْلًا لَكَانَتْ بِمَعْنَى الصَّدَقَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِ الَّذِي يُهْدِي أَنَّهُ يَطْلُبُ الثَّوَابَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَقِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ

وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الْآخَر مِثْلَهُ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ.

وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ؟ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَتَعَدَّى؟

وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ وَقَالَ: اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ.

ص: 210

2586 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا، فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْهُ.

[الحديث 2586 - طرفاه في: 2587، 2650]

‌13 - بَاب الْإِشْهَادِ فِي الْهِبَةِ

2587 -

حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الْآخَرَ مِثْلَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَيُعْطِي الْآخَرِينَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِدُونِ قَوْلِهِ: فِي الْعَطِيَّةِ وَهِيَ بِالْمَعْنَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَلَفْظُهُ: سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُسَوُّوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ، وَيَأْتِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ) يَعْنِي لِوَلَدِهِ (وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَتَعَدَّى) اشْتَمَلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:

الْأَوَّلُ: الْهِبَةُ لِلْوَلَدِ، وَإِنَّمَا تَرْجَمَ بِهِ لِيَرْفَعَ إِشْكَالَ مَنْ يَأْخُذُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ لِأَبِيهِ، فَلَوْ وَهَبَ الْأَبُ وَلَدَهُ شَيْئًا كَانَ كَأَنَّهُ وَهَبَ نَفْسَهُ، فَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَوْ إِلَى تَأْوِيلِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ - فِيهَا قِصَّةٌ مُطَوَّلَةٌ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَعَنْ سَمُرَةَ وَعَنْ عُمَرَ، كِلَاهُمَا عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، فَمَجْمُوعُ طُرُقِهِ لَا تَحُطُّهُ عَنِ الْقُوَّةِ، وَجَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ.

الْحُكْمُ الثَّانِي: الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ كَمَا سِيَأْتِي. وَحَدِيثُ الْبَابِ عَنِ النُّعْمَانِ حُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَهُ.

الثَّالِثُ: رُجُوعُ الْوَالِدِ فِيمَا وَهَبَ لِلْوَلَدِ، وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ فَلَا يَرْجِعُ فِي الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُعْطِي عَطِيَّةً أَوْ يَهَبُ هِبَةً فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الرَّابِعُ: أَكْلُ

ص: 211

الْوَالِدِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَفِي انْتِزَاعِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ خَفَاءٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْأَبِ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَلَأَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا وَهَبَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ وَقَالَ: اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْبُيُوعِ. وَيَأْتِي أَيْضًا مَوْصُولًا بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ سَأَلَ عُمَرَ أَنْ يَهَبَ الْبَعِيرَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ لَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا بَيْنَ بَنِي عُمَرَ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَاهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ ثُمَّ وَهَبَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَلْزَمُ الْمَعْدِلَةُ فِيمَا يَهَبُهُ غَيْرُ الْأَبِ لِوَلَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) كَذَا لِأَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَاهُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ بَشِيرٍ فَشَذَّ بِذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النُّعْمَانِ، وَبَشِيرٌ وَالِدُ النُّعْمَانِ هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْجُلَاسِ - بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ - الْخَزْرَجِيُّ، صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَشَهِدَ غَيْرَهَا، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ: عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النُّعْمَانِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَبُو الضُّحَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَأَحْمَدَ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالشَّعْبِيُّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَاهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَدَدٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ مُفَصِّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً. وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حِبَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ سَبَبُ سُؤَالِهَا شَهَادَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ: عَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ. زَادَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً أَيْ مَطَلَهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: بَعْدَ حَوْلَيْنِ.

وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُدَّةَ كَانَتْ سَنَةً وَشَيْئًا فَجَبَرَ الْكَسْرَ تَارَةً وَأَلْغَى أُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ لَهُ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَمَشَى مَعَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَحَمَلَهُ فِي بَعْضِهَا لِصِغَرِ سِنِّهُ، أَوْ عَبَّرَ عَنِ اسْتِتْبَاعِهِ إِيَّاهُ بِالْحَمْلِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ كَانَتْ غُلَامًا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ مَعًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ بِمُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ إنَّ النُّعْمَانَ خَطَبَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: إِنَّ وَالِدِي بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ رَوَاحَةَ نَفِسَتْ بِغُلَامٍ، وَإِنِّي سَمَّيْتُهُ النُّعْمَانَ، وَإِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى جَعَلْتُ لَهُ حَدِيقَةً مِنْ أَفْضَلِ مَالٍ هُوَ لِي وَأَنَّهَا قَالَتْ: أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.

وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِال حَمْلِ عَلَى وَقِعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ وِلَادَةِ النُّعْمَانِ وَكَانَتِ الْعَطِيَّةُ حَدِيقَةً، وَالْأُخْرَى بَعْدَ أَنْ كبر النُّعْمَانُ وَكَانَتِ الْعَطِيَّةُ عَبْدًا، وَهُوَ جَمْعٌ لَا بَأْسَ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَنْسَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ جَلَالَتِهِ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْتَشْهِدَهُ عَلَى الْعَطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ

ص: 212

قَالَ لَهُ فِي الْأُولَى: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. وَجَوَّزَ ابْنُ حِبَّانَ أَنْ يَكُونَ بَشِيرٌ ظَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَمَلَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِامْتِنَاعِ فِي الْحَدِيقَةِ الِامْتِنَاعُ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ ثَمَنَ الْحَدِيقَةِ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ آخَرَ مِنَ الْجَمْعِ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا الْخَدْشِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ وَهُوَ أَنَّ عَمْرَةَ لَمَّا امْتَنَعَتْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ إِلَّا أَنْ يَهَبَ لَهُ شَيْئًا يَخُصُّهُ بِهِ وَهَبَهُ الْحَدِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَارْتَجَعَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَعَاوَدَتْهُ عَمْرَةُ فِي ذَلِكَ فَمَطَلَهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ بَدَلَ الْحَدِيقَةِ غُلَامًا وَرَضِيَتْ عَمْرَةُ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ يَرْتَجِعَهُ أَيْضًا فَقَالَتْ لَهُ: أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُرِيدُ بِذَلِكَ تَثْبِيتَ الْعَطِيَّةِ وَأَنْ تَأْمَنَ مِنْ رُجُوعِهِ فِيهَا، وَيَكُونُ مَجِيئُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْإِشْهَادِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْأَخِيرَةُ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ، أَوْ كَانَ النُّعْمَانُ يَقُصُّ بَعْضَ الْقِصَّةِ تَارَةً وَيَقُصُّ بَعْضَهَا أُخْرَى، فَسَمِعَ كُلٌّ مَا رَوَاهُ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَمْرَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ بِنْتُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيَّةُ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِذَلِكَ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: كَانَتْ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النِّسَاءِ، وَفِيهَا يَقُولُ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ:

وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ

تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا

قَوْلُهُ: (إِنِّي نَحَلْتُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَالنِّحْلَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْعَطِيَّةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ؟) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَيَّانَ: فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ مُسْلِمٌ لَمَّا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ: أَمَّا يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ فَقَالَا: أَكُلَّ بَنِيكَ، وَأَمَّا اللَّيْثُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَا: أَكُلَّ وَلَدِكَ.

قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَشْمَلُ مَا لَوْ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ إِنَاثًا وَذُكُورًا، وَأَمَّا لَفْظُ الْبَنِينَ فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانُوا إِنَاثًا وَذُكُورًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ ; وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ سَعْدٍ لِبَشِيرٍ وَالِدِ النُّعْمَانِ وَلَدًا غَيْرَ النُّعْمَانِ، وَذَكَرَ لَهُ بِنْتًا اسْمُهَا أُبَيَّةُ بِالْمُوَحَّدَةِ، تَصْغِيرُ أَبي.

قَوْلُهُ: (نَحَلْتَ مِثْلَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي حَيَّانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مثل هَذَا؟ قَالَ: لَا. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ: أَلَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَارْجِعْهُ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَارْدُدْهُ. وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. وَلِمُسْلِمٍ: فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَيَّانَ فِي الشَّهَادَاتِ: قَالَ: لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ. وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ الْمَذْكُورَةِ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.

وَقَدْ عَلَّقَ مِنْهَا الْبُخَارِيُّ هَذَا الْقَدْرَ فِي الشَّهَادَاتِ، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَيَّانَ فَقَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا ; فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. وَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، لِيَشْهَدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي. وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ. وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ مُرْسَلًا لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى الْحَقِّ، لَا أَشْهَدُ بِهَذِهِ. وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَكَرِهَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي

ص: 213

النِّحَلِ، كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ. وَفِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، فَلَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ وَلَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَوِّ بَيْنَهُمْ.

وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ السَّوِيَّةَ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ.

وَعَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ. وَعَنْهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ، كَأَنْ يَحْتَاجَ الْوَلَدُ لِزَمَانَتِهِ وَدَيْنِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُونَ الْبَاقِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ التَّسْوِيَةُ إِنْ قَصَدَ بِالتَّفْضِيلِ الْإِضْرَارَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضًا صَحَّ وَكُرِهَ. وَاسْتُحِبَّتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ أَوِ الرُّجُوعُ، فَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ أَوْجَبَهُ أَنَّهُ مُقَدَّمَةُ الْوَاجِبِ لِأَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقَ مُحَرَّمَانِ فَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَالتَّفْضِيلُ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعَدْلُ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ حَظَّيْنِ كَالْمِيرَاثِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ حَظُّهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ لَوْ أَبْقَاهُ الْوَاهِبُ فِي يَدِهِ حَتَّى مَاتَ.

وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّسْوِيَةِ يَشْهَدُ لَهم. وَاسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَأَجَابَ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ عَلَى النَّدْبِ عَنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْهُوبَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ جَمِيعَ مَالِ وَالِدِهِ وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْعِ التَّفْضِيلِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ صَرَّحَ بِالْبَعْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ كَانَ غُلَامًا وَأَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ لَمَّا سَأَلَتْهُ الْأُمُّ الْهِبَةَ مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، قَالَ: وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْهُ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تتُنْجَزْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَشِيرٌ يَسْتَشِيرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا تَفْعَلَ، فَتَرَكَ. حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ. وَفِي أَكْثَرِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ مَا يُنَابِذُهُ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْمَوْهُوبَ فَجَازَ لِأَبِيهِ الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَيْضًا خُصُوصًا قَوْلُهُ: ارْجِعْهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُقُوعِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَكَانَ أَبُوهُ قَابِضًا لَهُ لِصِغَرِهِ، فَأَمَرَ بِرَدِّ الْعَطِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَمَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ.

رَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ارْجِعْهُ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ رُجِّحَ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْجِعْهُ أَيْ لَا تُمْضِ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ صِحَّةِ الْهِبَةِ.

خَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي إِذْنٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْإِمَامَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَشْهَدُ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ وَإِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْكُمَ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَارْتَضَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَلَا مِنْ أَدَائِهَا إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحْتَجُّ بِهَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ

ص: 214

بَعْضِ نُوَّابِهِ جَازَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ قَوْلُهُ: أَشْهِدْ صِيغَةُ إِذْنٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لِلتَّوْبِيخِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَوْلُهُ: أَشْهِدْ صِيغَةُ أَمْرٍ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْجَوَازِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ: اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ انْتَهَى.

سَادِسُهَا: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ وَبِالنَّهْيِ التَّنْزِيهُ، وَهَذَا جَيِّدٌ لَوْلَا وُرُودُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ بِعَيْنِهَا وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ.

سَابِعُهَا: وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ قَارِبُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، لَا سَوُّوا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَا يُوجِبُونَ الْمُقَارَبَةَ كَمَا لَا يُوجِبُونَ التَّسْوِيَةَ.

ثَامِنُهَا: فِي التَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ مِنْهُمْ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، لَكِنْ إِطْلَاقُ الْجَوْرِ عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ

(1)

وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّشْبِيهُ قَالَ: فَلَا إِذًا.

تَاسِعُهَا: عَمَلُ الْخَلِيفَتَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَرَوَاهُ الْمُوَطَّأُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ نُحْلًا فَلَوْ كُنْتِ اخْتَرْتِيهِ لَكَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ لِلْوَارِثِ، وَأَمَّا عُمَرُ فَذَكَرَه الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ نَحَلَ ابْنَهُ عَاصِمًا دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَقَدْ أَجَابَ عُرْوَةُ عَنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ بِأَنَّ إِخْوَتَهَا كَانُوا رَاضِينَ بِذَلِكَ، وَيُجَابُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ قِصَّةِ عُمَرَ.

عَاشِرُ الْأَجْوِبَةِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ مَالَهُ لِغَيْرِ وَلَدِهِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ جَمِيعَ وَلَدِهِ مِنْ مَالِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضَهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَى مَيْلِ الْأَبِ لِبَعْضِ الْأَوْلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى الْحَقِّ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ: أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَكَذَلِكَ الْأُمُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَقَالُوا: لِلْأُمِّ أَنْ تَرْجِعَ إِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا دُونَ مَا إِذَا مَاتَ، وَقَيَّدُوا رُجُوعَ الْأَبِ بِمَا إِذَا كَانَ الِابْنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَسْتَحْدِثْ دَيْنًا أَوْ يَنْكِحْ، وَبِذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِلْأَبِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ صَغِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ كَبِيرًا وَقَبَضَهَا، قَالُوا: وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ لِزَوْجٍ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لِذِي رَحِمٍ لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمْ إِسْحَاقُ فِي ذِي الرَّحِمِ وَقَالَ: لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْجِعَ بِخِلَافِ الزَّوْجِ، وَالِاحْتِجَاجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ يَطُولُ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي اسْتِثْنَاءِ الْأَبِ: أَنَّ الْوَلَدَ وَمَالَهُ لِأَبِيهِ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رُجُوعًا فَرُبَّمَا اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةُ التَّأْدِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هِبَةِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا النَّدْبُ إِلَى التَّألُفِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَتَرْكِ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الشَّحْنَاءَ أَوْ يُورِثُ الْعُقُوقَ لِلْآبَاءِ، وَأَنَّ عَطِيَّةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي حِجْرِهِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ، وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهَا يُغْنِي عَنِ الْقَبْضِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ عَزْلِهَا وَإِفْرَازِهَا. وَفِيهِ كَرَاهَةُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَأَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْهِبَةِ مَشْرُوعٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: لعل هنا سقطا وتمامه "والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل على أن الأمر للوجوب، أو نحو ذلك

ص: 215

دُونَ بَعْضٍ، وَإِنْ وَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهَا إِمَّا لِيَحْكُمَ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ، أَوْ يُؤَدِّيَهَا عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ اسْتِفْصَالُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي عَمَّا يَحْتَمِلُ الْاسْتِفْصَالَ، لِقَوْلِهِ: أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ؟ فَلَمَّا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَفَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَهُ؟ فَلَمَّا قَالَ: لَا قَالَ: لَا أَشْهَدُ. فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: نَعَمْ؛ لَشَهِدَ.

وَفِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الْهِبَةِ صَدَقَةً، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ كَلَامًا فِي مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَمْرُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي بِتَقْوَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سُوءِ عَاقِبَةِ الْحِرْصِ وَالتَّنَطُّعِ، لِأَنَّ عَمْرَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِمَا وَهَبَهُ زَوْجُهَا لِوَلَدِهِ لَمَا رَجَعَ فِيهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ حِرْصُهَا فِي تَثْبِيتِ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى بُطْلَانِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْهُ هُرُوبًا عَنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌14 - بَاب هِبَةِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يَرْجِعَانِ. وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَبِي لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ - جَازَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ}

2588 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ - اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ الْأَرْضَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

2589 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ.

[الحديث 2589 - أطرافه في: 2621، 2622، 6975]

قَوْلُهُ: (بَابُ هِبَةِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا) أَيْ هَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِيهَا؟

قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (جَائِزَةٌ) أَيْ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا.

وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِذَا وَهَبَتْ لَهُ أَوْ وَهَبَ لَهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَطِيَّتُهُ. وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا وَهَبَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا أَوْ وَهَبَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ، إِذَا وَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يَرْجِعَانِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ

ص: 216

الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ مِثْلَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَوْصُولٌ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَبْنَ لَهَا مَا اسْتَحْقَقْنَ مِنَ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ رُجُوعٌ أَيْ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ الرُّجُوعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَهُوَ مَوْصُولٌ أَيْضًا فِي آخِرِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَابًا، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ ذَمَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَخَلَ فِيهِ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ تَمَسُّكًا بِعُمُومِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَبِي لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ .. إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ خَلَبَهَا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ خَدَعَهَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ الْقُضَاةَ يُقِيلُونَ الْمَرْأَةَ فِيمَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا، وَلَا يُقِيلُونَ الزَّوْجَ فِيمَا وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ عَنْهُ مَنْقُولَةٌ، وَرِوَايَةَ يُونُسَ عَنْهُ اخْتِيَارُهُ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَدَعَهَا، فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ أَوْ لَا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ أَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَإِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُطْلَقًا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَإِلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نَقَلَهُ الزُّهْرِيُّ ذَهَبَ شُرَيْحٌ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: إِنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا هِبَةً ثُمَّ رَجَعَتْ فِيهَا، فَاخْتَصَمَا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ لِلزَّوْجِ: شَاهِدَاكَ أَنَّهَا وَهَبَتْ لَكَ مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ وَلَا هَوَانٍ، وَإِلَّا فَيَمِينُهَا لَقَدْ وَهَبَتْ لَكَ عَنْ كُرْهٍ وَهَوَانٍ وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا فَشَاءَتْ أَنْ تَرْجِعَ رَجَعَتْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرُدُّ شَيْئًا إِذَا خَالَعَهَا وَلَوْ كَانَ مُضِرًّا بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌15 - بَاب هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ

؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}

2590 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِيَ مَالٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: تَصَدَّقِي، وَلَا تُوعِي، فَيُوعَى عَلَيْكِ.

2591 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ.

2592 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؛ قَالَ: أَوَفَعَلْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: أَمَا

ص: 217

إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ"

وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ "إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ"

[الحديث 2592 - أطرافه في: 2594]

2593 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"

[الحديث 2593 - أطرافه في: 2637، 2661، 2688، 2879، 4025، 4141، 4690، 4749، 4750، 4757، 5212، 6662، 6679، 7369، 7370، 7500، 7545]

قَوْلُهُ: (بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا، وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ) أَيْ وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ (فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، وَبِهَذَا الْحُكْمِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ طَاوُسٌ فَمَنَعَ مُطْلَقًا، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ رَشِيدَةً إِلَّا مِنَ الثُّلُثِ، وَعَنِ اللَّيْثِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.

وَأَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَاحْتُجَّ لِطَاوِسٍ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: لَا تَجُوزُ عَطِيَّةُ امْرَأَةٍ فِي مَالِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ أَصَحُّ، وَحَمَلَهَا مَالِكٌ عَلَى الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَجَعَلَ حَدَّهُ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ. وذكر المصنف منها ثلاثة أحاديث: الأول حديث أسماء.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ مُلَيْكَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَأَسْمَاءُ الَّتِي رَوَى عَنْهَا هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهِيَ جَدَّتُهُ لِأَبِيهِ، وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَرَّحَ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِتَحْدِيثِ عَائِشَةَ لَهُ بِذَلِكَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَبَّادٍ عَنْهَا ثُمَّ حَدَّثَتْهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا لِي مَالٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وَالزُّبَيْرُ هُوَ ابْنُ الْعَوَّامِ كَانَ زَوْجَهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَتَصَدَّقُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ بِإِثْبَاتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ) بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ جَوَابَ النَّهْيِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَالْمَعْنَى لَا تَجْمَعِي فِي الْوِعَاءِ وَتَبْخَلِي بِالنَّفَقَةِ فَتُجَازَيْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مَبْسُوطًا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ فَاطِمَةَ) هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الرَّاوِي عَنْهَا وَزَوْجَتُهُ، وَأَسْمَاءُ هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ جَدَّتُهُمَا جَمِيعًا لِأَبَوَيْهِمَا.

إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ.

وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ ..

الثَّانِي: حَدِيثُ مَيْمُونَةَ عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَبُكَيْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ نِصْفُهُ الْأَوَّلُ مِصْرِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْآخَرُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ يَزِيدُ، وَبُكَيْرٌ، وَكُرَيْبٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً) أَيْ جَارِيَةً، فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى

ص: 218

عَنِ الْهِلَالِيَّةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مَيْمُونَةُ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَنَّهَا كَانَتْ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَادِمًا فَأَعْطَاهَا خَادِمًا فَأَعْتَقَهَا.

قَوْلُهُ: (أَمَا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ (أنَّكِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ) أَخْوَالُهَا كَانُوا مِنْ بَنِي هِلَالٍ أَيْضًا، وَاسْمُ أُمِّهَا هِنْدُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ هِبَةَ ذِي الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِتْقِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ مَرْفُوعًا: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِبَةُ ذِي الرَّحِمِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ مُحْتَاجًا وَنَفْعُهُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ: أَفَلَا فَدَيْتِ بِهَا بِنْتَ أَخِيكِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ، فَبَيَّنَ الْوَجْهَ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ احْتِيَاجُ قَرَابَتِهَا إِلَى مَنْ يَخْدُمُهَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَوَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّهَا كَانَتْ رَشِيدَةً، وَأَنَّهَا أَعْتَقَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْمِرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَلْ أَرْشَدَهَا إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى، فَلَوْ كَانَ لَا يَنْفُذُ لَهَا تَصَرُّفٌ فِي مَالِهَا لَأَبْطَلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بكير) هُوَ ابْنُ مُضَرَ (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ (عَنْ بُكَيْرٍ) هُوَ ابْنُ الْأَشَجِّ (عَنْ كُرَيْبٍ: أَنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي عَتَقَتْهُ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ فِيهِ: أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مُوَافَقَةُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ كُرَيْبٍ وَقَدْ خَالَفَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ؛ فَرَوَاهُ عَنْ بُكَيْرٍ فَقَالَ: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ بَدَلَ بُكَيْرٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرِوَايَةُ يَزِيدَ، وَعَمْرٍو أَصَحُّ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عِنْدَ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنْ عَمْرٍو بِصُورَةِ الْإِرْسَالِ قَالَ فِيهِ: عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ فَذَكَرَ قِصَّةً مَا أَدْرَكَهَا، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَطَرِيقُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لَهُ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَسَمِعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَلَّوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ هُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ عَنْهُ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَصَدْرُهُ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ الْإِفْكِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غَيْرَ سَوْدَةَ إِلَخْ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي النِّكَاحِ، وَأَوْرَدَهُ مُفْرَدًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ تَوْجِيهُهُ هُنَاكَ فِي شَرْحِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا يَرِدُ عَلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ انْتَهَى. وَهُوَ حَمْلٌ سَائِغٌ إِنْ ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا تَصَرُّفٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ؟

2594 -

وَقَالَ بَكْرٌ: عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا فَقَالَ لَهَا: وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ.

2595 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ

ص: 219

عَبْدِ اللَّهِ - رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ) أَيْ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَكْرٌ) هُوَ ابْنُ مُضَرَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ فِيهِ الِاسْتِوَاءُ فِي صِفَةٍ مَا مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ فَيُقَدَّمُ الْقَرِيبُ عَلَى الْغَرِيبِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ فِيهِ الِاسْتِوَاءُ فِي الصِّفَاتِ كُلِّهَا، فَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فِي الذَّاتِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ) هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا عَائِشَةَ، وَقَدْ دَخَلَتِ الْبَصْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ شُعْبَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ سَمِعْتُ طَلْحَةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ، وَقَدْ أَزَالَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ اللَّبْسَ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ بَنِي تَيْمِ الرَّبَابِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ وَهَمٌ، وَالصَّوَابُ تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ وَهُوَ رَهْطُ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ وَافَقَ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ شُعْبَةَ كَمَا حَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: بَابًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ.

‌17 - بَاب مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَتْ الْهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ

2596 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ. قَالَ صَعْبٌ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي، قَالَ: لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ.

2597 -

حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْلُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكم شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ) أَيْ بِسَبَبٍ يَنْشَأُ عَنْهُ الرِّيبَةُ كَالْقَرْضِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِقِصَّةٍ فِيهِ، فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ فُرَاتِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: اشْتَهَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التُّفَّاحَ فَلَمْ

ص: 220

يَجِدْ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ، فَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَتَلَقَّاهُ غِلْمَانُ الدَّبرِ بِأَطْبَاقِ تُفَّاحٍ، فَتَنَاوَلَ وَاحِدَةً فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاقَ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقُلْتُ: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّةٌ، وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدَهُمْ رِشْوَةٌ. وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى.

وَقَوْلُهُ: رِشْوَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَيُعَابُ آخِذُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الرِّشْوَةُ كُلُّ مَالٍ دُفِعَ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ ذِي جَاهٍ عَوْنًا عَلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَالْمُرْتَشِي قَابِضُهُ، وَالرَّاشِي مُعْطِيهِ، وَالرَّائِشُ الْوَاسِطَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي لَعْنِ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ وَالرَّائِشُ وَالرَّاشِي، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي يُهْدِي لَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ وُدَّ الْمُهْدَى إِلَيْهِ أَوْ عَوْنَهُ أَوْ مَالَهُ، فَأَفْضَلُهَا الْأَوَّلُ، وَالثَّالِثُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّعُ بِذَلِكَ الزِّيَادَةَ عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَقَدْ تُسْتَحَبُّ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا وَالْمُهْدِي لَا يَتَكَلَّفُ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَوَدَّةِ وَعَكْسِهَا.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ لِمَعْصِيَةٍ فَلَا يَحِلُّ وَهُوَ الرِّشْوَةُ، وَإِنْ كَانَ لِطَاعَةٍ فَيُسْتَحَبُّ، وَإِنْ كَانَ لِجَائِزٍ فَجَائِزٌ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُهْدَى لَهُ حَاكِمًا وَالْإِعَانَةُ لِدَفْعِ مَظْلِمَةٍ أَوْ إِيصَالِ حَقٍّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُ الْأَخْذِ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا فَهُوَ حَرَامٌ اهـ مُلَخَّصًا. وَفِي مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ مَرْفُوعًا هَدَايَا الْعُمَّالُ غُلُولٌ وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ضَعِيفَةٌ، وَهَذَا مِنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى مِنْ قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ ثَلَاثَتُهَا فِي الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ.

الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَبَقَ فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ تَسْمِيَتُهُ وَضَبْطُ اللُّتْبِيَّةِ. وَوَجْهُ دُخُولِهِمَا فِي التَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي عَدَمِ قَبُولِهِ هَدِيَّتَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ مُحْرِمًا، وَالْمُحْرِمُ لَا يَأْكُلُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ ; وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُهَلَّبُ رَدَّ هَدِيَّةِ مَنْ كَانَ مَالُهُ حَرَامًا أَوْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَابَ عَلَى ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ قَبُولَهُ الْهَدِيَّةَ الَّتِي أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَانَ عَامِلًا، وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَنَّهُ لَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ فِي تِلْكِ الْحَالَةِ لَمْ تُكْرَهْ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِغَيْرِ رِيبَةٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا إِنْ طَلَبَهَا لَهُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ كَرَاهَةُ قَبُولِ هَدِيَّةِ طَالِبِ الْعِنَايَةِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: حَتَّى نَظَرْتُ عُفْرَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْفَاءِ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَهِيَ بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ.

‌18 - بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ

وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَا وَكَانَتْ فُصِلَتْ الْهَدِيَّةُ وَالْمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الَّذِي أَهْدَى

وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ

2598 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلَاثًا، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ

ص: 221

أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَنِي فَحَثَى لِي ثَلَاثًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ) أَيِ الْهَدِيَّةُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ وَعَدَ عِدَةً قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْهِبَةِ بِحَالٍ. قُلْتُ: قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ هِبَةً، وهَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، لَكِنْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ يُسَمِّيهَا هِبَةً، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ جَنَحَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَأَذْكُرُ نَقْلَ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِالْعِدَةِ أَيْ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ مِنْهُ مَا كَانَ بِسَبَبٍ انْتَهَى. وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَمَّا نَقَلَهُ هُوَ عَنْ أَصْبَغَ، وَعَمَّا سَيَأْتِي فِي الْبُخَارِيِّ الَّذِي تَصَدَّى لِشَرْحِهِ فِي بَابِ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي أَوَاخِرِ الشَّهَادَاتِ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ مَا فِيهِ وَالْبَحْثُ فِيهِ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبِيدَةُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو السَّلْمَانِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (إِنْ مَاتَا) أَيِ الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ إِلَخْ، وَتَفْصِيلُهُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ انْفَصَلَتْ أَمْ لَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ قَبْضَ الرَّسُولِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يَقْبِضَهَا أَوْ وَكِيلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِنْ كَانَ حَامِلُهَا رَسُولَ الْمُهْدِي رَجَعَتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَامِلُهَا رَسُولَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ. وَفِي مَعْنَى قَوْلِ عَبِيدَةَ وَتَفْصِيلُهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلَا أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إِلَّا مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ، قَالَ: وَكَانَ كَمَا قَالَ. الْحَدِيثَ. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي وَفَاءِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي بَسْطُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجَابِرٍ هِبَةً، وَإِنَّمَا هِيَ عِدَةٌ عَلَى وَصْفٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ وَعْدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ نَزَّلُوا وَعْدَهُ مَنْزِلَةَ الضَّمَانِ فِي الصِّحَّةِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَفِيَ وَأَنْ لَا يَفِيَ. قُلْتُ: وَجْهُ إِيرَادِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْهَدِيَّةَ إِذَا لَمْ تُقْبَضْ مَنْزِلَةَ الْوَعْدِ بِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، ولَكِنْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ كَمَا سَيَأْتِي.

‌19 - بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ

2599 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما أنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: خَبَأْنَا هَذَا لَكَ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.

[الحديث 2599 - أطرافه في: 2657، 3127، 5800، 5862، 6132]

ص: 222

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يَقْبِضُ الْعَبْدَ والْمَتَاعَ) أَيِ الْمَوْهُوبَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِسْلَامِ الْوَاهِبِ لَهَا إِلَى الْمَوْهُوبِ وَحِيَازَةِ الْمَوْهُوبِ لِذَلِكَ، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْهِبَةِ الْحِيَازَةُ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ الْخِلَافُ، وَتَحْرِيرُهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَعَنِ الْقَدِيمِ - وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ - تَصِحُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ، وَعَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ الشَّائِعَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ كَالْقَدِيمِ لَكِنْ قَالَ: إِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَزَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ افْتَقَرَ إِلَى إِجَازَةِ الْوَارِثِ. ثُمَّ إِنَّ التَّرْجَمَةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ لَا فِي أَصْلِ الْقَبْضِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يُشْتَرَطُ فِي الْهِبَةِ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ دُونَ التَّخْلِيَةِ، وَسَأُشِيرُ إِلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ) الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَشَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي قِصَّةِ أَبِيهِ فِي الْقَبَاءِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.

وَقَوْلُهُ: فَقَالَ: خَبَّأْنَا هَذَا لَكَ ; قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ؟ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ هَلْ رَضِيتَ؟ وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ مَخْرَمَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلذِّهْنِ.

‌20 - بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ

2600 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ: أتَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ) أَيْ جَازَتْ، وَنَقَلَ فِيهِ ابْنُ بَطَّالٍ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ هُوَ غَايَةُ الْقَبُولِ، وَغَفَلَ رحمه الله عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ الْقَبُولَ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْهَدِيَّةِ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ ضِمْنِيَّةً كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَعَتَقَهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ هِبَةً وَيُعْتَقُ عَنْهُ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ، وَمُقَابِلُ إِطْلَاقِ ابْنِ بَطَّالٍ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ فِي الْهِبَةِ كَالْعِتْقِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَخَالَفَ فِيهِ الْكَافَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْهَدِيَّةَ فَيُحْتَمَلُ اهـ، عَلَى أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي الْهَدِيَّةِ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الصِّيَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الرَّجُلَ التَّمْرَ فَقَبَضَهُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. وَلِمَنِ اشْتَرَطَ الْقَبُولَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِذِكْرِ الْقَبُولِ وَلَا بِنَفْيِهِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هِبَةً، بَلْ لَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَيَكُونُ قَاسِمًا لَا وَاهِبًا اهـ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّوْمِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ يَجْنَحُ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ.

ص: 223

‌21 - بَاب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ قَالَ شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ

وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهما السلام لِرَجُلٍ دَيْنَهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ، فَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي

2601 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ فدعَا فِي ثَمَرِهِ بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: اسْمَعْ وَهُوَ جَالِسٌ يَا عُمَرُ فَقَالَ: أَلَّا يَكُونُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ) أَيْ صَحَّ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ مِنْهُ وَيَقْبِضْ لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا قَبِلَ الْبَرَاءَةَ، قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَمَنِ اشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ الْقَبْضَ لَمْ يُصَحِّحْ هَذِهِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ صَحَّحَهَا، لَكِنْ شَرَطَ مَالِكٌ أَنْ تُسَلَّمَ إِلَيْهِ الْوَثِيقَةُ بِالدَّيْنِ وَيَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ وَيُعْلِنَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَثِيقَةٌ اهـ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْبُطْلَانِ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَصَحَّحَ الْعِمْرَانِيُّ وَغَيْرُهُ الصِّحَّةَ. قِيلَ وَالْخِلَافُ: مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ فَالْهِبَةُ أَوْلَى، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَفِي الْهِبَةِ وَجْهَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي الْحَكَمُ: أَتَانِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - فَسَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَوَهَبَهُ لَهُ، أَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ شُعْبَةُ: فَسَأَلْتُ حَمَّادًا؟ فَقَالَ: بَلَى، لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَوَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ دَيْنَهُ لِرَجُلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ صَاحِبِهِ، وَصَلَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ إِيَّاهُ أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِمَعْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ لِجَوَازِ هِبَةِ الدَّيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَوَّى بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُ أَوْ يُحَلِّلَهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي التَّحْلِيلِ قَبْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِي إِلَخْ) وَصَلَهُ فِي الْبَابِ بِأَتَمَّ مِنْهُ، وَتُؤْخَذُ التَّرْجَمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُرَمَاءَ وَالِدِ جَابِرٍ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِهِ وَأَنْ يُحَلِّلُوهُ فَلَوْ قَبِلُوا كَانَ فِي ذَلِكَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ هِبَةُ الدَّيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا طَلَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَقَدْ سَبَقَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 224

‌22 - بَاب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ

وَقَالَتْ أَسْمَاءُ، لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِي بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا

2602 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعْطَيْتُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدًا، فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ) أَيْ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا مُشَاعًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْمُصَنِّفِ إِثْبَاتُ هِبَةِ الْمُشَاعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا أُطْلِقَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا، وَالْعِبْرَةُ بِذَلِكَ وَقْتَ الْقَبْضِ لَا وَقْتَ الْعَقْدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أَسْمَاءُ) هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهَا، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ ابْنِ أَخِي أَسْمَاءَ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ إِسْقَاطُ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ فَصَارَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَهُوَ غَلَطٌ، وَمَعَ كَوْنِهِ غَلَطًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِلتَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ) لَمَّا مَاتَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَرِثَهَا أُخْتَاهَا أَسْمَاءُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَأَوْلَادُ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَرِثْهَا أَوْلَادُ مُحَمَّدٍ أَخِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَقِيقَهَا، وَكَأَنَّ أَسْمَاءَ أَرَادَتْ جَبْرَ خَاطِرِ الْقَاسِمِ بِذَلِكَ وَأَشْرَكَتْ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِوُجُودِ أَبِيهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ شُرْبِ الْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَشْرِبَةِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ مَا تَرْجَمَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْإِرْفَاقِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ وَالْحَقُّ - كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ الْغُلَامَ أَنْ يَهَبَ نَصِيبَهُ لِلْأَشْباح، وَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُ مُشَاعًا غَيْرَ مُتَمَيَّزٍ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هِبَةِ الْمُشَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌23 - بَاب الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ

وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ

2603 -

حَدَّثَني ثَابِتٌ بن محمد، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.

2604 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: بِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَوَزَنَ.

قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ، فَمَا زَالَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ.

2605 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ

ص: 225

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ.

2606 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، وَقَالَ: اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِدُ سِنًّا إِلَّا سِنًّا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: فَاشْتَرُوهَا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ)، أَمَّا الْمَقْبُوضَةُ فَتَقَدَّمَ حُكْمُهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَقْبُوضَةِ فَالْمُرَادُ الْقَبْضُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا الْقَبْضُ التَّقْدِيرِيُّ فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ هِبَةِ الْغَانِمِينَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ مَا غَنِمُوا قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فِيهِمْ، وَيَقْبِضُوهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صِحَّةِ الْهِبَةِ بِغَيْرِ قَبْضٍ لِأَنَّ قَبْضَهُمْ إِيَّاهُ وَقَعَ تَقْدِيريا بِاعْتِبَارِ حِيَازَتِهِمْ لَهُ عَلَى الشُّيُوعِ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُشْتَرَطُ فِي الْهِبَةِ وُقُوعُ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا يَكْفِي الْقَبْضُ التَّقْدِيرِيُّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ الْمَقْسُومَةُ فَحُكْمُهَا وَاضِحٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَقْسُومَةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ هِبَةِ الْمُشَاعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّةِ هِبَةِ الْمُشَاعِ لِلشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ انْقَسَمَ أَوْ لَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ هِبَةُ جُزْءٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ مُشَاعًا لَا مِنَ الشَّرِيكِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا وَقَوْلُهُ: وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ مَنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ثَابِتٌ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْعَابِدُ. وَثَبَتَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ السَّكَنِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَقَالَ ثَابِتٌ: ذَكَرَهُ بِصُورَةِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ فَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ مُحَمَّدًا وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ، وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُحَمَّدٍ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَيَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَلَعَلَّ الْجُرْجَانِيَّ ظَنَّهُ غَيْرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الشُّرُوطِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ. فِي الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَقَالَ: اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ.

‌24 - بَاب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ

2607، 2608 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ؛ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ فِي

ص: 226

الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُهمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا وَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. هَذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ وَهَبَ رَجُلٌ جَمَاعَةً جَازَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا تَقَدَّمَتْ مُفْرَدَةً قَبْلُ بِبَابٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْمِسْوَرِ فِي قِصَّةِ هَوَازِنَ وَسَيَأْتِي مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فِي الْمَغَازِي وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ لِأَصْلِ التَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَهَبُوا بَعْضَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ غَنِمُوهَا مِنْهُمْ وَهُمْ قَوْمُ هَوَازِنَ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ لِزِيَادَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَهْمٌ مُعَيَّنٌ - وَهُوَ سَهْمُ الصَّفِيِّ - وَهَبَهُ لَهُمْ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْهَبَ مِنَ الْغَانِمِينَ سِهَامَهُمْ فَوَهَبُوهَا لَهُ فَوَهَبَهَا هُوَ لَهُمْ.

‌25 - باب مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ وَلَمْ يَصِحَّ

2609 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ سِنًّا فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالُوا لَهُ فَقَالَ: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ قَضَاهُ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، وَقَالَ: أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.

2610 -

حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ لِعُمَرَ صَعْبٍ، فَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ أَبُوهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعْنِيهِ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ، فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤُهُ وَلَمْ يَصِحَّ) هَذَا الْحَدِيثُ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصْلَحُ إِسْنَادًا مِنَ الْمَرْفُوعِ، فَأَمَّا الْمَرْفُوعُ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرٍو كَذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ عَلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْوَقْفُ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقِ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَآخَرُ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْعُقَيْلِيِّ وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفٌ أَيْضًا. قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَوْ صَحَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَحُمِلَ

ص: 227

عَلَى النَّدْبِ فِيمَا خَفَّ مِنَ الْهَدَايَا وَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَرْكِ الْمُشَاحَّةِ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ أَبِي يُوسُفَ الْمَشْهُورَةَ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَتِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَلَا يُخَصُّ الْقَلِيلُ مِنَ الْكَثِيرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ فَوَاضِحٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَقَالَ: اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَبَ لِصَاحِبِ السَّنِّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى حَقِّهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ إِلَى اتِّحَادِ حُكْمِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي هِبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ الْبِكْرَ الَّذِي كَانَ رَاكِبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبُيُوعِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ نَازَعَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ إِلْحَاقَ الْمُشَاعِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمُشَاعِ، وَإِلْحَاقَ الْكَثِيرِ بِالْقَلِيلِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ.

‌26 - باب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ

2611 -

وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بِعْنِيهِ فَابْتَاعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ) أَيْ وَتَنْزِلُ التَّخْلِيَةُ مَنْزِلَةَ النَّقْلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا فَتَصِحُّ الْهِبَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

‌27 - باب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا

2612 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، فقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا.

2613 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ قَالَ: تُرْسِلي بِهِ إِلَى فُلَانٍ أَهْلِ بَيْتٍ فيهم حَاجَةٌ.

ص: 228

2614 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.

[الحديث 2614 - طرفاه في: 5366، 5840]

قَوْلُهُ: (بَابُ هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فَأَنَّثَ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْحُلَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ وَبِهِ تَرْجَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ وَهَدِيَّةُ مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ جَائِزَةٌ، فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِمَنْ يَجُوزُ لِبَاسُهُ كَالنِّسَاءِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْعِ مَا لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَآنِيَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَّنِفُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَبُو جَعْفَرٍ) جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ الْفَيْدِيُّ نِسْبَةً إِلَى فَيْدٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، بَلَدٌ بَيْنَ بَغْدَادَ وَمَكَّةَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ سَوَاءً، وَكَانَ نَزَلَهَا فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقُومِسِيُّ الْحَافِظُ الْمَشْهُورُ فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا فِي الْمَغَازِي، وَإِنَّمَا جَوَّزْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُنْيَةِ الْفَيْدِيِّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِخِلَافِ الْقُومِسِيِّ، فَكُنْيَتُهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِلَا خِلَافٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ الْكُوفِيُّ وَلَيْسَ لِفُضَيْلٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ فُضَيْلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ قَالَ: وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلَّا بَدَأَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ فَجَاءَ عَلِيٌّ فَرَآهَا مُهْتَمَّةً.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَذَكَرَهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَ فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (سِتْرًا مُوشِيًّا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَصْلُهُ مَوْشيًا فَالْتَقَى حَرْفَا عِلَّةٍ وَسُبِقَ الْأَوَّلُ بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى وَكُسِرَتِ الْأُولَى لِأَجْلِ الَّتِي بَعْدَهَا فَصَارَ عَلَى وَزْنِ مَرْضِيٍّ وَمَطْلِيٍّ، وَيَجُوزُ فِيهِ مُوشًى بِوَزْنِ مُوسَى، وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْوَشْيُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ، وَمِنْهُ وَشَى الثَّوْبَ إِذَا رَقَّمَهُ وَنَقَشَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمُوشَى الْمُخَطَّطُ بِأَلْوَانٍ شَتَّى.

قَوْلُهُ: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا) زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ مَا لِي وَلِلرَّقْمِ أَيِ الْمَرْقُومِ، وَالرَّقْمُ النَّقْشُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ تُرْسِلِي بِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ تُرْسِلِي بِحَذْفِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ أَوْ يُقَدَّرُ أَنْ فَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْأَكْثَرِ تُرْسِلُ بِضَمِّ اللَّامِ بِغَيْرِ يَاءٍ.

قَوْلُهُ: (أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ) بِجَرِّ أَهْلٍ عَلَى الْبَدَلِ وَلَمْ أَعْرِفْهُمْ بَعْدُ وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ مَا يُكْرَهُ. وَأَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثَ سَفِينَةَ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتًا مُزَوَّقًا وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبَيَانَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ إِلَّا إِنْ حَمْلَنَا التَّزْوِيقَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا يُصْنَعُ فِي نَفْسِ الْجِدَارِ أَوْ يُعَلَّقُ عَلَيْهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنَتِهِ مَا كَرِهَ لِنَفْسِهِ مِنْ تَعْجِيلِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا لَا أَنَّ سَتْرَ الْبَابِ حَرَامٌ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ لَهَا لَمَّا سَأَلَتْهُ خَادِمًا أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَّمَهَا الذِّكْرَ عِنْدَ النَّوْمِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الْحُلَّةِ وَفِيهِ قَوْلُهُ: فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ،

ص: 229

وَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ من قَوْلِهِ: فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ لُبْسَهَا مَعَ كَوْنِهِ أَهْدَاهَا لَهُ.

‌28 - باب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ فَقَالَ: أَعْطُوهَا آجَرَ

وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ.

وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.

2615 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا.

[الحديث 2615 - طرفاه في: 2616، 3248]

2616 -

وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

2617 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لَا. فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"

2618 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَوْ قَالَ أَمْ هِبَةً قَالَ: لَا، بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى. وَايْمُ اللَّهِ مَا فِي الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتْ الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ. أَوْ كَمَا قَالَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ جَوَازِ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي رَدِّ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ ابْنِ مَالِكٍ، وَرِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الَّذِي يُدْعَى مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَهْدَى لَهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ الْحَدِيثَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَا يَصِحُّ.

وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِيَاضٍ قَالَ:

ص: 230

أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً فَقَالَ: أَسْلَمْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: إِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ، وَالزَّبْدُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الرَّفْدُ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ دَالَّةٍ عَلَى الْجَوَازِ، فَجَمَعَ بَيْنَهَا الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِيمَا أُهْدِيَ لَهُ خَاصَّةً وَالْقَبُولَ فِيمَا أُهْدِيَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ مَا وَقَعَتِ الْهَدِيَّةُ فِيهِ لَهُ خَاصَّةً، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ بِهَدِيَّتِهِ التَّوَدُّدَ وَالْمُوَالَاةَ، وَالْقَبُولَ فِي حَقِّ مَنْ يُرْجَى بِذَلِكَ تَأْنِيسُهُ وَتَأْلِيفُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ يُحْمَلُ الْقَبُولُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ الْمَنْعِ بِأَحَادِيثِ الْقَبُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ ضَعِيفَةٌ فَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَا التَّخْصِيصِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام بِسَارَةَ) الْحَدِيثَ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَرِدْ مِنْ شَرْعِنَا إِنْكَارُهُ.

قَوْلُهُ: (وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فِي طَرِيقِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا فِي الزَّكَاةِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِبَحْرِهِمْ أَيْ بِبَلَدِهِمْ، وَحَمَلَهُ الدَّاوُدِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَوَهَمَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَّنِفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي جُبَّةِ الْسُّنْدُسِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أُهْدِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَنْهَى) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (عَنِ الْحَرِيرِ) وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ (إِلَخْ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ بِهِ وَقَالَ فِيهِ: جُبَّةُ سُنْدُسٍ أَوْ دِيبَاجٍ، شَكَّ سَعِيدٌ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا فِيهِ مِنَ التَّخَالُفِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ بَيَانَ الَّذِي أَهْدَى لِتَظْهَرَ مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ فِيهِ: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَأُكَيْدِرُ دُومَةَ هُوَ أُكَيْدِرٌ تَصْغِيرُ أَكْدَرَ، وَدُومَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَلَدٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهِيَ دُومَةُ الْجَنْدَلِ مَدِينَةٌ بِقُرْبِ تَبُوكَ بِهَا نَخْلٌ وَزَرْعٌ وَحِصْنٌ عَلَى عَشْرِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَثَمَانٍ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ أُكَيْدِرُ مَلِكَهَا، وَهُوَ أُكَيْدِرُ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْجِنِّ - بِالْجِيمِ وَالنُّونِ - ابْنِ أَعْبَاءَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُنْسَبُ إِلَى كِنْدَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَيْهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ فَأَسَرَهُ وَقَتَلَ أَخَاهُ حَسَّانَ وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَصَالَحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَطْلَقَهُ، ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّتَهُ مُطَوَّلَةً فِي الْمَغَازِي.

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ أَخْرَجَ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ رَدِّ هَدِيَّتِهِ فَرَجَعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْفَعْهُ إِلَى عُمَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَ حَرِيرٍ فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا فَقَالَ: شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحُلَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلِيٌّ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي أَهْدَاهَا أُكَيْدِرٌ، وَسَيَأْتِي الْمُرَادُ بِالْفَوَاطِمِ فِي اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ أَيْضًا: أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَازِي، وَاسْمُ الْيَهُودِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ زَيْنَبُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهَا كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا) زَادَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَأَكَلَ مِنْهُ فَقَالَ: إِنَّهَا جَعَلَتْ فِيهِ سُمًّا، وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَجِيءَ بِهَا إِلَى

ص: 231

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ أَلَا نَقْتُلُهَا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فِي لَهَوَاتٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ لَهَاةٍ، وَهِيَ سَقْفُ الْفَمِ أَوِ اللَّحْمَةُ الْمُشْرِفَةُ عَلَى الْحَلْقِ، وَقِيلَ: هِيَ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَقِيلَ: مَا يَبْدُو مِنَ الْفَمِ عِنْدَ التَّبَسُّمِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْبُيُوعِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ.

قَوْلُهُ: (صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ) بِالرَّفْعِ وَالضَّمِيرُ لِلصَّاعِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَلَا عَلَى اسْمِ صَاحِبِ الصَّاعِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (مُشْعَانٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَآخِرُهُ نُونٌ ثَقِيلَةٌ، فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِأَنَّهُ الطَّوِيلُ جِدًّا فَوْقَ الطُّولِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: مَعَ إِفْرَادِ الطُّولِ شَعِثِ الرَّأْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّهُ أَقْوَى لِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: مُشْعَانٌ طَوِيلٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: طَوِيلٌ تَفْسِيرًا لِمُشْعَانٍ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: الْمُشْعَانُ الْجَافِي الثَّائِرُ الرَّأْسِ.

قَوْلُهُ: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً) انْتَصَبَ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ.

قَوْلُهُ: (فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاشْتَرَى مِنْهَا أَيْ مِنَ الْغَنَمِ.

قَوْلُهُ: (بِسَوَادِ الْبَطْنِ) هُوَ الْكَبِدُ أَوْ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ كَبِدٍ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَأيْمِ اللَّهِ) هُوَ قَسَمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ بِالْهَمْزِ وَبِالْوَصْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَعْطَاهَا إِيَّاهُ) هُوَ مِنَ الْقَلْبِ وَأَصْلُهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَمَعُوا عَلَى الْقَصْعَتَيْنِ فَيَكُونَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى لِكَوْنِهِمَا وَسِعَتَا أَيْدِيَ الْقَوْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَكَلُوا كُلُّهُمْ فِي الْجُمْلَةِ أَعَمَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ.

قَوْلُهُ: (فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلْنَاهُ) أَيِ الطَّعَامَ وَلَوْ أَرَادَ الْقَصْعَتَيْنِ لَقَالَ: حَمَلْنَاهُمَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا لِلْقَدْرِ الَّذِي فَضَلَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ كَمَا قَالَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ هَلْ يَبِيعُ أَوْ يُهْدِي؟ وَفِيهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ حَمَلَ رَدَّ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْوَثَنِيِّ دُونَ الْكِتَابِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ كَانَ وَثَنِيًّا وَفِيهِ الْمُوَاسَاةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَظُهُورُ الْبَرَكَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ صَادِقًا، وَمُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَآيَةٌ بَاهِرَةٌ مِنْ تَكْثِيرِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنَ الصَّاعِ وَمِنَ اللَّحْمِ حَتَّى وَسِعَ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ، وَفَضَلَ مِنْهُ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ وَرَدَ تَكْثِيرُ الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ أَحَادِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَحَلُّ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌29 - باب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}

2619 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذه مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا؛ تَبِيعُهَا أَوْ

ص: 232

تَكْسُوهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.

2620 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إن أمي قدمت وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.

[الحديث 2620 - أطرافه في: 3183، 5978، 5979]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} سَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ إِلَى قَوْلِهِ:{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} وَالْمُرَادُ مِنْهَا بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ بِرُّهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ لِلْمُشْرِكِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} الْآيَةَ، ثُمَّ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّحَابُبَ وَالتَّوَادُدَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَاسْمُ هَذَا الْأَخِ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، وَكَانَ أَخَا عُمَرَ مِنْ أُمِّهِ، أُمُّهُمَا خَيْثَمَةُ بِنْتُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: إِنَّمَا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخَا زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخِي عُمَرَ لِأُمِّهِ، أُمِّهِمَا أَسْمَاءَ بِنْتِ وَهْبٍ. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ بِنْتُ وَهْبٍ أَرْضَعَتْ عُمَرَ فَيَكُونَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخَاهُ أَيْضًا مِنَ الرَّضَاعَةِ كَمَا هُوَ أَخُو أَخِيهِ زَيْدٍ مِنْ أُمِّهِ. ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ فِي الْأَدَبِ أَخْبَرَنِي أَبِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَةِ أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هِشَامٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ. قُلْتُ: حَكَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيَّ، وَيَعْقُوبَ القارئ رَوَيَاهُ عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا مَحْفُوظَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامٍ فَقَالَا: عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. قَالَ الْبَرْقَانِيُّ: وَهُوَ أَثْبَتُ اهـ.

وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّهِ وَخَالَتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْحَاكِمُ م نْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ - بِالْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ مُصَغَّرَةٌ - بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ سَعْدٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْهُدْنَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَدَايَا: زَبِيبٍ وَسَمْنٍ وَقَرَظٍ ; فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا أَوْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، وَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ: سَلِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِتُدْخِلْهَا الْحَدِيثَ، وَعُرِفَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ أُمِّ أَسْمَاءَ، وَأَنَّهَا أُمُّهَا حَقِيقَةً، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا أُمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَدْ وَهَمَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّ اسْمَهَا قَيْلَةُ، وَرَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُجَرَّدَةٍ مِنْهُ بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا بِسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، فَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ: قُتَيْلَةٌ صَغَّرَهَا، قَالَ الزُّبَيْرُ: أُمُّ أَسْمَاءَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرٍ قَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَاقَ نَسَبَهَا إِلَى حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ: إِنَّ اسْمَهَا أُمُّ بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّهُ كُنْيَتُهَا.

قَوْلُهُ: (قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي)

ص: 233

زَادَ اللَّيْثُ، عَنْ هِشَامٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مَعَ ابْنِهَا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ، وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ اسْمَ ابْنِهَا الْمَذْكُورِ الْحَارِثُ بْنُ مُدْرِكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الصَّحَابَةِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، وَذَكَرَ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعَ أَبِيهَا بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) سَأَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي إِسْلَامِهَا.

قَوْلُهُ: (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ) فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ رَاغِبَةً أَوْ رَاهِبَةً بِالشَّكِّ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْمَذْكُورِ رَاغِبَةً وَرَاهِبَةً، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ جَاءَتْنِي رَاغِبَةً وَرَاهِبَةً وَهُوَ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا قَدِمَتْ طَالِبَةً فِي بِرِّ ابْنَتِهَا لَهَا خَائِفَةً مِنْ رَدِّهَا إِيَّاهَا خَائِبَةً ; هَكَذَا فَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَ الْمُسْتَغْفَرِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوَّلَهُ فَقَالَ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ فَذَكَرَهَا لِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَرَدَّهُ أَبُو مُوسَى بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهَا، وَقَوْلُهَا: رَاغِبَةً أَيْ فِي شَيْءٍ تَأْخُذُهُ وَهِيَ عَلَى شِرْكِهَا، وَلِهَذَا اسْتَأْذَنَتْ أَسْمَاءُ فِي أَنْ تَصِلَهَا وَلَوْ كَانَتْ رَاغِبَةً فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِذْنٍ اهـ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَاغِبَةً عَنْ دِينِي أَوْ رَاغِبَةً فِي الْقُرْبِ مِنِّي وَمُجَاوَرَتِي وَالتَّوَدُّدِ إِلَيَّ، لِأَنَّهَا ابْتَدَأَتْ أَسْمَاءَ بِالْهَدِيَّةِ الَّتِي أَحْضَرَتْهَا، وَرَغِبَتْ مِنْهَا فِي الْمُكَافَأَةِ، وَلَوْ حَمَلَ قَوْلَهُ: رَاغِبَةً أَيْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ إِسْلَامَهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ رَاغِمَةً بِالْمِيمِ أَيْ كَارِهَةً لِلْإِسْلَامِ وَلَمْ تَقْدَمْ مُهَاجِرَةً، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قِيلَ مَعْنَاهُ هَارِبَةً مِنْ قَوْمِهَا، وَرَدَّهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُرَاغَمَةً، قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ: مُرَاغَمًا بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعَدُوِّ عَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَذَلِكَ قَالَ وَرَاغِبَةً بِالْمُوَحَّدَةِ أَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (صِلِي أُمَّكِ) زَادَ فِي الْأَدَبِ عَقِبَ حَدِيثِهِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَكَذَا وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ تَلَقَّاهُ مِنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَلْيَنَ شَيْءٍ جَانِبًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَحْسَنَهُ أَخْلَاقًا. قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ السَّبَبَ خَاصٌّ وَاللَّفْظَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى وَالِدَةِ أَسْمَاءَ. وَقِيلَ: نَسَخَ ذَلِكَ آيَةُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وُجِدُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ الرَّحِمَ الْكَافِرَةَ تُوصَلُ مِنَ الْمَالِ وَنَحْوِهِ كَمَا تُوصَلُ الْمُسْلِمَةُ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْأَبِ الْكَافِرِ وَالْأُمِّ الْكَافِرَةِ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا اهـ. وَفِيهِ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ، وَالسَّفَرُ فِي زِيَارَةِ الْقَرِيبِ، وَتَحَرِّي أَسْمَاءَ فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَكَيْفَ لَا وَهِيَ بِنْتُ الصِّدِّيقِ وَزَوْجُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم.

‌30 - باب لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ

2621 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَشُعْبَةُ قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

2622 -

وحدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 234

رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ.

2623 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"

رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ) كَذَا بَتَّ الْحَكَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ أَنَّهُ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِلْوَلَدِ، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ يَرَى صِحَّةَ الرُّجُوعِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى تَفَاصِيلِ مَذَاهِبِهِمْ فِي بَابِ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ وَلَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْهديةِ وَالْهِبَةِ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ، إِحْدَاهُمَا:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، (وَشُعْبَةُ) كَذَا أَخْرَجَهُ وَتَابَعَهُ أَبُو قِلَابَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَبُو خَلِيفَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، كُلُّهُمْ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَأَبَانُ، وَهَمَّامٌ وَتَابَعه إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فَكَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ جَمَاعَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ شَهْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِهِ قَالَ هَمَّامٌ: قَالَ قَتَادَةُ: وَلَا أَعْلَمُ الْقَيْءَ إِلَّا حَرَامًا.

الْطَرِيقُ الثَّانِيةُ:

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ) هُوَ الْعَيْشِيُّ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ، بَصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، وَلَيْسَ أَخًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَشْهُورِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَدْ سَكَنَاهَا مُدَّةً.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) أَيْ لَا يَنْبَغِي لَنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَتَّصِفَ بِصِفَةٍ ذَمِيمَةٍ يُشَابِهُنَا فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهَا، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وَلَعَلَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَدَلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ مِمَّا لَوْ قَالَ مَثَلًا: لَا تَعُودُوا فِي الْهِبَةِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ أَنْ تُقْبَضَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا هِبَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ النُّعْمَانِ الْمَاضِي. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ حَيْثُ تَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ التَّغْلِيظَ فِي الْكَرَاهَةِ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ: كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ وَإِنِ اقْتَضَى التَّحْرِيمَ لِكَوْنِ الْقَيْءِ حَرَامًا لَكِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: كَالْكَلْبِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ، فَالْقَيْءُ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ التَّنْزِيهُ عَنْ فِعْلٍ يُشْبِهُ فِعْلَ الْكَلْبِ. وَتُعُقِّبُ بِاسْتِبْعَادِ مَا تَأَوَّلَهُ وَمُنَافَرَةِ سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ لَهُ، وَبِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يريد به الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ

ص: 235

كَقَوْلِهِ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ.

قَوْلُهُ: (الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ) أَيِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ إِلَى الْمَوْهُوبِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}

قَوْلُهُ: (كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ) هَذَا التَّمْثِيلُ وَقَعَ فِي طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ مَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ فَيَأْكُلُهُ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ بُكَيْرٍ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَأْكُلُ قَيْئَهُ. الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ وَالْمُهْمَلَةِ، مَكِّيٌّ قَدِيمٌ، لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) سَيَأْتِي فِي آخِرِ حَدِيثٍ فِي الْهِبَةِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَلِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَهُ فِيهِ إِسْنَادٌ ثَالِثٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْأَحْنَفِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) زَادَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهِيَ فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ) زَادَ الْقَعْنَبِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ عَتِيقٍ وَالْعَتِيقُ الْكَرِيمُ الْفَائِقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا الْفَرَسُ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي تَسْمِيَةِ خَيْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَأَهْدَى تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَهُ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ الْوَرْدُ فَأَعْطَاهُ عُمَرَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ .. الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ بِهَذَا تَسْمِيَتُهُ وَأَصْلُهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَوَّضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتِيَارَ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ، فَأَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ الْعَطِيَّةُ لِكَوْنِهِ أَمْرَهُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَيْهِ حَمْلَ تَمْلِيكٍ لِيُجَاهِدَ بِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ حَمْلَ تَحْبِيسٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَقِيلَ بَلَغَ إِلَى حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ فِيهِ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ قَوْلُهُ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ وَلَوْ كَانَ حَبْسًا لَقَالَ فِي حَبْسِهِ أَوْ وَقْفِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِسَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ لَا الْوَقْفُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ إِذَا بَلَغَ غَايَةً لَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وُقِفَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَضَاعَهُ) أَيْ لَمْ يُحْسِنِ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَقَصَّرَ فِي مؤنَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَقِيلَ أَيْ لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَهُ فَأَرَادَ بَيْعَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَوَجَدَهُ قَدْ أَضَاعَهُ وَكَانَ قَلِيلَ الْمَالِ فَأَشَارَ إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ وَإِلَى الْعُذْرِ الْمَذْكُورِ فِي إِرَادَةِ بَيْعِهِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَشْتَرِهِ) سَمَّى الشِّرَاءَ عَوْدًا فِي الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مِنَ الْبَائِعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يُسَامِحُ بِهِ رُجُوعًا وَأَشَارَ إِلَى الرُّخْصِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ وَلَوْ كَانَ مُحْبَسًا كَمَا ادَّعَاهُ مَنْ تَقَدَّمُ ذِكْرُهُ وَجَازَ بَيْعُهُ لِكَوْنِهِ صَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ لَهُ لِمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ الْوَافِرَةِ، وَلَا كَانَ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ مِنْهَا بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُحْبِسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَالَ: إِذَا كَانَ شَرْطُ الْوَاقِفِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي وَقْفِ عُمَرَ لَا يُبَاعُ أَصْلُهُ وَلَا يُوهَبُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْفَرَسُ الْمَوْهُوبُ؟ وَكَيْفَ لَا يَنْهَى بَائِعَهُ أَوْ يَمْنَعَ مِنْ بَيْعِهِ؟ قَالَ: فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَهُ صَدَقَةً يُعْطِيهَا مَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِعْطَاءَهُ فَأَعْطَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ فَجَرَى مِنْهُ مَا ذَكَرَ وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ مَثَلًا يُبَاعُ بِأَغْلَى مِنْ ثَمَنِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ إِلَخْ) حَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا النَّهْيَ

ص: 236

فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَحَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ. ثُمَّ الزَّجْرُ الْمَذْكُورُ مَخْصُوصٌ بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، لَا مَا إِذَا رَدَّهُ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ مَثَلًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَمَنْ كَانَ وَالِدًا وَالْمَوْهُوبُ وَلَدُهُ، وَالْهِبَةُ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ، وَالَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَاهِبِ، لِثُبُوتِ الْأَخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يُثِيبُ الْفَقِيرَ وَنَحْوِ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلَا رُجُوعَ لِهَؤُلَاءِ، قَالَ: وَمِمَّا لَا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذِكْرُ عُمَرَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِذَاعَةِ عَمَلِ الْبِرِّ، وَكِتْمَانُهُ أَرْجَحُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْمَصْلَحَتَانِ - الْكِتْمَانُ وَتَبْلِيغُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ - فَرَجَّحَ الثَّانِيَ فَعَمِلَ بِهِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنه أَنْ يَقُولَ: حَمَلَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ مَثَلًا، وَلَا يَقُولُ: حَمَلْتُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ رُجْحَانِ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أُعْطِيَهُ أَذَاعَ ذَلِكَ فَانْتَفَى الْكِتْمَانُ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ أَنَّ فِي إِضَافَتِهِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ تَأْكِيدًا لِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الَّذِي تَقَعُ لَهُ الْقِصَّةُ أَجْدَرُ بِضَبْطِهَا مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا وُقُوعُهَا بِحُضُورِهِ، فَلَمَّا أَمِنَ مَا يَخْشَى مِنَ الْإِعْلَانِ بِالْقَصْدِ صَرَّحَ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ تَرْجِيحِ الْكِتْمَانِ لِمَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْإِعْلَانِ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ، أَمَّا مَنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ كَعُمَرَ فَلَا.

‌31 - باب

2624 -

حَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ بَنِي صُهَيْبٍ مَوْلَى بني جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، فَدَعَاهُ فَشَهِدَ لَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لَهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ عَطِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِصُهَيْبٍ لَمْ يَسْتَفْصِلُوا هَلْ رَجَعَ أَمْ لَا؟ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا أَثَرَ لِلرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.

قَوْلُهُ: (إنَّ بَنِي صُهَيْبٍ) هُوَ ابْنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَصْلُهُ فِي الْعَرَبِ فِي بَابِ شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَقَوْلُهُ: مَوْلَى بَنِي جُدْعَانَ كَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَابْنُ جُدْعَانَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَأَمَّا صُهَيْبٌ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ: حَمْزَةُ، وَسَعْدٌ، وَصَالِحٌ، وَصَيْفِيٌّ، وَعَبَّادٌ، وَعُثْمَانُ، وَمُحَمَّدٌ، وَحَبِيبٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَرْوَانُ) هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ حَيْثُ كَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَوْتُ صُهَيْبٍ بِالْمَدِينَةِ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا) كَذَا فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ ; وَبَقِيَّةُ الْقِصَّةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِلدَّعْوَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَا اثْنَيْنِ، وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِذَلِكَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ تَارَةً، بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَتَارَةً بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ؟ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَأَعْطَى) بِفَتْحِ اللَّامِ هِيَ لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ أَعْطَى الشَّهَادَةَ حُكْمَ الْقَسَمِ، أَوْ فِيهِ قَسَمٌ مُقَدَّرٌ، أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْخَبَرِ بِالشَّهَادَةِ، وَالْخَبَرُ يُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ السَّامِعُ غَيْرَ مُنْكِرٍ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ خَبَرًا أَنَّ مَرْوَانَ قَضَى لَهُمْ بِشَهَادَةِ ابْنِ عُمَرَ

ص: 237

وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَةً حَقِيقَةً لَاحْتَاجَ إِلَى شَاهِدٍ آخَرَ. وَدَعْوَى ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّهُ قَضَى لَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَيَمِينِهِمْ؛ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ كَشُرَيْحٍ: إِنَّهُ يَكْفِي الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ بَابُ إِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَسَاقَ قِصَّةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِخُزَيْمَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْوَانُ أَعْطَى ذَلِكَ مَنْ يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْعَطَاءَ مِنْ مَالِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَعْطَاهُ كَانَ تَنْفِيذًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ هُوَ الْمُنْشِئَ لِلْعَطَاءِ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالْفَيْءِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ حَيْثُ قَضَى لَهُ بِدَعْوَاهُ وَشَهَادَةِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ السَّلَبُ.

قَوْلُهُ: (بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً) ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ بَيْتَ صُهَيْبٍ كَانَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فَوَهَبَتْهُ لِصُهَيْبٍ فَلَعَلَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ نُسِبَ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ لِصُهَيْبٍ، أَوْ هُوَ بَيْتٌ آخَرُ غَيْرُ مَا وَقَعَتْ بِهِ الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةُ.

‌32 - باب مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى

أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى، جَعَلْتُهَا لَهُ، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} جَعَلَكُمْ عُمَّارًا

2625 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.

2626 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى) أَيْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثَبَتَ لِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ بَسْمَلَةٌ قَبْلَ الْبَابِ، وَالْعُمْرَى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ، وَحُكِيَ ضَمُّ الْمِيمِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ، وَحُكِيَ فَتْحُ أَوَّلِهِ مَعَ السُّكُونِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَمْرِ، وَالرُّقْبَى بِوَزْنِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُعْطِي الرَّجُلَ الدَّارَ وَيَقُولُ لَهُ: أَعْمَرْتُكَ إِيَّاهَا، أَيْ أَبَحْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمُرِكَ فَقِيلَ لَهَا عُمْرَى لِذَلِكَ، وَكَذَا قِيلَ لَهَا رُقْبَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَتَى يَمُوتُ الْآخَرُ لِتَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَكَذَا وَرَثَتُهُ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، هَذَا أَصْلُهَا لُغَةً.

أَمَّا شَرْعًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَى إِذَا وَقَعَتْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْآخِذِ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ إِلَّا إِنْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ الْعُمْرَى إِلَّا مَا حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَالْمَاوَرْدِيُّ، عَنْ دَاوُدَ وَطَائِفَةٍ، لَكِنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ بِصِحَّتِهَا وَهُوَ شَيْخُ الظَّاهِرِيَّةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِلَى مَا يَتَوَجَّهُ التَّمْلِيكُ؟ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُعَمَّرُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ نَفَذَ بِخِلَافِ الْوَاهِبِ، وَقِيلَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَهَلْ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَقْفِ؟ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ التَّمْلِيكُ فِي الْعُمْرَى يَتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ وَفِي الرُّقْبَى إِلَى

ص: 238

الْمَنْفَعَةِ، وَعَنْهُمْ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَعَمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَصْلِهَا، وَأَطْلَقَ الْجُعْلَ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَرَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ كَمَا سَيَأْتِي تَصْرِيحُهُ بِذَلِكَ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْهِبَةِ. وَقَوْلُهُ: اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا جَعَلَكُمْ عُمَّارًا هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ يُعْتَمَدُ كَثِيرًا وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْتَعْمَرَكُمْ أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي عِمَارَتِهَا وَاسْتِخْرَاجِ قُوتِكُمْ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: (قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ) هُوَ بِفَتْحِ أَنَّهَا أَيْ قَضَى بِأَنَّهَا، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ هَذَا لَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ: فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ وَلِعَقِبِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّعْلِيلَ الَّذِي فِي آخِرِهِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْهُ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا الَّذِي قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّعْلِيلَ أَيْضًا، وَبَيَّنَ مَنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ التَّعْلِيلَ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ الْمُدْرَجِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَعَلَ الْأَنْصَارُ يُعْمِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ، فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَلِعَقِبِهِ.

ثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي أَعْطَى، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ وَالَّتِي قَبْلَهَا رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا تَرْجِعُ إِلَى الْوَاهِبِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَلغِيَ، وَسَأَذْكُرُ الِاحْتِجَاجَ لِذَلِكَ آخِرَ الْبَابِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ: أَعْمَرْتُكَهَا وَيُطْلِقُ، فَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ. وَعَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ الْقَدِيمُ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَالْجَدِيدِ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ قَتَادَةَ حَكَى أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي صُورَةَ الْإِطْلَاقِ فَذَكَرَ لَهُ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا الْعُمْرَى أَيِ الْجَائِزَةُ إِذَا أُعْمِرَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ عَقِبَهُ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ لِلَّذِي يَجْعَلُ شَرْطَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَاحْتَجَّ الزُّهْرِيُّ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَا يَقْضُونَ بِهَا فَقَالَ عَطَاءٌ: قَضَى بِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

مثله.

قَوْلُهُ: (عَنْ بَشِيرٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَزْنُ عَظِيمٍ (ابْنُ نَهِيكٍ) بِالنُّونِ وَزْنَ وَلَدِهِ.

قَوْلُهُ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ) فَهِمَ قَتَادَةُ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ مَا حَكَيْتُهُ عَنْهُ، وَحَمَلَهُ الزُّهْرِيُّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَاضِي، وَإِطْلَاقُ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُ الْحِلِّ أَوِ الصِّحَّةِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْمَاضِي لِلَّذِي يُعَاطَاهَا وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَتَادَةُ فَيَحْتَاجُ إِلَى قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَا عُمْرَى، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَهُوَ يَشْهَدُ لِمَا فَهِمَهُ قَتَادَةُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ:، حَدَّثَنِي جَابِرٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .. مِثْلَهُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ بَدَلَ

ص: 239

مِثْلِهِ، وَطَرِيقُ عَطَاءٍ مَوْصُولَةٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ، فَقَتَادَةُ هُوَ الْقَائِلُ: وَقَالَ عَطَاءٌ وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُ مُعَلَّقًا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ هَمَّامٍ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَهِ مِنْ طَرِيقِهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا وَلَفْظُهُمَا وَاحِدٌ ; وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا.

(تَنْبِيهٌ): تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِالرُّقْبَى وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْحَدِيثَيْنِ الْوَارِدَيْنِ فِي الْعُمْرَى، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُمَا مُتَّحِدَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمَنَعَ الرُّقْبَى مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَوَافَقَ أَبُو يُوسُفَ الْجُمْهُورَ ; وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى. قُلْتُ: وَمَا الرُّقْبَى؟ قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هِيَ لَكَ حَيَاتَكَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَهُوَ جَائِزٌ هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: لَا عُمْرَى وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لِكِنِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ حَبِيبٍ لَهُ مِنِ ابْنِ عُمَرَ: فَصَرَّحَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ، وَمَعْنَاهُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفُوا إِلَى مَاذَا يُوَجَّهُ النَّهْيُ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْحُكْمِ، وَقِيلَ يَتَوَجَّهُ إِلَى اللَّفْظِ الْجَاهِلِيِّ وَالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، وَقِيلَ النَّهْيُ إِنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يُفِيدُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَائِدَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ صِحَّةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضَرَرًا عَلَى مُرْتَكِبِهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، وَصِحَّةُ الْعُمْرَى ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا حُمِلَ النَّهْيُ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوِ الْإِرْشَا. لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ، وَالْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهِ، وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَب ي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ: إِجَازَةُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى بَعِيدٌ عَنْ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ، وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهِمَا لِلنَّهْيِ، وَصِحَّتِهِمَا لِلْحَدِيثِ لَمْ يَبْعُدْ، وَكَأَنَّ النَّهْيَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ حِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فِيهِمَا الْمَنْفَعَةَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودُ الْعَرَبِ بِهِمَا إِلَّا تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِمُرَاغَمَتِهِمْ فَصَحَّحَ الْعَقْدَ عَلَى نَعْتِ الْهِبَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ الْمُضَادَّ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ وَشُبِّهَ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ الْعُمْرَى لِمَنْ أَعْمَرَهَا وَالرُّقْبَى لِمَنْ أَرْقَبَهَا، وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ فَشَرْطُ الرُّجُوعِ الْمُقَارِنُ لِلْعَقْدِ مِثْلُ الرُّجُوعِ الطَّارِئِ بَعْدَهُ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ أَنْ يُبْقِيَهَا مُطْلَقًا أَوْ يُخْرِجَهَا مُطْلَقًا، فَإِنْ أَخْرَجَهَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ مُرَاغَمَةً لَهُ. وَهُوَ نَحْوُ إِبْطَالِ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِمَنْ بَاعَ عَبْدًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ.

‌33 - باب مَنْ اسْتَعَارَ مِنْ النَّاسِ الْفَرَسَ

2627 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَه فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا.

[الحديث 2627 - أطرافه في: 2820، 2857، 2866، 2867، 2908، 2968، 2969، 3040، 6033، 6212]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ وَالدَّابَّةَ وَزَادَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَغَيْرَهَا

ص: 240

وَثَبَتَ مِثْلُهُ لِابْنِ شَبَّوَيْهِ لَكِنْ قَالَ: وَغَيْرَهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِمَّنْ أَدْرَكْنَاهُ قَبْلَ الْبَابِ كِتَابُ الْعَارِيَّةِ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ وَلَا الشُّرُوحِ، وَالْبُخَارِيُّ أَضَافَ الْعَارِيَّةَ إِلَى الْهِبَةِ لِأَنَّهَا هِبَةُ الْمَنَافِعِ. وَالْعَارِيَّةُ بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا، وَحُكِيَ عَارَةً بِرَاءٍ خَفِيفَةٍ بِغَيْرِ تَحْتَانِيَّةٍ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَارَ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَيَّارُ؛ لِأَنَّهُ يُكْثِرُ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ، وَقَالَ الْبَطَلْيُوسِيُّ: هِيَ مِنَ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّنَاوُبُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ، وَتُعُقِّبَ بِوُقُوعِهَا مِنَ الشَّارِعِ، وَلَا عَارَ فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا التَّعَقُّبُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَى نَاقِلِ اللُّغَةِ، وَفِعْلُ الشَّارِعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ هِبَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ، وَيَجُوزُ تَوْقِيتُهَا.

وَحُكْمُ الْعَارِيَّةِ إِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَضْمَنَهَا إِلَّا فِيمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ. وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَشْهَرُهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قُلْتُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَإِذَا تَلِفَتِ الْأَمَانَةُ لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا. نَعَمْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رَفَعَهُ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ وَسَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِنْ ثَبَتَ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ) أَيْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَبِي طَلْحَةَ) هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ) قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنَ النَّدْبِ، وَهُوَ الرَّهْنُ عِند السِّبَاقِ، وَقِيلَ لِنَدْبٍ كَانَ فِي جِسْمِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْجُرْحِ، زَادَ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ كَانَ يَقْطِفُ أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ بَطِيءَ الْمَشْيِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا)، فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَإِنْ وَجَدْنَا بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ فِي لَبَحْرًا بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ مَا وَجَدْنَاهُ إِلَّا بَحْرًا قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ كَذَا قَالَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ لِلْفَرَسِ بَحْرٌ إِذَا كَانَ وَاسِعَ الْجَرْيِ، أَوْ لِأَنَّ جَرْيَهُ لَا يَنْفَذُ كَمَا لَا يَنْفَذُ الْبَحْرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌34 - باب الِاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ

2628 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ) أَيِ الزِّفَافِ وَقِيلَ لَهُ: بِنَاءٌ لِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ لِمَنْ يَتَزَوَّجُ قُبَّةً يَخْلُو بِهَا مَعَ الْمَرْأَةِ. ثُمَّ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى التَّزْوِيجِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي آخِرِ الْعِتْقِ حَدِيثٌ، وَفِيهِ شَرْحُ حَالِ أَيْمَنَ وَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ) الدِّرْعُ قَمِيصُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:

ص: 241

وَدِرْعُ الْحَدِيث مُؤَنَّثَةٌ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ أَيْضًا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَالْقِطْرُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَآخِرُهُ نُونٌ وَالْقِطْرُ ثِيَابٌ مِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: مِنَ الْقُطْنِ خَاصَّةً وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَالْقَابِسِيِّ بِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ آخِرُهُ رَاءٌ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ تُعْرَفُ بِالْقِطْرِيَّةِ فِيهَا حُمْرَةٌ، قَالَ الْبَنَّاسِيُّ: وَالصَّوَابُ بِالْقَافِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الثِّيَابُ الْقِطْرِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى قِطْرَ قَرْيَةٍ فِي الْبَحْرِينِ فَكَسَرُوا الْقَافَ لِلنِّسْبَةِ وَخَفَّفُوا.

قَوْلُهُ: (ثَمَنَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ بِنَصْبِ ثَمَنٍ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ. وَخَمْسَةٌ بِالْخَفْضِ عَلَى الْإِضَافَةِ أَوْ بِرَفْعِ الثَّمَنِ وَخَمْسَةٍ عَلَى حَذْفِ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ ثَمَنُهُ خَمْسَةٌ، وَرُوِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَنَصْبِ خَمْسَةٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: قُوِّمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبَّوَيْهِ وَحْدَهُ خَمْسَةِ الدَّرَاهِمِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى جَارِيَتِي) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَهَا.

قَوْلُهُ: (تُزْهَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تَأْنَفُ أَوْ تَتَكَبَّرُ، يُقَالُ زُهِيَ يُزْهَى إِذَا دَخَلَهُ الزَّهْوُ وَهُوَ الْكِبْرُ، وَمِنْهُ مَا أَزْهَاهُ، وَهُوَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ مِثْلِ عُنِيَ بِالْأَمْرِ وَنُتِجَتِ النَّاقَةُ. قُلْتُ: وَرَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ تَزْهَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَقَدْ حَكَاهَا ابْنُ دُرَيْدٍ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (تُقَيَّنُ) بِالْقَافِ أَيْ تُزَيُّنُ، مِنْ قَانَ الشَّيْءَ قِيَانَةً أَيْ أَصْلَحَهُ، وَالْقَيْنَةُ تُقَالُ لِلْمَاشِطَةِ وَلِلْمُغَنِّيَةِ وَلِلْأَمَةِ مُطْلَقًا. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ، تُفَيَّنُ بِالْفَاءِ أَيْ تُعْرَضُ وَتُجَلَّى عَلَى زَوْجِهَا. قُلْتُ: وَلَمْ يَضْبِطْ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، وَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْحُفَّاظِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا فِي حَالٍ ضَيِّقٍ، وَكَانَ الشَّيْءُ الْمُحْتَقَرُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ عَظِيمَ الْقَدْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَارِيَّةَ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الشُّنْعِ. وَفِيهِ تَوَاضُعُ عَائِشَةَ، وَأَمْرُهَا فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَفِيهِ حِلْمُ عَائِشَةَ عَنْ خَدَمِهَا، وَرِفْقُهَا فِي الْمُعَاتَبَةِ، وَإِيثَارُهَا بِمَا عِنْدَهَا مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَتَوَاضُعُهَا بِأَخْذِهَا السُّلْفَةَ فِي حَالِ الْيَسَارِ مَعَ مَا كَانَ مَشْهُورًا عَنْهَا مِنَ الْجُودِ رضي الله عنها.

‌35 - باب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ

2629 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ

[الحديث 2629 - طرفه في: 5608]

2630 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا وَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ فَقَاسَمَهُمْ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ كَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ

ص: 242

قَتْالِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ"

وَقَالَ: أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ "مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ"

[الحديث 2630 - طرفاه في: 3128، 4030، 4120]

2631 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ.

2632 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ.

2633 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا.

2634 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَعْلَمُهُمْ بِذَلكَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ زَرْعًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: اكْتَرَاهَا فُلَانٌ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْمَنِيحَةِ) حُذِفَ بَابٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمَنِيحَةُ بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَزْنَ عَظِيمَةٍ هِيَ فِي الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَنِيحَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ صِلَةً فَتَكُونَ لَهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يُعْطِيَهُ نَاقَةً أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِحَلْبِهَا وَوَبَرِهَا زَمَنًا ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ هُنَا عَارِيَّةَ ذَوَاتِ الْأَلْبَانِ لِيُؤْخَذَ لَبَنُهَا ثُمَّ تَرُدَّ هِيَ لِصَاحِبِهَا. وَقَالَ الْقَزَّازُ: قِيلَ لَا تَكُونُ الْمَنِيحَةُ إِلَّا نَاقَةً أَوْ شَاةً، وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة

قَوْلُهُ: (نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً) اللِّقْحَةُ النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ، وَهِيَ مَكْسُورَةُ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ اللَّقْحَةَ بِفَتْحِ اللَّامِ الْمَرَّةُ

ص: 243

الْوَاحِدَةُ مِنَ الْحَلْبِ، وَالصَّفِيُّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ الْكَرِيمَةُ الْغَزِيرَةُ اللَّبَنِ، وَيُقَالُ: لَهَا الصَّفِيَّةُ أَيْضًا، كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ، وَإِسْمَاعِيلَ يَعْنِي ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَيَاهُ بِلَفْظِ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ. وَكَذَا رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَنْ رَوَى نِعْمَ الصَّدَقَةُ رَوَى أَحَدَهُمَا بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْمِنْحَةَ الْعَطِيَّةُ وَالصَّدَقَةَ أَيْضًا عَطِيَّةٌ. قُلْتُ: لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ صَدَقَةٍ عَطِيَّةٌ وَلَيْسَ كُلُّ عَطِيَّةٍ صَدَقَةً. وَإِطْلَاقُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمِنْحَةِ مَجَازٌ وَلَوْ كَانَتِ الْمِنْحَةُ صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَقَوْلُهُ: مِنْحَةً مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ وُقُوعُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ فَاعِلِ نِعْمَ ظَاهِرًا، وَقَدْ مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا مَعَ الْإِضْمَارِ مِثْلَ:{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} وَجَوَّزَهُ الْمُبَرِّدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللِّقْحَةُ هِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْمَدْحِ، وَمِنْحَةٌ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ تَوْكِيدًا وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَنِعْمَ الزَّادُ زَادَ أَبِيكَ زَادًا.

قَوْلُهُ: (تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ) أَيْ مِنَ اللَّبَنِ أَيْ: تَحْلِبُ إِنَاءً بِالْغَدَاةِ وَإِنَاءً بِالْعَشِيِّ. وَوَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ.

قَتْالِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا فأَعْطَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ: مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ) كَذَا لِلْجَمِيعِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَرِيمَةَ يَعْنِي: شَيْءٌ

(1)

وَثَبَتَ لَفْظُ: شَيْءٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَأَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ إِلَخْ) ظَاهِرُهُ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي الْمُزَارَعَةِ قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لَا. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَاسَمَةِ هُنَا الْقِسْمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ قَالَ: قَالُوا فَيَكْفُونَنَا الْمُؤْنَةَ وَنُشْرِكُهُمْ فِي الثَّمَرِ فَكَانَ الْمُرَادُ هُنَا مُقَاسَمَةَ الثِّمَارِ، وَالْمَنْفِيُّ هُنَاكَ مُقَاسَمَةَ الْأُصُولِ. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ وَأَقَرَّهُ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا: قَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ أَيْ حَالَفُوهُمْ، جَعَلَهُ مِنَ الْقَسَمِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ لَا مِنَ الْقَسْمِ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعَقُّبُ مَا زَعَمَهُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ إِلَخْ) الضَّمِيرُ فِي أُمِّهِ يَعُودُ عَلَى أَنَسٍ وَأُمُّ أَنَسٍ بَدَلٌ مِنْهُ، وَكَذَا أُمُّ سُلَيْمٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهِيَ تُدْعَى أُمَّ سُلَيْمٍ وَكَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ كَانَ أَخَا أَنَسٍ لِأُمِّهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الزُّهْرِيُّ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ، لَكِنَّ بَقِيَّةَ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّجْرِيدِ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ) أَيْ كَانَتْ أُمُّ أَنَسٍ أَعْطَتْ.

قَوْلُهُ: (عِذَاقًا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ جَمْعُ عَذْقٍ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ كَحَبْلٍ وَحِبَالٍ وَالْعَذْقُ النَّخْلَةُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ حَمْلُهَا مَوْجُودًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا وَهَبَتْ لَهُ ثَمَرَهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أُمِّهِ) أَيْ إِلَى أُمِّ أَنَسٍ وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ) أَيْ بَدَلَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ حَائِطِهِ) أَيْ بُسْتَانِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ بِهَذَا) أَيْ بِالْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ) يَعْنِي أَنَّهُ وَافَقَ ابْنَ وَهْبٍ فِي السِّيَاقِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ مِنْ حَائِطِهِ فَقَالَ: مِنْ خَالِصِهِ أَيْ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ حَائِطَهُ صَارَ لَهُ خَالِصًا. قُلْتُ: لَكِنَّ لَفْظَ خَالِصِهِ أَصْرَحُ فِي الِاخْتِصَاصِ مِنْ حَائِطِهِ، وَطَرِيقُ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَرْقَانِيُّ فِي الْمُصَافَحَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّائِغِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ الْمَذْكُورِ مِثْلَهُ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي

(1)

كذا بالرفع، والرواية التي شرحها القسطلاني " يعني شيئاً"

ص: 244

آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَنَّهَا كَانَتْ رصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ حَتَّى كَبِرَ فَأَعْتَقَهَا ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي ذِكْرُ سَبَبِ إِعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ أَيْمَنَ بَدَلَ الْعِذَاقِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَاتِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانُوا أَعْطَوْهُ. وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلْتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي تَقُولُ: لَا نُعْطِيكُمْ وَقَدْ أَعْطَانِيهِ، قَالَ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَكِ كَذَا حَتَّى أَعْطَاهَا عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ.

قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَن الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي كَبْشَةَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، (السَّلُولِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَزَعَمَ الْحَاكِمُ أَنَّ اسْمَهُ الْبَرَاءُ بْنُ قَيْسٍ، وَوَهِمَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لِأَبِي كَبْشَةَ وَلَا لِلرَّاوِي عَنْهُ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَرْبَعُونَ حَسَنَةً.

قَوْلُهُ: (الْعَنْزِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ وَاحِدَةُ الْمَعْزِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ حَسَّانُ) هُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا مُلَخَّصُهُ: لَيْسَ فِي قَوْلِ حَسَّانَ مَا يَمْنَعُ مِنْ وِجْدَانِ ذَلِكَ وَقَدْ حَضَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ لَا تُحْصَى كَثِيرَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَالِمًا بِالْأَرْبَعِينَ الْمَذْكُورَةِ، وإِنَّمَا لَمْ يَذَكُرْهَا لِمَعْنًى هُوَ أَنْفَعُ لَنَا مِنْ ذِكْرِهَا، وَذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ التَّعْيِينُ لَهَا مُزَهِّدًا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ، قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ تَطَلَّبَهَا فَوَجَدَهَا تَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، فَمِمَّا زَادَهُ إِعَانَةُ الصَّانِعِ، وَالصَّنْعَةُ لِلْأَخْرَقِ، وَإِعْطَاءُ شِسْعِ النَّعْلِ، وَالسَّتْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالذَّبُّ عَنْ عِرْضِهِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَالتَّفَسُّحُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْكَلَامُ الطَّيِّبُ، وَالْغَرْسُ، وَالزَّرْعُ، وَالشَّفَاعَةُ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَالْمُصَافَحَةُ، وَالْمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ لِأَجْلِهِ، وَالْمُجَالَسَةُ لِلَّهِ، وَالتَّزَاوُرُ، وَالنُّصْحُ، وَالرَّحْمَةُ - وَكُلُّهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَفِيهَا مَا قَدْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِهِ دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ، وَحَذَفْتُ مِمَّا ذَكَرَهُ أَشْيَاءَ قَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ الْمُنِيرِ بَعْضَهَا، وَقَالَ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَنَى بِعَدِّهَا لِمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ أَنَّى عَرَفَ أَنَّهَا أَدْنَى مِنَ الْمَنِيحَةِ؟ قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْهَا تَقْرِيبَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ الَّتِي عَدَّهَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، وَهِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْتُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنَا مُوَافِقٌ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي إِمْكَانِ تَتَبُّعِ أَرْبَعِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ أَدْنَاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، وَمُوَافِقٌ لِابْنِ الْمُنِيرِ فِي رَدِّ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ فَوْقَ الْمَنِيحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:

حَدِيثُ جَابِرٍ كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَيَكُونَ مَوْصُولًا، لَكِنْ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخَبَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي الْهِجْرَةِ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَلَوْ أَرَادَ هُنَا أَنْ يَعْطِفَهُ لَقَالَ هُنَاكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ كَعَادَتِهِ. نَعَمْ زَعَمَ الْمِزِّيُّ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الْهِبَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي الْهِجْرَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ،

ص: 245

وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ فَإِنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ فَضِيلَةِ الْمَنِيحَةِ وَقَوْلُهُ: لَنْ يَتِرَكَ أَيْ لَنْ يَنْقُصَكَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ:

حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا مَا دَلَّ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ عَلَى فَضْلِ الْمَنِيحَةِ.

‌36 - باب إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ

2635 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ فَأَعْطَوْهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً؟ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: أَخَدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهَذِهِ هِبَةٌ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ وَقَالَ فِيهِ: وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَنَّهُ قَدْ وَهَبَ لَهُ الْخِدْمَةَ خَاصَّةً، فَإِنَّ الْإِخْدَامَ لَا يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ، كَمَا أَنَّ الْإِسْكَانَ لَا يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الدَّارِ. قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ: فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ عَلَى الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا صَحَّتِ الْهِبَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَعْطَوْهَا هَاجَرَ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَنَّ لَهُ شَرْطَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا فَهُوَ هِبَةٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْأُمَّةُ أَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعُرْفِ حُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْوَضْعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ جَرَى بَيْنَ قَوْمٍ عُرْفٌ فِي تَنْزِيلِ الْإِخْدَامِ مَنْزِلَةَ الْهِبَةِ فَأَطْلَقَهُ شَخْصٌ وَقَصَدَ التَّمْلِيكَ نَفَذَ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ عَارِيَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ فَقَدْ خَالَفَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌37 - باب إِذَا حَمَلَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا

2636 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ فقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَمَلَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) أَوْرَدَ فِيهِ

ص: 246

حَدِيثَ عُمَرَ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَبْوَابٍ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَا كَانَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْخَيْلِ تَمْلِيكًا لِلْمَحْمُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هُوَ لَكَ فَهُوَ كَالصَّدَقَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ تَحْبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْوَقْفِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَبْسَ بَاطِلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِلَّا فَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ كَانَ تَمْلِيكًا، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: كَانَ تَحْبِيسًا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(خَاتِمَةٌ) اشْتَمَلَ كِتَابُ الْهِبَةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ أَحَادِيثِ الْعُمْرَى وَالْعَارِيَّةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا مِائَةٍ إِلَّا وَاحِدًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ، وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْهَدِيَّةِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الطِّيبِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ فَجُلَسَاؤُهُ شُرَكَاؤُهُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ فِي سَتْرِ بَابِهَا، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ صُهَيْبٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الدِّرْعِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْأَرْبَعِينَ خَصْلَةً. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَثَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌52 - كِتَاب الشَّهَادَات

قَوْلُهُ: (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ) هِيَ جَمْعُ شَهَادَةٍ، وَهِيَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّهَادَةُ خَبَرٌ قَاطِعٌ، وَالْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشُّهُودِ أَيِ الْحُضُورِ ; لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأعْلَامِ.

‌1 - باب مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ

ص: 247

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ لِبَعْضِهِمْ لَفْظُ بَابٍ وَقَدَّمَ النَّسَفِيُّ، وَابْنُ شَبَّوَيْهِ الْبَسْمَلَةَ عَلَى كِتَابٍ

قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةَ كَذَا لِابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا وَكَذَا الَّتِي بَعْدَهَا.

قَوْلُهُ: وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ، وَوَقَعَ لِلنَّسَفِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَاكْتُبُوهُ {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وَهُوَ غَلَطٌ لَا مَحَالَةَ، وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْضَحَتْهُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ كَمَا تَرَى وَلَمْ يَسُقْ فِي الْبَابِ حَدِيثًا إِمَّا اكْتِفَاءً بِالْآيَتَيْنِ، وَإِمَّا إِشَارَةً إِلَى الْحَدِيثِ الْمَاضِي قَرِيبًا فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ بَابِ الرَّهْنِ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ الشِّقِّ الْآخَرِ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِشْهَادِ وَلَا إِلَى كِتَابَةِ الْحُقُوقِ وَإِمْلَائِهَا فَالْأَمْرُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّ اللَّهَ حِينَ أَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ اقْتَضَى تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِذَا كَانَ مُصَدِّقًا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى تَكْذِيبَهُ.

‌2 - باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رجلا فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، أَوْ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا

وَسَاقَ حَدِيثَ الْإِفْكِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ فَقَالَ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا.

2637 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا ثوبان، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَأُسَامَةَ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَقَالَتْ بَرِيرَةُ: إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَعْذِرُنَا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحَدًا بَدَلَ رَجُلًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَكَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ. إِذَا قَالَ ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا

ص: 248

عَنْ الْكُوفِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً حَتَّى يَقُولَ: رِضًا أَيْ بِالْقَصْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَتَّى يَقُولَ: عَدْلٌ، وَفِي قَوْلٍ: عَدْلٌ عَلَيَّ وَلِي. وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُزَكِّي حَالَهُ الْبَاطِنَةَ. وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَرٌّ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ أُسَامَةَ، فَأَجَابَ الْمُهْلَّبُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْعَصْرِ الَّذِي زَكَّى اللَّهُ أَهْلَهُ، وَكَانَتِ الْجُرْحَةُ فِيهِمْ شَاذَّةً، فَكَفَى فِي تَعْدِيلِهِمْ أَنْ يُقَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْجُرْحَةُ فِي النَّاسِ أَغْلَبُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعَدَالَةِ. قُلْتُ: لَمْ يَبُتَّ الْبُخَارِيُّ الْحُكْمَ فِي التَّرْجَمَةِ، بَلْ أَوْرَدَهَا مَوْرِدَ السُّؤَالِ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَسَاقَ حَدِيثَ الْإِفْكِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ فَقَالَ: أَهْلَكَ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْبَاقِينَ وَهُوَ اللَّائِقُ ; لِأَنَّ حَدِيثَ الْإِفْكِ قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَابِ مَوْصُولًا، وَإِنْ كَانَ اخْتَصَرَهُ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا أَيْضًا بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ وَصَلَهُ هُنَاكَ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: أَهْلَكَ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا بِنَصْبِ أَهْلَكَ لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْسِكْ أَهْلَكَ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُمْ أَهْلُكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّعْدِيلُ إِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِلشَّهَادَةِ وَعَائِشَةُ رضي الله عنها لَمْ تَكُنْ شَهِدَتْ وَلَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إِلَى التَّعْدِيلِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إِلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهَا حَتَّى تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَيْهَا بِذَلِكَ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، وَلَا شُبْهَةَ، فَيَكْفِي فِي هَذَا الْقَدْرِ هَذَا اللَّفْظُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ لِمَنِ اكْتَفَى فِي التَّعْدِيلِ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا حُجَّةٌ.

‌3 - باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِ ئ وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ

وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا

2638 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ أَيْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ الْمُخْتَبِئِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ الَّذِي يَخْتَفِي عِنْدَ التَّحَمُّلِ.

2639 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ

ص: 249

فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2639 - أطرافه في: 5260، 5261، 5265، 5371، 5792، 5825، 6084]

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَهُ) أَيِ الِاخْتِبَاءَ عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.

قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرٌ ابْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى السَّبَبِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُخْتَبِئِ، قَالَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخَائِنِ الظَّالِمِ أَوِ الْفَاجِرِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَتَهُ وَيَقُولُ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخَائِنِ الْفَاجِرِ، وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّ شَهَادَةَ الْمُخْتَبِئِ، وَكَذَلِكَ الشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَجَازَهَا فِي الْجَدِيدِ إِذَا عَايَنَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ) أَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْهُ بِهَذَا وَرُوِّينَاهُ فِي الْجَعْدِيَّاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيُّ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمْعِ إِذَا قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ، وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ هَذَا يُعَارِضُ رَدَّهُ لِشَهَادَةِ الْمُخْتَبِئِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ الْمُخْتَبِئِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُخَادَعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَدُّهُ لِشَهَادَةِ السَّمْعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا الْحِرْصُ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ قَادِحٌ، فَإِذَا اخْتَفَى لِيَشْهَدَ فَهُوَ حِرْصٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ فَسَيَأْتِي فِي بَابِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَوَصَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ السَّمْعُ شَهَادَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ مِنْ قَوْمٍ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَأْتِي الْقَاضِيَ فَيَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي وَلَكِنْ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَسَنٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وَلَمْ يَقُلْ: الْإِشْهَادُ فَيَفْتَرِقُ الْحَالُ عِنْدَ الْأَدَاءِ، فَإِنْ سَمِعَهُ وَلَمْ يُشْهِدْهُ وَقَالَ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدَنِي لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ قَالَ: أَشْهَد أَنَّهُ قَالَ كَذَا قُبِلَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاعْتِمَادَ عَلَى سَمَاعِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ السَّامِعُ مُحْتَجِبًا عَنِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ، وَقَوْلُهُ: يَخْتِلُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِنْكَارُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، مَا كَانَتْ تَكَلَّمُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا عَنْهَا خَارِجَ الْبَابِ، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَاعْتِمَادُ خَالِدٍ عَلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا حَتَّى أَنْكَرَ عَلَيْهَا هُوَ حَاصِلُ مَا يَقَعُ مِنْ شَهَادَةِ السَّمْعِ.

‌4 - باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا بذَلِكَ، يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ

قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلَالٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ

وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ

ص: 250

بِلَالٍ، كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ

2640 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلَا أَخْبَرْتِنِي، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ يَسْأَلُهُمْ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَاه أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ، يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلَالٌ إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا فِي بَابِ الْعُشْرِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَهُوَ وِفَاقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَّا لِنَفْيِ عِلْمِهِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ إِلَخْ وَقَدِ اعْتُرِضَ بِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ اتَّفَقَتَا عَلَى الْأَلْفِ وَانْفَرَدَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْخَمْسِمِائَةٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ سُكُوتَ الْأُخْرَى عَنْ خَمْسِمِائَةٍ فِي حُكْمِ نَفْيِهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ الْمُرْضِعَةِ، وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّهَا أَثْبَتَتِ الرَّضَاعَ وَنَفَاهُ عُقْبَةُ، فَاعْتَمَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهَا، فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ، إِمَّا وُجُوبًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَإِمَّا نَدْبًا عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَزَايَيْنِ مَنْقُوطَتَيْنِ وَزْنِ عَظِيمٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ، عُزَيْرٌ، بِزَايٍ وَآخِرُهُ رَاءٌ مُصَغَّرٌ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ.

‌5 - باب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}

2641 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُ سَرِيرَتَهُ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أَيْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا مِنَ التِّلَاوَةِ، وَالْعَدْلُ وَالرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَنْ يَكُونُ

ص: 251

مُسْلِمًا مُكَلَّفًا حُرًّا غَيْرَ مُرْتَكِبٍ كَبِيرَةً وَلَا مُصِرًّا عَلَى صَغِيرَةٍ، زَادَ الشَّافِعِيُّ: وَأَنْ يَكُونَ ذَا مُرُوءَةٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ عَدُوًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا مُتَّهَمًا فِيهَا بِجَرِّ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ وَلَا أَصْلًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَلَا فَرْعًا مِنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفَاصِيلَ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّرَاجِمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَلَهُ رؤية، وَحَدِيثُهُ هَذَا عَنْ عُمَرَ أَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَإنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ) أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ انْقِطَاعُ أَخْبَارِ الْمَلَكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ بِالْأَمْرِ فِي الْيَقَظَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فِرَاسٍ عَنْ عُمَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِنَّا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذِ الْوَحْيُ يَنْزِلُ وَإِذْ يَأْتِينَا مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَأَرَادَ أَنَّ النَّبِيَّ قَدِ انْطَلَقَ وَرُفِعَ الْوَحْيُ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ) بِهَمْزَةٍ بِغَيْرِ مَدٍّ وَمِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ الْأَمْنِ، أَيْ صَيَّرْنَاهُ عِنْدَنَا أَمِينًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فِرَاسٍ: أَلَا وَمَنْ يُظْهِرُ مِنْكُمْ خَيْرًا؛ ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُ يُحَاسِبُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْبَاقِينَ اللَّهُ مُحَاسِبُهُ بِمِيمٍ أَوَّلَهُ وَهَاءٍ آخِرَهُ.

قَوْلُهُ: (سُوءًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَرًّا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي فِرَاسٍ: وَمَنْ يُظْهِرُ لَنَا شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ ; سَرَائِرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنْ عُمَرَ عَمَّا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّا صَارَ بَعْدَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْعَدْلَ مَنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّيبَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ كَذَا قَالَ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَعْرُوفِينَ لَا مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ أَصْلًا.

‌6 - باب تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ؟

2642 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا - أَوْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ - فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ لِهَذَا: وَجَبَتْ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ، قَالَ شَهَادَةُ الْقَوْمِ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.

2643 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ خَيْرًا فَقَالَ عمر: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلَاثَةٌ قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (تَعْدِيلُ كَمْ يَجُوزُ؟) أَيْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ التَّعْدِيلِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَعُمَرَ فِي ثَنَاءِ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى الْمَيِّتِينَ، وَفِيهِمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: وَجَبَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَحَكَيْتُ عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ: قَالَ ابْنِ بَطَّالٍ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِتَعْدِيلٍ وَاحِدٍ،

ص: 252

وَذَكَرْتُ أَنَّ فِيهِ غُمُوضًا، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ، إِشْعَارًا بَعِيدًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ بَعْدَ أَبْوَابٍ التَّصْرِيحُ بِالِاكْتِفَاءِ فِي شُهَدَاءِ التَّزْكِيَةِ بِوَاحِدٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ.

قَوْلُهُ: (شَهَادَةُ الْقَوْمِ) هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَقْبُولَةٌ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذِهِ شَهَادَةُ الْقَوْمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ شَهَادَةً بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ نَاصِبٍ.

قَوْلُهُ: (الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ شُهَدَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: شَهَادَةُ الْقَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَشُهَدَاءُ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُمْ شُهَدَاءُ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِرَفْعِ الْقَوْمِ. فَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِتَنْوِينِ شَهَادَةٍ فَهِيَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ هَذِهِ شَهَادَةٌ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: الْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَالْقَوْمُ مُبْتَدَأٌ وَالْمُؤْمِنُونَ نَعْتٌ أَوْ بَدَلٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ حَذْفُ الْمَنْعُوتِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ فَلَا يَحْتَاجُ لِذِكْرِ الْمَوْصُوفِ. ثُمَّ حَكَى وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ فِيهِمَا تَكَلُّفٌ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِالتَّنْوِينِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ بِنَصْبِ الْمُؤْمِنِينَ.

‌7 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَنْسَابِ وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ

2644 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي، فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقَ أَفْلَحُ ائْذَنِي لَهُ.

[الحديث 2644 - أطرفه في: 4796، 5103، 5111، 5229، 6156]

2645 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: لَا تَحِلُّ لِي؛ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعة مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ.

[الحديث 2645 - أطرافه في: 5100]

2646 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يا رسول الله هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ إِنَّ

ص: 253

الرَّضَاعَةَ يحَرمُ منها مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ.

[الحديث 2646 - طرفاه في: 3105، 5099]

2647 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ قَالَ يَا عَائِشَةُ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ يَا عَائِشَةُ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ". تَابَعَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ"

[الحديث 2647 - طرفه في: 5102]

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَنْسَابِ وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِشَهَادَةِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا النَّسَبَ وَالرَّضَاعَةَ وَالْمَوْتَ الْقَدِيمَ، فَأَمَّا النَّسَبُ فَيُسْتَفَادُ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّهُ مِنْ لَازِمِهِ، وَقَدْ نُقِلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ. وَأَمَّا الرَّضَاعَةُ فَيُسْتَفَادُ ثُبُوتُهَا بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا عِنْدَ مَنْ وَقَعَ لَهُ. وَأَمَّا الْمَوْتُ الْقَدِيمُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ حُكْمُهُ بِالْإِلْحَاقِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَاحْتَرَزَ بِالْقَدِيمِ عَنِ الْحَادِثِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ عَلَيْهِ. وَحْدَّهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِخَمْسِينَ سَنَةً وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ فِي الرَّضَاعِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَثُوَيْبَةُ بِالْمُثَلَّثَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرَةٌ يَأْتِي هُنَاكَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِهَا وَخَبَرِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَابِطِ مَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَتَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي النَّسَبِ قَطْعًا وَالْوِلَادَةِ، وَفِي الْمَوْتِ وَالْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ وَالنِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرُّشْدِ وَالسَّفَهِ وَالْمِلْكِ عَلَى الرَّاجِحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبَلَّغَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا وَهِيَ مُسْتَوْفَاةٌ فِي قَوَاعِدِ الْعَلَائِيِّ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ، وَكَوْنِهِ قَاضِيًا، زَادَ أَبُو يُوسُفَ وَالْوَلَاءِ زَادَ مُحَمَّدٌ وَالْوَقْفِ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَإِنَّمَا أُجِيزَ اسْتِحْسَانًا وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، وَشَرْطُ قَبُولِهَا أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ جَمْعٍ يُؤَمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ: أَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ، وَقِيلَ: يَكْفِي مِنْ عَدْلَيْنِ، وَقِيلَ يَكْفِي مِنْ عَدْلٍ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ) هُوَ بَقِيَّةُ التَّرْجَمَةِ. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ آخِرَ الْبَابِ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْحَدِيثَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا جَمِيعًا فِي الرَّضَاعِ آخِرَ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِسْنَادُ الثَّانِي كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ وَقَدْ سَكَنَهَا. وَالثَّالِثُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَهُ وَقَدْ دَخَلَهَا. وَالرَّابِعُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ: (تَابَعَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ) أَيْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ رَوَى حَدِيثَ عَائِشَةَ عَنْ سُفْيَانَ بِإِسْنَادِهِ كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَرِوَايَةُ ابْنِ مَهْدِيٍّ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي يَعْلَى، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي أَفْلَحَ هَلْ كَانَ عَمَّ عَائِشَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ كَانَ أَبَاهَا؟

‌8 - باب شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا}

ص: 254

وَجَلَدَ عُمَرُ، أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ.

وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِ كعب بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً.

2648 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2648 - أطرافه في: 3475، 3732، 3733، 4304، 6787، 6788، 6800]

2649 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي) أَيْ هَلْ تُقْبَلُ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا} ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ شَهَادَتَهُ إِذَا تَابَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثُمَّ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} فَمَنْ تَابَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ تُقْبَلُ وَيَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْفِسْقِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَهُ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:{أَبَدًا} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى قَذْفِهِ ; لِأَنَّ أَبَدَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أَبَدًا، فَإِنَّ الْمُرَادَ مَا دَامَ كَافِرًا، وَبَالَغَ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: إِنْ تَابَ الْقَاذِفُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ عَنْهُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْفِسْقِ خَاصَّةً، فَإِذَا

ص: 255

تَابَ سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُ فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا. وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ. وَفِيهِ مَذْهَبٌ آخَرُ: يُقْبَلُ بَعْدَ الْحَدِّ لَا قَبْلَهُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُحَدَّ، وَتَعَقَّبَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، فَهُوَ بَعْدَ الْحَدِّ خَيْرٌ مِنْهُ قَبْلَهُ، فَكَيْفَ يُرَدُّ فِي خَيْرِ حَالَتَيْهِ، وَيُقْبَلُ فِي شَرِّهِمَا.

قَوْلُهُ: (وَجَلَدَ عُمَرُ، أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ لَا تَجُوزُ، فَأَشْهَدُ لَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ وَأَقْبَلَ شَهَادَتَكَ.

قَالَ سُفْيَانُ: سَمَّى الزُّهْرِيُّ الَّذِي أَخْبَرَهُ فَحَفِظْتُهُ ثُمَّ نَسِيتُهُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ: هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ. قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ فَسَمَّاهُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ، وَكَذَلِكَ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ مِنْ طَرِيقِ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الْحَدَّ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ. فَأَكْذَبَ شِبْلٌ نَفْسَهُ وَنَافِعٌ، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ وَاللَّهِ سُنَّةٌ فَاحْفَظُوهُ. وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ حَيْثُ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلٌ عَلَى الْمُغِيرَةِ وَشَهِدَ زِيَادٌ عَلَى خِلَافِ شَهَادَتِهِمْ، فَجَلَدَهُمْ عُمَرُ وَاسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.

فَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَرْجِعَ أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَاقَ قِصَّةَ الْمُغِيرَةِ هَذِهِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُحَصَّلُهَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ، فَاتَّهَمَهُ أَبُو بَكْرَةَ - وَهُوَ نُفَيْعٌ - الثَّقَفِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَشِبْلٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ابْنُ مَعْبَدِ بْنِ عُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُخَضْرَمِينَ، وَزِيَادُ بْنُ عُبَيْدٍ الَّذِي كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - إِخْوَةٌ مِنْ أُمٍّ، أُمُّهُمْ سُمَيَّةُ مَوْلَاةُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، فَاجْتَمَعُوا جَمِيعًا فَرَأَوُا الْمُغِيرَةَ مُتَبَطِّنَ الْمَرْأَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الرَّقْطَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الْأَفْقَمِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَوْجُهَا الْحَجَّاجُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيُّ، فَرَحَلُوا إِلَى عُمَرَ فَشَكَوْهُ فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَأَحْضَرَ الْمُغِيرَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ الثَّلَاثَةُ بِالزِّنَا، وَأَمَّا زِيَادٌ فَلَمْ يَبُتَّ الشَّهَادَةَ، وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَبِيحًا وَمَا أَدْرِي أَخَالَطَهَا أَمْ لَا، فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِ الثَّلَاثَةَ حَدَّ الْقَدْفِ، وَقَالَ مَا قَالَ.

وَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مُطَوَّلًا وَفِيهَا: فَقَالَ زِيَادٌ: رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ، وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمَدْخَلِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَشْكَلَ إِخْرَاجَ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَاحْتِجَاجَهُ بِهَا مَعَ كَوْنِهِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَأَنَّ الشَّهَادَةَ يُطْلَبُ فِيهَا مَزِيدُ تَثَبُّتٍ لَا يُطْلَبُ فِي الرِّوَايَةِ كَالْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَنْبَطَ الْمُهْلَّبُ مِنْ هَذَا أَنَّ إِكْذَابَ الْقَاذِفِ نَفْسَهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَبِلَ الْمُسْلِمُونَ رِوَايَتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إِذَا تَابَ.

قَوْلُهُ: (وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيِ الْخَلِيفَةُ الْمَشْهُورُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْخَلَّالُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ وَمَعَهُ رَجُلٌ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَزَادَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا

ص: 256

بَكْرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.

قَوْلُهُ: (وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ إِذَا تَابَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ قَالَ: الْقَاذِفُ إِذَا تَابَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. قِيلَ لَهُ: مَنْ قَالَهُ؟ قَالَ: عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ.

قَوْلُهُ: (وَالشَّعْبِيُّ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَيَرُدُّونَ شَهَادَتَهُ، وَكَانَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ إِذَا تَابَ وَرُوِّينَاهُ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ فِي شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا تَجُوزُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: إِذَا تَابَ قُبِلَتْ.

قَوْلُهُ: (وَعِكْرِمَةُ) أَيْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يُونُسَ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَالزُّهْرِيُّ) قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ هُوَ سُنَّةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِذَا حُدَّ الْقَاذِفُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ فِي قِصَّةٍ.

قَوْلُهُ: (وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ) أَيِ الْقَاضِي، (وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الزُّهْرِيِّ الْمَاضِي فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ بِمَا نَسَبَهُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِمْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَلَمْ أَرَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ التَّصْرِيحَ بِالْقَبُولِ، نَعَمِ الشَّعْبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ الْقَبُولُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَاذِفِ يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ؟ وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَالِدٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ) هُوَ الْمَدَنِيُّ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (الْأَمْرُ عِنْدَنَا إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جُلِدَ حَدًّا فِي قَذْف الزِّنَا، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ ضَرْبِهِ أَحْدَثَ تَوْبَةً، فَلَقِيتُ أَبَا الزِّنَادِ فَقَالَ لِي: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا مُفَرَّقًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِذَا أَكْذَبَ الْقَاذِفُ نَفْسَهُ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ) إِلَخْ هُوَ فِي الْجَامِعِ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ) هَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَاحْتَجُّوا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ بِأَحَادِيثَ قَالَ الْحُفَّاظُ: لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ نَحْوَهُ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرٌ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سَنَدٌ قَوِيٌّ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ) أَيْ بَعْضُ النَّاسِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: (لَا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ) هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ الْغَرَضَ شُهْرَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْعَدْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْأَدَاءِ فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا الْعَدْلُ.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ وَالْأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ) هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخَبَرِ لَا الشَّهَادَةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ) أَيِ الْقَاذِفِ وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَمنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ: لَا بُدَّ أَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ طَاوُسٍ مِثْلَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ: إِذَا ازْدَادَ خَيْرًا كَفَاهُ،

ص: 257

وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْذِيبِ نَفْسِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِلَى هَذَا مَالَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (وَنَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً، وَنَهَى عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً) أَمَّا نَفْيُ الزَّانِي فَمَوْصُولٌ آخِرَ الْبَابِ، وَأَمَّا قِصَّةُ كَعْبٍ فَسَتَأْتِي بِطُولِهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَلَّفَهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى النَّفْيِ وَالْهِجْرَانِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ مُخْتَصَرَةً، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا الْحَدِيثَ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِلْحَاقَ الْقَاذِفِ بِالسَّارِقِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ عِنْدَهُ. وَإِسْمَاعِيلُ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَقَوْلُهُ:(وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ لَكِنْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَظَهَرَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِابْنِ وَهْبٍ، وأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَيُشْتَرَطُ معنى مُدَّةٍ يُظَنُّ فِيهَا صِحَّةُ تَوْبَتِهِ، وَقَدَّرَهَا الْأَكْثَرُونَ بِسَنَةٍ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرًا، فَإِذَا مَضَتْ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِحُسْنِ السَّرِيرَةِ، وَلِهَذَا اعْتُبِرَتْ فِي مُدَّةِ تَغْرِيبِ الزَّانِي، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ وَإِلَّا فَفِي قَوْلِ عُمَرَ، لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ دَلَالَةٌ لِلْجُمْهُورِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اشْتِرَاطُ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ إِذَا كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ مُحِقًّا فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهِ، فَاشْتِرَاطُهَا وَاضِحٌ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذًا الْمُعَايِنَ لِلْفَاحِشَةِ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يَكْشِفَ صَاحِبَهَا إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ كَمَالَ النِّصَابِ مَعَهُ، فَإِذَا كَشَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَصَى فَيَتُوبُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْإِعْلَانِ لَا مِنَ الصِّدْقِ فِي عِلْمِهِ. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ يَكْشِفْ لم حَتَّى يُحَقِّقَ كَمَالَ النِّصَابِ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعَ ذَلِكَ فأَمَرَهُ عُمَرُ بِالتَّوْبَةِ لِتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ لَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ أَبُو بَكْرَةَ مَا أَمَرَهُ بِهِ لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي تَغْرِيبِ الزَّانِي، وَاسْتَشْكَلَ الدَّاوُدِيُّ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَجَّهَهُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقْصَى مَا وَرَدَ فِي اسْتِبْرَاءِ الْعَاصِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): جَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُمَا، وَإِلَّا فَقَدَ نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ السَّارِقِ إِذَا تَابَ، نَعَمْ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْخَمْرِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ، وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.

‌9 - باب لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ

2650 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ: لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ.

وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.

2651 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ

ص: 258

عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ.

[الحديث 2651 - أطرافه في: 3650، 6428، 6695]

2652 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ"

[الحديث 2652 - أطرافه في: 3651، 6429، 6658]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي قِصَّةِ هِبَةِ أَبِيهِ لَهُ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْهِبَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا بِلَفْظِ: فَقَالَ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: إِذَا أُشْهِدَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ إِذَا لَمْ يُسْتَشْهَدْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ زَايٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ أَيْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ والْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ وَصَلَهُ، وَإِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَرِيزٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْآخَرِ، وَوَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ آخَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، سَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالزَّوَائِدِ مَشْرُوحَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَاتِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ عِمْرَانَ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَضَائِلِ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَابْنِ ش بَّوَيْهِ: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى اللُّغَةِ الرَّبِيعِيَّةِ، أَوْ حُذِفَ مِنْهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (يَخُونُونَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ يَحْرِبُونَ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ; قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَرَبَهُ يَحْرِبُهُ إِذَا أَخَذَ مَالَهُ وَتَرَكَهُ بِلَا شَيْءٍ، وَرَجُلٌ مَحْرُوبٌ أَيْ مَسْلُوبُ الْمَالِ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَلَا يُتَّمَنُونَ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ قَالَ غَيْرُهُ هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَتزورُ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: يَأْتَزِرُ وَادَّعَى أَنَّهُ شَاذٌّ، وَلَكِنْ قَدْ قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائتمن أَمَانَتَهُ) وَوَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ شِبْهٌ بِمَا فَاؤُهُ وَاوٌ أَوْ تَحْتَانِيَّةٌ قَالَ: وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُؤْتَمَنُونَ) أَيْ لَا يَثِقُ النَّاسُ بِهِمْ، وَلَا يَعْتَقِدُونَهُمْ أُمَنَاءَ بِأَنْ تَكُونَ خِيَانَتُهُمْ ظَاهِرَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلنَّاسِ اعْتِمَادٌ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّحَمُّلَ بِدُونِ التَّحْمِيلِ أَوِ الْأَدَاءَ بِدُونِ طَلَبٍ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ، وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مَرْفُوعًا أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْجِيحِهِمَا فَجَنَحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَدَّمَهُ عَلَى رِوَايَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبَالَغَ فَزَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ. وَجَنَحَ غَيْرُهُ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ لِاتِّفَاقِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِ، وَانْفِرَادِ مُسْلِمٍ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

ص: 259

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَأَجَابُوا بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْدٍ: مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا، أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا الْعَالِمُ بِهَا، وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي الشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ، وَبِهَذَا أَجَابَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ شَيْخُ مَالِكٍ، وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، وَهِيَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ مَحْضًا، وَيَدْخُلُ فِي الْحِسْبَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُ الْعَتَاقُ وَالْوَقْفُ وَالْوَصِيَّةُ الْعَامَّةُ وَالْعِدَّةُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى الْأَدَاءِ فَيَكُونُ لِشِدَّةِ اسْتِعْدَادِهِ لَهَا كَالَّذِي أَدَّاهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا كَمَا يُقَالُ فِي وَصْفِ الْجَوَادِ: إِنَّهُ لَيُعْطِي قَبْلَ الطَّلَبِ أَيْ يُعْطِي سَرِيعًا عَقِبَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ مَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيَخُصُّ ذَمَّ مَنْ يَشْهَدُ بِمَنْ ذَكَرَ مِمَّنْ يُخْبرُ بِشَهَادَةٍ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُ صَاحِبُهَا بِهَا أَوْ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَلَى ظَاهِرِ عُمُومِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ عِمْرَانَ بِتَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ أَيْ يُؤَدُّونَ شَهَادَةً لَمْ يُسْبَقْ لَهُمْ تَحَمُّلُهَا، وَهَذَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

ثَانِيهَا: الْمُرَادُ بِهَا الشَّهَادَةُ فِي الْحَلِفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ أَيْ قَوْلِ الرَّجُلِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا كَذَا عَلَى مَعْنَى الْحَلِفِ، فَكُرِهَ ذَلِكَ كَمَا كُرِهَ الْإِكْثَارُ مِنَ الْحَلِفِ، وَالْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وَهَذَا جَوَابُ الطَّحَاوِيِّ.

ثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُغَيَّبِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فَيَشْهَدُ عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ، وَعَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِغَيْرِ دليل كَمَا يصَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ.

رَابِعُهَا: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يَنْتَصِبُ شَاهِدًا وَلَيْسَ مَنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.

خَامِسُهَا: الْمُرَادُ بِهِ التَّسَارُعُ إِلَى الشَّهَادَةِ وَصَاحِبُهَا بِهَا عَالِمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْأَلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي كَذَا فَلَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلَّا إِنِ اسْتَشْهَدَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ رَجُلًا أَوْ يَغْصِبُهُ مَالَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشْهِدْهُ الْجَانِي.

قَوْلُهُ: (وَيَنْذِرُونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّهَا (وَلَا يَفُونَ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النُّذُورِ.

وَقَوْلُهُ: (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيْ يُحِبُّونَ التَّوَسُّعَ فِي الْمَأكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَهِيَ أَسْبَابُ السِّمَنِ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ ذَمُّ مَحَبَّتِهِ وَتَعَاطِيهِ لَا مِنْ تَخَلَّقَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَظْهَرُ فِيهِمْ كَثْرَةُ الْمَالِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّنُونَ أَيْ يَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَيَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَادًا. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَعَاطِي السَّمْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. فَهُوَ أَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ خَبَرُ الْبَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا ; لِأَنَّ السَّمِينَ غَالِبًا بَلِيدُ الْفَهْمِ ثَقِيلٌ عَنِ الْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ السَّلْمَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) أَيْ فِي حَالَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ دَوْرٌ، كَالَّذِي يَحْرِصُ عَلَى تَرْوِيجِ شَهَادَةٍ فَيَحْلِفُ عَلَى صِحَّتِهَا لِيُقَوِّيَهَا، فَتَارَةً يَحْلِفُ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ وَتَارَةً يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ الْحَلِفَ فِي الشَّهَادَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ وَيَحْلِفَ، وَقَالَ

ص: 260

ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَرَّعُونَ وَيَسْتَهِينُونَ بِأَمْرِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ فِي الشَّهَادَةِ يُبْطِلُهَا، قَالَ: وَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي الزَّاهِي: مَنْ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّهُ حَلِفٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ) زَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَّلِ الْفَضَائِلِ وَنَحْنُ صِغَارٌ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ كَانُوا يَنْهَوْنَنا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ عَنِ الْعَهْدِ وَالشَّهَادَاتِ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ نَحْوَهُ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ عَنِ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ النَّهْيُ عَنْ مُبَادَرَةِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، وَعَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَضْرِبُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُمْ بِهِ عَادَةٌ فَيَحْلِفُوا فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي الشَّهَادَاتِ وَالتَّصَدِّي لَهَا، لِمَا فِي تَحَمُّلِهَا مِنَ الْحَرَجِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ أَدَائِهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ، وَلَا سِيَّمَا وَهُمْ إِذْ ذَاكَ غَالِبًا لَا يَكْتُبُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّهْي عَنِ الْعَهْدِ الدُّخُولَ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَالْوَصِيَّةُ تُسَمَّى الْعَهْدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌10 - باب مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ،

لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، {تَلْوُوا} أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ

2653 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ. تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ.

[الحديث 2653 - طرفاه في: 5977، 6871]

2654 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ "ثَلَاثًا"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ -: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ". وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ

[الحديث 2654 - أطرافه في: 5976، 6273، 6274، 6919]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ) أَيْ مِنَ التَّغْلِيظِ وَالْوَعِيدِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ فِي ذَمِّ مُتَعَاطِي شَهَادَةِ الزُّورِ، وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِأَحَدِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالزُّورِ هُنَا الشِّرْكُ وَقِيلَ الْغِنَاءُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَصْلُ الزُّورِ تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَدْحُ مَنْ لَا يَشْهَدُ شَيْئًا مِنَ

ص: 261

الْبَاطِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، أَيْ وَمَا قِيلَ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مِنَ الْوَعِيدِ.

قَوْلُهُ: (ولِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَلِيمٌ} وَالْمُرَادُ مِنْهَا قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

قَوْلُهُ: (تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} أَيْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تَلْوِي لِسَانَكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ فَلَا تُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا التَّرْكُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ طُرُقٍ حَاصِلُهَا أَنَّهُ فَسَّرَ اللَّيَّ بِالتَّحْرِيفِ، وَالْإِعْرَاضَ بِالتَّرْكِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِنَظْمِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ مَعَ شَهَادَةِ الزُّورِ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ، وَإِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ شَهَادَةِ الزُّورِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِإِبْطَالِ الْحَقِّ، فَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ أَيْضًا سَبَبٌ لِإِبْطَالِ الْحَقِّ، وَإِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ - فَذَكَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ - وَظُهُورَ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَيْنِ أحدهما:

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْآتِيَةِ فِي الْأَدَبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَبَائِرِ) زَادَ بَهْزٌ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَوْ ذَكَرَهَا وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ذَكَرَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْهَا وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ أَكْبَرُهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ شُعْبَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِيمَا ذَكَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَعْرِيفِهَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَهُوَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَصَايَا.

قَوْلُهُ: (وَشَهَادَةُ الزُّورِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ غُنْدَرٌ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو عَامِرٍ، وَبَهْزٌ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ) أَمَّا رِوَايَةُ أَبِي عَامِرٍ وَهُوَ الْعَقْدِيُ فَوَصَلَهَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الشُّهُودِ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْأيمَانِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ بَهْزٍ وَهُوَ ابْنُ أَسَدٍ الْمَذْكُورِ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ. وأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الدِّيَاتِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) هَذَا يُقَوِّي - إِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ مُتَّحِدًا - أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ مِمَّا شَكَّ فِيهِ شُعْبَةُ: هَلْ قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ لَمَّا سُئِلَ؟ وَقَدْ نَظَمَ كُل مِنَ الْعُقُوقِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ بِالشِّرْكِ فِي آيَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) أَيْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِيَنْتَبِهَ السَّامِعُ عَلَى إِحْضَارِ فَهْمِهِ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ عَدَدُ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِلْمِ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ وَذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْلِيقًا.

قَوْلُهُ: (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) يَحْتَمِلُ مُطْلَقَ الْكُفْرِ وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ

ص: 262

خُصُوصِيَّتُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنَ الْإِشْرَاكِ وَهُوَ التَّعْطِيلُ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ وَالْإِشْرَاكُ إِثْبَاتٌ مُقَيَّدٌ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَبِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَضَابِطِهَا وَبَيَانِ مَا قِيلَ فِي عَدَدِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اهْتَمَّ بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمَ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ الزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنِ بِهَا أَكْثَرَ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقَ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعِظَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا، بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَةِ الزُّورِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى غَيْرِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ) فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ شَهَادَةُ الزُّورِ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ بِالْوَاوِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ أَنْ يكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ عِظَمَ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبَهُ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}

قَوْلُهُ: (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ. وَفِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَرِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ فِي كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَفِي الْحَدِيثِ انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثُبُوتُ الصَّغَائِرِ ; لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا أَكْبَرُ مِنْهَا ; وَالِاخْتِلَافُ فِي ثُبُوتِ الصَّغَائِرِ مَشْهُورٌ، وَأَكْثَرُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةٌ كَوْنُهُ نَظَرَ إِلَى عِظَمِ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَالْمُخَالَفَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ، لَكِنْ لِمَنْ أَثْبَتَ الصَّغَائِرَ أَنْ يَقُولَ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَوْقَهَا صَغِيرَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَقَدْ فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ، وَسَبَقَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مَا يُكَفِّرُ الْخَطَايَا مَا لَمْ تَكُنْ كَبَائِرَ، فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يُكَفَّرُ بِالطَّاعَاتِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفَّرُ، وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ الْمُدَّعَى، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَقِيهِ. ثُمَّ إِنَّ مَرَاتِبَ كُلٍّ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا كَانَ زُورًا مِنْ تَعَاطِي الْمَرْءِ مَا لَيْسَ لَهُ أَهْلًا.

‌11 - باب شَهَادَةِ الْأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بِالْأَصْوَاتِ،

وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ. وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي قَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ

ص: 263

2655 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: رحمه الله لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا. وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا.

[الحديث 2655 - أطرافه في: 5037، 5038، 5043، 6335]

2656 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ - أَوْ قَالَ: حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ - ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ

2657 -

حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَك"

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ الْأَعْمَى وَنِكَاحِهِ وَأَمْرِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ، وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بِالْأَصْوَاتِ) مَالَ الْمُصَنِّفُ إِلَى إِجَازَةِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، فَأَشَارَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ نِكَاحِهِ، وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِ تَأْذِينِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَمَى أَوْ بَعْدَهُ. وَفَصَّلَ الْجُمْهُورُ فَأَجَازُوا مَا تَحَمَّلَهُ قَبْلَ الْعَمَى لَا بَعْدَهُ، وَكَذَا مَا يَتَنَزَّلُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْمُبْصِرِ، كَأَنْ يَشْهَدَه شَخْصٌ بِشَيْءٍ وَيَتَعَلَّقَ هُوَ بِهِ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْحَكَمِ يَجُوزُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ بِحَالٍ إِلَّا فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِفَاضَةُ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ دَفْعٌ لِلْمَذْهَبِ الْمُفَصَّلِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ الْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ) أَمَّا الْقَاسِمُ فَأَظُنُّهُ أَرَادَ ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ - هُوَ بِالْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ - يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى فَقَالَ: جَائِزَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ عَنْهُمَا قَالَا: شَهَادَةُ الْأَعْمَى جَائِزَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَعْمَى. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَوَصَلَهُ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: عَاقِلًا الِاحْتِرَازَ مِنَ الْجُنُونِ ; لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ

ص: 264

مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ فَطِنًا مُدْرِكًا لِلْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ بِالْقَرَائِنِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِهَذَا، وَكَأَنَّهُ تَوَسَّطَ بَيْنَ مَذْهَبَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ)؟ وَصَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ عَنْهُ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَوْنُهُ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى شَخْصَهُ وَإِنَّمَا سَمِعَ صَوْتَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ يُشِيرُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى التَّعْرِيفِ، أَيْ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا فُلَانٌ، فَإِذَا عَرَفَ شَهِدَ قَالَ: وَشَهَادَةُ التَّعْرِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ ; لِأَنَّهَا تُوَارِيهَا الْجِبَالُ وَالسَّحَابُ، وَيَكْتَفِي بِغَلَبَةِ الظُّلْمَةِ عَلَى الْأُفْقِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي فَقَالَتْ: سُلَيْمَانُ ادْخُلْ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعِتْقِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى تَرْكَ الِاحْتِجَابِ مِنَ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِهَا أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبًا لِعَائِشَةَ فَمُعَارَضَةٌ الصحيح مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَحْضِ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى عَائِشَةَ بِمَعْنَى مِنْ عَائِشَةَ أَيِ اسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةَ فِي الدُّخُولِ عَلَى مَيْمُونَةَ.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ متنقبة) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالتَّشْدِيدِ، وَلِغَيْرِهِ بِسُكُونِ النُّونِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْمُثَنَّاةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ اعْتِمَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَى شَخْصَهُ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَتَهَجَّدَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، هَذَا عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا.

قَوْلُهُ: (فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ) وَقَوْلُهُ: (أَصَوْتُ عَبَّادٍ؟) هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى الْمَذْكُورِ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا سُقْتُهُ، وَبِهَذَا يَزُولُ اللَّبْسُ عَمَّنْ يَظُنُّ اتِّحَادَ الْمَسْمُوعِ صَوْتُهُ وَالرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ، وَهُمَا اثْنَانِ مُخْتَلِفَا النِّسْبَةِ وَالصِّفَةِ، فَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَعَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ تَابِعِيٌّ مِنْ وَسَطِ التَّابِعِينَ، وَظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّ الْمُبْهَمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ هُوَ الْمُفَسَّرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: زَادَ أَنْ يَكُونَ الْمَزِيدُ فِيهِ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ حَدِيثًا وَاحِدًا فَتَتَّحِدَ الْقِصَّةُ، لَكِنْ جَزَمَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ، فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ فَقَالَ: صَوْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي آيَةً يَرْحَمُهُ اللَّهُ كُنْتُ أُنْسِيتُهَا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُشَابَهَةُ قِصَّةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِقِصَّةِ عُرْوَةَ عَنْهَا، بِخِلَافِ قِصَّةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهَا، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِنِسْيَانِ الْآيَةِ، وَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي اتَّحَدَتْ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: سَمِعَ صَوْتَ رَجُلَيْنِ فَعَرَفَ أَحَدَهُمَا فَقَالَ: هَذَا صَوْتُ عَبَّادٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْآخَرَ فَسَأَلَ عَنْهُ، وَالَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ هُوَ الَّذِي تَذَكَّرَ بِقِرَاءَتِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَسِيَهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِهِ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَأْذِينِ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَدْ مَضَى بِتَمَامِهِ وَشَرْحِهِ فِي الْأَذَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى صَوْتِ الْأَعْمَى.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ فِي إِعْطَاءِ

ص: 265

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ الْقَبَاءَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَيَقُولُ: خَبَّأْتُ لَكَ هَذَا، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى صَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَى شَخْصَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْأَعْمَى بِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَالْأَعْمَى لَا يَتَيَقَّنُ الصَّوْتَ لِجَوَازِ شَبَهِهِ بِصَوْتِ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ الْمُجِيزُونَ بِأَنَّ مَحَلَّ الْقَبُولِ عِنْدَهُمْ إِذَا تَحَقَّقَ الصَّوْتُ وَوُجِدَتِ الْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَعْمَى زَوْجَتَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا بِصَوْتِهَا، لَكِنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ سَمَاعُ صَوْتِهَا حَتَّى يَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا هِيَ، وَإِلَّا فَمَتَى احْتَمَلَ عِنْدَهُ احْتِمَالًا قَوِيًّا أَنَّهَا غَيْرُهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَعْمَى يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ فِي زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَأَمَّا قِصَّةُ عَبَّادٍ، وَمَخْرَمَةَ فَفِي شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا التَّأْذِينُ فَقَدْ قَالَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: كَانَ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ فَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِالْوَقْتِ قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ فِي حَقِّ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ تَهْوِيلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ فِيمَا لَا تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَتُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ لِأَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.

‌12 - باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}

2658 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَجَازُوا شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَخَصَّ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ بِالدُّيُونِ وَالْأَمْوَالِ وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَاخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، فَمَنَعَهَا الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهَا الْكُوفِيُّونَ قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَالْحَيْضِ وَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّضَاعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا اتِّفَاقُهُن عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْأَمْوَالِ فَلِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا اتِّفَاقُهُن عَلَى مَنْعِهَا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ فَمَنْ أَلْحَقَهَا بِالْأَمْوَالِ فَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَنْ أَلْحَقَهَا بِالْحُدُودِ فَلِأَنَّهَا تَكُونُ اسْتِحْلَالًا لِلْفُرُوجِ، وَتَحْرِيمُهَا بِهَا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ثُمَّ سَمَّاهَا حُدُودًا فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} وَالنِّسَاءُ لَا يُقْبَلْنَ فِي الْحُدُودِ قَالَ: وَكَيْفَ يَشْهَدْنَ فِيمَا لَيْسَ لَهُنَّ فِيهِ تَصَرُّفٌ مِنْ عَقْدٍ وَلَا حِلٍّ انْتَهَى.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يُنَافِي التَّرْجَمَةَ ; لِأَنَّهَا مَعْقُودَةٌ لِإِثْبَاتِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ هَلْ يَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعٍ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: يَكْفِي شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ تَجُوزُ شَهَادَتُهَا وَحْدَهَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

ثم ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مُخْتَصَرًا وَقَدْ مَضَى بِتَمَامِهِ فِي الْحَيْضِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الشُّهُودِ بِقَدْرِ عَقْلِهِمْ وَضَبْطِهِمْ، فَتُقَدَّمُ

ص: 266

شَهَادَةُ الْفَطِنِ الْيَقِظِ عَلَى الصَّالِحِ الْبَلِيدِ، قَالَ: وَفِي الْآيَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا نَسِيَ الشَّهَادَةَ فَذَكَّرَهُ بِهَا رَفِيقُهُ حَتَّى تَذَكَّرَهَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا. وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا شَهِدَتْ عِنْدَ قَاضِي مَكَّةَ هِيَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، فَأَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا امْتِحَانًا فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}

‌13 - باب شَهَادَةِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ

وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلَّا الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ

2659 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ.

ح وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ - أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ - أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنها قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ فَنَهَاهُ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ) أَيْ فِي حَالِ الرِّقِّ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَقَدْ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ فَقَالَ: جَائِزَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى) أَمَّا شُرَيْحٌ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيُّ أَنَّ شُرَيْحًا أَجَازَ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ شُرَيْحًا أَجَازَ شَهَادَةَ عَبْدٍ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَرُوِّينَاهُ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَانَ شُرَيْحٌ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ كَانَ شُرَيْحٌ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَكِنَّنَا نُجِيزُهَا، فَكَانَ شُرَيْحٌ بَعْدَ ذَلِكَ يُجِيزُهَا إِلَّا لِسَيِّدِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَنَدِهِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ شَهَادَتُهُ) أَيِ الْعَبْدِ (جَائِزَةٌ إِلَّا الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْمَسَائِلِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يُجِيزُونَهَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ الْحُمْرَانِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ، إِمَاءٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِابْنِ السَّكَنِ كُلُّكُمْ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ سَمِعْتُ شُرَيْحًا شَهِدَ عِنْدَهُ عَبْدٌ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ عَبْدٌ، فَقَالَ: كُلُّنَا عَبِيدٌ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ

ص: 267

مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَحْوَهُ بِلَفْظِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ عَبْدٌ، فَقَالَ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَبَنُو إِمَاءٍ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ الْمُرْضِعَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عُقْبَةَ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهَا مَقْبُولَةً مَا عَمِلَ بِهَا وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قَالُوا: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الرِّقِّ رِضًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِهَا:{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وَالْإِبَاءُ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنَ الْأَحْرَارِ لِاشْتِغَالِ الرَّقِيقِ بِحَقِّ السَّيِّدِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْقَدْرِ نَظَرٌ.

وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ فَقَالَ: قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَجَاءَتْ مَوْلَاةٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْوَلَاءُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ رَقِيقَةً، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ رِوَايَةَ حَدِيثِ الْبَابِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا أَمَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنْ أَخَذْنَا بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِشَهَادَةِ الْأَمَةِ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهَا كَانَتْ أَمَة أَحْمَد بْن حَنْبَلٍ، رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَأَبِي طَالِبٍ، وَمُهَنَّا، وَحَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ تَسْمِيَةُ أُمِّ يَحْيَى بِنْتِ أَبِي إِهَابٍ، وَأَنَّهَا غَنِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مُثَقَّلَةٌ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّ اسْمَهَا زَيْنَبُ، فَلَعَلَّ غَنِيَّةَ لَقَبُهَا أَوْ كَانَ اسْمَهَا فَغُيِّرَ بِزَيْنَبَ كَمَا غُيِّرَ اسْمُ غَيْرِهَا، وَالْأَمَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَعْرَضَ عَنِّي، زَادَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ فِيهِ: (فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ النِّكَاحِ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْرَضَ عَنِّي، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ.

‌14 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ

2660 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَأَرْضَعَتِ امْرَأَتَهُ، أَخْرَجَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي هَذَا الْبَابِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، لَكِنْ هُنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَكَأَنَّ لِأَبِي عَاصِمٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، فَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ فِيهِ ثَالِثًا وَرَابِعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا، قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعْدٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَسْأَلُ عَنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّضَاعِ قَالَ: تَجُوزُ عَلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.

وَنُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَرَّقَ عُثْمَانُ بَيْنَ نَاسٍ تَنَاكَحُوا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: النَّاسُ يَأْخُذُونَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ الْيَوْمَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَهِدَتِ الْمُرْضِعَةُ وَحْدَهَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ مُفَارَقَةُ الْمَرْأَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَإِنْ شَهِدَتْ مَعَهَا أُخْرَى وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ.

وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْ عُقْبَةَ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ بَلْ قَالَ لَهُ: دَعْهَا عَنْكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ؟ فَأَشَارَ

ص: 268

إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ شَهَادَة الْمُرْضِعَةِ ; لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ: فَرِّقْ بَيْنَهُمَا إِنْ جَاءَتْ بَيِّنَةٌ، وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ إِلَّا أَنْ يَتَنَزَّهَا، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمْ تَشَأِ امْرَأَةٌ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا فَعَلَتْ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تُقْبَلُ مَعَ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَتَعَرَّضَ نِسْوَةٌ لِطَلَبِ أُجْرَةٍ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: فِي ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ دُونَ ثُبُوتِ الْأُجْرَةِ لَهَا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ مَعَ أُخْرَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ، وَعَكْسُهُ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا بِحَمْلِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَنَهَاهُ عَنْهَا عَلَى التَّنْزِيهِ، وَبحْمَل الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: دَعْهَا عَنْكَ عَلَى الْإِرْشَادِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ إِعْرَاضِ الْمُفْتِي لِيَتَنَبَّهَ الْمُسْتَفْتِي عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا سَأَلَهُ الْكَفُّ عَنْهُ، وَجَوَازُ تَكْرَارِ السُّؤَالِ لِمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمُرَادَ، وَالسُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِرَفْعِ النِّكَاحِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَخَذَهُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ وَلَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: وَحَدَّثَنِيهِ صَاحِبٌ لِي عَنْهُ، وَأَنَا لِحَدِيثِ صَاحِبِي أَحْفَظُ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ التَّفْرِقَةِ فِي صِيَغِ الْأَدَاءِ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، أَوْ بَيْنَ الْقَصْدِ إِلَى التَّحْدِيثِ وَعَدَمِهِ، فَيَقُولُ الرَّاوِي فِيمَا سَمِعَهُ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، أَوْ قَصَدَ الشَّيْخُ تَحْدِيثَهُ بِذَلِكَ حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ حَدَّثَنَا بِالْجَمْعِ أَوْ سَمِعْتُ فَلَانًا يَقُولُ وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُحَدِّثْنِي وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ وَهَذَا بعين أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ فَيَقُولُ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ وَلَا يَقُولُ: حَدَّثَنِي وَلَا أَخْبَرَنِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْمَعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا) زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَدَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَسَأَلَتْ فَأَبْطَأْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ: تَصَدَّقُوا عَلَيَّ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَرْضَعْتُكُمَا جَمِيعًا زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي - أَيْ بِذَلِكَ - قَبْلَ التَّزَوُّجِ، زَادَ فِي بَابِ إِذَا شَهِدَ شاهد بِشَيْءٍ فَقَالَ آخَرُ: مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ وَفِي الْعِلْمِ فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الرِّحْلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَزَادَ فِي النِّكَاحِ فَقَالَتْ لِي: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (دَعْهَا عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ) فِي رِوَايَةِ النِّكَاحِ دَعْهَا عَنْكَ حَسْبُ، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فِي آخِرِهِ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا وَفِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فَنَهَاهُ عَنْهَا، زَادَ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَاتِ: فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.

‌15 - باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا

2661 -

حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ

ص: 269

اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ، وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ، فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِتى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا، فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا،

ص: 270

فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ

بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّانَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ الْعَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أنا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ والله لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتي وَيَوْمًا، حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذْ اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي

ص: 271

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَإن قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا تبَرِّئُنِي، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ، احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ، قالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ

عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ بشيء أَبَدًا بَعْدَ أن قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ قَبْلَهُ حَدِيثُ الْإِفْكِ ثُمَّ قَالَ: بَابُ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) هُوَ الزَّهْرَانِيُّ الْعَتَكِيُّ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ، الْبَصْرِيُّ، نَزَلَ بَغْدَادَ، اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اتَّفَقَنا عَلَيْهِ إِخْرَاجُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ، وَفِي طَبَقَتِهِ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَيْضًا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَحَدُهُمَا الْخُتَّلِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ بَغْدَادِيٌّ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ وَالرِّشْدِينِيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مِصْرِيٌّ لَمْ يُخَرِّجَا لَهُ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 272

فُلَيْحٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ رَفِيقًا لِأَبِي الرَّبِيعِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ فُلَيْحٍ وَأَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ حَمَلَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ رَفِيقًا لِلْبُخَارِيِّ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ لَكَانَ يَقُولُ: قَالَا: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ بِالتَّثْنِيَةِ.

وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَيْضًا صَنِيعُ الْبَرْقَانِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي الْمُصَافَحَةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ فُلَيْحٍ، لَكِنْ وَقْعَ فِي أَطْرَافِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعٍ وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ لَفْظَه قَالَا سَقَطَ مِنَ الْأَصْلِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِسْقَاطِهَا كَثِيرًا فِي الْأَسَانِيدِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ بَدَلَهَا قَالَ بِالْإِفْرَادِ، وَبِمَا قَالَ خَلَفٌ جَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ، وَأَمَّا جَزْمُ الْمِزِّيِّ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ خَلَفٌ وَهَمٌ فَلَيْسَ هَذَا الْجَزْمُ بِوَاضِحٍ، وَزَعَمَ ابْنُ خَلْفُونٍ أَنَّ أَحْمَدَ هَذَا هُوَ ابْنُ حَنْبَلٍ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدَ بْنَ النَّضْرِ النَّيْسَابُورِيَّ وَبِهِ جَزَمَ الذَّهَبِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ مِمَّنْ يُسَمَّى أَحْمَدَ أَيْضًا: أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَأَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ طَائِفَةً مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ فُلَيْحٍ مِمَّنْ تَسَمَّى أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ مِمَّنْ يُسَمَّى أَحْمَدَ أَيْضًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْإِفْكِ بِطُولِهِ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ، ثُمَّ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ مِثْلَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ مِثْلَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ، وَبَيَانُ مَا زَادَتْ رِوَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَمَا نَقَصَتْ عَنْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ أَخْبَرُوهُ بِهِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ عَنْ فُلَيْحٍ قَالَ: وَسَمِعْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِفْكِ جُلِدُوا الْحَدَّ.

قُلْتُ: وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ إِسْنَادٌ آخَرُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا سُؤَالُهُ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ، وَجَوَابُهَا بِبَرَاءَتِهَا وَاعْتِمَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلِهَا حَتَّى خَطَبَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَكَذَلِكَ سُؤَالُهُ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ وَجَوَابُهَا بِبَرَاءَتِهَا أَيْضًا، وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي حَقِّ زَيْنَبَ: هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، فَفِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَوَافَقَ مُحَمَّدٌ الْجُمْهُورَ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: التَّزْكِيَةُ خَبَرٌ وَلَيْسَتْ شَهَادَةً فَلَا مَانِعَ مِنَ الْقَبُولِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنْ تُقْبَلَ تَزْكِيَتُهُنَّ لِبَعْضِهِنَّ لَا لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ اعْتَلَّ بِنُقْصَانِ الْمَرْأَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ وُجُوهِ التَّزْكِيَةِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَوْ قِيلَ إِنَّهُ تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُنَّ بِقَوْلٍ حَسَنٍ وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ يَكُونُ إِبْرَاءً مِنْ سُوءٍ لَكَانَ حَسَنًا كَمَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ قَبُولُ تَزْكِيَتِهِنَّ فِي شَهَادَةٍ تُوجِبُ أَخْذَ مَالٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ قَبُولِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا أَخْرَجَ بِهَا مَعَهُ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ خَرَجَ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ أُخْرِجَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ظِفَارٍ وَهُوَ أَصْوَبُ، وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ عِنْدَ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتِي وَيَوْمًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ لَيْلَتِي وَيَوْمِي، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ أَلْفَاظِهِ عِنْدَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 273

‌16 - بَاب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ،

وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ قَالَ: عَسَى الْغُويرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي. قَالَ عَرِيفِي: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ. قَالَ: كَذَلكَ، اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.

2662 -

حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ (مِرَارًا)، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا. إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.

[الحديث 2662 - طرفاه في: 6061، 6162]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ) تَرْجَمَ فِي أَوَائِلِ الشَّهَادَاتِ تَعْدِيلُ كَمْ يَجُوزُ فَتَوَقَّفَ هُنَاكَ، وَجَزَمَ هُنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَهُ هُنَاكَ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي التَّزْكِيَةِ، فَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - اشْتِرَاطُ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِطَانَةَ الْحَاكِمِ ; لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ مَنْزِلَةَ الْحُكْمِ، وَأَجَازَ الْأَكْثَرُ قَبُولَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا فَيَشْهَدُونَ لَهُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْحَاجَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الشَّهَادَةِ، أَمَّا الرِّوَايَةُ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْوَاحِدِ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ نَاقِلًا عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ وَلَا يَتَعَدَّدُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَاسْمُهُ سُنَيْنٌ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَوَهَمَ مَنْ شَدَّدَ التَّحْتَانِيَّةَ كَالدَّاوُدِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ، قِيلَ اسْمُ أَبِيهِ فَرْقَدٌ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: هُوَ سُلَمِيٌّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ ضَمْرِيٌّ، وَقِيلَ: سَلِيطِيٌّ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ وَجَمَاعَةٌ فِي التَّابِعِينَ. وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ آخَرُونَ فِي الصَّحَابَةِ، وَوَقَعَ سِيَاقُ خَبَرِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَنَحْنُ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَقَالَ إِنَّهُ مَجْهُولٌ كَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَفِي الرُّوَاةِ أَبُو جَمِيلَةَ آخَرُ اسْمُهُ مَيْسَرَةُ الطُّهَوِيُّ، بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ رَوَى عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ اتِّفَاقًا، وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَالْكَرْمَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَجَدْتُ مَنْبُوذًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيْ شَخْصًا مَنْبُوذًا أَيْ لَقِيطًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ. وَالْغُوَيْرُ بِالْمُعْجَمَةِ تَصْغِيرُ غَارٍ، وَأَبْؤُسًا جَمْعُ بُؤْسٍ وَهُوَ الشِّدَّةُ، وَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ عَسَى عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ، أَوْ بِإِضْمَارِ شَيْءٍ تَقْدِيرُهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا. وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَهُوَ مَثَلٌ مَشْهُورٌ يُقَالُ فِيمَا ظَاهِرُهُ السَّلَامَةُ وَيُخْشَى مِنْهُ الْعَطَبُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي عِلَلِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَتَمَثَّلُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، وَأَصْلُهُ كَمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ نَاسًا دَخَلُوا غَارًا يَبِيتُونَ فِيهِ فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَقِيلَ وَجَدُوا فِيهِ

ص: 274

عَدُوًّا لَهُمْ فَقَتَلَهُمْ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ لَا يَعْرِفُ عَاقِبَتَهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الْغُوَيْرُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ فِيهِ مَاءٌ لِبَنِي كَلْبٍ كَانَ فِيهِ نَاسٌ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَكَانَ مَنْ يَمُرُّ يَتَوَاصَوْنَ بِالْحِرَاسَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: ضَرَبَ عُمَرُ هَذَا الْمَثَلَ لِلرَّجُلِ يُعَرِّضُ بِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ وَلَدَهُ وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَهُ عَنْهُ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ الزَّبَّاءُ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ - لَمَّا قَتَلَتْ جُذَيْمَةَ الْأَبْرَشَ. وَأَرَادَ قَصِيرٌ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ - أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا. فَتَوَاطَأَ قَصِيرٌ، وَعَمْرٌو ابْنُ أُخْتِ جُذَيْمَةَ عَلَى أَنْ قَطَعَ عَمْرٌو أَنْفَ قَصِيرٍ فَأَظْهَرَ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى الزَّبَّاءِ فَأَمِنَتْ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَرْسَلَتْهُ تَاجِرًا فَرَجَعَ إِلَيْهَا يربْحٍ كَثِيرٍ مِرَارًا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَرَّةَ الْأَخِيرَةَ وَمَعَهُ الرِّجَالُ فِي الْأَعْدَالِ مَعَهُمُ السِّلَاحُ، فَنَظَرَتْ إِلَى الْجَمَالِ تَمْشِي رُوَيْدًا لِثِقَلِ مَنْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا أَيْ لَعَلَّ الشَّرَّ يَأْتِيكُمْ مِنْ قِبَلِ الْغُوَيْرِ، وَكَأَنَّ قَصِيرًا أَعْلَمَهَا أَنَّهُ سَلَكَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ طَرِيقَ الْغُوَيْرِ فَلَمَّا دَخَلَتِ الْأَجمَالُ قَصْرَهَا خَرَجَتِ الرِّجَالُ مِنَ الْأَعْدَالِ فَهَلَكَتْ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْهُ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَأَرَادَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَلَّى هُوَ تَرْبِيَتَهُ، وَقِيلَ اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ثُمَّ ادَّعَاهُ وَهُوَ بَعِيدٌ وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْصُولَةً مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ وَأَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَأَخَذَهُ، قَالَ فَذَكَرَ ذَلِكَ عَرِيفِي لِعُمَرَ، فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ قَالَ فَذَكَرَهُ وَزَادَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ قُلْتُ: وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا، وَصَدْرُ هَذَا الْخَبَرِ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا جَمِيلَةَ هَذَا هُوَ الطُّهَوِيُّ ; لِأَنَّ الطُّهَوِيَّ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عُمَرَ، وَأَوْرَدَ ابْنُ الْأَثِيرِ، عَنِ الْبُخَارِيِّ مَا ذَكَرْتُهُ عَنْهُ وَزَادَ فِيهِ وَأَنَّهُ الْتَقَطَ مَنْبُوذًا فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ عَرِيفِي إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْعَرِيفِ. إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ ذَكَرَ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ اسْمَهُ سِنَانٌ. وَفِي الصَّحَابَةِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: سِنَانٌ الضَّمْرِيُّ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَرَّةً عَلَى الْمَدِينَةِ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا جَمِيلَةَ ضَمْرِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانَ عُمَرُ قَسَّمَ النَّاسَ وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ عَرِيفًا يَنْظُرُ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ أَبُو جَمِيلَةَ سُلَمِيًّا فَيُنْظَرُ مَنْ كَانَ عَرِيفَ بَنِي سُلَيْمٍ فِي عَهْدِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ كَذَاكَ) زَادَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ وقَالَ نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا سَأَلَ فِي مَجْلِسِ نَظَرِهِ عَنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ يَجْتَزِئُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ كَمَا صَنَعَ عُمَرُ. فَأَمَّا إِذَا كَلَّفَ الْمَشْهُودَ لَهُ أَنْ يُعَدِّلَ شُهُودَهُ فَلَا يَقْبَلُ أَقَلَّ مِنِ اثْنَيْنِ. قُلْتُ: غَايَتُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الْقِصَّةَ عَلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهَا، وَقِصَّةُ التَّكْلِيفِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَفِيهَا جَوَازُ الِالْتِقَاطِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَأَنَّ نَفَقَتَهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّ وَلَاءَهُ لِمُلْتَقِطِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَكَ وَلَاؤُهُ بِكَوْنِهِ حِينَ الْتَقَطَهُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ أَعْتَقَهُ مِنْ أَنْ يَلْتَقِطَهُ غَيْرُهُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ مِلْكُهُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الْمَطَالِعِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اتَّهَمَ أَبَا جَمِيلَةَ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالسَّتْرِ اهـ، وَلَيْسَ فِي قِصَّتِهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ لَيْسَ إِلَّا عَرِيفَهُ وَحْدَهُ. وَفِيهِ تَثَبُّتُ عُمَرَ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا تَوَقَّفَ فِي أَمْرِ أَحَدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ، وَرُجُوعُ الْحَاكِمِ إِلَى قَوْلِ أُمَنَائِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْإِطْنَابُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَقِبَ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الَّذِي

ص: 275

سَاقَهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: مَا يُكْرَهُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَبَرَ تَزْكِيَةَ الرَّجُلِ إِذَا اقْتَصَدَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَافَ وَالتَّغَالِيَ فِي الْمَدْحِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي قَبُولِ تَزْكِيَتِهِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ النِّصَابِ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى قَاعِدَتِهِ بِأَنَّ النِّصَابَ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَذُكِرَ، إِذْ لَا يُؤَخَّرُ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

قَوْلُهُ: (أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُثْنِي بِمِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ، وَحَدِيثُهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعِنْدَ إِسْحَاقَ فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَدْ يُفَسَّرُ مِنْهَا الْمُثْنَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ذُو النِّجَادَيْنِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مَعَ تَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌17 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ، وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ

2663 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَني بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ، فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ.

[الحديث 2663 - أطرافه في: 6060]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ، وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَنْ فُسِّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ.

وقَوْلُهُ: يُطْرِيهِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْإِطْرَاءُ مَدْحُ الشَّخْصِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا زَادَهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى اتِّحَادِ حَدِيثَيْ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَبِي مُوسَى، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌18 - بَاب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ،

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ النِّسَاءِ إلى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً

2664 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي، قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

[الحديث 2664 - طرفه في: 4097]

ص: 276

2665 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ"

قَوْلُهُ: (بَابُ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ) أَيْ حَدِّ بُلُوغِهِمْ وَحُكْمِ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا حَدُّ الْبُلُوغِ فَسَأَذْكُرُهُ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فَرَدَّهَا الْجُمْهُورُ، وَاعْتَبَرَهَا مَالِكٌ فِي جِرَاحَاتِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يُضْبَطَ أَوَّلُ قَوْلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَقَبِلَ الْجُمْهُورُ أَخْبَارَهُمْ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا قَرِينَةٌ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مَا يُصَرِّحُ بِهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ حُكِمَ بِبُلُوغِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِذَا اتَّصَفَ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّهُ لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِبَلُوغِهِ الْحُلُمَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ الدَّافِقِ سَوَاءٌ كَانَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ أَوِ الْمَنَامِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَا أَثَرَ لِلْجِمَاعِ فِي الْمَنَامِ إِلَّا مَعَ الْإِنْزَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُغِيرَةُ) هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ الْكُوفِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي السِّنِّ سِوَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (وَبُلُوغُ النِّسَاءِ إِلَى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عز وجل: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هُوَ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَوَجْهُ الِانْتِزَاعِ مِنَ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْعِدَّةِ بِالْإقْرَاءِ عَلَى حُصُولِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ فَبِالْأَشْهُرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ يَنْقُلُ الْحُكْمَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ بُلُوغٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ حَيٍّ الْهَمْدَانِيُّ الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ، تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَأَثَرُهُ هَذَا رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي الْمُجَالَسَةِ لِلدَّيْنَوَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْهُ نَحْوُهُ وَزَادَ فِيهِ وَأَقَلُّ أَوْقَاتِ الْحَمْلِ تِسْعُ سِنِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ رَأَى جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَّهَا حَاضَتْ لِاسْتِكْمَالِ تِسْعٍ، وَوَضَعَتْ بِنْتًا لِاسْتِكْمَالِ عَشْرٍ، وَوَقَعَ لَبِنْتِهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَيَحْتَلِمُ فِيهِ الرَّجُلُ، وَهَلْ تَنْحَصِرُ الْعَلَامَاتُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَفِي السِّنِّ الَّذِي إِذَا جَاوَزَهُ الْغُلَامُ وَلَمْ يَحْتَلِمْ وَالْمَرْأَةُ وَلَمْ تَحِضْ يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالْبُلُوغِ، فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ الْإِثبَاتَ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا لَا يُقِيمُ بِهِ الْحَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْكَافِرِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمُسْلِمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سِنُّ الْبُلُوغِ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانَي عَشْرَةَ لِلْغُلَامِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ لِلْجَارِيَةِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ: حَدُّهُ فِيهِمَا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانَ عَشْرَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ وَهْبٍ وَالْجُمْهُورُ: حَدُّهُ فِيهِمَا اسْتِكْمَالُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ أَبُو قُدَامَةَ السَّرَخْسِيُّ، وَوَقَعَ بِخَطِّ ابْنِ الْعُكْلِيِّ الْحَافِظِ عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ فَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ السَّرَخْسِيِّ فَقَالَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بَدَلَ أَبِي أُسَامَةَ، فَهَذَا يُرَجِّحُ مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي) فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ إِذْ كَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَلَمْ يُجِزْهُ لَكِنَّهُ الْتَفَتَ، أَوْ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا شَخْصًا فَعَبَّرَ

ص: 277

عَنْهُ بِالْمَاضِي، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: عَرَضَنِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي فَلَمْ يُجِزْهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِزْنِي. وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يُجِزْنِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِجَازَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِدْرِيسَ وَغَيْرِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَاسْتَصْغَرَنِي.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي) لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِيانَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَزَادَ فِيهِ ذِكْرَ بَدْرٍ، وَلَفْظُهُ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَرَدَّنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ.

الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْخَنْدَقِ ابْنَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً اهـ، وَهُوَ أَقْدَمُ مَنْ نَعْرِفُهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ شَهْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُحُدًا كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَاءَ مَا قَالَ يَزِيدُ أَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ابْنَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ جَنَحَ إِلَى قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقَدْ رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ نَحْوَ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَعَنْ مَالِكٍ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَا إِشْكَالَ، لَكِنِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَغَازِي عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا تَوَجَّهُوا فِي أُحُدٍ نَادَوُا الْمُسْلِمِينَ: مَوْعِدُكُمُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بَدْرٌ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَيْهَا مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ فِي شَوَّالٍ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى بَدْرَ الْمَوْعِدِ، وَلَمْ يَقَعْ بِهَا قِتَالٌ، فَتَعَيَّنَ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ إنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: عُرِضْتُ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَيْ دَخَلْتُ فِيهَا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: عُرِضْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَيْ تَجَاوَزْتُهَا فَأَلْغَى الْكَسْرَ فِي الْأُولَى وَجَبَرَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَهُوَ شَائِعٌ مَسْمُوعٌ فِي كَلَامِهِمْ،

وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عَرْضَ ابْنِ عُمَرَ كَانَ بِبَدْرٍ فَلَمْ يُجِزْهُ ثُمَّ بِأُحُدٍ فَأَجَازَهُ، قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ عُرِضَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ، وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يُخَالِفُ مَا زَادَهُ مِنْ ذِكْرِ بَدْرٍ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ بَلْ يُوَافِقُهُمْ.

الثَّانِي زَعَمَ ابْنُ نَاصِرٍ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ هُنَا يَوْمَ الْفَتْحِ بَدَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: وَالسَّابِقُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ خَلَفٌ فَتَبِعَهُ شَيْخُنَا وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، وَالصَّوَابُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَتَلَقَّى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ كَثِيرًا أَحَدٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذَا الَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ: هَذَا حَدُّ مَا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ)، زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْرِضُوا أَيْ يُقَدِّرُوا لَهُمْ رِزْقًا فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ. وَكَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْعَطَاءِ، وَهُوَ الرِّزْقُ الَّذِي يُجْمَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيُفَرَّقُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِقِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ

ص: 278

الْبَالِغِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ، فَيُكَلَّفُ بِالْعِبَادَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ، وَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَيُفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ إِنْ أُونِسَ رُشْدُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ نَافِعٍ. وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ الْقَصَّارِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ الْمَذْكُورَةَ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْقِتَالِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَا عُمُومَ لَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادَفَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ تِلْكَ السِّنِّ قَدِ احْتَلَمَ فَلِذَلِكَ أَجَازَهُ. وَتَجَاسَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا رَدَّهُ لِضَعْفِهِ لَا لِسِنِّهِ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِقُوَّتِهِ لَا لِبُلُوغِهِ. وَيَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَلَمْ يُجِزْنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَهِيَ زِيَادَةٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا، لِجَلَالَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَتَقَدُّمِهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ فَانْتَفَى مَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِهِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهَا لَفْظُ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ وَابْنُ عُمَرَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَعْرِضُ مَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ لِلْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ الْحَرْبُ، فَمَنْ وَجَدَهُ أَهْلًا اسْتَصْحَبَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ الْإِجَازَةُ لِلْقِتَالِ عَلَى الْبُلُوغِ، بَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيزَ مِنَ الصِّبْيَانِ مَنْ فِيهِ قُوَّةٌ وَنَجْدَةٌ، فَرُبَّ مُرَاهِقٍ أَقْوَى مِنْ بَالِغٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَا سِيَّمَا الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

ظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ مَعَ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَلَدَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَبِيٌّ وَطِفْلٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْوَلَدَ يُقَالُ لَهُ جَنِينٌ حَتَّى يُوضَعَ، ثُمَّ صَبِيٌّ حَتَّى يُفْطَمَ، ثُمَّ غُلَامٌ إِلَى سَبْعٍ ثُمَّ يَافِعٌ إِلَى عَشْرٍ، ثُمَّ حَزَوَّرٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ، ثُمَّ قُمُدٌّ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ عَنَطْنَطٌ إِلَى ثَلَاثِينَ، ثُمَّ مُمْلٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، ثُمَّ كَهْلٌ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ شَيْخٌ إِلَى ثَمَانِينَ، ثُمَّ هَرِمٌ إِذَا زَادَ، فَلَا يُمْنَعُ إِطْلَاقُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يُقَارِبُهُ تَجَوُّزًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) هُوَ الْخُدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ.

قَوْلُهُ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ وَمَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ يَحْصُلُ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالِاحْتِلَامِ هُنَا. وَيُسْتَفَادُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالِاحْتِلَامِ.

‌19 - بَاب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ: هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَبْلَ الْيَمِينِ

2666، 2667 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ - وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ - لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. قَالَ: فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: احْلِفْ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذن يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ

ص: 279

الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ "

قَوْلُهُ: (بَابُ سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِي: هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَبْلَ الْيَمِينِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْأَشْعَثِ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: يَحْلِفُ، وَفِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: قَبْلَ الْيَمِينِ أَيْ قَبْلَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُدَّعِي بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْحَاكِمُ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ بِأَنَّ بَيِّنَتَهُ شَهِدَتْ لَهُ بِحَقٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مَا قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَبَاحِثُ حَدِيثَيِ الْأَشْعَثِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: لَا تُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً.

‌20 - بَاب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ،

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ: كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُخْرَى؟

2668 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إلي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

2669، 2670 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ [77 آل عمران]:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ - إِلَى - عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي: فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ عز وجل وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ"

قَوْلُهُ: (بَابٌ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ) أَيْ دُونَ الْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تَجِبَ يَمِينُ الِاسْتِظْهَارِ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَضَاءُ بَشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي. وَاسْتِشْهَادُ الْمُصَنِّفِ بِقِصَّةِ ابْنِ شُبْرُمَةَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي تَخْصِيصِهِمُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ وَالنِّكَاحِ

ص: 280

وَنَحْوِهِ، وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالْفِدْيَةَ فَقَالَ: لَا يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا الْيَمِينُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَلَوْ شَاهِدًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) وَصَلَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، وَارْتَفَعَ شَاهِدَاكَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْمُثْبِتُ لَكَ أَوِ الْحُجَّةُ أَوْ مَا يُثْبِتُ لَكَ، وَالْمَعْنَى مَا يُثْبِتُ لَكَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْكَ. أَوْ لَكَ إِقَامَةُ شَاهِدَيْكِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ إِعْرَابَهُ فَارْتَفَعَ، وَحُذِفَ الْخَبَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّهْنِ بِلَفْظِ شُهُودُكَ وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَرَدَّ ذَلِكَ مُغَلْطَايْ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ، وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ لَهُ فِي الشَّوَاهِدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَهَذَا مِنَ الشَّوَاهِدِ فَإِنَّهُ حِكَايَةُ وَاقِعَةٍ اتَّفَقَتْ لَهُ مَعَ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يُحْتَجُّ بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ حَسَّانَ الضَّبِّيُّ قَاضِي الْكُوفَةِ لِلْمَنْصُورِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ: (كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ) هُوَ قَاضِي الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي) أَيْ فِي الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا، وَكَانَ مَذْهَبُ أَبِي الزِّنَادِ الْقَضَاءَ بِذَلِكَ كَأَهْلِ بَلَدِهِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ خِلَافَهُ كَأَهْلِ بَلَدِهِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ أَبُو الزِّنَادِ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ لَهُ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا وَرَدَ مُتَضَمِّنًا لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا وَالسُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ؟ أَوْ لَا يَكُونُ نَسْخًا بَلْ زِيَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ إِذَا ثَبَتَ سَنَدُهُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ؟ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْحِجَازِيِّينَ، وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ لَا تَنْهضُ حُجَّةُ ابْنِ شُبْرُمَةَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَارَضَةً لِلنَّصِّ بِالرَّأْيِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِهِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: الْحَاجَةُ إِلَى إِذْكَارِ إحداهما الْأُخْرَى إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا شَهِدَتَا، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدَا قَامَتْ مَقَامَهُمَا يَمِينُ الطَّالِبِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَالْيَمِينُ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ لَوِ انْفَرَدَتْ لَحَلَّتْ مَحَلَّ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَكَذَلِكَ حَلَّتِ الْيَمِينُ هُنَا مَحَلَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهَا مُضَافَةً لِلشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.

قَالَ: وَلَوْ لَزِمَ إِسْقَاطُ الْقَوْلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَلَزِمَ إِسْقَاطُ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي السُّنَّةِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّيْءِ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ، لَكِنْ مُقْتَضَى مَا بَحَثَهُ أَنْ لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُمَا مِنَ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْحَقِّ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَخَذَ حَقَّهُ، وَإِنْ جَاءَ بَشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُرْآنِ نَسْخٌ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْسَخُ الْمُتَوَاتِرَ، وَلَا تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِهَا مَشْهُورًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَلَا رَفْعَ هُنَا، وَأَيْضًا فَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ كَالتَّخْصِيصِ نَسْخًا اصْطِلَاحٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، لَكِنْ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ مَعَ بِنْتِ أَخِيهَا، وَسَنَدُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ،

وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَقَدْ أَخَذَ مَنْ رَدَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ كَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَالْوُضُوءِ مِنَ الْقَهْقَهَةِ وَمِنَ الْقَيْءِ، وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، وَاسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ،

ص: 281

وَتَرْكِ قَطْعِ مَنْ سَرَقَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوِلَادَةِ، وَلَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ، وَيَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنَ الْقَتِيلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهَا أَحَادِيثُ شَهِيرَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا لِشُهْرَتِهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ، بَلْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، وَقَالَ فِي الْيَمِينِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُرْتَابُ فِي صِحَّتِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّتِهِ وَلَا إِسْنَادِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لَا تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ ثِقَتَانِ مَكِّيَّانِ وَقَدْ سَمِعَ قَيْسٌ مِنْ أَقْدَمَ مِنْ عَمْرٍو، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ.

وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَرِجَالُهُ مَدَنِيُّونَ ثِقَاتٌ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَ بِهِ رَبِيعَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ نَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَقِصَّتُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهَا. وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ. وَفِي الْبَابِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهَا الْحِسَانُ وَالضِّعَافُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ تَثْبُتُ الشُّهْرَةُ، وَدَعْوَى نَسْخِهِ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ بِأَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ وَرَدَّ الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَلِفٍ فَإِذَا حَلَفَ ثَبَتَ الْحَقُّ بِغَيْرِ خِلَافٍ فَيَكُونُ حَلِفُ الْمُدَّعِي وَمَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ أَوْلَى، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، وَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِرَدِّ الْيَمِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَضَاءُ بَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ، يَعْنِي وَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَظْرَفُ مَا وَجَدْتُ لَهُمْ فِي رَدِّ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: قَضَى بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ شَاهِدِ الطَّالِبِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِنْ شَيْئَيْنِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الْمُتَضَادَّيْنِ. ثَانِيهِمَا: حَمْلُهُ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ آخَرَ عَبْدًا مَثَلًا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ فَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَى بِالْبَرَاءَةِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ، وَتَعَقَّبَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهَا صُورَةٌ نَادِرَةٌ وَلَا يُحْمَلُ الْخَبَرُ عَلَيْهَا.

قُلْتُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّهْنِ، وَهُنَا مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ادَّعَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى أَنَّهَا جَرَحَتْهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُفْيَانَ إِلَّا الْفِرْيَابِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّالِبِ وَالْيَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كُنْتُ قَاضِيًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الطَّائِفِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَكَتَبْتُ إِلَى

ص: 282

ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكُلِّفَ الْحُجَّةَ الْقَوِيَّةَ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْلِبُ لِنَفْسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا فَيَقْوَى بِهَا ضَعْفُ الْمُدَّعِي، وَجَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ فَاكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَهِيَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْحَالِفَ يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ الضَّرَرَ فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ تَعْرِيفَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُدَّعِي مَنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ وَسُكُوتَهُ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَا يُخَلَّى إِذَا سَكَتَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالثَّانِي أَسْلَمُ. وَقَدْ أُوْرِدَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُودَعَ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ أَوِ التَّلَفَ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِمَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْجُمْهُورِ بِحَمْلِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ اخْتِلَاطٌ أَمْ لَا، وَعَنْ مَالِكٍ لَا تَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَّا عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي اخْتِلَاطٌ لِئَلَّا يَبْتَذِلَ أَهْلُ السَّفَهِ أَهْلَ الْفَضْلِ بِتَحْلِيفِهِمْ مِرَارًا، وَقَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ قَرَائِنَ الْحَالِ إِذَا شَهِدَتْ بِكَذِبِ الْمُدَّعِي لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى دَعْوَاهُ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ نَاسٍ وَأَمْوَالَهُمْ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ فِي التَّدْمِيَةِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ تَسْوِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْنِدُوا الْقِصَاصَ مَثَلًا إِلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي بَلْ لِلْقَسَامَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ذَلِكَ لَوْثًا يُقَوِّي جَانِبَ الْمُدَّعِي فِي بُدَاءَتِهِ بِالْأَيْمَانِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَدِيثُ الْأَشْعَثِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ بِبَابٍ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَقَدْ رَوَى نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ وَزَادَ فِيهَا: لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَاسْتُدِلَّ بِهَا الْحَصْر عَلَى رَدِّ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: شَاهِدَاكَ أَيْ بَيِّنَتُكَ سَوَاءٌ كَانَتْ رَجُلَا أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَيَمِينَ الطَّالِبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّاهِدَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، فَالْمَعْنَى شَاهِدَاكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَلَوْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ رَدُّ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ لَلَزِمَ رَدُّ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَرْ فَوَضَحَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ، وَالْمُلْجِئُ إِلَيْهِ ثُبُوتُ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ بَلِ الْمُرَادُ هُوَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

‌21 - بَاب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ

2671 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ عن عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ.

[الحديث 2671 - أطرافه في: 4747، 5207]

ص: 283

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذِ ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي مَكَانِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَمْكِينُ الْقَاذِفِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الزَّوْجَيْنِ، وَالزَّوْجُ لَهُ مَخْرَجٌ عَنِ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ حَيْثُ كَانَ الزَّوْجُ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءً، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْقَاذِفِ ثَبَتَ لِكُلِّ مُدَّعٍ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

‌22 - بَاب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ

2672 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَرَجُلٌ سَاوَمَ بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِالزَّمَانِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْوَقْتَ بِتَعْظِيمِ الْإِثْمِ عَلَى مَنْ حَلَفَ فِيهِ كَاذِبًا لِشُهُودِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَلِكَ الْوَقْتَ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يُشَارِكُهُ فِي شُهُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ مَا أَتَى فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اخْتَصَّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَقْتَ ارْتِفَاعِ الْأَعْمَالِ.

‌23 - بَاب يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ.

قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، ولَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ

2673 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ) أَيْ: وُجُوبًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ التَّغْلِيظِ، فَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَبِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَبِغَيْرِهِمَا بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ لَا فِي الْقَلِيلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَضَى مَرْوَانُ) أَيِ ابْنُ الْحَكَمِ (عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي إِلَخْ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي غَطَفَانَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْفَاءِ - الْمُزِّيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ

ص: 284

وَتَشْدِيدِ الزَّايِ قَالَ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مُطِيعٍ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ - إِلَى مَرْوَانَ فِي دَارٍ، فَقَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ احْتَجَّ بِأَنَّ امْتِنَاعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَاجِبًا، وَالِاحْتِجَاجُ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْلَى مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِمَرْوَانَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ، فَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ وَصِيَّ رَجُلٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِصَكٍّ قَدْ دَرَسَتْ أَسْمَاءُ شُهُودِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا نَافِعُ اذْهَبْ بِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَحْلِفْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرِيدُ أَنْ تُسَمِّعَ بِي الَّذِي يَسْمَعُنِي هُنَا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ فَاسْتَحْلَفَهُ مَكَانَهُ وَقَدْ وَجَدْتُ لِمَرْوَانَ سَلَفًا فِي ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ اغْتَصَبَ لَهُ بَعِيرًا، فَخَاصَمَهُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ حَيْثُ شَاءَ غَيْرَ الْمِنْبَرِ، فَأَبَى عَلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ لَا يَحْلِفَ إِلَّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَغَرِمَ لَهُ بَعِيرًا مِثْلَ بَعِيرِهِ وَلَمْ يَحْلِفْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ) هُوَ مِنْ تُفَقِّهِ الْمُصَنِّفِ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرْجَمَ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَأَثْبَتَ التَّغْلِيظَ بِالزَّمَانِ وَنَفَى هُنَا التَّغْلِيظَ بِالْمَكَانِ، فَإِنْ صَحَّ احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ فَلْيَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَخُصَّ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ، فَإِنْ قَالَ وَرَدَ التَّغْلِيظُ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ قِيلَ لَهُ: وَرَدَ التَّغْلِيظُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ إِلَّا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ، وَاللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَسْتَحِلُّ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَنَّهُ يُوجِبُ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِالْمَكَانِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْمَسْأَلَةَ فَيَقُولَ: إِنْ لَزِمَ مِنْ ذِكْرِ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِالْمَكَانِ أَنَّهَا تُغَلَّظُ عَلَى كُلِّ حَالِفٍ، فَيَجِبُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ بِالزَّمَانِ أَيْضًا لِثُبُوتِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِأَتَمَّ مِنْهُ مَضْمُومًا إِلَى حَدِيثِ الْأَشْعَثِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌24 - بَاب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ

2674 -

حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ) أَيْ حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بِأَيِّهِمْ يُبْدَأُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ) أَيْ قَبْلَ الْآخَرِ، هَذَا اللَّفْظُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ فِيهِ: فَأَسْرَعَ الْفَرِيقَانِ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا أُكْرِهَ الِاثْنَانِ عَلَى الْيَمِينِ وَاسْتَحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ ابْنِ

ص: 285

رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِثْلَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ: وَقَدْ وَهَمَ شَيْخُنَا أَبُو أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.

قُلْتُ: وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: فَاسْتَحَبَّاهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ، وَسَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ أَوِ اسْتَحَبَّاهَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَيْ أَنَّهُ بِلَفْظِ أَوْ لَا بِالْفَاءِ وَلَا بِالْوَاوِ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْوَاوِ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى رِوَايَةِ أَوْ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَاءِ فَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا بِأَنَّهُمَا أُكْرِهَا عَلَى الْيَمِينِ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَى، فَلَمَّا عَرَفَا أَنَّهُمَا لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْهَا أَجَابَا إِلَيْهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِحْبَابِ، ثُمَّ تَنَازَعَا أَيُّهُمَا يَبْدَأُ فَأَرْشَدَ إِلَى الْقُرْعَةِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الْإِكْرَاهُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُكْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرَادَا الْحَلِفَ - سَوَاءٌ كَانَا كَارِهَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، أَوْ مُخْتَارَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ - وَتَنَازَعَا أَيُّهُمَا يَبْدَأُ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ بِالْقُرْعَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَلْيَسْتَهِمَا أَيْ فَلْيَقْتَرِعَا. وَقِيلَ: صُورَةُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْيَمِينِ أَنْ يَتَنَازَعَ اثْنَانِ عَيْنًا لَيْسَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّهَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَتَاعٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ مَا كَانَ، أَحَبَّا ذَلِكَ أَوْ كَرِهَا، وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي رَافِعٍ الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَاهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةٌ أُخْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ الْمَذْكُورُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِمْ بِعَيْنٍ فِي أَيْدِيهِمْ مَثَلًا وَأَنْكَرُوا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْيَمِينُ، فَتَسَارَعُوا إِلَى الْحَلِفِ، وَالْحَلِفُ لَا يَقَعُ مُعْتَبَرًا إِلَّا بِتَلْقِينِ الْمُحَلِّفِ، فَقَطَعَ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ بَدَأَ بِهِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

2675 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ "أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهَا. فَنَزَلَتْ [77 آل عمران]: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}

وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: "النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ"

2676، 2677 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ الرَجُلٍ - أَوْ قَالَ: أَخِيهِ - لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ

ص: 286

اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَلَقِيَنِي الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَحَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَشْعَثِ فِي نُزُولِهَا أَيْضًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِصَّتَيْنِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ.

وَقَوْلُهُ فِي طَرِيقِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ هُوَ ابْنُ حَوْشَبٍ. وَقَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ النَّجَشِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ.

‌26 - بَاب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ؟ قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} وَقَوْلُ الله عز وجل: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} .

يُقَالُ: بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ ووَاللَّهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَلَا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ

2678 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُه؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُها؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُه؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ. قال: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ.

2679 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ قَالَ: ذَكَرَ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"

[الحديث 2679 - أطرافه في: 3836، 6108، 6646، 6648]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا، وَغَرَضُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْحَلِفِ بِالْقَوْلِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَذَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ: فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي غَلَّظَهُ عَلَيْهِ فَيَزِيدُ: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِأَيِّ ذَلِكَ اسْتَحْلَفَهُ أَجْزَأَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ

ص: 287

بِاللَّهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلَفَ الْيَمِينَ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ بِاللَّهِ) أَيْ بِالْمُوَحَّدَةِ (وَتَاللَّهِ) أَيْ بِالْمُثَنَّاةِ (وَوَاللَّهِ) أَيْ بِالْوَاوِ، وَكُلّهَا وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا مَوْصُولًا فِي بَابِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَكِنْ بِالْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ بِلَفْظِ: فَحَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُعْطَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ طَلْحَةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ دُونَ زِيَادَةٍ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌27 - بَاب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ،

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيْحٌ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ

2680 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ) أَيْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ رَضِيَ الْمُدَّعِي بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنِ اسْتَحْلَفَهُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ عَلِمَهَا قُبِلَتْ وَقُضِيَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ عَلِمَهَا فَتَرَكَهَا فَلَا حَقَّ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الرِّضَا بِالْيَمِينِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ فَقَدْ بَرِئَ وَإِذَا بَرِئَ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبْرَأُ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَوْصُولِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَنَّ الْحُكْمَ الظَّاهِرَ لَا يُصَيِّرُ الْحَقَّ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا الْبَاطِلَ حَقًّا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ) أَيِ النَّخَعِيُّ (وَشُرَيْحٌ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ) أَمَّا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِمَا مَوْصُولَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ شُرَيْحٍ فَوَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: مَنِ ادَّعَى قَضَائِي فَهُوَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ، الْحَقُّ أَحَقُّ مِنْ قَضَائِي، الْحَقُّ أَحَقُّ مِنْ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ خَيْرٌ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا قَيَّدَ الْيَمِينَ بِالْفَاجِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا شَهِدَ عَلَى الْحَالِفِ بِأَنَّهُ أَقَرَّ، بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ يَمِينَهُ حِينَئِذٍ فَاجِرَةٌ، وَإِلَّا فَقَدْ يُوَفِّي الرَّجُلُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ صَادِقٌ ثُمَّ تَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي شَهِدَتْ بِأَصْلِ الْحَقِّ وَلَمْ يَحْضُرِ الْوَفَاءَ فَلَا تَكُونُ الْيَمِينُ حِينَئِذٍ فَاجِرَةً.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ

ص: 288

مَرْفُوعًا: أنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، الْحَدِيثَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُنْكِرِ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: مَوْضِعُ الِاسْتِشْهَادِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلِ الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ مُفِيدَةً حِلًّا وَلَا قَطْعًا لِحَقِّ الْمُحِقِّ، بَلْ نَهَاهُ بَعْدَ يَمِينِهِ مِنَ الْقَبْضِ، وَسَاوَى بَيْنَ حَالَتَيْهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَهَا فِي التَّحْرِيمِ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِبَقَاءِ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ظَفِرَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ، كَمَا لَمْ يَسْقُطْ أَصْلُ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةِ مُقْتَطعة بِالْيَمِينِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ شَرْحِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌28 - بَاب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ،

(وَاذَكَرَ في الكتاب إِسْمَاعِيلَ {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ، وَقَضَى ابْنُ الْأَشْوَعِ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فقَالَ: وَعَدَنِي فَوَفَى لِي، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ

2681 -

حَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يأمر بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.

2682 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ.

2683 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمائة ثُمَّ خمسمِائَةٍ ثُمَّ خَمْسَمائة.

2684 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى

ص: 289

أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ) وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْبَابِ بِأَبْوَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ وَعْدَ الْمَرْءِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنْجَازُ الْوَعْدِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لَا يُضَارِبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ اهـ. وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ، لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ قَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجَلُّ مَنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ ارْتَبَطَ الْوَعْدُ بِسَبَبٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، فَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: تَزَوَّجْ وَلَكَ كَذَا، فَتَزَوَّجَ لِذَلِكَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَخَرَّجَ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ هَلْ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ.

وَقَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي رحمه الله فِي إِشْكَالَاتٍ عَلَى الْأَذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا عَنِ الْآيَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وَحَدِيثِ آيَةُ الْمُنَافِقِ قَالَ: وَالدَّلَالَةُ لِلْوُجُوبِ مِنْهَا قَوِيَّةٌ، فَكَيْفَ حَمَلُوهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ مَعَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؟ وَيُنْظَرُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ الْإِخْلَافُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ؟ أَيْ يَأْثَمُ بِالْإِخْلَافِ وَإِنْ كَانَ لَا يُلْزَمُ بِوَفَاءِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ) أَيِ الْأَمْرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ.

قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام دَخَلَ قَرْيَةً هُوَ وَرَجُلٌ فَأَرْسَلَهُ فِي حَاجَةٍ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ يَنْتظرُهُ، فَأَقَامَ حَوْلًا فِي انْتِظَارِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شَوْذَبٍ أَنَّهُ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَسْكَنًا، فَسُمِّيَ مِنْ يَوْمَئِذٍ صَادِقَ الْوَعْدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَضَى ابْنُ الْأَشْوَعِ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَشْوَعِ، كَانَ قَاضِيَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِ إِمَارَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ عَلَى الْعِرَاقِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمِائَةِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ رِوَايَتِهِ كَذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (رَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ (يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشَوْعَ) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ بَيْنَ التَّعْلِيقِ عَنِ ابْنِ الْأَشْوَعِ وَبَيْنَ نَقْلِ الْمُصَنِّفِ عَنْ إِسْحَاقَ فِي أَكْثَرِ النَّسْخِ. وَالَّذِي أَوْرَدْتُهُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، أَوْرَدَ مِنْهُ طَرَفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ شَرْحِهِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آيَةِ الْمُنَافِقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِيمَا وَعَدَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ وَمَضَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَفَالَةِ، وَأَشَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى النَّاسِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَدَّى أَبُو بَكْرٍ مَوَاعِيدَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْأَلْ جَابِرًا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا فِي ذِمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا ادَّعَى شَيْئًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ) هُوَ ابْنُ عَجْلَانَ الْجَزَرِيِّ، شَامِيٌّ ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الطِّبِّ، وَكَذَا الرَّاوِي عَنْهُ مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، وَقَدْ تَابَعَ سَالِمًا عَلَى رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَتَابَعَ سَعِيدًا، عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُتْبَةُ

ص: 290

بْنُ النُّذَّرِ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَرَفَعُوهُ كُلُّهُمْ، وَجَمِيعُهَا عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَحَدِيثُ عُتْبَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَيْضًا، وَحَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَالْحِيرَةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بِالْعِرَاقِ.

قَوْلُهُ: (أَيَّ الْأَجَلَيْنِ) أَيِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}

قَوْلُهُ: (حَبْرِ الْعَرَبِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا وَرَجَّحَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْفَتْحَ وَسُكُونَ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَالِمُ الْمَاهِرُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ سَعِيدٌ لِكَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً عِنْدَ الَّذِي خَاطَبَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ جِبْرِيلَ سَمَّاهُ بِذَلِكَ، وَمُرَادُهُ بِالْقُدُومِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ بِمَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا) كَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْقُوفًا، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لَمَّا غَزَا الْمَغْرِبَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، جُرَيْجًا فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِهَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَبْرَ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ جِبْرِيلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَوْفَاهُمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَتَمَّهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا عَشْرَ سِنِينَ وَالْمُرَادُ بِالْأَطْيَبِ أَيْ فِي نَفْسِ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ فَعَلَ) الْمُرَادُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُرِدْ شَخْصًا بِعَيْنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ قَالَ سَعِيدٌ: فَلَقِيَنِي الْيَهُودِيُّ فَأَعْلَمْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: صَاحِبُكَ وَاللَّهِ عَالِمٌ وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ بَيَانُ تَوْكِيدِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، لِأَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْزِمْ بِوَفَاءِ الْعَشْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَوَفَّاهَا فَكَيْفَ لَوْ جَزَمَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا رَأَى مُوسَى عليه السلام طَمَعَ شُعَيْبٍ عليه السلام مُتَعَلِّقًا بِالزِّيَادَةِ لَمْ يَقْتَضِ كَرِيمُ أَخْلَاقِهِ أَنْ يُخَيِّبَ ظَنَّهُ فِيهِ.

‌29 - بَاب لَا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا،

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِقَوْلِهِ عز وجل: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الْآيَةَ.

2685 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَؤونَهُ لَمْ يُشَبْ؟ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ، وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} ، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.

[الحديث 2685 - أطرافه في: 7363، 7522، 7523]

ص: 291

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ حُكْمِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ السَّلَفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى رَدِّهَا مُطْلَقًا، وَذَهَبَ بَعْضُ التَّابِعِينَ إِلَى قَبُولِهَا مُطْلَقًا - إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَنْكَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ حَالَةَ السَّفَرِ فَأَجَازَ فِيهَا شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ الْوَصَايَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ: لَا تُقْبَلُ مِلَّةٌ عَلَى مِلَّةٍ، وَتُقْبَلُ بَعْضُ الْمِلَّةِ عَلَى بَعْضِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى أُخْرَى إِلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِيسَى - وَهُوَ الْخَيَّاطُ - عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. قُلْتُ فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الشَّعْبِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ وَطَائِفَةٍ الْجَوَازَ مُطْلَقًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْجَوَازَ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَخْ) وَصَلَهُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا النَّهْيُ عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِهَا كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ.

قَوْلُهُ في حديث ابن عباس: (يَا مَعْشَرَ لْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ) أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

قَوْلُهُ: (وَكِتَابُكُمْ) أَيِ الْقُرْآنُ.

قَوْلُهُ: (أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ) أَيْ أَقْرَبُهَا نُزُولًا إِلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل، فَالْحَدِيثُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْزُولِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ قَدِيمٌ، وَقَوْلُهُ:(لَمْ يُشَبْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ لَمْ يُخْلَطْ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارُهُمْ لَا تُقْبَلُ فَشَهَادَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ بِالْأَوْلَى ; لِأَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ الرّوَاةِ.

‌30 - بَاب الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ،

وَقَوْلِهِ عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتْ الْأَقْلَامُ مَعَ الْجِرْيَةِ، وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ، وَقَوْلِهِ:{فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} مِنْ الْمَسْهُومِينَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ

2686 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ

ص: 292

اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ.

2687 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتْ الأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَارْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ قَالَتْ فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلكِ عَمَلُهُ"

2688 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"

2689 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَاتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَوَجْهُ إِدْخَالِهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ، فَكَمَا تُقْطَعُ الْخُصُومَةُ وَالنِّزَاعُ بِالْبَيِّنَةِ كَذَلِكَ تُقْطَعُ بِالْقُرْعَةِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ، وَلَيْسَتْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ،

ص: 293

وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنْكَرَهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِهَا، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ ضَابِطَهَا الْأَمْرَ الْمُشْكِلَ، وَفَسَّرَهَا غَيْرُهُ بِمَا ثَبَتَ فِيهِ الْحَقُّ لِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ وَتَقَعُ الْمُشَاحَحَةُ فِيهِ فَيُقْرَعُ لِفَصْلِ النِّزَاعِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: لَيْسَ فِي الْقُرْعَةِ إِبْطَالُ الشَّيْءِ مِنَ الْحَقِّ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ، بَلْ إِذَا وَجَبَتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعَدِّلُوا ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَقْتَرِعُوا فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا وَقَعَ لَهُ بِالْقُرْعَةِ مُجْتَمِعًا مِمَّا كَانَ لَهُ فِي الْمِلْكِ متاعًا فَيُضَمُّ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْعِوَضِ الَّذِي صَارَ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّ مَقَادِيرَ ذَلِكَ قَدْ عُدِّلَتْ بِالْقِيمَةِ.

وَإِنَّمَا أَفَادَتِ الْقُرْعَةُ أَنْ لَا يَخْتَارَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَيَخْتَارَهُ الْآخَرُ، فَيُقْطَعُ التَّنَازُعَ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْحُقُوقِ الْمُتَسَاوِيَةِ وَإِمَّا فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ عَقْدُ الْخِلَافَةِ إِذَا اسْتَوَوْا فِي صِفَةِ الْإِمَامَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَقَارِبِ فِي تَغْسِيلِ الْمَوْتَى وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَالْحَاضِنَاتِ إِذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ، وَالْأَوْلِيَاءِ فِي التَّزْوِيجِ، وَالِاسْتِبَاقِ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَفِي نَقْلِ الْمَعْدِنِ، وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَالتَّقْدِيمِ بِالدَّعْوَى عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالتَّزَاحُمِ عَلَى أَخْذِ اللَّقِيطِ، وَالنُّزُولِ فِي الْخَانِ الْمُسَبَّلِ وَنَحْوِهِ، وَفِي السَّفَرِ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ وَفِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ، وَالدُّخُولِ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَفِي الْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْعَبِيدِ إِذَا أُوصِيَ بِعِتْقِهِمْ وَلَمْ يَسَعْهُمُ الثُّلُثُ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا وَهُوَ تَعْيِينُ الْمِلْكِ، وَمِنْ صُوَرِ تَعْيِينِ الْمِلْكِ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ تَعْدِيلِ السِّهَامِ فِي الْقِسْمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ بِالْقُرْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا تَقْرِيرُهُ، وَسَاقَهُ مَسَاقَ الِاسْتِحْسَانِ وَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِمَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: (وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّا) أَيِ ارْتَفَعَ عَلَى الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَعَلَا وَفِي نُسْخَةٍ وَعَدَا بِالدَّالِ. وَالْجِرْيَةِ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَلَمًا وَأَلْقَوْهَا كُلَّهَا فِي الْمَاءِ، فَجَرَتْ أَقْلَامُ الْجَمِيعِ مَعَ الْجِرْيَةِ إِلَى أَسْفَلَ وَارْتَفَعَ قَلَمُ زَكَرِيَّا فَأَخَذَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْعَدِيمِ فِي تَارِيخِ حَلَبَ بِسَنَدِهِ إِلَى شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّهَرَ الَّذِي أَلْقَوْا فِيهِ الْأَقْلَامَ هُوَ نَهَرُ قُوَيْقٍ، النَّهَرُ الْمَشْهُورُ بِحَلَبَ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ) أَيْ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل.

قَوْلُهُ: {فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَوْلُهُ: {فَسَاهَمَ} أَيْ قَارَعَ وَهُوَ أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} مِنَ الْمَسْهُومِينَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ فَكَانَ مِنَ الْمَقْرُوعِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ فَكَانَ مِنَ الْمَسْهُومِينَ وَالِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَهُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ جَوَازُ إِلْقَاءِ الْبَعْضِ لِسَلَامَةِ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا لِأَنَّهُمْ مُسْتَوُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْفُسِ فَلَا يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُمْ بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ) وَصَلَهُ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَيْضًا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.

السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتْ الْأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، قَالَتْ: فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلكِ عَمَلُهُ.

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ أُمِّ الْعَلَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهَا فِيهِ: أنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي

ص: 294

السُّكْنَى وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ، فَاقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ فِي إِنْزَالِهِمْ، فَصَارَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ لِآلِ أُمِّ الْعَلَاءِ فَنَزَلَ فِيهِمْ.

الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ أَوَّلِ الحَدِيثِ الْإِفْكِ، وَبَاقِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَسْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَسَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَحَلِّ شَرْحِهِ هُنَا.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِهَامِ هُنَا الْإِقْرَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ.

الرَّابِعُ: حَدِيثُ الْنُعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.

قَوْلُهُ: (مَثَلُ الْمُدْهِنِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ أَيِ الْمُحَابِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرَائِي وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَلَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ.

قَوْلُهُ: (وَالْوَاقِعِ فِيهَا) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَامِرٍ وَهُوَ الشَّعْبِيُّ: مَثَل الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، وَهُوَ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّ الْمُدْهِنَ وَالْوَاقِعَ أَيْ مُرْتَكِبَهَا فِي الْحُكْمِ وَاحِدٌ، وَالْقَائِمُ مُقَابِلُهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي الشَّرِكَةِ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، وَهَذَا يَشْمَلُ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ وَهُوَ النَّاهِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْوَاقِعُ فِيهَا وَالْمُرَائِي فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا هُنَا: مَثَلُ الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّاهِي عَنْهَا وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ فِرْقَتَيْنِ فَقَطْ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُدَاهِنُ مُشْتَرِكًا فِي الذَّمِّ مَعَ الْوَاقِعِ صَارَا بِمَنْزِلَةِ فِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيَانُ وُجُودِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا خَرْقَ السَّفِينَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ مَنْ عَدَاهُمْ إِمَّا مُنْكِرٌ وَهُوَ الْقَائِمُ، وَإِمَّا سَاكِتٌ وَهُوَ الْمُدْهِنُ.

وَحَمَلَ ابْنُ التِّينِ قَوْلَهُ هُنَا: الْوَاقِعِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَائِمُ فِيهَا وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْوَاقِعِ بِالْقَائِمِ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدْهِنِ فِيهَا وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَالَ فِي الشَّرِكَةِ: مَثَلُ الْقَائِمِ وَهُنَا مَثَلُ الْمُدْهِنِ وَهُمَا نَقِيضَانِ، فَإِنَّ الْقَائِمَ هُوَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُدْهِنَ هُوَ التَّارِكُ لَهُ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: الْقَائِمِ؛ نَظَرَ إِلَى جِهَةِ النَّجَاةِ، وَحَيْثُ قَالَ: الْمُدْهِنِ؛ نَظَرَ إِلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْحَالَيْنِ. قُلْتُ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هُنَا الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْمُدْهِنِ وَهُوَ التَّارِكُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَلَى ذِكْرِ الْوَاقِعِ فِي الْحَدِّ وَهُوَ الْعَاصِي وَكِلَاهُمَا هَالِكٌ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا تَقَدَّمَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ الْمُدْهِنَ وَالْقَائِمَ، وَبَعْضَهُمْ ذَكَرَ الْوَاقِعَ وَالْقَائِمَ، وَبَعْضَهُمْ جَمَعَ الثَّلَاثَةَ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُدْهِنِ وَالْوَاقِعِ دُونَ الْقَائِمِ فَلَا يَسْتَقِيمُ.

قَوْلُهُ: (اسْتَهَمُوا سَفِينَةً) أَيِ اقْتَرَعُوهَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمًا أَيْ نَصِيبًا مِنَ السَّفِينَةِ بِالْقُرْعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ إِمَّا بِالْإِجَارَةِ وَإِمَّا بِالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْقُرْعَةُ بَعْدَ التَّعْدِيلِ، ثُمَّ يَقَعُ التَّشَاحُّ فِي الْأَنْصِبَةِ فَتَقَعُ الْقُرْعَةُ لِفَصْلِ النِّزَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا فِيمَا إِذَا نَزَلُوهَا مَعًا، أَمَّا لَوْ سَبَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِمَوْضِعِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتْ مُسَبَّلَةً مَثَلًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ مَثَلًا فَالْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ إِذَا تَنَازَعُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَتَأَذَّوْا بِهِ) أَيْ بِالْمَارِّ عَلَيْهِمْ بِالْمَاءِ حَالَةَ السَّقْيِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ فَأْسًا) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ مَعْرُوفٌ، وَيُؤَنَّثُ.

قَوْلُهُ: (يَنْقُرُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ أَيْ يَحْفِرُ لِيَخْرِقَهَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ مَنَعُوهُ مِنَ الْحَفْرِ (أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الشَّرِكَةِ حَيْثُ قَالَ:

ص: 295

نَجَوْا وَنَجَوْا أَيْ كُلٌّ مِنَ الْآخِذِينَ وَالْمَأْخُوذِينَ، وَهَكَذَا إِقَامَةُ الْحُدُودِ يَحْصُلُ بِهَا النَّجَاةُ لِمَنْ أَقَامَهَا وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ، وَإِلَّا هَلَكَ الْعَاصِي بِالْمَعْصِيَةِ وَالسَّاكِتُ بِالرِّضَا بِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ الْمَذْكُورَ إِذَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ مِنْ ذُنُوبِ مَنْ وَقَعَ بِهِ أَوْ يَرْفَعُ مِنْ دَرَجَتِهِ. وَفِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْعُقُوبَةِ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَبْيِينُ الْعَالِمِ الْحُكْمَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَوُجُوبُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْجَارِ إِذَا خَشِيَ وُقُوعَ مَا هُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ مَا يَضُرُّ بِهِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرَرًا لَزِمَهُ إِصْلَاحُهُ، وَأَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ مَنْعَهُ مِنَ الضَّرَرِ. وَفِيهِ جَوَازُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَفَاوِتِ بِالْقُرْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُلْوٌ وَسُفْلٌ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ هَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَطَائِفَةٍ كَمَا أَوْرَدْتُهُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الشَّهَادَاتِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْقُرْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ وَهِيَ حَدِيثُ عُمَرَ كَانَ النَّاسُ يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِيهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الِاسْتِهَامِ فِي الْيَمِينِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 296

بسم الله الرحمن الرحيم

‌53 - كِتَاب الصُّلْحِ

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ،

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وَخُرُوجِ الْإِمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ.

2690 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حُبِسَ، وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ في التَّصْفِيحِ حَتَّى أَكْثَرُوا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَكَادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا هُوَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ، فتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصف في صَلَاتِكُمْ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ، إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا الْتَفَتَ.

يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ لَمْ تُصَلِّ بِالنَّاسِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

2691 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ - وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ - فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَا، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}

ص: 297

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الصُّلْحِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ. وَلِغَيْرِهِمْ بَابُ. وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ أَبْوَابُ الصُّلْحِ. بَابُ مَا جَاءَ وَحَذَفَ هَذَا كُلَّهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا جَاءَ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَزَادَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِذَا تَفَاسَدُوا.

وَالصُّلْحُ أَقْسَامٌ: صُلْحُ الْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَالْعَادِلَةِ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَغَاضِبَيْنِ كَالزَّوْجَيْنِ، وَالصُّلْحُ فِي الْجِرَاحِ كَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحُ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ إِذَا وَقَعَتِ الْمُزَاحَمَةُ إِمَّا فِي الْأَمْلَاكِ أَوْ فِي الْمُشْتَرَكَاتِ كَالشَّوَارِعِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَصْحَابُ الْفُرُوعِ، وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ فَتَرْجَمَ هُنَا لِأَكْثَرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) التَّقْدِيرُ إِلَّا نَجْوَى مِنْ إِلَخْ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْ لَكِنْ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ إِلَخْ فَإِنَّ فِي نَجَوَاهُ الْخَيْرَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَضْلِ الْإِصْلَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَخُرُوجِ الْإِمَامِ) إِلَى آخِرِ بَقِيَّةِ التَّرْجَمَةِ. ثُمَّ أورد الْمُصَنِّفُ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي ذَهَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ. ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ الْمُصَنِّفُ - هَذَا مَا انْتَخَبْتُهُ مِنْ حَدِيثِ م سَدَّدٍ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ وَيُحَدِّثَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَنَسًا قَالَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ، لِسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَأَعَلَّهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَنَسٍ، وَاعْتَمَدَ عَلَى رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْقَائِلِ.

قَوْلُهُ: (لَوْ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) أَيِ ابْنَ سَلُولَ الْخَزْرَجِيَّ الْمَشْهُورَ بِالنِّفَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيْ ذَاتُ سِبَاخٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ، وَكَانَتْ تِلْكَ صِفَةَ الْأَرْضِ الَّتِي مَرَّ بِهَا النبي صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّوْطِئَةِ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ إِذْ تَأَذَّى بِالْغُبَارِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ إِلَخْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ أَيْضًا ; وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ أَنَّ السَّابِقَ إِلَى ذَلِكَ الدِّمْيَاطِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ، فَتَتَبَّعْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْآتِيَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ بِنَحْوِ قِصَّةِ أَنَسٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مُرَاجَعَةٌ، لَكِنَّهَا فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالَّذِي ذُكِرَ هُنَا، فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَّحِدَةً احْتَمَلَ ذَلِكَ، لَكِنَّ سِيَاقَهَا ظَاهِرٌ فِي الْمُغَايَرَةِ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ عِيَادَةَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دُعِيَ إِلَى إِتْيَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيُحْتَمَلُ اتِّحَادُهُمَا بِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى تَوَجُّهِهِ الْعِيَادَةُ فَاتَّفَقَ مُرُورُهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقِيلَ لَهُ حِينَئِذٍ لَوْ أَتَيْتَهُ فَأَتَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا أَنَّ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ: فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ.

قَوْلُهُ: (فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ أُبَيٍّ (رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَشَتَمَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ أَيْ شَتَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَشَتَمَهُ.

قَوْلُهُ: (ضَرَبَ بِالْجَرِيدِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْحَدِيدِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا.

قَوْلُهُ: (فَبَلَغَنَا) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، بَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمُقَدَّمِيِّ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَنَسٌ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الَّذِي أَنْبَأَ أَنَسًا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بَلْ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عن

ص: 298

الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ بَطَّالٍ نُزُولَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، لِأَنَّ الْمُخَاصَمَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ كُفَّارًا فَكَيْفَ يَنْزِلُ فِيهِمْ:{طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ قِصَّةُ أَنَسٍ، وَأُسَامَةَ مُتَّحِدَةً، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ، مَعَ أَنَّ فِيهَا إِشْكَالًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ حَدِيثَ أُسَامَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَقَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحُجُرَاتِ وَنُزُولُهَا مُتَأَخِّرٌ جِدًّا وَقْتَ مَجِيءِ الْوُفُودِ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْإِصْلَاحِ نَزَلَتْ قَدِيمًا فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ.

(تَنْبِيهٌ): الْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مُغَايِرَةٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ قِصَّةَ سَهْلٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِقُبَاءٍ، وَقِصَّةُ أَنَسٍ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْعَالِيَةِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَبَبِ الْمُخَاصَمَةِ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنَ الصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِي اللَّهِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ عَلَى ذَلِكَ.

وَفِيهِ أَنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ لَا نَقْصَ فِيهِ عَلَى الْكِبَارِ.

وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَدَبِ مَعَهُ وَالْمَحَبَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَأَنَّ الَّذِي يُشِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ بِشَيْءٍ يُورِدُهُ بِصُورَةِ الْعَرْضِ عَلَيْهِ لَا الْجَزْمِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَطْلَقَ أَنَّ رِيحَ الْحِمَارِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.

‌2 - بَاب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ

2692 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ) تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْكَاذِبُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ الْكَذَّابِ وَاللَّفْظُ الَّذِي تَرْجَمَ بِهِ لَفْظُ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَانَ حَقُّ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ كَاذِبًا، لَكِنَّهُ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْقَلْبِ وَهُوَ سَائِغٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ أَيِ ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْأُمَوِيَّةُ.

قَوْلُهُ: (فَيَنْمِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يُبَلِّغُ، تَقُولُ نَمَيْتُ الْحَدِيثَ أَنْمِيهِ إِذَا بَلَّغْتُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، فَإِذَا بَلَّغْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ وَالنَّمِيمَةِ قُلْتَ: نَمَّيْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَادَّعَى الْحَرْبِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِلَّا نَمَّيْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَنْمِي بِالتَّخْفِيفِ لَلَزِمَ أَنْ يَقُولَ: خَيْرٌ بِالرَّفْعِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ بِأَنَّ خَيْرًا انْتَصَبَ بِيَنَمِي كَمَا يَنْتَصِبُ بِقَالَ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا يُسْتَغْرَبُ مِنْ خَفَاءِ مِثْلِهِ عَلَى الْحَرْبِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ يُنْمِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ الدَّبَّاغِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالْهَاءِ بَدَلَ الْمِيمِ قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَعْنَى يُوصِلُ، نقُولُ: أَنْهَيْتُ إِلَيْهِ كَذَا إِذَا أَوْصَلْتَهُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) وهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْخَيْرِ

ص: 299

وَيَسْكُتُ عَمَّا عَلِمَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا سَاكِتٌ، وَلَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ فِي الْكَذِبِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا سَاكِتٌ، وَمَا زَادَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ كَذِبٌ، إِلَّا فِي ثَلَاثٍ فَذَكَرَهَا، وَهِيَ: الْحَرْبُ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَوْرَدَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُدْرَجَةٌ، بَيَّنَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ. وَكَذَا أَخْرَجَهَا النسائي مُفْرَدَةً مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَقَالَ: يُونُسُ أَثْبَتُ فِي الزُّهْرِيِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَزَمَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ وَغَيْرُهُ بِإِدْرَاجِهَا، وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ ابْنِ أَبِي مَيْسَرَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَسَاقَهُ بِسَنَدِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الزِّيَادَةِ وَهُوَ وَهَمٌ شَدِيدٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِ الْكَذِبِ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَقَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ كَالْمِثَالِ، وَقَالُوا: الْكَذِبُ الْمَذْمُومُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ، أَوْ مَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.

وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَحَمَلُوا الْكَذِبَ الْمُرَادَ هُنَا عَلَى التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ كَمَنْ يَقُولُ لِلظَّالِمِ: دَعَوْتُ لَكَ أَمْسِ، وَهُوَ يُرِيدُ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَيَعِدُ امْرَأَتَهُ بِعَطِيَّةِ شَيْءٍ وَيُرِيدُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَأَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً. قُلْتُ: وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُهَلَّبُ، وَالْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ مَزِيدٌ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُسْقِطُ حَقًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا أَوْ أَخْذُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا، وَكَذَا فِي الْحَرْبِ فِي غَيْرِ التَّأْمِينِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْكَذِبِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ ظَالِمٌ قَتْلَ رَجُلٍ وَهُوَ مُخْتَفٍ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ كَوْنَهُ عِنْدَهُ وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَأْثَمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب قَوْلِ الْإِمَامِ لِأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ

3693 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْإِمَامِ لِأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصُّلْحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.

وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ بِإِسْقَاطِهِ فَصَارَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمَا عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِسْحَاقَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيُّ مِنْ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ عَنْهُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَرَوَى عَنْهُ هَذَا بِوَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ شَيْخُهُمَا هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فَجَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ فَارِسٍ الذُّهْلِيُّ، نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 300

‌4 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}

2694 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لَا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ. قَالَتْ: ولَا بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌5 - بَاب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ

2695، 2696 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالَا: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ - فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا.

2697 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ) يَجُوزُ فِي صُلْحِ جَوْرٍ الْإِضَافَةُ، وَأَنْ يُنَوَّنَ صُلْحٌ وَيَكُونَ جَوْرٌ صِفَةً لَهُ. ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصُّلْحِ عَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَسِيفِ مِنَ الْحَدِّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ كَانَ جَوْرًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَانْفَرَدَ ابْنُ السَّكَنِ بِقَوْلِهِ: يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَوَقَعَ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمَغَازِي فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيِ الزُّهْرِيُّ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، لَكِنْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْمَغَازِي: يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ الدَّوْرَقِيُّ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا فَنَسَبَهُ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: الدَّوْرَقِيُّ وَجَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَجَزَمَ أَبُو

ص: 301

أَحْمَدَ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالْحَبَّالُ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، وَرَدَّ ذَلِكَ الْبَرْقَانِيُّ بِأَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ حُمَيْدٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَجَوَّزَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَعْقُوبُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَلْقَهُ فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ، وَأَجَابَ الْبَرْقَانِيُّ عَنْهُ بِجَوَازِ سُقُوطِ الْوَاسِطَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي أَنَّهُ الدَّوْرَقِيُّ حَمْلًا لِمَا أَطْلَقَهُ عَلَى مَا قَيَّدَهُ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ لَا يُهْمِلُ نِسْبَةَ الرَّاوِي إِلَّا إِذَا ذَكَرَهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ فَيُهْمِلُهَا اسْتِغْنَاءً بِمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الصّدق بِأَنَّهُ الدَّوْرَقِيُّ، وَكَذَا جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصُّلْحِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا كَذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْقَاسِمِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ أَبِي جَهْلٍ أَوْصَى بِوَصَايَا فِيهَا أَثَرَةٌ فِي مَالِهِ، فَذَهَبْتُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَسْتَشِيرُهُ فَقَالَ الْقَاسِمُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرَهُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْأَثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةِ الْمَخْرَمِيِّ الْمُعَلَّقَةِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، فَجَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كِلَاهُمَا عَنْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَسَاكِنُ فَأَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ مَسْكَنٍ مِنْهَا قَالَ: يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ فَذَكَرَ الْمَتْنَ بِلَفْظِ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ) وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَنْ فَعَلَ أَمْرًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَلَيْسَ لِعَبْدِ الْوَاحِدِ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَامِدٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ قَالَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ، فَجَعَلَ بَعْضَهَا صَدَقَةً وَبَعْضَهَا مِيرَاثًا وَخَلَطَ فِيهَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْقَضَاءِ، فَمَا دَرَيْتُ كَيْفَ أَقْضِي فِيهَا، فَصَلَّيْتُ بِجَنْبِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَجِزْ مِنْ مَالِهِ الثُّلُثَ وَصِيَّةً، وَرُدَّ سَائِرَ ذَلِكَ مِيرَاثًا، فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.

وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ آلِ أَبِي جَهْلٍ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آلِ أَبِي لَهَبٍ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ هُوَ بَقِيَّةُ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ صَرَّحَ أَبُو عَوَانَةَ فِي رِوَايَتِهِ بِأَنَّهُ كَلَامُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا، فَالَّذِي أَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ مَسْكَنٍ أَوْصَى بِأَمْرٍ جَائِزٍ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا إِلْزَامُ الْقَاسِمِ بِأَنْ يَجْمَعَ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَسَاكِنِ أَغْلَى قِيمَةً مِنْ بَعْضٍ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَسَاكِنُ مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ الْأَوْلَى أَنْ تَقَعَ الْوَصِيَّةُ بِمَسْكَنٍ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ يُوجِبُ إِنْكَارَهَا كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ حَامِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ مَا اسْتَشْكَلْتُهُ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْحَمْلِ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْفِدْيَةَ، أَوِ الْمُوصَى لَهُمُ الْقِسْمَةَ وَتَمْيِيزَ حَقِّهِ، وَكَانَتِ الْمَسَاكِنُ بِحَيْثُ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَحِينَئِذٍ تُقَوَّمُ الْمَسَاكِنُ قِيمَةَ التَّعْدِيلِ وَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيَبْقَى نَصِيبُ الْوَرَثَةِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَنِ اخْتَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ

ص: 302

مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِحِفْظِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ فِي إِبْطَالِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِشَاعَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ كَذَلِكَ.

وَقَالَ الطَّرْقِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى نِصْفَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَرَكَّبُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَالْمَطْلُوبُ بِالدَّلِيلِ إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى فِي إِثْبَاتِ كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَنَفْيِهِ، لِأَنَّ مَنْطُوقَهُ مُقَدِّمَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي كُلِّ دَلِيلٍ نَافٍ لِحُكْمٍ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءٍ نَجِسٍ: هَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ، فَهَذَا الْعَمَلُ مَرْدُودٌ. فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي الْأُولَى. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرْعِ فَهُوَ صَحِيحٌ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ فِي الْوُضُوءِ بِالنِّيَّةِ: هَذَا عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرْعِ فَهُوَ صَحِيحٌ. فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْأُوْلَى فِيهَا النِّزَاعُ، فَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ يَكُونُ مُقَدِّمَةً أُولَى فِي إِثْبَاتِ كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَنَفْيِهِ لَاسْتَقَلَّ الْحَدِيثَانِ بِجَمِيعِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، لَكِنْ هَذَا الثَّانِي لَا يُوجَدُ، فَإِذًا حَدِيثُ الْبَابِ نِصْفُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: رَدٌّ مَعْنَاهُ مَرْدُودٌ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، مِثْلِ خَلْقٍ وَمَخْلُوقٍ وَنَسْخٍ وَمَنْسُوخٍ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ بَاطِلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَاللَّفْظُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ أَعَمُّ مِنَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ أَحْدَثَ فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إِبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَنْهِيَّةِ وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتِهَا الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ رَدُّ الْمُحْدَثَاتِ وَأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَجِبُ رَدُّهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا وَالْمُرَادُ بِهِ أَمْرُ الدِّينِ، وَفِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ مُنْتَقَضٌ، وَالْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ مُسْتَحِقٌّ الرَّدَّ.

‌6 - بَاب كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلَانُ بْن فُلَانٍ فُلَانَ بْن فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ

2698 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضوان الله عليه - بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَا تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ كُنْتَ رَسُولًا لَمْ نُقَاتِلْكَ. فَقَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْخُلُوهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ. فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ؟ فَقَالَ: الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ.

2699 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَا، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُ (رَسُولُ اللَّهِ)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ فَكَتَبَ: هَذَا

ص: 303

مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحٌ إِلَّا فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ.

فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ - يَا عَمِّ يَا عَمِّ - فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ احَمليهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبَهُ) أَيْ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِدُونِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ اللَّبْسُ فِيهِ فَيُكْتَفَى فِي الْوَثِيقَةِ بِالِاسْمِ الْمَشْهُورِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجدِّ وَالنَّسَبِ وَالْبَلَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: يَكْتُبُ فِي الْوَثَائِقِ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَسَبَهُ، فَهُوَ حَيْثُ يُخْشَى اللَّبْسُ، وَإِلَّا فَحَيْثُ يُؤْمَنُ اللَّبْسُ فَهُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَنَسَبِهِ فَقِيلَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَبِيلَتِهِ وَعَلَى هَذَا فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ وَالنِّسْبَةِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ، أَيْ سَوَاءٌ نَسَبَهُ أَوْ لَمْ يَنْسُبْهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ جَزَمَ الصَّغَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ) سَيَأْتِي فِي الشُّرُوطِ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بَيَانُ سَبَبِ ذَلِكَ مُطَوَّلًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ابن إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَذْكُرُ هُنَاكَ بَيَانَ الْخِلَافِ فِي مُبَاشَرَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَةَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا اقْتِصَارُ الْكَاتِبِ عَلَى قَوْلِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى أَبٍ وَلَا جَدٍّ، وَأَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم واقْتَصَرَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَمْنِ الِالْتِبَاسِ.

‌7 - بَاب الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ،

فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لقد رأيتنا يوم أبي جندل، وَأَسْمَاءُ، وَالْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

2700 -

وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ: السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ. فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ مُؤَمَّلٌ عَنْ سُفْيَانَ أَبَا جَنْدَلٍ، وَقَالَ: إِلَّا بِجُلُبِّ السِّلَاحِ.

ص: 304

2701 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.

[الحديث 2701 - طرفه في: 4252]

2702 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: "انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ

"

[الحديث 2702 - أطرافه في: 3173، 6143، 6898، 7192]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ حُكْمِهِ أَوْ كَيْفِيَّتِهِ أَوْ جَوَازِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ وَبَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ) أَيْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ فِي شَأْنِ هِرَقْلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: أنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي هَادَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفَّارَ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ بِتَمَامِهِ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ، لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ) أَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهَا الْمَاضِي فِي الْهِبَةِ قَالَتْ: قَدِمْتُ عَلَى أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِسْوَرِ فَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الشُّرُوطِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ) هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْهُ، وَوَصَلَهَا أَيْضًا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ يَأْتِي شَرْحُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ (يَحْجُلُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ - أَيْ يَمْشِي مِثْلَ الْحَجَلَةِ الطَّيْرِ الْمَعْرُوفِ يَرْفَعُ رِجْلًا وَيَضَعُ أُخْرَى، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَقَارُبِ الْخُطَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ مُؤَمِّلٌ، عَنْ سُفْيَانَ، أَبَا جَنْدَلٍ، وَقَالَ: إِلَّا بِجُلُبِّ السِّلَاحِ) يَعْنِي أَنَّ مُؤَمِّلًا وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ تَابَعَ أَبَا حُذَيْفَةَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ أَبِي جَنْدَلٍ وَقَالَ: بِجُلُبِّ بَدَلَ قَوْلِهِ: بِجُلُبَّانِ، وَجُلُبٌّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ بِالتَّخْفِيفِ جَمْعُ جَلَبَةٍ، وَأَمَّا جُلُبَّانُ فَضَبَطَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ دُرَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَضَبَطَهُ ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ بِسُكُونِ اللَّامِ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتْقِنِينَ أَنَّهُ بِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ مَعَ التَّشْدِيدِ وَكَأَنَّهُ جَمْعُ جِرَابٍ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِاللَّامِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مُتْقَنَةٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَاللَّامِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَلَا تَغْتَرَّ بِذَلِكَ. وَطَرِيقُ مُؤَمِّلٍ هَذِهِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَرُوِّينَاهَا بِعُلُوٍّ فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْ فَوَائِدِهَا

ص: 305

تَصْرِيحُ سُفْيَانَ بِتَحْدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ وَبِتَحْدِيثِ الْبَرَاءِ لِأَبِي إِسْحَاقَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أيضا لكنه مختصر، وسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ أيضا.

وَحَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ بِخَيْبَرَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ وَالْمُرَادُ مُصَالَحَةُ أَهْلِهَا الْيَهُودِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي مَكَانِهِ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ.

‌8 - بَاب الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ

2703 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ - وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ - كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الْأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ.

[الحديث 2703 - أطرافه في: 2806، 4499، 4500، 4611، 6894]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ) أَيْ بِأَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فَيَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ مُعَيَّنٍ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ - وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ - وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسٍ. وَقَوْلُهُ: زَادَ الْفَزَارِيُّ يَعْنِي مَرْوَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ) أَيْ زَادَ عَلَى رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ ذِكْرَ قَبُولِهِمُ الْأَرْشَ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِصَاصَ وَالْأَرْشَ مُطْلَقًا، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ قَوْلَهُ عَفَوْا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى قَبُولِ الْأَرْشِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَطَرِيقُ الْفَزَارِيِّ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌9 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ،

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}

2704 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ -: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ، مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ - فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ. فَأَتَيَاهُ

ص: 306

فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالَا لَهُ فَطَلَبَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا. قَالَا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ. قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ - وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ - وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ.

[الحديث 2704 - أطرافه في: 3629، 3746، 7109]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ) اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَسَنِ بِمَعْنَى عَنْ، وَتَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ احْتِرَازًا وَأَدَبًا، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ بِنَحْوِهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} لَمْ يَظْهَرْ لِي مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجَمَةِ إِلَّا إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ حَرِيصًا عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ، وَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصُّلْحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ سَيَقَعُ عَلَى يَدِ الْحَسَنِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْمُصَنِّفُ (قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ (إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ (مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ) أَيْ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِالسَّمَاعِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ.

‌10 - بَاب هَلْ يُشِيرُ الْإِمَامُ بِالصُّلْحِ؟

2705 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُم، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ.

2706 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ مَالٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا كَعْبُ - فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ - فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُشِيرُ الْإِمَامُ بِالصُّلْحِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ اسْتَحَبُّوا لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشِيرَ

ص: 307

بِالصُّلْحِ وَإِنِ اتَّجَهَ الْحَقُّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ مَا تَرْجَمَ بِهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْحَضُّ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ بِمَعْنَى الصُّلْح، عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا جَزَمَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَخِي) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الرِّجَالِ بِالْجِيمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيِ ابْنِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ لَهُ: أَبُو الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ ذُكُورٍ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَكَذَا الرَّاوِي عَنْهُ ; وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ مِنْهُمْ قَرِينَانِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ فَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ فِي إِسْنَادِهِ مُبْهَمٌ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْكِسَائِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَرُوِّينَاهُ فِي الْمَحَامِلِيَّاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسَّرَ مَنْ أَبْهَمَهُ مُسْلِمٌ بِهَؤُلَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بَلْ تَابَعَهُ أَيُّوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا، وَلَا انْفَرَدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمْ) فِي رِوَايَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ مَنْ حَضَرَ الْخُصُومَةَ وَثَنَّى بِاعْتِبَارِ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَأَنَّ التَّخَاصُمَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَجَمَعَ ثُمَّ ثَنَّى بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْخَصْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ جَوَّزَ صِيغَةَ الْجَمْعِ بِالِاثْنَيْنِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: عَالِيَةٍ الْجَرُّ عَلَى الصِّفَةِ وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ) أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْوَضِيعَةَ، أَيِ الْحَطِيطَةَ مِنَ الدِّينِ.

قَوْلُهُ: (وَيَسْتَرْفِقُهُ) أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ الرِّفْقَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: (فِي شَيْءٍ) وَقَعَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي ابْتَعْتُ أَنَا وَابْنِي مِنْ فُلَانٍ تَمْرًا فَأَحْصَيْنَاهُ. لَا وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ مَا أَحْصَيْنَا مِنْهُ إِلَّا مَا نَأْكُلُهُ فِي بُطُونِنَا أَوْ نُطْعِمُهُ مِسْكِينًا، وَجِئْنَا نَسْتَوْضِعُهُ مَا نَقَصْنَا الْحَدِيثَ، فَظَهَرَ بِهَذَا تَرْجِيحُ ثَانِي الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلُ، وَأَنَّ الْمُخَاصَمَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْمُتَخَاصِمَيْنِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ فَفِيهِ بُعْدٌ لِتَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ، وَعُرِفَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَصْلُ الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ الْمُتَأَلِّي) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، أَيِ: الْحَالِفُ الْمُبَالِغُ فِي الْيَمِينِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَلِيَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ: آلَى أَنْ لَا يَصْنَعَ خَيْرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ صَاحِبَ التَّمْرِ.

قَوْلُهُ: (فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبُّ) أَيْ مِنَ الْوَضْعِ أَوِ الرِّفْقِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ وَضَعْتُ مَا نَقَصُوا وإِنْ شِئْتَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَوَضَعَ مَا نَقَصُوا وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَضْعِ الْحَطُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَبِالرِّفْقِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَتَرْكُ الزِّيَادَةِ، لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالرِّفْقِ الْإِمْهَالَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالْغَرِيمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ بِالْوَضْعِ عَنْهُ، وَالزَّجْرُ عَنِ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ الْخَيْرِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ أَمْرٍ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ وُقُوعَهُ، وَعَنِ الْمُهَلَّبِ نَحْوُهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُرِهَ الْحَلِفُ لِمَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ خَيْرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كُرِهَ لَهُ قَطْعُ نَفْسِهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، قَالَ: وَيُشْكِلُ فِي هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ حَلِفَهُ عَلَى

ص: 308

تَرْكِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ كَانَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِمَالَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِيهِ فَكَانَ يَحْرِصُ عَلَى تَرْكِ تَحْرِيضِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ نَوْعُ مَشَقَّةٍ مَهْمَا أَمْكَنَ، بِخِلَافِ مَنْ تَمَكَّنَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَحُضُّهُ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ.

وَفِيهِ سُرْعَةُ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِمُرَادِ الشَّارِعِ، وَطَوَاعِيَتُهُمْ لِمَا يُشِيرُ بِهِ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ الصَّفْحُ عَمَّا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مِنَ اللَّغَطِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الْمَدِينِ الْحَطِيطَةَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاعْتَلَّ بِمَا فِيهِ مِنْ تَحَمُّلِ الْمِنَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ مَنْ أَطْلَقَ كَرَاهَتَهُ أَرَادَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَفِيهِ هِبَةُ الْمَجْهُولِ، كَذَا قَالَ ابْنُ التِّينِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) تَقَدَّمَ حَدِيثُ كَعْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَّلِ الْمُلَازَمَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ التَّقَاضِي وَالْمُلَازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَأَفَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمَذْكُورَ كَانَ أُوقِيَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِقَوْلِ النَّاسِ: خَيْرُ الصُّلْحِ عَلَى الشَّطْرِ.

‌11 - بَاب فَضْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ

2707 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ.

[الحديث 2707 - طرفاه في: 2891، 2989]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَأْتِي فِي الْجِهَادِ.

وَوَقَعَ هُنَا فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، إِلَّا عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَوَقَعَ فِي الْجِهَادِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، وَالْآخَرُ: إِسْحَاقُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ. وَسِيَاقُ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِ إِسْحَاقَ الْآخَرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وقَوْلُهُ: سُلَامَى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مَعَ الْقَصْرِ أَيْ مَفْصِلٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ وَأَنَّ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلًا، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَالْعَدْلِ وَلَمْ يُورِدْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا الْعَدْلَ، لَكِنْ لَمَّا خَاطَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْعَدْلِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمُ الْحُكَّامَ وَغَيْرَهُمْ كَانَ عَدْلُ الْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ، وَعَدْلُ غَيْرِهِ إِذَا أَصْلَحَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْإِصْلَاحُ نَوْعٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَعَطْفُ الْعَدْلِ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.

‌12 - بَاب إِذَا أَشَارَ الْإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى، حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ

2708 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ. فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ. فَاسْتَوْعَى

ص: 309

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلْزُّبَيْرِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ سَعَةٍ لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْعَى لِلْزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَشَارَ الْإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى) أَيْ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ (حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ) أَوْرَدَ فِيهِ قِصَّةَ الزُّبَيْرِ مَعَ غَرِيمِهِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي خَاصَمَهُ فِي سَقْيِ النَّخْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشِّرْبِ.

وقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَحْفَظَهُ - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ - أَيْ أَغْضَبَهُ، وَزَعَمَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْخَبَرِ.

‌13 - بَاب الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ، وَالْمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ،

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا وَهَذَا عَيْنًا فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ

2709 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ فَأَبَوْا، وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا جَدَدْتَهُ فَوَضَعْتَهُ فِي الْمِرْبَدِ آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ: ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَرفِهِمْ، فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ إِلَّا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا: سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ، أَوْ سِتَّةٌ عَجْوَةٌ وَسَبْعَةٌ لَوْنٌ، فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَضَحِكَ فَقَالَ: ائْتِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَأَخْبِرْهُمَا، فَقَالَا: لَقَدْ عَلِمْنَا إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ.

وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا بَكْرٍ وَلَا ضَحِكَ، وَقَالَ: وَتَرَكَ أَبِي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا دَيْنًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: صَلَاةَ الظُّهْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُجَازَفَةَ فِي الِاعْتِيَاضِ عَنِ الدَّيْنِ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَأَقَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ إِذْ لَا مُقَابَلَةَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوَالَةِ، وحَدِيثُ جَابِرٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَفَضَلَ بِفَتْحِ

ص: 310

الْمُعْجَمَةِ، وَضُبِطَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بِكَسْرِهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ نَادِرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) أَيِ ابْنُ عُرْوَةَ (عَنْ وَهْبٍ) أَيِ ابْنِ كَيْسَانَ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ هَذِهِ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الِاسْتِقْرَاضِ. وَقَوْلُهُ:(وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ صَلَاةَ الظُّهْرِ) أَيْ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ كَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الَّتِي حَضَرَهَا جَابِرٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَعْلَمَهُ بِقِصَّتِهِ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الظُّهْرَ، وَقَالَ هِشَامٌ: الْعَصْرَ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: الْمَغْرِبَ، وَالثَّلَاثَةُ رَوَوْهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا وَقَعَ مِنْ بَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّمْرِ وَقَدْ حَصَلَ تَوَافُقُهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا كَبِيرُ مَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَسِتَّةٌ لَوْنٌ اللَّوْنُ مَا عَدَا الْعَجْوَةَ، وَقِيلَ: هُوَ الدَّقَلُ، وَهُوَ الرَّدِيءُ، وَقِيلَ: اللَّوْنُ: اللِّينُ وَاللِّينَةُ، وَقِيلَ: الْأَخْلَاطُ مِنَ التَّمْرِ، وَسَيَأْتِي اللِّينَةُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَأَنَّهُ اسْمٌ لِلنَّخْلَةِ.

‌14 - بَاب الصُّلْحِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ

2710 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، ح، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَاقْضِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّلْحِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقِصَّتَهُ مَعَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ لَيْسَ فِيهِ مَا تَرْجَمَ بِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ الصُّلْحَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ، وَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ الصُّلْحَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَالَحَ غَرِيمَهُ عَنْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَقَلَّ مِنْهَا جَازَ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، فَإِذَا لَمْ يَحِلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مَكَانَهُ، وَإِنْ صَالَحَهُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَنْ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ عَنْ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ جَازَ وَاشْتُرِطَ الْقَبْضُ اهـ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَلِلَّيْثِ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ تَقَدَّمَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الصُّلْحِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي فَضْلِ الْحَسَنِ، وَحَدِيثِ عَوْفٍ، وَالْمِسْوَرِ الْمُعَلَّقَيْنِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آثَارٍ.

ص: 311

بسم الله الرحمن الرحيم

‌54 - كِتَاب الشُّرُوطِ

‌1 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْمُبَايَعَةِ

2711، 2712 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ - إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلَّا ذَلِكَ فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا. وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ - وَهِيَ عَاتِقٌ - فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ؛ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .

2713 -

قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} - إِلَى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ بَايَعْتُكِ، كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ.

[الحديث 2713 - أطرافه في: 2733، 4182، 4891، 5288، 7214]

2714 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا رضي الله عنه يَقُولُ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

2715 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَط كِتَابُ الشُّرُوطِ لِغَيْرِهِ.

وَالشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بَيَانُ

ص: 312

مَا يَصِحُّ مِنْهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ.

وَقَوْلُهُ: فِي الْإِسْلَامِ أَيْ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَيَجُوزُ مَثَلًا أَنْ يَشْتَرِطَ الْكَافِرُ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ لَا يُكَلَّفُ بِالسَّفَرِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مَثَلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ مَثَلًا.

وَقَوْلُهُ: وَالْأَحْكَامِ أَيِ الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ.

وَقَوْلُهُ: وَالْمُبَايَعَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.

قَوْلُهُ: (يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا قَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَاقْتَصَرَ غَيْرُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ أَنَّهُ عَنْهُمَا مُرْسَلٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَحْضُرَا الْقِصَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُصِبْ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ الْمِسْوَرِ أَوْ مَرْوَانَ، لِأَنَّ مَرْوَانَ لَا يَصِحُّ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا صُحْبَةٌ، وَأَمَّا الْمِسْوَرُ فَصَحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ بَعْدَ الْفَتْحِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو) هَكَذَا اقْتَضَبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِطُولِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

وَقَوْلُهُ: فَامْتَعَضُوا بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ أَنِفُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، قَالَ الْخَلِيلُ: مَعِضَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الشَّيْءِ وَامْتَعَضَ: تَوَجَّعَ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: شَقَّ عَلَيْهِ وَأَنِفَ مِنْهُ. وَوَقَعَ مِنَ الرُّوَاةِ اخْتِلَافٌ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا هُنَا، وَالْأَصِيلِيُّ، وَالْهَمْذانِيُّ بِظَاءٍ مُشَالَةٍ، وَعِنْدَ الْقَابِسِيِّ امَّعَضُوا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَكَذَا الْعَبْدُوسِيُّ، وَعَنِ النَّسَفِيِّ انْغَضُّوا بِنُونٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَضَادٍ غَيْرِ مُشَالَةٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَكُلُّهَا تَغْيِيرَاتٌ، حَتَّى وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِهِمُ انْفَضُّوا بِفَاءٍ وَتَشْدِيدٍ، وَبَعْضُهُمْ أَغْيَظُوا مِنَ الْغَيْظِ.

وَقَوْلُهُ: قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ.

‌2 - باب إِذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ

2716 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَمْ يَشْتَرِطِ الثَّمَنَ أَيِ الْمُشْتَرِي، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ الشَّرْطِ اكْتِفَاءً بِمَا فِي الْخَبَرِ.

‌3 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْبُيُوعِ

2717 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ لَنَا وَلَاؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.

ص: 313

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبُيُوعِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ التَّرْجَمَةَ لِلتَّفْصِيلِ فِي اعْتِبَارِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

‌4 - بَاب إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ

2718 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأوقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي. فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأَرْسَلَ عَلَى أثرِي قَالَ: مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ.

قَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ: فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: ولَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ: شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ: وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ. وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ. قال أبو عبد الله: الاشتراط أكثر وأصح عندي. وقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأوقِيَّةٍ. وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ: أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ. وَهَذَا يَكُونُ أوقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: أوقِيَّةُ ذَهَبٍ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ. وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا. وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ: بأوقِيَّةٍ أَكْثَرُ الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ) هَكَذَا جَزَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ لِصِحَّةِ دَلِيلِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ وَفِيمَا يُشْبِهُهُ كَاشْتِرَاطِ سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَطَائِفَةٌ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَتَنَزَّلُ فِيهِ الشَّرْطُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ إِذَا كَانَ قَدْرُهُ مَعْلُومًا صَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ إِلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا مَثَلًا، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَقِيلَ حَدُّهُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ الْبَابِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ الِاشْتِرَاطَ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ كَلَامِهِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ أَلْفَاظَهُ اخْتَلَفَتْ: فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ الشَّرْطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ

ص: 314

ذَكَرَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَطْرُقُهَا الِاحْتِمَالُ.

وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ فَفِيهِ بُطْلَانُ الشَّرْطِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي آخِرِ الْعِتْقِ، وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الثُّنَيَّا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ; وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِي يُنَافِي مَقْصُودَ الْبَيْعِ مَا إِذَا اشْتَرَطَ مَثَلًا فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَفِي الدَّارِ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَفِي الْعَبْدِ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهُ وَفِي الدَّابَّةِ أَنْ لَا يَرْكَبَهَا، أَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ شَيْئًا مَعْلُومًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الثُّنَيَّا فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ عَمَّا كَانَ مَجْهُولًا، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِذَلِكَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَامِرًا) هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا) أَيْ تَعِبَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ فَأَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ أَيْ يُطْلِقَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَجْعَلَهُ سَائِبَةً لَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ، فَفِي أَوَّلِ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الْجِهَادِ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاحَقَ بِي، وَتَحْتِي نَاضِحٌ لِي قَدْ أَعْيَا فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ وَالنَّاضِحُ بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِنَضْحِهِ بِالْمَاءِ حَالَ سَقْيِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الْجَمَلَ كَانَ أَحْمَرَ.

قَوْلُهُ: (فَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ فَدَعَا لَهُ) كَذَا فِيهِ بِالْفَاءِ فِيهِمَا كَأَنَّهُ عَقَّبَ الدُّعَاءَ لَهُ بِضَرْبِهِ. وَلِمُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَدَعَا لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا لَهُ فَمَشَى مِشْيَةً مَا مَشَى قَبْلَ ذَلِكَ مِثْلَهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْوَكَالَةِ: فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي عَلَى جَمَلٍ ثَقالٍ. فَقَالَ: أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: أَعْطِنِيهِ، فَأَعْطَيْتُهُ فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَأَزْحَفَ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَانْبَسَطَ حَتَّى كَانَ أَمَامَ الْجَيْشِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْبُيُوعِ: فَتَخَلَّفَ. فَنَزَلَ فَحَجَنَهُ بِمِحْجَنَه ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا، قَالَ: أَنِخْهُ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا - أَوِ اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ - فَفَعَلْتُ، فَأَخَذَهَا فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، فَقَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ: فَأَبْطَأَ عَلَيَّ حَتَّى ذَهَبَ النَّاسُ، فَجَعَلْتُ أَرْقُبُهُ وَيُهِمُّنِي شَأْنُهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَجَابِرٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي، فَنَفَثَ فِيهَا - أَيِ الْعَصَا - ثُمَّ بح مِنَ الْمَاءِ فِي نَحْرِهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالْعَصَا فَوَثَبَ. وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَنَضَحَ مَاءً فِي وَجْهِهِ وَدُبُرِهِ وَضَرَبَهُ بِعُصَيَّةٍ فَانْبَعَثَ، فَمَا كِدْتُ أُمْسِكُهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَكُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْبِسُ خِطَامَهُ لِأَسْمَعَ حَدِيثَهُ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: فَنَخَسَهُ ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ بِاسْمِ اللَّهِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ، قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ: قُلْتُ: لَا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: فَكَرِهْتُ أَنْ أَبِيعَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ أَتَبِيعُنِيهِ؟ فَاسْتَحْيَيْتُ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكَانَتْ لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ نُبَيْحٍ وَهُوَ بِالنُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ قَالَ: بِعْنِيهِ، قُلْتُ: بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بِعْنِيهِ، زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ

ص: 315

لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: فَقَالَ: أَتَبِيعُ نَاضِحَكَ هَذَا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ؟، زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكَانَتْ كَلِمَةً تَقُولُهَا الْعَرَبُ: افْعَلْ كَذَا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ. وَلِأَحْمَدَ قَالَ سُلَيْمَانُ - يَعْنِي بَعْضَ رُوَاتِهِ - فَلَا أَدْرِي كَمْ مِنْ مَرَّةٍ يَعْنِي قَالَ لَهُ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْبَعِيرِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: بَلْ أَهَبُهُ لَكَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ رَدٌّ لِقَوْلِ ابْنِ التِّينِ إِنَّ قَوْلَهُ: لَا لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَ بِعْنِيهِ، قُلْتُ: هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَلِابْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيَّ قُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ هُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: نَعَمْ، وَالْوُقِيَّةُ مِنَ الْفِضَّةِ كَانَتْ فِي عُرْفِ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَفِي عُرْفِ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي عُرْفِ أَهْلِ مِصْرَ الْيَوْمَ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي) الْحُمْلَانُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الْحَمْلُ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَثْنَيْتُ حَمْلَهُ إِيَّايَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ وَاسْتَثْنَيْتُ ظَهْرَهُ إِلَى أَنْ نُقْدِمَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ مُغِيرَةَ: اشْتَرَى مِنِّي بَعِيرًا عَلَى أَنْ يُفْقِرَنِي ظَهْرَهُ سَفَرِي ذَلِكَ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الِاخْتِلَافَ فِي أَلْفَاظِهِ عَلَى جَابِرٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا) زَادَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ كَمَا مَضَى فِي الِاسْتِقْرَاضِ: فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ اسْتَأْذَنْتُهُ فَقَالَ: تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَادَ فِيهِ: فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِ الْجَمَلِ فَلَامَنِي. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ نُبَيْحٍ الْمَذْكُورَةِ: فَأَتَيْتُ عَمَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَقُلْتُ لَهَا: أَلَمْ تَرَيْ أَنِّي بِعْتُ نَاضِحَنَا، فَمَا رَأَيْتُهَا أَعْجَبَهَا ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي بَيَانِ تَسْمِيَةِ خَالِهِ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَزَمَ ابْنُ لُقَطَةَ بِأَنَّهُ جَدٌّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ ابْنُ قَيْسٍ، وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَاسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ عَمْرٍو، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَمْ يُعْجِبْهُمَا بَيْعُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَاضِحٌ غَيْرِهِ.

وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ: ائْتِ أَهْلَكَ، فَتَقَدَّمْتِ النَّاسُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَيْسَانَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ قَبْلِي، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ فَجِئْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ فَقَالَ: الْآنَ قَدِمْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعِ الْجَمَلَ وَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَظَاهِرُهُمَا التَّنَاقُضُ، لِأَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ قَبْلَهُ، فَيَحْتَمِلُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ أَنْ يَسْتَمِرَّ سَبْقُهُ لَهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا لَحِقُوهُ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُمْ إِمَّا لِنُزُولِهِ لِرَاحَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لَا يَدْخُلَ لَيْلًا فَبَاتَ دُونَ الْمَدِينَةِ وَاسْتَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ دَخَلَهَا سَحَرًا وَلَمْ يَدْخُلْهَا جَابِرٌ حَتَّى طَلَعَ النَّهَارُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ) فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ وَلِأَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ: فَدَخَلْتُ - يَعْنِي الْمَسْجِدَ - إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ: جَمَلُنَا، فَبَعَثَ إِلَيَّ أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْفَيْتَ الثَّمَنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (وَنَقَدَنِي ثَمَنُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ) فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ: فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ، وَفِي رِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ فِي الْجِهَادِ: فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ، وَهِيَ كُلُّهَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ لَهُ بِوَاسِطَةِ بِلَالٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قَالَ لِبِلَالٍ: أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِدْهُ، قَالَ: فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَزَادَنِي قِيرَاطًا، فَقُلْتُ: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثَ، وَفِيهِ ذِكْرُ أَخْذِ أَهْلِ الشَّامِ لَهُ

ص: 316

يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَتَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي الْوَكَالَةِ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَنْمِي وَيَزِيدُ عِنْدَنَا وَترَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَعْطِهِ ثَمَنَهُ، فَلَمَّا أَدْبَرْتُ دَعَانِي فَخِفْتُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيَّ فَقَالَ: هُوَ لَكَ وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فِي النِّكَاحِ: فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَزِنَ لِي أُوقِيَّةً فَوَزَنَ بِلَالٌ وَأَرْجَحَ لِي فِي الْمِيزَانِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ فَقَالَ: ادْعُ جَابِرًا، فَقُلْتُ: الْآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، فَقَالَ: خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ: وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ، وَقَوْلِهِ: وَكَانَتْ لِي إِلَيْهِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَمَعَ تَنْدِيمِ خَالِهِ لَهُ عَلَى بَيْعِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ، وَكَانَ الثَّمَنُ أَوْفَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَعَرَفَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ أَحْسَنَ مِنْهُ وَيَبْقَى لَهُ بَعْضُ الثَّمَنِ فَلِذَلِكَ صَارَ يَكْرَهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُبَيْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: فَلَمَّا أَتَيْتُهُ دَفَعَ إِلَيَّ الْبَعِيرَ وَقَالَ: هُوَ لَكَ، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَجَعَلَ يَعْجَبُ وَيَقُولُ: اشْتَرَى مِنْكَ الْبَعِيرَ وَدَفَعَ إِلَيْكَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ لَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: أَتُرَانِي إِنَّمَا مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ هُمَا لَكَ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَهُوَ لَكَ، وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ زَكَرِيَّا بِلَفْظِ: قَالَ: أَظَنَنْتَ حِينَ مَاكَسْتُكَ أَذْهَبُ بِجَمَلِكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَثَمَنَهُ فَهُمَا لَكَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ تُوَضِّحُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِآخُذَ لِلتَّعْلِيلِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ كَمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ لَا بِصِيغَةِ النَّفْيِ، وخُذْه بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: خُذْ جَمَلَكَ. وَقَوْلُهُ: مَاكَسْتُكَ هُوَ مِنَ الْمُمَاكَسَةِ أَيِ الْمُنَاقَصَةِ فِي الثَّمَنِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُسَاوَمَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّكَرُّمِ، لِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا فَهُوَ فِي الْغَالِبِ مُحْتَاجٌ لِثَمَنِهِ، فَإِذَا تَعَوَّضَ مِنَ الثَّمَنِ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَبِيعِ أَسَفٌ عَلَى فِرَاقِهِ كَمَا قِيلَ:

وَقَدْ تُخْرِجُ الْحَاجَاتُ يَا أُمَّ مَالِكٍ

نَفَائِسَ مِنْ رَبٍّ بِهِنَّ ضَنِينُ

فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعُ مَعَ ثَمَنِهِ ذَهَبَ الْهَمُّ عَنْهُ وَثَبَتَ فَرَحُهُ وَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ، فَكَيْفَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ) أَيِ ابْنِ مِقْسَمٍ الضَّبِّيِّ (عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ (عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرَنِي ظَهْرُهُ) بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ عَلَى الْقَافِ أَيْ حَمَلَنِي عَلَى فَقَارِهِ، وَالْفَقَارُ عِظَامُ الظَّهْرِ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْحَاقُ) أَيِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ (عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ: فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَأْتِي مَوْصُولَةً فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الِاشْتِرَاطِ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ قَالَ فِيهِ: قَالَ: بِعْنِيهِ وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَقْدَمَ وَوَافَقَ زَكَرِيَّا عَلَى ذِكْرِ الِاشْتِرَاطِ فِيهِ يَسَارٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: فَاشْتَرَى مِنِّي بَعِيرًا عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ حَتَّى أَقَدَمَ الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ) أَيْ عَنْ جَابِرٍ (وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي الْوَكَالَةِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: بِعْنِيهِ، قُلْتُ: هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ

ص: 317

فِيهَا أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى الِاشْتِرَاطِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ: شَرَطَ لِي ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ وَشَرَطْتُهُ - أَيْ رُكُوبَهُ - إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ: وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ، قُلْتُ: عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا وَقَدْ أَعَرْتُكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ (عَنْ جَابِرٍ تَبَلَّغَ بِهِ إِلَى أَهْلِكَ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَهَذَا لَفْظُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَلَفْظُ ابْنِ سَعْدٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ: تَبَلَّغَ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَتَبَلَّغَ عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، ارْكَبْهُ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَائْتِنَا بِهِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ: (الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي) أَيْ أَكْثَرُ طُرُقًا وَأَصَحُّ مَخْرَجًا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا عَنْ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هَلْ وَقَعَ الشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ كَانَ رُكُوبُهُ لِلْجَمَلِ بَعْدَ بَيْعِهِ إِبَاحَةً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ شِرَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَارِيَّةِ، وَأَصْرَحُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ فِيهَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادٌ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ مِنْ سُفْيَانَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرُوهُ بِصِيغَةِ الِاشْتِرَاطِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَيَكُونُ أَصَحَّ، وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِأَنَّ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِصِيغَةِ الِاشْتِرَاطِ مَعَهُمْ زِيَادَةٌ وَهُمَا حُفَّاظٌ فَتَكُونُ حُجَّةً، وَلَيْسَت رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ الِاشْتِرَاطَ مُنَافِيَةً لِرِوَايَةِ مَنْ ذَكَرَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكَ ظَهْرُهُ وَأَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ وَتَبَلَّغَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الِاشْتِرَاطِ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ بِمَعْنَى الِاشْتِرَاطِ أَيْضًا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلَفْظُهُ: فَبِعْنِي وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرْطِ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أقْدَمْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُبَيْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: فَاشْتَرَى مِنِّي بَعِيرًا فَجَعَلَ لِي ظَهْرَهُ حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ نَاضِحُكَ إِذَا أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ.

وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ، نُبَيْحٌ الْعَنَزِيُّ عِنْدَ أَحْمَدَ فَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرْطَ وَلَفْظُهُ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، قَالَ: فَنَزَلْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: جَمَلُكَ. قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرْطَ قَالَ فِيهِ: حَتَّى بَلَغَ أُوقِيَّةً، قُلْتُ: قَدْ رَضِيتُ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَّجْتَ الْحَدِيثَ.

وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الِاشْتِرَاطِ هُوَ الْجَارِي عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْ تَصْحِيحِ الْمَتْنِ إِذَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ إِلَّا إِذَا تَكَافَأَتِ الرِّوَايَاتُ، وَهُوَ شَرْطُ الِاضْطِرَابِ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ الْخَبَرُ، وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا مَعَ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ وَكَانَتِ الْحُجَّةُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ تَوَقَّفَ الِاحْتِجَاجُ بِشَرْطِ تَعَادُلِ الرِّوَايَاتِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ لِبَعْضِهَا بِأَنْ تَكُونَ رُوَاتُهَا أَكْثَرَ عَدَدًا أَوْ أَتْقَنَ حِفْظًا فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ، إِذِ الْأَضْعَفُ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِالْأَقْوَى، وَالْمَرْجُوحُ لَا يَمْنَعُ التَّمَسُّكَ بِالرَّاجِحِ، وَقَدْ جَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى تَصْحِيحِ الِاشْتِرَاطِ لَكِنْ

ص: 318

تَأَوَّلَهُ بِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ إِلَخْ قَالَ: فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُتَقَدِّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّبَايُعِ حَقِيقَةً، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَحْرِيفٌ لَا تَأْوِيلٌ، قَالَ: وَكَيْفَ يَصْنَعُ قَائِلُهُ فِي قَوْلِهِ: بِعْتُهُ مِنْكَ بِأُوقِيَّةٍ بَعْدَ الْمُسَاوَمَةِ؟ وَقَوْلِهِ: قَدْ أَخَذْتُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَنْصُوصَةِ فِي ذَلِكَ؟ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الرُّكُوبَ إِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَا قَدْ مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكِ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا مَلَكَهَا لِأَنَّهَا طَرَأَتْ فِي مِلْكِهِ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَذْكُورَةَ قُدِّرَتْ بِقَدْرٍ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَوَقَعَ الْبَيْعُ بِمَا عَدَاهَا، وَنَظِيرُهُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ وَاسْتَثْنَى ثَمَرَتَهَا، وَالْمُمْتَنِعُ إِنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ عَلِمَاهُ مَعًا فَلَا مَانِعَ، فَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ لِأَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ مُخَيَّرٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِرِهِ: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اخْتَارَ تَرْكَ الْأَخْذِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ لِجَابِرٍ رُكُوبَ جَمَلِ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا التَّأْوِيلِ مِنَ التَّكَلُّفِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَكَ ظَهْرُهُ وَعْدٌ قَامَ مَقَامَ الشَّرْطِ لِأَنَّ وَعْدَهُ لَا خُلْفَ فِيهِ وَهِبَتَهُ لَا رُجُوعَ فِيهَا لِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ، لِذَلِكَ سَاغَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا وَقَعَ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا، فَتَبَرَّعَ بِمَنْفَعَة أَوَّلًا كَمَا تَبَرَّعَ بِرَقَبَتِهِ آخِرًا. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ: فَلَمَّا نَقَدَنِي الثَّمَنَ شَرَطْتُ حُمْلَانِي إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ تَأَخَّرَ عَنِ الْعَقْدِ، لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى نَقَدَنِي الثَّمَنَ أَيْ قَرَّرَهُ لِي وَاتَّفَقَا عَلَى تَعْيِينِهِ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ قَبْضَهُ الثَّمَنَ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا إِذَا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ بِدِينَارٍ؟ الْحَدِيثَ، فَالْمَعْنَى أَتَبِيعُنِي بِدِينَارٍ أُوفِيكَهُ إِذَا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: يَنْبَغِي تَأْوِيلُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ ذِكْرِ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطُ تَفَضُّلٍ لَا شَرْطٌ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ وَأَعَرْتُكَ ظَهْرَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقِصَّةَ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ وَالرِّفْقِ بِجَابِرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ جَابِرٍ: هُوَ لَكَ، قَالَ: لَا بَلْ بِعْنِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِثَمَنٍ رِفْقًا بِهِ، وَسَبَقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى نَحْوِ هَذَا، وَزَعَمَ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَبَرَّ جَابِرًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ طَمَعٌ فِي مِثْلِهِ فَبَايَعَهُ فِي جَمَلِهِ عَلَى اسْمِ الْبَيْعِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَيَبْقَى الْبَعِيرُ قَائِمًا عَلَى مِلْكِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَهْنَأَ لِمَعْرُوفِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَمْرُهُ بِلَالًا أَنْ يَزِيدَهُ عَلَى الثَّمَنِ زِيَادَةً مُبهِمَّةً فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ زِيَادَةَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِهِ تَأْمِيلٌ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ لَكَانَ الْحَالُ بَاقِيًا فِي التَّأْمِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ رَدِّهِ عَلَيْهِ الْبَعِيرَ الْمَذْكُورَ وَالثَّمَنَ مَعًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَالَةَ السَّفَرِ غَالِبًا تَقْتَضِي قِلَّةَ الشَّيْءِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضَرِ فَلَا مُبَالَاةَ عِنْدَ التَّوْسِعَةِ مِنْ طَمَعِ الْآمِلِ. وَأَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي نَظَرِي مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ أَنَّهُ وَعْدٌ حَلَّ مَحَلَّ الشَّرْطِ.

وَأَبْدَى السُّهَيْلِيُّ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ مُنَاسَبَةً لَطِيفَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، مُلَخَّصُهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ جَابِرًا بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ بِأُحُدٍ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَقَالَ: مَا تَشْتَهِي فَأَزِيدُكَ أَكَّدَ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ بِمَا يَشْتَهِيهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْجَمَلَ وَهُوَ مَطِيَّتُهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ وَفَّرَ عَلَيْهِ الْجَمَلَ وَالثَّمَنَ وَزَادَهُ عَلَى الثَّمَنِ، كَمَا اشْتَرَى اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ بِثَمَنٍ هُوَ الْجَنَّةُ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَزَادَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ

ص: 319

الْعُمَرِيُّ (وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبٍ) أَيِ ابْنِ كَيْسَانَ (عَنْ جَابِرٍ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُوقِيَّةٍ) وَطَرِيقُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ مُطَوَّلَةً وَفِيهَا: قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ، قُلْتُ: إِذًا تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ، قُلْتُ: لَا، فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي حَتَّى بَلَغَ أُوقِيَّةً الْحَدِيثَ، وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْبُيُوعِ وَلَفْظُهُ قَالَ: أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ) أَيْ فِي ذِكْرِ الْأُوقِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ: أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَكَالَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا يَكُونُ أُوقِيَّةً عَلَى حِسَابِ: الدِّينَارُ بِعَشَرَةٍ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ قَصَدَ بِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُوقِيَّةِ أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَقَوْلُهُ: الدِّينَارُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: بِعَشَرَةٍ خَبَرُهُ، أَيْ دِينَارُ ذَهَبٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ، ونَسَبَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ لَا فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ) ابْنُ الْمُنْكَدِرِ مَعْطُوفٌ عَلَى مُغِيرَةَ، وَأَرَادَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يُعَيِّنُوا الثَّمَنَ فِي رِوَايَتِهِمْ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مُغِيرَةَ فَتَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَتَأْتِي مُطَوَّلَةً فِي الْجِهَادِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الثَّمَنِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنْ يَسَارٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رِوَايَتِهِ الثَّمَنَ. أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَسَارٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يُعَيِّنِ الثَّمَنَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا. وَأَمَّا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ فَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ التَّعْيِينُ أَيْضًا. وَأَمَّا أَبُو الزُّبَيْرِ فَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يُعَيِّنِ الثَّمَنَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَعَيَّنَ الثَّمَنَ وَلَفْظُهُ: فَبِعْتُهُ مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ، قُلْتُ: عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَقَالَ فِيهِ: أَخَذْتُهُ مِنْكَ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ (عَنْ جَابِرٍ: أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا هَكَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ صَحِيحَةٍ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِوُقِيَّةٍ وَلَمْ يَصِفْهَا، لَكِنْ مَنْ وَصَفَهَا حَافِظٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ (عَنْ جَابِرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسَبُهُ قَالَ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ). أَمَّا رِوَايَةُ أَبِي إِسْحَاقَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهَا، وَلَمْ تَخْتَلِفْ نُسَخُ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ أَصْلًا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَتَصَحَّفَتْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ فَجَزَمَ بِزَمَانِ الْقِصَّةِ وَشَكَّ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَأَمَّا جَزْمُهُ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي طَرِيقِ تَبُوكَ فَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجَابِرٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ فَقَالَ: فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، وَكَذَا أَبْهَمَهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ جَابِرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُنْتُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ فِي الْجِهَادِ لَا أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ كَانَ فِي غَزْوَةٍ قَوْلُهُ فِي آخِرِ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ: فَأَعْطَانِي الْجَمَلَ وَثَمَنَهُ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فِي رِوَايَتِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَبْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَهِيَ الرَّاجِحَةُ فِي نَظَرِي لِأَنَّ أَهْلَ الْمَغَازِي أَضْبَطُ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ

ص: 320

ذَلِكَ وَقَعَ فِي رُجُوعِهِمْ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتْ طَرِيقُ تَبُوكَ مُلَاقِيَةً لِطَرِيقِ مَكَّةَ بِخِلَافِ طَرِيقِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ اعْتِذَارُهُ بِتَزَوُّجِهِ الثَّيِّبَ بِأَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَتَرَكَ أَخَوَاتِهِ فَتَزَوَّجَ ثَيِّبًا لِتُمَشِّطُهُم وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَيَكُونُ وُقُوعُ الْقِصَّةِ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ أَظْهَرَ مِنْ وُقُوعِهَا فِي تَبُوكَ، لِأَنَّ ذَاتَ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَتَبُوكُ كَانَتْ بَعْدَهَا بِسَبْعِ سِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَا جَرَمَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا) وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي دِينَارًا دِينَارًا حَتَّى بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ فَأَبْهَمَ الثَّمَنَ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ بِأُوقِيَّةٍ أَكْثَرُ) أَيْ مُوَافَقَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْحَاصِلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أُوقِيَّةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَهِيَ لَا تُخَالِفُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُوقِيَّةُ ذَهَبٍ وَأَرْبَعُ أَوَاقٍ وَخَمْسُ أَوَاقٍ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَعِشْرُونَ دِينَارًا هَذَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ; وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَقَدْ جَمَعَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: سَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ رَوَوْا بِالْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ، وَالْأَرْبَعُ أَوَاقٍ وَالْخَمْسُ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْأُوقِيَّةِ الذَّهَبِ، وَالْأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ مَعَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا مَحْمُولَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ: وَكَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْفِضَّةِ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَبِالذَّهَبِ عَمَّا حَصَلَ بِهِ الْوَفَاءُ أَوْ بِالْعَكْسِ اهـ مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ فيه أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ مَنْ أَطْلَقَ، وَمَنْ قَالَ: خَمْسُ أَوَاقٍ أَوْ أَرْبَعٌ أَرَادَ مِنْ فِضَّةٍ وَقِيمَتُهَا يَوْمَئِذٍ أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ مَا وَقَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأُوقِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي ثَمَنِ الْجَمَلِ اخْتِلَافًا لَا يَقْبَلُ التَّلْفِيقَ، وَتَكَلُّفُ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ وَلَا اسْتَقَامَ ضَبْطُهُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ بَاعَهُ الْبَعِيرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمَا وَزَادَهُ عِنْدَ الْوَفَاءِ زِيَادَةً مَعْلُومَةً، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْعِلْمِ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ بِضَارٍّ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سَبَقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِهِ بَيَانُ كَرَمِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَوَاضُعِهِ وَحُنُوِّهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَهَمِ بَعْضِهِمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ تَوْهِينُهُ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّرْجِيحِ أَقْعَدُ، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى التَّحْقِيقِ أَسْعَدُ، فَلْيُعْتَمَدْ ذَلِكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ لِلْبَيْعِ، وَالْمُمَاكَسَةُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، وَابْتِدَاءُ الْمُشْتَرِي بِذِكْرِ الثَّمَنِ، وَأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَأَنَّ إِجَابَةَ الْكَبِيرِ بِقَوْلِ: لَا جَائِزٌ فِي الْأَمْرِ الْجَائِزِ، وَالتَّحَدُّثُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْإِتْيَانِ بِالْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا لَا عَلَى وَجْهِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِرَادَةِ الْفَخْرِ.

وَفِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ وَالْكَبِيرِ لِأَصْحَابِهِ وَسُؤَالُهُ عَمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ، وَإِعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ حَالٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دُعَاءٍ، وَتَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم.

وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ فَرْطِ تَعَبٍ وَإِعْيَاءٍ.

وَفِيهِ تَوْقِيرُ التَّابِعِ لِرَئِيسِهِ.

وَفِيهِ الْوَكَالَةُ فِي وَفَاءِ الدُّيُونِ، وَالْوَزْنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ.

وَفِيهِ رَدُّ الْعَطِيَّةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِقَوْلِ جَابِرٍ: هُوَ لَكَ، قَالَ: لَا بَلْ بِعْنِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِدْخَالِ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ إِلَى رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَحَوَالَيْهِ، وَاسْتُدِلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَلَا حُجَّةَ

ص: 321

فِيهِ.

وَفِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا يُتَبَرَّكُ بِهِ لِقَوْلِ جَابِرٍ: لَا تُفَارِقُنِي الزِّيَادَةُ.

وَفِيهِ جَوَازُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَالرُّجْحَانِ فِي الْوَزْنِ لَكِنْ بِرِضَى الْمَالِكِ، وَهِيَ هِبَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ حَتَّى لَوْ رُدَّتِ السِّلْعَةُ بِعَيْبٍ مَثَلًا لَمْ يَجِبْ رَدُّهَا، أَوْ هِيَ تَابِعَةٌ لِلثَّمَنِ حَتَّى تُرَدَّ، فِيهِ احْتِمَالٌ.

وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِجَابِرٍ حَيْثُ تَرَكَ حَظَّ نَفْسَهُ وَامْتَثَلَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِبَيْعِ جَمَلِهِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ.

وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَوَازُ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَنْ كَانَ مَالِكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإِيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ، لِقَوْلِهِ فِيهِ: قَالَ: بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةً. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ عَدَمَ الذِّكْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْوَكَالَةِ قَالَ: بِعْنِيهِ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَهَذَا فِيهِ الْقَبُولُ، وَلَا إِيجَابَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ الْآتِيَةِ فِي الْجِهَادِ قَالَ: بَلْ بِعْنِيهِ، قُلْتُ: لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ فَفِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَعًا. وَأَبْيَنُ مِنْهَا رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ قُلْتُ: قَدْ رَضِيتُ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ.

(تَكْمِيلٌ): آلَ أَمْرُ جَمَلِ جَابِرٍ هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَآلٍ حَسَنٍ، فَرَأَيْتُ فِي تَرْجَمَةِ جَابِرٍ مِنْ تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَأَقَامَ الْجَمَلَ عِنْدِي زَمَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَعَجَزَ، فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَعَرَفت قِصَّتَهُ فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَفِي أَطْيَبِ الْمَرَاعِي، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ.

‌5 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْمُعَامَلَةِ

2719 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لَا. فَقَالَوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنُشْرِكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

2720 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمُعَامَلَةِ) أَيْ مِنْ مُزَارَعَةٍ وَغَيْرِهَا. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَوَافُقِ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَكْفُوا الْأَنْصَارَ الْمَئُونَةَ وَالْعَمَلَ وَيُشْرِكُوهُمْ فِي الثَّمَرَةِ مُزَارَعَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي فَضْلِ الْمَنِيحَةِ فِي أَوَاخِرِ الْهِبَةِ، وَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ لُغَوِيٌّ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فَصَارَ شَرْعِيًّا، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ إِنْ تَكْفُونَا نَقْسِمْ بَيْنَكُمْ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ مُزَارَعَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ.

‌6 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ.

وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَكَ مَا شَرَطْتَ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي فصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي

ص: 322

2721 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ.

[الحديث 2721 - طرفه في: 5151]

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ عُقْدَةٍ وَالْمُرَادُ وَقْتُ الْعَقْدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ) أَيِ ابْنُ الْخَطَّابِ (إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - عَنْهُ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُهُ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمِسْوَرِ الْمُعَلَّقِ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمَوْصُولُ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ

2722 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنَّا أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ حَقْلًا، فَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْوَرِقِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْمَاضِيَةِ قَبْلُ بِبَابٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمُزَارَعَةِ.

‌8 - بَاب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ

2723 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَزِيدَنَّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَنَّ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ: وَلَا يَخْطُبَنَّ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْبُيُوعِ فِي مَكَانِهِ، وقَوْلُهُ: طَلَاقَ أُخْتِهَا أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِمَا يَصِيرَانِ ضَرَّتَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا الْغَالِبُ.

‌9 - بَاب الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْحُدُودِ

2724، 2725 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ - وَهُوَ

ص: 323

أَفْقَهُ مِنْهُ -: نَعَمْ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْحُدُودِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى جَوْرٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ وَقَعَ فِي رَفْعِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلَّ صُلْحٍ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌10 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ

2726 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرِينِي، فَإِنَّ أَهْلِي يَبِيعُونني فَأَعْتِقِينِي. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي لَا يَبِيعُونني حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلَائِي. قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ - فَقَالَ: مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ؟ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا. قَالَتْ: فَاشْتَرَيْتُهَا فَأَعْتَقْتُهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْعِتْقِ.

‌11 - باب الشُّرُوطِ فِي الطَّلَاقِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأ بِالطَّلَاقِ أَوْ أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ

2727 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلْأَعْرَابِيِّ، وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ، وَعَنْ التَّصْرِيَةِ.

تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ.

وَقَالَ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: نُهِيَ. وَقَالَ آدَمُ: نُهِينَا. وَقَالَ النَّضْرُ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: نَهَى.

ص: 324

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الطَّلَاقِ) أَيْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأَ) أَيْ بِهَمْزَةٍ (أَوْ أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا. يُقَدِّمُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، قَالَا: إِذَا فَعَلَ الَّذِي قَالَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ، وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ وَزَادَ: قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: هِيَ تَطْلِيقَةٌ حِينَ بَدَأَ بِالطَّلَاقِ، قَالَ: لَا، هُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ فَيَبْدَأُ بِهِ قَالَا: لَهُ ثَنَيَاهُ إِذَا وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ، وَأَشَارَ قَتَادَةُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إِذَا بَدَأَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ يَمِينِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخَّرَهُ وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي الْبُيُوعِ مُفَرَّقًا فِي مَوَاضِعِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَا تَشْتَرِطُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهَا إِذَا اشْتَرَطَتْ ذَلِكَ فَطَلَّقَ أُخْتَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مَعْنًى قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُعَاذٌ) أَيِ ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ (وَعَبْدُ الصَّمَدِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا تَابَعَا مُحَمَّدَ بْنَ عَرْعَرَةَ فِي تَصْرِيحِهِ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْنَادِ النَّهْيِ إِلَيْهِ صَرِيحًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غُنْدَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنُ مَهْدِيٍّ (نُهِيَ) يَعْنِي أَنَّهُمَا رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ فَأَبْهَمَا الْفَاعِلَ، وَذَكَرَهُ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ آدَمُ) أَيِ ابْنُ أَبِي إِيَاسٍ يَعْنِي عَنْ شُعْبَةَ: (نُهِينَا) أَيْ وَلَمْ يُسَمِّ فَاعِلَ النَّهْيِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ) أَيِ ابْنُ شُمَيْلٍ (وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ) يَعْنِي عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا (نَهَى) أَيْ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَلَمْ يُسَمِّيَا فَاعِلَ النَّهْيِ أَيْضًا. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَدْ وَقَعَتْ لَنَا مَوْصُولَةً: فَأَمَّا رِوَايَةُ مُعَاذٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّلَقِّي الْحَدِيثَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ فِيهَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، لَكِنْ شَكَّ أَبُو دَاوُدَ هَلْ هُوَ نُهِيَ أَوْ نَهَى، وَأَمَّا رِوَايَةُ غُنْدَرٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: نَهَى كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فَوَصَلَهَا،

(1)

وَأَمَّا رِوَايَةُ آدَمَ فَرُوِّينَاهَا فِي نُسْخَتِهِ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ، وأَمَّا رِوَايَةُ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فَوَصَلَهَا إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وأَمَّا رِوَايَةُ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ فَوَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي عَنْهُ، وَقَرَنَهَا بِرِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ فِيهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَشُكَّ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَتْنِ: وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُرَادُ بِالْمُهَاجِرِ الْحَضَرِيُّ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى عُرْفِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِذَا جَاءَ السُّوقَ لِيَبْتَاعَ شَيْئًا لَا يَتَوَكَّلُ لَهُ الْحَاضِرُ لِئَلَّا يَحْرِمَ أَهْلَ السُّوقِ نَفْعًا وَرِفْقًا، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ وَيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَبْتَاعَ أَنْ يَبِيعَ، فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْمَاضِيَةَ.

(1)

في هامش طبعة بولاق: بعد قوله "فوصلها" بياض بنسخة معتمدة، وفي أخرى تركه وحذف هذه الجملهة. ولعل المؤلف بيض للبحث على وصل من وصل روايه عبد الرحمن. وعبارة القسطلاني: قال الحافظ ابن حجر في المقدمة: ورواية آدم وعبد الرحمن والنضر لم أقف عليها، أي موصلة. وقال في الفتح "رويناها في نسخته، وأما رواية النضر فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه.

ص: 325

‌12 - بَاب الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ

2728 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} كَانَتْ الْأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالثة عَمْدًا. {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} ، {لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} فَانْطَلَقَا. . . فَوَجَدَا {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ) ذَكَرَ فِيهِ طرفا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا وَأَشَارَ بِالشَّرْطِ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} وَالْتِزَامِ مُوسَى بِذَلِكَ وَلَمْ يَكْتُبَا ذَلِكَ وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، فَإِنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا أَخْلَفَ الشَّرْطَ:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} وَلَمْ يُنْكِرْ مُوسَى عليه السلام ذَلِكَ.

‌13 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْوَلَاءِ

2729 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقَالَتْ: إِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ - وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ - فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ حَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْوَلَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْعِتْقِ.

ص: 326

‌14 - بَاب إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ: إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ

2730 -

حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَامَلَنَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ. فَقَالَ: كَانَتْ ذلك هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ. قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اخْتَصَرَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ: إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ) كَذَا ذَكَرَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُخْتَصَرَةً، وَتَرْجَمَ لِحَدِيثِ الْبَابِ فِي الْمُزَارَعَةِ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا فَقَالَ: إِذَا قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا وَأَخْرَجَ هُنَاكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ يَهُودِ خَيْبَرَ بِلَفْظِ نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا وَأَوْرَدَهُ هُنَا بِلَفْظِ نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ فَأَحَالَ فِي كُلِّ تَرْجَمَةٍ عَلَى لَفْظِ الْمَتْنِ الَّذِي فِي الْأُخْرَى، وَبَيَّنَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مُرَادَ الْأُخْرَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّا نَتْرُكُكُمْ فِيهَا فَإِذَا شِئْنَا فَأَخْرَجْنَاكُمْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ إِخْرَاجَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ تَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُخَابَرَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْخِيَارِ فِي الْمُسَاقَاةِ لِلْمَالِكِ لَا إِلَى أَمَدٍ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُدَّةَ كَانَتْ مَذْكُورَةً وَلَمْ تُنْقَلْ، أَوْ لَمْ تُذْكَرْ لَكِنْ عَيَّنَتْ كُلَّ سَنَةٍ بِكَذَا، أَوْ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ صَارُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمُعَامَلَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مُسَمًّى وَلَا مَنْسُوبٍ، وَلِابْنِ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَوَافَقَهُ أَبُو ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مَرَّارُ بْنُ حَمَّوَيْهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَأَبُوهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهَا هَاءٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَمَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ بَدَلَ الْهَاءِ فَقَدْ غَلِطَ.

قُلْتُ: لَكِنْ وَقَعَ فِي شِعْرٍ لِابْنِ دُرَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ هَمَذَانِيٌّ بِفَتْحِ الْمِيمِ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا شَيْخُهُ، وَهُوَ وَمَنْ فَوْقَهُ مَدَنِيُّونَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: أَهْلُ بُخَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْبِيْكَنْدِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَبَا أَحْمَدَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءَ، فَإِنَّ أَبَا عُمَرَ الْمُسْتَعلِي رَوَاهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي غَسَّانَ انْتَهَى، وَالْمُعْتَمَدُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ مَرَّارٌ الْمَذْكُورُ وَقَالَ: لَمْ يُسَمِّهِ الْبُخَارِيُّ وَالْحَدِيثُ حَدِيثُهُ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ هَارُونَ، عَنْ مَرَّارٍ.

ص: 327

قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَأَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) أَيِ ابْنِ عَلِيٍّ الْكَاتِبُ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ، الْفَدَعُ بِفَتْحَتَيْنِ زَوَالُ الْمِفْصَلِ، فُدِعَتْ يَدَاهُ إِذَا أُزِيلَتَا مِنْ مَفَاصِلِهِمَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْفَدَعُ عِوَجٌ فِي الْمَفَاصِلِ، وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ الثَّابِتِ إِذَا زَاغَتِ الْقَدَمُ مِنْ أَصْلِهَا مِنَ الْكَعْبِ وَطَرَفِ السَّاقِ فَهُوَ الْفَدَعُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ زَيْغٌ فِي الْكَفِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّاعِدِ وَفِي الرِّجْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّاقِ، هَذَا الَّذِي فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْخَطَّابِيِّ وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فَدَغَ وَجَزَمَ بِهِ الْكَرْمَانِيُّ، وَهُوَ وَهَمٌ لِأَنَّ الْفَدَغَ بِالْمُعْجَمَةِ كَسْرُ الشَّيْءِ الْمُجَوَّفِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ فِي الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَأَنَّ الْيَهُودَ سَحَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَالْتَوَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، كَذَا قَالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا ضَرَبُوهُ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ بِاللَّيْلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الَّتِي عَلَّقَ الْمُصَنِّفُ إِسْنَادَهَا آخِرَ الْبَابِ بِلَفْظِ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ وَأَلْقَوُا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (تُهَمَتُنَا) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا، أَيِ الَّذِينَ نَتَّهِمُهُمْ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ) أَيْ عَزَمَ، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَجْمَعَ عَلَى كَذَا أَيْ جَمَعَ أَمْرَهُ جَمِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَرَّقًا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي حَصْرَ السَّبَبِ فِي إِجْلَاءِ عُمَرَ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ لِي فِيهِ سَبَبَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: مَا زَالَ عُمَرُ حَتَّى وَجَدَ الثَّبْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَهْدٌ فَلْيَأْتِ بِهِ أَنْفُذُهُ لَهُ، وَإِلَّا فَإِنِّي مُجْلِيكُمْ. فَأَجَلَاهُمْ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ. ثَانِيهِمَا: رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ الْعِيَالُ - أَيِ الْخَدَمُ - فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَوُوا عَلَى الْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جُزْءَ عِلَّةٍ فِي إِخْرَاجِهِمْ. وَالْإِجْلَاءُ الْإِخْرَاجُ عَنِ الْمَالِ وَالْوَطَنِ عَلَى وَجْهِ الْإِزْعَاجِ وَالْكَرَاهَةِ.

قَوْلُهُ: (أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ) بِمُهْمَلَةٍ وَقَافَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ رَأْسُ يَهُودِ خَيْبَرَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَرْقَانِيِّ فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لَا تُخْرِجْنَا وَابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي زَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُتِلَ بِخَيْبَرَ وَبَقِيَ أَخُوهُ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.

قَوْلُهُ: (تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: النَّاقَةُ الصَّابِرَةُ عَلَى السَّيْرِ وَقِيلَ الشَّابَّةُ وَقِيلَ أَوَّلُ مَا يُرْكَبُ مِنْ إِنَاثِ الْإِبِلِ وَقِيلَ الطَّوِيلَةُ الْقَوَائِمِ، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ خَيْبَرَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا.

قَوْلُهُ: (كَانَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَانَتْ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (هُزَيْلَةٌ) تَصْغِيرُ الْهَزْلِ وَهُوَ ضِدُّ الْجَدِّ.

قَوْلُهُ: (مَالًا) تَمْيِيزٌ لِلْقِيمَةِ، وَعَطْفُ الْإِبِلِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْعُرُوضُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَالِ النَّقْدُ خَاصَّةً وَالْعُرُوضُ مَا عَدَا النَّقْدَ، وَقِيلَ مَا لَا يَدْخُلُهُ الْكَيْلُ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ هُوَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَحْسَبُهُ عَنْ نَافِعٍ) أَيْ أَنَّ حَمَّادًا شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو يَعْلَى فِي رِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ، وَزَعَمَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ فِي قَوْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمَّادًا اقْتَصَرَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى مَا نَسَبَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دُونَ مَا نُسِبَ إِلَى عُمَرَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ اخْتَصَرَ مِنَ الْمَرْفُوعِ دُونَ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى وَفَوَائِدِ الْبَغَوِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَلَفْظُهُ قَالَ عُمَرُ: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَقْسِمَهَا، فَقَالَ رَئِيسُهُمْ:

ص: 328

لَا تُخْرِجْنَا وَدَعْنَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَرَاهُ سَقَطَ عَلَيَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ بِكَ إِذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّأمِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، فَقَسَمَهَا عُمَرُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ حَمَّادٍ، وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ حَمَّادٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، قُلْتُ: وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ النَّجَّارِ مِنْ طَرِيقِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِيهِ قَوْلُهُ: رَقَصَتْ بِكَ أَيْ أَسْرَعَتْ فِي السَّيْرِ، وَقَوْلُهُ: نَحْوَ الشَّامِ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ عُمَرَ أَجَلَاهُمْ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِلْحُمَيْدِيِّ نِسْبَةُ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مُطَوَّلَةً جِدًّا إِلَى الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَ السِّيَاقَ مِنْ مُسْتَخْرَجِ الْبَرْقَانِيِّ كَعَادَتِهِ وَذَهَلَ عَنْ عَزْوِهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى أَنَّ حَمَّادًا كَانَ يُطَوِّلُهُ تَارَةً وَيَرْوِيهِ تَارَةً مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ مَا فِي رِوَايَتِهِ قَبْلُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ تُوَضَّحُ الْمُطَالَبَةَ بِالْجِنَايَةِ كَمَا طَالَبَ عُمَرُ الْيَهُودَ بِفَدَعِ ابْنِهِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ لَنَا عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، فَعَلَّقَ الْمُطَالَبَةَ بِشَاهِدِ الْعَدَاوَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَطْلُبِ الْقِصَاصَ لِأَنَّهُ فُدِعَ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَمْ يَعْرِفْ أَشْخَاصَهُمْ. وَفِيهِ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْوَالَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ.

‌15 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ

2731، 2732 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ - يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ - قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ. فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ! فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.

ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ

ص: 329

أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ. فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرونَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ.

قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا، وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟! وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أشوابا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرِ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟! فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ كلمة أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ! أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِيكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا؛ وَاللَّهِ إِنْ يتَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّموا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ

ص: 330

النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ.

فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ. فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو - قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ - قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هي، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ - إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأَجِزْهُ لِي. قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ. قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟! أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ.

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى.

ص: 331

قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟! قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ:

بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟! قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ - قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا - قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا.

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حَتَّى بَلَغَ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ به ثم جربت، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ:

لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا

ص: 332

لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حَتَّى بَلَغَ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: {مَعَرَّةٌ} الْعُرُّ: الْجَرَبُ. {تَزَيَّلُوا} انمازوا. وَحَمَيْتُ الْقَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً. وَأَحْمَيْتُ الْحِمَى: جَعَلْتُهُ حِمًى لَا يُدْخَلُ. وَأَحْمَيْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَغْضَبْتَهُ إِحْمَاءً.

2733 -

وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ "قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيِّ فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ وَتَزَوَّجَ الأُخْرَى أَبُو جَهْمٍ فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [11 الممتحنة]: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} وَالْعَقْبُ مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللَائِي هَاجَرْنَ وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِيَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِي الْمُدَّةِ فَكَتَبَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ

(بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ الْمُسْتَعلِي مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ وَهِيَ زِيَادَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا لِأَنَّهَا تَقَدَّمَتْ فِي تَرْجَمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْأُولَى عَلَى الِاشْتِرَاطِ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً وَهَذِهِ عَلَى الِاشْتِرَاطِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ) أَيِ ابْنِ الْحَكَمِ (قَالَا خَرَجَ) هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْوَانَ مُرْسَلَةٌ لِأَنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَأَمَّا الْمِسْوَرُ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْقِصَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَرَ، وَمَرْوَانَ يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَمِعَ الْمِسْوَرُ، وَمَرْوَانُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ شَهِدُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَغَيْرِهِمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْمِسْوَرَ وَلَا مَرْوَانَ لَكِنْ أَرْسَلَهَا، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مَغَازِي عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهَا ابْنُ عَائِذٍ فِي الْمَغَازِي لَهُ بِطُولِهَا، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَيْضًا مُنْقَطِعَةً.

قَوْلُهُ: (زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) تَقَدَّمَ ضَبْطُ

ص: 333

الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحَجِّ، وَهِيَ بِئْرٌ سُمِّيَ الْمَكَانُ بِهَا، وَقِيلَ شَجَرَةٌ جدْبَاءُ صُغِّرَتْ وَسُمِّيَ الْمَكَانُ بِهَا. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ أَكْثَرُهَا فِي الْحَرَمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ زَادَ سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةَ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ الْإِمَامِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ خَرَجَ صلى الله عليه وسلم فِي أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُدْعَى نَاجِيَةَ يَأْتِيهِ بِخَبَرِ قُرَيْشٍ كَذَا سَمَّاهُ نَاجِيَةَ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ نَاجِيَةَ اسْمُ الَّذِي بَعَثَ مَعَهُ الْهَدْيَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الَّذِي بَعَثَهُ عَيْنًا لِخَبَرِ قُرَيْشٍ فَاسْمُهُ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ كَذَا سَمَّاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَسَأَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ) اخْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ صَدْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِطُولِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَقِيَّتُهُ عِنْدَهُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَنَبَّأَنِيهِ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ: أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عز وجل قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ إِلَى هَاهُنَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَسَاقَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.

وَهَذَا الْقَدْرُ حَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ لِإِرْسَالِهِ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ اهـ وَغَدِيرٌ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْأَشْطَاطِ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ شَطٍّ وَهُوَ جَانِبُ الْوَادِي كَذَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي ذَرٍّ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَيْضًا: أَتَرَوْنَ أَنْ تمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَتصِيبَهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ، وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ وَنَحْوُهُ لِابْنِ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ هَلْ يُخَالِفُ الَّذِينَ نَصَرُوا قُرَيْشًا إِلَى مَوَاضِعِهِمْ فَيَسْبِي أَهْلَهُمْ، فَإِنْ جَاءُوا إِلَى نَصْرِهِمُ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَانْفَرَدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِقُرَيْشٍ، وَذَلِكَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا خَرَجَ لَهُ مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى يَكُونَ بَدْءُ الْقِتَالِ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى رَأْيِهِ.

وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ إِلَخْ وَالْأَحَابِيشُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ وَاحِدُهَا أُحْبُوشٌ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمْ بَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا تَحَالَفُوا مَعَ قُرَيْشٍ قِيلَ: تَحْتَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ الْحَبَشِيُّ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَبُّشِهِمْ أَيْ تَجَمُّعِهِمْ. وَالتَّحَبُّشُ التَّجَمُّعُ، وَالْحُبَاشَةُ الْجَمَاعَةُ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ ابْتِدَاءَ حِلْفِهِمْ مَعَ قُرَيْشٍ كَانَ عَلَى يَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَاتَّفَقَ

ص: 334

الرُّوَاةُ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ يَأْتُونَا مِنَ الْإِتْيَانِ إِلَّا ابْنَ السَّكَنِ فَعِنْدَهُ فَإِنْ بَاتُّونَا بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مُشَدَّدَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بِلَفْظِ الْمَجِيءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجَهُ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ مَكَّةَ وَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَوْضِعٌ خَارِجَ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً) فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِيِّ فَقَالَ لَهُ عَيْنُهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ وَالْغَمِيمُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَحَكَى عِيَاضٌ فِيهَا التَّصْغِيرَ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُرَاعُ الْغَمِيمِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ اهـ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَهُوَ غَيْرُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ الَّذِي وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الصِّيَامِ وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا الْغَمِيمُ هَذَا فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَانٍ بَيْنَ رَابِغٍ وَالْجُحْفَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي شِعْرِ جَرِيرٍ، وَالشَّمَّاخِ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَيَّنَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ خَالِدًا كَانَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ فِيهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. وَالطَّلِيعَةُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ.

قَوْلُهُ: (فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ) أَيِ الطَّرِيقَ الَّتِي فِيهَا خَالِدٌ وَأَصْحَابُهُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا) الْقَتَرَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الْغُبَارُ الْأَسْوَدُ.

قَوْلُهُ: (وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُخْرِجُنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمُ الَّتِي هُمْ بِهَا؟ قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا فَأُخْرِجُوا مِنْهَا بَعْدَ أَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، فَفَعَلُوا. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَلْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعُوا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ: اسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمِرَارِ مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ اهـ. وَثَنِيَّةُ الْمِرَارِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ هِيَ طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ تُشْرِفُ عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ أَنَّهَا الثَّنِيَّةُ الَّتِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَسَمَّى ابْنُ سَعْدٍ الَّذِي سَلَكَ بِهِمْ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَأْخُذُ بِنَا عَنْ يَمينِ الْمَحَجَّةِ نَحْوَ سَيْفِ الْبَحْرِ لَعَلَّنَا نَطْوِي مَسْلَحَةَ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّيْلِ، فَنَزَلَ رَجُلٌ عَنْ دَابَّتِهِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ. كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلنَّاقَةِ إِذَا تَرَكَتِ السَّيْرَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنْ قُلْتَ: حَلْ. وَاحِدَةً فَالسُّكُونُ، وَإِنْ أَعَدْتَهَا نَوَّنْتَ فِي الْأُولَى وَسَكَّنْتَ فِي الثَّانِيَةِ، وَحَكَى غَيْرُهُ السُّكُونَ فِيهِمَا وَالتَّنْوِينَ كَنَظِيرِهِ فِي بَخٍ بَخٍ، يُقَالُ: حَلْحَلْتُ فُلَانًا إِذَا أَزْعَجْتَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَلَحَّتْ) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَمَادَتْ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ وَهُوَ مِنَ الْإِلْحَاحِ.

قَوْلُهُ: (خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ) الْخَلَاءُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ لِلْإِبِلِ كَالْحِرَانِ لِلْخَيْلِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا يَكُونُ الْخَلَاءُ إِلَّا لِلنُّوقِ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: لَا يُقَالُ لِلْجَمَلِ خَلَأَ لَكِنْ أَلَحَّ. وَالْقَصْوَاءُ بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَمَدٌّ: اسْمُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: كَانَ طَرَفُ أُذُنِهَا مَقْطُوعًا، وَالْقَصْوُ قَطْعُ طَرَفِ الْأُذُنِ يُقَالُ: بَعِيرٌ أَقْصَى وَنَاقَةٌ قُصْوَى، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَصْرِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي ذَرٍّ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْبَقُ فَقِيلَ لَهَا الْقَصْوَاءُ لِأَنَّهَا بَلَغَتْ مِنَ السَّبْقِ أَقْصَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ) أَيْ بِعَادَةٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: فِي هَذَا الْفَصْلِ جَوَازُ الِاسْتِتَارِ عَنْ طَلَائِعِ الْمُشْرِكِينَ وَمُفَاجَأَتِهِمْ بِالْجَيْشِ طَلَبًا لِغِرَّتِهِمْ، وَجَوَازُ السَّفَرِ وَحْدَهُ لِلْحَاجَةِ، وَجَوَازُ التَّنْكِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ السَّهْلَةِ إِلَى الْوَعْرَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَجَوَازُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِذَا وَقَعَ مِنْ شَخْصٍ هَفْوَةٌ لَا يُعْهَدُ مِنْهُ مِثْلُهَا لَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا وَيُرَدُّ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا، وَمَعْذِرَةُ مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ صُورَةَ حَالِهِ، لِأَنَّ خَلَاءَ الْقَصْوَاءِ لَوْلَا خَارِقُ الْعَادَةِ لَكَانَ مَا ظَنَّهُ الصَّحَابَةُ صَحِيحًا وَلَمْ يُعَاتِبْهُمُ

ص: 335

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِهِمْ فِي ظَنِّهِمْ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ الصَّرِيحِ إِذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: حَلْ حَلْ فَزَجَرُوهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُمْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) زَادَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَكَّةَ أَيْ حَبَسَهَا اللَّهُ عز وجل عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ كَمَا حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ دُخُولِهَا. وَقِصَّةُ الْفِيلِ مَشْهُورَةٌ سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي مَكَانِهَا، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ دَخَلُوا مَكَّةَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَدَّهُمْ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُولُ الْفِيلِ وَأَصْحَابِهِ مَكَّةَ، لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ خَلْقٌ مِنْهُمْ، وَيُسْتَخْرَجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَاسٌ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَلَوْ طَرَقَ الصَّحَابَةُ مَكَّةَ لَمَا أَمِنَ أَنْ يُصَابَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ، وَوَقَعَ لَلْمُهَلَّبِ اسْتِبْعَادُ جَوَازِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ حَابِسُ الْفِيلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: الْمُرَادُ حَبَسَهَا أَمْرُ اللَّهِ عز وجل، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ فَيُقَالُ حَبَسَهَا اللَّهُ حَابِسُ الْفِيلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُمْنَعَ تَسْمِيَتُهُ سبحانه وتعالى حَابِسَ الْفِيلِ وَنَحْوَهُ، كَذَا أَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ.

وَقَدْ تَوَسَّطَ الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ فَقَالُوا: مَحَلُّ الْمَنْعِ مَا لَمْ يَرِدٍ نَصٌّ بِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، بشَرْط أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مُشْعِرًا بِنَقْصٍ، فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ الْوَاقِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ الْبِنَاءَ وَإِنْ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازُ التَّشْبِيهِ مِنَ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ الْخَاصَّةُ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ وَأَصْحَابُ هَذِهِ النَّاقَةِ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ، لَكِنْ جَاءَ التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ مَنْعَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا، أَمَّا مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَلِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَاعْتِبَارُ مَنْ بَقِيَ بِمَنْ مَضَى، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَالْجُنُوحُ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْكَفُّ عَنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِمَنْ قَالَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: عَلَامَةُ الْإِذْنِ التَّيْسِيرُ وَعَكْسُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ تَأْكِيدُ الْقَوْلِ بِالْيَمِينِ فَيَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَلِفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَسْأَلُونَنِي خُطَّةً) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَصْلَةً (يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحُرُمَاتِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ وَالْإِحْرَامِ، قُلْتُ: وَفِي الثَّالِثِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَظَّمُوا الْإِحْرَامَ مَا صَدُّوهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) أَيْ أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا حَتْمًا، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، كَذَا قَالَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فَقَالَ: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَقَطَ مِنَ الرَّاوِي أَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ قَبْلَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُ الْكَهْفِ مَكِّيَّةً؛ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَتَأَخَّرَ نُزُولُ بَعْضِ السُّورَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ زَجَرَهَا) أَيِ النَّاقَةَ (فَوَثَبَتْ) أَيْ قَامَتْ.

قَوْلُهُ: (فَعَدَلَ عَنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَوَلَّى رَاجِعًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِالْوَادِ مِنْ مَاءٍ نَنْزِلُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ثَمَدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ أَيْ حَفِيرَةٍ فِيهَا مَاءٌ مَثْمُودٌ أَيْ قَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: قَلِيلِ الْمَاءِ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ لُغَةُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ

ص: 336

الثَّمَدَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَقِيلَ الثَّمَدُ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْمَاءِ فِي الشِّتَاءِ وَيَذْهَبُ فِي الصَّيْفِ.

قَوْلُهُ: (يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّشْدِيدِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْأَخْذُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَالْبَرْضُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ الْيَسِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: هُوَ جَمْعُ الْمَاءِ بِالْكَفَّيْنِ، وَذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَدِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُرْوَةَ وَسَبَقَتْ قُرَيْشٌ إِلَى الْمَاءِ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، وَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحُدَيْبِيَةَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا بِئْرٌ وَاحِدَةٌ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُلْبِثْهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ مِنَ الْإِلْبَاثِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ أَيْ لَمْ يَتْرُكُوهُ يَلْبَثُ أَيْ يُقِيمُ.

قَوْلُهُ: (وَشُكِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ) أَيْ أَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَرَهُمْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَسْلَمَ أَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الَّذِي سَاقَ الْبُدْنَ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالسَّهْمِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَفِي رِوَايَةِ نَاجِيَةَ بْنِ الْأَعْجَمِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عُبَادَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَنَا الَّذِي نَزَلْتُ بِالسَّهْمِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُمْ تَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَفْرِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْبِئْرِ ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَمَضْمَضَ وَدَعَا اللَّهَ ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: دَعُوهَا سَاعَةً. ثُمَّ إِنَّهُمُ ارْتَوَوْا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ مَعًا وَقَعَا. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَوْسِ بْنِ خَوْلِيٍّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فِي الدَّلْوِ ثُمَّ أَفْرَغَهُ فِيهَا وَانْتَزَعَ السَّهْمَ فَوَضَعَهُ فِيهَا وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَدِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَمَضْمَضَ فِي دَلْوٍ وَصَبَّهُ فِي الْبِئْرِ وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَلْقَاهُ فِيهَا وَدَعَا فَفَارَتْ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ الْقِصَّةِ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهَا، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ قِصَّةِ الْبِئْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِيهِ بَرَكَةُ سِلَاحِهِ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ نَبْعُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ غَيْرِ هَذِهِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ الْقِصَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَجِيشُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ أَيْ يَفُورُ، وَقَوْلُهُ:(بِالرِّيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا. وَقَوْلُهُ: (صَدَرُوا عَنْهُ) أَيْ رَجَعُوا رُوَاءً بَعْدَ وِرْدِهِمْ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ حَتَّى اغْتَرَفُوا بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (فَبَيْنَمَا هُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَبَيْنَا هُمْ (كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلٌ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّصْغِيرِ أَيِ ابْنُ وَرْقَاءَ بِالْقَافِ وَالْمَدِّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ.

قَوْلُهُ: (فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ) سَمَّى الْوَاقِدِيُّ مِنْهُمْ عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ، وَخِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ مِنْهُمْ خَارِجَةُ بْنُ كُرْزٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أُمَيَّةُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحٍ) الْعَيْبَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، مَا تُوضَعُ فِيهِ الثِّيَابُ لِحِفْظِهَا، أَيْ أَنَّهُمْ مَوْضِعُ النُّصْحِ لَهُ وَالْأَمَانَةِ عَلَى سِرِّهِ، وَنُصْحُ بِضَمِّ النُّونِ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فَتْحَهَا كَأَنَّهُ شَبَّهَ الصَّدْرَ الَّذِي هُوَ مُسْتَوْدَعُ السِّرِّ بِالْعَيْبَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَوْدَعُ الثِّيَابِ.

وَقَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ تِهَامَةَ وَتِهَامَةُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ هِيَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَصْلُهَا مِنَ التَّهَمِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَرُكُودُ الرِّيحِ. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ بُدَيْلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ غَزَوْتَ وَلَا سِلَاحَ مَعَكَ، فَقَالَ: لَمْ نَجِئْ لِقِتَالٍ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ بُدَيْلٌ: أَنَا لَا أَتَّهِمُ وَلَا قَوْمِي اهـ وَكَانَ الْأَصْلُ فِي مُوَالَاةِ خُزَاعَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا تَحَالَفُوا

ص: 337

مَعَ خُزَاعَةَ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِنْصَاحِ بَعْضِ الْمُعَاهَدِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى نُصْحِهِمْ وَشَهِدَتِ التَّجْرِبَةُ بِإِيثَارِهِمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ اسْتِنْصَاحِ بَعْضِ مُلُوكِ الْعَدُوِّ اسْتِظْهَارًا عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَلَا مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ اسْتِخْدَامِهِمْ وَتَقْلِيلِ شَوْكَةِ جَمْعِهِمْ وَإِنْكَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ) إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ لِكَوْنِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ أَجْمَعَ تَرْجِعُ أَنْسَابُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَبَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ وَبَنُو عَوْفِ بْنِ لُؤَيٍّ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ قُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ الَّذِينَ مِنْهُمْ بَنُو تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: بَنُو عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هُمَا الصَّرِيحَانِ لَا شَكَّ فِيهِمَا، بِخِلَافِ سَامَةَ وَعَوْفٍ أَيْ فَفِيهِمَا الْخَلَفُ. قَالَ: وَهُمْ قُرَيْشُ الْبِطَاحِ؛ أَيْ: بِخِلَافِ قُرَيْشِ الظَّوَاهِرِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ وَجَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحَبُّشِ وَهُوَ التَّجَمُّعُ.

قَوْلُهُ: (نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ) الْأَعْدَادُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ عِدٍّ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ هُوَ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ، وَقَوْلُ بُدَيْلٍ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ قُرَيْشًا سَبَقُوا إِلَى النُّزُولِ عَلَيْهَا فَلِهَذَا عَطِشَ الْمُسْلِمُونَ حَيْثُ نَزَلُوا عَلَى الثَّمَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ) الْعُوذُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ جَمْعُ عَائِذٍ وَهِيَ النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ، وَالْمَطَافِيلُ الْأُمَّهَاتُ اللَّاتِي مَعَهَا أَطْفَالُهَا، يُرِيدُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَهُمْ بِذَوَاتِ الْأَلْبَانِ مِنَ الْإِبِلِ لِيَتَزَوَّدُوا بِأَلْبَانِهَا وَلَا يَرْجِعُوا حَتَّى يَمْنَعُوهُ، أَوْ كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ النِّسَاءِ مَعَهُنَّ الْأَطْفَالُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا معهم بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لِإِرَادَةِ طُولِ الْمَقَامِ وَلِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى عَدَمِ الْفِرَارِ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: كُلُّ أُنْثَى إِذَا وَضَعَتْ فَهِيَ إِلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ عَائِذٌ وَالْجَمْعُ عُوذٌ، كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعُوذُ وَلَدَهَا وَتَلْزَمُ الشُّغْلَ بِهِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ هُوَ الَّذِي يَعُوذُ بِهَا لِأَنَّهَا تَعْطِفُ عَلَيْهِ بِالشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ، كَمَا قَالُوا تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ معهم الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.

قَوْلُهُ: (نَهِكَتْهُمْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، أَيْ أَبْلَغَتْ فِيهِمْ حَتَّى أَضْعَفَتْهُمْ، إِمَّا أَضْعَفَتْ قُوَّتَهُمْ وَإِمَّا أَضْعَفَتْ أَمْوَالَهُمْ.

قَوْلُهُ: (مَادَدْتُهُمْ) أَيْ جَعَلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُدَّةً بترك الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ) أَيْ مِنْ كُفَّارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا) هُوَ شَرْطٌ بَعْدَ الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ، فَإِنْ ظَهَرَ غَيْرُهُمْ عَلَيَّ كَفَاهُمُ الْمؤنَةَ، وَإِنْ أَظْهَرْ أَنَا عَلَى غَيْرِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُونِي وَإِلَّا فَلَا تَنْقَضِي مُدَّةُ الصُّلْحِ إِلَّا وَقَدْ جَمَّعُوا، أَيِ اسْتَرَاحُوا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ قَوُوا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ وَإِنَّمَا رَدَّدَ الْأَمْرَ مَعَ أَنَّهُ جَازِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَنْصُرُهُ وَيُظْهِرُهُ لِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ، عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ مَعَ الْخ صْمِ وَفَرْضِ الْأَمْرِ عَلَى مَا زَعَمَ الْخَصْمُ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ حَذَفَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِظُهُورِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا وَلِابْنِ عَائِذٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَإِنْ ظَهَرَ النَّاسُ عَلَيَّ فَذَلِكَ الَّذِي يَبْتَغُونَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَذْفَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ تَأَدُّبًا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي) السَّالِفَةُ بِالْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا فَاءٌ صَفْحَةُ الْعُنُقِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَتِيلَ تَنْفَرِدُ مُقَدِّمَةُ عُنُقِهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ الْمَوْتُ أَيْ حَتَّى أَمُوتَ وَأَبْقَى مُنْفَرِدًا فِي قَبْرِي. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَاتِلُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى

ص: 338

الْأَعْلَى، أَيْ إِنَّ لِي مِنَ الْقُوَّةِ بِاللَّهِ وَالْحَوْلِ بِهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ أُقَاتِلَ عَنْ دِينِهِ لَوِ انْفَرَدَتْ، فَكَيْفَ لَا أُقَاتِلُ عَنْ دِينِهِ مَعَ وُجُودِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ وَنَفَاذِ بَصَائِرِهِمْ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَلَيُنْفِذَنَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ لَيُمْضِيَنَّ (اللَّهُ أَمْرَهُ) فِي نَصْرِ دِينِهِ. وَحَسُنَ الْإِتْيَانُ بِهَذَا الْجَزْمِ - بَعْدَ ذَلِكَ التَّرَدُّدِ - لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُورِدْهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ النَّدْبُ إِلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَذْلُ النَّصِيحَةِ لِلْقَرَابَةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِ اللَّهِ وَتَبْلِيغِ أَمْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ) أَيْ فَأَذِنَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ) سَمَّى الْوَاقِدِيُّ مِنْهُمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ بُدَيْلٌ: إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا. فَاتَّهَمُوهُ - أَيِ اتَّهَمُوا بُدَيْلًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَيْلَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ فَلَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عشرة.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُرْوَةُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالُوا: لَمَّا نَزَلَ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ أَحَبَّ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مُعْتَمِرًا، فَدَعَا عُمَرَ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَا عَشِيرَةَ لَهُ بِمَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَأَرْسَلَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْفَرَجَ قَرِيبٌ، فَأَعْلَمَهُمْ عُثْمَانُ بِذَلِكَ، فَحَمَلَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى فَرَسِهِ - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ - فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَنِيئًا لِعُثْمَانَ، خَلَصَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ دُونَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ ظَنِّي بِهِ أَنْ لَا يَطُوفَ حَتَّى نَطُوفَ مَعًا. فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ مَجِيءَ عُرْوَةَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَبْلَ قِصَّةِ مَجِيءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) أَيِ ابْنِ مُعَتِّبٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ الثَّقَفِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عُرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي السِّيرَةِ.

قَوْلُهُ: (أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِالْعَكْسِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَلَدِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أُمَّ عُرْوَةَ هِيَ سُبَيْعَةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ أَنَّكُمْ حَيٌّ قَدْ وَلَدُونِي فِي الْجُمْلَةِ لِكَوْنِ أُمِّي مِنْكُمْ. وَجَرَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ أَيْ أَنْتُمْ عِنْدِي فِي الشَّفَقَةِ وَالنُّصْحِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ كَانَ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ قَوْمًا هُوَ أَسَنُّ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ أَيْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى نَصْرِكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا بَلَّحُوا) بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيِ امْتَنَعُوا، وَالتَّبَلُّحُ التَّمَنُّعُ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَبَلَّحَ الْغَرِيمُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالُوا صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ.

قَوْلُهُ: (قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَكُمْ. (خُطَّةَ رُشْدٍ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرُّشْدُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهِمَا، أَيْ خَصْلَةَ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَإِنْصَافٍ، وَبَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ عُرْوَةَ لِهَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ قُرَيْشٍ مَا رَآهُ مِنْ رَدِّهُمُ الْعَنِيفِ عَلَى مَنْ يَجِيءُ مِنْ عِنْدِ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (وَدَعُونِي آتِهِ) بِالْمَدِّ، وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَأَصْلُهُ أَئْتِهِ أَيْ أَجِيءُ إِلَيْهِ (قَالُوا ائْتِهِ) بِأَلِفِ وَصْلٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ هَاءٌ سَاكِنَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا.

قَوْلُهُ: (نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ عِنْدَ قَوْلِهِ:

ص: 339

لَأُقَاتِلَنَّهُمْ.

قَوْلُهُ: (اجْتَاحَ) بِجِيمٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيْ أَهْلَكَ أَصْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَحَذَفَ الْجَزَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى تَأَدُّبًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَكُنِ الْغَلَبَةُ لِقُرَيْشٍ لَا آمَنُهُمْ عَلَيْكَ مَثَلًا. وَقَوْلُهُ: (فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرَى وُجُوهًا إِلَخْ) كَالتَّعْلِيلِ لِهَذَا الْقَدْرِ الْمَحْذُوفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عُرْوَةَ رَدَّدَ الْأَمْرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ غَيْرِ مُسْتَحْسَنَيْنِ عَادَةً وَهُوَ هَلَاكُ قَوْمِهِ إِنْ غَلَبَ، وَذَهَابُ أَصْحَابِهِ إِنْ غُلِبَ، لَكِنْ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}

قَوْلُهُ: (أَشْوَابًا) بِتَقْدِيمِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الْوَاوِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْشَابًا بِتَقْدِيمِ الْوَاوِ، وَالْأَشْوَابُ الْأَخْلَاطُ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى، وَالْأَوْبَاشُ

(1)

الْأَخْلَاطُ مِنَ السَّفَلَةِ، فَالْأَوْبَاشُ أَخَصُّ مِنَ الْأَشْوَابِ.

قَوْلُهُ: (خَلِيقًا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ أَيْ حَقِيقًا وَزْنًا وَمَعْنًى، وَيُقَالُ خَلِيقٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ صِفَةً لِأَشْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَيَدَعُوكَ) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ يَتْرُكُوكَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مَنْ سَمَّيْتُهُ وَكَأَنّي بِهِمْ لَوْ قَدْ لَقِيتَ قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوكَ فَتُؤْخَذُ أَسِيرًا فَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا وَفِيهِ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ الْجُيُوشَ الْمُجَمَّعَةَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الْفِرَارُ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمْ يَأْنَفُونَ الْفِرَارَ فِي الْعَادَةِ. وَمَا دَرَى عُرْوَةُ أَنَّ مَوَدَّةَ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِنْ مَوَدَّةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فَقَالَ.

قَوْلُهُ: (امْصَصْ بَظْرَ اللَّاتِ) زَادَ ابْنُ عَائِذٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهِيَ - أَيِ اللَّاتُ - طَاغِيَتُهُ الَّتِي يَعْبُدُ أَيْ طَاغِيَةُ عُرْوَةَ. وَقَوْلُهُ امْصَصْ بِأَلِفِ وَصْلٍ وَمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ ضَمَّ الصَّادِ الْأُولَى وَخَطَّأَهَا، وَالْبَظْرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ قِطْعَةٌ تَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَاللَّاتُ اسْمُ أَحَدِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ وَثَقِيفٌ يَعْبُدُونَهَا، وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ الشَّتْمُ بِذَلِكَ لَكِنْ بِلَفْظِ الْأُمِّ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الْمُبَالَغَةَ فِي سَبِّ عُرْوَةَ بِإِقَامَةِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَقَامَ أُمِّهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَغْضَبَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِرَارِ، وَفِيهِ جَوَازُ النُّطْقُ بِمَا يُسْتَبْشَعُ مِنَ الْأَلْفَاظِ لِإِرَادَةِ زَجْرِ مَنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَخْسِيسٌ لِلْعَدُوِّ وَتَكْذِيبُهُمْ وَتَعْرِيضٌ بِإِلْزَامِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّاتَ بِنْتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَكَانَ لَهَا مَا يَكُونُ لِلْإِنَاثِ.

قَوْلُهُ: (أَنَحْنُ نَفِرُّ) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.

قَوْلُهُ: (مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ.

قَوْلُهُ: (أَمَا) هُوَ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ بِذَلِكَ كَانَ عَادَةً لِلْعَرَبِ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا يَدٌ) أَيْ نِعْمَةٌ، وَقَوْلُهُ:(لَمْ أَجْزِكَ بِهَا) أَيْ لَمْ أُكَافِئْكَ بِهَا، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَكِنَّ هَذِهِ بِهَا أَيْ جَازَاهُ بِعَدَمِ إِجَابَتِهِ عَنْ شَتْمِهِ بِيَدِهِ الَّتِي كَانَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا، وَبَيَّنَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْإِمَامِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَدَ الْمَذْكُورَةَ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ تَحَمَّلَ بِدِيَةٍ فَأَعَانَهُ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا بِعَوْنٍ حَسَنٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ عَشْرِ قَلَائِصَ.

قَوْلُهُ: (قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّيْفِ) فِيهِ جَوَازُ الْقِيَامُ عَلَى رَأْسِ الْأَمِيرِ بِالسَّيْفِ بِقَصْدِ الْحِرَاسَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ تَرْهِيبِ الْعَدُوِّ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْجَالِسِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ.

قَوْلُهُ: (فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَجَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُكَلِّمُهُ.

قَوْلُهُ:

(1)

وهي رواية في الحديث كما صرح القسطلاني.

ص: 340

(وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ) فِي مَغَازِي عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رِوَايَةَ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ لَمَّا رَأَى عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ مُقْبِلًا لَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَجَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرَ لِيَسْتَخْفِيَ مِنْ عُرْوَةَ عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: (بِنَعْلِ السَّيْفِ) هُوَ مَا يَكُونُ أَسْفَلَ الْقِرَابِ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (أَخِّرْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ التَّأْخِيرِ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إِلَيْكَ وَزَادَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُشْرِكٍ أَنْ يَمَسَّهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَيَقُولُ عُرْوَةُ: وَيْحَكَ مَا أَفَظَّكَ وَأَغْلَظَكَ وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ لِحْيَةَ مَنْ يُكَلِّمُهُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُلَاطَفَةِ، وَفِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَصْنَعُ ذَلِكَ النَّظِيرُ بِالنَّظِيرِ، لَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُفضِي لِعُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ اسْتِمَالَةً لَهُ وَتَأْلِيفًا، وَالْمُغِيرَةُ يَمْنَعُهُ إِجْلَالًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَعْظِيمًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَلَمَّا أَكْثَرَ الْمُغِيرَةُ مِمَّا يَقْرَعُ يَدَهُ غَضِبَ وَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ آذَانِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ؟ وَاللَّهِ لَا أَحْسَبُ فِيكُمْ أَلْأَمَ مِنْهُ وَلَا أَشَرَّ مَنْزِلَةً وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ نَفْسِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَوْلُهُ: (أَيْ غُدَرُ) بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَرَ مَعْدُولٌ عَنْ غَادِرٍ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِهِ بِالْغَدْرِ.

قَوْلُهُ: (أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ) أَيْ أَلَسْتُ أَسْعَى فِي دَفْعِ شَرِّ غَدْرَتِكَ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَةَ وَاللَّهِ مَا غَسَلْتُ يَدَيَّ مِنْ غَدْرَتِكَ، لَقَدْ أَوْرَثْتَنَا الْعَدَاوَةَ فِي ثَقِيفٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهَلْ غَسَلْتَ سَوْأَتَكَ إِلَّا بِالْأَمْسِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ: أَشَارَ عُرْوَةُ بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ لِلْمُغِيرَةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ ثَقِيفٍ مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِكٍ وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ، فَسَعَى عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَمُّ الْمُغِيرَةِ حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا وَاصْطَلَحُوا. وَفِي الْقِصَّةِ طُولٌ، وَقَدْ سَاقَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ، وَالْوَاقِدِيُّ الْقِصَّةَ، وَحَاصِلُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا زَائِرِينَ الْمُقَوْقِسَ بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَةُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْرَ، فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا وَثَبَ الْمُغِيرَةُ فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ) بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ أَقْبَلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ) أَيْ لَا أَتَعَرَّضُ لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فِي حَالِ الْأَمْنِ غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَةَ يَصْطَحِبُونَ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ تُؤَدَّى إِلَى أَهْلِهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَأَنَّ أَمْوَالَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا تَحِلُّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الْمَالَ فِي يَدِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُسْلِمَ قَوْمُهُ فَيَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَتْلَفَ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَرْمُقُ) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ يَلْحَظُ.

قَوْلُهُ: (فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ وَقَوْلُهُ: وَمَا يُحِدُّونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُدِيمُونَ، وَفِيهِ طَهَارَةُ النُّخَامَةِ وَالشَّعْرِ الْمُنْفَصِلِ وَالتَّبَرُّكُ بِفَضَلَاتِ الصَّالِحِينَ الطَّاهِرَةِ، وَلَعَلَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُرْوَةَ وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَا خَشِيَهُ مِنْ فِرَارِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا بِلِسَانِ الْحَالِ: مَنْ يُحِبُّ إِمَامَهُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَيُعَظِّمُهُ هَذَا التَّعْظِيمَ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفِرُّ عَنْهُ وَيُسَلِّمُهُ لِعَدُوِّهِ؟ بَلْ هُمْ أَشَدُّ اغْتِبَاطًا بِهِ وَبِدِينِهِ وَبِنَصْرِهِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي يُرَاعِي بَعْضُهَا بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرَّحِمِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَقْصُودِ بِكُلِّ طَرِيقٍ سَائِغٍ.

قَوْلُهُ: (وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ) هُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، وَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَعْظَمَ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَفِي مُرْسَلِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ عُرْوَةُ: أَيْ قَوْمِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الْمُلُوكَ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدٍ، وَمَا هُوَ بِمَلِكٍ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ الْهَدْيَ مَعْكُوفًا، وَمَا أَرَاكُمْ إِلَّا سَتُصِيبُكُمْ قَارِعَةٌ، فَانْصَرَفَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ وَفِي

ص: 341

قِصَّةِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوْدَةِ عَقْلِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرِهِ وَمُرَاعَاةِ أُمُورِهِ وَرَدْعِ مَنْ جَفَا عَلَيْهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِيِّ فَقَامَ الْحُلَيْسُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَسَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَبَاهُ عَلْقَمَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَكَانَ مِنْ رُءُوسِ الْأَحَابِيشِ، وَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْن كِنَانَةَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ بْنِ خُزَاعَةَ، وَالْقَارَّةُ وَهُمْ بَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ تَحُجَّ لَخْمٌ وَجُذَامُ وَكِنْدَةُ وَحِمْيَرُ، وَيُمْنَعَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَوْلُهُ: (فَابْعَثُوهَا لَهُ) أَيْ أَثِيرُوهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عَرْضِ الْوَادِي بِقَلَائِدِهِ قَدْ حُبِسَ عَنْ مَحِلِّهِ رَجَعَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ فِي مَغَازِي عُرْوَةَ، عَنِ الْحَاكِمِ فَصَاحَ الْحُلَيْسُ فَقَالَ: هَلَكَتْ قُرَيْشٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا أَتَوْا عَمَّارًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَجَلْ يَا أَخَا بَنِي كِنَانَةَ فَأَعْلِمْهُمْ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهُ عَلَى بُعْدٍ.

قَوْلُهُ: (فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَضِبَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ، أَيُصَدُّ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ؟ فَقَالُوا: كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازُ الْمُخَادَعَةِ فِي الْحَرْبِ وَإِظْهَارِ إِرَادَةِ الشَّيْءِ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، وَفِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ حُرُمَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِبَقَايَا مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ ابْنُ حَفْصٍ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ ابْنِ الْأَخْيَفِ وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ الْفَاءُ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَوَقَعَ بِخَطِّ ابْنِ عَبْدَةَ النَّسَّابَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِخَطِّ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الْحَافِظِ بِضَمِّهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ غَادِرٌ وَهُوَ أَرْجَحٌ، فَإِنِّي مَا زِلْتُ مُتَعَجِّبًا مِنْ وَصْفِهِ بِالْفُجُورِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ فُجُورٌ ظَاهِرٌ، بَلْ فِيهَا مَا يُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ فِي قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ فِي مَغَازِي الْوَاقِدَيِّ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ لِقُرَيْشٍ كَيْفَ نَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَبَنُو كِنَانَةَ خَلْفَنَا لَا نَأْمَنُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا؟ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ حَفْصَ بْنَ الْأَخْيَفِ يَعْنِي وَالِدَ مِكْرَزٍ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَضِيءٌ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ بِدَمٍ لَهُ كَانَ فِي قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَتْ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، فَعَدَا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ سَيِّدِ بَنِي بَكْرٍ غِرَّةً فَقَتَلَهُ، فَنَفَرَتْ مِنْ ذَلِكَ كِنَانَةُ، فَجَاءَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَكَانَ مِكْرَزٌ مَعْرُوفًا بِالْغَدْرِ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّتَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَأَخَذَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَهُوَ عَلَى الْحَرَسِ وَانْفَلَتَ مِنْهُمْ مِكْرَزٌ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَدَعَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَالُوا: اذْهَبْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَصَالِحْهُ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَرَادَتْ قُرَيْشٌ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثَتْ هَذَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ إِلَخْ) هَذَا مَوْصُولٌ إِلَى مَعْمَرٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مَوْصُولٌ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُصَالِحُوهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُهَيْلًا قَالَ: قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ إِلَى مَعْمَرٍ، وَهُوَ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ فِي أَثْنَائِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ

ص: 342

إِسْحَاقَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَرَى بَيْنَهُمَا الْقَوْلُ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا عَشْرَ سِنِينَ وَأَنْ يَأْمَنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُمْ هَذَا.

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ مُدَّةُ الصُّلْحِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ. وَوَقَعَ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِذٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ وَغَيْرُهُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي انْتَهَى أَمْرُ الصُّلْحِ فِيهَا حَتَّى وَقَعَ نَقْضُهُ عَلَى يَدِ قُرَيْشٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنَ الْمَغَازِي. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَالْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مُدَّةَ الصُّلْحِ كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ فَهُوَ مَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ مُنْكَرٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحِيحِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ فِيهَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ: فَقِيلَ لَا تُجَاوِزُ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ. وَقِيلَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَقِيلَ لَا تُجَاوِزُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقِيلَ ثَلَاثًا، وَقِيلَ سَنَتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ) هُوَ عَلِيٌّ بَيَّنَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا مَضَى فِي الصُّلْحِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ الْكِتَابُ عِنْدَنَا، كَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ انْتَهَى، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَصْلَ كِتَابِ الصُّلْحِ بِخَطِّ عَلِيٍّ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَنَسَخَ مِثْلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِنَ الْأَوْهَامِ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَنَّ اسْمَ كَاتِبِ الْكِتَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْشٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طُرُقٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ اسْمَ الْكَاتِبِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ قَالَ: كَانَ اسْمُ هِشَامِ بْنِ عِكْرِمَةَ بَغِيضًا، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ فَشُلَّتْ يَدُهُ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِشَامًا.

قُلْتُ: وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَتَبَهَا هِشَامُ بْنُ عِكْرِمَةَ هِيَ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا قُرَيْشٌ لَمَّا حَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الشِّعْبِ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَتَوَهَّمَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّحِيفَةِ هُنَا كِتَابُ الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنَهُمَا نَحْوُ عَشْرِ سِنِينَ، وَإِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ هُنَا خَشْيَةَ أَنْ يَغْتَرَّ بِذَلِكَ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ فَيَعْتَقِدُهُ اخْتِلَافًا فِي اسْمِ كَاتِبِ الْقِصَّةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (هَذَا مَا قَاضَى) بِوَزْنِ فَاعَلَ مِنْ قَضَيْتُ الشَّيْءَ أَيْ فَصَلْتُ الْحُكْمَ فِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ كِتَابَةِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَهُ مُعْتَلًّا بِخَشْيَةِ أَنْ يُظَنَّ فِيهَا أَنَّهَا نَافِيَةٌ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً) بِضَمِّ الضَّادِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ طَاءٌ مُهْمَلَةٌ أَيْ قَهْرًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَةً.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ - إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ يَتَّبِعُ مُحَمَّدًا لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ وَلَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَهَلْ دَخَلْنَ فِي هَذَا الصُّلْحِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِنَّ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ فَخُصِّص؟ وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ الصُّلْحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً أَيْ أَمْرًا مَطْوِيًّا فِي صُدُورٍ سَلِيمَةٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَهْدِ

ص: 343

الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ وَأَنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ أَيْ لَا سَرِقَةَ وَلَا خِيَانَةَ، فَالْإِسْلَالُ مِنَ السَّلَّةِ وَهِيَ السَّرِقَةُ، وَالْإِغْلَالُ الْخِيَانَةُ تَقُولُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ أَيْ خَانَ، أَمَّا فِي الْغَنِيمَةِ فَيُقَالُ: غَلَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ سِرًّا وَجَهْرًا، وَقِيلَ الْإِسْلَالُ مِنْ سَلِّ السُّيُوفِ، وَالْإِغْلَالُ مِنْ لُبْسِ الدُّرُوعِ، وَوَهَّاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَكَ هَذَا فَلَا تَدْخُلُ مَكَّةَ عَلَيْنَا، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَدَخَلْتَهَا بِأَصْحَابِكَ فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ: السُّيُوفُ فِي الْقِرَبِ، وَلَا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِهِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ سَيَأْتِي مِثْلُهَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الْمَغَازِي، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ)؟ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الْمَاضِيَةِ أَوَّلَ الشُّرُوطِ وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلَّا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَّا رَدَّهُ وَقَائِلُ ذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عُمَرُ لِمَا سَيَأْتِي، وَسَمَّى الْوَاقِدِيُّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ إِلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَزَادَ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ هُنَا، وَلِابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.

فَلَمَّا لَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَتَصَايَحَ الْفَرِيقَانِ، وَارْتَهَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ عِنْدَهُمْ، فَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانَ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَيْعَةِ فَبَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْعَبَهُمُ اللَّهُ، فَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ مُرْتَهَنًا وَدَعَوْا إِلَى الْمُوَادَعَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الْآيَةَ. وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بَيَانُ مَنْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْصُولَةً وَكَيْفِيَّةِ الْبَيْعَةِ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ مَنْ بَايَعَ وَفِي سَبَبِ الْبَيْعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلٍ) بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ اسْمُهُ الْعَاصِي فَتَرَكَهُ لَمَّا أَسْلَمَ، وَلَهُ أَخٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَسْلَمَ أَيْضًا قَدِيمًا وَحَضَرَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا فَفَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ كَانَ مَعَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا. وَقَدِ اسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْيَمَامَةِ قَبْلَ أَبِي جَنْدَلٍ بِمُدَّةٍ، وَأَمَّا أَبُو جَنْدَلٍ فَكَانَ حُبِسَ بِمَكَّةَ وَمُنِعَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَعُذِّبَ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَإِنَّ الصَّحِيفَةَ لَتُكْتَبُ إِذْ طَلَعَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، وَكَانَ أَبُوهُ حَبَسَهُ فَأَفْلَتَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ وَكَانَ سُهَيْلٌ أَوْثَقَهُ وَسَجَنَهُ حِينَ أَسْلَمَ، فَخَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَتَنَكَّبَ الطَّرِيقَ وَرَكِبَ الْجِبَالَ حَتَّى هَبَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَلَقَّوْهُ.

قَوْلُهُ: (يَرْسُفُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ أَيْ يَمْشِي مَشْيًا بَطِيئًا بِسَبَبِ الْقَيْدِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ فَضَرَبَ

ص: 344

وَجْهَهُ وَأَخَذَ يُلَبِّبُهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ) أَيْ لَمْ نَفْرُغْ مِنْ كِتَابَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَجِزْهُ لِي) بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ مِنَ الْإِجَازَةِ أَيْ أَمْضِ لِي فِعْلِي فِيهِ فَلَا أَرُدُّهُ إِلَيْكَ، أَوْ أَسْتَثْنِيهِ مِنَ الْقَضِيَّةِ. وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ فَأَجِرْهُ بِالرَّاءِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الزَّايَ، وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِالْقَوْلِ وَلَوْ تَأَخَّرَتِ الْكِتَابَةُ وَالْإِشْهَادُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُهَيْلٍ الْأَمْرَ فِي رَدِّ ابْنِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَطَّفَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ رَجَاءَ أَنْ يُجِيبَهُ لِذَلِكَ وَلَا يُنْكِرَهُ بَقِيَّةُ قُرَيْشٍ لِكَوْنِهِ وَلَدَهُ، فَلَمَّا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ تَرَكَهُ لَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْإِضْرَابِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بَلَى وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا أَجَابَ بِهِ سُهَيْلٌ، مِكْرَزًا فِي ذَلِكَ، قِيلَ فِي الَّذِي وَقَعَ مِنْ مِكْرَزٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفُجُورِ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُسَاعِدَ سُهَيْلًا عَلَى أَبِي جَنْدَلٍ فَكَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ عَكْسُ ذَلِكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفُجُورَ حَقِيقَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْبِرِّ نَادِرًا، أَوْ قَالَ ذَلِكَ نِفَاقًا وَفِي بَاطِنِهِ خِلَافُهُ، أَوْ كَانَ سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ فُجُورِهِ.

وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ سُهَيْلًا لَمْ يُجِبْ سُؤَالَهُ لِأَنَّ مِكْرَزًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ جُعِلَ لَهُ أَمْرُ عَقْدِ الصُّلْحِ بِخِلَافِ سُهَيْلٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ رَوَى أَنَّ مِكْرَزًا كَانَ مِمَّنْ جَاءَ فِي الصُّلْحِ مَعَ سُهَيْلٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، لَكِنْ ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِجَازَةَ مِكْرَزٍ لَمْ تَكُنْ فِي أَنْ لَا يَرُدَّهُ إِلَى سُهَيْلٍ بَلْ فِي تَأْمِينِهِ مِنَ التَّعْذِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّ مِكْرَزًا، وَحُوَيْطِبًا أَخَذَا أَبَا جَنْدَلٍ فَأَدْخَلَاهُ فُسْط اطًا وَكَفَّا أَبَاهُ عَنْهُ. وَفِي مَغَازِي ابْنِ عَائِذٍ نَحْوُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ وَلَفْظُهُ فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَكَانَ مِمَّنْ أَقْبَلَ مَعَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْتِمَاسِ الصُّلْحِ: أَنَا لَهُ جَارٌ، وَأَخَذَ قَيْدَهُ فَأَدْخَلَهُ فُسْطَاطًا وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْأُوَلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهُ بِأَنْ يُقِرَّهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِيَكُفَّ الْعَذَابَ عَنْهُ لِيَرْجِعَ إِلَى طَوَاعِيَةِ أَبِيهِ، فَمَا خَرَجَ بِذَلِكَ عَنِ الْفُجُورِ. لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ فَقَالَ مِكْرَزٌ: قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ؟ إِلَخْ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ فَأَوْصَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ وَيَقُولُ: اصْبِرْ، فَإِنَّمَا هُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ، قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَةَ السَّيْفِ مِنْهُ، يَقُولُ عُمَرُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنِّي فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، فَضَنَّ الرَّجُلُ - أَيْ بَخِلَ - بِأَبِيهِ وَنَفَذَتِ الْقَضِيَّةُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّةَ لِلْمُسْلِمِ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ، وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مع إِضْمَارِ الْإِيمَانِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّوْرِيَةُ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَلٍ إِلَى الْهَلَاكِ مَعَ وُجُودِهِ السَّبِيلَ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَوْتِ بِالتَّقِيَّةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْهَلَاكَ، وَإِنْ عَذَّبَهُ أَوْ سَجَنَهُ فَلَهُ مَنْدُوحَةٌ بِالتَّقِيَّةِ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا يَخَافُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ يَبْتَلِي بِهِ صَبْرَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: نَعَمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَبِي جَنْدَلٍ، وَأَبِي بَصِيرٍ، وَقِيلَ لَا، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ نَاسِخَهُ حَدِيثُ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ فَلَا يُرَدَّانِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ضَابِطُ جَوَازِ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ بِحَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 345

هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الَّذِي حَدَّثَ الْمِسْوَرَ، وَمَرْوَانَ بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ عُمَرُ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى) زَادَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ دَخَلَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَرَاجَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُرَاجَعَةً مَا رَاجَعْتُهُ مِثْلَهَا قَطُّ. وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْآتِي فِي الْجِزْيَةِ وَسُورَةِ الْفَتْحِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتَلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ - فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمْ يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ. فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: اتِّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيٍ، وَمَا أَلوت عَنِ الْحَقِّ وَفِيهِ: قَالَ: فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَيْتُ، حَتَّى قَالَ لِي: يَا عُمَرُ، تَرَانِي رَضِيتُ وَتَأْبَى.

قَوْلُهُ: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ.

قَوْلُهُ: (أَوَلَيْسَ كُنْتَ حَدَّثْتَنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَوُا الصُّلْحَ دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابِهِ الْبَيْتَ، فَلَمَّا رَأَوْا تَأْخِيرَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ جَوَازُ الْبَحْثِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَظْهَرَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْكَلَامَ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ حَتَّى تَظْهَرَ إِرَادَةُ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ حَيَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ) لَمْ يَذْكُرْ عُمَرُ أَنَّهُ رَاجَعَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ عِنْدَهُ، وَفِي جَوَابِ أَبِي بَكْرٍ، لِعُمَرَ بِنَظِيرِ مَا أَجَابَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَوَاءً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَكْمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَعْرَفَهُمْ بِأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَهُمْ بِأُمُورِ الدِّينِ وَأَشَدَّهُمْ مُوَافَقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَنْكَرُوا الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ، وَكَانُوا عَلَى رَأْيِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لَهُمْ، بَلْ كَانَ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءً، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ أَنَّ ابْنَ الدَّغِنَةِ وَصَفَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بِنَظِيرِ مَا وَصَفَتْ بِهِ خَدِيجَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءً؛ مِنْ كَوْنِهِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ صِفَاتُهُمَا مُتَشَابِهَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الِانْتِهَاءِ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا زَايٌ، وَهُوَ - أَيِ الْغَرْزُ - لِلْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْبِ لِلْفَرَسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمَسُّكُ بِأَمْرِهِ وَتَرْكُ الْمُخَالَفَةِ لَهُ كَالَّذِي يُمْسِكُ بِرَكْبِ الْفَارِسِ فَلَا يُفَارِقُهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا) هُوَ مَوْصُولٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ، وَعُمَرَ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ أَعْمَالًا أَيْ مِنَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ عُمَرَ، بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِ الْكُفَّارِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ قُوَّتِهِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ اهـ. وَتَفْسِيرِ الْأَعْمَالِ بِمَا ذُكِرَ مَرْدُودٌ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّوَقُّفِ فِي الِامْتِثَالِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ التَّصْرِيحُ بِمُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْمَالًا: فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَعْتَقْتُ بِسَبَبِ ذَلِكَ رِقَابًا، وَصُمْتُ دَهْرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الشَّكِّ فِي الدِّينِ فَوَاضِحٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ،

ص: 346

قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِهَا فَمَرْدُودٌ، وَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هَذَا الشَّكُّ هُوَ مَا لَا يَسْتَمِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ، كَذَلِكَ قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَوَقُّفٌ مِنْهُ لِيَقِفَ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي الْقِصَّةِ وَتَنْكَشِفَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَنَظِيرُهُ قِصَّتُهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى لَمْ يُطَابِقِ اجْتِهَادُهُ الْحُكْمَ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَإِنَّمَا عَمِلَ الْأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ لِهَذِهِ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ مَا صَدَرَ مِنْهُ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ الْكِتَابُ أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْحِ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْقَضِيَّةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَدْيِ فَسَاقَهُ الْمُسْلِمُونَ - يَعْنِي إِلَى جِهَةِ الْحَرَمِ - حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَحَبَسُوهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّحْرِ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ) قِيلَ كَأَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ لِلنَّدْبِ، أَوْ لِرَجَاءِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِإِبْطَالِ الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ، أَوْ تَخْصِيصِهِ بِالْإِذْنِ بِدُخُولِهِمْ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ لِإِتْمَامِ نُسُكِهِمْ، وَسُوِّغَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ زَمَانَ وُقُوعِ النَّسْخِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا أَلْهَتْهُمْ صُورَةُ الْحَالِ فَاسْتَغْرَقُوا فِي الْفِكْرِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الذُّلِّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مَعَ ظُهُورِ قُوَّتِهِمْ وَاقْتِدَارِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِمْ وَقَضَاءِ نُسُكِهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ أَخَّرُوا الِامْتِثَالَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَيُحْتَمَلُ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِمَجْمُوعِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ، وَلَا لِمَنْ نَفَاهُ، وَلَا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلنَّدْبِ، لِمَا يَطْرُقُ الْقِصَّةَ مِنْ الِاحْتِمَالِ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ لَهَا: أَلَا تَرَيْنَ إِلَى النَّاسِ؟ إِنِّي آمُرُهُمْ بِالْأَمْرِ فَلَا يَفْعَلُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: هَلَكَ الْمُسْلِمُونَ، أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا، قَالَ: فَجَلَّى اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بِأُمِّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْهُمْ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُكَلِّمْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِمَّا أَدْخَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَرُجُوعِهِمْ بِغَيْرِ فَتْحٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا فَهِمَتْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ احْتَمَلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ فِي حَقِّهِمْ وَأَنَّهُ هُوَ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْإِحْرَامِ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمْ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوَابَ مَا أَشَارَتْ بِهِ فَفَعَلَهُ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ ذَلِكَ بَادَرُوا إِلَى فِعْلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ تُنْتَظَرُ.

وَفِيهِ فَضْلُ الْمَشُورَةِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْقَوْلِ كَانَ أَبْلَغَ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ مُطْلَقًا أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ، وَجَوَازُ مُشَاوَرَةِ الْمَرْأَةِ الْفَاضِلَةِ، وَفَضْلُ أُمِّ سَلَمَةَ وَوُفُورُ عَقْلِهَا حَتَّى قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا نَعْلَمُ امْرَأَةً أَشَارَتْ بِرَأْيٍ فَأَصَابَتْ إِلَّا أُمَّ سَلَمَةَ. كَذَا قَالَ. وَقَدِ اسْتَدْرَكَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِنْتَ شُعَيْبٍ فِي أَمْرِ مُوسَى. وَنَظِيرُ هَذَا مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَمَا سَيَأْتِي هُنَاكَ مِنْ أَمْرِهِ لَهُمْ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ تَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ شَرِبَ شَرِبُوا.

قَوْلُهُ: (نَحَرَ بُدْنَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هَدْيَهُ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ سَبْعِينَ بَدَنَةً كَانَ فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ غَنِمَهُ مِنْهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي أَنَّ الَّذِي حَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ خِرَاشٌ - بِمُعْجَمَتَيْنِ - ابْنُ أُمَيَّةَ بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيُّ

ص: 347

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَئِذٍ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ - الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ظَاهَرْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَافِلًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ إِنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النَّاسُ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ وَلَمْ يُكَلَّمْ

(1)

أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، يَعْنِي مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ.

وَمِمَّا ظَهَرَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يدي الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الَّذِي دَخَلَ النَّاسُ عَقِبَهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَكَانَتِ الْهُدْنَةُ مِفْتَاحًا لِذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْفَتْحِ سُمِّيَتْ فَتْحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، فَإِنَّ الْفَتْحَ فِي اللُّغَةِ فَتْحُ الْمُغْلَقِ، وَالصُّلْحُ كَانَ مُغْلَقًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدُّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ، وَكَانَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ ضَيْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ عِزًّا لَهُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ لِأَجْلِ الْأَمْنِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ، وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمَنِينَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا خُفْيَةً، وَظَهَرَ مَنْ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ فَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْعِزَّةَ وَأُقْهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْغَلَبَةَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ إِلَخْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُنَّ جِئْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا جِئْنَ إِلَيْهِ بَعْدُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ مِمَّنْ خَرَجَ، وَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَمَّى مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمَذْكُورَاتِ أُمَيْمَةَ بِنْتَ بِشْرٍ وَكَانَتْ تَحْتَ حَسَّانَ - وَيُقَالُ ابْنُ دَحْدَاحَةَ - قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَتَزَوَّجَهَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ مُرْسَلًا، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

وَسُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَافِرٍ الْمَخْزُومِيِّ وَيُقَالُ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَالْأَوَّلُ أَولَى فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّ امْرَأَةَ صَيْفِيٍّ اسْمُهَا سَعِيدَةُ فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ. وَأُمَّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ فَارْتَدَّتْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ. وَبَرْوَعَ بِنْتَ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَبَدَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ نَضْلَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ. قُلْتُ: لَكِنْ عَمْرٌو قُتِلَ بِالْخَنْدَقِ وَكَأَنَّهَا فَرَّتْ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ زَوْجُهَا كَانَ أَهْلُهُ أَحَقَّ بِهَا. وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مِنَ النِّسَاءِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَشَرْحُ قِصَّةِ الِامْتِحَانِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ مَعَ بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ هُوَ عُتْبَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ وَقِيلَ فِيهِ عُبَيْدٌ بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ - وَهُوَ وَهَمٌ - ابْنُ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: في هامش نسخة: لعل "لم يكن".

ص: 348

الصَّحِيحِ ابْنِ جَارِيَةَ بِالْجِيمِ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ سَماء وَنَسَبَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَيْ بِالْحِلْفِ لِأَنَّ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ) سَمَّاهُمَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَصِيرٍ: خُنَيْسٌ وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ مُصَغَّرٌ ابْنُ جَابِرٍ وَمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ كَوْثَرٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ آخِرَ الْبَابِ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَكَتَبَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَالْأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا وَبَعَثَا بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُمَا وَرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرَيْنِ اهـ. وَالْأَخْنَسُ مِنْ ثَقِيفٍ رَهْطِ أَبِي بَصِيرٍ، وَأَزْهَرُ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ حُلَفَاءِ أَبِي بَصِيرٍ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِرَدِّهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالرَّدِّ تَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَطْلُوبِ بِالْأَصَالَةِ أَوِ الْحِلْفِ، وَقِيلَ إِنَّ اسْمَ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ مَرْثَدُ بْنُ حُمْرَانَ، زَادَ الْوَاقِدِيُّ فَقَدِمَا بَعْدَ أَبِي بَصِيرٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

قَوْلُهُ: (فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ صَالَحُونَا عَلَى مَا عَلِمْتَ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ. فَقَالَ: أَتَرُدُّنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي وَيُعَذِّبُونَنِي؟ قَالَ: اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ رَجُلٌ وَهُوَ رَجُلٌ وَمَعَكَ السَّيْفُ وَهَذَا أَوْضَحُ فِي التَّعْرِيضِ بِقَتْلِهِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الْمَطْلُوبِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ عَشِيرَتِهِ إِذَا كَانَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ، لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ أَبَا بَصِيرٍ، لِلْعَامِرِيِّ وَرَفِيقِهِ وَلَمْ يَكُونَا مِنْ عَشِيرَتِهِ وَلَمْ يَكُونَا مِنْ رَهْطِهِ، لَكِنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ أَقْوَى مِنْهُمَا، وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَرَادَ قَتْلَ الْآخَرِ.

وَفِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعَامِرِيَّ وَرَفِيقَهُ إِنَّمَا كَانَا رَسُولَيْنِ، وَلَوْ أَنَّ فِيهِمَا رِيبَةً لَمَا أَرْسَلَهُمَا مَنْ هُوَ مِنْ عَشِيرَتِهِ. وَأَيْضًا فَقَبِيلَةُ قُرَيْشٍ تَجْمَعُ الْجَمِيعَ لِأَنَّ بَنِي زُهْرَةَ وَبَنِي عَامِرٍ جَمِيعًا مِنْ قُرَيْشٍ وَأَبُو بَصِيرٍ كَانَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي زُهْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ جَاءَ أَبُو بَصِيرٍ مُسْلِمًا وَجَاءَ وَلِيُّهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رُدُّهُ عَلَيَّ فَرَدَّهُ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ فِيهِ مَجَازًا وَالتَّقْدِيرُ: جَاءَ رَسُولُ وَلِيِّهِ. وَرَسُولٌ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ كَانَ رَفِيقًا لِلرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا بِالْأَصَالَةِ.

قَوْلُهُ: (فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ دَخَلَ أَبُو بَصِيرٍ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ يَتَغَدَّى، وَدَعَاهُمَا فَقَدَّمَ سُفْرَةً لَهُمَا فَأَكَلُوا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ لِلْعَامِرِيِّ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ لِخُنَيْسِ بْنِ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ) أَيْ صَاحِبُ السَّيْفِ أَخْرَجَهُ مِنْ غِمْدِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمْكَنَهُ بِهِ) أَيْ بِيَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ أَيْ خَمَدَتْ حَوَاسُّهُ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ تَسْكُنُ حَرَكَتُهُ، وَأَصْلُ الْبَرَدِ السُّكُونُ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَعَلَاهُ حَتَّى قَتَلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَفَرَّ الْآخَرُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَخَرَجَ الْمَوْلَى يَشْتَدُّ أَيْ هَرَبًا.

قَوْلُهُ: (ذُعْرًا) أَيْ خَوْفًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَزَعًا.

قَوْلُهُ: (قُتِلَ صَاحِبِي) بِضَمِّ الْقَافِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ) أَيْ إِنْ لَمْ تَرُدُّوهُ عَنِّي، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ وَقَدْ أَفْلَتُّ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمَا فَأَوْثَقَاهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نَامَا فَتَنَاوَلَ السَّيْفَ بِفِيهِ فَأَمَرَّهُ عَلَى الْإِسَارِ فَقَطَعَهُ وَضَرَبَ أَحَدَهُمَا بِالسَّيْفِ وَطَلَبَ الْآخَرَ فَهَرَبَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ فِي الْمَغَازِي وَجَمَزَ الْآخَرَ وَاتَّبَعَهُ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى دَفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ وَهُوَ عَاضٌّ عَلَى أَسْفَلِ ثَوْبِهِ وَقَدْ بَدَا طَرَفُ ذَكَرِهِ

ص: 349

وَالْحَصَى يَطِيرُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ عَدْوِهِ، وَأَبُو بَصِيرٍ يَتْبَعُهُ.

قَوْلُهُ: (قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ) أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ عِقَابٌ فِيمَا صَنَعْتُ أَنَا، زَادَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فَتَنُونِي عَنْ دِينِي فَفَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَلَا عَقْدٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ قَتَلُ مَنْ جَاءَ فِي طَلَبِ رَدِّهِ إِذَا شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَبِي بَصِيرٍ قَتْلَهُ الْعَامِرِيَّ وَلَا أَمَرَ فِيهِ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَيْلُ امِّهِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ ذَمٍّ تَقُولُهَا الْعَرَبُ فِي الْمَدْحِ وَلَا يَقْصِدُونَ مَعْنَى مَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ، لِأَنَّ الْوَيْلَ الْهَلَاكُ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ لِأُمِّهِ الْوَيْلُ قَالَ بَدِيعُ الزَّمَانِ فِي رِسَالَةٍ لَهُ: وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ تَرِبَتْ يَمِينُهُ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَهَمَّ وَيَقُولُونَ وَيْلُ امِّهِ وَلَا يَقْصِدُونَ الذَّمَّ. وَالْوَيْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ وَالْحَرْبِ وَالزَّجْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِيِّ وَيْلَكَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ قَوْلِهِمْ وَيْلُ فُلَانٍ وَيْ لِفُلَانٍ أَيْ فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ فَأَلْحَقُوا بِهَا اللَّامَ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْهَا وَأَعْرَبُوهَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ تَبَعًا لِلْخَلِيلِ: إِنَّ وَيْ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَاللَّامُ بَعْدَهَا مَكْسُورَةٌ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا إِتْبَاعًا لِلْهَمْزَةِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مِسْعَرَ حَرْبٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَصْلُهُ مِنْ مُسْعِرِ حَرْبٍ، أَيْ يُسْعِرُهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَأَنَّهُ يَصِفُهُ بِالْإِقْدَامِ فِي الْحَرْبِ وَالتَّسْعِيرِ لِنَارِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِحَشَّ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى مِسْعَرٍ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يُحَرَّكُ بِهِ النَّارُ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ) أَيْ يَنْصُرُهُ وَيُعَاضِدُهُ وَيُنَاصِرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ فَلُقِّنَهَا أَبُو بَصِيرٍ فَانْطَلَقَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِالْفِرَارِ لِئَلَّا يَرُدَّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَرَمَزَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِ، قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِذَلِكَ لَا التَّصْرِيحُ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا فَاءٌ أَيْ سَاحِلَهُ، وَعَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْمَكَانَ فَقَالَ حَتَّى نَزَلَ الْعِيصَ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ قَالَ: وَكَانَ طَرِيقَ أَهْلِ مَكَّةَ إِذَا قَصَدُوا الشَّامَ. قُلْتُ: وَهُوَ يُحَاذِي الْمَدِينَةَ إِلَى جِهَةِ السَّاحِلِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ بِلَادِ بَنِي سُلَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ) أَيْ مِنْ أَبِيهِ وَأَهْلِهِ، وَفِي تَعْبِيرِهِ بِالصِّيغَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِشَارَةٌ إِلَى إِرَادَةِ مُشَاهَدَةِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَلٍ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مُسْلِمِينَ فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ ذِي الْمَرْوَةِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ فَقَطَعُوا مَادَّتَهُمْ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَمَا دُونَهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ بَلَغُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ نَفْسًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ: بَلَغُوا أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ، وَجَزَمَ عُرْوَةُ فِي الْمَغَازِي بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا سَبْعِينَ، وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمْ بَلَغُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَزَادَ عُرْوَةُ فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ وَكَرِهُوا أَنْ يَقْدَمُوا الْمَدِينَةَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ خَشْيَةَ أَنْ يُعَادُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَسَمَّى الْوَاقِدِيُّ مِنْهُمُ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ) أَيْ بِخَبَرِ عِيرٍ بِالْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ قَافِلَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا) أَيْ وَقَفُوا فِي طَرِيقِهَا بِالْعَرْضِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِهِمْ لَهَا مِنَ السَّيْرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَمَنْ مَعَهُ وَقَالُوا: وَمَنْ خَرَجَ مِنَّا إِلَيْكَ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ غَيْرُ حَرَجٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ) فِي

ص: 350

رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَذْكُورَةِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَصِيرٍ، فَقَدِمَ كِتَابُهُ وَأَبُو بَصِيرٍ يَمُوتُ، فَمَاتَ وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ، فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا. قَالَ وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَلٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا فَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ فَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَارُوا بِأَنْ لَا يُسَلِّمَ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِمَّا كَرِهُوا وَفِي قِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ الْمُعْتَدِي غِيلَةً، وَلَا يُعَدُّ مَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَصِيرٍ غَدْرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُعَاقَدَةِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَحْبُوسًا بِمَكَّةَ، لَكِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ أَنَّ الْمُشْرِكَ يُعِيدُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ دَرَأَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَتْلِهِ، وَدَافَعَ عَنْ دِينِهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ قَوْلَهُ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ أَبِي بَصِيرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، وقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الْعَامِرِيِّ طَالَبَ بِدِيَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ رَهْطِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: لَيْسَ عَلَى مُحَمَّدٍ مُطَالَبَةٌ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَأَسْلَمَهُ لِرَسُولِكُمْ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ بِأَمْرِهِ.

وَلَا عَلَى آلِ أَبِي بَصِيرٍ أَيْضًا شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينِهِمْ.

وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا بِطَلَبٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا أَبَا بَصِيرٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَسْلَمَهُ لَهُمْ، وَلَمَّا حَضَرَ إِلَيْهِ ثَانِيًا لَمْ يُرْسِلْهُ لَهُمْ، بَلْ لَوْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا خَشِيَ أَبُو بَصِيرٍ مِنْ ذَلِكَ نَجَا بِنَفْسِهِ. وَفِيهِ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي حَضَرَ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ بَاقِيًا فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ وَلَا مُتَحَيِّزًا إِلَيْهِ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ مَثَلًا لَوْ هَادَنَ بَعْضَ مُلُوكِ الشِّرْكِ فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَهْدَ الَّذِي هَادَنَهُمْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَنْ لَمْ يُهَادِنْهُمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ يحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةُ تَعْمِيمٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} كَذَا هُنَا، ظَاهِرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي بَصِيرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَرَادُوا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَظَفِرُوا بِهِمْ، فَعَفَا عَنْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ فِي نُزُولِهَا غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مَعَرَّةً: الْعَرُّ الْجَرَبُ) يَعْنِي أَنَّ الْمَعَرَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَرِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (تَزَيَّلُوا: تَمَيَّزُوا، حَمَيْتُ الْقَوْمَ: مَنَعْتُهُمْ حِمَايَةً إِلَخْ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ فِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِهِ بَيَانَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ مِنَ الْإِدْرَاجِ.

قَوْلُهُ: (وَبَلَغَنَا) هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ، وَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ. وَقَوْلُهُ:(وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ إِلَخْ) هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ قِصَّةَ أَبِي بَصِيرٍ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ مِنْ مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ مَوْصُولَةٌ إِلَى الْمِسْوَرِ، لَكِنْ قَدْ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى وَصْلِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَابَعَ عُقَيْلًا، الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى إِرْسَالِهَا. فَلَعَلَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يُرْسِلُهَا تَارَةً وَيُوصِلُهَا أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا وَفِيهَا قَوْلُهُ: أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَدِمَ مُؤْمِنًا كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي قَدِمَ مِنْ مِنًى وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ قَرِيبَةَ) يَأْتِي ضَبْطُهَا وَبَيَانُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ.

وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا

ص: 351

مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} وَقَدْ بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا لَمَّا نَزَلَتْ حَكَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا جَاءَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدَّ الصَّدَاقُ إِلَى زَوْجِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَأَتَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ}

قَوْلُهُ: (وَالْعَقِبُ إِلَخْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا) هُوَ كَلَامُ الزُّهْرِيِّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْمعَاقبَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْجَانِبِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَرَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ أُمَّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ارْتَدَّتْ وَفَرَّتْ مِنْ زَوْجِهَا عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، وَلَكِنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ ثَقِيفٍ حِينَ أَسْلَمُوا، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ: مِنْهَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ وَسَوْقَهِ سُنَّةٌ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّةً، وَأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ لَا مُثْلَةٌ، وَأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَأَنَّهُ نُسُكٌ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ مَحْصُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ، وَأَنَّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْحَرَمِ، وَيُقَاتِلُ مَنْ صَدَّهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِ تَرْكُ الْمُقَاتَلَةِ إِذَا وَجَدَ إِلَى الْمُسَالَمَةِ طَرِيقًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَسْطُ أَكْثَرِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَفِيهِ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ: مِنْهَا جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيِّ الْكُفَّارِ إِذَا انْفَرَدُوا عَنِ الْمُقَاتِلَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الْقِتَالِ.

وَفِيهِ الِاسْتِتَارُ عَنْ طَلَائِعِ الْمُشْرِكِينَ، وَمُفَاجَأَتُهُمْ بِالْجَيْشِ لِطَلَبِ غِرَّتِهِمْ، وَجَوَازُ التَّنَكُّبِ عَنِ الطَّرِيقِ السَّهْلِ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَعْرِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الطَّلَائِعِ وَالْعُيُونِ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ، وَالْأَخْذُ بِالْحَزْمِ فِي أَمْرِ الْعَدُوِّ لِئَلَّا يَنَالُوا غِرَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَازُ الْخِدَاعِ فِي الْحَرْبِ، وَالتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فَضْلُ الِاسْتِشَارَةِ لِاسْتِخْرَاجِ وَجْهِ الرَّأْيِ وَاسْتِطَابَةِ قُلُوبِ الْأَتْبَاعِ، وَجَوَازُ بَعْضِ الْمُسَامَحَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِحًا فِي أَصْلِهِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلسَّلَامَةِ فِي الْحَالِ وَالصَّلَاحِ فِي الْمَآلِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قُوَّتِهِمْ، وَأَنَّ التَّابِعَ لَا يَلِيقُ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ بَلْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ، لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ أَعْرَفُ بِمَآلِ الْأُمُورِ غَالِبًا بِكَثْرَةِ التَّجْرِبَةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ هُوَ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ الْكَافِرِ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخُزَاعِيَّ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَيْنًا لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ قُرَيْشٍ كَانَ حِينَئِذٍ كَافِرًا، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ لِذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ لِيَكُونَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِيهِمْ وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ قَبُولِ قَوْلِ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخُزَاعِيُّ الْمَذْكُورُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَشْتَهِرْ إِسْلَامُهُ حِينَئِذٍ، فَلَيْسَ مَا قَالَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌16 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ

2734 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،

ص: 352

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَعَطَاءٌ: إِذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي أُقْرِضَ الْأَلْفَ الدِّينَارِ، وَأَثَرَ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ فِي تَأْجِيلِ الْقَرْضِ، وَقَدْ مَضَى جَمِيعُ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ، وَسَقَطَ جَمِيعُ ذَلِكَ هُنَا لِلنَّسَفِيِّ، لَكِنْ زَادَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَلِيهِ فَقَالَ: بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ وَالْمُكَاتَبِ إِلَخْ.

‌17 - بَاب الْمُكَاتَبِ، وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فِي الْمُكَاتَبِ: شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ عُمَرُ: كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، وقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا، عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ.

2735 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُكَاتَبِ، وَمَا لَا يَحِلُّ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ) تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَعَمُّ مِنْ تِلْكَ وَإِنْ كَانَ حَدِيثُهُمَا وَاحِدًا، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَيْضًا مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَصَدَ تَفْسِيرَ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي، وَهُنَا أَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ عُمَرَ أَوِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ حُكْمُهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ مُسْتَنْبَطًا، وَكُلُّ مَا كَانَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُكَاتَبِ: شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرٍ ; وَوَقَعَ لَنَا مَرْوِيًّا مِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ عُمَرُ: كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَخْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَقَطْ وَلَمْ يَقُلْ أَوْ عُمَرُ ; لَكِنْ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - أَيِ الْمُصَنِّفُ - يُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْعِتْقِ.

ص: 353

‌18 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الْإِقْرَارِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ.

وَإِذَا قَالَ مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: قَالَ الرَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أدخل رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا. قَالَ: إِنْ لَمْ آتِكَ الْأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ، فَلَمْ يَجِئْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ، فَقَضَى عَلَيْهِ.

2736 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدة، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ.

[الحديث 2736 - طرفاه في: 6410، 7392]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَقْصُورٌ أَيِ الِاسْتِثْنَاءُ (فِي الْإِقْرَارِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءَ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ قَلِيلٍ، وَاسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَعَكْسُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ أَيْضًا، وَأَقْوَى حُجَجِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} مَعَ قَوْلِهِ: {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ مِنَ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ، وَقَدِ اسْتَثْنَى كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ الْمَاجِشُونِ إِلَى فَسَادِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنَّ الْجَوَازَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْهُمُ الْفَرَّاءُ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْبَابِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ أَنَّ رَجُلًا تَكَارَى مِنْ آخَرَ فَقَالَ: اخْرُجْ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ شُرَيْحًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَضَى عَلَى الْمُشْتَرِطِ بِمَا اشْتَرَطَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَوَافَقَهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَكْثَرُ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَخَالَفَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْجِمَالِ يُرْسِلُهَا إِلَى الْمَرْعَى، فَإِذَا اتَّفَقَ مَعَ التَّاجِرِ عَلَى يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَأَحْضَرَ لَهُ الْإِبِلَ فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لِلتَّاجِرِ السَّفَرُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِحَالِ الْجَمَّالِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَلَفِ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّعَارُفُ عَلَى مَالٍ مُعَيَّنٍ يَشْتَرِطُهُ التَّاجِرُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَخْلَفَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ الْجَمَّالُ عَلَى الْعَلَفِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ عِدَةٌ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌19 - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ

2737 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَنْبَأَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ

ص: 354

حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ. وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، ولَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ. قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ وَقْفِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الشُّرُوطِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْخَالِصُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَحَادِيثَ وَالْبَقِيَّةُ مُكَرَّرَةٌ، وَالْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ طَرِيقًا وَكُلُّهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ سِوَى بَلَاغِ الزُّهْرِيِّ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ أَثَرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌55 - كِتَاب الْوَصَايَا

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْوَصَايَا) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَأَخَّرَ الْبَاقُونَ الْبَسْمَلَةَ. وَالْوَصَايَا جَمْعُ وَصِيَّةٍ كَالْهَدَايَا، وَتُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُوصِي وَعَلَى مَا يُوصِي بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عَهْدٍ وَنَحْوِهِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْإِيصَاءُ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الِاسْمُ. وَفِي الشَّرْعِ عَهْدٌ خَاصٌّ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ يَصْحَبُهُ التَّبَرُّعُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْوَصِيَّةُ مِنْ وَصَيْتُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ أُوصِيهِ إِذَا وَصَّلْتَهُ، وَسُمِّيَتْ وَصِيَّةً لِأَنَّ الْمَيِّتَ يَصِلُ بِهَا مَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُقَالُ وَصِيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ، وَوَصَاةٌ بِالتَّخْفِيفِ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَتُطْلَقُ شَرْعًا أَيْضًا عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْحَثُّ عَلَى الْمَأْمُورَاتِ.

‌1 - بَاب الْوَصَايَا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ

وقال اللَّه عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * جَنَفًا} مَيْلًا. مُتَجَانِفٌ: مَائِلٌ.

2738 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 355

2739 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً"

[الحديث 2739 - أطرافه في: 2873، 2912، 3098، 4461]

2740 -

حَدَّثَنَا خَلَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ"

[الحديث 2740 - طرفاه في: 4460، 5022]

2741 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنهما كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي - فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ"؟

[الحديث 2741 - طرفه في: 4459]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَصَايَا) أَيْ حُكْمِ الْوَصَايَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَكَأَنَّهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَرْءَ هُوَ الرَّجُلُ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ - فِي الْوَصِيَّةِ الصَّحِيحَةِ - بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إِسْلَامٌ وَلَا رُشْدٌ وَلَا ثُيُوبَةٌ وَلَا إِذْنُ زَوْجٍ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا الْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَأَمَّا وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَفِيهَا خِلَافٌ: مَنَعَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ، وَصَحَّحَهَا مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ رَجَّحَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ وَغَيْرُهُ، وَمَالَ إِلَيْهِ السُّبْكِيُّ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّ الْوَارِثَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الثُّلُثِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ وَصِيَّةِ الْمُمَيِّزِ، قَالَ: وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَعْقِلَ مَا يُوصِي بِهِ. وَرَوَى الْمُوَطَّأُ فِيهِ أَثَرًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوِيٌّ فَإِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ وَلَهُ شَاهِدٌ، وَقَيَّدَ مَالِكٌ صِحَّتَهَا بِمَا إِذَا عَقَلَ وَلَمْ يَخْلِطْ، وَأَحْمَدُ بِسَبْعٍ وَعَنْهُ بِعَشْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} - إِلَى - جَنَفًا كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلنَّسَفِيِّ الْآيَةَ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ إِلَى غَفُورٍ رَحِيمٍ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مَفْعُولَ كَتَبَ، أَوِ الْوَصِيَّةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لِلْوَالِدَيْنِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَالُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا لَا تُشْرَعُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَالُ الْكَثِيرُ فَلَا تُشْرَعُ لِمَنْ لَهُ مَالٌ قَلِيلٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ التَّافِهُ مِنَ الْمَالِ أَنَّهُ لَا تُنْدَبُ لَهُ الْوَصِيَّةُ، وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ، فَالثَّابِتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ حَقًّا فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَدْبِيَّةُ الْوَصِيَّةِ مِنْ

ص: 356

غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. نَعَمْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا وَالْعِيَالُ كَثِيرًا اسْتُحِبَّ لَهُ تَوْفِرَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِغَيْرِ الْمَالِ كَأَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَنْظُرُ فِي مَصَالِحِ وَلَدِهِ أَوْ يَعْهَدَ إِلَيْهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ أَحَدٌ نَدْبِيَّتَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْمَالِ الْكَثِيرِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَعَنْ عَلِيٍّ: سَبْعُمِائَةٍ مَالٌ قَلِيلٌ، وَعَنْهُ ثَمَانُمِائَةٍ مَالٌ قَلِيلٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ فِيمَنْ تَرَكَ عِيَالًا كَثِيرًا وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ لَيْسَ هَذَا بِمَالٍ كَثِيرٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: {جَنَفًا} مَيْلًا) هُوَ تَفْسِيرُ عَطَاءٍ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ: الْجَنَفُ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ وَأَخْرَجَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْجَنَفَ: الْخَطَأُ وَالْإِثْمَ: الْعَمْدُ.

قَوْلُهُ: (مُتَجَانِفٌ: مُتَمَايِلٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ مَائِلٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ: قَوْلُهُ: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أَيْ غَيْرَ مُنْعَوِجٍ مَائِلٍ لِلْإِثْمِ، وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِإِثْمٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، وَالْوَصْفُ بِالْمُسْلِمِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ ذُكِرَ لِلتَّهْيِيجِ لِتَقَعَ الْمُبَادَرَةُ لِامْتِثَالِهِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنْ تَارِكِ ذَلِكَ، وَوَصِيَّةُ الْكَافِرِ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَقَدْ بَحَثَ فِيهِ السُّبْكِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ شُرِعَتْ زِيَادَةً فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَافِرُ لَا عَمَلَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَالْإِعْتَاقِ وَهُوَ يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ أَيُّوبَ أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ مَا يُوصِي فِيهِ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: مَا حَقُّ امْرِئٍ يُؤْمِنُ بِالْوَصِيَّةِ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ اهـ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عَوْنٍ جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ بِلَفْظِ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ يُتَابَعِ ابْنُ عَوْنٍ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ. قُلْتُ: إِنْ عَنَى عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِهَا فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا كَمَا سَيَأْتِي.

وَإِنْ عَنَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَمَرْدُودٌ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا ذِكْرُ مَنْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُهُ: لَهُ مَالٌ أَوْلَى عِنْدِي مِنْ قَوْلِ مَنْ رَوَى لَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِخِلَافِ الْمَالِ، كَذَا قَالَ، وَهِيَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَلَى تَسْلِيمِهَا فَرِوَايَةُ شَيْءٍ أَشْمَلُ لِأَنَّهَا تَعُمُّ مَا يُتَمَوَّلُ وَمَا لَا يُتَمَوَّلُ كَالْمُخْتَصَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يَبِيتُ) كَأَنَّ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ أَنْ يَبِيتَ، هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَبِيتُ صِفَةً لِمُسْلِمٍ وَبِهِ جَزَمَ الطِّيبِيُّ قَالَ: هِيَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَوْلُهُ: يُوصِي فِيهِ صِفَةُ شَيْءٍ، وَمَفْعُولُ يَبِيتُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ آمِنًا أَوْ ذَاكِرًا، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: تَقْدِيرُهُ مَوْعُوكًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ الْوَصِيَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرِيضِ. نَعَمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُنْدَبُ أَنْ يَكْتُبَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ وَلَا مَا جَرَتِ

ص: 357

الْعَادَةُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَالْوَفَاءُ لَهُ عَنْ قُرْبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَيْلَتَيْنِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ يَبِيتُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، وَلِمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَأَنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ لِتَزَاحُمِ أَشْغَالِ الْمَرْءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهَا فَفُسِحَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ لِيَتَذَكَّرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِيهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّقْرِيبِ لَا التَّحْدِيدِ، وَالْمَعْنَى لَا يَمْضِي عَلَيْهِ زَمَانٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اغْتِفَارِ الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَكَأَنَّ الثَّلَاثَ غَايَةٌ لِلتَّأْخِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ الْمَذْكُورَةِ لَمْ أَبَتْ لَيْلَةً مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا وَوَصِيَّتِي عِنْدِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي تَخْصِيصِ اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ بِالذِّكْرِ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ زَمَانًا مَا، وَقَدْ سَامَحْنَاهُ فِي اللَّيْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ) هُوَ الطَّائِفِيُّ (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) يَعْنِي فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ هَذِهِ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عِمْرَانُ بْنُ أَبَانَ - يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعِمْرَانُ أَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ وَضَعَّفَهُ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ غَرَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا، وَلَفْظُهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ ظَاهِرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ فِي آخَرِينَ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ.

وَنَسَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ إِلَى الْإِجْمَاعِ سِوَى مَنْ شَذَّ، كَذَا قَالَ، وَاسْتُدِلَّ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصِ لَقُسِّمَ جَمِيعُ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لَأُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ سَهْمٌ يَنُوبُ عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ الْحَدِيثَ.

وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ الَّذِي نُسِخَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَرِثُونَ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَرِثُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي النَّسْخَ فِي حَقِّهِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا حَقُّ امْرِئٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَهَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَقُّ لُغَةً الشَّيْءُ الثَّابِتُ، وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ أَيْضًا لَكِنْ بِقِلَّةٍ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ عَلَى أَوْ نَحْوُهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ، بَلِ اقْتَرَنَ هَذَا الْحَقُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ وَهُوَ تَفْوِيضُ الْوَصِيَّةِ إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي حَيْثُ قَالَ: لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرِّوَايَةِ الَّتِي بِلَفْظِ لَا يَحِلُّ فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهَا ذَكَرَهَا وَأَرَادَ بِنَفْيِ الْحِلِّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ فَأَكْثَرُهُمْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَعَنْ طَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي آخَرِينَ تَجِبُ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ خَاصَّةً أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، قَالُوا: فَإِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ لَمْ تَنْفُذْ وَيُرَدُّ الثُّلُثُ كُلُّهُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: ثُلُثَا الثُّلُثِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَأَقْوَى مَا يَرِدُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ

ص: 358

حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، قَالَ: فَجَعَلَ عِتْقَهُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةً، وَلَا يُقَالُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا أَقَارِبَ الْمُعْتِقِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ تَكُنْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَمْلِكَ مَنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَإِنَّمَا تَمْلِكُ مَنْ لَا قَرَابَةَ لَهُ أَوْ كَانَ مِنَ الْعَجَمِ، فَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ لِغَيْرِ الْقَرَابَةِ لَبَطَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ يَخْتَصُّ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يَخْشَى أَنْ يَضِيعَ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَوَدِيعَةٍ وَدَيْنٍ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيزِهِ وَلَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا. فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ سَاغَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ سَاغَ لَهُ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِعَيْنِهَا، وَإِنَّ الْوَاجِبَ لِعَيْنِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَنْجِيزِ مَا عَلَيْهِ وَكَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا أَوْ عَلِمَ بِهَا غَيْرُهُ فَلَا وُجُوبَ، وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً فِيمَنْ رَجَا مِنْهَا كَثْرَةَ الْأَجْرِ، وَمَكْرُوهَةً فِي عَكْسِهِ، وَمُبَاحَةً فِيمَنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ، وَمُحَرَّمَةً فِيمَا إِذَا كَانَ فِيهَا إِضْرَارٌ كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَاحْتَجَّ ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُوصِ.

فَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لَمَا تَرَكَهَا وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَالْعِبْرَةُ بِمَا رَوَى لَا بِمَا رَأَى، عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَبَتْ لَيْلَةً إِلَّا وَوَصِيَّتِي مَكْتُوبَةٌ عِنْدِي وَالَّذِي احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوصِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَلَا تُوصِي؟ قَالَ: أَمَّا مَالِي فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ فِيهِ، وَأَمَّا رِبَاعِي فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ وَيَتَعَاهَدُهَا ; ثُمَّ صَارَ يُنَجِّزُ مَا كَانَ يُوصِي بِهِ مُعَلَّقًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ فِي مَالِي. وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُهُ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ الْحَدِيثَ، فَصَارَ يُنَجِّزُ مَا يُرِيدُ التَّصَدُّقَ بِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْلِيقٍ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْوَصَايَا أَنَّهُ وَقَفَ بَعْضَ دُورِهِ، فَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، وَخَصَّ أَحْمَدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ ذُكِرَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ ضَبْطِ الْمَشْهُودِ بِهِ، قَالُوا: وَمَعْنَى وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ أَيْ بِشَرْطِهَا. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إِضْمَارُ الْإِشْهَادِ فِيهِ بُعْدٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِشْهَادِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِشْهَادِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذِكْرُ الْكِتَابَةِ مُبَالَغَةٌ فِي زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ، وَإِلَّا فَالْوَصِيَّةُ الْمَشْهُودُ بِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ وإِنْ كَانَتْ عِنْدَ صَاحِبِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَارْتَجَعَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِابْنِ عُمَرَ لِمُبَادَرَتِهِ لِامْتِثَالِ قَوْلِ الشَّارِعِ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى التَّأَهُّبِ لِلْمَوْتِ وَالِاحْتِرَازِ قَبْلَ الْفَوْتِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ سِنٍّ يُفْرَضُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِيهِ جَمْعٌ جَمٌّ ; وَكُلُّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ جَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَأَهِّبًا لِذَلِكَ فَيَكْتُبَ

ص: 359

وَصِيَّتَهُ، وَيَجْمَعَ فِيهَا مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْأَجْرُ وَيُحْبِطُ عَنْهُ الْوِزْرَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: لَهُ شَيْءٌ أَوْ لَهُ مَالٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمَنَعَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَمُطْلَقُهَا يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ، لَكِنَّ السَّلَفَ خَصُّوهَا بِالْمَرِيضِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ فِي الْخَبَرِ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: مَكْتُوبَةٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِخَطِّهِ أَوْ بِغَيْرِ خَطِّهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُهِمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تُضْبَطَ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا أَثْبَتُ مِنَ الضَّبْطِ بِالْحِفْظِ لِأَنَّهُ يَخُونُ غَالِبًا. الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ) هُوَ بَغْدَادِيٌّ سَكَنَ نَيْسَابُورَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَشَيْخُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ بِالتَّصْغِيرِ وَأَدَاةُ الْكُنْيَةِ هُوَ الْكَرْمَانِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ الْمِصْرِيَّ صَاحِبَ اللَّيْثِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ هُوَ الْخُزَاعِيُّ الْمُصْطَلِقِيُّ أَخُو جُوَيْرِيَةَ بِالْجِيمِ وَالتَّصْغِيرِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِي الْخُمُسِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً) أَيْ فِي الرِّقِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ رَقِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ كَانَ إِمَّا مَاتَ وَإِمَّا أَعْتَقَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَارِيَةَ وَالِدَةَ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا شَاةً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، نَعَمْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) سَيَأْتِي ذِكْرُ الْبَغْلَةِ وَالسِّلَاحِ فِي آخِرِ الْمَغَازِي، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي: وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَحَادِيثُ الْبَابِ مُطَابِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ إِلَّا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ لِلْوَصِيَّةِ ذِكْرٌ، قَالَ: لَكِنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُوصًى بِهَا فَتُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُطَابَقَةَ تَحْصُلُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْوَقْفِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ، ظَاهِرُهُ أَنَّ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَنْسُبْهُ فَلِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ ابْنُ مَغُولٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ مَالِكَ بْنَ مَغُولٍ تَفَرَّدَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؟ فَقَالَ: لَا) هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ وَصِيَّةٍ خَاصَّةٍ فَلِذَلِكَ سَاغَ نَفْيُهَا، لَا أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي: هَلْ قَالَ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ، أَوْ قَالَ: كَيْفَ أُمِرُوا بِهَا؟ زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُوصِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الِاعْتِرَاضُ، أَيْ كَيْفَ يُؤْمَرُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ وَلَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَعَلَّ ابْنَ أَبِي أَوْفَى أَرَادَ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ بَعْدَهُ مَالًا، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ سَبَّلَهَا فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْبَغْلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تُورَثُ عَنْهُ بَلْ جَمِيعُ مَا يَخْلُفُهُ صَدَقَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوصِي بِهِ مِنَ الْجِهَةِ الْمَالِيَّةِ.

وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يُرِدِ ابْنُ أَبِي أَوْفَى نَفْيَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ وَصِيَّتَهُ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ

ص: 360

شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي عَوَانَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ طَلْحَةُ: فَقَالَ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: أَبُو بَكْرٍ كَانَ يَتَأَمَّرُ ع لَى وَصِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَدَّ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ وَجَدَ عَهْدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَزَمَ أَنْفَهُ بِخِزَامٍ وَهُزَيْلٌ هَذَا بِالزَّايِ مُصَغَّرٌ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَمِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَدِيثِ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ السُّؤَالِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا مُطْلَقِ الْوَصِيَّةِ. قُلْتُ: أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ بِلَفْظٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَقَالَ: سُئِلَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا تَرَكَ شَيْئًا يُوصِي فِيهِ.

قِيلَ: فَكَيْفَ أُمِرَ النَّاسُ بِالْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُوصِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اسْتِبْعَادُ طَلْحَةَ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ، فَلَوْ أَرَادَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَخَصَّهُ بِهِ، فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةَ وَأُمِرُوا بِهَا فَكَيْفَ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَجَابَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ، قَالَ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ أَبِي أَوْفَى، وَطَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَاجِبَةٌ، كَذَا قَالَ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ أَيْ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ.

وَأَمَّا مَا صَحَّ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: لَا يَبْقَيَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَفِي لَفْظٍ: أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَوْلُهُ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي الثَّالِثَةَ، وَكَذَا مَا ثَبَتَ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُمْكِنُ حَصْرُهَا بِالتَّتَبُّعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ أَبِي أَوْفَى لَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ، وَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَهَمَّ، وَلِأَنَّ فِيهِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ إِمَّا بِطَرِيقِ النَّصِّ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَإِذَا اتَّبَعَ النَّاسُ مَا فِي الْكِتَابِ عَمِلُوا بِكُلِّ مَا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ، أَوْ يَكُونُ لَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنَ الْوَصَايَا الْمَذْكُورَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حَالَ قَوْلِهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّفْيِ الْوَصِيَّةَ بِالْخِلَافَةِ أَوْ بِالْمَالِ، وَسَاغَ إِطْلَاقُ النَّفْيِ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَبِقَرِينَةِ الْحَالِ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عُرْفًا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوصِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بِثَلَاثٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُ مَا قَالَ وَتَكَلَّفُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوِ الْمَنْفِيُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ أَوِ الْإِمَامَةُ، وَالْمُثْبَتُ الْوَصِيَّةُ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَيْ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ انْتَهَى. وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) هُوَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَزُرَارَةُ بِضَمِّ الزَّايِ، وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ زُرَارَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَهُوَ بَغْدَادِيٌّ وَلَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ بَدَلَ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زُرَارَةَ يَعْنِي الرَّقِّيَّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، إِسْمَاعِيلَ بْنَ زُرَارَةَ الثَّغْرِيَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْكَلَابَاذِيُّ وَلَا الْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ خَالُهُ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنهما كَانَ وَصِيًّا) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَتْ الشِّيعَةُ قَدْ وَضَعُوا أَحَادِيثَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بِالْخِلَافَةِ لِعَلِيٍّ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ عَائِشَةُ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَلَا بَعْدَ أَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ

ص: 361

السَّقِيفَةِ. وَهَؤُلَاءِ

(1)

تَنَقَّصُوا عَلِيًّا مِنْ حَيْثُ قَصَدُوا تَعْظِيمَهُ، لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ - مَعَ شَجَاعَتِهِ الْعُظْمَى وَصَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ - إِلَى الْمُدَاهَنَةِ وَالتَّقِيَّةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ طَلَبِ حَقِّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عِنْدَهَا أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَلِذَلِكَ سَاغَ لَهَا إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَاسْتَنَدَتْ إِلَى مُلَازَمَتِهَا لَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي حِجْرِهَا وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَسَاغَ لَهَا نَفْيُ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرًا فِي مَجَالِسَ مُعَيَّنَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ فِيهِ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُوصِ وَسَيَأْتِي فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ عُمَرَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْهَدْ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْإِمَارَةِ شَيْئًا الْحَدِيثَ.

وَأَمَّا الْوَصَايَا بِغَيْرِ الْخِلَافَةِ فَوَرَدَتْ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ يَجْتَمِعُ مِنْهَا أَشْيَاءُ: مِنْهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا فَعَلَتِ الذّهَيبةُ؟ قُلْتُ: عِنْدِي. فَقَالَ: أَنْفِقِيهَا الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَزَادَ فِيهِ: ابْعَثِي بِهَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا وَفِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا بِثَلَاثٍ: لِكُلٍّ مِنَ الدَّارِيِّينَ وَالرَّهَاوِيِّينَ وَالْأَشْعَرِيِّينَ بحاد

(2)

مِائَةِ وَسْقٍ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ، وَأَنْ يُنْفَذَ بَعْثُ أُسَامَةَ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَوْصَى بِثَلَاثٍ: أَنْ تُجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ وَاللَّفْظُ لَهُ كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَآخَرُ مِنْ رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيٍّ: وَأَدُّوا الزَّكَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَأَخْرَجَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ مِنَ الْفِتَنِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلُزُومَ الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ مُرْسَلِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ صلى

الله عليه وسلم أَوْصَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: قُولِي إِذَا مُتُّ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنَا - يَعْنِي فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَبْنَائِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَقَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ انْتَهَى، وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ.

وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَنَا مُتُّ فَغَسِّلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ مِنْ بِئْرِ غَرْسٍ وَكَانَتْ بِقُبَاءٍ وَكَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي ضَبْطُهَا وَزِيَادَةٌ فِي حَالِهَا فِي

(1)

أي الشيعة

(2)

قال مصحح طبعة بولاق: كذا بالأصول التي بأيدينا، وحرر الرواية

ص: 362

الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَرْسَالًا بِغَيْرِ إِمَامٍ وَمِنْ أَكَاذِيبِ الرَّافِضَةِ مَا رَوَاهُ كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ مِنْ كِبَارِهِمْ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً فِيهَا - فَدَخَلَ عَلِيٌّ فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِأَلْفِ بَابٍ مِمَّا يَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ مِنْهَا أَلْفَ بَابٍ وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مَوْصُولَةٌ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ وَاهٍ. وَقَوْلُهَا: انْخَنَثَ بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ نُونٍ مُثَلَّثَةٍ أَيِ انْثَنَى وَمَالَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِهِ فِي بَابِ الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌2 - بَاب أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ

2742 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: فَالثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ فَتَرْجَمَ بِهِ. وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا الْقَلِيلُ لَمْ تُنْدَبْ لَهُ الْوَصِيَّةُ كَمَا مَضَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدٍ شَيْخُهُ هُوَ خَالُهُ؛ لِأَنَّ أُمَّ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ هِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعْدٌ، وَعَامِرٌ زُهْرِيَّانِ مَدَنِيَّانِ تَابِعِيَّانِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ سَعْدٍ قَالَ: مَرِضَ سَعْدٌ وَقَدْ حَفِظَ سُفْيَانُ اسْمَهُ وَوَصَلَهُ فَرِوَايَتُهُ مُقَدَّمَةٌ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَامِرٍ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ وَتَقَدَّمَ سِيَاقُ حَدِيثِهِ فِي الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَرَوَاهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ جَمَاعَةٌ غَيْرُ ابْنِهِ عَامِرٍ كَمَا سَأُشِيرُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ) زَادَ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي وَلَهُ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إِلَّا ابْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: فِي فَتْحِ مَكَّةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: بِمَكَّةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَتْحَ، وَقَدْ وَجَدْتُ لِابْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَنَدًا فِيهِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْقَارِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ فَخَلَّفَ سَعْدًا مَرِيضًا حَيْثُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالًا، وَإِنِّي أُورَثُ كَلَالَةً، أَفَأُوصِي بِمَالِي الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَيِّتٌ أَنَا بِالدَّارِ الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهَا مُهَاجِرًا؟ قَالَ: لَا، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعَكَ اللَّهُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ

ص: 363

الْحَدِيثَ. فَلَعَلَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً عَامَ الْفَتْحِ وَمَرَّةً عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَفِي الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنَ الْأَوْلَادِ أَصْلًا، وَفِي الثَّانِيَةِ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَقَطْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ سَعْدٍ كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ سَعْدٌ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا أَكْرَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ بِلَفْظِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ على عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ مَاتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمُوتُ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا؟ قَالَ: لَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَرَاهَةِ الْمَوْتِ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدَ ابْنَ عَفْرَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: ابْنُ عَفْرَاءَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَقَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ وَهَمٌ، وَالْمَعْرُوفُ ابْنُ خَوْلَةَ قَالَ: وَلَعَلَّ الْوَهَمُ مِنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحْفَظُ مِنْهُ، وَقَالَ فِيهِ: سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا مَنْ وَافَقَ الزُّهْرِيَّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَاتَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي اسْمِهِ خَوْلِيٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى سُكُونِ الْوَاوِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَحَكَى عَنِ الْقَابِسِيِّ فَتْحَهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْفَرَائِضِ قَالَ سُفْيَانُ، وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ اهـ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ ثُمَّ لِأَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْهُمْ، وَقِيلَ كَانَ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ نَزَلُوا الْيَمَنَ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ، وَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ مِنْ آخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ، وَجَزَمَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِأَنَّ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ مَاتَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ مَاتَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ مَعَ قُرَيْشٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَجَوَّزَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْخِصَالِ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِابْنِ عَفْرَاءَ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مُعَاذٍ، وَمُعَوِّذٍ أَوْلَادِ عَفْرَاءَ وَهِيَ أُمُّهُمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ مَا يُضْحِكُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا، فَأَلْقَى الدِّرْعَ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ قَالَ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا رَأَى اشْتِيَاقَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِلْمَوْتِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَلِيَ الْوِلَايَاتِ ذَكَرَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَحُبَّهُ لِلْمَوْتِ وَرَغْبَتَهُ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا يُذْكَرُ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ، فَذَكَرَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ هِجْرَتِهِ، وَذَكَرَ ابْنَ عَفْرَاءَ مُسْتَحْسِنًا لِمِيتَتِهِ اهـ مُلَخَّصًا.

وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوْلِهِ: سَعْدُ ابْنُ عَفْرَاءَ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَوْفًا وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَوْتِ، بَلْ فِي بَعْضِهَا عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ: بَكَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَيْضًا فَمَخْرَجُ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، فَالِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ عَوْفُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ التَّيْمِيُّ:

ص: 364

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأُمِّهِ اسْمَانِ خَوْلَةُ وَعَفْرَاءُ اهـ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْمًا وَالْآخَرُ لَقَبًا أَوْ أَحَدُهُمَا اسْمَ أُمِّهِ وَالْآخَرُ اسْمَ أَبِيهِ أَوْ وَالْآخَرُ اسْمَ جَدَّةٍ لَهُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ عَفْرَاءَ اسْمُ أُمِّهِ وَالْآخَرَ اسْمُ أَبِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّهُ خَوْلَةُ أَوْ خَوْلَى، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ يَرْثِي لَهُ إِلَخْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: زَعَمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْثِي إِلَخْ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ.

قُلْتُ: وَكَأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ فَصَّلَ ذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فِي آخِرِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وَصْلِهِ فَلَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِإِدْرَاجِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا فِي الطِّبِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي ثُمَّ مَسَحَ وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ) فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا فِي الطِّبِّ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، فَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: أَفَأَتَصَدَّقُ فَيَحْتَمِلُ التَّنْجِيزَ وَالتَّعْلِيقَ بِخِلَافِ أَفَأُوصِي لَكِنَّ الْمَخْرَجَ مُتَّحِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيقِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: أَتَصَدَّقُ مَنْ جَعَلَ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مِنَ الثُّلُثِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الْمُنَجَّزَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا بَيَّنْتُهُ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي السُّؤَالِ فَكَأَنَّهُ سَأَلَ أَوَّلًا عَنِ الْكُلِّ، ثُمَّ سَأَلَ عَنِ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ عَنِ النِّصْفِ، ثُمَّ سَأَلَ عَنِ الثُّلُثِ، وَقَدْ وَقَعَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَذَا لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قُلْتُ فَالشَّطْرُ هُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: بِمَالِي كُلِّهِ أَيْ فَأُوصِي بِالنِّصْفِ، وَهَذَا رَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أُسَمِّي الشَّطْرَ أَوْ أُعَيِّنُ الشَّطْرَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ أَيَجُوزُ الشَّطْرُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: الثُّلُثَ؟ قَالَ: فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الْهِجْرَةِ قَالَ: الثُّلُثُ يَا سَعْدُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَفِي رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قُلْتُ فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمَيِّ، عَنْ سَعْدٍ وَفِيهِ: فَقَالَ: أَوْصَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ: بِمَالِي كُلِّهِ. قَالَ: فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ وَفِيهِ أَوْصِ بِالْعُشْرِ، قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُ وَأَقُولُ، حَتَّى قَالَ: أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ أَوْ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمَحْفُوظُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهُ، وَسَأَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: قَالَ: الثُّلُثَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ بِنَصْبِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ نَحْوِ عَيِّنِ الثُّلُثَ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوِ الْمُبْتَدَأُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أَوِ الثُّلُثُ كَافٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ مَسُوقًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ بِالثُّلُثِ وَأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَبْتَدِرُهُ الْفَهْمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالثُّلُثِ هُوَ الْأَكْمَلُ أَيْ كَثِيرٌ أَجْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: كَثِيرٌ غَيْرُ قَلِيلٍ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَهَذَا أَوْلَى مَعَانِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ عَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ) بِفَتْحِ أَنْ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُمَا

ص: 365

صَحِيحَانِ صُورِيَّانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ لَا جَوَابَ لَهُ وَيَبْقَى خَيْرٌ لَا رَافِعَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْنَاهُ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ بِالْكَسْرِ، وَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ - يَعْنِي ابْنَ الْخَشَّابِ - وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْكَسْرُ لِأَنَّهُ لَا جَوَابَ لَهُ لِخُلُوِّ لَفْظِ خَيْرٍ مِنَ الْفَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا اشْتُرِطَ فِي الْجَوَابِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: جَزَاءُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: خَيْرٌ أَيْ فَهُوَ خَيْرٌ، وحَذْفُ الْفَاءِ جَائِزٌ وَهُوَ كَقِرَاءَةِ طَاوُسٍ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ لَهُمْ خَيْرٌ قَالَ: وَمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ بَعُدَ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَضَيَّقَ حَيْثُ لَا تَضيقَ، لِأَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ قَلِيلٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الشِّعْرِ فِيمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا

أَيْ فَاللَّهُ يَشْكُرُهَا، وَإِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا بِحَذْفِ الْفَاءِ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ.

قَوْلُهُ: (وَرَثَتَكَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا عَبَّرَ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَدَعَ بِنْتَكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ لِكَوْنِ الْوَارِثِ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ، لِأَنَّ سَعْدًا إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَوْتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ وَبَقَائِهَا بَعْدَهُ حَتَّى تَرِثَهُ، وَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَمُوتَ هِيَ قَبْلَهُ فَأَجَابَ صلى الله عليه وسلم بِكَلَامٍ كُلِّيٍّ مُطَابِقٍ لِكُلِّ حَالَةٍ وَهو قَوْلُهُ: وَرَثَتَكَ وَلَمْ يَخُصَّ بِنْتًا مِنْ غَيْرِهَا، وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ شَارِحُ الْعُمْدَةِ: إِنَّمَا عَبَّرَ صلى الله عليه وسلم بِالْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ سَعْدًا سَيَعِيشُ وَيَأْتِيهِ أَوْلَادٌ غَيْرُ الْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَلَا أَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ بِذَلِكَ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَنْ تَدَعَ بِنْتَكَ مُتَعَيِّنًا لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِيهَا، فَقَدْ كَانَ لِأَخِيهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَوْلَادٌ إِذْ ذَاكَ، مِنْهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قُتِلَ بِصِفِّينَ وَسَأَذْكُرُ بَسْطَ ذَلِكَ، فَجَازَ التَّعْبِيرُ بِالْوَرَثَةِ لِتَدْخُلَ الْبِنْتُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُ لَوْ وَقَعَ مَوْتُهُ إِذْ ذَاكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. وأَمَّا قَوْلُ الْفَاكِهِيِّ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ فَفِيهِ قُصُورٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ، وَمُصْعَبٍ وَمُحَمَّدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سَعْدٍ وَوَقَعَ ذِكْرُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَمَّا وَقَعَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ شُيُوخِنَا تَعَقُّبٌ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةً مِنَ الذُّكُورِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ عُمَرُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَيَحْيَى، وَإِسْحَاقُ، وَعَزَا ذِكْرَهُمْ لِابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفَاتَهُ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ غَيْرَ السَّبْعَةِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرٌو، وَعِمْرَانُ، وَصَالِحٌ، وَعُثْمَانُ، وَإِسْحَاقُ الْأَصْغَرُ، وَعُمَرُ الْأَصْغَرُ، وَعُمَيْرٌ مُصَغَّرًا وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَكَأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَالَةً) أَيْ فُقَرَاءَ وَهُوَ جَمْعُ عَالٍ وَهُوَ الْفَقِيرُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ.

قَوْلُهُ: (يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) أَيْ يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِأَكُفِّهِمْ، يُقَالُ تَكَفَّفَ النَّاسَ وَاسْتَكَفَّ إِذَا بَسَطَ كَفَّهُ لِلسُّؤَالِ، أَوْ سَأَلَ مَا يَكُفُّ عَنْهُ الْجُوعَ، أَوْ سَأَلَ كَفًّا كَفًّا مِنْ طَعَامٍ.

وَقَوْلُهُ: فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ سَأَلُوا بِأَكُفِّهِمْ وَضْعَ الْمَسْئُولِ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: وَأَنَا ذُو مَالٍ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فِي الطِّبِّ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُؤْذِنُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو الْمَالِ إِذَا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ أَوْ بِشَطْرِهِ وَأَبْقَى ثُلُثَهُ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَغَيْرِهَا لَا يَصِيرُونَ عَالَةً، لَكِنَّ الْجَوَابَ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، وَإِلَّا فَلَوْ تَصَدَّقَ الْمَرِيضُ بِثُلُثَيْهِ مَثَلًا ثُمَّ طَالَتْ حَيَاتُهُ وَنَقَصَ وَفَنِيَ الْمَالُ فَقَدْ تُجْحِفُ الْوَصِيَّةُ بِالْوَرَثَةِ، فَرَدَّ الشَّارِعُ الْأَمْرَ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَدِلٍ وَهُوَ الثُّلُثُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَصِيَّةِ

ص: 366

بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَفْعَلْ لِأَنَّكَ إِنْ مُتَّ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ وَإِنْ عِشْتَ تَصَدَّقْتَ وَأَنْفَقْتَ فَالْأَجْرُ حَاصِلٌ لَكَ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ كَذَا أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا مُقَيَّدَةً بِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَعَلَّقَ حُصُولَ الْأَجْرِ بِذَلِكَ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَجْرَ الْوَاجِبِ يَزْدَادُ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَاجِبٌ، وَفِي فِعْلِهِ الْأَجْرَ، فَإِذَا نَوَى بِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ازْدَادَ أَجْرُهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: وَنَبَّهَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى اللُّقْمَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى نَفَقَةٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَتَجْعَلُهَا الْخَبَرُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلَخْ بِقِصَّةِ الْوَصِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ سَعْدٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَغِبَ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْرِ، فَلَمَّا مَنَعَهُ الشَّارِعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ: إِنَّ جَمِيعَ مَا تَفْعَلُهُ فِي مَالِكَ مِنْ صَدَقَةٍ نَاجِزَةٍ وَمِنْ نَفَقَةٍ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً تُؤْجَرُ بِهَا إِذَا ابْتَغَيْتَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُ خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُسْتَمِرَّةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ أَنَّ الثَّوَابَ فِي الْإِنْفَاقِ مَشْرُوطٌ بِصِحَّةِ النِّيَّةِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَهَذَا عُسْرٌ إِذَا عَارَضَهُ مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ الْغَرَضَ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَسَبَقَ تَخْلِيصُ هَذَا الْمَقْصُودِ مِمَّا يَشُوبُهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَاتِ إِذَا أُدِّيَتْ عَلَى قَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أُثِيبَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ لَا تَخْصِيصَ لَهُ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ وَلَفْظَةُ حَتَّى هُنَا تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَجْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ جَاءَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ.

قَوْلُهُ: (وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ) أَيْ يُطِيلَ عُمْرَكَ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ، فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ أَزِيدَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَلْ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ، لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَيَكُونُ عَاشَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ أَوْ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: (فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) أَيْ يَنْتَفِعَ بِكَ الْمُسْلِمُونَ بِالْغَنَائِمِ مِمَّا سَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ، وَيُضَرَّ بِكَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَهْلِكُونَ عَلَى يَدَيْكَ. وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْعِ بِهِ مَا وَق عَ مِنَ الْفُتُوحِ عَلَى يَدَيْهِ كَالْقَادِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَبِالضَّرَرِ مَا وَقَعَ مِنْ تَأْمِيرِ وَلَدِهِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُوَ كَلَامٌ مَرْدُودٌ لِتَكَلُّفِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَحْمِلُ عَلَى إِرَادَةِ الضَّرَرِ الصَّادِرِ مِنْ وَلَدِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ هُوَ الضَّرَرُ الْمَذْكُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ.

وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا فَقَالَ: لَمَّا أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى الْعِرَاقِ أُتِيَ بِقَوْمٍ ارْتَدُّوا فَاسْتَتَابَهُمْ فَتَابَ بَعْضُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُمْ، فَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ تَابَ وَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْآخَرِينَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَعَلَّ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرَجِّي لَكِنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ أَوْ مِنْ خَوَاصِّ الْوَرَثَةِ أَوْ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لِسَعْدٍ عَصَبَاتٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانُوا كَثِيرًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، أَوْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ عَلَى تَقْدِيرِ لَا يَرِثُنِي مِمَّنْ أَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ وَالْعَجْزَ إِلَّا هِيَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ، أَوِ اسْتَكْثَرَ لَهَا نِصْفَ التَّرِكَةِ. وَهَذِهِ الْبِنْتُ زَعَمَ بَعْضُ مِنْ أَدْرَكْنَاهُ أَنَّ اسْمَهَا عَائِشَةُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهِيَ غَيْرُ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ الَّتِي رَوَتْ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَفِي الطِّبِّ، وَهِيَ تَابِعِيَّةٌ عَمَّرَتْ حَتَّى أَدْرَكَهَا مَالِكٌ وَرَوَى عَنْهَا وَمَاتَتْ سَنَةَ مَائَةٍ وسَبْعِ عَشْرَةَ،

ص: 367

لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ النَّسَّابِينَ لِسَعْدٍ بِنْتًا تُسَمَّى عَائِشَةَ غَيْرَ هَذِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَكْبَرَ بَنَاتِهِ أُمُّ الْحَكَمِ الْكُبْرَى، وَأُمُّهَا بِنْتُ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَذَكَرُوا لَهُ بَنَاتٍ أُخْرَى أُمَّهَاتُهُنَّ مُتَأَخِّرَاتُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبِنْتَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا هِيَ أُمُّ الْحَكَمِ الْمَذْكُورَةُ لِتَقَدُّمِ تَزْوِيجِ سَعْدٍ بِأُمِّهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ حَرَّرَ ذَلِكَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ زِيَارَةِ الْمَرِيضِ لِلْإِمَامِ فَمَنْ دُونَهُ، وَتَتَأَكَّدُ بِاشْتِدَادِ الْمَرَضِ، وَفِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى جَبْهَةِ الْمَرِيضِ وَمَسْحُ وَجْهِهِ وَمَسْحُ الْعُضْوِ الَّذِي يُؤْلِمُهُ وَالْفَسْحُ لَهُ فِي طُولِ الْعُمْرِ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرِيضِ بِشِدَّةِ مَرَضِهِ وَقُوَّةِ أَلَمِهِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يُمْنَعُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ التَّبَرُّمِ وَعَدَمِ الرِّضَا، بَلْ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ لِطَلَبِ دُعَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ، وَرُبَّمَا اسْتُحِبَّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاتِّصَافَ بِالصَّبْرِ الْمَحْمُودِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمَرَضِ كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ بَعْدَ الْبُرْءِ أَجْوَزُ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ قَامَ غَيْرُهُ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ مَقَامَهُ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا خَافَ أَنْ يَمُوتَ بِالدَّارِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَفُوتُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَجْرِ هِجْرَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْ دَارِ هِجْرَتِهِ فَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ أَجْرٌ يُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، وَفِيهِ إِبَاحَةُ جَمْعِ الْمَالِ بِشَرْطِهِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا ذُو مَالٍ لِلْكَثْرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا وَأَنَا ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَالْحَثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ، وَأَنَّ صِلَةَ الْأَقْرَبِ أَفْضَلُ مِنْ صِلَةِ الْأَبْعَدِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ صَارَ طَاعَةً ; وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقَلِّ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعَادِيَّةِ وَهُوَ وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فَمِ

الزَّوْجَةِ؛ إِذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُمَازَحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُؤْجَرُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ قَصْدًا صَحِيحًا، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ.

وَفِيهِ مَنْعُ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَأَمَرَ بِنَقْلِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَبِأَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا يُبَالِي بِالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ وَرَثَةً يَخْشَى عَلَيْهِمُ الْفَقْرَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيلًا مَحْضًا وَإِنَّمَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَحَظِّ الْأَنْفَعِ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيلًا مَحْضًا لَاقْتَضَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، وَلَنَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِجَازَتِهِمْ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مَحْضًا فَهُوَ لِلنَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ لَا لِلزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا شُرِعَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْمُوصِي إِلَّا أَنَّ الِانْحِطَاطَ عَنْهُ أَوْلَى، وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ يَتْرُكُ وَرَثَةً غَيْرَ أَغْنِيَاءَ، فَنَبَّهَ سَعْدًا عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِالْمَرَضِ أَحَدٌ لِأَجْلِ حُبِّ الْوَطَنِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

وَفِيهِ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَأَطْلَقَ، وَقَيَّدَتِ السُّنَّةُ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ مُخْتَارًا، وَفِيهِ التَّأَسُّفُ عَلَى فَوْتِ مَا يُحَصِّلُ الثَّوَابَ، وَفِيهِ حَدِيثُ مَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَةٌ وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى جَبْرِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةُ مَنْ فَاتَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ بِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ لِمَا أَشَارَ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَفِيهِ جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ عُرِفَ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

وَفِيهِ الِاسْتِفْسَارُ عَنِ الْمُحْتَمَلِ إِذَا احْتَمَلَ وُجُوهًا؛ لِأَنَّ سَعْدًا لَمَّا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ الْمَنْعَ فِيمَا دُونَهُ وَالْجَوَازَ فَاسْتَفْسَرَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ.

وَفِيهِ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ لِلْوَاحِدِ يَعُمُّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ لِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ إِنَّمَا وَقَعَ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ

ص: 368

بِسَعْدٍ وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِمَّنْ يَخْلُفُ وَارِثًا ضَعِيفًا أَوْ كَانَ مَا يَخْلُفُهُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُطْمَعَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَالٍ لَمْ يُرْغَبْ فِيهَا.

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ مَالًا قَلِيلًا فَالِاخْتِيَارُ لَهُ تَرْكُ الْوَصِيَّةِ وَإِبْقَاءُ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ الْقَلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَصَايَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ التَّيْمِيُّ لِفَضْلِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَفِيهِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَمُرَاعَاةُ الْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ الْوَصِيَّةِ، وَيَحْتَاجُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِلَى ثُبُوتِ طَلَبِ الْكَثْرَةِ فِي الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي مَنْ قَالَ بِالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ لِلْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ قَالَ بِالرَّدِّ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْطُونَهَا فَرْضَهَا ثُمَّ يَرُدُّونَ عَلَيْهَا الْبَاقِيَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَرِثُ الْجَمِيعَ ابْتِدَاءً.

‌3 - بَاب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلَّا الثُّلُثَ، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}

2743 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ.

2744 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا قُلْتُ أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ وَإِنَّمَا لِي ابْنَةٌ قُلْتُ أُوصِي بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ قُلْتُ فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ - أَوْ كَبِيرٌ - قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ) أَيْ جَوَازِهَا أَوْ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ الْوَصِيَّةِ بِأَزْيَدَ مِنَ الثُّلُثِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ فِي بَابِ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَفِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَجَوَّزَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَإِسْحَاقُ، وَشَرِيكٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُطْلَقَةٌ بِالْآيَةِ فَقَيَّدَتْهَا السُّنَّةُ بِمَنْ لَهُ وَارِثٌ فَيَبْقَى مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ تَوْجِيهٌ لَهُمْ آخَرُ.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَوْ حَالَ الْمَوْتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ بِالثَّانِي أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ وَالْبَاقُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَمَسَّكَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ وَالْعُقُودُ تُعْتَبَرُ بِأَوَّلِهَا، وَبِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ حَالَةَ النَّذْرِ اتِّفَاقًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ عَقْدًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلِذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ بِهَا الْفَوْرِيَّةُ وَلَا الْقَبُولُ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنَّهَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا وَالنَّذْرُ يَلْزَمُ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ حَدَثَ لَهُ مَالٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ،

ص: 369

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا: هَلْ يُحْسَبُ الثُّلُثُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ أَوْ تَنْفُذُ بِمَا عَلِمَهُ الْمُوصِي دُونَ مَا خفِيَ عَلَيْهِ أَوْ تُجَدِّدَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ تَعْدَادَ مِقْدَارِ الْمَالِ حَالَةَ الْوَصِيَّةِ اتِّفَاقًا وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِجِنْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ شَرْطًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ.

(فَائِدَةٌ): أَوَّلُ مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فِي الْإِسْلَامِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بِمُهْمَلَاتٍ، أَوْصَى بِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ، فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ (لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلَّا بِالثُّلُثِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ كَالْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، قَالَ: وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَالَّذِي حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الثُّلُثِ هُوَ الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا حَدَّهُ فَقَدْ أَتَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُرِدِ الْبُخَارِيُّ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْنَا وَرَثَتُهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ وَصِيَّتِهِ إِلَّا الثُّلُثُ، لِأَنَّا لَا نَحْكُمُ فِيهِمْ إِلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَإِنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَلْحَقِ الثَّوْرِيَّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَلَيْسَ لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (لَوْ غَضَّ النَّاسُ) بِمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ نَقَصَ، وَلَوْ لِلتَّمَنِّي فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، أَوْ شَرْطِيَّةٌ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ أَيْضًا وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (إِلَى الرُّبُعِ) زَادَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْوَصِيَّةِ وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فِي الْوَصِيَّةِ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ.

قَوْلُهُ: (لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) هُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا اخْتَارَهُ مِنَ النُّقْصَانِ عَنِ الثُّلُثِ، وَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم الثُّلُثَ بِالْكَثْرَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ كَإِسْحَاقِ ابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابُ النَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، لِلنَّوَوِيِّ: إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا.

قَوْلُهُ: (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ بِالشَّكِّ هَلْ هِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ أَوْ بِالْمُثَلَّثَةِ.

2744 -

حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي. قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا. قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ وَإِنَّمَا لِي ابْنَةٌ. فقُلْتُ: أُوصِي بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ. قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ - أَوْ كَبِيرٌ - قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ فجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ وَأَكْبَرُ مِنْهُ قَلِيلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَرْوَانُ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ) أَيِ ابْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَرْوِي عَنْ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَكِّيٌّ يَرْوِي عَنْ هَاشِمٍ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ لَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثٌ عَنْ مَكِّيٍّ، عَنْ هَاشِمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي) هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةِ الْمَوْتِ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَشَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ يَعْنِي يُقِيمُكَ مِنْ مَرَضِكَ.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: (قُلْتُ: أُوصِي بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ) لَمْ أَرَ فِي غَيْرِهَا مِنْ طُرُقِهِ وَصْفَ النِّصْفِ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا فِيهَا قَالَ لَا فِي كُلِّهِ، وَلَا فِي ثُلُثَيْهِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِشْكَالٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ وَصْفِ النِّصْفِ بِالْكَثْرَةِ وَوَصْفِ الثُّلُثِ بِالْكَثْرَةِ فَكَيْفَ امْتَنَعَ النِّصْفُ

ص: 370

دُونَ الثُّلُثِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي فِيهَا جَوَابُ النِّصْفِ دَلَّتْ عَلَى مَنْعِ النِّصْفِ وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُهَا فِي الثُّلُثِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِهِ بِالْكَثْرَةِ، وَعُلِّلَ بِأَنَّ إِبْقَاءَ الْوَرَثَةِ أَغْنِيَاءَ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: الثُّلُثُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مُبَاحٌ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ فَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ النَّقْصَ مِنَ الثُّلُثِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلِاسْتِحْبَابِ لَا لِلْمَنْعِ مِنْهُ؛ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب قَوْلِ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: تَعَاهَدْ وَلَدِي. وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مِنْ الدَّعْوَى

2745 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ. فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ. لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ. فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: تَعَاهَدْ وَلَدِي وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مِنَ الدَّعْوَى) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ مُخَاصَمَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي كِتَابِ الْأشْخَاصِ دَعْوَى الْمُوصِي لِلْمَيِّتِ أَيْ عَنِ الْمَيِّتِ، وَانْتِزَاعُ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَاضِحٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌5 - بَاب إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ

2746 -

حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ؟ أَفُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً تُعْرَفُ) أَيْ هَلْ يُحْكَمُ بِهَا؟

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي رَضَّ الْيَهُودِيُّ رَأْسَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 371

‌6 - بَاب لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ

2747 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.

[الحديث 2747 - طرفاه في: 4578، 6739]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ كَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فَتَرْجَمَ بِهِ كَعَادَتِهِ، وَاسْتَغْنَى بِمَا يُعْطَى حُكْمُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقَدْ قَوَّى حَدِيثَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعَنْ، جَابِرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا وَقَالَ: الصَّوَابُ إِرْسَالُهُ، وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَا يَخْلُو إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ، لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، بَلْ جَنَحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَتْنَ مُتَوَاتِرٌ فَقَالَ: وَجَدْنَا أَهْلَ الْفُتْيَا وَمَنْ حَفِظْنَا عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَامَ الْفَتْحِ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَيُؤْثِرُونَ عَمَّنْ حَفِظُوهُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ نَقْلَ كَافَّةٍ عَنْ كَافَّةٍ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ نَقْلِ وَاحِدٍ.

وَقَدْ نَازَعَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرًا وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ عَلَى مُقْتَضَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْوَارِثِ عَدَمُ اللُّزُومِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ: فَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَطَاءً هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فَتَرْجَمَ بِالْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَ الْبَابِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا، إِلَّا أَنَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِخْبَارٌ بِمَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ بِهَذَا التَّقْدِيرِ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَإِثْبَاتَ الْمِيرَاثِ لَهُمَا بَدَلًا مِنْهَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ لَهُمَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَنْ دُونَهُمَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يُجْمَعَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِلَخْ فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ ; وَقَدْ وَافَقَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ - وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ فِي رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ وَرْقَاءَ - عِيسَى بْنَ مَيْمُونٍ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَخَالَفَ وَرْقَاءَ، شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فَجَعَلَ مُجَاهِدًا مَوْضِعَ عَطَاءٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (وَجَعَلَ

ص: 372

لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ) أَيْ فِي حَالَيْنِ وَكَذَلِكَ لِلزَّوْجِ، قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً لِوَالِدَيِ الْمَيِّتِ وَأَقْرِبَائِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ وَالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: كَانَتْ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ دُونَ الْأَوْلَادِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرِثُونَ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ شُرَيْحٍ فَقَالَ: كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِمِقْدَارِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي فِي عِلْمِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَهَا ; وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ لِأَنَّ الْأَقْرَبِينَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا وُرَّاثًا، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِجَمِيعِهِمْ فَخَصَّ مِنْهَا مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَبَقِيَ حَقُّ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مِنَ الْوَصِيَّةِ عَلَى حَالِهِ قَالَهُ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ نَاسِخِ آيَةِ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَقِيلَ: آيَةُ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَقِيلَ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ دَلِيلُهُ.

وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ بِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ أَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ نَفَاذِهَا مِنَ الثُّلُثِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ، وَقَوَّاهُ السُّبْكِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فَإِنَّ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا شَدِيدًا وَفَسَّرَ الْقَوْلَ الشَّدِيدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ رَاجَعَ الْوَرَثَةَ فَدَلَّ عَلَى مَنْعِهِ مُطْلَقًا، وَبِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الثُّلُثُ جَائِزًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّطْرِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ صُورَةَ الْإِجَازَةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ.

وَاحْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ لَمْ يَمْتَنِعْ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِجَازَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَجَازُوا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَ لَهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءُوا، وَإِنْ أَجَازُوا بَعْدَهُ نَفَذَ، وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَيَاةِ بَيْنَ مَرَضِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهِ فَأَلْحَقُوا مَرَضَ الْمَوْتِ بِمَا بَعْدَهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مَا إِذَا كَانَ الْمُجِيزُ فِي عَائِلَةِ الْمُوصِي وَخَشِيَ مِنِ امْتِنَاعِهِ انْقِطَاعَ مَعْرُوفِهِ عَنْهُ لَوْ عَاشَ فَإِنَّ لِمِثْلِ هَذَا الرُّجُوعَ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ: لَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا. وَاتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا بِيَوْمِ الْمَوْتِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ الْوَارِثِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ ابْنٌ يَحْجُبُ الْأَخَ الْمَذْكُورَ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ قَبْلَ مَوْتِهِ يَحْجُبُ الْأَخَ فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ الْمَذْكُورِ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ فَمَاتَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ وَصِيَّةِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِرْثًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ جِدًّا حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ لَا يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ لِلذِّمِّيِّ أَوْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ

2748 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ.

ص: 373

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ) أَيْ جَوَازِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلَ.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِهِ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ هُنَاكَ فِي جَمِيعِ إِسْنَادِهِ بَدَلَ الْعَنْعَنَةِ هُنَا.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَصَدَّقَ) بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَأَصْلُهُ أَنْ تَتَصَدَّقَ. وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى إِدْغَامِهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُمْهِلْ) بِالْإِسْكَانِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فُلَانٌ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي الْمُوصَى لَهُ وَفُلَانٌ الْأَخِيرُ الْوَارِثُ لِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَمِيعِ مَنْ يُوصَى لَهُ وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَانَ فِي الثَّالِثِ إِشَارَةً إِلَى تَقْدِيرِ الْقَدْرِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ الْوَارِثَ وَالثَّانِي الْمُوَرِّثَ وَالثَّالِثُ الْمُوصَى لَهُ.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَصِيَّةً وَبَعْضُهَا إِقْرَارًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قُلْتُ: اصْنَعُوا لِفُلَانٍ كَذَا وَتَصَدَّقُوا بِكَذَا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَأَبُوهُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ وَاللَّفْظُ لِابْنِ مَاجَهْ، قال: بَزَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي كَفِّهِ ثُمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ السَّبَّابَةَ وَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ أَنَّى يُعْجِزُنِي ابْنُ آدَمَ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، فَإِذَا بَلَغَتْ نَفْسُكَ إِلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْيَمَانِ: حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بَرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَتَصَدَّقُوا بِكَذَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ تَنْجِيزَ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّصَدُّقِ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَرَضِ، وَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى إِلَخْ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَصْعُبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَالِ غَالِبًا لِمَا يُخَوِّفُهُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَيُزَيِّنُ لَهُ مِنْ إِمْكَانِ طُولِ الْعُمْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الْآيَةَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا زَيَّنَ لَهُ الْحَيْفَ فِي الْوَصِيَّةِ أَوِ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ فَيَتَمَحَّضُ تَفْضِيلُ الدِّقَّةِ النَّاجِزَةِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّرَفِ:

يَعْصُونَ اللَّهَ فِي أَمْوَالِهِمْ مَرَّتَيْنِ: يَبْخَلُونَ بِهَا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ يَعْنِي فِي الْحَيَاةِ، وَيُسْرِفُونَ فِيهَا إِذَا خَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ، يَعْنِي بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يُعْتِقُ وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ، وَهُوَ يَرْجِعُ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ.

‌8 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لَا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي

ص: 374

قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ. ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلَا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا ائتُمِنَ خَانَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلَا غَيْرَهُ. فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

2749 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَرَادَ الْمُصَنِّفُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الِاحْتِجَاجَ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ جَوَازِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُقِرُّ لَهُ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ سبحانه وتعالى سَوَّى بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَى الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُفَصِّلْ، فَخَرَجَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَبَقِيَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا إِلَّا بِمَا يَلِيهِ وَحْدَهُ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ قِسْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَقَعُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ وَالْوَصِيَّةُ هُنَا الْمَالُ الْمُوصَى بِهِ، وَقَوْلُهُ:{يُوصِي بِهَا} هَذِهِ الصِّفَةُ تُقَيِّدُ الْمَوْصُوفَ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُوصِيَ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ: وَأَفَادَ تَنْكِيرُ الْوَصِيَّةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ، كَذَا قَوْلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَطَاوُسًا، وَعَطَاءً، وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ) كَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ لِضَعْفِ الْإِسْنَادِ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَأَمَّا أَثَرُ شُرَيْحٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ جَازَ وَفِي إِسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ، وَلَكِنْ سَيَأْتِي لَهُ إِسْنَادٌ أَصَحُّ مِنْ هَذَا بَعْدُ. وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ، وَأَمَّا طَاوُسٌ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ جَازَ وَفِي الْإِسْنَادِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِمِثْلِهِ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَأَمَّا ابْنُ أُذَيْنَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ قَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَأَبُوهُ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَوَهَمَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ يُقِرُّ لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ قَالَ: يَجُوزُ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْآخِرَةِ) هَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ فِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارٌ لِوَارِثٍ، قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا جَازَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَآخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمَرِيضِ إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ بَرِئَ وَعَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْحَكَمِ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لَا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ عَنْ مَالٍ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ مَوْصُولًا بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ

ص: 375

الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَسَنِ فِي تَنْفِيذِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ)، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَجْهُهُ أَنَّهَا لَا تُتَّهَمُ بِالْمَيْلِ إِلَى زَوْجِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ) أَيِ الْمَرِيضِ (لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ مَا إِذَا أَقَرَّ بِالْمُضَارَبَةِ مَثَلًا لِلْوَارِثِ لَزِمَهُ التَّنَاقُضُ وَإِلَّا فَلَا، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رِبْحَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ كَالدَّيْنِ الْمَحْضِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ جَائِزٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ النَّخَعِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: يُبْدَأُ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ وَيَتَحَاصُّ أَصْحَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فَأَجَازَهُ مُطْلَقًا الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا إِذَا أَقَرَّ لِبِنْتِهِ وَمَعَهَا مَنْ يُشَارِكُهَا مِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ كَابْنِ الْعَمِّ مَثَلًا، قَالَ: لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يَزِيدَ بِنْتَهُ وَيَنْقُصَ ابْنَ عَمِّهِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَاسْتُثْنِيَ مَا إِذَا أَقَرَّ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي يُعْرَفُ بِمَحَبَّتِهَا وَالْمَيْلِ إِلَيْهَا وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا تَبَاعُدٌ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَهُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَدٌ، وَحَاصِلُ الْمَنْقُولِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ: مَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى التُّهْمَةِ وَعَدَمِهَا فَإِنْ فُقِدَتْ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ; وَهُوَ اخْتِيَارُ الرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَعَنْ شُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِوَارِثٍ إِلَّا لِزَوْجَتِهِ بِصَدَاقِهَا، وَعَنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ - فِي قَوْلٍ زَعَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَيْهِ - وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَنَعَ الْوَصِيَّةَ لَهُ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَزِيدَ الْوَصِيَّةَ لَهُ فَيَجْعَلَهَا إِقْرَارًا، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا بِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ التُّهْمَةَ فِي حَقِّ الْمُحْتَضِرِ بَعِيدَةٌ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ لِوَارِثِهِ بِوَصِيَّةٍ وَأَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ رَجَعَ أَنَّ رُجُوعَهُ عَنِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ، بخِلَاف الْوَصِيَّةِ، فَيَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ لَهُ بِالْمَالِ، وَبِأَنَّ مَدَارَ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ فَلَا يُتْرَكُ إِقْرَارُهُ لِلظَّنِّ الْمُحْتَمَلِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَصَدَ بِذِكْرِهِ هُنَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِالْمَرِيضِ فَمَنَعَ تَصَرُّفَهُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَكْذَبُ الْحَدِيثِ أَيْ أَكْذَبُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ يُوصَفُ بِهِمَا الْقَوْلُ لَا الظَّنُّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا ائتُمِنَ خَانَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَوَجْهُهُ تَعَلُّقُهُ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ إِجَازَةَ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى ذَمِّ الْخِيَانَةِ، فَلَوْ تَرَكَ ذِكْرَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَكَتَمَهُ لَكَانَ خَائِنًا لِلْمُسْتَحِقِّ فَلَزِمَ مِنْ وُجُوبِ تَرْكِ الْخِيَانَةِ وُجُوبُ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ إِذَا كَتَمَ صَارَ خَائِنًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ إِقْرَارَهُ كَانَ حَمَلَهُ عَلَى الْكِتْمَانِ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلَا غَيْرَهُ) أَيْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي حَدِيثَ آيَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي عَلَّقَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَلَفْظُهُ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا. وَفِيهِ: وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ

ص: 376

وَمَتْنِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌9 - بَاب تَأْوِيلِ قَوْلِه تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ. وَقَوْلِهِ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُوصِي الْعَبْدُ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ.

2750 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَأبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ رحمه الله.

2751 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ"

قَوْلُهُ (بَابُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَيْ بَيَانِ الْمُرَادِ بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْأَدَاءِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ السِّرُّ فِي تَكْرَارِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْأَعْوَرُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَضَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ لَفْظُ أَحْمَدَ وَهُوَ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، لَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ لِاعْتِضَادِهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِلَّا فَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ أَنْ يُورِدَ الضَّعِيفَ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ مَا يُعَضِّدُهُ أَيْضًا، وَلَمْ

ص: 377

يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا لَوْ أَوْصَى الشَّخْصُ بِأَلْفٍ مَثَلًا وَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ وَحُكِمَ بِهِ ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ دَيْنًا يَسْتَغْرِقُ مَوْجُودَهُ وَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ فَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ تُقَدَّمُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ، ثُمَّ قَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي إِطْلَاقِ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ تَرْتِيبٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَوَارِيثَ إِنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ، وَأَتَى بِأَوْ لِلْإِبَاحَةِ وَهِيَ كَقَوْلِكَ: جَالِسْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، أَيْ لَكَ مُجَالَسَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا اجْتَمَعَا أَوِ افْتَرَقَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ لِمَعْنًى اقْتَضَى الِاهْتِمَامَ لِتَقْدِيمِهَا وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ سِتَّةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا:

الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ كَرَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَمُضَرُ أَشْرَفُ مِنْ رَبِيعَةَ لَكِنْ لَفْظُ رَبِيعَةَ لَمَّا كَانَ أَخَفَّ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ. ثَانِيهَا: بِحَسَبِ الزَّمَانِ كَعَادٍ وَثَمُودَ. ثَالِثُهَا: بِحَسَبِ الطَّبْعِ كَثَلَاثٍ وَرُبَاعٍ. رَابِعُهَا: بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ وَالزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَالْبَدَنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَالِ، خَامِسُهَا: تَقْدِيمُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: عَزَّ فَلَمَّا عَزَّ حَكَمَ. سَادِسُهَا: بِالشَّرَفِ وَالْفَضْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَصِيَّةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا بَعْدَ الْمَيِّتِ بِنَوْعِ تَفْرِيطٍ فَوَقَعَتِ الْبُدَاءَةُ بِالْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالدَّيْنَ يُؤْخَذُ بِعِوَضٍ فَكَانَ إِخْرَاجُ الْوَصِيَّةِ أَشَقَّ عَلَى الْوَارِثِ مِنْ إِخْرَاجِ الدَّيْنِ، وَكَانَ أَدَاؤُهَا مَظِنَّةَ التَّفْرِيطِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْوَارِثَ مُطْمَئِنٌّ بِإِخْرَاجِهِ فَقُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ لِذَلِكَ.

وَأَيْضًا فَهِيَ حَظُّ فَقِيرٍ وَمِسْكِينٍ غَالِبًا، وَالدَّيْنُ حَظُّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ وَلَهُ مَقَالٌ، كَمَا صَحَّ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَقَالًا، وَأَيْضًا فَالْوَصِيَّةُ يُنْشِئُهَا الْمُوصِي مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَقُدِّمَتْ تَحْرِيضًا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ مَطْلُوبٌ أَدَاؤُهُ سَوَاءٌ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ. وَأَيْضًا فَالْوَصِيَّةُ مُمْكِنَةٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا فَإِنَّهُ يَقُولُ بِلُزُومِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهَا تَقَعُ بِالْمَالِ وَتَقَعُ بِالْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَلَّ مَنْ يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ، وَمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يَقِلُّ وُقُوعُهُ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمَا مَعًا قَدْ ذُكِرَا فِي سِيَاقِ الْبَعْدِيَّةِ، لَكِنَّ الْمِيرَاثَ يَلِي الْوَصِيَّةَ فِي الْبَعْدِيَّةِ وَلَا يَلِي الدَّيْنَ بَلْ هُوَ بَعْدَ بَعْدِهِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ فِي الْأَدَاءِ ثُمَّ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ الْمِيرَاثَ، فَيَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقَعُ بَعْدَ الدَّيْنِ حَالَ الْأَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْلِيَّةِ، فَتَقْدِيمُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي اللَّفْظِ وَبِاعْتِبَارِ الْبَعْدِيَّةِ فَتُقَدَّمُ الْوَصِيَّةُ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُوصِي الْعَبْدُ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: سَأَلَ طَهْمَانُ، ابْنَ عَبَّاسٍ: أَيُوصِي الْعَبْدُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَوْصُولًا فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ مِنْ كِتَابِ الْعِتْقِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ تَوْجِيهَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا تَعَارَضَ فِي مَالِ الْعَبْدِ حَقُّهُ وَحَقُّ سَيِّدِهِ قُدِّمَ الْأَقْوَى وَهُوَ حَقُّ السَّيِّدِ، وَجُعِلَ الْعَبْدُ مَسْئُولًا عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْحَفَظَةِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الدَّيْنِ لَمَّا عَارَضَهُ حَقُّ الْوَصِيَّةِ - وَالدَّيْنُ وَاجِبٌ وَالْوَصِيَّةُ تَطَوُّعٌ - وَجَبَ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ، فَهَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْأَثَرِ وَالْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا

ص: 378

الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَهَّدَهُ فِي قَبُولِ الْعَطِيَّةِ، وَجَعَلَ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى تَنْفِيرًا عَنْ قَبُولِهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي تَقَاضِي الدَّيْنِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَابِضَ الْوَصِيَّةِ يَدُهُ سُفْلَى، وَقَابِضَ الدَّيْنِ مُسْتَوْفٍ لِحَقِّهِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ يَدُهُ عُلْيَا بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنَ الْقَرْضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ يَدُهُ سُفْلَى فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ تَقْدِيمَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ.

2751 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: وَأحسب أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الْعِتْقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ خَالَفَ الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْحَابَهُ فَذَكَرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ نَحْوَ مَا سَبَقَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، وَصَرَّحَ بِتَزْيِيفِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي شَرْحِ مُغَلْطَايْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ هُنَا: وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بَيْرُحَاءَ وَنُقِلَتْ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَصَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ شَوْكَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ: إِنَّ هَذَا وَهَمٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ كَمَا سَيَأْتِي.

‌10 - بَاب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ، وَمَنْ الْأَقَارِبُ؟

وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ بمِثْل حَدِيثِ ثَابِتٍ قَالَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي. وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ، وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ، زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الْأَبُ الثَّالِثُ، وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ، زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ، عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ.

2752 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ، وَمَنِ الْأَقَارِبُ؟) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْقَفَ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَحَذَفَ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ قَوْلِهِ: إِذَا إِشَارَةً إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، أَيْ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ

ص: 379

الْمَسْأَلَةَ الْأُخْرَى مَوْرِدَ الِاسْتِفْهَامِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَتَضَمَّنَتِ التَّرْجَمَةُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَقَارِبِ. وَقَدِ اسْتَطْرَدَ الْمُصَنِّفُ مِنْ هُنَا إِلَى مَسَائِلِ الْوَقْفِ فَتَرْجَمَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا، ثُمَّ رَجَعَ أَخِيرًا إِلَى تَكْمِلَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا وَلَا قَاتِلًا، وَالْوَقْفُ مَنْعُ بَيْعِ الرَّقَبَةِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَرَابَةُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، وَلَكِنْ يُبْدَأُ بِقَرَابَةِ الْأَبِ قَبْلَ الْأُمِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: مَنْ جَمَعَهُمْ أَبٌ مُنْذُ الْهِجْرَةِ مِنْ قِبَلِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، زَادَ زُفَرُ: وَيُقَدَّمُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَأَقَلُّ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ اثْنَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَاحِدٌ، وَلَا يُصْرَفُ لِلْأَغْنِيَاءِ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنْ يَشْرِطَ ذَلِكَ.

وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْقَرِيبُ مَنِ اجْتَمَعَ فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ قَرُبَ أَمْ بَعُدَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، مُحَرَّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَالُوا: إِنْ وُجِدَ جَمْعٌ مَحْصُورُونَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ اسْتُوْعِبُوا، وَقِيلَ يُقْتَصَرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ فَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْبُطْلَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا بِالْجَوَازِ وَيُصْرَفُ مِنْهُمْ لِثَلَاثَةٍ وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْقَرَابَةِ كَالشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَافِرَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْقَرَابَةُ كُلُّ مَنْ جَمَعَهُ وَالْمُوصِي الْأَبُ الرَّابِعُ إِلَى مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَوْ لَا، وَيَبْدَأُ بِفُقَرَائِهِمْ حَتَّى يَغْنَوْا ثُمَّ يُعْطِي الْأَغْنِيَاءَ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ سِوَى اشْتِرَاطِ ثَلَاثَةٍ فَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِاثْنَيْنِ، وَسَأَذْكُرُ بَيَانَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: اجْعَلْهُ لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَثُمَامَةُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ أَنَسِيُّونَ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ سَمِعَ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْأَنْصَارِيِّ هَذَا كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ثَابِتٍ قَالَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) كَذَا اخْتَصَرَهُ هُنَا، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مُخْتَصَرًا أَيْضًا عَقِبَ رَاوِيَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ فَذَكَرَ هَذَا الْإِسْنَادَ قَالَ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيٍّ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا وَسَقَطَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِتَمَامِهِ وَلَفْظُهُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الْآيَةَ أَوْ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَائِطِي لِلَّهِ، فَلَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ، فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِكَ وَفُقَرَاءِ أَهْلِكَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَلِأُبَيٍّ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي لَفْظُ أَبِي نُعَيْمٍ.

وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: كَانَتْ لِأَبِي طَلْحَةَ أَرْضٌ فَجَعَلَهَا لِلَّهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيٍّ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ فَقَالَ: حَائِطِي بِكَذَا وَكَذَا وَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ: اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِكَ. قَالَ: فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَاعِقَةَ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ فَذَكَرَ فِيهِ لِلْأَنْصَارِيِّ شَيْخًا آخَرَ فَقَالَ: وحَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الْآيَةَ أَوْ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.

ص: 380

حَائِطِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْبَاقِي مِثْلُ رِوَايَةِ أَبِي حَاتِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اجْعَلْهَا فِي فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِكَ وَأَقَارِبِكَ ثُمَّ سَاقَهُ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ قَالَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ فَجَعَلَهَا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذِهِ الطُّرُقَ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ الشُّرَّاحِ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ شَرْحِ قَرَابَةِ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ حَسَّانَ، وَأُبَيٍّ بَقِيَّةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ انْتَهَى الْحَدِيثُ إِلَى قَوْلِهِ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَمِنْ قَوْلِهِ: وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانَ، وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ فَقَالَ: وَاسْمُهُ - أَيِ اسْمُ أَبِي طَلْحَةَ - زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ - وَهُوَ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ - ابْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ - وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ - ابْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.

وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ - يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو الْمَذْكُورَ - فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الْأَبُ الثَّالِثُ وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحَرَامُ بْنُ عَمْرٍو وَسَاقَ النَّسَبَ ثَانِيًا إِلَى النَّجَّارِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ لَا مَعْنَى لَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ هَكَذَا أَطْلَقَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، فَقَالَ الدِّمْيَاطِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: هُوَ مُلْبِسٌ مُشْكِلٌ، وَشَرَعَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي بَيَانِهِ، وَيُغْنِي عَنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي حَيْثُ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ هُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ، وَأَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيًّا اهـ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: بَلَغَنِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ فَسَاقَ نَسَبَهُ وَنَسَبَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: فَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سِتَّةُ آبَاءٍ، قَالَ: وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ، وَأُبَيًّا، وَأَبَا طَلْحَةَ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ كَلَامِ شَيْخِهِ الْأَنْصَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ فِي كِتَابِ الْمَدِينَةِ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَانَ مَوْضِعُهُ قَصْرَ بَنِي حُدَيْلَةَ، فَدَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَرَدَّهُ عَلَى أَقَارِبِهِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَثُبَيْطِ بْنِ جَابِرٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَوِ ابْنِهِ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ فَتَقَاوَمُوهُ، فَصَارَ لِحَسَّانَ، فَبَاعَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَابْتَنَى قَصْرَ بَنِي حُدَيْلَةَ فِي مَوْضِعِهَا اهـ.

وَجَدُّ ثُبَيْطِ بْنِ جَابِرٍ مَالِكُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ يَجْتَمِعُ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِوَاحِدٍ، وَابْنُ زَبَالَةَ ضَعِيفٌ فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ، وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ خَصَّهُمَا أَبُو طَلْحَةَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ فَحَسَّانُ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْأَبِ الثَّالِثِ، وَأُبَيُّ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْأَبِ السَّادِسِ، فَلَوْ كَانَتِ الْأَقْرَبِيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَخَصَّ بِذَلِكَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ دُونَ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ أَنَسٌ: لِأَنَّهُمَا كَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي لِأَنَّ الَّذِي يَجْمَعُ أَبَا طَلْحَةَ، وَأَنَسًا، النَّجَّارُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَأَبُو طَلْحَةَ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَلِهَذَا كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَقْرَبَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ مِنْ أَنَسٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو طَلْحَةَ رَاعَى فِيمَنْ أَعْطَاهُ مِنْ قَرَابَتِهِ الْفَقْرَ لَكِنِ اسْتَثْنَى مَنْ كَانَ مَكْفِيًّا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْ أَنَسًا فَظَنَّ أَنَسٌ أَنَّ ذَلِكَ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ لِأَحْمَدَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعُ مَعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الْأَبِ الرَّابِعِ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَشَرَكَ مَعَهُمْ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ لِأَنَّهُمَا وَلَدَا عَبْدَ مَنَافٍ كَالْمُطَّلِبِ، وَهَاشِمٍ، فَلَمَّا خَصَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي نَوْفَلٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى دَفْعُهُ لِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَخْصِيصِهِ

ص: 381

بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَنْ وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، بَلْ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى مُطْلَقِهِ وَعُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُقَيِّدُهُ أَوْ يُخَصِّصُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَوْرَدَهَا مُخْتَصَرَةً، وَسَتَأْتِي بِتَمَامِهَا فِي بَابِ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ. لِبُطُونٍ مِنْ قُرَيْشٍ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَتَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِتَمَامِهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْرَدَ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ طَرَفًا مِنْهُ فِي قِصَّةِ أَبِي لَهَبٍ مَوْصُولَةً، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ وَشَرْحُ الَّذِي بَعْدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌11 - باب هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الْأَقَارِبِ؟

2753 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا.

تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.

[الحديث 2753 - طرفاه في: 3527، 4771]

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الْأَقَارِبِ)؟ هَكَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ؛ لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ كَمَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا

الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَمَوْضِعُ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَيَا صَفِيَّةُ وَيَا فَاطِمَةُ؛ فَإِنَّهُ سَوَّى صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بَيْنَ عَشِيرَتِهِ فَعَمَّهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ الْبُطُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ وَعَمَّتَهُ صَفِيَّةَ وَابْنَتَهُ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الْأَقَارِبِ، وَعَلَى دُخُولِ الْفُرُوعِ أَيْضًا، وَعَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِمَنْ يَرِثُ وَلَا بِمَنْ كَانَ مُسْلِمًا.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَقْرَبِينَ صِفَةً لَازِمَةً لِلْعَشِيرَةِ، وَالْمُرَادُ بِعَشِيرَتِهِ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قُرَيْشًا فَقَالَ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} يَعْنِي قَوْمَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ أُمِرَ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ، فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَبْعَدِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ صُورَتَهَا مَا إِذَا وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ مَثَلًا، وَالْآيَةُ تَتَعَلَّقُ بِإِنْذَارِ الْعَشِيرَةِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ فَهِمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَعْمِيمَ الْإِنْذَارِ فَلِذَلِكَ عَمَّهُمُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ

ص: 382

أَوَّلًا خَصَّ اتِّبَاعًا بِظَاهِرِ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ عَمَّ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى التَّعْمِيمِ، لِكَوْنِهِ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً.

(تَنْبِيهٌ): يَجُوزُ فِي: يَا عَبَّاسُ، وَفِي: يَا صَفِيَّةُ، وَفِي: يَا فَاطِمَةُ، الضَّمُّ وَالنَّصْبُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ)، وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَصْبَغَ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.

‌12 - بَاب هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟

وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ.

2754 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ.

2755 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ. فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ) أَيْ بِأَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِأَنْ يَشْرِطَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ جُزْءًا مُعَيَّنًا، أَوْ يَجْعَلَ لِلنَّاظِرِ عَلَى وَقْفِهِ شَيْئًا، وَيَكُونَ هُوَ النَّاظِرَ؟ وَفِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافٌ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ، وَأَمَّا شَرْطُ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ فَسَيَأْتِي فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فَأَذْكُرُهُ هُنَا. وَوَقَعَ قَبْلَ الْبَابِ فِي الْمُسْتَخْرَجِ لِأَبِي نُعَيْمٍ كِتَابُ الْأَوْقَافِ، بَابُ هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ

إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ وَقْفِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي آخِرِ الشُّرُوطِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ

إِلَخْ. هُوَ مِنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ وِلَايَةَ النَّظَرِ لِلْوَاقِفِ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ فَرَّعَهُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: إِنْ دَفَعَهُ الْوَاقِفُ لِغَيْرِهِ لِيَجْمَعَ غَلَّتَهُ وَلَا يَتَوَلَّى تَفْرِقَتَهَا إِلَّا الْوَاقِفُ جَازَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَطُولَ الْعَهْدُ فَيُنْتَسَى الْوَقْفُ، أَوْ يُفْلِسَ الْوَاقِفُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَمُوتَ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ وَرَثَتُهُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إِذَا حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ.

نَعَمْ، إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ جَازَ عَلَى الرَّاجِحِ، وَالَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ، ثُمَّ قَوَّاهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ كَمَا يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ.

أَوْرَدَ حَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَاقَ الْبَدَنَةَ وَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِرُكُوبِهَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ مُسْتَوْفًى وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَمَنْ مَنَعَ وَمَنْ قَيَّدَ بِالضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى النَّفْسِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا أَهْدَاهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَجَوَازُهُ بِالشَّرْطِ أَوْلَى، وَقَدِ اعْتَرَضَهُ ابْنُ

ص: 383

الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي الْأُصُولِ، قَالَ: وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَحْكِيمُ الْعُرْفِ حَتَّى يَخْرُجَ غَيْرُ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ وَقَطَعَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَانْتِفَاعُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ رُجُوعٌ فِي صَدَقَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ شَرَطَهُ فِي الْوَقْفِ أَوِ افْتَقَرَ هُوَ أَوْ وَرَثَتُهُ. انْتَهَى. وَالَّذِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ جَوَازُ ذَلِكَ إِذَا وَقَفَهُ عَلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، كَمَ سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْوَصَايَا فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ مَثَلًا ثُمَّ صَارَ فَقِيرًا أَوْ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ هَلْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِهِ لِئَلَّا يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِلْكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

‌13 - بَاب إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ

؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَوْقَفَ فَقَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ) أَيْ: صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِلصِّحَّةِ بِأَنَّ الْوَقْفَ شَبِيهٌ بِالْعِتْقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُمَا تَمْلِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُذُ بِالْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَبْضِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ فِي أَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِآدَمِيٍّ، فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِقَبْضِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ بِقِصَّةِ عُمَرَ فَقَالَ: لِأَنَّ عُمَرَ أَوْقَفَ، وَقَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ. وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ غُمُوضٌ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ غَايَةَ مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ الْوَقْفَ أُبِيحَ لَهُ التَّنَاوُلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْوَقْفَ الْمَذْكُورَ، بَلِ الْوَقْفُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَوَلٍّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، فَلَيْسَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مَا يُعَيِّنُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا وَقَفَ ثُمَّ شَرَطَ لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ عَنْ يَدِهِ، فَكَانَ تَقْرِيرُهُ لِذَلِكَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا زَعَمَهُ ابْنُ التِّينِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ دَفَعَ الْوَقْفَ لِحَفْصَةَ فَمَرْدُودٌ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ فِي: بَابِ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: أَوْقَفَ كَذَا ثَبَتَ لِلْأَكْثَرِ، وَهِيَ لُغَةٌ نَادِرَةٌ، وَالْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ: وَقَفَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوْقَفَ لَحْنٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَدْ ضُرِبَ عَلَى الْأَلِفِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِسْقَاطُهَا صَوَابٌ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: أَوْقَفَ إِلَّا لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ نَزَعَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ) الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَرِيبًا، وَهَذَا لَفْظُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ، وَأَبِي طَلْحَةَ حَمْلُ للشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ وَتَمْثِيلُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَدَفْعٌ لِلظَّاهِرِ عَنْ وَجْهِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ رَوَى أَنَّ عُمَرَ دَفَعَ الْوَقْفَ لِابْنَتِهِ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانَ، وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ مِلْكَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: هِيَ لِلَّهِ صَدَقَةٌ، وَلِهَذَا يَقُولُ مَالِكٌ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، نَعَمِ، اسْتِدْلَالُهُ بِقِصَّةِ عُمَرَ مُعْتَرَضٌ، وَانْتِقَادُ الدَّاوُدِيِّ صَحِيحٌ انْتَهَى، وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَهُ، وَأَمَّا ابْنُ بَطَّالٍ فَنَازَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا،

ص: 384

وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَطْلَقَ صَدَقَةَ أَرْضِهِ وَفَوَّضَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَصْرِفَهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَفَوَّضَ لَهُ قِسْمَتَهَا بَيْنَهُمْ صَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّهَا فِي يَدِهِ بَعْدَ أَنْ مَضَتِ الصَّدَقَةُ.

قُلْتُ: وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى قِسْمَتَهَا، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الْجَوَابُ، وَقَدْ بَاشَرَ أَبُو طَلْحَةَ تَعْيِينَ مَصْرِفِهَا تَفْصِيلًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ عَيَّنَ لَهُ جِهَةَ الْمَصْرِفِ لَكِنَّهُ أَجْمَلَ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَقْرَبِينَ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَبَا طَلْحَةَ أَنْ يَعُمَّ بِهَا الْأَقْرَبِينَ لِانْتِشَارِهِمُ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَخَصَّ بِهَا مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمْ.

‌14 - بَابُ إِذَا قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيَضَعُهَا لِلْأَقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ،

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ، وَيُعْطِيهَا لِلْأَقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ)، أَيْ تَتِمُّ الصَّدَقَةُ قَبْلَ تَعْيِينِ جِهَةِ مَصْرِفِهَا، ثُمَّ يُعَيِّنُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ

إِلَخْ) هُوَ مِنْ سِيَاقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ:(فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ) هُوَ مِنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفِ. وَقَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ) أَيْ حَتَّى يُعَيِّنَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌15 - بَاب إِذَا قَالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ

2756 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.

[الحديث 2756 طرفاه- في: 2762، 2770]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ) فَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْأُولَى فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمُتَصَدِّقَ عَنْهُ وَلَا الْمُتَصَدِّقَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ فِيمَا إِذَا عَيَّنَ الْمُتَصَدِّقَ عَنْهُ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهُ، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَجْهُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: وَقْفٌ أَوْ صَدَقَةٌ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبِرَّ وَالْقُرْبَةَ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّهِ أَقَارِبُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَهُوَ كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ فِي الْفُقَرَاءِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعَيِّنَ جِهَةَ مَصْرِفِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قَالَ: وَقَفْتُهُ وَأَطْلَقَ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُهُ لِلَّهِ، خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ جَزْمًا، وَدَلِيلُهُ قِصَّةُ أَبِي طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ شَبَّوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يَعْلَى) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ،

ص: 385

سَمَّاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَهُوَ مَكِّيٌّ أَصْلُهُ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَوَهَمَ الطَّرْقِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ ابْنُ حَكِيمٍ، وَلَيْسَ لِيَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ مَا بَيْنَ مَكِّيٍّ وَبَصْرِيٍّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ شَهِيرٌ.

قَوْلُهُ: (تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا) هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: سَعْدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو أَنْصَارِيَّةٌ خَزْرَجِيَّةٌ، ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَابْنُهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ، قَالَا: فَلَمَّا رَجَعُوا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا، وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ حِينَئِذٍ مَعَ أَبَوَيْهِ بِمَكَّةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (الْمِخْرَافَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ فَاءٌ، أَيِ الْمَكَانَ الْمُثْمِرَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَخْرُفُ مِنْهُ أَيْ يَجْنِي مِنَ الثَّمَرَةِ، تَقُولُ: شَجَرَةٌ مِخْرَافٌ، وَمِثْمَارٌ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمِخْرَفَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ اسْمُ الْحَائِطِ الْمَذْكُورِ، وَالْحَائِطُ الْبُسْتَانُ.

‌16 - باب إذا تصدق أو وقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز.

2757 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بن مالك رضي الله عنه قلت:، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ.

[الحديث 2757 - أطرافه في: 2947، 2948، 2949، 2950، 3088، 3556، 3889، 3951، 4418، 4673، 4676، 4677، 4678، 6255، 6690، 7225]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَصَدَّقَ، أَوْ وَقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِجَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ، وَالْمُخَالِفُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا جَوَازُ وَقْفِ الْمُشَاعِ، وَالْمُخَالِفُ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَكِنْ خَصَّ الْمَنْعَ بِمَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْجُورِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازٌ فَلَا مَحْذُورَ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَقْفُ الْمُشَاعِ وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا وَقَفَ جُزْءًا مِنَ الْعَبْدِ أَوِ الدَّابَّةِ أَوْ وَقَفَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ أَوْ فَرَسَيْهِ مَثَلًا، فَيَصِحُّ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ وَقْفَ الْمَنْقُولِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي

إِلَخْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مَعَ اسْتِيفَاءِ شَرْحِهِ. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَالِهِ وَإِمْسَاكِ بَعْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْسُومًا أَوْ مُشَاعًا، فَيَحْتَاجُ مَنْ مَنَعَ وَقْفَ الشَّارِعِ إِلَى دَلِيلِ الْمَنْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 386

‌17 - بَاب مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ إِلَيْهِ

2758 -

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ - لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، قَالَ: وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا - فَهِيَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ، فَضَعْهَا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَاجْعَلْهُ فِي الْأَقْرَبِينَ، فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْهُمْ أُبَيٌّ، وَحَسَّانُ، قَالَ: وَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: تَبِيعُ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ؟ فَقَالَ: أَلَا أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ؟ قَالَ: وَكَانَتْ تِلْكَ الْحَدِيقَةُ فِي مَوْضِعِ قَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ الَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ إِلَيْهِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا سَقَطَ مِنْ أَكْثَرِ الْأُصُولِ، وَلَمْ يَشْرَحْهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَاصَّةً، لَكِنْ فِي رِوَايَتِهِ: عَلَى وَكِيلِهِ، وَثَبَتَتِ التَّرْجَمَةُ وَبَعْضُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَقَدْ نُوزِعَ الْبُخَارِيُّ مِنِ انْتِزَاعِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا أَطْلَقَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ وَفَوَّضَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْيِينَ الْمَصْرِفِ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، كَانَ شَبِيهًا بِمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الصِّحَّةُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) يَعْنِي الْمَاجِشُونَ، كَذَا ثَبَتَ فِي أَصْلِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِأَبِي مَسْعُودٍ وَخَلَفٍ جَمِيعًا أَنَّ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَقَالَ: رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةِ أَبِي عَمْرٍو يَعْنِي الْجِيزِيَّ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَلَمْ يُوصِلْهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَلَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَزَادَ الطَّرْقِيِّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ شَوْكَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَانْفَرَدَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ شَوْكَرٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَأَبُوهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَجَزَمَ الْمِزِّيُّ بِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ دَلِيلًا، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ الدِّمْيَاطِيِّ بِخَطِّهِ فِي الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا تَعَيَّنَ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ مَا قَالَ خَلَفٌ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْرَانِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْوِيَ إِسْمَاعِيلُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي بَابِ إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ.

قَوْلُهُ (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، فَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ الْعَزِيزُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ جَازِمًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي

ص: 387

قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ هُوَ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ) زَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: وَكَانَتْ دَارُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالدَّارُ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى قَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ حَوَائِطَ لِأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: وَكَانَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ حَائِطًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهَا بَيْرُحَاءُ.

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَمُرَادُهُ بِدَارِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَعُرِفَتْ بِهِ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ الْمَشْهُورُ الْعَبَّاسِيُّ، وَأَمَّا قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَهُ بِالْجِيمِ فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ الْقَصْرَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ، وَإِلَّا فَالَّذِي بَنَاهُ هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَنُو حُدَيْلَةَ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ بَنُو مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَكَانُوا بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ فَعُرِفَتْ بِهِمْ، فَلَمَّا اشْتَرَى مُعَاوِيَةُ حِصَّةَ حَسَّانَ بَنَى فِيهَا هَذَا الْقَصْرَ، فَعُرِفَ بِقَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ شَبَّةَ وَغَيْرُهُ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ، قَالُوا: وَبَنَى مُعَاوِيَةُ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ لِيَكُونَ لَهُ حِصْنًا لِمَا كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ مِمَّا يَقَعُ لِبَنِي أُمَيَّةَ أَيْ مِنْ قِيَامِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ الْمَدَنِيُّ: وَكَانَ لِذَلِكَ الْقَصْرِ بَابَانِ أَحَدُهَمَا شَارِعٌ عَلَى خَطِّ بَنِي حُدَيْلَةَ، وَالْآخَرُ فِي الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ بِنَاءَهُ لِمُعَاوِيَةَ، الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ انْتَهَى، وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ الَّذِي بَنَى الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ أَحَدُ أَجْدَادِ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ، وَمَا ذَكَرْتُهُ عَمَّنْ صَنَّفَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ مَلَّكَهُمُ الْحَدِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمْ يَقِفْهَا عَلَيْهِمْ؛ إِذْ لَوْ وَقَفَهَا مَا سَاغَ لِحَسَّانَ أَنْ يَبِيعَهَا، فَيُعَكِّرُ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ فِي مَسَائِلِ الْوَقْفِ إِلَّا فِيمَا لَا تُخَالِفُ فِيهِ الصَّدَقَةُ الْوَقْفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: شَرَطَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَيْهِمْ لَمَّا وَقَفَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى بَيْعِ حِصَّتِهِ مِنْهُمْ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَقَدْ قَالَ بِجَوَازِ هَذَا الشَّرْطِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ ثَمَنَ حِصَّةِ حَسَّانَ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَبَضَهَا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.

‌18 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}

2759 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لَا يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ.

[الحديث 2759 - طرفه في: 4576]

قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ، الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَذَكَرَ مَنْ أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ وَأَنَّ مِنْهُمْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي دَعْوَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً أَوْ مَنْسُوخَةً.

‌19 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّيَ فُجَاءَةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ، وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ

2760 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلًا

ص: 388

قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا.

2761 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا.

[الحديث 2761 - طرفاه في: 6698، 6959]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّيَ فُجَاءَةً) بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِالْجِيمِ الْخَفِيفَةِ وَالْمَدِّ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْفَاءِ وَسُكُونُ الْجِيمِ بِغَيْرِ مَدٍّ (أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ، وَقَضَاءُ النُّذُورِ عَنِ الْمَيِّتِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، وَكَأَنَّهُ رَمَزَ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ عَنِ النَّذْرِ وَعَنِ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَنَدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ عَنْهُ بِإِسْنَادِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فِي هَذَا الْبَابِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: إنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْتَفِعُ أُمِّي إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا وَقَدْ مَاتَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: اسْقِ الْمَاءَ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَةُ أُمِّ سَعْدٍ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (افْتُلِتَتْ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْفَاءِ السَّاكِنَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أُخِذَتْ فَتلةً، أَيْ بَغْتَةً، وَقَوْلُهُ:(نَفْسُهَا) بِالضَّمِّ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَبِالْفَتْحِ أَيْضًا وَهُوَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا الرُّوحُ.

قَوْلُهُ: (وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ) بِضَمِّ هَمْزَةِ أُرَاهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: وَأَظُنُّهَا، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ، وَإِنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصْحِيفٌ وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ فَلَمْ تَتَصَدَّقْ، لَكِنْ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ وَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، فقِيلَ لَهَا: أَوْصِي، فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟ الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ سَعْدٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ الْبَابِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَيْ بِالصَّدَقَةِ، وَلَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ أَيْ فَكَيْفَ أُمْضِي ذَلِكَ؟ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ سَعْدًا مَا عَرَفَ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا، فَإِنَّ الَّذِي رَوَى هَذَا الْكَلَامَ فِي الْمُوَطَّأِ هُوَ سَعِيدُ بْنِ عُبَادَةَ أَوْ وَلَدُهُ شُرَحْبِيلُ مُرْسَلًا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَمْ يَتَّحِدْ رَاوِي الْإِثْبَاتِ وَرَاوِي النَّفْيِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا) فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْجَنَائِزِ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَلِبَعْضِهِمْ أَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا أَوْ أَصْرِفُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهَا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ، وَبَكْرُ بْنُ وَائِلٍ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ

ص: 389

اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ سَعْدٍ، أَخْرَجَ جَمِيعَ ذَلِكَ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ، فَتَعَيَّنَ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ مَنْ زَادَ فِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَيَكُونُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ أَخَذَهُ عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَنْ قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا) فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ: لَمْ تَقْضِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ الْمَذْكُورَةِ: أَفَيُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا؟ قَالَ: أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَيَانَ مَا هُوَ النَّذْرُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَذَرَتْ نَذْرًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَكُونَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَفْتَى فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَالْعِتْقُ أَعْلَى كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْهَا.

وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّذْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى وَالِدَةِ سَعْدٍ صِيَامٌ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الصَّوْمِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ الْحَدِيثَ، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ. قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ: جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ بِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنَ الْوَلَدِ، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} وَيَلْتَحِقُ بِالصَّدَقَةِ الْعِتْقُ عَنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ هَلْ تَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ.

وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذُمَّ أُمَّ سَعْدٍ عَلَى تَرْكِ الْوَصِيَّةِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهَا قَدْ تَعَذَّرَ لِمَوْتِهَا وَسَقَطَ عَنْهَا التَّكْلِيفُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ إِنْكَارِ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُنْكَرًا لِيَتَّعِظَ غَيْرُهَا مِمَّنْ سَمِعَهُ، فَلَمَّا أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ. وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِشَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَفِيهِ الْجِهَادُ فِي حَيَاةِ الْأُمِّ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهَا، وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ التَّحَمُّلِ، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى عَمَلِ الْبِرِّ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ إِظْهَارَ الصَّدَقَةِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ إِخْفَائِهَا، وَهُوَ عِنْدَ اغْتِنَامِ صِدْقِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَأَنَّ لِلْحَاكِمِ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، نَبَّهَ عَلَى أَكْثَرِ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَكَلَامُهُ عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

‌20 - بَاب الْإِشْهَادِ فِي الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ

2762 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.

ص: 390

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِشْهَادِ فِي الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ آنِفًا لِقَوْلِهِ فِيهِ: أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ، وَأَلْحَقَ الْمُصَنِّفُ الْوَقْفَ بِالصَّدَقَةِ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ سَعْدٍ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُشْهِدُكَ يَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْإِشْهَادِ الْمُعْتَبَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ لِلْإِشْهَادِ فِي الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قَالَ: فَإِذَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ وَلَهُ عِوَضٌ فَلَأَنْ يُشْرَعَ فِي الْوَقْفِ الَّذِي لَا عِوَضَ لَهُ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ دَفْعَ التَّوَهُّمِ عَمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوَقْفَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ؛ فَيُنْدَبُ إِخْفَاؤُهُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَشْرَعُ إِظْهَارُهُ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا مِنَ الْوَرَثَةِ.

‌21 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ

وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}

2763 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ: هِيَ الْيَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قَالَتْ: فَبَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا، وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِسُنَّتِهَا بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَالْتَمَسُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ، قَالَ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا الْأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ عَزْوَ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى كِتَابِ الْوَصَايَا.

‌22 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ

وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}، {حَسِيبًا} يَعْنِي كَافِيًا.

ص: 391

قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. سَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: رُشْدًا إِلَى قَوْلِهِ: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} قَوْلُهُ: (حَسِيبًا يَعْنِي كَافِيًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ يَعْنِي لِأَبِي ذَرٍّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَسَّرَهُ غَيْرُهُ عَالِمًا، وَقِيلَ: مُحَاسِبًا، وَقِيلَ: مُقْتَدِرًا، وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ، عَنِ السُّدِّيِّ:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أَيْ شَهِيدًا.

باب وما لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ

2764 -

حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ثَمْغٌ، وَكَانَ نَخْلًا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ، فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ.

2765 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَتْ مَا الْأُولَى لِأَبِي ذَرٍّ، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ: فَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْرَ عِمَالَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ كَمَا فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يَأْكُلُ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ: إِذَا أَكَلَ ثُمَّ أَيْسَرَ قَضَى، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ جَازَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا، أَخْرَجَ جَمِيعَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ هُوَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا وَانْتَصَرَ لَهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَأْخُذُ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَتِهِ وَنَفَقَتِهِ، وَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَتِيمُ، أَيْ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيُطْعِمْهُ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَصْلًا، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ. أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْأَشْعَثِ) هُوَ الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ ثُمَّ سَكَنَ بُخَارَى، وَلَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ

ص: 392

كَرِوَايَةِ النَّسَفِيِّ حَدَّثَنَا هَارُونُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، فَزَعَمَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ هَارُونُ بْنُ يَحْيَى الْمَكِّيُّ الزُّبَيْرِيُّ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا.

قَوْلُهُ: (تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ هُنَا الْأَرْضُ الَّتِي لَهَا غَلَّةٌ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ ثَمْغٌ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْمِيمَ - حَكَاهُ الْمُنْذِرِيُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: هِيَ أَرْضٌ تِلْقَاءَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ لِعُمَرَ. قُلْتُ: وَسَأَذْكُرُ فِي بَابِ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ كَيْفِيَّةَ مَصِيرِهِ إِلَى عُمَرَ مَعَ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِغَيْرِهِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: شَبَّهَ الْبُخَارِيُّ الْوَصِيَّ بِنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ النَّظَرَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَالنَّظَرِ لِلْيَتَامَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْوَاقِفَ هُوَ الْمَالِكُ لِمَنَافِعِ مَا وَقَفَهُ، فَإِنْ شَرَطَ لِمَنْ يَلِي نَظَرَهُ شَيْئًا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْمُوصِي لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ يَمْلِكُونَ الْمَالَ بَعْدَهُ بِقِسْمَةِ اللَّهِ لَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَالْوَاقِفِ اهـ.

وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا جَعَلَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَائِغٌ إِذَا عَيَّنَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا إِذَا أَوْصَى وَلَمْ يُعَيِّنْ لِلْوصِي شَيْئًا هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَصْدَ أَنَّ الْوَصِيَّ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَجْرَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ إِلَخْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، يَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌23 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}

2766 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ.

[الحديث 2766 - طرفاه في: 5764، 6857]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَفِيهِ: وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُنْتُ قَدَّمْتُ فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّنِي أَشْرَحُ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا، ثُمَّ حَصَلَ ذُهُولٌ فَاسْتَدْرَكْتُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَعَادَهُ فِيهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ، وَذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فِي ضَابِطِ الْكَبِيرَةِ، وَفِي عَدَدِهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ.

ص: 393

‌24 - بَاب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ

وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لأَعْنَتَكُمْ}: لَأَخرَجَكُمْ وَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، {وَعَنَتِ}: خَضَعَتْ.

2767 -

وَقَالَ لَنَا سُلَيْمَانُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ فَيَنْظُرُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وَقَالَ عَطَاءٌ فِي يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ: يُنْفِقُ الْوَلِيُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ.

قَوْلُهُ: بَابُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (لَأَعْنَتَكُمْ لَأَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ وَيَسَّرَ، فَقَالَ:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، يَقُولُ: يَأْكُلُ الْفَقِيرُ إِذَا وَلِيَ مَالَ الْيَتِيمِ بِقَدْرِ قِيَامِهِ عَلَى مَالِهِ وَمَنْفَعَتِهِ مَا لَمْ يُسْرِفْ أَوْ يُبَذِّرْ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: لَأَعْنَتَكُمْ: لَأَحْرَجَكُمُ اهـ، وَقَوْلُهُ: أَعْنَتَكُمْ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعَنَتِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ أَوْقَعَكُمْ فِي الْعَنَتِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنَتْ خَضَعَتْ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَاسْتَغْرَبَ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَوْلِهِ:(أَعْنَتَكُمْ) بَلْ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعُنُوِّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْعَنَتِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّاءَ فِي الْعَنَتِ أَصْلِيَّةٌ، وَفِي عَنَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَلَامَ الْفِعْلِ مِنْهُ وَاوٌ لَكِنَّهَا ذَهَبَتْ فِي الْوَصْلِ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ ذَلِكَ هُنَا اسْتِطْرَادًا، وَتَفْسِيرُ (عَنَتِ الْوُجُوهُ) بِخَضَعَتْ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَوْلُهُ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} أَيْ ذَلَّتْ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: عَنَتِ اسْتَأْسَرَتْ؛ لِأَنَّ الْعَانِيَ هُوَ الْأَسِيرُ، فَكَأَنَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِخَضَعَتْ فَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ الْأَسْرِ الذِّلَّةَ وَالْخُضُوعَ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ

إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ، وَسُلَيْمَانُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ الْإِتْيَانَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْمَوْقُوفَاتِ غَالِبًا وَفِي الْمُتَابَعَاتِ نَادِرًا، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إِلَّا فِي الْمُذَاكَرَةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لِلْإِجَازَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّتَهُ) يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ وَصِيَّةَ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ كَأَنَّهُ كَانَ يَبْتَغِي الْأَجْرَ بِذَلِكَ لِحَدِيثِ: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ الْحَدِيثَ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ الدُّخُولِ فِي الْوَصَايَا أَنْ يَخْشَى التُّهْمَةَ أَوِ الضَّعْفَ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ

إِلَخْ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ طَاوُسٌ

إِلَخْ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مُصَغَّرٌ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ يَقْرَأُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} .

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ

إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَلِي أَمْوَالَ أَيْتَامٍ فِيهِمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَمَالُهُمْ

ص: 394

جَمِيعٌ لَمْ يُقْسَمْ، قَالَ: يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كَانُوا لَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي مَطْعَمٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمَّا نَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} عَزَلُوا أَمْوَالَهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَنَزَلَتْ:{قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قَالَ: فَخَلَطُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} - وَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} اجْتَنَبَ النَّاسُ مَالَ الْيَتِيمِ وَطَعَامَهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَشَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الْآيَةَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ مَوْصُولًا أَيْضًا،

وَزَادَ فِيهِ: وَأَحَلَّ لَهُمْ خَلْطَهُمْ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُخَالَطَةُ أَنْ تَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِكَ، وَتَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِهِ وَيَأْكُلَ مِنْ قَصْعَتِكَ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} مَنْ يَتَعَمَّدُ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَنْ يَتَجَنَّبُهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ بَيْنَ عِيَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَيَشُقَّ عَلَيْهِ إِفْرَازُ طَعَامِهِ، فَيَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْرَ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ بِالتَّحَرِّي، فَيَخْلِطَهُ بِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَقَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ خَشُوا مِنْ ذَلِكَ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّهْدِ، حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي خَلْطِ الْأَزْوَادِ فِي الْأَسْفَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لَهُ وَنَظَرِ الْأُمِّ أَوْ زَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ

2768 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.

[الحديث- طرفاه في: 6038، 6911]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لَهُ وَنَظَرِ الْأُمِّ أَوْ زَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي

الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى: أَمَّا صَدْرُهُ فَفِي الْجِهَادِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُ فَفِي كِتَابِ الْأَدَبِ.

وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَأَبُو طَلْحَةَ كَانَ زَوْجَ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ فَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِأَحَدِ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا الرُّكْنُ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ نَظَرُ الْأُمِّ فَكَأَنَّهُ اسْتُفِيدَ مِنْ كَوْنِ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ رِضَا أُمِّ سُلَيْمٍ، أَوْ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ هِيَ الَّتِي أَحْضَرَتْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَمَّا أَبُو طَلْحَةَ فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ صَرِيحًا فِي بَابِ مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ،

ص: 395

وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ مَا تَرْجَمَ بِهِ: فَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْأُمِّ وَغَيْرِهَا التَّصَرُّفُ فِي مَصَالِحِ مَنْ فِي كَفَالَتِهِمْ مِنَ الْأَيْتَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَوْصِيَاءَ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنَّ الْيَتِيمَ يَشْتَغِلُ بِالْخِدْمَةِ عَنِ التَّأْدِيبِ وَهُوَ ضِدُّ الْمَطْلُوبِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ انْتِزَاعَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَنْ يُؤَدِّبُهُ وَيَنْتَفِعُ بِتَأْدِيبِهِ كَمَا وَقَعَ لِأَنَسٍ فِي الْخِدْمَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْآدَابِ مَا فَاقَ غَيْرَهُ مِمَّنْ أَدَبَهُ أَبُوهُ.

‌26 - بَاب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ.

2769 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ - أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ.

قَالَ إِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ رَايِحٌ.

2770 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا"

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ) كَذَا أَطْلَقَ الْجَوَازَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَشْهُورًا مُتَمَيِّزًا بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْدِيدِ اتِّفَاقًا لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْلَاكِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ مَصْرِفَهَا وَلَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مِنْهَا صَارَتْ جَمِيعُهَا وَقْفًا، وَلَا يَضُرُّ جَهْلُ الشُّهُودِ بِالْحُدُودِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ بِالصِّيغَةِ الَّتِي لَا تَحْدِيدَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْوَاقِفِ وَإِرَادَتِهِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّحْدِيدُ لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ حَقَّ الْغَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ. أَيْ أَكْثَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمُفْرَدِ النَّكِرَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّفْضِيلِ سَائِغٌ.

قَوْلُهُ (مَالًا مِنْ نَخْلٍ) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ إِسْحَاقَ تَسْمِيَةُ حَدَائِقِ أَبِي طَلْحَةَ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ

ص: 396

الْعَزِيزِ وَيَسْتَظِلُّ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (بَيْرُحَاءُ) تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ضَبْطِهَا فِي الزَّكَاةِ، وَمِنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ بَرِيحَاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَرَجَّحَ هَذَا صَاحِبُ الْفَائِقِ، وَقَالَ: هِيَ وَزْنُ فَعِيلَاءَ مِنَ الْبَرَاحِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الظَّاهِرَةِ الْمُنْكَشِفَةُ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بَارِيحَاءُ وَهُوَ بِإِشْبَاعِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَوَهَمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَإِنَّ أَرْيِحَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَيَحْتَمِلُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْمَغَارِبَةِ إِعْرَابُ الرَّاءِ وَالْقَصْرُ فِي حَاءٍ، وَخَطَّأَ هَذَا الصُّورِيُّ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَمِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ يَفْتَحُونَ الرَّاءَ فِي كُلِّ حَالٍ، زَادَ الصُّورِيُّ: وَكَذَلِكَ الْبَاءُ أَيْ أَوَّلَهُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهُ انْتَهَى الْخِلَافُ فِي النُّطْقِ بِهَا إِلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ أَنَّهُ جَزَمَ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: بِيرٌ كَلِمَةٌ وَحَاءٌ كَلِمَةٌ، ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَاخْتُلِفَ فِي حَاءٍ هَلْ هِيَ اسْمُ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ مَكَانٍ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْبِئْرُ أَوْ هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِإِبِلٍ، وَكَأَنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تَرْعَى هُنَاكَ وَتُزْجَرُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَأُضِيفَتِ الْبِئْرُ إِلَى اللَّفْظَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ (بَخْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ تُنَوَّنُ مَعَ التَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ بِالْكَسْرِ، وَالرَّفْعُ وَالسُّكُونُ وَيَجُوزُ التَّنْوِينُ لُغَاتٌ، وَلَوْ كُرِّرَتْ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ تُنَوَّنَ الْأُولَى وَتُسَكَّنَ الثَّانِيَةُ، وَقَدْ يُسَكَّنَانِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

بَخْ بَخْ لِوَالِدِهِ وَلِلْمَوْلُودِ

وَمَعْنَاهَا تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَالْإِعْجَابُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ) أَيِ الْقَعْنَبِيُّ أَيْ هَلْ هُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ أَوْ بِالْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (أَفْعَلُ) بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ) فِيهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ؛ حَيْثُ وَقَعَ فِيهَا: أَفْعَلُ فَقَسَمَهَا، فَإِنَّهُ احْتَمَلَ الْأَوَّلَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ صِيغَةَ أَمْرٍ وَفَاعِلُ قَسَمَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَانْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ رَوَاهُ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، قَالَ وَقَوْلُهُ: فِي أَقَارِبِهِ أَيْ أَقَارِبِ أَبِي طَلْحَةَ، قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ضَعْهَا فِي قَرَابَتِكَ، فَجَعَلَهَا حَدَائِقَ بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَفْظُ إِسْحَاقَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَحَدِيثُ ثَابِتٍ نَحْوُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِضَافَةُ الْقَسْمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ سَائِغًا شَائِعًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمُتَقَدِّمَةِ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيٍّ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ إِسْحَاقَ كَمَا تَرَى، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثُمَامَةَ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ مَنْ يُعْطَى مِنَ الْأَقَارِبِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُنْحَصِرِينَ اثْنَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمَةِ فَجَعَلَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي ذِي رَحِمِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ حَسَّانُ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُمَا مَعَهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُرْسَلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ الْمُتَقَدِّمِ فَرَدَّهُ عَلَى أَقَارِبِهِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأَخِيهِ - أَوِ ابْنِ أَخِيهِ - شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَنُبَيْطِ بْنِ جَابِرٍ فَتَقَاوَمُوهُ، فَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ) أَيِ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ (رَايِحٌ) أَيْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَقَدْ وَصَلَ حَدِيثَ إِسْمَاعِيلَ فِي التَّفْسِيرِ وَحَدِيثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ فِي الزَّكَاةِ وَحَدِيثَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى فِي الْوَكَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مُنْقَطِعَ الْآخِرِ فِي الْوَقْفِ يُصْرَفُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَحْتَاجُ فِي انْعِقَادِهِ إِلَى قَبُولِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ

ص: 397

الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ ثُمَّ يُعَيِّنُهَا الْمُتَصَدِّقُ لِمَنْ يُرِيدُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ مَنْ أَوْصَى أَنْ يُفَرَّقَ ثُلُثُ مَالِهِ حَيْثُ أَرَى اللَّهُ الْوَصِيَّ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَيُفَرِّقُهُ الْوَصِيُّ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يُعْطِي مِنْهُ وَارِثًا لِلْمَيِّتِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.

وَفِيهِ جَوَازُ التَّصَدُّقِ مِنَ الْحَيِّ فِي غَيْرِ مَرَضِ الْمَوْتِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ أَبَا طَلْحَةَ عَنْ قَدْرِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ مِنَ الْأَقَارِبِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ إِضَافَةِ حُبِّ الْمَالِ إِلَى الرَّجُلِ الْفَاضِلِ الْعَالِمِ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وَالْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ اتِّفَاقًا، وَفِيهِ اتِّخَاذُ الْحَوَائِطِ وَالْبَسَاتِينِ وَدُخُولُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ فِيهَا وَالِاسْتِظْلَالُ بِظِلِّهَا وَالْأَكْلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَالرَّاحَةُ وَالتَّنَزُّهُ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ إِذَا قَصَدَ بِهِ إِجْمَامَ النَّفْسِ مِنْ تَعَبِ الْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطِهَا لِلطَّاعَةِ، وَفِيهِ كَسْبُ الْعَقَارِ، وَإِبَاحَةُ الشُّرْبِ مِنْ دَارِ الصَّدِيقِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا إِذَا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} تَنَاوُلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ، فَلَمْ يَقِفْ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ عَنْ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ بَلْ بَدَرَ إِلَى إِنْفَاقِ مَا يُحِبُّهُ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.

اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِحُّ بِالْقَوْلِ مِنْ قَبْلِ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِقَبْضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْقَائِلِ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ صَرْفُهُ فِي سَبِيلِ الصَّدَقَةِ، وَكُلُّ هَذَا مَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مُرَادُ الْمُتَصَدِّقِ، فَإِنْ ظَهَرَ اتُّبِعَ. وَفِيهِ جَوَازُ تَوَلِّي الْمُتَصَدِّقِ قَسْمَ صَدَقَتِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْغَنِيِّ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِذَا حَصَلَ لَهُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ وَالْوَقْفِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ تَمْلِيكًا وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الصَّدَقَةِ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى قَدْرِ نِصَابِ الزَّكَاةِ خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَهَا بِهِ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي طَلْحَةَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتِ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَحْبُوبِ فَتَرَقَّى هُوَ إِلَى إِنْفَاقِ أَحَبِّ الْمَحْبُوبِ فَصَوَّبَ صلى الله عليه وسلم رَأْيَهُ وَشَكَرَ عَنْ رَبِّهِ فِعْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَهُ، وَكَنَّى عَنْ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بَخْ. وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِقَوْلِ الْوَاقِفِ جَعَلْتُ هَذَا وَقْفًا، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلَ أَبْوَابٍ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولِ مُعَيَّنٍ، بَلْ لِلْإِمَامِ قَبُولَهَا مِنْهُ وَوَضْعَهَا فِيمَا يَرَاهُ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَرَابَةِ مَنْ يَجْمَعُهُ وَالْوَاقِفَ أَبٌ مُعَيَّنٌ لَا رَابِعٌ وَلَا غَيْرُهُ، لِأَنَّ أُبَيًّا إِنَّمَا يَجْتَمِعُ مَعَ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْأَبِ السَّادِسِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَرِيبِ عَلَى الْقَرِيبِ الْأَبْعَدِ، لِأَنَّ حَسَّانًا وَأَخَاهُ أَقْرَبُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُبَيٍّ، وَنُبَيْطٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَهُمَا أُبَيًّا، وَنُبَيْطَ بْنَ جَابِرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّ بَنِي حَرَامٍ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ أَبُو طَلْحَةَ، وَحَسَّانُ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ كَثِيرًا فَضْلًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الَّذِي يَجْمَعُ أَبَا طَلْحَةَ، وَأُبَيًّا.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

‌27 - بَاب إِذَا وَقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ

2771 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ.

ص: 398

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: احْتَرَزَ عَمَّا إِذَا وَقَفَ الْوَاحِدُ الْمُشَاعَ؛ فَإِنَّ مَالِكًا لَا يُجِيزُهُ لِئَلَّا يُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ وَقْفَ الْمُشَاعِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ أَنَّهُ تَرْجَمَ إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ وَقَفَ بَعْضَ مَالِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ وَقْفُ الْوَاحِدِ الْمُشَاعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ.

وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عز وجل؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا بِالْأَرْضِ لِلَّهِ عز وجل، فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَفَعَ ثَمَنَ الْأَرْضِ لِمَالِكِهَا مِنْهُمْ وَقَدْرُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ وَقْفُ الْمُشَاعِ لَا يَجُوزُ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمُ الْحُكْمَ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَسْجِدِ يَثْبُتُ لِلْبِنَاءِ إِذَا وَقَعَ بِصُورَةِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحِ الْبَانِي بِذَلِكَ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ أُذِّنَ فِيهِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ أَذِنَ لِلْجَمَاعَةِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ثَبَتَ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا إِنْ صَرَّحَ الْبَانِي بِالْوَقْفِيَّةِ أَوْ ذَكَرَ صِيغَةً مُحْتَمَلَةً وَنَوَى مَعَهَا. وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِمِثْلِ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ فِي الْمَوَاتِ خَاصَّةً، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا نَفْيِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ) أَيْ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ مِنْ أَحَدٍ لَكِنْ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى اللَّهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُنْقَطِعٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا مَصْرُوفًا إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ.

‌28 - بَاب الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ

2772 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.

‌29 - بَاب الْوَقْفِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالضَّيْفِ

2773 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَجَدَ مَالًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ قَالَ: إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِي الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ وَقْفِ عُمَرَ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ، وَتَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَبَعْدَ بَابَيْنِ نَفَقَةُ قَيِّمِ الْوَقْفِ وَمِنْ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ مَا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. هَذَا جَمِيعُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَوْرَدَهُ فِيهَا مَوْصُولًا طَوَّلَهُ فِي بَعْضِهَا، وَاسْتَدَلَّ مِنْهُ بِأَطْرَافٍ

ص: 399

تَعْلِيقًا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْمُزَارَعَةِ وَفِي بَابِ هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ، وَفِي بَابِ إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ: ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ ابْنَ عَوْنٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ نَافِعٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ، وَأَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا وَأَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مُطَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْأَكْبَرِ الْمُصَغَّرِ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْأَصْغَرِ الْمُكَبَّرِ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: أَنْبَأَنِي نَافِعٌ، وَالْإِنْبَاءُ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ جَزْمًا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، وَالْأَنْصَارِيُّ الْمَذْكُورُ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، أَخْرَجَ عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ فِي أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ بِوَاسِطَةٍ، وَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ الْمَذْكُورُ قَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ تَمَذْهَبَ لِلْكُوفِيِّينَ فِي الْأَوْقَافِ، وَصَنَّفَ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ جُزْءًا مُفْرَدًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ نَافِعٍ، ثُمَّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ جَعَلُوهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (بِخَيْبَرَ أَرْضًا) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ اسْمَهَا ثَمْغٌ، وَكَذَا لِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ أَنَّ عُمَرَ أَصَابَ أَرْضًا مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ يُقَالُ لَهَا: ثَمْغٌ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ رَأَى فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمْغٍ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ مَالًا لَمْ أُصِبْ مَالًا مِثْلَهُ قَطُّ، كَانَ لِي مِائَةُ رَأْسٍ فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ثَمْغٌ مِنْ جُمْلَةِ أَرَاضِي خَيْبَرَ، وَأَنَّ مِقْدَارَهَا كَانَ مِقْدَارَ مِائَةِ سَهْمٍ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي قَسَمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ، وَهَذِهِ الْمِائَةُ السَّهْمُ غَيْرُ الْمِائَةِ السَّهْمِ الَّتِي كَانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِخَيْبَرَ الَّتِي حَصَّلَهَا مِنْ جُزْئِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ كِتَابِ وَقْفِ عُمَرَ مِنْ عِنْدِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ قِصَّةَ عُمَرَ هَذِهِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنْفَسَ مِنْهُ) أَيْ أَجْوَدَ، وَالنَّفِيسُ الْجَيِّدُ الْمُغْتَبَطُ بِهِ، يُقَالُ: نَفُسَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْفَاءِ - نَفَاسَةً، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: سُمِّيَ نَفِيسًا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُرْسَلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ الْأَمْرَ بِذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ إِسْنَادُهَا ضَعِيفٌ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ مِنْ حِكَايَةِ لَفْظِ كِتَابِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ)؟ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)

ص: 400

أَيْ بِمَنْفَعَتِهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: تَصَدَّقْ بِثَمَرِهِ وَحَبِّسْ أَصْلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا تُبْتَاعُ، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ حَبِيسٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ نَافِعٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُفْيَانَ الْجَحْدَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ الْآتِي، وَالْجَحْدَرِيُّ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ صَخْرٍ لَا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ السُّبْكِيُّ: اغْتَبَطْتُ بِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: تَصَدَّقْ بِثَمَرِهِ وَحَبِّسْ أَصْلَهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ، قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، وَهِيَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ وَأَصْرَحُهَا فِي الْمَقْصُودِ فَعَزْوُهَا إِلَى الْبُخَارِيِّ أَوْلَى، وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقْ ثَمَرُهُ.

فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَحَكَيْتُ هُنَاكَ أَنَّ الدَّاوُدِيَّ الشَّارِحَ أَنْكَرَ هَذَا اللَّفْظَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي إِذْ ذَاكَ سَبَبُ إِنْكَارِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ بِسَبَبِ التَّصْرِيحِ بِرَفْعِ الشَّرْطِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فَمَا فَعَلَهُ إِلَّا لِمَا فَهِمَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ لَهُ احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا وَقَوْلُهُ: تَصَدَّقْ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَقَوْلُهُ: فَتَصَدَّقَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ

(1)

) جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ إِلَّا الضَّيْفَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي آيَةِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَنْ ذُكِرَ فِي الْخَمْسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ قُرْبَى الْوَاقِفِ، وَبِهَذَا الثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَالضَّيْفُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ يُرِيدُ الْقِرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْهِبَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلَ أَبْوَابٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْعَامِلَ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ الْوَقْفِ، حَتَّى لَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ يُسْتَقْبَحُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ الْقَدْرُ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَقِيلَ الْقَدْرُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ الشَّهْوَةَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (أَوْ يُطْعِمَ) فِي رِوَايَةِ صَخْرٍ أَوْ يُؤْكِلَ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ، وَهِيَ بِمَعْنَى يُطْعِمُ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)، وَفِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ الشُرُوطِ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ وَالْمَعْنَى غَيْرُ مُتَّخِذٍ مِنْهَا مَالًا أَيْ مِلْكًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ شَيْئًا مِنْ رِقَابِهَا، وَمَالًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَزَادَ الْأَنْصَارِيُّ وَسُلَيْمٌ قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَالْقَائِلُ فَحَدَّثْتُ بِهِ هُوَ ابْنُ عَوْنٍ رَاوِيهِ عَنْ نَافِعٍ، بَيَّنَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: ذَكَرْتُ حَدِيثَ نَافِعٍ، لِابْنِ سِيرِينَ فَذَكَرَهُ، زَادَ سُلَيْمٌ: قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ أَنَّ فِيهِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ: أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي قِطْعَةِ أَدِيمٍ أَحْمَرَ. قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: وَأَنَا قَرَأْتُهَا عِنْدَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ صِفَةَ كِتَابِ وَقْفِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: نَسَخَهَا لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ وَفِيهِ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ، وَالْمُتَأَثِّلُ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ هُوَ الْمُتَّخِذُ، وَالتَّأَثُّلُ اتِّخَاذُ أَصْلِ

(1)

في هامش طبعة بولاق: كذا في نسخ الشارح، وهو مخالف في الترتيب لما وقع لنا من نسخ البخاري

ص: 401

الْمَالِ حَتَّى كَأَنَّهُ عِنْدَهُ قَدِيمٌ، وَأَثَلَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

وَاشْتِرَاطُ نَفْيِ التَّأَثُّلِ يُقَوِّي مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَأْكُلُ بِالْمَعْرُوفِ، حَقِيقَةُ الْأَكْلِ لَا الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ بِقَدْرِ الْعِمَالَةِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَزَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ حَمَّادٌ: وَزَعَمَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُهْدِي إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ مِنْ صَدَقَةِ عُمَرَ، وَكَذَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ ; وَزَادَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَوْصَى بِهَا عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ إِلَى الْأَكَابِرِ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ آلِ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا شَرَطَ أَنَّ النَّظَرَ فِيهِ لِذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ عَيَّنَ عِنْدَ وَصِيَّتِهِ لِحَفْصَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ صَدَقَةِ عُمَرَ أَخَذْتُهَا مِنْ كِتَابِهِ الَّذِي عِنْدَ آلِ عُمَرَ فَنَسَخْتُهَا حَرْفًا حَرْفًا هَذَا مَا كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ثَمْغٍ، أَنَّهُ إِلَى حَفْصَةَ مَا عَاشَتْ تُنْفِقُ ثَمَرَهُ حَيْثُ أَرَاهَا اللَّهُ، فَإِنْ تُوُفِّيَتْ فَإِلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا.

قُلْتُ: فَذَكَرَ الشَّرْطَ كُلَّهُ نَحْوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ ثُمَّ قَالَ: وَالْمِائَةُ وَسْقٍ الَّذِي أَطْعَمَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا مَعَ ثَمْغٍ عَلَى سَنَنِهِ الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ وَلِيُّ ثَمْغٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ ثَمَرِهِ رَقِيقًا يَعْمَلُونَ فِيهِ فَعَلَ. وَكَتَبَ مُعَيْقِيبٌ وَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ نَحْوَ هَذَا. وَذَكَرَا جَمِيعًا كِتَابًا آخَرَ نَحْوَ هَذَا الْكِتَابِ، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَصِرْمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَالْعَبْدُ الَّذِي فِيهِ صَدَقَةٌ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَتَبَ كِتَابَ وَقْفِهِ فِي خِلَافَتِهِ لِأَنَّ مُعَيْقِيبًا كَانَ كَاتِبَهُ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ وَصَفَهُ فِيهِ بِأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَفَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّفْظِ وَتَوَلَّى هُوَ النَّظَرَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَصِيَّةُ، فَكَتَبَ حِينَئِذٍ الْكِتَابَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ وَقْفِيَّتَهُ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا اسْتِشَارَتُهُ فِي كَيْفِيَّتِهِ.

وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنِّي ذَكَرْتُ صَدَقَتِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهَا فَهَذَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَأَنَّهُ لَمْ يُنَجِّزِ الْوَقْفَ إِلَّا عِنْدَ وَصِيَّتِهِ. وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ فِي أَنَّ إِيقَافَ الْأَرْضِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا، وَأَنَّ الَّذِي مَنَعَ عُمَرَ مِنَ الرُّجُوعِ كَوْنَهُ ذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهَ أَنْ يُفَارِقَهُ عَلَى أَمْرٍ ثُمَّ يُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَدَّمْتُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ كَانَ يَرَى بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ، إِلَّا إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الرُّجُوعَ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ. وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَقْفَ غَيْرُ لَازِمٍ مَعَ إِمْكَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الِاحْتِمَالُ كَانَ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِصِحَّةِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ: تَعُودُ مَنَافِعُهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَيْهِ ثُمَّ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ مَآلًا صَحَّ اتِّفَاقًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدٍ سَنَةً ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا أَصْلٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ هُوَ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَوَّلُ صَدَقَةٍ - أَيْ مَوْقُوفَةٍ - كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ صَدَقَةُ عُمَرَ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَنْ أَوَّلِ حَبْسٍ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: صَدَقَةُ عُمَرَ، وَقَالَ الْأَنْصَارُ: صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي إِسْنَادِهِ الْوَاقِدِيُّ.

وَفِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ أَرَاضِي مُخَيْرِيقٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ الَّتِي أَوْصَى بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي جَوَازِ وَقْفِ الْأَرَضِينَ، وَجَاءَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْحَبْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

ص: 402

لَا يَلْزَمُ، وَخَالَفَهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ إِلَّا زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ، فَحَكَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قَالَ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُجِيزُ بَيْعَ الْوَقْفِ، فَبَلَغَهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا فَقَالَ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مِنِ ابْنِ عَوْنٍ؟ فَحَدَّثَهُ بِهِ ابْنُ عُلَيَّةَ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ، وَلَوْ بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ لَقَالَ بِهِ، فَرَجَعَ عَنْ بَيْعِ الْوَقْفِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ اهـ. وَمَعَ حِكَايَةِ الطَّحَاوِيِّ هَذَا فَقَدِ انْتَصَرَ كَعَادَتِهِ فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْبِيدَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُدَّةَ اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَفْتُ وَحَبَسْتُ إِلَّا التَّأْبِيدُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا حَبِيسٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَدُّ الْوَقْفِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَمَّنْ رَدَّهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِهِ.

وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ وَقْفَ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارِ، قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْوَقْفِ شَرْعًا وُرُودُ صِيغَةٍ تَقْطَعُ تَصَرُّفَ الْوَاقِفِ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَتُثْبِتُ صَرْفَ مَنْفَعَتِهِ فِي جِهَةِ خَيْرٍ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ ذِكْرِ الْوَلَدِ أَبَاهُ بِاسْمِهِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ كُنْيَةٍ وَلَا لَقَبٍ.

وَفِيهِ جَوَازُ إِسْنَادِ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ لِلْمَرْأَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَقْرَانِهَا مِنَ الرِّجَالِ.

وَفِيهِ إِسْنَادُ النَّظَرِ إِلَى مَنْ لَمْ يُسَمَّ إِذَا وُصِفَ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُمَيِّزُهُ، وَأَنَّ الْوَاقِفَ يَلِي النَّظَرَ عَلَى وَقْفِهِ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَزَلِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يَلُونَ أَوْقَافَهُمْ، نَقَلَ ذَلِكَ الْأُلُوفُ عَنِ الْأُلُوفِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، وَأَنَّ الْمُشِيرَ يُشِيرُ بِأَحْسَنَ مَا يَظْهَرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ لِرَغْبَتِهِ فِي امْتِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}

وَفِيهِ فَضْلُ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَصِحَّةُ شُرُوطِ الْوَاقِفِ وَاتِّبَاعُهُ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَصْرِفِ لَفْظًا.

وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَكرنُ إِلَّا فِيمَا لَهُ أَصْلٌ يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالطَّعَامِ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْوَقْفِ لَفْظُ الصَّدَقَةِ سَوَاءٌ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا أَوْ جَعَلْتُهُ صَدَقَةً حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا شَيْئًا آخَرَ لِتَرَدُّدِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ أَوْ وَقَفَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا أَضَافَ إِلَيْهَا مَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ أَوْ حَبَسْتُ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: الصَّرِيحُ الْوَقْفُ خَاصَّةً.

وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِ التَّحْبِيسِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هَذِهِ.

نَعَمْ، لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا عَلَى كَذَا، وَذَكَرَ جِهَةً عَامَّةً، صَحَّ، وَتَمَسَّكَ مَنْ أَجَازَ الِاكْتِفَاءَ بِقَوْلِهِ: تَصَدَّقْتُ بِكذَا بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهَا: لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ رَاجِعًا إِلَى الثَّمَرَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَتَصَدَّقَ بِثَمَرَتِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ أَثْبَتَ الْوَقْفَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ مُجَرَّدًا، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَالضَّيْفَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالْحَاجَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَفِيهِ أَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ شَرَطَ لِمَنْ وَلِيَ وَقْفَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِنْ كَانَ هُوَ النَّاظِرَ أَوْ غَيْرُهُ، فَدَلَّ عَنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ، وَإِذَا جَازَ فِي الْمُبْهَمِ الَّذِي تُعَيِّنُهُ الْعَادَةُ كَانَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ هُوَ أَجْوَزَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَحْمَدَ فِي الْأَرْجَحِ عَنْهُ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ شَعْبَانَ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ إِلَّا إِذَا اسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا يَسِيرًا بِحَيْثُ لَا يُتَّهَمُ أَنَّهُ قَصَدَ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٌ، وَصَنَّفَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ

ص: 403

جُزْءًا ضَخْمًا، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقِصَّةِ عُمَرَ هَذِهِ، وَبِقِصَّةِ رَاكِبِ الْبَدَنَةِ، وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي النِّكَاحِ. وَبِقِصَّةِ عُثْمَانَ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: سَبِّلِ الثَّمَرَةَ، وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ تَمْلِيكُهَا لِلْغَيْرِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمْلِيكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَمَنْعُهُ تَمْلِيكَهُ لِنَفْسِهِ إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي الْوَقْفِ حَاصِلَةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ إِيَّاهُ مِلْكًا غَيْرُ اسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ وَقْفًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ذَكَرَ لَهُ مَالًا آخَرَ؛ فَإِنَّهُ حُكْمٌ آخَرُ يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْفِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ لِنَاظِرِ وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مِنْهُ مَالًا، فَلَوْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الِاتِّخَاذِ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا لَوْ سَكَتَ عَنْهُ لَكَانَ يَسْتَحِقُّهُ لِقِيَامِهِ، وَهَذَا عَلَى أَرْجَحِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ لِلنَّاظِرِ قَدْرَ عَمَلِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَلَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ النَّظَرَ وَاشْتَرَطَ أُجْرَةً فَفِي صِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ، كَالْهَاشِمِيِّ إِذَا عَمِلَ فِي الزَّكَاةِ هَلْ يَأْخُذُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ؟ وَالرَّاجِحُ الْجَوَازُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُثْمَانَ الْآتِي بَعْدُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَارِثِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ رُدَّ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لَزِمَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ النَّظَرَ بَعْدَهُ لِحَفْصَةَ، وَهِيَ مِمَّنْ يَرِثُهُ، وَجَعَلَ لِمَنْ وَلِيَ وَقْفَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ وَقْفَ عُمَرَ صَدَرَ مِنْهُ فِي حَيَاةِ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي أَوْصَى بِهِ إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ النَّظَرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا إِنْ دَخَلَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْوَقْفِ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنِينَ وَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْوَقْفِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَبِّسِ الْأَصْلَ يُنَاقِضُ تَأْقِيتَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ يَصِحُّ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: لَا تُبَاعُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُنَاقَلُ بِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ أَنَّهُ إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي غَيْرِهِ وَيُوقَفُ فِي مَا سُمِّيَ فِي الْأَوَّلِ، وَكَذَا إِنْ شَرَطَ الْبَيْعَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِي نَقْلِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وَقْفِ الْمُشَاعِ، لِأَنَّ الْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي كَانَتْ لِعُمَرَ بِخَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ مُنْقَسِمَةً.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا سِرَايَةَ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْوَقْفَ سَرَى مِنْ حِصَّةِ عُمَرَ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ بَاقِي الْأَرْضِ، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ بِالسِّرَايَةِ وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌30 - بَاب وَقْفِ الْأَرْضِ لِلْمَسْجِدِ

2774 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْفِ الْأَرْضِ لِلْمَسْجِدِ) لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ لَا مَنْ أَنْكَرَ الْوَقْفَ وَلَا مَنْ نَفَاهُ، إِلَّا أَنَّ فِي الْجُزْءِ الْمُشَاعِ احْتِمَالًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: يَظْهَرُ أَنَّ وَقْفَ الْمُشَاعَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَصِحُّ،

ص: 404

وَجَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِالصِّحَّةِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَى الْجُنُبِ الْمُكْثُ فِيهِ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ خَصَّ جَوَازَ الْوَقْفِ بِالْمَسْجِدِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ نَفَذَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ مَسْجِدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ كَأَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا بِالْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَمَّ انْعِقَادُ الْوَقْفِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَبْنِيَهَا مَسْجِدًا انْعَقَدَ الْوَقْفُ قَبْلَ الْبِنَاءِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا الْأَصِيلِيَّ فَنَسَبَهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبَّوَيْهِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَأَمَّا عَبْدُ الصَّمَدِ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (بِالْمَسْجِدِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌31 - بَاب وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلَامٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالْأَقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ تِلكَ الْأَلْفِ شَيْئًا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا

2775 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا، فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْتَاعَهَا فَقَالَ: لَا تَبْتَاعُهَا، وَلَا تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ، وَالْكُرَاعُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَيْلِ، فَهُوَ بَعْدَ الدَّوَابِّ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَالْعُرُوضُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا عَدَا النَّقْدَ مِنَ الْمَالِ. وَالصَّامِتُ بِالْمُهْمَلَةِ بِلَفْظِ ضِدِّ النَّاطِقِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّقْدِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَوَجْهُ أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قِصَّةِ فَرَسِ عُمَرَ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ إِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ تَحْبِيسُ الْعَيْنِ، فَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالِانْتِفَاعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ

إِلَخْ) هُوَ ذَهَابٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ إِلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ هَكَذَا ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ إِلَّا الْأَثَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ الْفَرَسِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا عُمَرُ فَقَطْ، وَأَثَرُ الزُّهْرِيِّ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَقْفِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بِأَنْ يَحْبِسَ أَصْلَهُ وَيَنْتَفِعَ بِثَمَرَتِهِ، وَالصَّامِتُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يَخْرُجَ بِعَيْنِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَحْبِيسِ الْأَصْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِالثَّمَرَةِ بَلِ الْمَأْذُونُ فِيهِ مَا عَادَ مِنْهُ نَفْعٌ بِفَضْلٍ كَالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ وَالِارْتِفَاقِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ، فَأَمَّا مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا بِإِفَاتَةِ عَيْنِهِ فَلَا. اهـ مُلَخَّصًا. وَجَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ

ص: 405

أَنَّ الَّذِي حَصَرَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالصَّامِتِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلْ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالصَّامِتِ بِطَرِيقِ الِارْتِفَاقِ بِأَنْ يَحْبِسَ مَثَلًا مِنْهُ مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْمَرْأَةِ فَيَصِحَّ بِأَنْ يَحْبِسَ أَصْلَهُ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ النِّسَاءُ بِاللُّبْسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَمَا قَدَّمْتُ تَوْجِيهَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌32 - بَاب نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ

2776 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ - بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي - فَهُوَ صَدَقَةٌ.

[الحديث 2776 - طرفاه في: 3096، 6729]

2777 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ نَفَقَةِ بَقِيَّةِ الْوَقْفِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أُجْرَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْوَقْفِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَامِلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقَيِّمُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَجِيرُ وَنَحْوُهُمَا أَوِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُجْرَةُ حَافِرِ قَبْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي. بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ صلى الله عليه وسلم مَالًا يُورَثُ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُفُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يَخْلُفُ إِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ خَلَفَ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَرَثَتِي سَمَّاهُمْ وَرَثَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، لَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهٌ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْخُمُسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي وَقْفِ عُمَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلُ بِبَابٍ، وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ حَمَّادٍ. قُلْتُ: لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ، وَقُتَيْبَةُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَوَصَلَهُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ مُطَوَّلًا، وَوَصَلَهُ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى طَرِيقِ قُتَيْبَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ ذُهُولٌ شَدِيدٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ.

‌33 - بَاب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا أَوِ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ،

وَوَقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَ نَزَلَهَا، وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ: أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ، وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ.

2778 -

وَقَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 406

عَنْهُ حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ، وَلَا أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَجَهَّزْتُهُ؟ قَالَ فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ، وَقَالَ عُمَرُ فِي وَقْفِهِ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا، أَوِ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِمَنْ يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَقْفِهِ مَنْفَعَةً، وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ عَامَّةً كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَوَقَفَ أَنَسٌ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ (دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَ نَزَلَهَا). وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَنْصَارِيِّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ إِذَا حَجَّ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ دَارَهُ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الدَّارَ، وَيَسْتَثْنِيَ لِنَفْسِهِ مِنْهَا بَيْتًا.

قَوْلُهُ: (وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ) وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ جَعَلَ دُورَهُ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ، لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ، وَأَنَّ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ نِسَائِهِ، وَصَوَّبَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَوَهَمَ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ بِخِلَافِهَا، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا بِكَسْرِ الضَّادِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِدَارِهِ مَحْبُوسَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدَانُ

إِلَخْ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدَانَ بِلَا رِوَايَةٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ عَبْدَانَ بِتَمَامِهِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ السُّلَمَيُّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُثْمَانُ وَالِدُ عَبْدَانَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ؛ فَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْهُ كَهَذِهِ الرِّوَايَةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عُثْمَانَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَتَابَعَهُ أَبُو قَطَنٍ، عَنْ يُونُسَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. قُلْتُ: وَتَفَرُّدُ عُثْمَانَ وَالِدِ عَبْدَانَ لَا يَضُرُّهُ فَإِنَّهُ ثِقَةٌ، وَاتِّفَاقُ شُعْبَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَلَى رِوَايَتِهِ هَكَذَا أَرْجَحُ مِنِ انْفِرَادِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَتَعَارَضُ التَّرْجِيحُ فَلَعَلَّ لِأَبِي إِسْحَاقَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُثْمَانَ) أَيِ ابْنَ عَفَّانَ.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ (حِينَ حُوصِرَ) أَيْ لَمَّا حَاصَرَهُ الْمِصْرِيُّونَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ تَوْلِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ فِي دَارِهِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ، عَنِ النَّسَائِيِّ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ، عَنْ عُثْمَانَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ حَفَرَ رُومَةَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَاهَا لَا أَنَّهُ حَفَرَهَا. قُلْتُ: هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَقَالَ فِيهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يُشْرَبُ مِنْ مَائِهَا إِلَّا بِثَمَنٍ. لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْوَهَمُ؛ فَقَدْ رَوَى الْبَغَوِيُّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ اسْتَنْكَرُوا الْمَاءَ وَكَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: رُومَةَ، وَكَانَ يَبِيعُ مِنْهَا الْقِرْبَةَ

ص: 407

بِمُدٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِيعُنِيهَا بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي وَلَا لِعِيَالِي غَيْرُهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَاشْتَرَاهَا بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَجْعَلُ لِي فِيهَا مَا جَعَلْتَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلًا عَيْنًا فَلَا مَانِعَ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا عُثْمَانُ بِئْرًا، وَلَعَلَّ الْعَيْنَ كَانَتْ تَجْرِي إِلَى بِئْرٍ فَوَسَّعَهَا وَطَوَاهَا فَنُسِبَ حَفْرُهَا إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ) فِي رِوَايَةِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ وَهُوَ مَحْصُورٌ إِلَى عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ: احْضُرُوا غَدًا، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، أَخْرَجَهُ سِيفٌ فِي الْفُتُوحِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ بِذَلِكَ هُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَيْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حِرَاءً حِينَ انْتَفَضَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اثْبُتْ حِرَاءُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَسَيَأْتِي هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي رِوَايَةِ زَيْدٍ أَيْضًا ذِكْرُ رُومَةَ: لَمْ يَكُنْ يُشْرَبُ مِنْهَا إِلَّا بِثَمَنٍ، فَابْتَعْتُهَا فَجَعَلْتُهَا لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَحْنَفِ، عَنْ عُثْمَانَ. فَقَالَ: اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ. وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا: وَأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا فَمِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْمَذْكُورَةِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا، وَنَحْوُهُ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ عُثْمَانَ فِي قِصَّةِ مَقْتَلِهِ مُطَوَّلًا، وَزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَزَادَ فِي ذِكْرِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى لَمْ يَفْقِدُوا عِقَالًا وَلَا خِطَامًا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبَّابٍ السُّلَمَيِّ أَنَّهُ جَهَّزَهُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّهُ جَاءَ بِأَلِفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا عَلَى عُثْمَانَ مِنْ عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَأَخْرَجَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ مِنْ مُرْسَلِ قَتَادَةَ حَمَلَ عُثْمَانُ عَلَى أَلْفِ بَعِيرٍ وَسَبْعِينَ فَرَسًا فِي الْعُسْرَةِ.

وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ فَجَاءَ عُثْمَانُ بِسَبْعِمِائَةِ أُوقِيَّةِ ذَهَبٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَانَ عُثْمَانَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَجَاءَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتُوَافِقُ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ مِنْ صَرْفِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَمِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَقُولُ: هَذِهِ يَدُ اللَّهِ وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِنْهَا: مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَنِي ابْنَتَيْهِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى رَضِيَ بِي وَرَضِيَ عَنِّي؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ. قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا طَلْحَةُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ جَلِيسِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: هَذَا جَلِيسِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلِلْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ: أَنَّ عُثْمَانَ حِينَ حُصِرَ قَالَ لِطَلْحَةَ: أَتَذْكُرُ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عُثْمَانَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَنَاقِبُ ظَاهِرَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه، وَفِيهَا جَوَازُ تَحَدُّثِ الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ أَوْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُكَاثَرَةِ وَالْعُجْبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ فِي وَقْفِهِ): تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ،

ص: 408

وَقَدِ ادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ يُوَافِقُ مَا تَرْجَمَ بِهِ إِلَّا أَثَرَ أَنَسٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ مُطَابِقٌ لَهَا، فَأَمَّا قِصَّةُ أَنَسٍ فَظَاهِرَةٌ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا قِصَّةُ الزُّبَيْرِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبِنْتَ رُبَّمَا كَانَتْ بِكْرًا فَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهَا عَلَى أَبِيهَا، فَيَلْزَمُهُ إِسْكَانُهَا، فَإِذَا أَسْكَنَهَا فِي وَقْفِهِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ رَفْعَ كَلَفِهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ فَتُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْآلَ يَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَوْلَادُ كِبَارُهُمْ وَصِغَارُهُمْ. وَأَمَّا قِصَّةُ عُثْمَانَ فَأَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِالْإِسْلَامِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ يَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي

الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ. وَأَمَّا قِصَّةُ عُمَرَ فَقَدْ تَرْجَمَ لَهَا بِخُصُوصِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَبْوَابٍ.

‌34 - بَاب إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ

2779 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ، قَالُوا: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قَوْلِ بَنِي النَّجَّارِ، لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَزِيَادَةٍ فِي مَتْنِهِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَبِيعُوهُ ثُمَّ جَعَلُوهُ مَسْجِدًا، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِ: لَا أَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ لَا يُصَيِّرُهُ وَقْفًا، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ هَذَا لِعَبْدٍ فَلَا يَصِيرُه وَقْفًا، وَيَقُولُهُ لِلْمُدَبَّرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ بِأَيِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ، وَإِمَّا بِقَرِينَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا قَالَ، وَفِي الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا مُرَادَهُ نَظَرٌ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَقْفًا.

‌35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، {الأَوْلَيَانِ}: وَاحِدُهُمَا أَوْلَى، وَمِنْهُ: أَوْلَى بِهِ. {عُثِرَ} ظُهِرَ. {أَعْثَرْنَا} : أَظْهَرْنَا

2780 -

وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ

ص: 409

الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ، وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا:{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي الْمَعَانِي: هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَحُكْمًا وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: {الأَوْلَيَانِ} وَاحَدُهُمَا أَوْلَى، وَمِنْهُ أَوْلَى بِهِ) أَيْ: أَحَقُّ بِهِ، وَوَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى وَآخَرَانِ أَيْ شَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ، وَالْأَوْلَيَانِ أَيِ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ لِقَرَابَتِهِمَا وَمَعْرِفَتِهِمَا، وَارْتَفَعَ الْأَوْلَيَانِ بِتَقْدِيرِ هُمَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ الشَّاهِدَانِ؟ فَأُجِيبَ الْأَوْلَيَانِ، أَوْ هُمَا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومَانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَا بِاسْتَحَقَّ أَيْ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِدَابُ الْأَوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ لِلشَّهَادَةِ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا، قَالَ الشِّهَابُ السَّمِينُ: وَلَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ فِيمَا قَالَ. ثُمَّ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَخَتَمَهُ بِأَنْ قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا قُلْتُهُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ فَقَالَ - فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ - فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْتُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: {عُثِرَ} ظَهَرَ، أَعَثَرْنَا: أَظْهَرْنَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ قَوْلُهُ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أَيْ: فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} إِنِ اطُّلِعَ مِنْهُمَا عَلَى خِيَانَةٍ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَعَثَرْنَا فَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أَيْ أَظْهَرْنَا وَاطَّلَعْنَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ عُثِرَ} أَيِ اطُّلِعَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: وَقَالَ عَلِيٌّ بِحَذْفِ الْمُحَاوَرَةِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَا قَرَّرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ لِي فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَمِعَهَا، لَكِنْ حَيْثُ يَكُونُ فِي إِسْنَادِهَا عِنْدَهُ نَظَرٌ أَوْ حَيْثُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَبِّرُ بِهَا فِيمَا أَخَذَهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ أَوْ بِالْمُنَاوَلَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ يُقَالُ لَهُ: الطَّوِيلُ، وَلَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِيهِ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ مَعَ كَوْنِهِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ هَذَا هُنَا، فَرَوَى النَّسَفِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: لَا أَعْرِفُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي. وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: كَمَا أَشْتَهِي. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَبُو أُسَامَةَ: وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ الْمَدِينِيِّ - اسْتَحْسَنَهُ. وَزَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ أَنَّ الْفَرَبْرِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ رَوَاهُ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ؟ قَالَ: لَا. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو أُسَامَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَرَوَى عُمَرُ الْبُجَيْرِيُّ - بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْجِيمِ مُصَغَّرًا - عَنِ الْبُخَارِيِّ نَحْوَ هَذَا وَزَادَ: قِيلَ لَهُ رَوَاهُ - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ - غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: لَا، وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا لِشَيْخِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ مَا بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) هُوَ بُزَيْلٌ بِمُوَحَّدَةٍ وَزَايٍ

ص: 410

مُصَغَّرٌ، وَكَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ نَفْسِهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ بُدَيْلٌ بِدَالٍ بَدَلَ الزَّايِ، وَرَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ بُرَيْلٌ بِرَاءٍ بِغَيْرِ نُقْطَةٍ، وَلِابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنِ الْكَلْبِيِّ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مُرْسَلًا لَكِنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ فِيهِ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فَإِنَّهُ خُزَاعِيٌّ وَهَذَا سَهْمِيٌّ، وَكَذَا وَهَمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ بِسَنَدِهِ فِي تَفْسِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) أَيِ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ تَمِيمٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُ رَوَاهَا عَنْ تَمِيمٍ نَفْسِهِ، بَيَّنَ ذَلِكَ الْكَلْبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: بَرِئَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ فِي تِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَأَخَّرَتِ الْمُحَاكَمَةُ حَتَّى أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، فَإِنَّ فِي الْقِصَّةِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّهَا كَانَتْ بِمَكَّةَ سَنَةَ الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ الْمَدِّ، لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ لِلْكَرَابِيسِيِّ؛ فَإِنَّهُ سَمَّاهُ الْبَدَّاءَ بْنَ عَاصِمٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ كَانَ أَخَا تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، لَكِنْ فِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِينِ أَحَدُهُمَا تَمِيمٌ وَالْآخَرُ يَمَانِيٌّ.

قَوْلُهُ: (فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ) فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، فَمَرِضَ السَّهْمِيُّ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا مِنْ تَرِكَتِهِ جَامًا وَهُوَ أَعْظَمُ تِجَارَتِهِ فَبِعْنَاهُ بِأَلِفِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمْتُهَا أَنَا وَعَدِيٌّ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ السَّهْمِيَّ الْمَذْكُورَ مَرِضَ، فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ثُمَّ أَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ ثُمَّ قَدِمَا عَلَى أَهْلِهِ فَدَفَعَا إِلَيْهِمْ مَا أَرَادَا، فَفَتَحَ أَهْلُهُ مَتَاعَهُ فَوَجَدُوا الْوَصِيَّةَ وَفَقَدُوا أَشْيَاءَ فَسَأَلُوهُمَا عَنْهَا فَجَحَدَا، فَرَفَعُوهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ:{لَمِنَ الآثِمِينَ} فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُمَا.

قَوْلُهُ: (جَامًا) بِالْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَيْ إِنَاءً.

قَوْلُهُ: (مُخَوَّصًا) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَوَاوٍ ثَقِيلَةٍ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ مَنْقُوشًا فِيهِ صِفَةُ الْخُوصِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ مُخَوَّضًا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُمَوَّهًا وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٌ بِذَهَبٍ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ تَمِيمًا، وَعَدِيًّا لَمَّا سُئِلَا عَنْهُ قَالَا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ، فَارْتَفَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ تَأَثَّمْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ) أَيِ الْمَيِّتِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ، وَسَمَّى مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَفْسِيرٍ الْآخَرَ الْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي وَدَاعَةَ وَهُوَ سَهْمِيٌّ أَيْضًا، لَكِنَّهُ سَمَّى الْأَوَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِجَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ لِلْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَتَكَلَّفَ فِي انْتِزَاعِهِ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقِرَّا أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ

ص: 411

لَا يُوجِبُ يَمِينًا عَلَى الطَّالِبِ، وَكَذَلِكَ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ، وَمَعَ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الطَّالِبَانِ يَمِينَهُمَا مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَشْهَدُ، بَلْ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ - أَيْ عَدِيًّا - بِمَا يَعْظُمُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ الْكُفَّارُ، وَالْمَعْنَى: مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ.

{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهَا، فَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَبِإِيمَائِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَبَقِيَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ عَلَى حَالِهَا، وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَوَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ الْبَابِ؛ فَإِنَّ سِيَاقَهُ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ الْعَشِيرَةُ، وَالْمَعْنَى: مِنْكُمْ أَوْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَاحْتَجَّ لَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ لَفْظَ آخَرَ لَا بُدَّ أَنْ يُشَارِكَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الصِّفَةِ حَتَّى لَا يَسُوغَ أَنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ كَرِيمٍ وَلَئِيمٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ وُصِفَ الِاثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرَانِ كَذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ سَاغَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَكِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا حَكَى سَبَبَ النُّزُولِ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا فَفِي مَا قَالَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ

بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِأَنَّ اتِّصَافَ الْكَافِرِ بِالْعَدَالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ فَرْعُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فَمَنْ قَبِلَهَا وَصَفَهُ بِهَا وَمَنْ لَا فَلَا، وَاعْتَرَضَ أَبُو حِبَّانَ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، فَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ، صَحَّ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ، وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِفَةُ (رَجُلَانِ) فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَرَجُلَانِ اثْنَانِ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَأَنَّ نَاسِخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنَ الْفَاسِقِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَجَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مُحْكَمَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ اتُّهِمَا اسْتُحْلِفَا.

أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَصَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّهُ عَمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَضَرَتْ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاةُ بِدُقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ فَأَخْبَرَ الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: هَذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا كَتَمَا وَلَ بَدَّلَا وَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا، وَرَجَّحَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَسَبَقَهُ الطَّبَرِيُّ لِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا قَالَ:{أَوْ آخَرَانِ} وَصَحَّ أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الْمُخَاطَبِينَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَيْضًا فَجَوَازُ اسْتِشْهَادِ الْمُسْلِمِ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ وَأَنَّ

ص: 412

أَبَا مُوسَى حَكَمَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ حُجَّةً، وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ، ثُمَّ الطَّبَرِيُّ، وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ، قَالَ: وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْيَمِينَ شَهَادَةً فِي آيَةِ اللِّعَانِ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ وَأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالْحَقِّ، قَالُوا: فَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أَيْ يَحْلِفَانِ، فَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُمَا حَلَفَا عَلَى الْإِثْمِ رَجَعَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَتُعُقِّبَ

بِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدٌ وَلَا عَدَالَةٌ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَقَدِ اشْتُرِطَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَوِيَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ. وَأَمَّا اعْتِلَالُ مَنِ اعْتَلَّ فِي رَدِّهَا بِأَنَّهَا تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْأُصُولَ لِمَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَحَبْسِ الشَّاهِدِ وَتَحْلِيفِهِ وَشَهَادَةِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ فَقَدْ أَجَابَ مَنْ قَالَ بِهِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَغْنًى عَنْ نَظِيرِهِ، وَقَدْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي الطِّبِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَبْسِ السِّجْنَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِمْسَاكُ لِلْيَمِينِ لِيَحْلِفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ قِيَامِ الرِّيبَةِ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ وَاسْتِحْقَاقُهُ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ نَقْلَ الْأَيْمَانِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ ظُهُورِ اللَّوْثِ بِخِيَانَةِ الْوَصِيَّيْنِ، فَيُشْرَعُ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا وَيَسْتَحِقَّا كَمَا يُشْرَعُ لِمُدَّعِي الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَسْتَحِقَّ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَهَادَةِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ بَلْ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ لَهُ بِيَمِينِهِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الشَّهَادَةِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ ظُهُورِ اللَّوْثِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالدَّمِ وَظُهُورِهِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمَالِ؟ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الْوَصِيَّانِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} مَعْنَى الْحُضُورِ لِمَا يُوصِيهِمَا بِهِ الْمُوصِي. ثُمَّ زَيَّفَ ذَلِكَ.

‌36 - بَاب قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ

2781 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ - أَوْ الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ فِرَاسٍ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ:، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَهُ جِذاذ النَّخْلِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ. قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَة، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ادْعُ أَصْحَابَكَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلَا أَرْجِعُ إِلَى أَخَوَاتِي تَمْرَةً، فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا حَتَّى أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أُغْرُوا بِي يَعْنِي هِيجُوا بِي: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الْوَرَثَةِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، أَوِ الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا بِالشَّكِّ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ الْبَغْدَادِيِّ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ بِوَاسِطَةٍ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ عَقِبَ هَذَا سَوَاءً،

ص: 413

وَفِي الْمَغَازِي وَالنِّكَاحِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ فَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبُيُوعِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَشَيْبَانُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِرَاسٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الصُّلْحِ وَالِاسْتِقْرَاضِ وَفِي الْهِبَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا دَالٌ مَكْسُورَةٌ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ، أَيِ: اجْعَلْ كُلَّ صِنْفٍ فِي بَيْدَرٍ - أَيْ جَرِينٍ - يَخُصُّهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ فَبَادِرْ. وَقَوْلُهُ: وَلَا أَرْجِعُ إِلَى أَخَوَاتِي تَمْرَةً كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِتَمْرَةٍ بِإِثْبَاتِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أُغْرُوا بِي يَعْنِي هُيِّجُوا بِي){فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وَقَعَ هَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ، وَأُغْرُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُقَالُ: أُغْرِيَ بِكَذَا إِذَا لَهِجَ بِهِ وَأُوْلِعَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} الْإِغْرَاءُ التَّهْيِيجُ وَالْإِفْسَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْوَصَايَا وَمَا مَعَهُ مِنْ أَبْوَابِ الْوَقْفِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَحَدِيثِهِ هُمَا وَالِيَانِ، وَحَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَحَدِيثِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَمَذْكُورٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ رُومَةَ فَمَا هُوَ عِنْدَهُ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الشُّرْبِ مُخْتَصَرًا مُعَلَّقًا، وَأَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ هُنَا وَهُنَاكَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 414