المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌56 - كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ قَوْلُهُ: (كِتَابُ الْجِهَادِ) - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ٦

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌56 - كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ

قَوْلُهُ: (كِتَابُ الْجِهَادِ) كَذَا لِابْنِ شَبُّوَيْهِ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ لَكِنْ قَدَّمَ الْبَسْمَلَةَ، وَسَقَطَ كِتَابُ لِلْبَاقِينَ وَاقْتَصَرُوا عَلَى بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ لَكِنْ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ كِتَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَابُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ كِتَابُ الْجِهَادِ بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ وَسَيَأْتِي. وَالْجِهَادُ بِكَسْرِ الْجِيمِ أَصْلُهُ لُغَةً الْمَشَقَّةُ، يُقَالُ: جَهِدْتُ جِهَادًا بَلَغْتُ الْمَشَقَّةَ. وَشَرْعًا بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْفُسَّاقِ.

فَأَمَّا مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ فَعَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا ثُمَّ عَلَى تَعْلِيمِهَا، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَمَا يُزَيِّنُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ فَتَقَعُ بِالْيَدِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْفُسَّاقِ فَبِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ ثُمَّ الْقَلْبِ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - ابْنُ الْفَاكِهِ - بِالْفَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ بَعْدَهَا هَاءٌ - فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: فَيَقُولُ - أَيِ الشَّيْطَانُ - يُخَاطِبُ الْإِنْسَانَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جُهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَاخْتُلِفَ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ هَلْ كَانَ أَوَّلًا فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ؟ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّفِيرِ.

‌1 - بَاب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُدُودُ: الطَّاعَةُ

2782 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.

2783 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.

ص: 3

2784 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ.

2785 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: لَا أَجِدُهُ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى أَبْوَابِ الْجِهَادِ لِأَنَّهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَوَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَابْنِ شَبُّوَيْهِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ:{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ثُمَّ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وَالْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ فِي لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فقَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ. قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ، لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُدُودُ الطَّاعَةُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ وَقَفَ عِنْدَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِنْ أَوْقَعَ الصَّلَاةَ فِي مِيقَاتِهَا كَانَ الْجِهَادُ مُقَدَّمًا عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ الْبِرُّ مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ. وَلَا أَعْرِفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُسْتَنَدًا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْبِرِّ لِكَوْنِهَا لَازِمَةً لِلْمُكَلَّفِ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَتَقْدِيمُ الْبِرِّ عَلَى الْجِهَادِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا خَصَّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ مَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ خِفَّةِ مُؤْنَتِهَا عَلَيْهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ مَعَ وُفُورِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ كَانَ لِغَيْرِهِمَا أَقَلَّ بِرًّا، وَمَنْ تَرَكَ جِهَادَ الْكُفَّارِ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ كَانَ لِجِهَادِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُسَّاقِ أَتْرَكَ، فَظَهَرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَجْتَمِعُ فِي أَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَحْفَظَ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعَ.

الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّفِيرِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهَا: نَرَى

ص: 4

الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ.

الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِلْأَصِيلِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَمَّا أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ، وَهُوَ إِمَّا ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَوْ ابْنُ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَا أَجِدُهُ) هُوَ جَوَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ: قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ قِيلَ: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ. وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: مَثَلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَمْ يَبْلُغِ الْعُشْرَ مِنْ عَمَلِهِ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْدِلَ الْجِهَادَ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذِهِ - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ - قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمُومُ حَدِيثِ الْبَابِ خُصَّ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَخْصُوصًا بِمَنْ خَرَجَ قَاصِدًا الْمُخَاطَرَةَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَأُصِيبَ كَمَا فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ رَجَعَ بِذَلِكَ لَا يَنَالُ الْفَضِيلَةَ الْمَذْكُورَةَ. لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ

(1)

وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ إِلَخْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ يَرْجِعْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ لِمَنْ يَرْجِعُ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الَّذِي بَعْدَهُ. وَأَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِشْكَالِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ ف تَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا بَلَى.

قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الذِّكْرَ بِمُجَرَّدِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَقَعُ لِلْمُجَاهِدِ وَأَفْضَلُ مِنَ الْإِنْفَاقِ مَعَ مَا فِي الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي.

قَالَ عِيَاضٌ: اشْتَمَلَ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْجِهَادِ، لِأَنَّ الصِّيَامَ وَغَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ قَدْ عَدَلَهَا كُلَّهَا الْجِهَادُ حَتَّى صَارَتْ جَمِيعُ حَالَاتِ الْمُجَاهِدِ وَتَصَرُّفَاتِهِ الْمُبَاحَةِ مُعَادِلَةً لِأَجْرِ الْمُوَاظِبِ عَلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا هِيَ إِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ شَاءَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَسِيلَةٌ إِلَى إِعْلَانِ الدِّينِ وَنَشْرِهِ وَإِخْمَادِ الْكُفْرِ وَدَحْضِهِ، فَفَضِيلَتُهُ بِحَسَبِ فَضِيلَةِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ) أَيْ يَمْرَحُ بِنَشَاطٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ وَيَطْرَحَهُمَا مَعًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنْ يَلِجَ فِي عَدْوِهِ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا. وَفِي الْمَثَلِ اسْتَنَّتِ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى، يُضْرَبُ لِمَنْ يَتَشَبَّهَ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَقَوْلُهُ فِي طِوَلِهِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الدَّابَّةُ وَيُمْسَكُ طَرَفُهُ وَيُرْسَلُ فِي الْمَرْعَى، وَقَوْلُهُ فَيَكْتُبُ لَهُ حَسَنَاتٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ يَكْتُبُ لَهُ الِاسْتِنَانَ حَسَنَاتٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ ذَكَرَهُ أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَابًا فِي

(1)

ذكرت في الباب الذي يليه.

ص: 5

بَابٌ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَرْفُوعًا وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌2 - بَاب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

2786 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.

[الحديث 2786 - طرفه في: 6494]

2787 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُجَاهِدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} أَيْ تَفْسِيرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَوْ عَلِمْنَا هَذِهِ التِّجَارَةَ لَأَعْطَيْنَا فِيهَا الْأَمْوَالَ وَالْأَهْلِينَ، فَنَزَلَتْ:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} الْآيَةَ هَكَذَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَرَوَى هُوَ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا لَتَلَهَّفَ عَلَيْهَا رِجَالٌ أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهَا حَتَّى يَطْلُبُونَهَا.

قَوْلُهُ: (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَهُ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَيْرُ النَّاسِ مَنْزِلًا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ أَيُّ النَّاسِ أَكْمَلُ إِيمَانًا وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ قَامَ بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ثُمَّ حَصَّلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْجِهَادِ وَأَهْمَلَ الْوَاجِبَاتِ الْعَيْنِيَّةَ، وَحِينَئِذٍ فَيَظْهَرُ فَضْلُ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمُعْتَزِلُ يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَةِ لِأَنَّ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ لَا يَسْلَمُ مِنَ ارْتِكَابِ الْآثَامِ فَقَدْ لَا يَفِي هَذَا بِهَذَا، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِوُقُوعِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ.

قَوْلُهُ: (يَتَّقِي اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَعْبُدُ اللَّهَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْتَزِلُ شُرُورَ

ص: 6

النَّاسِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئَابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ عَذْبَةٌ، فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لَوِ اعْتَزَلْتُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الِانْفِرَادِ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْغِيبَةِ وَاللَّغْوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا اعْتِزَالُ النَّاسِ أَصْلًا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَحَلُّ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرَ النَّاسِ فِيهِ مَنْزِلَةً مَنْ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطْلُبُ الْمَوْتَ فِي مَظَانِّهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ بَعْجَةَ، وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَجِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِذِكْرِ الشِّعْبِ وَالْجَبَلِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ خَالِيًا مِنَ النَّاسِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَبْعُدُ عَلَى النَّاسِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا.

قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْخَاشِعِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ وَفِي الْمُوَطَّأِ وَابْنِ حِبَّانَ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ نَهَارَهُ الْقَائِمِ لَيْلَهُ وَشَبَّهَ حَالَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ بِحَالِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ مَنْ لَا يَفْتُرُ سَاعَةً عَنِ الْعِبَادَةِ فَأَجْرُهُ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ لَا تَضِيعُ سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِهِ بِغَيْرِ ثَوَابٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ لَتَسْتَنُّ فَرَسُهُ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ} الْآيَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَتَوَكَّلَ اللَّهُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَلَفْظُهُ انْتَدَبَ اللَّهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَفِيهِ الْتِفَاتٌ وَإِنَّ فِيهِ انْتِقَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْحُضُورِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.

وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ حَذْفُ الْقَوْلِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْمَقُولِ، وَهُوَ سَائِغٌ شَائِعٌ سَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ غَيْرَ حَالٍ، فَمِنَ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ} أَيْ قَائِلِينَ رَبَّنَا، وَهَذَا مِثْلُهُ أَيْ قَائِلًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَخْ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سِيَاقِهِ، فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ بِلَفْظِ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَفْظُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي ضَمِنْتُ لَهُ إِنْ رَجَعْتُهُ أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ الْحَدِيثُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بِلَفْظِ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِي هُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ إِنْ رَجَعْتُهُ رَجَعْتُهُ بِأَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوْلُهُ تَضَمَّنَ اللَّهُ وَتَكَفَّلَ اللَّهُ وَانْتَدَبَ اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمُحَصِّلُهُ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وَذَلِكَ التَّحْقِيقُ عَلَى وَجْهِ

ص: 7

الْفَضْلِ مِنْهُ سبحانه وتعالى، وَقَدْ عَبَّرَ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى بِتَفْضِيلِهِ بِالثَّوَابِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُمْ، وَقَوْلُهُ لَا يُخْرِجِهُ إِلَّا الْجِهَادُ نَصٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ خُلُوصِ النِّيَّةِ فِي الْجِهَادِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا، وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَيْ مَضْمُونٌ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ذُو ضَمَانٍ.

قَوْلُهُ: (بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِنْ تَوَفَّاهُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَنْ تَوَفَّاهُ بِالشَّرْطِيَّةِ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَهُوَ أَوْضَحُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، أَوِ الْمُرَادُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ سَاعَةَ مَوْتِهِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنْ قَالَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الشَّهِيدِ وَالرَّاجِعِ سَالِمًا لِأَنَّ حُصُولَ الْأَجْرِ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُخُولٌ خَاصٌّ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَرْجِعَهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى يَتَوَفَّاهُ.

قَوْلُهُ: (مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) أَيْ مَعَ أَجْرٍ خَالِصٍ إِنْ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا أَوْ مَعَ غَنِيمَةٍ خَالِصَةٍ مَعَهَا أَجْرٌ، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنِ الْأَجْرِ الثَّانِي الَّذِي مَعَ الْغَنِيمَةِ لِنَقْصِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْرِ الَّذِي بِلَا غَنِيمَةٍ، وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا غَنِمَ لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا بَلِ الْمُرَادُ أَوْ غَنِيمَةٍ مَعَهَا أَجْرٌ أَنْقَصُ مِنْ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ، لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْغَنِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَتَمُّ أَجْرًا عِنْدَ وُجُودِهَا، فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْحِرْمَانِ وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي نَفْيِ الْجَمْعِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ إِمَّا يُسْتَشْهَدُ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ مَعَ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا، فَهِيَ قَضِيَّةٌ مَانِعَةٌ الْخُلُوَّ لَا الْجَمْعَ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: إِنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَرَجَّحَهَا التُّورِبِشْتِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ. وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ كَذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى فَقَالُوا: أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ بِصِيغَةِ أَوْ، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ أَوْ غَنِيمَةٍ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ فَوَقَعَ فِيهِ بِلَفْظٍ وَغَنِيمَةٍ وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ فِيهَا مَقَالٌ.

وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْوَاوِ أَيْضًا وَكَذَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظٍ: بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَحْفُوظَةً تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ نُحَاةِ الْكُوفِيِّينَ، لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ صَعْبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ وَقَعَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ لِكُلِّ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْغُزَاةِ يَرْجِعُ بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ، فَمَا فَرَّ مِنْهُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقَعَ فِي نَظِيرِهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ظَاهِرِهَا أَنَّ مَنْ رَجَعَ بِغَنِيمَةٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ، كَمَا يَلْزَمُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَنَّ كُلَّ غَازٍ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَهَذَا يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ وَأَنَّ الَّذِي يَغْنَمُ يَرْجِعُ بِأَجْرٍ لَكِنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ، فَتَكُونُ الْغَنِيمَةُ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْرِ الْغَزْوِ، فَإِذَا قُوبِلَ أَجْرُ الْغَانِمِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِهِ بِأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ كَانَ أَجْرُ مَنْ غَنِمَ دُونَ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ خَبَّابٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

الْآتِي فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ نَقْصَ ثَوَابِ الْمُجَاهِدِ بِأَخْذِهِ الْغَنِيمَةَ،

ص: 8

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ تَمَدُّحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِلِّ الْغَنِيمَةِ وَجَعْلِهَا مِنْ فَضَائِلِ أُمَّتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَنْقُصُ الْأَجْرَ مَا وَقَعَ التَّمَدُّحُ بِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ أَهْلِ بَدْرٍ أَنْقَصَ مِنْ أَجْرِ أَهْلِ أُحُدٍ مَثَلًا مَعَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَسَبَقَ إِلَى هَذَا الْإِشْكَالِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَحَكَاهُ عِيَاضٌ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعَّفَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ هَانِئٍ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ تَجْرِيحٌ لِأَحَدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْصَ الْأَجْرِ عَلَى غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَظُهُورُ فَسَادِ هَذَا الْوَجْهِ يُغْنِي عَنِ الْإِطْنَابِ فِي رَدِّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَلَا أَقَلُّ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْصَ الْأَجْرِ عَلَى مَنْ قَصَدَ الْغَنِيمَةَ فِي ابْتِدَاءِ جِهَادِهِ وَحَمَلَ تَمَامَهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ الْجِهَادَ مَحْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْمُقَسَّمَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أَخْلَصَ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي.

وَقَالَ عِيَاضٌ: الْوَجْهُ عِنْدِي إِجْرَاءُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا وَاسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى وَجْهِهِمَا. وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْلِ بَدْرٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلِ الْحُكْمُ فِيهِمَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْأُجُورَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِيمَا كَانَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ مَشَقَّتِهِ، إِذْ لِلْمَشَقَّةِ دُخُولٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ الْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ بِأَخْذِ الْغَنَائِمِ، يَعْنِي فَلَوْ كَانَتْ تَنْقُصُ الْأَجْرَ لَمَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُثَابِرُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ جِهَةِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ أَخْذَ الْغَنَائِمِ أَوَّلَ مَا شُرِعَ كَانَ عَوْنًا عَلَى الدِّينِ وَقُوَّةً لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عُظْمَى يُغْتَفَرُ لَهَا بَعْضُ النَّقْصِ فِي الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِحَالِ أَهْلِ بَدْرٍ فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقَابُلُ بَيْنَ كَمَالِ الْأَجْرِ وَنُقْصَانِهِ لِمَنْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَغْنَمْ أَوْ يَغْزُو فَيَغْنَمُ، فَغَايَتُهُ أَنَّ حَالَ أَهْلِ بَدْرٍ مَثَلًا عِنْدَ عَدَمِ الْغَنِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِمْ نَصٌّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا كَانَ أَجْرُهُمْ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ لَا يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى.

وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ فَغَيْرُ وَارِدٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ الْحِلِّ ثُبُوتُ وَفَاءِ الْأَجْرِ لِكُلِّ غَازٍ، وَالْمُبَاحُ فِي الْأَصْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَخْذَ الْغَنِيمَةِ وَاسْتِيلَاءَهَا مِنِ الْكُفَّارِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَعَ صِحَّةِ ثُبُوتِ الْفَضْلِ فِي أَخْذِ الْغَنِيمَةِ وَصِحَّةِ التَّمَدُّحِ بِأَخْذِهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ غَازٍ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَجْرِ غَزَاتِهِ نَظِيرُ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ قُلْتُ: وَالَّذِي مَثَّلَ بِأَهْلِ بَدْرٍ أَرَادَ التَّهْوِيلَ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ آخِرًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَعَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ أَنْقَصَ أَجْرًا مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ أَجْرُ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَكُونُوا فِي حَالِ أَخْذِهِمُ الْغَنِيمَةَ مَفْضُولِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَمَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا بَلْ أَجْرُ الْبَدْرِيِّ فِي الْأَصْلِ أَضْعَافُ أَجْرِ مَنْ بَعْدَهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَجْرَ الْبَدْرِيِّ بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ سِتُّمِائَةٍ وَأَجْرَ الْأُحُدِيِّ مَثَلًا بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ مِائَةٌ، فَإِذَا نَسَبْنَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كَانَ لِلْبَدْرِيِّ لِكَوْنِهِ أَخَذَ الْغَنِيمَةَ مِائَتَانِ وَهِيَ ثُلُثُ السِّتِّمِائَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَجْرًا مِنَ الْأُحُدِيِّ، وَإِنَّمَا امْتَازَ أَهْلُ بَدْرٍ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ شَهِدَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَكَانَ مَبْدَأَ اشْتِهَارِ الْإِسْلَامِ وَقُوَّةَ أَهْلِهِ، فَكَانَ لِمَنْ شَهِدَهَا مِثْلُ أَجْرِ مَنْ شَهِدَ الْمَغَازِيَ الَّتِي بَعْدَهَا جَمِيعًا، فَصَارَتْ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ فِي الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَقْصِ أَجْرِ مَنْ غَنِمَ أَنَّ الَّذِي لَا يَغْنَمُ يَزْدَادُ أَجْرُهُ لِحُزْنِهِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَمَا يُؤْجَرُ مَنْ أُصِيبَ بِمَا لَهُ فَكَانَ الْأَجْرُ لِمَا نَقَصَ عَنِ الْمُضَاعَفَةِ بِسَبَبِ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ ذَلِكَ كَالنَّقْصِ مِنْ أَصْلِ الْأَجْرِ، وَلَا يَخْفَى مُبَايَنَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ

ص: 9

لِسِيَاقِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِلتَّعْبِيرِ بِثُلُثَيِ الْأَجْرِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِكْمَةً لَطِيفَةً بَالِغَةً وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُجَاهِدِينَ ثَلَاثَ كَرَامَاتٍ: دُنْيَوِيَّتَانِ وَأُخْرَوِيَّةٌ، فَالدُّنْيَوِيَّتَانِ السَّلَامَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَإِذَا رَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ ثُلُثَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ وَبَقِيَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الثُّلُثُ، وَإِنْ رَجَعَ بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ثَوَابًا فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَهُ، وَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُجَاهِدِ: إِذَا فَاتَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا عَوَّضْتُكَ عَنْهُ ثَوَابًا. وَأَمَّا الثَّوَابُ الْمُخْتَصُّ بِالْجِهَادِ فَهُوَ حَاصِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ مَعًا، قَالَ: وَغَايَةُ مَا فِيهِ عَدُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّعْمَتَيْنِ الدُّنْيَوِيَّتَيْنِ أَجْرًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُدْرَكُ دَائِمًا بِالْقِيَاسِ، بَلْ هِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّمْثِيلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ لِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ

2788، 2789 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ - أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ شَكَّ إِسْحَاقُ - قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ. فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ - كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ - قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ. فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ.

[الحديث 2788 - أطرفه في: 2799، 2877، 2894، 6282، 7001]

[الحديث 2789 - أطرافه في: 2800، 2878، 2895، 2924، 6283، 7002]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدُّعَاءِ بِالشَّهَادَةِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ نَصْرِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِعَانَةَ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ، لَكِنَّ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى حُصُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ، فَاغْتُفِرَ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ الْعُظْمَى مِنْ دَفْعِ الْكُفَّارِ وَإِذْلَالِهِمْ وَقَهْرِهِمْ بِقَصْدِ قَتْلِهِمْ بِحُصُولِ مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَازَ تَمَنِّي الشَّهَادَةَ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ صِدْقِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ حَتَّى

ص: 10

بَذَلَ نَفْسَهُ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُ أُمِّ حَرَامٍ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اسْتِيفَاءِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ الرِّجَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَمَنِّي الْغَزْوِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الثَّمَرَةُ الْعُظْمَى الْمَطْلُوبَةُ فِي الْغَزْوِ، وَأُمُّ حَرَامٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هِيَ خَالَةُ أَنَسٍ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنْ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْهُ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ وَهُوَ مُوَافِقُ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ الَّتِي سَتَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ وَبَيَانُ مَنْ وَصَلَهُ.

‌4 - بَاب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي، وَهَذَا سَبِيلِي

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ، {هُمْ دَرَجَاتٌ}: لَهُمْ دَرَجَاتٌ

2790 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ - أُرَاهُ قال: وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.

[الحديث 2790 - طرفه في: 7423]

2791 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالَا أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ

قَوْلُهُ: (بَابُ دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ بَيَانُهَا، وَقَوْلُهُ يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي أَيْ أَنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْفَرَّاءُ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ لِلسَّبِيلِ لِأَنَّهَا قَدْ تُؤَنَّثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهَا سَبِيلًا) انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى (هَذِهِ) إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ أَيْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ سَبِيلِي فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْنِيثِ السَّبِيلِ.

قَوْلُهُ: (غُزًّا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَعَ التَّنْوِينِ (وَاحِدُهَا غَازٍ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قُوَّلٍ وَقَائِلٍ انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (هُمْ دَرَجَاتٌ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ) هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ: قَوْلُهُ: (هُمْ دَرَجَاتٌ) أَيْ مَنَازِلُ وَمَعْنَاهُ لَهُمْ دَرَجَاتٌ، وَقَالَ

ص: 11

غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ هُمْ ذَوُو دَرَجَاتٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي هِلَالٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ فُلَيْحٍ، وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ بَدَلَ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَهُوَ وَهَمٌ مِنْ فُلَيْحٍ فِي حَالِ تَحْدِيثِهِ لِأَبِي عَامِرٍ، وَعِنْدَ فُلَيْحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثٌ غَيْرُ هَذَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، فلَعَلَّهُ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، وَقَدْ نَبَّهَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ فُلَيْحٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا شَكَّ فِيهِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ فُلَيْحٌ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا ابْنَ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ يُونُسُ: ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ فُلَيْحٌ فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَلَمْ يَشُكَّ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَجَعَ إِلَى الصَّوَابِ فِيهِ. وَلَمْ يَقِفِ ابْنُ حِبَّانَ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

وَقَدْ وَافَقَ فُلَيْحًا عَلَى رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَتِهِ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ: فَقَالَ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، وَحَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْهُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَرَجَّحَ رِوَايَةَ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِرِوَايَةِ هِلَالٍ مَعَ أَنَّ بَيْنَ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَمُعَاذٍ انْقِطَاعًا.

قَوْلُهُ: (وَصَامَ رَمَضَانَ إِلَخْ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ لَمْ يَذْكُرِ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ. قُلْتُ: بَلْ سَقَطَ ذِكْرُهُ عَلَى أَحَدِ الرُّوَاةِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْحَجُّ فِي التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَقَالَ فِيهِ لَا أَدْرِي أَذَكَرَ الزَّكَاةَ أَمْ لَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُذْكَرْ لِبَيَانِ الْأَرْكَانِ فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذَكَرَ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَرِّرُ غَالِبًا، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ لَهُ مَالٌ بِشَرْطِهِ، وَالْحَجُّ فَلَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً عَلَى التَّرَاخِي.

قَوْلُهُ: (وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ) فِيهِ تَأْنِيسٌ لِمَنْ حُرِمَ الْجِهَادَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَحْرُومًا مِنَ الْأَجْرِ، بَلْ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامِ الْفَرَائِضِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ قَصَّرَ عَنْ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ) الَّذِي خَاطَبَهُ بِذَلِكَ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَصْلُهُ فِي النَّسَائِيِّ لَكِنْ قَالَ فِيهِ فَقُلْنَا.

قَوْلُهُ: (وإِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ بَشِّرْهُمْ بِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَلَا تَكْتَفِ بِذَلِكَ بَلْ بَشِّرْهُمْ بِالدَّرَجَاتِ، وَلَا تَقْتَنِعْ بِذَلِكَ بَلْ بَشِّرْهُمْ بِالْفِرْدَوْسِ الَّذِي هُوَ أَعْلَاهَا.

قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَرِدِ الْحَدِيثُ إِلَّا كَمَا وَقَعَ هُنَا لَكَانَ مَا قَالَ مُتَّجَهًا، لَكِنْ وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ تَعْلِيلٌ لِتَرْكِ الْبِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُخْبِرُ النَّاسَ؟ قَالَ: ذَرِ النَّاسَ يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ لَا تُبَشِّرِ النَّاسَ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الْأَعْمَالَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِ فَيَقِفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْجِهَادِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ فِيهِ تَعَقُّبٌ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: سَوَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَيْنَ عَدَمِهِ وَهُوَ الْجُلُوسُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ الْمَرْءُ فِيهَا، وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِي أَصْلِ دُخُولِ الْجَنَّةِ لَا فِي تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٌ أُخْرَى أُعِدَّتْ لِغَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ دُونَ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ.

قَوْلُهُ: (كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ

ص: 12

خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، فَإِنْ كَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ كَانَ اخْتِلَافُ الْعَدَدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ السَّيْرِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَوْ أَنَّ الْعَالَمِينَ اجْتَمَعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ.

قَوْلُهُ: (أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) الْمُرَادُ بِالْأَوْسَطِ هُنَا الْأَعْدَلُ وَالْأَفْضَلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فَعَلَى هَذَا فَعَطَفَ الْأَعْلَى عَلَيْهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِأَحَدِهما الْعُلُوُّ الْحِسِّيُّ وَبِالْآخَرِ الْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْمُرَادُ بِالْأَوْسَطِ السَّعَةُ، وَبِالْأَعْلَى الْفَوْقِيَّةُ.

قَوْلُهُ: (وأُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ فُلَيْحٍ فَلَمْ يَشُكَّ مِنْهُمْ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْعَرْشِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَمِنْهَا - أَيْ مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي فِيهَا الْفِرْدَوْسُ - تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ قَالَ الْفِرْدَوْسُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ: وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا فَلَمْ يَشُكَّ كَمَا شَكَّ يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ بَلْ جَزَمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُدْرِكْهُ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِتَمَامِهِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ هُنَاكَ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ. وَالْفِرْدَوْسُ هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْعِنَبُ، وَقِيلَ هُوَ بِالرُّومِيَّةِ وَقِيلَ بِالْقِبْطِيَّةِ وَقِيلَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لَلْمُجَاهِدِينَ، وَفِيهِ عِظَمُ الْجَنَّةِ وَعِظَمُ الْفِرْدَوْسِ مِنْهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دَرَجَةَ الْمُجَاهِدِ قَدْ يَنَالُهَا غَيْرُ الْمُجَاهِدِ إِمَّا بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ أَوْ بِمَا يُوَازِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالدُّعَاءِ بِالْفِرْدَوْسِ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقِيلَ فِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِمَا لَا يَحْصُلُ لِلدَّاعِي لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، وَحَدِيثُ سَمُرَةَ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي الْجَنَائِزِ، وَهَذِهِ الْقِطْعَةُ شَاهِدَةٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَمُفَسِّرَةٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْسَطِ الْأَفْضَلُ لِوَصْفِهِ دَارَ الشُّهَدَاءِ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بِأَنَّهَا أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ.

‌5 - بَاب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ

2792 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

[الحديث 2792 - طرفاه في: 2796، 6568]

2793 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ وَقَالَ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ".

[الحديث 2793 - طرفه في: 3253]

ص: 13

2794 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

[الحديث 2794 - أطرافه في: 2892، 3250، 6415]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغَدْوَةُ وَالرَّوْحَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فَضْلُهَا، وَالْغَدْوَةُ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغُدُوِّ وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى انْتِصَافِهِ، وَالرَّوْحَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْخُرُوجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا.

قَوْلُهُ: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وَقَابَ قَوْسِ أَحَدِكُمْ) أَيْ قَدْرَهُ، وَالْقَابُ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مَعْنَاهُ الْقَدْرُ، وَكَذَلِكَ الْقِيدُ بِكَسْرِ الْقَافِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ دَالٌ وَبِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الدَّالِ، وَقِيلَ الْقَابُ مَا بَيْنَ مِقْبَضِ الْقَوْسِ وَسِيَتِهِ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْوَتَرِ وَالْقَوْسِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْسِ هُنَا الذِّرَاعُ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى بَيَانُ فَضْلِ قَدْرِ الذِّرَاعِ مِنَ الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لَغَدْوَةٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْغَدْوَةُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ.

قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنْزِيلِ الْمَغِيبِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ تَحْقِيقًا لَهُ فِي النَّفْسِ لِكَوْنِ الدُّنْيَا مَحْسُوسَةً فِي النَّفْسِ مُسْتَعْظَمَةً فِي الطِّبَاعِ فَلِذَلِكَ وَقَعَتِ الْمُفَاضَلَةُ بِهَا، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الدُّنْيَا لَا يُسَاوِي ذَرَّةً مِمَّا فِي الْجَنَّةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَتَأَخَّرَ لِيَشْهَدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ تَسْهِيلُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ، وَأَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْجَنَّةِ قَدْرُ سَوْطٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ بِمَنْ حَصَّلَ مِنْهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّأْخِيرِ عَنِ الْجِهَادِ الْمَيْلُ إِلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا فَنَبَّهَ هَذَا الْمُتَأَخِّرَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنَ الْجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ) هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ لَرَوْحَةٌ بِزِيَادَةِ لَامِ الْقَسَمِ.

‌6 - بَاب الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ

يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ. شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ. شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ. {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} أَنْكَحْنَاهُمْ

2795 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ

ص: 14

أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى.

[الحديث 2795 - طرفه في: 2817]

2796 -

قَالَ وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

قَوْلُهُ: (الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِغَيْرِ بَابٍ وَثَبَتَ لِغَيْرِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ بَابُ نُزُولِ الْحُورِ الْعِينِ إِلَخْ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ) أَيْ يَتَحَيَّرُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ اشْتِقَاقَ الْحُورِ عَنِ الْحَيْرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُورَ بِالْوَاوِ وَالْحَيْرَةُ بِالْيَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ

حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ مِنَ الْعِينِ الْحِيرِ

فَهُوَ لِلِاتِّبَاعِ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدِ الِاشْتِقَاقَ الْأَصْغَرَ.

قَوْلُهُ: (شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ تَفْسِيرَ الْعِينِ، وَالْعِينُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ: أَنْكَحْنَاهُمْ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَفْظُهُ: زَوَّجْنَاهُمْ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا أَيِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ كَمَا تَقُولُ زَوَّجْتُ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَيْ جَعَلْنَا ذُكْرَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَزْوَاجًا بِحُورٍ مِنَ النِّسَاءِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ زَوَّجَ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمُحْكَمِ حَكَاهُ لَكِنْ قَالَ: إِنَّهُ قَلِيلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْأَزْدِيُّ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ يَرْوِي عَنْهُ تَارَةً بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا وَتَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) هُوَ الْفَزَارِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ.

وَاشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ يَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا، الثَّانِي تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يَأْتِي شَرْحُهُمَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْبَابِ وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ تَقَدَّمَ شَرْحُ، الْقَابِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ هُنَا أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ قَابَ أَوْ قِيدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ الْمِقْدَارُ. وَقَوْلُهُ يَعْنِي سَوْطَهُ تَفْسِيرٌ لِلْقِيدِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلِهَذَا جَزَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ قِدٌّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَهُوَ السَّوْطُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْجِلْدِ.

قُلْتُ: وَدَعْوَى الْوَهْمِ فِي التَّفْسِيرِ أَسَهْلُ مِنْ دَعْوَى التَّصْحِيفِ فِي الْأَصْلِ وَلَا سِيَّمَا وَالْقِيدُ بِمَعْنَى الْقَابِ كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْأَخِيرُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ، وَلَنَصِيفُهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ فَاءٌ هُوَ الْخِمَارُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا أَوْرَدَ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا لِيُبَيِّنَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ يَتَمَنَّى الشَّهِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ فَوْقَ مَا فِي نَفْسِهِ، إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ يُعْطَاهَا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَى الدُّنْيَا لَأَضَاءَتْ كُلُّهَا انْتَهَى.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ذُكِرَ

ص: 15

الشَّهِيدُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَجِفُّ الْأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى تَبْتَدِرُهُ زَوْجَاتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا أَنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعَ خِصَالٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ وَصَحَّحَهُ.

‌7 - بَاب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ

2797 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ.

2798 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ "خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وَقَالَ مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا" قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ "مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِهَادِ وَأَنَّ تَمَنِّيَهَا وَالْقَصْدَ لَهَا مُرَغَّبٌ فِيهِ مَطْلُوبٌ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ يُصِبْهَا أَيْ أُعْطِيَ ثَوَابَهَا وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي الْمُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ مَنْ سَأَلَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مِثْلُهُ، وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ ابْنِ حُنَيْفٍ مَرْفُوعًا مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هُنَا وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرٍو فِي بَابِ الْجِهَادِ مِنَ الْإِيمَانِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو صَالِحٍ وَهُوَ فِي بَابِ الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلَانِ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَالْأَعْرَجُ وَهُوَ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي، وَهَمَّامٌ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَرِوَايَةُ الْبَابِ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِالْمَشَقَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَا تَطِيبُ بِالتَّخَلُّفِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَهُّبِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ آلَةِ السَّفَرِ مِنْ مَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ وَتَعَذُّرِ وُجُودِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَلَفْظُهُ لَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَحْوُهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ وَفِيهِ وَلَوْ خَرَجْتُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ إِلَّا انْطَلَقَ مَعِي، وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي

ص: 16

زُرْعَةَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ بِحَذْفِ الْقَسَمِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ لِمَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، فَظَهَرَ أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْقَسَمِ وَلَيْسَتْ بِجَوَابِ لَوْلَا، وَفَهِمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ لَوَدِدْتُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا قَعَدْتُ فَقَالَ: يَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ وَإِثْبَاتُهَا مِنْ جَوَابِ لَوْلَا، وَجَعَلَ الْوِدَادَةَ مُمْتَنِعَةً خَشْيَةَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ لَوْ وُجِدَتْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّفُ اسْتِشْكَالَ ذَلِكَ وَالْجَوَابَ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَتْ رِوَايَةُ الْبَابِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَأَنَّ اللَّامَ جَوَابُ الْقَسَمِ. ثُمَّ النُّكْتَةُ فِي إِيرَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ تِلْكَ إِرَادَةُ تَسْلِيَةِ الْخَارِجِينَ فِي الْجِهَادِ عَنْ مُرَافَقَتِهِ لَهُمْ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: الْوَجْهُ الَّذِي يَسِيرُونَ لَهُ فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا أَتَمَنَّى لِأَجْلِهِ أَنِّي أُقْتَلُ مَرَّاتٍ، فَمَهْمَا فَاتَكُمْ مِنْ مُرَافَقَتِي وَالْقُعُودِ مَعِي مِنَ الْفَضْلِ يَحْصُلُ لَكُمْ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ مِنْ فَضْلِ الْجِهَادِ، فَرَاعَى خَوَاطِرَ الْجَمِيعِ. وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْمَغَازِي وَتَخَلَّفَ عَنْهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ حَيْثُ رَجَحَتْ مَصْلَحَةُ خُرُوجِهِ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ.

قَوْلُهُ: (أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ صُدُورَ هَذَا التَّمَنِّي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فَإِنَّ نُزُولَهَا كَانَ فِي أَوَائِلِ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرَّحَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا قَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ تَمَنِّيَ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ، فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّمَنِّي نَظَائِرُ لِذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْجِهَادِ وَتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا أَشْبَهُ.

وَحَكَى شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوَدِدْتُ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ، وَبَيَانُ شِدَّةِ شَفَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَاسْتِحْبَابُ طَلَبِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَوَازُ قَوْلِ وَدِدْتُ حُصُولَ كَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ. وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ أَرْجَحَ أَوْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَفِيهِ جَوَازُ تَمَنِّي مَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّعْيُ فِي إِزَالَةِ الْمَكْرُوهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ مَا تَخَلَّفَ عَنْهُ أَحَدٌ قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ لِلْقَادِرِ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ فَمَعْذُورٌ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَأَدِلَّةُ كَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضَ كِفَايَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ هَذَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّفِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ) بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ يُكَنَّى أَبَا يَعْقُوبَ، لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ مِنْ شَيْخِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ فَصَاعِدًا بَصْرِيُّونَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْمَتْنِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا أَيْ لَمَّا رَأَوْا مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ فَلَا يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَشْهِدُوا مَرَّةً أُخْرَى، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَدَلِيلُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا الشَّهِيدُ الْحَدِيثَ.

‌8 - بَاب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ.

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَقَعَ: وَجَبَ

ص: 17

2799، 2800 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قَالَتْ: نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوتهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَمَنْ مَوْصُولَةٌ، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَعَطَفَ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ وَعَطَفَ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَكَانَ نَسَقُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ صُرِعَ فَمَاتَ، أَوْ مَنْ يُصْرَعْ فَيَمُوتُ، وَقَدْ سَقَطَ لَفْظُ فَمَاتَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} الْآيَةَ أَيْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِقَصْدِ الْجِهَادِ إِذَا خَلَصَتِ النِّيَّةُ، فَحَالَ بَيْنَ الْقَاصِدِ وَبَيْنَ الْفِعْلِ مَانِعٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِقَتْلٍ أَوْ وُقُوعٍ مِنْ دَابَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتُنَاسِبُ الْآيَةُ التَّرْجَمَةَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ مُسْلِمًا مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قَالَ لِأَهْلِهِ وَهُوَ مَرِيضٌ: أَخْرِجُونِي إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ فَأَخْرَجُوهُ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَنَزَلَتْ، وَاسْمُهُ ضَمْرَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَعَ: وَجَبَ) لَيْسَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَثَبَتَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ قَالَ: قَوْلُهُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَيْ وَجَبَ ثَوَابُهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أُمِّ حَرَامٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ: وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ، مَعَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُمْ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقُرِّبَتْ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَرَكِبَتْهَا فَصَرَعَتْهَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ صُرِعَ عَنْ دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ فَكَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ. قُلْتُ: هُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ حُكْمَ الرَّاجِعِ مِنَ الْغَزْوِ حُكْمُ الذَّاهِبِ إِلَيْهِ فِي الثَّوَابِ. وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيَّانِ هُوَ وَشَيْخُهُ وَصَحَابِيَّانِ أَنَسٌ وَخَالَتُهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَوَّلُ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.

‌9 - بَاب مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2801 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ

ص: 18

صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ قَالَ هَمَّامٌ: وأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عليه السلام النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

2802 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَسْوَدِ هو ابْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ قَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ.

[الحديث 2802 - طرفه في: 6146]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ يُنْكَبُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَالنَّكْبَةُ أَنْ يُصِيبَ الْعُضْوَ شَيْءٌ فَيُدْمِيَهُ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ فَضْلِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَينِ:

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ خَالِهِ وَهُوَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ عَنْ إِسْحَاقَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ بَنِي سُلَيْمٍ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، وَالْمَبْعُوثُ هُمُ الْقُرَّاءُ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ بَنُو عَامِرٍ، وَأَمَّا بَنُو سُلَيْمٍ فَغَدَرُوا بِالْقُرَّاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْوَهْمُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ هُوَ فِي الْمَغَازِي عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَمَّامٍ فَقَالَ بَعَثَ أَخًا لِأُمِّ سُلَيْمٍ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا، وَكَانَ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ الْحَدِيثَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، فَلَعَلَّ الْأَصْلَ بَعَثَ أَقْوَامًا مَعَهُمْ أَخُو أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فَصَارَتْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَأْوِيلِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ أَقْوَامًا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بَعَثَ إِلَى أَقْوَامٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مُنْضَمِّينَ إِلَى بَنِي عَامِرٍ وَحَذَفَ مَفْعُولَ بَعَثَ اكْتِفَاءً بِصِفَةِ الْمَفْعُولِ عَنْهُ، أَوْ فِي زَائِدَةٌ وَيَكُونُ سَبْعِينَ مَفْعُولُ بَعَثَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لَيْسَتْ بَيَانِيَّةٌ بَلِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ بَعَثَ أَقْوَامًا وَلَمْ يَصِفهُمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ بَنِي سُلَيْمٍ انْتَهَى. وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ عَلَى رِعْلٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا لَامٌ هُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَذَا بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ مَعَهُمْ ; وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ أَنَّهُ دَعَا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حَيْثُ قَتَلُوا الْقُرَّاءَ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ جُنْدُبٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَوَقَعَ فِيهِ بِلَفْظِ نُكِبَتْ إِصْبَعُهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ فِيهَا إِلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ

ص: 19

أَوْ بَعِيرُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَى أَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ شَهِيدٌ.

‌10 - بَاب مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل

2803 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فَضْلُهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يُكْلَمُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ يُجْرَحُ.

قَوْلُهُ: (أَحَدٌ) قَيَّدَهُ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْمُسْلِمِ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلهِ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ قَصَدَ بِهَا التَّنْبِيهَ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْإِخْلَاصِ فِي نَيْلِ هَذَا الثَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ تُفَجَّرُ دَمًا.

قَوْلُهُ: (وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَالْعَرْفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ وَهُوَ الرَّائِحَةُ، وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ، لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا الْمِسْكُ وَعُرِفَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالشَّهِيدِ بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ مَنْ جُرِحَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْجُرْحِ هُوَ مَا يَمُوتُ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ لَا مَا يَنْدَمِلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ أَثَرَ الْجِرَاحَةِ وَسَيَلَانَ الدَّمِ يَزُولُ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا وَجُرْحُهُ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ طَابِعُ الشُّهَدَاءِ وَقَوْلُهُ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ كَهَيْئَتِهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُنْقَصُ شَيْئًا بِطُولِ الْعَهْدِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي بَعْثِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدٌ بِفَضِيلَتِهِ بِبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُدْفَنُ بِدِمَائِهِ وَثِيَابِهِ وَلَا يُزَالُ عَنْهُ الدَّمُ بِغُسْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِيَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ غَسْلِ الدَّمِ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُبْعَثَ كَذَلِكَ، وَيُغْنِي عَنْ الِاسْتِدْلَالِ لِتَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌11 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَالْحَرْبُ سِجَالٌ

2804 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ تَفْسِيرُ

ص: 20

{إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} بِأَنَّهُ الْفَتْحُ أَوِ الشَّهَادَةُ، وَبِهِ تَتَبَيَّنَ مُنَاسَبَةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ هَذَا (وَالْحَرْبُ سِجَالٌ) وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ أَيْ تَارَةً وَتَارَةً، فَفِي غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَتْحُ وَفِي غَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ الشَّهَادَةُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ سِجَالٌ أَوْ دُوَلٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَا سَاقَ حَدِيثَ هِرَقْلَ إِلَّا لِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ قَالَ: فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ لَهُمْ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِنِ انْتَصَرُوا فَلَهُمُ الْعَاجِلَةُ وَالْعَاقِبَةُ وَإِنِ انْتَصَرَ عَدُوُّهُمْ فَلِلرُّسُلِ الْعَاقِبَةُ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَلَا يُعَارِضُهُ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مِنْ نَقْلِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْآخَرُ فَمِنْ قَوْلِ هِرَقْلَ مُسْتَنِدًا فِيهِ إِلَى مَا تَلَقَّفَهُ مِنَ الْكُتُبِ.

(نُكْتَةٌ):

أَفَادَ الْقَزَّازُ أَنَّ دَالَ دُوَلٍ مُثَلَّثَةٌ.

‌12 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}

2805 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا ح

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

[الحديث 2805 - طرفاه في: 4048، 4783]

2806 -

وَقَالَ: إِنَّ أُخْتَهُ - وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ - كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَرَضُوا بِالْأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.

2807 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 21

نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}

[الحديث 2807 - أطرافه في: 4049، 4679، 4784، 4986، 4988، 4989، 7191، 7425]

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الْآيَةَ الْمُرَادُ بِالْمُعَاهَدَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خَرَجُوا إِلَى أُحُدٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ مَا وَقَعَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذْ بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أَيْ مَاتَ، وَأَصْلُ النَّحْبِ النَّذْرُ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ حَيٍّ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ نَذْرٌ لَازِمٌ لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ قَضَاهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ مَاتَ عَلَى عَهْدِهِ لِمُقَابَلَتِهِ بِمَنْ يَنْتَظِرُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ) هُوَ بَصْرِيٌّ يُلَقَّبُ بَمَرْدَوَيْهِ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَنَسًا) كَذَا أَوْرَدَهُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى فَأَشْعَرَ بِأَنَّ السِّيَاقَ لَهَا، وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ عَبْدِ الْأَعْلَى تَصْرِيحَ حُمَيْدٍ لَهُ بِالسَّمَاعِ مِنْ أَنَسٍ فَأُمِنَ تَدْلِيسُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زِيَادٌ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَزَعَمَ الْكَلَابَاذِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَهُوَ صَاحِبُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَرَاوِي الْمَغَازِي عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ) زَادَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ) زَادَ ثَابِتٌ فَكَبُرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَوَّلُ قِتَالٍ) أَيْ لِأَنَّ بَدْرًا أَوَّلُ غَزْوَةٍ خَرَجَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ مُقَاتِلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَهَا غَيْرُهَا، لَكِنْ مَا خَرَجَ فِيهَا صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ مُقَاتِلًا.

قَوْلُهُ: (لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي) أَيْ أَحْضَرَنِي.

قَوْلُهُ: (لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ لِلتَّأْكِيدِ، وَاللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَيَرَانِي اللَّهُ بِتَخْفِيفِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ مَا أَصْنَعُ أَعْرَبَهُ النَّوَوِيُّ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أُجِدُّ وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَوْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِدِّ ضِدِّ الْهَزْلِ، وَزَادَ ثَابِتٌ وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا أَيْ خَشِيَ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فَيَعْجِزُ عَنْهُ فَأَبْهَمَ، وَعُرِفَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي الْقِتَالِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ.

قَوْلُهُ: (وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَانْهَزَمَ النَّاسُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.

قَوْلُهُ: (أَعْتَذِرُ) أَيْ مِنْ فِرَارِ الْمُسْلِمِينَ (وَأَبْرَأُ) أَيْ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَقَدَّمَ) أَيْ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ (فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) زَادَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ مُنْهَزِمًا كَذَا فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مَكَانَهَا مَهْيَمْ وَهُوَ تَصْحِيفٌ فِيمَا أَظُنُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ وَالِدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ ابْنَهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُسَمَّى النَّضْرَ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَوَاللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ بَعْضَهَا وَالْبَقِيَّةُ بِالْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: الْجَنَّةَ

ص: 22

بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِ نَصْبٍ أَيْ أُرِيدُ الْجَنَّةَ أَوْ نَحْوُهُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ هِيَ مَطْلُوبِي.

قَوْلُهُ: (إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا) أَيْ رِيحَ الْجَنَّةِ (مِنْ دُونِ أُحُدٍ)، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ وَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً أَوْ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً ذَكَّرَهُ طِيبُهَا بِطِيبِ رِيحِ الْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلشَّهِيدِ فَتَصَوَّرَ أَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَاتِلُ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ تُكْتَسَبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَأشْتَاقُ لَهَا. وَقَوْلُهُ (وَاهًا) قَالَهُ إِمَّا تَعَجُّبًا وَإِمَّا تَشَوُّقًا إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهُ لَمَّا ارْتَاحَ لَهَا وَاشْتَاقَ إِلَيْهَا صَارَتْ لَهُ قُوَّةُ مَنِ اسْتَنْشَقَهَا حَقِيقَةً.

قَوْلُهُ: (قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ أَنَسٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ يُرِيدُ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَصِفَ مَا صَنَعَ أَنَسٌ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَغْنَى وَأَبْلَى فِي الْمُشْرِكِينَ.

قُلْتُ: وَقَعَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ فَقُلْتُ أَنَا مَعَكَ فَلَمْ أسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَفَى اسْتِطَاعَةَ إِقْدَامِهِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تِلْكَ الْأَهْوَالِ بِحَيْثُ وَجَدَ فِي جَسَدِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَاعْتَرَفَ سَعْدُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقْدِمَ إِقْدَامَهُ وَلَا يَصْنَعَ صَنِيعَهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا تَأَوَّلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.

قَوْلُهُ: (فَوَجَدْنَا بِهِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَاهُ بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ.

قَوْلُهُ: (بِضْعًا وَثَمَانِينَ) لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَيَانَ هَذَا الْبِضْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ، وَقَوْلُهُ:(ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ) أَوْ هُنَا لِلتَّقْسِيمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَفْصِيلُ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَقَدْ تُشَدَّدُ وَهُوَ مِنَ الْمُثْلَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَنْفٍ وَأُذُنٍ وَنَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: (فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ أُخْتُهُ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ حَسَنَ الْبَنَانِ وَالْبَنَانُ الْإِصْبَعُ، وَقِيلَ طَرَفُ الْإِصْبَعِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْمَذْكُورَةِ بِالشَّكِّ بِبَنَانِهِ أَوْ بِشَامَةٍ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْأُولَى أَكْثَرُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ فَكُنَّا نَقُولُ وَكَذَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ ; وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يَزِيدَ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، وَكَأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيهِ مِنْ حُمَيْدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْجَزْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْقَائِلَ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أُخْتُهُ لِلنَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ وَاحِدًا مِنَ الرُّوَاةِ دُونَ أَنَسٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَلَا اسْتَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا، وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعُ، بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أُخْتُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ قِصَّتِهَا فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ. وَفِي قِصَّةِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ، وَفَضْلُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَلَوْ شَقَّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى إِهْلَاكِهَا، وَأَنَّ طَلَبَ الشَّهَادَةِ فِي الْجِهَادِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ التَّوَقِّي وَالتَّوَرُّعِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مِنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ وَأَفْصَحِهِ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ: أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ، وَفِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ: أَبْرَأُ إِلَيْكَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَعَ تَغَايُرِهِمَا

(1)

فِي الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "مع تقاربهما".

ص: 23

الْمَغَازِي بَيَانُ مَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَا مِنَ انْهِزَامِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَرُجُوعِهِمْ وَعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ، رضي الله عنهم وَقَوْلُهُ أَجْمَعِينَ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ ابْنِ ثَابِتٍ، وَلِلزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ السَّبَّاقِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ خَارِجَةُ، وَعُبَيْدٌ فِي تَعْيِينِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ زَيْدٌ أَنَّهُ وَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ فَقَالَ خَارِجَةُ: إِنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} وَقَالَ عُبَيْدٌ: إِنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا بِالْإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَكَأَنَّهُمَا جَمِيعًا صَحَّا عِنْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ جَمِيعًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ زِيَادَاتٌ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ خَارِجَةَ، وَانْفَرَدَ خَارِجَةُ بِوَصْفِ خُزَيْمَةَ بِأَنَّهُ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَسَأَذْكُرُ مَا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ بَحْثٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالسِّيَاقُ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا لِابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَأَمَّا سِيَاقُ شُعَيْبٍ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ وَقَالَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ، وَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌13 - بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ

وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}

2808 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ عَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَعَلَّهُ كَانَ قَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَقَالَ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّنِي وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي الْمُجَالَسَةِ لِلدِّينَوْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْغَزْوِ، فَإِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ.

ثُمَّ ظَهَرَ لِي سَبَبُ تَفْصِيلِ الْبُخَارِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ حَلْبَسٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:(إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ) وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَهُ فَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَا وَرَدَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ فَعَزَاهُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ بِهِ عَنْهُ، وَاسْتَعْمَلَ بَقِيَّةَ مَا وَرَدَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ فِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُغْفِلْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ الَّذِي قُتِلَ حِينَ أَسْلَمَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ وَالْآيَةِ لِلْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ وَفِي مُنَاسَبَةِ التَّرْجَمَةِ لِلْآيَةِ خَفَاءٌ وَكَأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُ

ص: 24

الْخَيْرَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَثْنَى عَلَى مَنْ وَفَّى وَثَبَتَ عِنْدَ الْقِتَالِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَدَّمَ عَلَى الْقِتَالِ قَوْلًا غَيْرَ مَرَضِيٍّ فَكَشَفَ الْغَيْبَ أَنَّهُ أَخْلَفَ، فَمَفْهُومُهُ ثُبُوتُ الْفَضْلِ فِي تَقْدِيمِ الصِّدْقِ وَالْعَزْمِ الصَّحِيحِ عَلَى الْوَفَاءِ وَذَلِكَ مِنْ أَصْلَحِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى. وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ فِيمَا أَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ فِي آخِرهَا {صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} لِأَنَّ الصَّفَّ فِي الْقِتَالِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، انْتَهَى. وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: مَرْصُوصٌ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ فَوْقَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَمْكَنَ تَفْسِيرُهُ بِعَمْرِو بْنِ ثَابِتِ بْنِ وَقَشٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِأَصْرَمَ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَإِنَّ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ غَيْرُ بَنِي النَّبِيتِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَخْبِرُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً؟ ثُمَّ يَقُولُ: هُوَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: كَيْفَ كَانَتْ قِصَّتُهُ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَدَا لَهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ فَدَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ فَقَاتَلَ حَتَّى وَقَعَ جَرِيحًا، فَوَجَدَهُ قَوْمُهُ فِي الْمَعْرَكَةِ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ؟ أَشَفَقَةً عَلَى قَوْمِكَ، أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ عَمْرُو يَأْبَى الْإِسْلَامَ لِأَجْلِ رِبًا كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: أَيْنَ قَوْمِي؟ قَالُوا بِأُحُدٍ،

فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَلَحِقَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا، قَالَ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: خَرَجْتَ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ مَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى صَلَاةً. فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَيْكَ عَنَّا، نَاسٌ غَيْرُ قَوْمِهِ، وَأَمَّا قَوْمُهُ فَمَا شَعُرُوا بِمَجِيئِهِ حَتَّى وَجَدُوهُ فِي الْمَعْرَكَةِ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ جَاءَ أَوَّلًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَشَارَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ، فَرَآهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ إِلَيْكَ عَنَّا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ قَوْلُهُ لَهُمْ قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّ قَوْمَهُ وَجَدُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا لَهُ مَا قَالُوا.

وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ أَيْضًا مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَنِّي حَمَلْتُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ أَكَانَ خَيْرًا لِي وَلَمْ أُصَلِّ صَلَاةً؟ قَالَ نَعَمْ وَنَحْوُهُ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ قَالَ أَخَيْرٌ لِي أَنْ أُسْلِمَ؟ قَالَ: نَعَمْ: فَأَسْلَمَ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى لِلَّهِ صَلَاةً وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَنُسِبَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِلَى بَنِي النَّبِيتِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي بَنِي النَّبِيتِ نِسْبَةٌ مَا، فَإِنَّهُمْ إِخْوَةُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَجْمَعُهُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى الْأَوْسِ.

قَوْلُهُ: (مُقَنَّعٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالنُّونُ مُشَدَّدَةٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِآلَةِ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ: (وَأُجِرَ كَثِيرًا) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ أَيْ أُجِرَ أَجْرًا كَثِيرًا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانًا.

‌14 - بَاب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ

2809 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا

ص: 25

أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى.

[الحديث 2809 - أطرافه في: 3982، 6550، 6567]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) بِتَنْوِينِ سَهْمٍ وَبِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ وَتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ الذُّهْلِيُّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نَسَبَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَى جَدِّهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرَّمِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ السَّكَنِ نَسَبَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَمَا قَالَهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمَرْوَزِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ) كَذَا لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَوَّلُ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آخِرِهِمْ الدِّمْيَاطِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ أُمُّ الرُّبَيِّعِ بِنْتُ الْبَرَاءِ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَتْلِ أَخِيهَا أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَذَكَرَهَا فِي آخِرِ حَدِيثِهِ قَرِيبًا وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، ومُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُمَا فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ رَمَاهُ حِبَّانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثَقِيلَةٌ ابْنُ الْعَرِقَةِ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ - وَهُوَ عَلَى حَوْضٍ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَمَاتَ.

قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ الْبَرَاءِ بِحَذْفِ أُمِّ فَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي نَسَبِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضْرِ أَحَدٌ اسْمُهُ الْبَرَاءُ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ الرُّبَيِّعُ عَمَّةُ الْبَرَاءِ فَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَكُلٌّ مِنْهُمَا ابْنُ أَخِيهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ابْنُهَا حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ الْحَدِيثَ.

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ انْطَلَقَ حَارِثَةُ ابْنُ عَمَّتِي فَجَاءَتْ عَمَّتِي أُمُّهُ وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ كَذَلِكَ وَقَالَ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ الَّذِي وَقَعَ فِي كُتُبِ النَّسَبِ وَالْمَغَازِي وَأَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ هِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ عَمَّةُ أَنَسٍ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا وَهْمَ لِلْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ إِلَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ)، قَالَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ حَاشِيَةٌ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَأُلْحِقَتْ بِالْمَتْنِ انْتَهَى.

وَقَدْ رَاجَعْتُ أَصْلَ النَّسَفِيِّ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فَوَجَدْتُهَا مُوَافِقَةً لِرِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ فَالنُّسْخَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْكِرْمَانِيِّ نَاقِصَةٌ وَادِّعَاءُ الزِّيَادَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ أُمٍّ وَبِنْتٍ وَهْمٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ قَرِيبًا، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا فِي ضَبْطِ رُوَاتِهِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ الَّتِي ضَبَطَ فِيهَا اسْمَ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضْرِ وَهْمٌ فِي اسْمِ ابْنِهَا فَسَمَّاهُ الْحَارِثَ بَدَلَ حَارِثَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبَانٌ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: إنَّ أُمَّ حَارِثَةَ لَمْ تَرِدْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ،

ص: 26

وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ.

ثُمَّ شَرَعَ الْكِرْمَانِيُّ فِي إِبْدَاءِ احْتِمَالَاتٍ بَعِيدَةٍ مُتَكَلَّفَةٍ لِتَوْجِيهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلرُّبَيِّعِ ابْنٌ يُسَمَّى الرَّبِيعَ يَعْنِي بِالتَّخْفِيفِ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ غَيْرِ سُرَاقَةَ يُسَمَّى الْبَرَاءَ وَأَنْ يَكُونَ بِنْتُ الْبَرَاءِ خَبَرًا لِأَنَّ، وَضَمِيرُ هِيَ رَاجِعٌ إِلَى الرُّبَيِّعِ وَأَنْ يَكُونَ بِنْتُ صِفَةٌ لِوَالِدَةِ الرُّبَيِّعِ فَأَطْلَقَ الْأُمَّ عَلَى الْجَدَّةِ تَجَوُّزًا وَأَنْ تَكُونَ إِضَاقَةُ الْأُمِّ إِلَى الرُّبَيِّعِ لِلْبَيَانِ أَيِ الْأُمُّ الَّتِي هِيَ الرُّبَيِّعُ وَبِنْتٌ مُصَحَّفٌ مِنْ عَمَّةٍ، قَالَ: وَارْتِكَابُ بَعْضِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَةِ الْعُدُولِ الْأَثْبَاتِ. قُلْتُ: إِنَّمَا اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ شَيْبَانَ عَلَى رِوَايَةِ سَعِيدٍ لِتَصْرِيحِ شَيْبَانَ فِي رِوَايَتِهِ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ، لِقَتَادَةَ، وَلِلْبُخَارِيِّ حِرْصٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُدَلِّسٍ أَوْ مُعَاصِرٍ، وَقَدْ قَالَ هُوَ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا وَحَارِثَةُ ابْنُ الرُّبَيِّعِ وَهُوَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ أَنَّهُ حَارِثَةُ بْنُ أُمِّ الرُّبَيِّعِ بَلْ جَزَمَ بِالصَّوَابِ، وَالرُّبَيِّعُ أُمُّهُ وَسُرَاقَةُ أَبُوهُ.

قَوْلُهُ: (أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ) أَيْ لَا يُعْرَفُ رَامِيهِ، أَوْ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ أَتَى، أَوْ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ رَامِيهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَالثَّابِتُ فِي الرِّوَايَةِ بِالتَّنْوِينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَقَالَ: كَذَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ وَالْأَجْوَدُ فَتْحُ الرَّاءِ وَالْإِضَافَةُ، وَحَكَى الْهَرَوِيُّ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: إِنْ جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْرَفُ فَهُوَ بِالتَّنْوِينِ وَالْإِسْكَانِ، وَإِنْ عُرِفَ رَامِيهِ لَكِنْ أَصَابَ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَ: وَذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ لَا غَيْرَ، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ، وَابْنُ فَارِسٍ، وَالْقَزَّازُ وَصَاحِبُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمُ الْوَجْهَيْنِ مُطْلَقًا، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرَبٌ وَغَرْبٌ إِذَا لَمْ يُدْرَ مَنْ رَمَاهُ، وَقِيلَ إِذَا أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَقِيلَ إِذَا قَصَدَ غَيْرَهُ فَأَصَابَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ. قُلْتُ: فَحَصَلْنَا مِنْ هَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. وَقِصَّةُ حَارِثَةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الثَّانِي فَإِنَّ الَّذِي رَمَاهُ قَصَدَ غِرَّتَهُ فَرَمَاهُ وَحَارِثَةُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ حَارِثَةَ خَرَجَ نَظَّارًا، زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: مَا خَرَجَ لِقِتَالٍ.

قَوْلُهُ: (اجْتَهَدَتْ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا أَيْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَازُ. قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ النَّوْحِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ اجْتَهَدَتْ فِي الدُّعَاءِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي الْبُكَاءِ وَهُوَ خَطَأٌ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ دُونَ بَعْضٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْآتِيَةِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنَ الرِّقَاقِ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ الْبُكَاءِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ هَذِهِ وَإِلَّا فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُهُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ أَحْمَدَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبَانٍ عِنْدَ أَحْمَدَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ فِي جَنَّةٍ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ

(1)

الْمَذْكُورَةِ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ فَقَطْ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهَا جِنَانٌ يُفَسِّرهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ، وَالْقَصْدُ بِذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْفِرْدَوْسِ قَرِيبًا.

‌15 - بَاب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا

2810 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ:

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة صحيحة "حماد".

ص: 27

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) أَيْ فَضْلُهُ، أَوِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ مُرَّةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى) فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، حَدَّثَنَا أَبو مُوسَى.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ الْمَذْكُورَةِ قَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَهُ، فَإِنَّ أَبَا مُوسَى وَإِنْ جَازَ أَنْ يُبْهِمَ نَفْسَهُ لَكِنْ لَا يَصِفَهَا بِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا، وَهَذَا الْأَعْرَابِيُّ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِلَاحِقِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ عُفَيْرِ بْنِ مَعْدَانَ سَمِعْتُ لَاحِقَ بْنَ ضُمَيْرَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ: وَفَدْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ فَقَالَ: لَا شَيْءَ لَهُ الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَرُوِينَا فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ بَنِي سَلَمَةَ يُقَاتِلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً. . . الْحَدِيثَ فَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ أَيْضًا سَأَلَ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ الْأَعْرَابِيُّ، لِأَنَّ سُؤَالَ مُعَاذٍ خَاصٌّ وَسُؤَالُ الْأَعْرَابِيِّ عَامٌّ، وَمُعَاذٌ أَيْضًا لَا يُقَالُ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ.

قَوْلُهُ: (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ) أَيْ لِيُذْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ وَيَشْتَهِرَ بِالشَّجَاعَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ حَيْثُ قَالَ وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً.

قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيَرَى مَكَانَهُ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَمَرْجِعُ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَى السُّمْعَةِ وَمَرْجِعُ هَذَا إِلَى الرِّيَاءِ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً أَيْ لِمَنْ يُقَاتِلُ لِأَجْلِهِ مِنْ أَهْلٍ أَوْ عَشِيرَةٍ أَوْ صَاحِبٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ وَيُقَاتِلُ غَضَبًا أَيْ لِأَجْلِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ الْقِتَالُ لِلَّحْمِيَّةِ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، وَالْقِتَالُ غَضَبًا بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، فَالْحَاصِلُ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ أَنَّ الْقِتَالَ يَقَعُ بِسَبَبِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: طَلَبِ الْمَغْنَمِ، وَإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْحَمِيَّةِ، وَالْغَضَبِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَتَنَاوَلُهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْصُلِ الْجَوَابُ بِالْإِثْبَاتِ وَلَا بِالنَّفْيِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ اللَّهِ دَعْوَةُ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ سَبَبُ قِتَالِهِ طَلَبَ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ سَبَبًا مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ أَخَلَّ بِذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُخِلَّ إِذَا حَصَلَ ضِمْنًا لَا أَصْلًا وَمَقْصُودًا وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَصْلُ الْبَاعِثِ هُوَ الْأَوَّلُ لَا يَضُرُّهُ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ قَالَ لَا شَيْءَ لَهُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى مَنْ قَصَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُخَالِفُ الْمُرَجَّحَ أَوَّلًا، فَتَصِيرُ الْمَرَاتِبُ خَمْسًا: أَنْ يَقْصِدَ الشَّيْئَيْنِ مَعًا، أَوْ يَقْصِدَ أَحَدَهُمَا صِرْفًا أَوْ يَقْصِدَ أَحَدَهُمَا وَيَحْصُلُ الْآخَرُ ضِمْنًا، فَالْمَحْذُورُ أَنْ يَقْصِدَ غَيْرَ الْإِعْلَاءِ، فَقَدْ يَحْصُلُ الْإِعْلَاءُ ضِمْنًا، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَرْتَبَتَانِ، وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَدُونَهُ أَنْ يَقْصِدَهُمَا مَعًا فَهُوَ مَحْذُورٌ أَيْضًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ

ص: 28

حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْمَطْلُوبُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِعْلَاءَ صَرْفًا، وَقَدْ يَحْصُلُ غَيْرُ الْإِعْلَاءِ وَقَدْ لَا

يَحْصُلُ فَفِيهِ مَرْتَبَتَانِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَاعِثُ الْأَوَّلُ قَصْدُ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ مَا انْضَافَ إِلَيْهِ اهـ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ غَيْرِ الْإِعْلَاءِ ضِمْنًا لَا يَقْدَحُ فِي الْإِعْلَاءِ إِذَا كَانَ الْإِعْلَاءُ هُوَ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَقْدَامِنَا لِنَغْنَمَ، فَرَجَعْنَا وَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَكِلهُمْ إِلَيَّ. الْحَدِيثَ.

وَفِي إِجَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرَ غَايَةُ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ لَوْ أَجَابَهُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعَدَلَ إِلَى لَفْظٍ جَامِعٍ عَدَلَ بِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْقِتَالِ إِلَى حَالِ الْمُقَاتِلِ فَتَضَمَّنَ الْجَوَابَ وَزِيَادَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ رَاجِعًا إِلَى الْقِتَالِ الَّذِي فِي ضِمْنِ قَاتَلَ أَيْ فَقِتَالُهُ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاشْتَمَلَ طَلَبُ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ عَلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَطَلَبِ ثَوَابِهِ وَطَلَبِ دَحْضِ أَعْدَائِهِ وَكُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ.

وَالْحَاصِلُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْقِتَالَ مَنْشَؤُهُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا عَدَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَفْظِ جَوَابِ السَّائِلِ لِأَنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ قَدْ يَكُونَانِ لِلَّهِ فَعَدَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ إِلَى لَفْظٍ جَامِعٍ فَأَفَادَ دَفْعَ الْإِلْبَاسِ وَزِيَادَةَ الْإِفْهَامِ.

وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تُحْتَسَبُ بِالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْمُجَاهِدِ يَخْتَصُّ بِمَنْ ذُكِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَبَاحِثِهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ عَنِ الْعِلَّةِ وَتَقَدُّمُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ، وَفِيهِ ذَمُّ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَعَلَى الْقِتَالِ لِحَظِّ النَّفْسِ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ.

‌16 - بَاب مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}

2811 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا اغْبَرَّتا قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ بَيَانُ مَا لَهُ مِنَ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ فِي الْآيَةِ {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وَفِي الْآيَةِ {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} قَالَ: فَفَسَّرَ صلى الله عليه وسلم الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّ مَنْ عَمِلَ بِذَلِكَ، قَالَ: وَالْمُرَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعُ طَاعَاتِهِ اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِنْ لَفْظِ سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظٍ فِي عُمُومِهِ، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ أَثَابَهُمْ بِخُطُوَاتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوا قِتَالًا، وَكَذَلِكَ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ سَوَاءٌ بَاشَرَ قِتَالًا أَمْ لَا. اهـ. وَمِنْ تَمَامِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْوَطْءَ يَتَضَمَّنُ الْمَشْيَ الْمُؤَثِّرَ لِتَغْبِيرِ الْقَدَمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: نَسَبَهُ الْأَصِيلِيُّ ابْن مَنْصُورٍ. قُلْتُ:

ص: 29

وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدٍ الْخَطَّابِيِّ نَزِيلِ حَرَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ زَادَ فِي آخِرِ الْمَتْنِ قَوْلَهُ فَتَمَسَّهَا النَّارُ أَبَدًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَيَزِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ بِالزَّايِ، وَعَبَايَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَأَبُو عَبْسٍ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ جَبْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا اغْبَرَّتَا) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالتَّثْنِيَةِ وَهُوَ لُغَةٌ، وَلِلْبَاقِينَ مَا اغْبَرَّتْ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.

وَقَوْلُهُ: فَتَمَسَّهُ النَّارُ بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَسَّ يَنْتَفِي بِوُجُودِ الْغُبَارِ الْمَذْكُورِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ قَدْرِ التَّصَرُّفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ مَسِّ الْغُبَارِ لِلْقَدَمِ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا النَّارَ فَكَيْفَ بِمَنْ سَعَى وَبَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَنْفَدَ وُسْعَهُ؟ وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ مِنْهُ النَّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْتَعْجِلِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ: فَتَوَاثَبَ النَّاسُ عَنْ دَوَابِّهِمْ، فَمَا رُؤِيَ أَكْثَرَ مَاشِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

‌17 - بَاب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2812 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيا وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ بِهَذَا وَبِالَّذِي بَعْدَهُ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ كَرَاهِيَةِ غَسْلِ الْغُبَارِ وَمَسْحِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ آثَارِ الْجِهَادِ كَمَا كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَسْحَ بَعْدَ الْوُضُوءِ.

قُلْتُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّنْظِيفَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَالْغُبَارُ أَثَرُ الْجِهَادِ وَإِذَا انْقَضَى فَلَا مَعْنَى لِبَقَاءِ أَثَرِهِ.

وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَالْمَقْصُودُ بِهِ الصَّلَاةُ فَاسْتُحِبَّ بَقَاءُ أَثَرِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ فَافْتَرَقَ الْمَسْحَانِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ عَمَّارٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ.

‌18 - بَاب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ

2813 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ؟ قَالَ: هَاهُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 30

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي اغْتِسَالِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَوَضَعَ أَيِ السِّلَاحَ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَنَسَبَهُ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: ابْنُ سَلَامٍ وَقَوْلُهُ عَصَبَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ أَحَاطَ بِهِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الْعِصَابَةِ.

‌19 - بَاب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ

* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}

2814 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ.

2815 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ، فَقِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ.

[الحديث 2815 - طرفاه في: 4044، 4618]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ الْأَصِيلِيُّ وَكَرِيمَةُ الْآيَتَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَضْلُ قَوْلِ اللَّهِ أَيْ فَضْلُ مَنْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ، وَقَدْ حَذَفَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لَفْظَ فَضْلٍ مِنَ التَّرْجَمَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أحدهما حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ أَوْرَدَهَا مُخْتَصَرَةً، وَسَتَأْتِي بِتَمَامِهَا فِي الْمَغَازِي، وَأَشَارَ بِإِيرَادِ الْآيَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ هُنَاكَ فِي آخِرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ فِيهِمْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ زَادَ عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فِيهِ فَنُسِخَ بَعْدَمَا قَرَأْنَاهُ زَمَانًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ جَابِرٍ اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قيلُوا شُهَدَاءَ سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ وَالِدَ جَابِرٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ فِيهِ عُسْرٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي شَرِبُوهَا يَوْمَئِذٍ لَمْ تَضُرَّهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَثْنَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَئِذٍ مُبَاحَةً.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوْرَدَهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَرْجَمِ بِهَا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَلَّمَ وَالِدَ جَابِرٍ وَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ بَلِّغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ) أَيْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ فَقُتِلُوا شُهَدَاءَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ سُفْيَانُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَوَارِيرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ بِلَفْظِ: اصْطَبَحَ

ص: 31

قَوْمٌ الْخَمْرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُتِلُوا آخِرَ النَّهَارِ شُهَدَاءَ فَلَعَلَّ سُفْيَانَ كَانَ نَسِيَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سُفْيَانَ بِإِثْبَاتِهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌20 - بَاب ظِلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ

2816 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرٍو - أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو - فَقَالَ: لِمَ تَبْكِي أَوْ لَا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، قُلْتُ لِصَدَقَةَ: أَفِيهِ حَتَّى رُفِعَ؟ قَالَ رُبَّمَا قَالَهُ.

[الحديث 2818 - أطرافه في: 2833، 2966، 3024، 7237]

قَوْلُهُ: (بَابُ ظِلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِيهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِصَدَقَةَ) الْقَائِلُ هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَصَدَقَةُ هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ شَيْخُهُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ وَفِي آخِرِهِ حَتَّى رَفَعَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ سُفْيَانَ.

‌21 - بَاب تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا

2817 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ التَّمَنِّي وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ خَيْرَ مَنْزِلٍ، فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّهْ، فَيَقُولُ: مَا أَسْأَلُكَ وَأَتَمَنَّى؟ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلُ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا رَأَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. الْحَدِيثَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ فِي الشُّهَدَاءِ قَالَ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. قَوْلُ شُعْبَةَ فِي الْإِسْنَادِ (سَمِعْتُ قَتَادَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،

ص: 32

وَحُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (مَا أَحَدٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ.

قَوْلُهُ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

قَوْلُهُ: (لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَقُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّ أَبَا خَالِدٍ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ حُمَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ أَجَلُّ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ مَا تُبْذَلُ فِيهِ النَّفْسُ غَيْرَ الْجِهَادِ فَلِذَلِكَ عَظُمَ فِيهِ الثَّوَابُ.

‌22 - بَاب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ

وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى

2818 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَكَانَ كَاتِبَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ.

تَابَعَهُ الْأُوَيْسِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.

[الحديث 2819 - أطرافه في: 3424، 5242، 6639، 6720، 7469]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَنَّةِ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ) هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَقَدْ تُطْلَقُ الْبَارِقَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ السَّيْفِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، وَقَدْ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ الْجَنَّةُ تَحْتَ الْأَبَارِقَةِ كَذَا وَقَعَ فِيهِ وَالصَّوَابُ الْبَارِقَةُ وَهِيَ السُّيُوفُ اللَّامِعَةُ، وَكَذَا وَقَعَ عَلَى الصَّوَابِ فِي تَرْجَمَةِ عَمَّارٍ مِنْ طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ مَرْفُوعًا الْجَنَّةُ تَحْتَ الْأَبَارِقَةِ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، الْأَبَارِقَةُ: جَمْعُ إِبْرِيقٍ وَسُمِّيَ السَّيْفُ إِبْرِيقًا فَهُوَ إِفْعِيلٌ مِنَ الْبَرِيقِ، وَيُقَالُ أَبْرَقَ الرَّجُلُ بِسَيْفِهِ إِذَا لَمَعَ بِهِ وَالْبَارِقَةُ اللَّمَعَانُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنَّ السُّيُوفَ لَمَّا كَانَتْ لَهَا بَارِقَةٌ كَانَ لَهَا أَيْضًا ظِلٌّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ النَّفِيسِ الْجَامِعِ الْمُوجَزِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ مَعَ الوَجَازَةِ وَعُذُوبَةِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ أَفَادَ الْحَضَّ عَلَى الْجِهَادِ وَالْإِخْبَارَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ وَالْحَضَّ عَلَى مُقَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَاسْتِعْمَالَ السُّيُوفِ وَالِاجْتِمَاعَ حِينَ الزَّحْفِ حَتَّى تَصِيرَ السُّيُوفُ تُظِلُّ الْمُتَقَاتِلِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، الْمُرَادُ أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْصُلُ بِالْجِهَادِ.

وَالظِّلَالِ جَمْعُ ظِلٍّ وَإِذَا تَدَانَى الْخَصْمَانِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَحْتَ ظِلِّ سَيْفِ صَاحِبِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى رَفْعِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْمُغِيرَةُ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ بِتَمَامِهِ فِي الْجِزْيَةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا ثَبَتَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ هُنَا اخْتِصَارًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي قِصَّةِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَوْصُولًا فِي

ص: 33

الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الشُّرُوطِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَيِ ابْنُ مَعْمَرٍ هُوَ التَّيْمِيُّ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبِ الْخَوَارِجِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ كَاتِبُهُ) أَيْ أَنَّ سَالِمًا كَانَ كَاتِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى. قَالَ (كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) الضَّمِيرُ لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي التَّتَبُّعِ: أَخْرَجَا حَدِيثَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأْتُهُ الْحَدِيثَ. وَقَالَ: أَبُو النَّضْرِ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَهُوَ حُجَّةٌ فِي رِوَايَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ صَادِرَةٌ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى لَمْ يَكْتُبْ إِلَى سَالِمٍ إِنَّمَا كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ رِوَايَةُ سَالِمٍ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ صُوَرِ الْوِجَادَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ مَوْلَاهُ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَاتَبَهُ أُبَيٌّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مِنْ صُوَرِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ صَنَّفَ فِي رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ تَرْجَمَةً، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَذَكَرَ لَهُ رِوَايَةً عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا.

قَوْلُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَأَخْرَجَهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ تَأْخِيرِ الْقِتَالِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ بَعْدَ أَبْوَابٍ أَيْضًا مُطَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الْأُوَيْسِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) قُلْتُ: الْأُوَيْسِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَوْصُولًا خَارِجَ الصَّحِيحِ، وَرُوِينَاهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنِ الْأُوَيْسِيِّ فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْقَوْلِ بِأَنَّ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ، لَكِنْ عَلَى الْإِجْمَالِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ.

‌23 - بَاب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ

2819 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ - كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قل إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ.

[الحديث 2819 - أطرافه في: 3424، 5242، 6639، 6720، 7469]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ) أَيْ يَنْوِي عِنْدَ الْمُجَامَعَةِ حُصُولَ الْوَلَدِ لِيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ وَإِنْ لَمْ يَقعْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَعَجَّلْتُ فَشَرَحْتُهُ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ.

ص: 34

‌24 - بَاب الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ

2820 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ) أَيْ مَدْحُ الشَّجَاعَةِ وَذَمُّ الْجُبْنِ، وَالْجُبْنُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَينِ.

أَحَدُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشْجَعَ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا، وَمَضَى بَعْضُ شَرْحِهِ فِي آخِرِ الْهِبَةِ.

وَقَوْلُهُ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَيْ وَاسِعَ الْجَرْيِ.

2821 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَت النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.

[الحديث 2821 - طرفه في: 3148]

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فِي مَقْفَلِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ ثُمَّ لَا تَجِدُونَنِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ. وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَهَذَا مِثَالٌ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ شَرْطَ الْبُخَارِيِّ أَنْ لَا يَرْوِيَ الْحَدِيثَ الَّذِي يُخَرِّجُهُ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ غَيْرُ وَلَدِهِ عُمَرَ، ثُمَّ مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، هَذَا مَعَ تَفَرُّدِ الزُّهْرِيِّ بِالرِّوَايَةِ عَنْ عُمَرَ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَمِعَ الزُّهْرِيُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَادِيثَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْهُ فَحَمَلَهُ عَنْ وَلَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ مَقْفَلَهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَبِاللَّامِ يَعْنِي زَمَانَ رُجُوعِهِ، وَقَوْلُهُ فَعَلِقَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَطَفِقَتْ وَهُوَ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ أَيْ أَلْجَؤوهُ وَإِلَى شَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ ذَاتِ شَوْكٍ، وَقَوْلُهُ فَخَطِفَتْ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَقَوْلُهُ الْعِضَاهِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ وَفِي آخِرِهِ هَاءٌ هُوَ شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ، يُقْرَأُ فِي الْوَصْلِ وَفِي الْوَقْفِ بِالْهَاءِ، وَقَوْلُهُ نَعَمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْعَيْنِ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ. وَعَدَدُ بِالنَّصْبِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَلِغَيْرِهِ، نِعَمًا بِالنَّصْبِ إِمَّا عَلَى التَّمْيِيزِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَعَدَدٌ هُوَ الِاسْمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ

2822 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيَّ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ

ص: 35

صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ.

[الحديث 2822 - أطرافه في: 6365، 6370، 6374، 6390]

2823 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.

[الحديث 2821 - طرفه في: 3148]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِضَمِّ أَوَّلِ يُتَعَوَّذُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أحدهما حَدِيثَ سَعْدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي التَّعَوُّذِ مِنَ الْجُبْنِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمُصْعَبٌ هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَغْرَبَ الْمِزِّيُّ فَقَالَ فِي الْأَطْرَافِ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ هَذِهِ عَنْ سَعْدٍ: لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ، مُصْعَبًا وَذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ أَوْلَادَ سَعْدٍ فَذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَفْسًا وَمِنَ الْإِنَاثِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَرَوَى عَنْهُ الْحَدِيثَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ: عَامِرٌ، وَمُحَمَّدٌ، وَمُصْعَبٌ، وَعَائِشَةُ، وَعُمَرُ.

ثانيهما حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي التَّعَوُّذِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَغَيْرِهِمَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي الدَّعَوَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ أَنَّ الْكَسَلَ تَرْكُ الشَّيْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَخْذِ فِي عَمَلِهِ، وَالْعَجْزُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ.

‌26 - بَاب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ

2824 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدًا، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنهم، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ.

[الحديث 2824 - طرفه في: 4062]

قَوْلُهُ: (بَابٌ مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ) أَيِ النَّهْدِيُّ (عَنْ سَعْدٍ): أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْمَغَازِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِلَى مَا سَيَأْتِي أَيْضًا مَوْصُولًا فِي فَضْلِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٌ، عَنْ حَدِيثِهِمَا أَيْ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَاتِمٌ) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْكِنْدِيُّ وَهُوَ سِبْطٌ لِلسَّائِبِ الْمَذْكُورِ، وَالسَّائِبُ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ ابْنُ صَحَابِيَّيْنِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا قُتَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (وَسَعْدًا) أَيِ ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ.

قَوْلُهُ: (فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ

ص: 36

الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ السَّائِبِ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَخْرَجَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي الْعِلْمِ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ فِيهِ: صَحِبْتُ سَعْدًا كَذَا وَكَذَا سَنَةً.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ) لَمْ يُعَيِّنْ مَا حَدَّثَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ خَصِيفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ طَلْحَةَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ كَثِيرُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَشْيَةَ الْمَزِيدِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا تَحْدِيثُ طَلْحَةَ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا أُمِنَ الرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ، وَيَتَرَقَّى إِلَى الِاسْتِحْبَابِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقْتَدِي بِفِعْلِهِ.

‌27 - بَاب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنْ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ.

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ.

وَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} إِلَى قَوْلِهِ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ انْفِرُوا ثُبَاتٍ: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ، ويُقَالُ: واحدُ الثُّبَاتِ: ثُبَةٌ.

2825 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ الْخُرُوجُ إِلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَأَصْلُ النَّفِيرِ مُفَارَقَةُ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ حَرَّكَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ) أَيْ وَبَيَانُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْجِهَادِ وَمَشْرُوعِيَّةُ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلِلنَّاسِ فِي الْجِهَادِ حَالَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْأُخْرَى بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْأُولَى فَأَوَّلُ مَا شُرِّعَ الْجِهَادُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ شُرِّعَ هَلْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ؟ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ عَيْنًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِنَصْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ عَيْنًا عَلَى الْأَنْصَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مُبَايَعَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى أَنْ يُؤْوُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْصُرُوهُ، فَيُخْرَجُ مِنْ قَوْلِهمَا أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ كِفَايَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي حَقِّ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى التَّعْمِيمِ، بَلْ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ إِذَا طَرَقَ الْمَدِينَةَ طَارِقٌ، وَفِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ إِذَا أُرِيدَ قِتَالُ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ كَانَ عَيْنًا فِي الْغَزْوَةِ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَانَ عَيْنًا عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّهِ وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ.

الْحَالُ الثَّانِي: بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلَّا أَنْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ

ص: 37

كَأَنْ يَدْهَمَ الْعَدُوُّ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ، وَيَتَأَدَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِهِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَلَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ اتِّفَاقًا فَلْيَكُنْ بَدَلُهَا كَذَلِكَ، وَقِيلَ يَجِبُ كُلَّمَا أَمْكَنَ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ تَكَامَلَتْ فُتُوحُ مُعْظَمِ الْبِلَادِ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ صَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَيْضًا أَنَّ جِنْسَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِمَّا بِيَدِهِ وَإِمَّا بِلِسَانِهِ وَإِمَّا بِمَالِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} الْآيَةَ) هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالنَّفِيرِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدَّمَ آيَةَ الْأَمْرِ عَلَى آيَةِ الْعِتَابِ لِعُمُومِهَا، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ بَرَاءَةٌ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعُمُومَ فَلَمْ يَكُونُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْغَزْوِ حَتَّى مَاتَ مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرُهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ خِفَافًا وَثِقَالًا: مُتَأَهِّبِينَ أَوْ غَيْرَ مُتَأَهِّبِينَ نِشَاطًا أَوْ غَيْرَ نِشَاطٍ، وَقِيلَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} الْآيَةَ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} خَاصًّا وَالْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَنْفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَامْتَنَعَ، وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ثُمَّ تَعَقَّبَ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَطَرِيقُ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَسَنٍ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْفِرُوا ثُبَاتٍ سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِهَذَا، أَيِ اخْرُجُوا سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا أَيْ مُجْتَمِعِينَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَا نَسْخَ، بَلِ الرُّجُوعُ فِي الْآيَتَيْنِ إِلَى تَعْيِينِ الْإِمَامِ وَإِلَى الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْقَابِسِيِّ ثُبَاتًا بِالْأَلِفِ، وَهُوَ غَلَطٌ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ جَمْعٌ ثُبَةٍ كَمَا سَتَرَى.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: وَاحِدُ الثُّبَاتِ: ثُبَةٌ) أَيْ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَزَادَ: وَمَعْنَاهَا جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} قَالَ: وَقَدْ يُجْمَعُ ثُبَةٌ عَلَى ثِبِينَ وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا ثُبَةُ الْحَوْضِ وَهُوَ وَسَطُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَثُوبُ إِلَيْهِ أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِ لِأَنَّهَا مِنْ ثَابَ يَثُوبُ وَتَصْغِيرُهَا ثُوَيْبَةٌ، وَثُبَةٌ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْ ثَبَا يَثْبُو وَتَصْغِيرُهَا ثُبَيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) أَيْ فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتِهِمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوٌّ انْتَهَى. وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَى ذَوِيهِ

(1)

مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "من أذى من يؤذيه".

ص: 38

فِيهَا} الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَقَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا.

وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى دِينِهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إِلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ وَالنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا أَمَرَكُمُ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ وَلَكِنْ جِهَادٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلٍّ مَدْخُولٍ لَا هِجْرَةَ أَيِ الْهِجْرَةُ مِنَ الْوَطَنِ إِمَّا لِلْفِرَارِ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ إِلَى الْجِهَادِ أَوْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَطَلَبِ الْعِلْمِ، فَانْقَطَعَتِ الْأُولَى وَبَقِيَ الْأُخْرَيَانِ فَاغْتَنِمُوهُمَا وَلَا تَقَاعَدُوا عَنْهُمَا، بَلْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.

قُلْتُ: وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ مِنَ الْفِرَارِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى مَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالَّتِي انْقَطَعَتْ أَصْلًا هِيَ الْقَصْدُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ. وَفِي الْحَدِيثِ بِشَارَةٌ بِأَنَّ مَكَّةَ تَبْقَى دَارَ إِسْلَامٍ أَبَدًا. وَفِيهِ وُجُوبُ تَعْيِينِ الْخُرُوجِ فِي الْغَزْوِ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْتَبَرُ بِالنِّيَّاتِ.

(تَكْمِلَةٌ):

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ مَا مُحَصِّلُهُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَحْوَالِ السَّالِكِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا يُؤْمَرُ بِهِجْرَةِ مَأْلُوفِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْفَتْحُ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ أَمْرٌ بِالْجِهَادِ وَهُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي ذَلِكَ.

‌28 - بَاب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَلُ

2826 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ؛ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُسْتَشْهَدُ.

2827 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَا تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ.

ص: 39

قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ، الْعَاصِ.

[الحديث 2827 - أطرافه في: 4237، 4238، 4239]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ) أَيِ الْقَاتِلُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ، أَيْ يَعِيشُ عَلَى سَدَادٍ أَيِ اسْتِقَامَةٍ فِي الدِّينِ.

قَوْلُهُ: (وَيَقْتَتِلُ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَوْ يُقْتَلُ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَهِيَ أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي التَّرْجَمَةِ فَيُسَدَّدُ وَالَّذِي وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ فَيَسْتَشْهِدُ وَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ ذُكِرَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوهِ التَّسْدِيدِ، وَأَنَّ كُلَّ تَسْدِيدٍ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَفْضَلَ، لَكِنْ دُخُولُ الْجَنَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِالشَّهِيدِ، فَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ كَالشَّرْحِ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّارِ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ الْمُسْلِمُ وَقَارَبَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ، وَلِمَالِكٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ مِنْ رَجُلَيْنِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الضَّحِكُ الَّذِي يَعْتَرِي الْبَشَرَ عِنْدَمَا يَسْتَخِفُّهُمُ الْفَرَحُ أَوِ الطَّرَبُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِهَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي يَحِلُّ مَحَلَّ الْإِعْجَابِ عِنْدَ الْبَشَرِ فَإِذَا رَأَوْهُ أَضْحَكَهُمْ، وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ رِضَا اللَّهِ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا وَقَبُولِهِ لِلْآخَرِ وَمُجَازَاتِهِمَا عَلَى صَنِيعِهِمَا بِالْجَنَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ حَالَيْهِمَا، قَالَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ الْبُخَارِيُّ الضَّحِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى الرِّضَا أَقْرَبُ، فَإِنَّ الضَّحِكَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالْقَبُولِ، قَالَ: وَالْكِرَامُ يُوصَفُونَ عِنْدَمَا يَسْأَلُهُمُ السَّائِلُ بِالْبِشْرِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ يَضْحَكُ اللَّهُ أَيْ يُجْزِلُ الْعَطَاءَ.

قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يعجب اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ وَيُضْحِكَهُمْ مِنْ صَنِيعِهِمَا، وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْمَجَازِ وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ يَكْثُرُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَكْثَرُ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَأْوِيلِ مِثْلِ هَذَا وَيُمِرُّونَهُ كَمَا جَاءَ

(1)

وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي مِثْلِ هَذَا الْإِمْرَارِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتُ اللَّهِ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَعْنَى الْإِمْرَارِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّحِكِ الْإِقْبَالُ بِالرِّضَا تَعْدِيَتُهُ بِإِلَى تَقُولُ: ضَحِكَ فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ طَلِقَ الْوَجْهِ مُظْهِرًا لِلرِّضَا عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟.

قَوْلُهُ: (يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ) زَادَ هَمَّامٌ فَيَلِجُ الْجَنَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ كَانَ كَافِرًا. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَلَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلمٌ مُسْلِمًا عَمْدًا بِلَا شُبْهَةٍ ثُمَّ تَابَ الْقَاتِلُ وَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ دُخُولَ مِثْلِ هَذَا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ قَاتِلَ الْمُسْلِمِ عَمْدًا لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى أَبِي

(1)

وهذا هو الصواب الذي جرت عليه الملة وعمل به أئمتها من العصر النبوي إلى زمن الأئمة المتبوعين، والخروج عن هذه الطريقة إلى التأويل عدول عن طريقة الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان

ص: 40

هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ قِيلَ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَافِرًا فَيَقْتُلُ الْآخَرَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيَغْزُو فَيُقْتَلُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ) زَادَ هَمَّامٌ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي الْمَغَازِي عَنْ سُفْيَانَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ وَسَأَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ يَسْأَلُ الزُّهْرِيَّ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ (ابْنُ سَعِيدٍ) أَيْ ابْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَنْبَسَةَ لَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لَا تُسْهِمْ لَهُ) هُوَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ كَمَا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ.

قَوْلُهُ: (فقُلْتُ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ) بِقَافَيْنِ وَزْنُ جَعْفَرٍ يَعْنِي النُّعْمَانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَصْرَمَ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَزْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَهْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مِيمٌ ابْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ، وَقَوْقَلٌ لَقَبُ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ لَقَبُ أَصْرَمَ، وَقَدْ يُنْسَبُ النُّعْمَانُ إِلَى جَدِّهِ فَيُقَالُ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ جَاءَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ الْحَدِيثَ.

وَرَوَى الْبَغَوِيُّ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ قَوْقَلٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ أَنْ لَا تَغِيبَ الشَّمْسُ حَتَّى أَطَأَ بِعَرْجَتِي فِي الْجَنَّةِ. فَاسْتُشْهِدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَهُوَ مَرْجُوحٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّهُمَا جَمِيعًا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُ أَبَانٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّعْمَانَ اسْتُشْهِدَ بِيَدِ أَبَانٍ فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يُقْتَلْ أَبَانٌ عَلَى كُفْرِهِ فَيَدْخُلِ النَّارَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِهَانَةِ، بَلْ عَاشَ أَبَانٌ حَتَّى تَابَ وَأَسْلَمَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ خَيْبَرَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَالَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ،

قَوْلُهُ: (مِنْ قُدُومِ ضَأْنٍ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَعَ لِلْجَمِيعِ هُنَا بِالنُّونِ، إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْهَمْدَانِيِّ فَبِاللَّامِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ السِّدْرُ الْبَرِّيُّ، قُلْتُ وَسَيَأْتِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.

قَوْلُهُ: (فَلَا أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ) سَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَانُ اجْلِسْ، وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ حَضَرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْوَقْعَةِ وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مَدَدًا لَهُمْ أَنْ لَا يُشَارِكَ مَنْ حَضَرَهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يُشَارِكُهُمْ، وَأَجَابَ عَنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَرْسَلَ إِلَى نَجْدٍ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي التَّجْهِيزِ إِلَى خَيْبَرَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَعَ الْجَيْشِ فَعَاقَهُ عَائِقٌ ثُمَّ لَحِقَهُمْ فَإِنَّهُ الَّذِي يُقْسَمُ لَهُ كَمَا أَسْهَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُثْمَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، لَكِنْ كَانُوا مِمَّنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَعَهُ فَعَاقَهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَوَائِقُ شَرْعِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ سَمِعْتُ السَّعِيدِيَّ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرٌو إِلَخْ) هُوَ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَهُ.

‌29 - بَاب مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ

2828 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 41

كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لَا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلَّا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ) أَيْ لِئَلَّا يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (لَا يَصُومُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَا يَكَادُ يَصُومُ وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ قَلَّمَا يَصُومُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَقَدْ وَافَقَ آدَمُ، سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (إِلَّا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى) أَيْ فَكَانَ لَا يَصُومُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْأُضْحِيَةُ فَيَدْخُلُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمْ يَكُنْ يُلَازِمُ الْغَزْوَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّطَوُّعَ بِالصَّوْمِ لِأَجْلِ الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يُضْعِفَهُ عَنِ الْقِتَالِ، مَعَ أَنَّهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ رَجَعَ إِلَى الْغَزْوِ، فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَرَأَ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فَقَالَ: اسْتَنْفَرَنَا اللَّهُ شُيُوخًا وَشُبَّانًا جَهِّزُونِي، فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: نَحْنُ نَغْزُو عَنْكَ، فَأَبَى فَجَهَّزُوهُ، فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَمَاتَ، فَدَفَنُوهُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَثَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُجَاهِدَ بِالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ، يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى الصَّوْمِ، فَلَمَّا تَوَطَّأَ الْإِسْلَامَ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَارَ فِي سَعَةٍ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حَظَّهُ مِنَ الصَّوْمِ إِذْ فَاتَهُ الْغَزْوُ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِصِيَامِ الدَّهْرِ بَأْسًا.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَقَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يُفْطِرُ إِلَّا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. وَعَلَى الْحَاكِمِ فِيهِ مَأْخَذَانِ

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ فَلَا يُسْتَدْرَكُ،

ثَانِيهِمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مِقْدَارِ حَيَاتِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَلَطٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُقِمْ بَعْدَهُ سِوَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ فَتَغَيَّرَتْ.

‌30 - بَاب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ

2829 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

2830 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

[الحديث 2830 - طرفه في: 5732]

قَوْلُهُ: (بَابٌ الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ) اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الشَّهِيدِ شَهِيدًا، فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: لِأَنَّهُ حَيٌّ فَكَأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَاهِدَةٌ أَيْ حَاضِرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشْهَدُ لَهُ بِالْأَمَانِ مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِكَوْنِهِ

ص: 42

شَهِيدًا. وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ لَهُ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْمَلَكُوتَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَدَارِ الْآخِرَةِ.

وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْأَمَانِ مِنَ النَّارِ.

وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ عَلَامَةً شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ قَدْ نَجَا. وَبَعْضُ هَذِهِ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبَعْضُهَا يَعُمُّ غَيْرَهُ، وَبَعْضُهَا قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ. وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ كَافٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِيهِ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَكَرَ زِيَادَةً عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحَرِيقَ، وَصَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْمَرْأَةَ تَمُوتُ بِجُمْعٍ. وَتَوَارَدَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَبْطُونِ وَالْمَطْعُونِ وَالْغَرِيقِ وَصَاحِبِ الْهَدْمِ، فَأَمَّا صَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ فَهُوَ مَرَضٌ مَعْرُوفٌ وَيُقَالُ لَهُ الشُّوصَةُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ فَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ أَيْضًا وَهِيَ النُّفَسَاءُ ; وَقِيلَ الَّتِي يَمُوتُ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ تَمُوتُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّتِي تَمُوتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ الَّتِي تَمُوتُ عَذْرَاءَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.

قُلْتُ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَاهِدًا لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ وَلَفْظُهُ مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ فِيكُمْ وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ. فَمِنْ زِيَادَتِهِ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ نَحْوُ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ وَلَفْظُهُ وَفِي النُّفَسَاءِ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا جُمْعًا شَهَادَةٌ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ رَاشِدِ بْنِ حُبَيْشٍ نَحْوُهُ وَفِيهِ وَالسِّلُّ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ خَمْسٌ مَنْ قُبِضَ فِيهِنَّ فَهُوَ شَهِيدٌ فَذَكَرَ فِيهِمُ النُّفَسَاءُ وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَقَالَ فِي الدِّينِ وَالدَّمِ وَالْأَهْلِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ مَرْفُوعًا مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: التَّرْجَمَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا تَخْرُجُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنَ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَذِّبَ كِتَابَهُ.

وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ فَأَعْجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْقَتْلِ بَلْ لَهَا أَسْبَابٌ أُخَرُ وَتِلْكَ الْأَسْبَابُ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي عَدَدِهَا فَفِي بَعْضِهَا خَمْسَةٌ وَفِي بَعْضِهَا سَبْعَةٌ، وَالَّذِي وَافَقَ شَرْطَ الْبُخَارِيِّ الْخَمْسَةُ فَنَبَّهَ بِتَرْجَمَةٍ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الْوَارِدَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى التَّحْدِيدِ انْتَهَى.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ - يَعْنِي رُوَاةَ الْخَمْسَةِ - نَسِيَ الْبَاقِيَ. قُلْتُ: وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ، لَكِنْ يُقَرِّبُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا وَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَالْمَجْنُوبُ شَهِيدٌ يَعْنِي صَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُعْلِمَ بِالْأَقَلِّ ثُمَّ أُعْلِمَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَلَمْ يَقْصِدِ الْحَصْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا مِنَ الطُّرُقِ الْجَيِّدَةِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ خَصْلَةٍ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ مَا قَدَّمْتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ عَلَى أَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ شَهِيدٌ وَصَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ شَهِيدًا

ص: 43

الْحَدِيثَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا الْمَرْءُ يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهِيدٌ وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَبْطُونِ وَاللَّدِيغِ وَالْغَرِيقِ وَالشَّرِيقِ وَالَّذِي يَفْتَرِسُهُ السَّبُعُ وَالْخَارُّ عَنْ دَابَّتِهِ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَذَاتِ الْجَنْبِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَحَادِيثُ فِيمَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ أَنَّهُ يُكْتَبُ شَهِيدًا فِي بَابِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطِّبِّ حَدِيثٌ فِيمَنْ صَبَرَ فِي الطَّاعُونِ أَنَّهُ شَهِيدٌ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِيمَنْ صَرَعَتْهُ دَابَّتُهُ وَأَنَّهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ مَنْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤوسِ الْجِبَالِ وَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ وَيَغْرَقُ فِي الْبِحَارِ لَشَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي أُمُورٍ أُخْرَى لَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذِهِ كُلُّهَا مِيتَاتٌ فِيهَا شِدَّةٌ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ جَعَلَهَا تَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِمْ وَزِيَادَةً فِي أُجُورِهِمْ يُبَلِّغُهُمْ بِهَا مَرَاتِبَ الشُّهَدَاءِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ لَيْسُوا فِي الْمَرْتَبَةِ سَوَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، والدَّارِمِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ كُلُّ مَوْتَةٍ يَمُوتُ بِهَا الْمُسْلِمُ فَهُوَ شَهِيدٌ غَيْرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَتَفَاضَلُ وَسَيَأْتِي شَرْحُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الطَّاعُونِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيَتَحَصَّلُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الشُّهَدَاءَ قِسْمَانِ: شَهِيدُ الدُّنْيَا، وَشَهِيدُ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَنْ يُقْتَلُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ مُخْلِصًا. وَشَهِيدُ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَنْ ذُكِرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ جِنْسِ أَجْرِ الشُّهَدَاءِ وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ فِي الدُّنْيَا.

وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى الْفِرَاشِ فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنَ الطَّاعُونِ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ، فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مَعَهُمْ وَمِنْهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الشُّهَدَاءِ عَلَى غَيْرِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَجَازًا، فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْمَانِعُ يُجِيبُ بِأَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ فَقَدْ يُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ لَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ لِعَارِضٍ يَمْنَعُهُ كَالِانْهِزَامِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ - ثُمَّ قَالَ - وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خَمْسَةٌ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَإِ وَالْمَعْدُودُ بَعْدَهُ ببَيَان لَهُ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّهِيدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالْمَقْتُولُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالشَّهِيدِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتِيلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَيَكُونُ مِنَ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالتَّقْدِيرُ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الشَّهِيدُ كَذَا وَالشَّهِيدُ كَذَا إِلَى آخِره.

‌31 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا}

ص: 44

2831 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا فَجَاءَه بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ فَنَزَلَتْ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} .

[الحديث 2831 - طرفاه في: 4593، 4594، 4990]

2832 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَي {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}

[الحديث 2832 - طرفه في: 4592]

قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَفِيهِ ذِكْرُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

‌32 - بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ

2833 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَتَبَ فَقَرَأْتُهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.

‌33 - بَاب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلِ الله عز وجل {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}

2834 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ:

اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ؛

فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ،

فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:

ص: 45

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.

[الحديث 2834 - أطرافه في: 2835، 2961، 3795، 3796، 4099، 4100، 6413، 7201]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي. وَانْتِزَاعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي مُبَاشَرَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْحَفْرَ بِنَفْسِهِ تَحْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعَمَلِ لِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي ذَلِكَ.

‌34 - حَفْرِ الْخَنْدَقِ

2835 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَيَقُولُونَ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الجهاد مَا بَقِينَا أَبَدَا

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ:

اللَّهُمَّ إِنَّه لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ،

فَبَارِكْ فِي الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَفْرِ الْخَنْدَقِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ.

2836 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ وَيَقُولُ:

لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا.

[الحديث 2836 - أطرافه في: 2837، 3034، 4104، 4106، 6620، 7136]

2837 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ - وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ - وَهُوَ يَقُولُ:

لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا،

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا،

فَأَنْزِل السكِينَةً عَلَيْنَا،

وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا،

إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا،

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَأْتِي هُنَاكَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌35 - بَاب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنْ الْغَزْوِ

2838 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2838 - طرفاه في: 2839، 4423]

2839 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ

ص: 46

صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ.

وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ) الْعُذْرُ: الْوَصْفُ الطَّارِئُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّسْهِيلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَتَقْدِيرُهُ: فَلَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِذَا صَدَقَتْ نِيَّتُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ، وَقَرَنَ رِوَايَتَهُ بِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ تَعْيِينُ الْغَزْوَةِ وَتَصْرِيحُ أَنَسٍ بِالتَّحْدِيثِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ لَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ زُهَيْرًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِقَوْلِهِ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ تَابَعَهُمَا عَلَى تَرْكِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ حُمَيْدٍ، وَأَنْسٍ، مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَاعَةٌ.

قَوْلُهُ: (خَلْفَنَا) بِسُكُونِ اللَّامِ أَيْ وَرَاءَنَا وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَأَبِي عَوَانَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إِلَّا شَرَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ بَدَلَ قَوْلِ إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ وَالْمُرَادُ بِالْعُذْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَرَضِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّفَرِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ وَكَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) أَيِ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (الْأَوَّلُ عِنْدِي أَصَحُّ) يَعْنِي حَذْفَ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ مِنَ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: حَمَّادٌ عَالِمٌ بِحَدِيثِ حُمَيدٍ مُقَدَّمٌ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ انْتَهَى.

قُلْتُ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِتَصْرِيحِ حُمَيدٍ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ لَهُ كَمَا تَرَاهُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُعْتَمِرٌ.

قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَا مَحْفُوظَيْنِ، فَلَعَلَّ حُمَيدًا سَمِعَهُ مِنْ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ لَقِيَ أنَسًا فَحَدَّثَهُ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ فَثَبَّتَهُ فِيهِ ابْنُهُ مُوسَى، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ سِيَاقَ حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيدٍ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ زُهَيْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ عَنْ حُمَيدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ، عَنْ حَمَّادٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِسْنَادِ حُمَيدًا. نَعَمْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيدٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ سِيَاقِ حَمَّادٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ النَّفَقَةَ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ مِنَ الْقَاعِدِينَ فَكَأَنَّهُ أَلْحَقَهُمْ بِالْفَاضِلِينَ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ أَجْرَ الْعَامِلِ إِذَا مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْعَمَلِ.

‌36 - بَاب فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2840 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.

ص: 47

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِذَا أُطْلِقَ ذِكْرُ سَبِيلِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَبِيلُ اللَّهِ طَاعَةُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ مَنْ صَامَ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي الطَّاهِرِ الذُّهْلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اللَّيْثِيِّ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مَا مِنْ مُرَابِطٍ يُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْعُرْفُ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَتِ الْفَضِيلَةُ لِاجْتِمَاعِ الْعِبَادَتَيْنِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ طَاعَتُهُ كَيْفَ كَانَتْ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْجِهَادِ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّائِمَ يَضْعُفُ عَنِ اللِّقَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَ ضَعْفًا وَلَا سِيَّمَا مَنِ اعْتَادَ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَمَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنِ الْجِهَادِ فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيِّ مَوْصُولًا إِلَّا هَذَا وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى سُهَيْلٍ فَرَوَاهُ الْأَكْثَرُ عَنْهُ هَكَذَا، وَخَالَفَهُمْ شُعْبَةُ فَرَوَاهُ عَنْهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَعَلَّ لِسُهَيْلٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَوَهِمَ فِيهِ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ سُهَيْلٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ لَا عَنِ الْمَقْبُرِيِّ. كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ سُهَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (سَبْعِينَ خَرِيفًا) الْخَرِيفُ زَمَانٌ مَعْلُومٌ مِنَ السَّنَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعَامُ وَتَخْصِيصُ الْخَرِيفِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ الْفُصُولِ - الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ - لِأَنَّ الْخَرِيفَ أَزْكَى الْفُصُولِ لِكَوْنِهِ يُجْنَى فِيهِ الثِّمَارُ. وَنَقَلَ الْفَاكِهَانِيُّ أَنَّ الْخَرِيفَ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ دُونَ غَيْرِهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الرَّبِيعَ كَذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرَدَ ذِكْرُ السَّبْعِينَ لِإِرَادَةِ التَّكْثِيرِ كَثِيرًا انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالُوا جَمِيعًا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِائَةَ عَامٍ

‌37 - بَاب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2841 -

حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ - كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ - أَيْ: قلُ هَلُمَّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ الَّذِي لَا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.

2842 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالْأُخْرَى، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ

ص: 48

بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا؟ أَوَخَيْرٌ هُوَ - ثَلَاثًا - إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّهُ كُلّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْها بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ

أَحَدُهُمَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِهِ أَيْ قُلْ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ الْخَطَّابِيَّ جَزَمَ أَنَّهُ تَرْخِيمٌ مِنْ فُلَانٍ، وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لُغَةٌ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلَى وَهْمِ الْقَابِسِيِّ فِي قَوْلِهِ سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ وَقَوْلُهُ: زَوْجَيْنِ أَيْ شَيْئَيْنِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِمَّا يُنْفَقُ، وَالزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الِاثْنَيْنِ وَهُوَ هُنَا عَلَى الْوَاحِدِ جَزْمًا.

وَقَوْلُهُ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ كَأَنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ لِأَنَّ الْمُرَادَ خَزَنَةُ كُلِّ بَابٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ يُعْطَى أَجْرَ الْمُصَلِّي وَالصَّائِمِ وَالْمُتَصَدِّقِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، لِأَنَّ بَابَ الرَّيَّانِ لِلصَّائِمِينَ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا بِإِنْفَاقِ قَلِيلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ انْتَهَى. وَمَا جَرَى فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَرُدُّهُ مَا قَدَّمْتُهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ لِأَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ لِكُلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابٌ يُدْعَوْنَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَقَوْلُهُ لَا تَوًى عَلَيْهِ بِالْمُثَنَّاةِ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْصُورٌ، وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ الْمَدَّ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمٍ بِالرَّاءِ مُصَغَّرٌ، ابْنِ فَاتِكٍ بِفَاءٍ وَمُثَنَّاةٍ مَكْسُورَةٍ رَفَعَهُ مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ. قُلْتُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الْآيَةَ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّهُ كُلُّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ يُقَرِّبُ مِنَ الْقَتْلِ.

وَقَوْلُهُ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ وَقَعَ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَذَا أَثْبَتَهُ الْأَصِيلِيُّ هُنَا وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَكَذَا سَقَطَ قَوْلُهُ حَبَطًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ انْتِفَاخُ الْبَطْنِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ.

‌38 - بَاب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ

2843 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا.

ص: 49

2844 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا) أَيْ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ سَفَرِهِ (أَوْ خَلَفَهُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ الْخَفِيفَةِ أَيْ قَامَ بِحَالِ مَنْ يَتْرُكُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ) هُوَ الْمُعَلِّمُ نَسَبَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ، وَبُسْرٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ سَمِعَ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (فَقَدْ غَزَا) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَغْزُ حَقِيقَةً. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مَنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَحْوَهُ بِلَفْظِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حَتَّى يَسْتَقِلَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ وَأَفَادَتْ فَائِدَتَيْنِ

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَمَامِ التَّجْهِيزِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَسْتَقِلَّ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَسْتَوِي مَعَهُ فِي الْأَجْرِ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ تِلْكَ الْغَزْوَةُ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا وَقَالَ: لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: وَأَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا جَهَّزَ نَفْسَهُ أَوْ قَامَ بِكِفَايَةِ مَنْ يَخْلُفُهُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَفْظَةُ نِصْفٍ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مُقْحَمَةً أَيْ مَزِيدَةً مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ بِمِثْلِ ثَوَابِ الْفِعْلِ حُصُولُ أَصْلِ الْأَجْرِ لَهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ، وَأَنَّ التَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ مَثَلًا هَلْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ مَعَ التَّضْعِيفِ أَوْ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ؟ وَحَدِيثُ الْبَابِ إِنَّمَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ وَالْمُشَاطَرَةَ فَافْتَرَقَا.

ثَانِيهِمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ احْتِمَالِ كَوْنِ لَفَظَةِ نِصْفٍ زَائِدَةٌ.

قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ لِدَعْوَى زِيَادَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ ; وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي تَوْجِيهِهَا أَنَّهَا أُطْلِقَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ لِلْغَازِي وَالْخَالِفِ لَهُ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الثَّوَابَ إِذَا انْقَسَمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِمِثْلِ ثَوَابِ الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ دَلَالَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ أَوْ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي عَدَمِ التَّضْعِيفِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَصَرْفُ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَنَدٍ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ الْقَائِلِ أَنَّ الْعَامِلَ يُبَاشِرُ الْمَشَقَّةَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الدَّالِّ وَنَحْوِهِ، لَكِنَّ مَنْ يُجَهِّزُ الْغَازِيَ بِمَالِهِ مَثَلًا وَكَذَا مَنْ يَخْلُفُهُ فِيمَنْ يَتْرُكُ بَعْدَهُ يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنَ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْغَازِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْغَزْوُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ الْعَمَلُ فَصَارَ كَأَنَّهُ يُبَاشِرُ مَعَهُ الْغَزْوَ بِخِلَافِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ مَثَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَتَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِل ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي شَرْحِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ هَمَّامٍ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هَمَّامٍ

ص: 50

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بِالْمَدِينَةِ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِ أَمِّ سُلَيْمٍ) قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الدُّخُولَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، وَإِلَّا فَقَدَ دَخَلَ عَلَى أُخْتِهَا أُمِّ حَرَامٍ، وَلَعَلَّهَا أَيْ أَمُّ سُلَيْمٍ كَانَتْ شَقِيقَةَ الْمَقْتُولِ أَوْ وَجَدَتْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أُمِّ حَرَامٍ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَإِنَّ بَيْتَ أُمِّ حَرَامٍ، وَأُمِّ سُلَيْمٍ وَاحِدٌ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ الْأُخْتَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ مَعْزِلٌ فَنُسِبَ تَارَةً إِلَى هَذِهِ وَتَارَةً إِلَى هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْقَائِلِ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي) هَذِهِ الْعِلَّةُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَخُوهَا حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابٍ مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَتَأْتِي قِصَّةُ قَتْلِهِ فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَعِي أَيْ مَعَ عَسْكَرِي أَوْ عَلَى أَمْرِي وَفِي طَاعَتِي لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْهَدْ بِئْرَ مَعُونَةَ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَيْهَا وَغَفَلَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: قُتِلَ أَخُوهَا مَعَهُ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ وَأَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُصِبْ فِي ظَنِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ حَدِيثِ أَنَسٍ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْبُرُ قَلْبَ أُمِّ سُلَيْمٍ بِزِيَارَتِهَا، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ أَخَاهَا قُتِلَ مَعَهُ، فَفِيهِ أَنَّهُ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم.

‌39 - بَاب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ

2845 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ: أَتَى أَنَسٌ، ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لَا تَجِيءَ؟ قَالَ: الْآنَ يَا ابْنَ أَخِي وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ. يَعْنِي: مِنْ الْحَنُوطِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنْ النَّاسِ فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ) أَيِ اسْتِعْمَالِ الْحَنُوطِ، وَهُوَ مَا يُطَيَّبُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ) كَذَا لِلْحَموِيِّ وَلِلْبَاقِينَ وَذَكَرَهُ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ وَهِيَ لِلْحَالِ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْيَمَامَةِ) أَيْ حِينَ حَاصَرَتِ الْمُسْلِمُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ وَأَتْبَاعَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ.

قَوْلُهُ: (أَتَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ كَذَا قَالَ، لَمْ يَقُلْ عَنْ أَنَسٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُرْقَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ. قُلْتُ: وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ جِئْتُ إِلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَذَكَرَهُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَنْصَارِيِّ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ حَسَرَ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أَيْ كَشَفَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (يَا عَمُّ) إِنَّمَا دَعَاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ الْخَزْرَجِ

ص: 51

قَوْلُهُ: (مَا يَحْبِسُكَ) أَيْ يُؤَخِّرُكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِ فَقُلْتُ يَا عَمُّ أَلَا تَرَى مَا يَلْقَى النَّاسُ زَادَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَلَا تَجِيءُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ خَلِيفَةُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مُعَاذٍ وَقَالَ فِي جَوَابِهِ بَلَى يَا ابْنَ أَخِي الْآنَ.

قَوْلُهُ: (أَلَّا) بِالتَّشْدِيدِ وَتَجِيءَ بِالنَّصْبِ.

قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ يَعْنِي مِنَ الْحَنُوطِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَكَأَنَّ قَائِلَهَا أَرَادَ دَفْعَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مِنَ الْحِنْطَةِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَنْصَارِي الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ مِنَ النَّاسِ انْكِشَافًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ فِي الصَّفِّ وَالنَّاسُ يَنْكَشِفُونَ أَيْ يَنْهَزِمُونَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا) أَيِ افْسحُوا لِي حَتَّى أُقَاتِلَ.

قَوْلُهُ: (مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بَلْ كَانَ الصَّفُّ لَا يَنْحَرِفُ عَنْ مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي عَوَّدَكُمْ أَقْرَانُكُمْ أَيْ نُظَرَاؤُكُمْ وَهُوَ جَمْعُ قِرْنٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ الَّذِي يُعَادِلُ الْآخَرَ فِي الشِّدَّةِ، وَالْقِرْنُ بِكَسْرِ الْقَافِ مَنْ يُعَادِلُ فِي السِّنِّ وَأَرَادَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ هَذَا تَوْبِيخَ الْمُنْهَزِمِينَ أَيْ عَوَّدْتُمْ نُظَرَاءَكُمْ فِي الْقُوَّةِ مِنْ عَدُّوِكُمُ الْفِرَارَ مِنْهُمْ حَتَّى طَمِعُوا فِيكُمْ وَزَادَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ فِي رِوَايَتِهِمَا فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ حَمَّادٌ) أَيِ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ (عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ) كَذَا قَالَ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ حَمَّادٍ أَتَمُّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، والطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَاءَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ يُكَفَّنُ فِيهِمَا وَقَدِ انْهَزَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَأعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - ثُمَّ قَالَ - بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَاعَةً فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَكَانَتْ دِرْعُهُ قَدْ سُرِقَتْ فَرَآهُ رَجُلٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فَقَالَ: إِنَّهَا فِي قِدْرٍ تَحْتَ إِكَافٍ بِمَكَانِ كَذَا فَأَوْصَاهُ بِوَصَايَا فَوَجَدُوا الدِّرْعَ كَمَا قَالَ وَأَنْفَذُوا وَصَايَاهُ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ قِصَّةَ الدِّرْعِ وَالْوَصِيَّةِ مُطَوَّلَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ بِنْتِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةِ وَفِيهَا: أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ بَعْضِ رَقِيقِهِ وَسَمَّى الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ وَهُمْ سَعْدٌ، وَسَالِمٌ وَأَفَادَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَائِيَ الْمَنَامِ هُوَ بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ. قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِهْلَاكِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ وَتَرْكِ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلْمَوْتِ بِالتَّحَنُّطِ وَالتَّكْفِينِ، وَفِيهِ قُوَّةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَصِحَّةُ يَقِينِهِ وَنِيَّتِهِ، وَفِيهِ التَّدَاعِي إِلَى الْحَرْبِ وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهَا وَتَوْبِيخُ مَنْ يَفِرُّ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ عَوْرَةً، وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

‌40 - بَاب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ

2846 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ - فقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ.

[الحديث 2846 - أطرافه في: 2847، 2997، 3719، 4113، 7261]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الطَّلِيعَةِ) أَيْ مَنْ يُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ لِيَطَّلِعَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ فَمَا فَوقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ الطَّوِيلِ بَيَانُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ:

ص: 52

(مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِهِمْ الْحَدِيث، وَفِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ تَوَجَّهَ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَمِنْهُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَأَنَّ الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَحَفَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَوَافَقُوا قُرَيْشًا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ الْحَوَارِيِّ فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌41 - بَاب هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ

2847 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ أنه سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، قَالَ صَدَقَةُ: أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ - فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.

وَقَوْلُهُ نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ قَالَ صَدَقَةُ أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ صَدَقَةُ هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَمَا ظَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فَقَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ فِيهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَشُكَّ.

فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ التَّجَسُّسِ فِي الْجِهَادِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِلزُّبَيْرِ وَقُوَّةُ قَلْبِهِ وَصِحَّةُ يَقِينِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ سَفَرِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ السَّفَرِ وَحْدَهُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ فِي بَابِ السَّيْرِ وَحْدَهُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ طَلِيعَةَ اللُّصُوصِ الْمُحَارِبِينَ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلًا وَلَا سَلْبًا، وَفِي أَخْذِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَكَلُّفٌ.

‌42 - باب سفر الاثنين

2848 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا - أَنَا وَصَاحِبٍ لِي -: أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ سَفَرِ الِاثْنَيْنِ) أَيْ جَوَازُهُ وَالْمُرَادُ سَفَرُ الشَّخْصَيْنِ لَا سَفَرُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بِخِلَافِ مَا فَهِمَهُ الدَّاوُدِيُّ ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ حِينَ أَرَادَا السَّفَرَ إِلَى قَوْمِهِمَا، فَيُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِنْ إِذْنِهِ لَهُمَا. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الزَّجْرِ عَنْ سَفَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ. قُلْتُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَصَحَّحَهُ وَتَرْجَمَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ النَّهْيُ عَنْ سَفَرِ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ مَا دُونُ الثَّلَاثَةِ عُصَاةٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ شَيْطَانٌ أَيْ عَاصٍ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا الزَّجْرُ زَجْرُ أَدَبٍ وَإِرْشَادٍ لِمَا يُخْشَى عَلَى الْوَاحِدِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْوَحْدَةِ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ فَالسَّائِرُ وَحْدَهُ فِي فَلَاةٍ وَكَذَا الْبَائِتُ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الِاسْتِيحَاشِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَا فِكْرَةٍ رَدِيئَةٍ وَقَلْبٍ ضَعِيفٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ

ص: 53

النَّاسَ يَتَبَايَنُونَ فِي ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ لِحَسْمِ الْمَادَّةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا إِذَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ لِذَلِكَ.

وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ: أَيْ سَفَرُهُ وَحْدَهُ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَوْ أَشْبَهَ الشَّيْطَانَ فِي فِعْلِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ مَاتَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الِاثْنَانِ إِذَا مَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ، بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ فَفِي الْغَالِبِ تُؤْمَنُ تِلْكَ الْخَشْيَةُ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ السَّيْرِ وَحْدَهُ وَمَضَى شَرْحُ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.

‌43 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

2849 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

[الحديث 2849 - طرفه في: 3644]

2850 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.

[الحديث 2850 - أطرافه في: 2852، 3119، 3643]

2851 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ".

[الحديث 2851 - طرفه في: 3645]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَيْلِ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَا يَأْتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوْلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ

قَوْلُهُ: (الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ) كَذَا فِي الْمُؤَطَّأ لَيْسَ فِيهِ مَعْقُودٌ وَوَقَعَ بِإِثْبَاتِهَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِهَا وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ.

قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.

تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ

قَوْلُهُ: (عَنْ حُصَينٍ) بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ) بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَالْفَاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ) فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ وَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ حَرْبٍ (عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) يَعْنِي أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ خَالَفَ حَفْصَ بْنَ عُمَرَ فِي اسْمٍ وَالِدِ عُرْوَةَ فَقَالَ حَفْصٌ: عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ وَقَالَ سُلَيْمَانُ: عُرْوَةُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَطَرِيقُ سُلَيْمَانَ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ إِلَّا سُلَيْمَانَ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ. قُلْتُ: رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَتَابَعَهُمَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْهُ، وَلِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ فَقَالَ فِيهِ: عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِيِّ أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ غُنْدَرٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ عُرْوَةَ.

ص: 54

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ إِلَخْ) هَكَذَا رُوِينَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ وَقَالَ فِيهِ: عُرْوَةُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هُشَيْمٍ فَقَالَ: عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ وَكَذَا قَالَ زَكَرِيَّا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ فُضَيْلٍ، وَابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ فقال: عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ وَصَوَّبَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ اسْمَ أَبِي الْجَعْدِ سَعَدٌ، وَأَمَّا الرَّشَاطِيُّ فَقَالَ: هُوَ عُرْوَةُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ نُسِبَ فِي الرِّوَايَةِ إِلَى جَدِّهِ قَالَ: وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ فُتُوحَ الشَّامِ وَنَزَلَهَا، ثُمَّ نَقَلَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْكُوفَةِ. قُلْتُ: وَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَرْبُطُ الْخَيْلَ الْكَثِيرَةَ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي: رَأَيْتُ فِي دَارِهِ سَبْعِينَ فَرَسًا. وَلِمُسَدَّدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ سَيَأْتِي فِي بَابِ حِلِّ الْغَنَائِمِ عَنْهُ عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ حُصَيْنٍ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ أَخْرَجَهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيُّ. وَالْبَارِقِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ نِسْبَةً إِلَى بَارِقٍ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: مَاءٌ بِالسَّرَاةِ نَزَلَهُ بَنُو عَدِيِّ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عُمَرَ.

وَقَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ، وَلُقِّبَ بِهِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ عَدِيٍّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَارِقٌ، وَزَعَمَ الرَّشَاطِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى ذِي بَارِقٍ قَبِيلَةٍ مِنْ ذِي رُعَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ وَأَبُو التَّيَّاحِ) بِمُثَنَّاةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ) كَذَا وَقَعَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ وَأَوْلَى مَا يُقَدَّرُ مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: الْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ، وَسَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ عِيَاضٌ: إِذَا كَانَ فِي نَوَاصِيهَا الْبَرَكَةُ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شُؤْمٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشُّؤْمُ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ الْخَيْلِ الَّتِي ارْتُبِطَتْ لِلْجِهَادِ وَأَنَّ الْخَيْلَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ هِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ أَوْ يُقَالُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ فَسَرَّ الْخَيْرَ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرَسُ مِمَّا يُتَشَاءَمُ بِهِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ

قَوْلُهُ: (الْخَيْلُ الْمُرَادُ بِهَا مَا يُتَّخَذُ لِلْغَزْوِ بِأَنْ يُقَاتَلَ عَلَيْهِ أَوْ يُرْتَبَطَ لِأَجْلِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابِ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ الْحَدِيثَ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ مَعْقُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ احْتِسَابًا كَانَ شِبَعُهَا وَجُوعُهَا وَرِيُّهَا وَظَمَؤُهَا وَأَرْوَاثُهَا وَأَبْوَالُهَا فَلَاحًا فِي مَوَازِينِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ، وَلِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ وَقَوْلُهُ: الْأَجْرُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: الْخَيْرُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ الَّذِي فُسِّرَ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ اسْتِعَارَةٌ لِظُهُورِهِ وَمُلَازَمَتِهِ، وَخَصَّ النَّاصِيَةَ لِرَفْعَةِ قَدْرِهَا وَكَأَنَّهُ شَبَّهَهُ لِظُهُورِهِ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ مَعْقُودٍ عَلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَنُسِبَ الْخَيْرُ إِلَى لَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَذَكَرَ النَّاصِيَةَ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ، وَيُبْعِدُهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ

ص: 55

حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسِهِ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّاصِيَةُ خُصَّتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا الْمُقَدَّمَ مِنْهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي الْإِقْدَامِ بِهَا عَلَى الْعَدُوِّ دُونَ الْمُؤَخَّرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْأَدْبَارِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِيهَا مِنَ الشُّؤْمِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا جِنْسُ الْخَيْلِ أَيْ أَنَّهَا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْخَيْرُ، فَأَمَّا مَنِ ارْتَبَطَهَا لِعَمَلٍ غَيْرِ صَالِحٍ فَحُصُولُ الْوِزْرِ لَطَرَيَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَارِضِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي مَكَانِهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

قَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ وَجِيزِ لَفَظِهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْعُذُوبَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْحُسْنِ مَعَ الْجِنَاسِ السَّهْلِ الَّذِي بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْخَيْرِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِاتِّخَاذِ الْخَيْلِ مِنْ خَيْرِ وُجُوهِ الْأَمْوَالِ وَأَطْيَبِهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ خَيْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْخَيْلِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ غَيْرِهَا مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَفِي النَّسَائِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَيْلِ.

‌44 - بَاب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

2852 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (بَابٌ الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ بِنَحْوِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو يَعْلَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا بَأْسَ بِرُوَاتِهِ، إِلَّا أَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْخَيْلُ مَعْقُودٌ إِلَخْ) سَبَقَهُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ بَقَاءَ الْخَيْرِ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفَسَّرَهُ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ، الْمَغْنَمُ الْمُقْتَرِنُ بِالْأَجْرِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْخَيْلِ بِالْجِهَادِ، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ فِي حُصُولِ هَذَا الْفَضْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَزْوُ مَعَ الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَوِ الْجَائِرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي الْغَزْوِ عَلَى الْخَيْلِ، وَفِيهِ أَيْضًا: بُشْرَى بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ بَقَاءِ الْجِهَادِ بَقَاءَ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مِثْلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ الْحَدِيثَ.

وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْخَطَّابِيُّ إِثْبَاتَ سَهْمٍ لِلْفَرَسِ يَسْتَحِقُّهُ الْفَارِسُ مِنْ أَجْلِهِ، فَإِنْ أَرَادَ السَّهْمَ الزَّائِدَ لِلْفَارِسِ عَلَى الرَّاجِلِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ غَيْرَ سَهْمِ رَاكِبِهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَلَا دَلَالَةَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ):

حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ فِي لَفْظِ التَّرْجَمَةِ: الْجِهَادُ مَاضٍ عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا، وَقَدْ وَجَدْتُهُ فِي نُسْخَةٍ قَدِيمَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ كَالْجَمَاعَةِ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ مَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ بِلَفْظِ: مَعَ بَدَلَ عَلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَكْمِلَةٌ):

رَوَى حَدِيثَ الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَأَنَسٌ،

ص: 56

وَجَرِيرٌ وَمِمَّنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ سَلَمَةُ بْنُ نُفَيْلٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَجَابِرٌ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ، وَأَبُو ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْمُغِيرَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَأَبُو كَبْشَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَحُذَيْفَةُ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَسَوَادَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَرِيبٌ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ - الْمَلِيكِيُّ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَسَهْلُ بْنُ الْحَنَظَلِيَّةِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ عَلَيٍّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْجِهَادِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَالنَّيْلُ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ وَزَادَ أَيْضًا: وَأَهْلُهَا مُعَانُونَ عَلَيْهَا فَخُذُوا بِنَوَاصِيهَا وَادْعُوا بِالْبَرَكَةِ وَقَوْلُهُ: وَأَهْلُهَا مُعَانُونَ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ أَيْضًا.

‌45 - بَاب مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}

2853 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عز وجل: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أَيْ بَيَانُ فَضْلِهِ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ نَاصِيَةَ فَرَسٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ: لَقِيتُهُ بِعَسْقَلَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: وَمَا أَخْرَجَ عَنْهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا، وَآخَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْقَدَرِ قَرَنَهُ فِيهِ بِبِشْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَسْمِيَتَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَوْهَامَهُ، وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ نَشِيطٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بِوَزْنٍ عَظِيمٍ قَالَ: وَقَدْ لَقِيَهُ أَبِي بِعَسْقَلَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَفْصٌ اسْمَ جَدِّهِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ نِسْبَةُ بَعْضِ مَشَايِخِهِ إِلَى أَجْدَادِهِمْ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) هُوَ الْمِصْرِيُّ نَزِيلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: مَا رَوَى حَدِيثًا مُسْنَدًا غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ) أَيِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ كَمَا أَنَّ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ إِشَارَةً إِلَى الْمَبْدَأ. وَقَوْلُهُ: شِبَعَهُ بِكَسْرٍ أَوَّلِهِ أَيْ مَا يَشْبَعُ بِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: رِيَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَاضِي: وَمَنْ رَبَطَهَا رِيَاءً وَسُمْعَةً الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: فَإِنَّ شِبَعَهَا وَجُوعَهَا إِلَخْ خُسْرَانٌ فِي مَوَازِينِهِ قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ وَقْفِ الْخَيْلِ لِلْمُدَافَعَةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ وَقْفِ غَيْرِ الْخَيْلِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ وَمِنْ غَيْرِ الْمَنْقُولَاتِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

وَقَوْلُهُ: وَرَوْثَهُ يُرِيدُ ثَوَابَ ذَلِكَ لَا أَنَّ الْأَرْوَاثَ بِعَيْنِهَا تُوزَنُ، وَفِيهِ: أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْجَرُ بِنِيَّتِهِ كَمَا يُؤْجَرُ الْعَامِلُ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذِكْرِ الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ بِلَفْظِهِ لِلْحَاجَةِ لِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ تُقْبَلُ مِنْ صَاحِبِهَا لِتَنْصِيصِ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّهَا فِي مِيزَانِية بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَقَدْ لَا تُقْبَلُ فَلَا تَدْخُلُ الْمِيزَانَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا: مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَالَجَ عَلَفَهُ بِيَدِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَبَّةٍ حَسَنَةٌ.

ص: 57

‌46 - بَاب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ

2854 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَوْا حِمَار وَحْش قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رَآهُ أَبُو قَتَادَةَ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَادَةُ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَتَنَاوَلَهُ فَحَمَلَ فَعَقَرَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا فَلَمَّا أَدْرَكُوهُ قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا.

2855 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمُ: "اللُّخَيْفُ".

2856 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا".

[الحديث 2856 - أطرافه في: 5967، 6267، 6500، 7373]

2857 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَقَالَ مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّةُ تَسْمِيَتِهِمَا، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الدَّوَابِّ بِأَسْمَاءٍ تَخُصُّهَا غَيْرَ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِهَا. وَقَدِ اعْتَنَى مَنْ أَلَّفَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ بِسَرْدِ أَسْمَاءِ مَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ خَيْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَوَابِّهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنْسَابَ بَعْضِ الْخُيُولِ الْعَرَبِيَّةِ الْأَصِيلَةِ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ تُوضَعُ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ صَيْدِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَرَكِبَ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ الْجَرَادَةُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَالْجَرَادُ اسْمُ جِنْسٍ. وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ اسْمَ فَرَسِ أَبِي قَتَادَةَ الْحَزْوَةُ

ص: 58

أَيْ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا وَاوٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْمَانِ، وَإِمَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا تَصَحَّفَ وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ وَهُوَ غَلَطٌ.

الثَّانِي: حَدِيثُ سَهْلٍ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ) يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِيرِ، قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: وَضَبَطُوهُ عَنِ ابْنِ سِرَاجٍ بِوَزْنِ رَغِيفٍ. قُلْتُ: وَرَجَّحَهُ الدِّمْيَاطِيُّ وَبِهِ جَزَمَ الْهَرَوِيُّ وَقَالَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِطُولِ ذَنَبِهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَكَأَنَّهُ يُلْحِفُ الْأَرْضَ بِذَنَبِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمُ اللُّخَيْفُ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَحَكَوْا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ أَخُو أُبَيِّ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ سَعْدِ بْنِ سَعْدٍ وَالِدِ سَهْلٍ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّيهِنَّ لِزَازَ - بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِزَايَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ - وَالظَّرِبَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ واللُّخَيْفَ وَحَكَى سِبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَيَّدَهُ بِالتَّصْغِيرِ وَالْمُعْجَمَةِ قَالَ: وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ وَقَالَ: أَهْدَاهُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْبَرَاءِ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ الْعَامِرِيُّ وَأَبُوهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِمُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ انْتَهَى. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ: أَهْدَاهُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ رُوِي بِالْجِيمِ بَدَلَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُغِيثِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ سَهْمٌ عَرِيضُ النَّصْلِ كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُرْعَتِهِ. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ بِالنُّونِ بَدَلَ اللَّامِ مِنَ النَّحَافَةِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) هُوَ الْأَوْدِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي أَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَبُو إِسْحَاقَ) الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ السَّبِيعِيُّ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ) شَيْخُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ فِيهِ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ سَلَّامٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ ابْنُ سَلِيمٍ وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ كَلَامُ الْمِزِّيِّ، لَكِنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ شَيْخِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فقال: عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْبُخَارِيُّ أَخْرَجَهُ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَكُنْيَةُ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ أَبُو الْأَحْوَصِ فَهُوَ هُوَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ هَذَا هُوَ سَلَّامُ بْنُ سَلِيمٍ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَهَنَّادًا أَدْرَكَاهُ وَلَمْ يُدْرِكَا عَمَّارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَفْرِ وَهُوَ لَوْنُ التُّرَابِ كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلَوْنِهِ، وَالْعُفْرَةُ حُمْرَةٌ يُخَالِطُهَا بَيَاضٌ، وَهُوَ تَصْغِيرُ أَعْفَرَ أَخْرَجُوهُ عَنْ بِنَاءِ أَصْلِهِ كَمَا قَالُوا سُوَيْدٌ فِي تَصْغِيرِ أَسْوَدَ، وَوَهِمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ غَيْرُ الْحِمَارِ الْآخَرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: يَعْفُورٌ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ وَقَوَّاهُ صَاحِبُ الْهَدْيِ، وَرَدَّهُ الدِّمْيَاطِيُّ فَقَالَ: عُفَيْرٌ أَهْدَاهُ الْمُقَوْقِسُ وَيَعْفُورُ أَهْدَاهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ. وَيَعْفُورٌ بِسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ هُوَ اسْمُ وَلَدِ الظَّبْيِ كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُرْعَتِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: نَفَقَ يَعْفُورٌ مُنْصَرَفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَقِيلَ: طَرَحَ نَفْسَهُ فِي بِئْرٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْثَدٍ فِي الضُّعَفَاءِ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَنِمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ جَدِّهِ سِتُّونَ حِمَارًا لِرُكُوبِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرِي وَأَنْتَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَمَّاهُ يَعْفُورًا.

وَكَانَ يَرْكَبُهُ فِي حَاجَتِهِ وَيُرْسِلُهُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَقْرَعُ بَابَهُ بِرَأْسِهِ فَيَعْرِفُ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى بِئْرِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ فَتَرَدَّى فِيهَا فَصَارَتْ قَبْرَهُ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا أَصْلَ لَهُ وَلَيْسَ سَنَدُهُ

ص: 59

بِشَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ تَعْبُدُوا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (فَيَتَّكِلُوا) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِسُكُونِ النُّونِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذٍ وَلَمْ يُسَمِّ فِيهِ الْحِمَارَ، وَنَسْتَكْمِلُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَيْضًا لَكِنْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ فَهُمَا حَدِيثَانِ، وَوَهِمَ الْحُمَيْدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ حَيْثُ جَعَلُوهُمَا حَدِيثًا وَاحِدًا. نَعَمْ وَقَعَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْعُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّاسَ لِئَلَّا يَتَكَلَّمُوا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا حَدِيثًا وَاحِدًا. وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْعِلْمِ فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذًا عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْهِبَةِ مَعَ شَرْحِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ هُنَا.

‌47 - بَاب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ

2858 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ.

2859 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ".

[الحديث 2859 - طرفه في: 5095]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ) أَيْ هَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، أَوْ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْخَيْلِ؟ وَهَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ مُؤَوَّلٌ؟ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ سَهْلٍ بَعْدَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّ الْحَصْرَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَبِتَرْجَمَةِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهِيَ الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ إِلى أَنَّ الشُّؤْمَ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْخَيْلِ دُونَ بَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَطِيفِ نَظَرِهِ وَدَقِيقِ فِكْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي سَالِمٌ) كَذَا صَرَّحَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِخْبَارِ سَالِمٍ لَهُ، وَشَذَّ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَأَدْخَلَ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ، وَسَالِمٍ، مُحَمَّدَ بْنَ زُبَيْدِ بْنِ قُنْقُد، وَاقْتَصَرَ شُعَيْبٌ عَلَى سَالِمٍ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ وَكَذَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الطِّبِّ، وَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ: لَمْ يَرْوِ الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا عَنْ سَالِمٍ انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ: إِنَّمَا نَحْفَظُهُ عَنْ سَالِمٍ. لَكِنَّ هَذَا الْحَصْرَ مَرْدُودٌ فَقَدْ حَدَّثَ بِهِ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، وَحَمْزَةَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِمَا، وَمَالِكٌ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ نَفْسِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي رُجُوعَ سُفْيَانَ عَمَّا سَبَقَ مِنَ الْحَضرِ.

وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَجَعَلَ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي عُمَرَ هَذِهِ مَرْجُوحَةً، وَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا أَيْضًا يُونُسُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الطِّبِّ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو أُوَيْسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كُلُّهمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَاقْتَصَرَ عَلَى حَمْزَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ

ص: 60

سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مَبْرُورٍ، عَنْ يُونُسَ فَاقْتَصَرَ عَلَى حَمْزَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ رَبَاحِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ مُقْتَصِرًا عَلَى حَمْزَةَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَاقْتَصَرَ عَلَى سَالِمٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ يَجْمَعُهُمَا تَارَةً وَيُفْرِدُ أَحَدَهُمَا أُخْرَى، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ سَالِمٍ أَوْ حَمْزَةَ أَوْ كِلَاهُمَا وَلَهُ أَصْلٌ عَنْ حَمْزَةَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الشُّؤْمُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَقَدْ تُسَهَّلُ فَتَصِيرُ وَاوًا.

قَوْلُهُ: (فِي ثَلَاثٍ) يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ كَائِنٌ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَالْحَصْرُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَادَةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخِلْقَةِ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِطُولِ مُلَازَمَتِهَا، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ وَسَائِرُ الرُّوَاةِ بِحَذْفِ إِنَّمَا لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي الثَّلَاثَةِ قَالَ مُسْلِمٌ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَا عَدْوَى إِلَّا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: إِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ الْحَدِيثَ، وَالطِّيَرَةُ وَالشُّؤْمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي أَوَاخِرِ شَرْحِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الشُّؤْمَ وَالطِّيرَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَوَجْهُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَهُمْ أَنْ لَا طِيرَةَ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهَوا بَقِيَتِ الطِّيرَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ.

قُلْتُ: فَمَشَى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ مَنْ تَشَاءَمَ بِشَيْءٍ مِنْهَا نَزَلَ بِهِ مَا يَكْرَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ أَكْثَرُ مَا يَتَطَيَّرُ بِهِ النَّاسُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ، قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ الْعَسْقَلَانِيِّ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي: وَلِمُسْلِمٍ: إِنْ يَكُ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ وَفِي رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ: إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَزْمِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ خَلَقَ اللَّهُ الشُّؤْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ بَعْضِ الْعَادَةِ فَإِنَّمَا يَخْلُقُهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: بحمل هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنْ يَكُنِ الشُّؤْمُ حَقًّا فَهَذِهِ الثَّلَاثُ أَحَقُّ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ النُّفُوسَ يَقَعُ فِيهَا التَّشَاؤُمُ بِهَذِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَقَعُ بِغَيْرِهَا.

وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ فَقَالَتْ: لَمْ يَحْفَظْ، إِنَّهُ دَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فَسَمِعَ آخِرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ. قُلْتُ: وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ لَكِنْ رَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الطِّيرَةُ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَتْ: مَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى، وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ مُوَافَقَةِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ غَيْرُهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سِيقَ لِبَيَانِ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُبُوتِ ذَلِكَ، وَسِيَاقُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا جَوَابٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْعَثْ لِيُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاصِلَةِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ انْتَهَى.

ص: 61

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا شُؤْمَ، وَقَدْ يَكُونُ اليمن فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ فَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ سَمِعْتُ مَنْ يُفَسِّرُ هَذَا الْحَدِيثَ يَقُولُ: شُؤْمُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَلُودٍ، وَشُؤْمُ الْفَرَسِ إِذَا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ، وَشُؤْمُ الدَّارِ جَارُ السَّوْءِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: كَمْ مِنْ دَارٍ سَكَنَهَا نَاسٌ فَهَلَكُوا. قَالَ الْمَازِرِيُّ: فَيَحْمِلُهُ مَالِكٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ رُبَمَا اتَّفَقَ مَا يُكْرَهُ عِنْدَ سُكْنَى الدَّارِ فَتَصِيرُ فِي ذَلِكَ كَالسَّبَبِ فَتَسَامَحَ فِي إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَيْهِ اتِّسَاعًا.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يُرِدْ مَالِكٌ إِضَافَةَ الشُّؤْمِ إِلَى الدَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَرْيِ الْعَادَةِ فِيهَا فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْخُرُوجُ عَنْهَا صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَطُولُ تَعْذِيبُ الْقَلْبِ بِهَا مَعَ كَرَاهَةِ أَمْرِهَا لِمُلَازَمَتِهَا بِالسُّكْنَى وَالصُّحْبَيةِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْإِنْسَانُ الشُّؤْمَ فِيهَا، فَأَشَارَ الْحَدِيثُ إِلَى الْأَمْرِ بِفِرَاقِهَا لِيَزُولَ التَّعْذِيبُ. قُلْتُ: وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ مَالِكٍ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ مَعَ صِحَّةِ نَفْيِ الْعَدْوَى، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ حَسْمُ الْمَادَّةِ وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يُوَافِقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْقَدَرَ فَيَعْتَقِدُ مَنْ وَقَعَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَدْوَى أَوْ مِنَ الطِّيرَةِ فَيَقَعُ فِي اعْتِقَادِ مَا نُهِيَ عَنِ اعْتِقَادِهِ، فَأُشِيرَ إِلَى اجْتِنَابِ مِثْلِ ذَلِكَ. وَالطَّرِيقُ فِيمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ مَثَلًا أَنْ يُبَادِرَ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مَتَى اسْتَمَرَّ فِيهَا رُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى اعْتِقَادِ صِحَّةِ الطِّيرَةِ وَالتَّشَاؤُمِ.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا وَأَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَرُوهَا ذَمِيمَةً وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ بِالْمُهْلَةِ مُصَغَّرٌ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ السَّائِلُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَلَهُ رِوَايَةٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ العَرْبِيِّ: وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُنْقَطِعًا قَالَ: وَالدَّارُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِهِ كَانَتْ دَارَ مُكْمِلٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ - وَهُوَ ابْنُ عَوْفٍ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، لَكِنَّ الْخَالِقَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ ذَلِكَ وَفْقًا لِظُهُورِ قَضَائِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا لِئَلَّا يَقَعَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَسْتَمِرَّ اعْتِقَادُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَفَادَ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا ذَمِيمَةً جَوَازَ ذَلِكَ، وَأَنَّ ذِكْرَهَا بِقَبِيحٍ مَا وَقَعَ فِيهَا سَائِغٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَمُّ مَحَلِّ الْمَكْرُوهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْهُ شَرْعًا كَمَا يُذَمُّ الْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّطَيُّرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ لِأَحَدِكُمْ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا أَوِ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا أَوْ فَرَسٌ يَكْرَهُ سَيْرَهُ فَلْيُفَارِقْهُ.

قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ شُؤْمَ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِوَارِهَا، وَشُؤْمَ الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَلِدَ، وَشُؤْمَ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغَزَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي الْخَيْلِ: إِذَا كَانَ الْفَرَسُ ضَرُوبًا فَهُوَ مَشْئُومٌ، وَإِذَا حَنَّتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَعْلِهَا الْأَوَّلِ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ، وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ بَعِيدَةً مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يُسْمَعُ مِنْهَا الْأَذَانُ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ.

وَقِيلَ: كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ} الْآيَةَ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ لَا سِيَّمَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ فِي نَفْسِ هَذَا الْخَبَرِ نَفْيُ التَّطَيُّرِ ثُمَّ إِثْبَاتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. وَقِيلَ: يُحْمَلُ الشُّؤْمُ عَلَى قِلَّةِ الْمُوَافَقَةِ وَسُوءِ الطِّبَاعِ، وَهُوَ كَحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ. وَمِنْ شَقَاوَةِ

ص: 62

الْمَرْءِ الْمَرْأَةُ السُّوءُ وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ. وَهَذَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: يَكُونُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ مَنِ الْتَزَمَ التَّطَيُّرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُلَازِمُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاتْرُكُوهَا عَنْكُمْ وَلَا تُعَذِّبُوا أَنْفُسَكُمْ بِهَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَصْدِيرُهُ الْحَدِيثَ بِنَفْيِ الطِّيرَةِ.

وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: لَا طِيرَةَ، وَالطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ، وَإِنْ تَكُنْ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ الْحَدِيثَ، وفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَعُتْبَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى بَقِيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّطَيُّرِ وَالْفَأْلِ فِي آخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَكْمِيلٌ):

اتَّفَقَتِ الطُّرْقُ كُلُّهَا عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَالسَّيْفُ قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَاهُ جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ جُوَيْرِيَةُ بَلْ تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا قَالَ: وَالْمُبْهَمُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، سَمَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَتِهِ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْصُولًا فقال: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَزَادَتْ فِيهِنَّ وَالسَّيْفِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَأَدْرَجَ فِيهِ السَّيْفَ وَخَالَفَ فِيهِ فِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّإِ، لَكِنْ زَادَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي الشُّؤْمَ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ إِلَخْ أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ إِسْمَاعِيلُ فِي شَيْءٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فقال: فَذَكَرَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.

‌48 - بَاب الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ وَقَوْلُ الله عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}

2860 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ وَرَجُلٌ

ص: 63

رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَيْلِ لِثَلَاثَةٍ) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَأَحَالَ بِتَفْسِيرِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ، وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْهُ الْحَصْرَ فَقَالَ: اتِّخَاذُ الْخَيْلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَمْنُوعًا، فَيَدْخُلُ فِي الْمَطْلُوبِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَمْنُوعِ الْمَكْرُوهُ وَالْحَرَامُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ.

وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُبَاحَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِيَ الَّذِي يُتَخَيَّلُ فِيهِ ذَلِكَ جَاءَ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، فَيَلْتَحِقُ بِالْمَنْدُوبِ قَالَ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَالِبًا إِنَّمَا يَعْتَنِي بِذِكْرِ مَا فِيهِ حَضٌّ أَوْ مَنْعٌ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ الصِّرْفُ فَيَسْكُتُ عَنْهُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ عَفْوٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُبَاحُ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا ارْتَقَى إِلَى النَّدْبِ بِالْقَصْدِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مِنَ ابْتِدَائِهِ مَطْلُوبٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} الْآيَةَ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فَمَنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي ذَلِكَ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِفِعْلِهِ قَصْدُ طَاعَةٍ ارْتَقَى إِلَى النَّدْبِ، أَوْ قَصْدُ مَعْصِيَةٍ حَصَلَ لَهُ الْإِثْمُ وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) الْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ الَّذِي يَقْتَنِي الْخَيْلَ إِمَّا أَنْ يَقْتَنِيَهَا لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ فِعْلُ طَاعَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ، أوَ مَعْصِيَتُهُ وَهُوَ الْأَخِيرُ، أَوْ يَتَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَرْجُ مَوْضِعُ الْكَلَإِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمُطْمَئِنِّ، وَالرَّوْضَةُ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَرْوَاثُهَا وَآثَارُهَا قَبْلَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ وَيُطَوَّلُ لَهَا لِتَرْعَى، وَيُقَالُ لَهُ: طِوَلٌ بِالْوَاو الْمَفْتُوحَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الِاسْتِنَانِ هُنَاكَ.

وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْجَرُ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَقَعُ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ إِذَا قَصَدَ أَصْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ التَّفَاصِيلَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قِيلَ: إِنَّمَا أُجِرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ لَا يَنْتَفِعُ بِشُرْبِهَا فِيهِ فَيَغْتَمُّ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ فَيُؤْجَرُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ حَيْثُ تَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَيَغْتَمُّ صَاحِبُهَا لِذَلِكَ فَيُؤْجَرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنِ الْقَصْدِ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) هَكَذَا وَقَعَ بِحَذْفِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَنْ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَامًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ فِي أَوَاخِرَ كِتَابٍ الشُّرْبِ، وَقَوْلُهُ: تَغَنِّيًا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ نَونٍ ثَقِيلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ أَيِ اسْتِغْنَاءً عَنِ النَّاسِ تَقُولُ: تَغَنَّيْتُ بِمَا رَزَقَنِي اللَّهُ تَغَنِّيًا وَتَغَانَيْتُ تَغَانِيًا وَاسْتَغْنَيْتُ اسْتِغْنَاءً كُلُّهَا بِمَعْنًى، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ: تَعَفُّفًا أَيْ: عَنِ السُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَطْلُبُ بِنِتَاجِهَا أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا مِمَّنْ يَرْكَبُهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَعَفُّفًا وَتَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا قِيلَ: الْمُرَادُ حُسْنُ مِلْكِهَا وَتَعَهُّدُ شِبَعِهَا وَرِيِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي الرُّكُوبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ رِقَابَهَا بِالذِّكْرِ

ص: 64

لِأَنَّهَا تُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَهَذَا جَوَابُ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الزَّكَاةَ فِي الْخَيْلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا

سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَخْرًا) أَيْ تَعَاظُمًا وَقَوْلُهُ: وَرِيَاءً أَيْ إِظْهَارًا لِلطَّاعَةِ وَالْبَاطِنُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ: وَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا، وَرِيَاءً لِلنَّاسِ.

قَوْلُهُ: (وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَالْمَدِّ هُوَ مَصْدَرٌ تَقُولُ: نَاوَأْتُ الْعَدُوَّ مُنَاوَأَةً وَنِوَاءً، وَأَصْلُهُ مِنْ نَاءَ إِذَا نَهَضَ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَادَاةِ، قَالَ الْخَلِيلُ: نَاوَأْتُ الرَّجُلَ نَاهَضْتُهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ وَنَوَى بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَصْرِ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، قُلْتُ: حَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، فَإِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَاهُ: وَبُعْدًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ مِنْهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَرِيَاءً وَنِوَاءً بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَدْ تَفْتَرِقُ فِي الْأَشْخَاصِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَذْمُومٌ عَلَى حِدَّتِهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْخَيْلَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ إِذَا كَانَ اتِّخَاذُهَا فِي الطَّاعَةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ وَإِلَّا فَهِيَ مَذْمُومَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ السَّائِلِ صَرِيحًا، وَسَيَأْتِي مَا قِيلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ) بِالْفَاء وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ سَمَّاهَا جَامِعَةً لِشُمُولِهَا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَسَمَّاهَا فَاذَّةً لِانْفِرَادِهَا فِي مَعْنَاهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ فِي اقْتِنَاءِ الْحَمِيرِ طَاعَةً رَأَى ثَوَابَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً رَأَى عِقَابَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ تَعْلِيمُ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ شَبَّهَ مَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ حُكْمَهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْحُمُرُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَمَلِ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِذْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، قَالَ: وَهَذَا نَفْسُ الْقِيَاسِ الَّذِي يُنْكِرُهُ مَنْ لَا فَهْمَ عِنْدَهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعُمُومِ وَإِثْبَاتٌ لِصِيغَتِهِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ أَوْ وَقَفَ. وَفِيهِ تَحْقِيقٌ لِإِثْبَاتِ الْعَمَلِ بِظَوَاهِرَ الْعُمُومِ وَأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ الْمَنْصُوصِ وَالْعَامِّ الظَّاهِرِ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ دُونَ الْمَنْصُوصِ فِي الدَّلَالَةِ.

‌49 - بَاب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْغَزْوِ

2861 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ أَبُو عَقِيلٍ: لَا أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلْنَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ قَالَ جَابِرٌ: فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ لَيْسَ فِيهِا شِيَةٌ وَالنَّاسُ خَلْفِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا جَابِرُ اسْتَمْسِكْ فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ فَقَالَ: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فِي طَوَائِفِ أَصْحَابِهِ فَدَخَلْتُ علَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلَاطِ فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا

ص: 65

جَمَلُكَ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ وَيَقُولُ: الْجَمَلُ جَمَلُنَا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: أَعْطُوهَا جَابِرًا ثُمَّ قَالَ: اسْتَوْفَيْتَ الثَّمَنَ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْغَزْوِ) أَيْ إِعَانَةً لَهُ وَرِفْقًا بِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْمَظَالِمِ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ هُنَا تَامًّا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي الشُّرُوطِ.

قَوْلُهُ: (أُمُّ عَمْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ بَدَلَ أُمٍّ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُعَجِّلْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَلْيَتَعَجَّلْ.

قَوْلُهُ: (أَرْمَكَ) بِرَاءٍ وَكَافٍ وَزْنُ أَحْمَرَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: مَا خَالَطَ حُمْرَتَهُ سَوَادٌ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ فِيهَا شِيَةٌ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ أَيْ عَلَامَةٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لُمْعَةٌ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَالنَّاسُ خَلْفِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ قَوِيًّا فِي سَيْرِهِ لَا عَيْبَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ قُدَّامَ النَّاسِ. فَطَرَأَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْوُقُوفُ.

قَوْلُهُ: (إِذْ قَامَ عَلَيَّ) أَيْ وَقَفَ فَلَمْ يَسِرْ مِنَ التَّعَبِ.

‌50 - بَاب الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ وَالْفُحُولَةِ مِنْ الْخَيْلِ

وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ لِأَنَّهَا أَجْرَى وَأَجْسَرُ

2862 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ فَرَكِبَهُ وَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ الصَّعْبَةِ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ أَيِ الشَّدِيدَةِ.

قَوْلُهُ: (وَالْفُحُولَةُ) بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ جَمْعُ فَحْلٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِتَأْكِيدِ الْجَمْعِ كَمَا جَوَّزَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَأَخَذَ الْمُصَنِّفُ رُكُوبَ الصَّعْبَةِ مِنْ رُكُوبِ الْفَحْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ أَصْعَبُ مُمَارَسَةً مِنَ الْأُنْثَى، وَأَخَذَ كَوْنَهُ فَحْلًا مِنْ ذِكْرِهِ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَوْدَ يَصِحُّ عَلَى اللَّفْظِ، وَلَفْظُ الْفَرَسِ مُذَكَّرٌ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ وَعَكَسَهُ الْجَمَاعَةُ، فَيَجُوزُ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى، قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفُحُولَةِ إِلَّا أَنْ نَقُولَ أَثْنَى عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَسَكَتَ عَنِ الْأُنْثَى فَثَبَتَ التَّفْضِيلُ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تَخْلُ عَنْ إِنَاثِ الْخَيْلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ رَكِبُوا غَيْرَ الْفُحُولِ، إِلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، كَذَا قَالَ: وَهُوَ مَحَلُّ تَوقُّفٍ وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ فَرَسَ الْمِقْدَادِ كَانَ أُنْثَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ) هُوَ الْمَقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتُضَمُّ وَسُكُونِ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، تَابِعِيٌّ وَسَطٌ شَامِيٌّ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْأَثَرِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ السَّلَفُ) أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَقَوْلُهُ: (أَجْرَأُ وَأَجْسَرُ) بِهَمْزٍ، أَجْرَأُ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مِنَ الْجَرْيِ وَأَجْسَرُ بِالْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْجَسَارَةِ، وَحُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِالسِّيَاقِ أَيْ مِنَ الْإِنَاثِ أَوِ الْمَخْصِيَّةِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْخَيْلِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ نَحْوَ هَذَا الْأَثَرِ وَزَادَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِنَاثَ الْخَيْلِ فِي الْغَارَاتِ وَالْبَيَاتِ وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي الْجِهَادِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ

ص: 66

بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِنَاثَ الْخَيْلِ فِي الْغَارَاتِ وَالْبَيَاتِ وَلِمَا خَفِيَ مِنْ أُمُورِ الْحَرْبِ وَيَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَ فِي الصُّفُوفِ وَالْحُصُونِ وَلِمَا ظَهَرَ مِنْ أُمُورِ الْحَرْبِ. وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى أُنْثَى لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْبَوْلَ وَهِيَ أَقَلُّ صَهْلًا، وَالْفَحْلُ يَحْبِسُهُ فِي جَرْيِهِ حَتَّى يَنْفَتِقَ وَيُؤْذِي بِصَهِيلِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَأَنَّ شَرْحَهُ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ الْمَرْوَزِيُّ وَلَقَبُهُ مَرْدَوَيْهِ وَاسْمُ جَدِّهِ مُوسَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ الَّذِي لَقَّبَهُ شَبَّوَيْهِ وَاسْمُ جَدِّهِ ثَابِتٌ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ.

‌51 - بَاب سِهَامِ الْفَرَسِ

2863 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.

[الحديث 2863 - طرفه في: 4228]

قَوْلُهُ: (بَابُ سِهَامِ الْفَرَسِ) أَيْ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْفَارِسُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِسَبَبِ فَرَسِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ) جَمْعُ بِرْذَوْنٍ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُرَادُ الْجُفَاةُ الْخِلْقَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَأَكْثَرُ مَا تُجْلَبُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَلَهَا جَلَدٌ عَلَى السَّيْرِ فِي الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ وَالْوَعْرِ بِخِلَافِ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ.

قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ، وَقَدْ أَسْهَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاسْمُ الْخَيْلِ يَقَعُ عَلَى الْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ بِخِلَافِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ اسْتَوْعَبَتْ مَا يُرْكَبُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِمَا يَقْتَضِيهِ الِامْتِنَانُ، فَلَمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ فِيهَا دَلَّ عَلَى دُخُولِهَا فِي الْخَيْلِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْهَجِينَ؛ لِأَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْمُوَطَّإِ وَفِيهِ: وَالْهَجِينِ، وَالْمُرَادُ بِالْهَجِينِ مَا يَكُونُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ عَرَبِيًّا وَالْآخَرُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ، وَقِيلَ: الْهَجِينُ الَّذِي أَبُوهُ فَقَطْ عَرَبِيٌّ، وَأَمَّا الَّذِي أَمُّهُ فَقَطْ عَرَبِيَّةٌ فَيُسَمَّى الْمُقْرَفُ. وَعَنْ أَحْمَدَ: الْهَجِينُ الْبِرْذَوْنُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ وَقَعَ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَفِي الْمَرَاسِيلِ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَجَّنَ الْهَجِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَرَّبَ الْعِرَابَ، فَجَعَلَ لِلْعَرَبِيِّ سَهْمَيْنِ وَلِلْهَجِينِ سَهْمًا، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: أَغَارَتِ الْخَيْلُ فَأَدْرَكَتِ الْعِرَابُ وَتَأَخَّرَتِ الْبَرَاذِنُ، فَقَامَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْوَادِعِيُّ فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَا أَدْرَكَ كَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ فَقَالَ: هَبِلَتِ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَرَتْ بِهِ، أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْهَمَ لِلْبَرَاذِينِ دُونَ سِهَامِ الْعِرَابِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:

وَمِنَّا الَّذِي قَدْ سَنَّ فِي الْخَيْلِ سُنَّةً

وَكَانَتْ سَوَاءً قَبْلَ ذَاكَ سِهَامُهَا وَهَذَا مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ بِمُقْتَضَى حَدِيثِ مَكْحُولٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ كَالْجَمَاعَةِ، وَعَنْهُ إِنْ بَلَغَتِ الْبَرَاذِينُ مَبَالِغَ الْعَرَبِيَّةِ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِلَّا فُضِّلَتِ الْعَرَبِيَّةُ، وَاخْتَارَهَا الْجَوْزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنِ اللَّيْثِ: يُسْهَمُ لِلْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ

ص: 67

دُونَ سَهْمِ الْفَرَسِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرِ مِنْ فَرَسِ) هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ لَا لِأَكْثَرَ، وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: أَسْهَمَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِفَرَسَيَّ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِي سَهْمًا، فَأَخَذْتُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ يُسْهَمُ لِكُلِّ فَرَسٍ سَهْمَانِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْما أَيْ غَيْرَ سَهْمَيِ الْفَرَسِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا) أَيْ غَيْرَ سَهْمَيِ الْفَرَسِ فَيَصِيرُ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنَّ نَافِعًا فَسَّرَهُ كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَتَبَيَّنُ أَنْ لَا وَهْمَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَابْنِ نُمَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ: وَهِمَ فِيهِ الرَّمَادِيُّ وَشَيْخُهُ. قُلْتُ: لَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ بِسَبَبِ فَرَسِهِ سَهْمَيْنِ غَيْرَ سَهْمِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَمُسْنَدِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فقال: لِلْفَرَسِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ لَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَأَنَّ الرَّمَادِيَّ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَابْنِ نُمَيْرٍ مَعًا بِلَفْظِ: أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ نَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مِثْلَ رِوَايَةِ الرَّمَادِيِّ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ عَلَيُّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِلَفْظِ: أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ، وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَعْضُ مَنِ احْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ لِلْفَرَسِ سَهْمًا وَاحِدًا وَلِرَاكِبِهِ سَهْمٌ آخَرُ، فَيَكُونُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ فَقَطْ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاحْتَجَّ لَهُ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُجَمَّعِ بْنِ جَارِيَةَ بِالْجِيمِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي قِصَّةِ خَيْبَرَ قَالَ: فَأَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَوْ ثَبَتَ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَولَى وَلَا سِيَّمَا وَالْأَسَانِيدُ الْأُولَة أثْبَتُ وَمَعَ رُوَاتِهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ سَهْمًا فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِقَرَابَتِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ: انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِذَلِكَ دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أُفَضِّلَ بَهِيمَةً عَلَى مُسْلِمٍ، وَهِيَ شُبْهَةٌ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ السِّهَامَ فِي الْحَقِيقَةِ كُلُّهَا لِلرَّجُلِ.

قُلْتُ: لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْخَبَرُ لَكَانَتِ الشُّبْهَةُ قَوِيَّةً؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ فَلَوْلَا الْفَرَسُ مَا ازْدَادَ الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ عَنِ الرَّاجِلِ، فَمَنْ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْفَرَسِ وَبَيْنَ الرَّجُلِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَالْإِنْسَانِ، فَلَمَّا خَرَجَ هَذَا عَنِ الْأَصْلِ بِالْمُسَاوَاةِ فَلْتَكُنِ الْمُفَاضَلَةُ كَذَلِكَ، وَقَدْ فَضَّلَ الْحَنَفِيَّةُ الدَّابَّةَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَقَالُوا: لَوْ قَتَلَ كَلْبَ صَيْدٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ أَدَّاهَا، فَإِنْ قَتَلَ عَبْدًا مُسْلِمًا لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ إِلَّا دُونَ عَشَرَةِ آلْافِ دِرْهَمٍ. وَالْحَقُّ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْخَبَرِ وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا قَالَ فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى، لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ كَالْجُمْهُورِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْفَرَسَ يَحْتَاجُ إِلَى مُؤْنَةٍ لِخِدْمَتِهَا وَعَلَفِهَا وَبِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الْغِنَى فِي الْحَرْبِ مَا لَا يَخْفَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ

ص: 68

وَقَاتَلَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُسْهَمُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَمْ يُرِدْ هُنَا صِيغَةَ عُمُومٍ، وَاسْتَدَلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا وَسَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ حَضٌّ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْلِ وَاتِّخَاذِهَا لِلْغَزْوِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ وَإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ وَإِعْظَامِ الشَّوْكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ فَرَسٌ فَمَاتَ قَبْلَ حُضُورِ الْقِتَالِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَرَسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْبَاقُونَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا إِذَا حَضَرَ الْقِتَالَ، فَلَوْ مَاتَ الْفَرَسُ فِي الْحَرْبِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ اسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُهُ وَهُوَ لِلْوَرَثَةِ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِيمَنْ وَصَلَ إِلَى مَوْضِعِ الْقِتَالِ فَبَاعَ فَرَسَهُ: يُسْهَمُ لَهُ لَكِنْ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ مِمَّا غَنِمُوا قَبْلَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي مِمَّا بَعْدَهُ، وَمَا اشْتَبَهَ قُسِّمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ رَاجِلًا لَا يُقْسَمُ لَهُ إِلَّا سَهْمُ رَاجِلٍ وَلَوِ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي غُزَاةِ الْبَحْرِ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ خَيْلٌ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: يُسْهَمُ لَهُ.

(تَكْمِيلٌ):

هَذَا الْحَدِيثُ يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسَائِلِ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَاءِ، أَيْ إِذَا اقْتَرَنَ الْحُكْمُ بِوَصْفِ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لِلتَّعْلِيلِ لَمْ يَقَعْ الِاقْتِرَانُ، فَلَمَّا جَاءَ سِيَاقٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمِ.

‌52 - بَاب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ

2864 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ فاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَفِرَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.

[الحديث 2864 - أطرافه في: 2874، 2930، 3042، 4315، 4316، 4317]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً الْحَدِيثَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَأَبُو سُفْيَانَ - وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - آخَذَ بِلِجَامِهَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ كَتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌53 - بَاب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ

2865 -

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ لِلدَّابَّةِ) قِيلَ: الرِّكَابُ يَكُونُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ، وَالْغَرْزُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْجِلْدِ، وَقِيلَ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، أَوِ الْغَرْزُ لِلْجَمَلِ وَالرِّكَابُ لِلْفَرَسِ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ أَهَلَّ الْحَدِيثَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ مِنَ الْغَرْزِ، وَأَمَّا الرِّكَابُ فَأَلْحَقَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ

ص: 69

بَطَّالٍ: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اقْطَعُوا الرُّكُبَ وَثِبُوا عَلَى الْخَيْلِ وَثْبًا لَيْسَ عَلَى مَنْعِ اتِّخَاذِ الرُّكُبِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَدْرِيبَهُمْ عَلَى رُكُوبِ الْخَيْلِ.

‌54 - بَاب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْيِ

2866 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه اسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْيِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ سَرْجٌ وَلَا أَدَاةٌ، وَلَا يُقَالُ فِي الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا يُقَالُ: عُرْيَانُ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ، قَالَ: وَهِيَ مِنَ النَّوَادِرِ انْتَهَى. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ ضَبَطَ فِي الْحَدِيثِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مَا يُسَاعِدُهُ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَهُمْ عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ وَهُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمُ فِي أَنَّهُ اسْتَعَارَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَفِي أَوَّلِهِ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ فِي حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْهِبَةِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّوَاضُعِ وَالْفُرُوسِيَّةِ الْبَالِغَةِ فَإِنَّ الرُّكُوبَ الْمَذْكُورَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ أَحْكَمَ الرُّكُوبَ وَأَدْمَنَ عَلَى الْفُرُوسِيَّةِ، وَفِيهِ تَعْلِيقُ السَّيْفِ فِي الْعُنُقِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ أَعْوَنَ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْفَارِسِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْفُرُوسِيَّةَ وَيُرَوِّضَ طِبَاعَهُ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ شِدَّةٌ فَيَكُونُ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهَا.

‌55 - بَاب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ

2867 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: وَجَدْنَاه فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفَرَسِ الْقَطُوفِ) أَيِ الْبَطِيءِ الْمَشْيِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: قَطَفَتِ الدَّابَّةُ تَقْطِفُ قِطَافًا وَقَطُوفًا، وَالْقَطُوفُ مِنَ الدَّوَابِّ الْمُقَارِبُ الْخَطْوِ، وَقِيلَ الضَّيِّقُ الْمَشْيِ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ: إِنْ مَشَى وَثْبًا فَهُوَ قَطُوفٌ، وَإِنْ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ عَلَى رِجْلَيْهِ فَهُوَ سَبُوتٌ، وَإِنِ الْتَوَى بِرَاكِبِهِ فَهُوَ قَمُوصٌ، وَإِنْ مَنَعَ ظَهْرَهُ فَهُوَ شَمُوسٌ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: يَقْطِفُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِضَمِّهَا وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْهِبَةِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: فَرَكِبَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا، وَقَوْلُهُ: لَا يُجَارَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَيْ لَا يُسَابَقُ، لِأَنَّهُ لَا يُسْبَقُ فِي الْجَرْيِ، وَفِيهِ بَرَكَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهِ رَكِبَ مَا كَانَ بَطِيئًا فَصَارَ سَابِقًا، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ الْمَذْكُورَةِ: فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ

ص: 70

‌56 - بَاب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ

2868 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنْ الْخَيْلِ مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: سُفْيَانُ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَبَيْنَ ثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ وَالسَّبْقُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مَصْدَرٌ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَبِالتَّحْرِيكِ الرَّهْنُ الَّذِي يُوضَعُ لِذَلِكَ.

‌57 - بَاب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ

2869 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَكَانَ أَمَدُهَا مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَمَدًا غَايَةً فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ.

ثُمَّ قَال: (بَابُ إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُسَابَقَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِضْمَارُ الْخَيْلِ وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي لَا تُضْمَرُ لَا تَمْتَنِعُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا.

‌58 - بَاب غَايَةِ السَّبْاقِ لِلْخَيْلِ الْمُضَمَّرَةِ

2870 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ الْحَفْيَاءِ وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ لِمُوسَى: فَكَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ قُلْتُ: فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَقَ فِيهَا.

ثُمَّ قَال: (بَابُ غَايَةِ السِّبَاقِ لِلْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ) أَيْ بَيَانُ ذَلِكَ وَبَيَانُ غَايَةِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ، وَذَكَرَ فِي الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: (مِنَ الْحَفْيَاءِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ وَمَدٌّ: مَكَانٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ

(1)

وَيَجُوزُ الْقَصْرُ، وَحَكَى الْحَازِمِيُّ تَقْدِيمَ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْفَاءِ وَحَكَى عِيَاضٌ ضَمَّ أَوَّلِهِ وَخَطَّأَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: أَجْرَى قَالَ فِي الَّتِي تَلِيهَا: سَابَقَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهَا: قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ فِيمَنْ

(1)

بياض في الأصل. ولعله: "من جهة سافلتها" كما في مادة "النقيع" من معجم ما استعجم، للبكري.

ص: 71

أَجْرَى وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا وَسُفْيَانُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ الثَّوْرِيُّ وَشَيْخُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: عَنِ اللَّيْثِ مُخْتَصَرَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا تَامَّةً النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْأُولَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ سُفْيَانُ:، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ فَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ كَذَا رُوِينَاهُ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَصْرِيحَ الثَّوْرِيِّ عَنْ شَيْخِهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ فِيهِ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ وَهُوَ الْأَزْرَقُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي آخِرِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى فَوَثَبَ بِي فَرَسِي جِدَارًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ فِيهِ: فَسَبَقْتُ النَّاسَ فَطَفَفَ بِي الْفَرَسُ مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ أَيْ: جَاوَزَ بِيَ الْمَسْجِدَ الَّذِي كَانَ هُوَ الْغَايَةُ، وَأَصْلُ التَّطْفِيفِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الثَّانِيَةِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ: أَمَدًا: غَايَةً.

فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ النَّابِغَةُ:

سَبَقَ الْجَوَادُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ

وَمُعَاوِيَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْأَزْدِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: قَالَ سُفْيَانُ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَسْنِدْ سُفْيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، إِلَّا أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الْحَفْيَاءِ وَالثَّنِيَّةِ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، وَقَالَ مُوسَى سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ وَهُوَ اخْتِلَافٌ قَرِيبٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي الْمَسَافَةِ الثَّانِيَةِ: مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِدْرَاجُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِالسِّتَّةِ وَبِالْمِيلِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا تَرْجَمَ لِطَرِيقِ اللَّيْثِ بِالْإِضْمَارِ وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ ; لِيُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا يَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي تَرَاجِمِهِ بَلْ رُبَّمَا تَرْجَمَ مُطْلَقًا لِمَا قَدْ يَكُونُ ثَابِتًا وَلِمَا قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِضْمَارُ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ أَيْ هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ فَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي سَاقَهَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَوْ كَانَ غَرَضُهُ الِاقْتِصَارُ الْمُجَرَّدُ لَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الطَّرَفِ الْمُطَابِقِ لِلتَّرْجَمَةِ أَوْلَى، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلنُّكْتَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَيْضًا فَلِإِزَالَةِ اعْتِقَادِ أَنَّ التَّضْمِيرَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ سَوْقِهَا وَالْخَطَرِ فِيهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ بَلْ مَشْرُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ بَلْ أَفَادَ النُّكْتَةَ فِي الِاقْتِصَارِ.

قَوْلُهُ: (أُضْمِرَتْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تُضْمَرْ بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: أَنْ تُعْلَفَ الْخَيْلُ حَتَّى تَسْمَنَ وَتَقْوَى ثُمَّ يُقَلَّلُ عَلَفُهَا بِقَدْرِ الْقُوتِ وَتُدْخَلُ بَيْتًا وَتُغَشَّى بِالْجِلَالِ حَتَّى تَحْمَى فَتَعْرَقَ فَإِذَا جَفَّ عَرَقُهَا خَفَّ لَحَمُهَا وَقَوِيَتْ عَلَى الْجَرْيِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمُسَابَقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَبَثِ بَلْ مِنَ الرِّيَاضَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ فِي الْغَزْوِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِبَاحَةِ بِحَسَبِ الْبَاعِثِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَعَلَى الْأَقْدَامِ، وَكَذَا التَّرَامِي بِالسِّهَامِ وَاسْتِعْمَالُ الْأَسْلِحَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِضْمَارِ الْخَيْلِ، وَلَا يَخْفَى اخْتِصَاصُ اسْتِحْبَابِهَا بِالْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ لِلْغَزْوِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِعْلَامِ بِالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ، وَفِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْآمِرِ بِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَابَقَ أَيْ أَمَرَ أَوْ أَبَاحَ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلْمُرَاهَنَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ تَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لَهُ بَابُ الْمُرَاهَنَةِ عَلَى الْخَيْلِ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُكَبِّرِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَرَاهَنَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لَكِنْ قَصَرَهَا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ وَالنَّصْلِ، وَخَصَّهُ

ص: 72

بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْخَيْلِ، وَأَجَازَهُ عَطَاءٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا بِعِوضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَسَابِقَيْنَ كَالْإِمَامِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ مَعَهُمْ فَرَسٌ وَجَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنَ، وَكَذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ مُحَلِّلٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ مِنْهُمَا سَبْقًا فَمَنْ غَلَبَ أَخَذَ السَّبْقَيْنِ فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي الْمُحَلِّلِ أَنْ يَكُونَ لَا يَتَحَقَّقُ السَّبْقُ فِي مَجْلِسِ السَّبْقِ.

وَفِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ كَوْنُهَا مَرْكُوبَةً لَا مُجَرَّدَ إِرْسَالِ الْفَرَسَيْنِ بِغَيْرٍ رَاكِبٍ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: وَأَنَّ عَبَدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَشْتَرِطُ الرُّكُوبَ لَا يَمْنَعُ صُورَةَ الرُّكُوبِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْخَيْلَ لَا تَهْتَدِي بِأَنْفُسِهَا لِقَصْدِ الْغَايَةِ بِغَيْرِ رَاكِبٍ وَرُبَّمَا نَفَرَتْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِالرُّكُوبِ، فَلَوْ أَنَّ السَّائِسَ كَانَ مَاهِرًا فِي الْجَرْيِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ فَرَسٍ سَاعٍ يَهْدِيهَا إِلَى الْغَايَةِ لَأَمْكَنَ، وَفِيهِ جَوَازُ إِضَافَةِ الْمَسْجِدِ إِلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ الْبَهَائِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِمَا يَكُونُ تَعْذِيبًا لَهَا فِي غَيْرِ الْحَاجَةِ كَالْإِجَاعَةِ وَالْإِجْرَاءِ وَفِيهِ تَنْزِيلُ الْخَلْقِ مَنَازِلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَايَرَ بَيْنَ مَنْزِلَةِ الْمُضْمَرِ وَغَيْرِ الْمُضْمَرِ وَلَوْ خَلَطَهُمَا لَأَتْعَبَ غَيْرَ الْمُضْمَرِ.

‌59 - بَاب نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ وَقَالَ الْمِثوَرُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ

2871 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ.

[الحديث 2871 - طرفه في: 2872]

2872 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لَا تُسْبَقُ قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.

طَوَّلَهُ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا أَفْرَدَ لِلنَّاقَةِ فِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَضْبَاءَ وَالْقَصْوَاءَ وَاحِدَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْمِسْوَرُ مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَاضِي مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ وَفِيهِ ضَبْطُ الْقَصْوَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْأَزْدِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (طَوَّلَهُ مُوسَى، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ) أَيْ رَوَاهُ مُطَوَّلًا، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ هُنَا، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ عَدَا الْهَرَوِيِّ بَعْدَ سِيَاقِ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ سِيَاقُهُ بِأَطْوَلَ مِنْ سِيَاقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، نَعَمْ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ سِيَاقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ فَتَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ الْمُسْتَمْلِي، وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لِمَا

ص: 73

وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ حُمَيْدٍ مِنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ رُوِي مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ ثُمَّ وَجَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ أَيْضًا مُطَوَّلًا فَأَخْرَجَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا تُسْبَقُ قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ) شَكٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَقَوْلُهُ:(أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا) وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ، وَكَذَا قَالَ النُّفَيْلِيُّ، عَنْ زُهَيْرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْءٌ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ: فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَبَقَهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيمٍ فَسَابَقَهَا فَسَبَقَهَا وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: سَابَقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الشَّدِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى قَعُودٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ مَا اسْتَحَقَّ الرُّكُوبَ مِنَ الْإِبِلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْبَكْرُ حَتَّى يُرْكَبَ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ سَنَتَيْنِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ السَّادِسَةَ فَيُسَمَّى جَمَلًا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُقَالُ إِلَّا لِلذَّكَرِ، وَلَا يُقَالُ لِلْأُنْثَى قَعُودَةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا قَلُوصٌ، قَالَ: وَقَدْ حَكَى الْكِسَائِيُّ فِي النَّوَادِرِ قَعُودَةٌ لِلْقَلُوصِ، وَكَلَامُ الْأَكْثَرِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْقَعُودَةُ مِنَ الْإِبِلِ مَا يُقْعِدُهُ الرَّاعِي لِحَمْلِ مَتَاعِهِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى عَرَفَهُ) أَيْ عَرَفَ أَثَرَ الْمَشَقَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ الْحَدِيثَ. وَالْعَضْبَاءُ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَمَدٌّ هِيَ الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ أَوِ الْمَشْقُوقَةُ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: كَانَ ذَلِكَ لَقَبًا لَهَا لِقَوْلِهِ: تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ. وَلِقَوْلِهِ: يُقَالُ لَهَا: الْعَضْبَاءُ وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَتُهَا لَمْ يُحْتَجْ لِذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَضْبَاءُ مَنْقُولٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاقَةٌ عَضْبَاءُ أَيْ قَصِيرَةُ الْيَدِ، وَاخْتُلِفَ هَلِ الْعَضْبَاءُ هِيَ الْقَصْوَاءُ أَوْ غَيْرُهَا؟ فَجَزَمَ الْحَرْبِيُّ بِالْأَوَّلِ، وَقَالَ: تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ وَالْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِالثَّانِي وَقَالَ: الْجَدْعَاءُ كَانَتْ شَهْبَاءَ وَكَانَ لَا يَحْمِلُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحَيِ غَيْرُهَا، وَذُكِرَ لَهُ عِدَّةُ نُوقٍ غَيْرُ هَذِهِ تَتَبَّعَهَا مَنِ اعْتَنَى بِجَمْعِ السِّيرَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ اتِّخَاذُ الْإِبِلِ لِلرُّكُوبِ وَالْمُسَابَقَةِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ: التَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا اتَّضَعَ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ. وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوَاضُعُهُ وَعَظَمَتُهُ فِي صُدُورِ أَصْحَابِهِ.

‌60 - بَابَ الْغَزْوِ عَلَى الْحَمِيرِ

قَوْلُهُ (بَابُ الْغَزْوِ عَلَى الْحَمِيرِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَضَمَّ النَّسَفِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ الَّتِي بَعْدَهَا فقال: بَابُ الْغَزْوِ عَلَى الْحَمِيرِ، وَبَغْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْحَالَيْنِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَسْهَلُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَ التَّرْجَمَةَ وَأَخْلَى بَيَاضًا لِلْحَدِيثِ اللَّائِقِ بِهَا فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ طَرِيقًا لِحَدِيثِ مُعَاذٍ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَكَوْنُهُ كَانَ رَاكِبَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَضَرِ وَفِي السَّفَرِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ فَلَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ إِلَّا ذِكْرُ الْبَغْلَةِ خَاصَّةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَخْلَى آخِرَ الْبَابِ بَيَاضًا كَمَا قُلْنَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، أَوْ يُؤْخَذُ حُكْمُ الْحِمَارِ مِنَ الْبَغْلَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ.

‌61 - بَاب بَغْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ

قَالَهُ أَنَسٌ، وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ

ص: 74

2873 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً.

2874 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.

قَوْلُهُ (بَابُ بَغْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءَ) قَالَهُ أَنَسٌ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا مَعَ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي وَفِيهِ: وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ مَضَى مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرَ كِتَابٍ الزَّكَاةِ وَفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ وَزِيَادَةٌ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْمِ صَاحِبِ أَيْلَةَ هُنَاكَ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الْبَغْلَةَ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حُنَيْنٍ غَيْرُ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِكُ أَيْلَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تَبُوكَ وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ كَانَتْ قَبْلَهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ فِي حُنَيْنٍ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ بِضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ خَفِيفَةٌ ثُمَّ مُثَلَّثَةٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ دُلْدُلٌ وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، وَأَنَّ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ يُقَالُ لَهَا: فِضَّةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَذَكَرَ عَكْسَهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي مُسْلِمٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ أَخُو جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَصَايَا وَأَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي فِي الْوَفَاةِ آخِرَ الْمَغَازِي.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَفِيهِ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْبِغَالِ وَإِنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَخَذَ بِهِ قَوْمٌ فَحَرَّمُوا ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى تَكْثِيرِ الْخَيْلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الثَّوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ.

‌62 - بَاب جِهَادِ النِّسَاءِ

2875 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا.

2876 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهَذَا وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ

ص: 75

طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ نِسَاؤُهُ عَنْ الْجِهَادِ فَقَالَ: نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ جِهَادِ النِّسَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ، وَمَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: جِهَادُ الْكَبِيرِ - أَيِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ - وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدَ) هُوَ الْعَدَنِيُّ، وَرِوَايَتُهُ مَوْصُولَةٌ فِي: جَامِعِ سُفْيَانَ

وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ هُوَ مَوْصُولٌ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ الْمَذْكُورَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ عَنْ سُفْيَانَ إِسْنَادَيْنِ وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ كَذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَتَطَوَّعْنَ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِنَّ وَاجِبًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُغَايَرَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُنَّ مِنَ السِّتْرِ وَمُجَانَبَةِ الرِّجَالِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُنَّ مِنَ الْجِهَادِ.

قُلْتُ: وَقَدْ لَمَّحَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ فِي إِيرَادِهِ التَّرْجَمَةَ مُجْمَلَةً وَتَعْقِيبَهَا بِالتَّرَاجِمِ الْمُصَرِّحَةِ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْجِهَادِ.

‌63 - بَاب غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ

2877، 2878 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا ثُمَّ ضَحِكَ فَقَالَتْ: لِمَ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ فَضَحِكَ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ أَوْ مِمَّ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَسْتِ مِنْ الْآخِرِينَ، قَالَ أَنَسٌ: فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ فَلَمَّا قَفَلَتْ رَكِبَتْ دَابَّتَهَا فَوَقَصَتْ بِهَا فَسَقَطَتْ عَنْهَا فَمَاتَتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةٍ أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَنَسٌ: فَتَزَوَّجَتْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ: وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ زَوْجَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا جَوَابُ ابْنِ التِّينِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً أَرَادَ الرَّاوِي وَصْفَهَا بِهِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ عَلَى أَنَّ عُبَادَةَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، وَقَولُهُ فِي آخِرِهِ: فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ مَعَ بِنْتِ قَرَظَةَ هِيَ زَوْجُ مُعَاوِيَةَ وَاسْمُهَا فَاخِتَةُ وَقِيلَ: كَنُودٌ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُتْبَةَ بْنِ سَهْلٍ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَهَذِهِ

ص: 76

رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ فِي مُوطَآتِهِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَمَّنْ سَمِعَ، قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلْغَزَاةِ، وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَأَبُوهَا قَرَظَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ عَمْروِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ نَوْفَلِيَّةٌ، وَظَنَّ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهَا بَنَتُ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ فَوَهِمَ، وَالَّذِي قُلْتُهُ صَرَّحَ بِهِ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ وَزَادَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَالْبَلَاذُرِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَيْضًا وَذَكَرَ أَنَّ قَرَظَةَ بْنَ عَبْدِ عَمْروٍ مَاتَ كَافِرًا فَيَكُونُ لَهَا هِيَ رُؤْيَةٌ، وَكَذَا لِأَخِيهَا مُسْلِمُ بْنُ قَرَظَةَ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ مَعَ عَائِشَةَ

(تَنْبِيهَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ):

أَحَدُهُمَا: وَقَعَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ، وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ سَقَطَ بَيْنَهُمَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةُ وَأَقَرَّهُ الْمِزِّيُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَوَّاهُ بِأَنَّ الْمُسَيَّبَ بْنَ وَاضِحٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: تَأَمَّلْتُهُ فِي السِّيَرِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا زَائِدَةَ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زَائِدَةُ، وَرِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ وَاضِحٍ خَطَأٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَقْضِي بِزِيَادَتِهِ عَلَى خَطَأ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو شَيْخِ شيخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ سَوَاءٌ لَيْسَ فِيهِ زَائِدَةُ، وَسَبَبُ الْوَهْمِ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ عَمْرٍو رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، فَظَنَّ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَائِدَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزَائِدَةَ مَعًا، جَمَعَهُمَا تَارَةً وَفَرَّقَهُمَا أُخْرَى، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ عَاطِفًا لِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ زَائِدَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ وَحْدَهُ بِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّائِغِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ فَوَضَحَتْ صِحَّةُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

ثَانِيهِمَا: هَذَا الْحَدِيثُ، رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ، إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو طُوَالَةَ، فَقَالَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ وَقَالَ أَبُو طُوَالَةَ فِي رِوَايَتِهِ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بِنْتِ مِلْحَانَ وَكِلَاهُمَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فقال: عَنْ أَنَسٍ، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ حَرَامٍ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ عَنْ خَالَتِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، عُمَيْرُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَقَدْ أَحَالَ الْمِزِّيُّ بِرِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ عَلَى مُسْنَدِ أُمِّ حَرَامٍ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَأَوْهَمَ خِلَافَ الْوَاقِعِ الَّذِي حَرَّرْتُهُ، وَاللَّهُ الْهَادِي.

‌64 - بَاب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ

2879 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ يَخْرُجُ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قبل أن ينْزِلَ الْحِجَابُ.

ص: 77

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الْإِفْكِ تَامًّا فِي التَّفْسِيرِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ حَمْلَ عَائِشَةَ مَعَهُ كَانَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ بَيْنَ نِسَائِهِ.

‌65 - بَاب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ

2880 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِنَّ تَنْقُزَانِ الْقِرَبَ - وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ - عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِه فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.

[الحديث 2880 - أطرافه في: 2902، 3811، 4064]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ) وَقَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ الَّذِي مَضَى فِي الْحَيْضِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى الْحَدِيثَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مُرْسَلٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النِّسَاءُ يَشْهَدْنَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَشَاهِدَ وَيَسْقِينَ الْمُقَاتِلَةَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وَلَأَبَى دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَشْرَجِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حُنَيْنٍ وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْنَ: خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ وَنَسْقِي السَّوِيقَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُنَّ قَاتَلْنَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: بَوَّبَ عَلَى قِتَالِهِنَّ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ.

فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ إِعَانَتَهُنَّ لِلْغُزَاةِ غَزْوٌ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُنَّ مَا ثَبَتْنَ لِسَقْيِ الْجَرْحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا وَهُنَّ بِصَدَدِ أَنْ يُدَافِعْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَهُوَ الْغَالِبُ انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ خِنْجَرًا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُ الْبُخَارِيِّ بِالتَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُنَّ لَا يُقَاتِلْنَ وَإِنْ خَرَجْنَ فِي الْغَزْوِ، فَالتَّقْدِيرُ بِقَوْلِهِ: وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ أَيْ هَلْ هُوَ سَائِغٌ، أَوْ إِذَا خَرَجْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْغَزْوِ يَقْتَصِرْنَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مُدَاوَاةِ الْجَرْحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ الْحَدِيثَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْمَغَازِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: خَدَمُ سُوقِهِمَا بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ الْخَلَاخِيلُ، وَهَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلنَّظَرِ، وَقَوْلُهُ: تَنْقُزَانِ بِضَمِّ الْقَافِ بَعْدَهَا زَايٌ وَالْقِرَبَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ قِرْبَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ يَعْنِي بِاللَّامِ دُونَ الزَّايِ وَهِيَ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَوْلُهُ: تَنْقُزَانِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ تُسْرِعَانِ الْمَشْيَ كَالْهَرْوَلَةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: قِيلَ: مَعْنَى تَنْقُزَانِ تَثِبَانِ، وَالنَّقْزُ: الْوَثْبُ وَالْقَفْزُ، كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ، وَضَبَطُوا الْقِرَبَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ تَنْقُلَانِ، قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَقْرَؤُهُ بِرَفْعِ الْقِرَبِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ، وَقَدْ تخْرُجَ رِوَايَةُ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قَالَ: تَثِبَانِ بِالْقِرَبِ، قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ تُنْقِزَانِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ

ص: 78

أَيْ تُحَرِّكَانِ الْقِرَبَ لِشِدَّةِ عَدْوِهِمَا، وَتَصِحُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ النَّصْبِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحْسَبُ الرِّوَايَةَ: تَزْفِرَانِ بَدَلَ تَنْقُزَانِ، وَالزَّفْرُ حَمْلُ الْقِرَبِ الثِّقَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌66 - بَاب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِي الْغَزْوِ

2881 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ. وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: تَزْفِرُ: تَخِيطُ.

[الحديث 2881 - طرفه في: 4071]

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبِ إِلَى النَّاسِ فِي الْغَزْوِ) أَيْ جَوَازِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ ثَعْلَبَةَ الْقُرَظِيِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَهُ رِوَايَةٌ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَدِمَ أَبُو مَالِكٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَامٍ مِنَ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَعُرِفَ بِهِمْ وَحَالَفَ الْأَنْصَارَ.

قُلْتُ: وَكَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ قَدْ فَشَتْ فِي الْيَمَنِ فَلِذَلِكَ صَاهَرَهُمْ أَبُو مَالِكٍ، وَكَأَنَّهُ قُتِلَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَدْ ذَكَرَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ أَنَّ ثَعْلَبَةَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ أُثْبِتَ قَوْلُهُ فَتُرِكَ، وَكَانَ ثَعْلَبَةُ إِمَامَ قَوْمِهِ. وَلَهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، لَكِنْ جَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ بِالْإِخْبَارِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ سَيَأْتِي فِي بَابِ لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ) كَانَ عُمَرُ قَدْ تَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ وَلِهَذَا قَالُوا لَهَا: بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ فِي حَيَاتِهِ وَهِيَ أَصْغَرُ بَنَاتِ فَاطِمَةَ عليها السلام.

قَوْلُهُ: (أُمُّ سَلِيطٍ) كَذَا فِيهِ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَزْنُ رَغِيفٍ، وَلَمْ أَرَ لَهَا فِي كُتُبِ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ ذِكْرًا إِلَّا فِي الِاسْتِيعَابِ فَذَكَرَهَا مُخْتَصَرَةً بِالَّذِي هُنَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِ النِّسَاءِ وَقَالَ: هِيَ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي مَازِنٍ، تَزَوَّجَهَا أَبُو سَلِيطِ بْنُ أَبِي حَارِثَةَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ مَنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فَوَلَدَتْ لَهُ سَلِيطًا وَفَاطِمَةَ، يَعْنِي فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ سَلِيطٍ، وَذُكِرَ أَنَّهَا شَهِدَتْ خَيْبَرَ وَحُنَيْنًا، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِ شُهُودِهَا أُحُدًا وَهُوَ ثَابِتٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ عِمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ شَبِيهًا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ لَكِنْ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَعْطِهِ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ زَوْجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:: مَا الْتَفَتُّ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا يَوْمَ أُحُدٍ إِلَّا وَأَنَا أَرَاهَا تُقَاتِلُ دُونِي فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقِصَّةَ تَعَدَّدَتْ.

قَوْلُهُ: (تَزْفِرُ) بِفَتْحِ أَوَّلَهُ وَسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ تَحْمِلُ وَزْنًا وَمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: تَزْفِرُ تَخِيطُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ وَإِنَّمَا الزَّفْرُ الْحَمْلُ وَهُوَ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: زَفَرَ بِالْحَمْلِ زَفْرًا نَهَضَ بِهِ وَالزَّفْرُ أَيْضًا الْقِرْبَةُ نَفْسُهَا وَقِيلَ: إِذَا كَانَتْ مَمْلُوءَةً مَاءً، وَيُقَالُ لِلْإِمَاءِ إِذَا حَمَلْنَ الْقِرَبَ زَوَافِرُ، وَالزَّفْرُ أَيْضًا الْبَحْرُ الْفَيَّاضُ، وَقِيلَ: الزَّافِرُ الَّذِي يُعِيِنُ فِي حَمْلِ الْقِرْبَةِ. قُلْتُ: وَقَعَ

ص: 79

عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَزْفِرُ تَحْمِلُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ: تَزْفِرُ تَخْرِزُ. قُلْتُ: فَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌67 - بَاب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ

2882 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ.

[الحديث 2882 - طرفاه في: 2883، 5679]

‌68 - بَاب رَدِّ النِّسَاءِ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى

2883 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى) أَيْ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ (فِي الْغَزْوِ).

ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: (بَابُ رَدِّ النِّسَاءِ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَزَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الرُّبَيِّعِ) بِالتَّشْدِيدِ، وَأَبُوهَا مُعَوِّذٌ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. لَهَا وَلِأَبِيهَا صُحْبَةٌ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي) كَذَا أَوْرَدَهُ فِي الْأَوَّلِ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ وَأَوْفَى بِالْمَقْصُودِ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ وَلَا نُقَاتِلُ وَفِيهِ جَوَازُ مُعَالَجَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ بِالْمُتَجَالَّاتِ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجُرْحِ لَا يُلْتَذُّ بِلَمْسِهِ بَلْ يَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِلْدُ، فَإِنْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ لِغَيْرِ الْمُتَجَالَّاتِ فَلْيَكُنْ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مَسٍّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَتْ وَلَمْ تُوجَدِ امْرَأَةٌ تُغَسِّلُهَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُبَاشِرُ غُسْلَهَا بِالْمَسِّ بَلْ يُغَسِّلُهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ كَالزُّهْرِيِّ وَفِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ تُيَمَّمُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُدْفَنُ كَمَا هِيَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْمُدَاوَاةِ وَتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ أَنَّ الْغُسْلَ عِبَادَةٌ وَالْمُدَاوةَ ضَرُورَةٌ. وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

‌69 - بَاب نَزْعِ السَّهْمِ مِنْ الْبَدَنِ

2884 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: رُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فقَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ.

[الحديث 2884 - طرفاه في: 4323، 6382]

ص: 80

قَوْلُهُ: (بَابُ نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّةِ عَمِّهِ أَبِي عَامِرٍ بِاخْتِصَارٍ، وَسَاقَهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِتَمَامِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ جَوَازُ نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ فِي غِبَّه الْمَوْتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِذَا كَانَ يَرْجُو الِانْتِفَاعَ بِذَلِكَ، قَالَ: وَمِثْلُهُ الْبَطُّ وَالْكَيُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ تَرْجَمَ بِهَذَا لِئَلَّا يُتَخَيَّلَ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُنْزَعُ مِنْهُ السَّهْمُ بَلْ يَبْقَى فِيهِ، كَمَا أَمَرَ بِدَفْنِهِ بِدِمَائِهِ حَتَّى يُبْعَثَ كَذَلِكَ، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ هَذَا مِمَّا شُرِعَ انْتَهَى. وَالَّذِي قَالَهُ الْمُهَلَّبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدُ، وَالَّذِي أَبْدَاهُ ابْنُ الْمُنِيرِ يَتَعَلَّقُ بِنَزْعِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ.

‌70 - بَاب الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2885 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلَاحٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ فنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2885 - طرفه في: 7231]

2886 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ.

[الحديث 2886 - طرفاه في: 2887، 6435]

2887 -

وَزَادَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ".

قال أبو عبد الله: لم يرفعْه إسرائيل ومحمَّد بن جُحادة عن أبي حصَين. وَقَالَ: "تَعْسًا" فكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَأَتْعَسَهُمْ اللَّهُ. "طُوبَى" فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ، وَهِيَ يَاءٌ حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ، وَهِيَ مِنْ يَطِيبُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَينِ.

أَحَدُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ هُوَ الْعَنَزِيُّ لَهُ رؤية وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ.

ص: 81

قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ زَمَانَ السَّهَرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ السَّهَرَ كَانَ قَبْلَ الْقُدُومِ وَالْقَوْلَ بَعْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَالَ فِيهِ: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدِمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً فقال: فَذَكَرَهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ السَّهَرَ وَالْقَوْلَ مَعًا كَانَا بَعْدَ الْقُدُومِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَسْهَرُ مِنَ اللَّيْلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقُدُومِهِ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَلَا كَانَ سَعْدٌ أَيْضًا مِمَّنْ سَبَقَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهِيَ إِلَى جَنْبِهِ، قَالَتْ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ.

قَوْلُهُ: (جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ) فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ: وَقْعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّمَنِّي مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخْذُ بِالْحَذَرِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْعَدُوِّ وَأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحْرُسُوا سُلْطَانَهُمْ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.

وَفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ تَبَرَّعَ بِالْخَيْرِ وَتَسْمِيَتُهُ صَالِحًا، وَإِنَّمَا عَانَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مَعَ قُوَّةِ تَوَكُّلِهِ لِلِاسْتِنَانِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ كَانَ أَمَامَ الْكُلِّ. وَأَيْضًا فَالتَّوَكُّلُ لَا يُنَافِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهِيَ عَمَلُ الْبَدَنِ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: نُسِخَ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ ; وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُنَافِي الْحِرَاسَةَ كَمَا أَنَّ إِعْلَامَ اللَّهِ نَصْرَ دِينِهِ وَإِظْهَارَهُ مَا يَمْنَعُ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَإِعْدَادِ الْعُدَدِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ أَوْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قال أبو عبد الله: لَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَقَالَ: تَعْسًا فكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَأَتْعَسَهُمْ اللَّهُ طُوبَى فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ وَهِيَ يَاءٌ حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ وَهِيَ مِنْ يَطِيبُ.

ثَانِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

قَوْلُهُ: (وَزَادَ لَنَا عَمْرُو) ابْنُ مَرْزُوقٍ هَكَذَا، وَعَمْرٌو هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَجَمِيعُ الْإِسْنَادِ سِوَاءٌ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ تَابِعِيَّانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: تَعِسَ وَانْتَكَسَ إِلَخْ وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَسَيَأْتِي مَزِيدًا لِهَذَا فِي التَّمَنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ) الْحَدِيثَ سَيَأْتِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَنَذْكُرُ شَرْحَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ الْحَدِيثَ لِقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ.

قَوْلُهُ: (تَعِسَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمِلَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَهُوَ ضِدُّ سَعِدَ، تَقُولُ: تَعِسَ فُلَانٌ أَيْ شَقِيَ، وَقِيلَ: مَعْنَى التَّعَسِ الْكَبُّ عَلَى الْوَجْهِ، قَالَ الْخَلِيلُ: التَّعَسُ أَنْ يَعْثُرَ فَلَا يَفِيقُ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَقِيلَ: التَّعَسُ الشَّرُّ، وَقِيلَ: الْبُعْدُ، وَقِيلَ: الْهَلَاكُ، وَقِيلَ: التَّعَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَالنَّكَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: تَعِسَ أَخْطَأَ حُجَّتَهُ وَبُغْيَتَهُ.

وَقَوْلُهُ وَانْتَكَسَ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ عَاوَدَهُ الْمَرَضُ، وَقِيلَ: إِذَا سَقَطَ اشْتَغَلَ بِسَقْطَتِهِ حَتَّى يَسْقُطَ أُخْرَى. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ انْتَكَشَ، بِالْمُعْجَمَةِ وَفَسَّرَهُ بِالرُّجُوعِ، وَجَعَلَهُ دُعَاءً لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) شِيكَ: بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا كَافٌ، وَانْتَقَشَ: بِالْقَافِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَالْمَعْنَى إِذَا أَصَابَتْهُ الشَّوْكَةُ فَلَا وَجَدَ مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْهُ بِالْمِنْقَاشِ، تَقُولُ: نَقَشْتُ الشَّوْكَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الْقَافِ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ لَكِنْ مَعَ ذِكْرِ الشَّوْكَةِ

ص: 82

تَقْوَى رِوَايَةُ الْقَافِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَإِذَا شِيتَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ بَدَلَ الْكَافِ وَهُوَ تَغْيِيرٌ فَاحِشٌ، وَفِي الدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ مَقْصُودِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَثَرَ فَدَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ الشَّوْكَةُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْرِجُهَا يَصِيرُ عَاجِزًا عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ: طُوبَى لِعَبْدٍ إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَضِّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (أَشْعَثَ) صِفَةٌ لِعَبْدٍ وَهُوَ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ لِعَدَمِ الصَّرْفِ وَرَأْسُهُ بِالرَّفْعِ الْفَاعِلُ، قَالَ الطِّيبِي: أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٌ قَدَّمَاهُ حَالَانِ مِنْ قَوْلِهِ: لَعَبْدٌ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ الرَّفْعُ وَلَمْ يُوَجِّهْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَيَجُوزُ فِي أَشْعَثَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ رَأْسٍ، أَيْ رَأْسُهُ أَشْعَثُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: مُغْبَرَّةٌ قَدَمَاهُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ) هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اتَّحَدَ فِيهَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَفْظًا لَكِنَّ الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ كَانَ الْمُهِمُّ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِيهَا، وَقِيلَ: مَعْنَى فَهُوَ فِي الْحِرَاسَةِ أَيْ فَهُوَ فِي ثَوَابِ الْحِرَاسَةِ، وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ فَهُوَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: لَازِمُهُ أَيْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِلَوَازِمِهِ وَيَكُونَ مُشْتَغِلًا بِخُوَيْصَّةِ عَمَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ خَامِلُ الذِّكْرِ لَا يَقْصِدُ السُّمُوَّ، فَإِنِ أنفق لَهُ السَّيْرُ سَارَ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ اسْتَمَرَّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ اسْتَمَرَّ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) فِيهِ تَرْكُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالشُّهْرَةِ وَفَضْلُ الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَتَعْسًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ فَأَتْعَسَهُمُ اللَّهُ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَهِيَ عَلَى عَادَةِ الْبُخَارِيِّ فِي شَرْحِ اللَّفْظَةِ الَّتِي تُوَافِقُ مَا فِي الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِهَا، وَهَكَذَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ}

قَوْلُهُ: (طُوبَى فُعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ، وَهِيَ يَاءٌ حُوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ وَهُوَ مِنْ يَطِيبُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَيْضًا وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، لِأَنَّ طُوبَى أَشْهَرُ شَجَرِهَا وَأَطْيَبُهُ، فَدَعَا لَهُ أَنْ يَنَالَهَا، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ مَلْزُومُ نَيْلِهَا.

(تَكْمِيلٌ):

وَرَدَ فِي فَضْلِ الْحِرَاسَةِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، مِنْهَا حَدِيثُ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا: حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا وَيُصَامُ نَهَارُهَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثُ أَبِي رَيْحَانَةَ مَرْفُوعًا: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَنَحْوُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ، وَلِلْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ.

‌71 - بَاب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ

2888 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ. قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّي رَأَيْتُ الْأَنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ.

2889 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ

ص: 83

أَخْدُمُهُ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا.

2890 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ) أَيْ فَضْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ صَغِيرٍ لِكَبِيرٍ أَوْ عَكْسِهِ أَوْ مَعَ الْمُسَاوَاةِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ الثَّلَاثَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا حُكْمُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَثَلَاثَتُهَا عَنْ أَنَسٍ.

الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ) بِمُهْمِلَتَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي: الْأَوْسَطِ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخٍ الْبُخَارِيِّ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْبَاقُونَ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلَيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ خَرَجَ مَعَ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ فِي سَفَرٍ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَخْدُمُنِي وَهُوَ أَكْبَرُ مَنْ أَنِسٍ) فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَنِسٍ، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ عَرْعَرَةَ، وَكَانَ جَرِيرٌ أَكْبَرَ مِنْ أَنَسٍ وَلَعَلَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِ ثَابِتٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلْ.

قَوْلُهُ: (يَصْنَعُونَ شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ نَصْرٍ: يَصْنَعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، أَيْ مِنَ التَّعْظِيمِ وَأَبْهَمَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَكْثِيرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ) فِي رِوَايَةِ نَصْرٍ آلَيْتُ - أَيْ حَلَفْتُ - أَنْ لَا أَصْحَبَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا خَدَمْتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَرْعَرَةَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ الْأَنْصَارَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْأَنْصَارِ وَفَضْلُ جَرِيرٍ وَتَوَاضُعُهُ وَمَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهَا، وَأَلْيَقُ الْمَوَاضِعِ بِهَا الْمَنَاقِبُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ أَيْضًا: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ بَعْدَ بَابَيْنِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَنَسٍ أَيْضًا، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُوَرِّقٌ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ فِي نَسَقٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ: فِي سَفَرٍ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ.

قَوْلُهُ: (أَكْثَرُنَا ظِلًّا مَنْ يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَأَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ وَزَادَ: وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَسَقَطَ الصُّوَّامُ أَيْ عَجَزُوا عَنِ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ) أَيْ أَثَارُوا الْإِبِلَ لِخِدْمَتِهَا وَسَقْيِهَا وَعَلَفِهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَضَرَبُوا الْأَخْبِيَةَ وَسَقُوا الرِّكَابَ.

قَوْلُهُ: (بِالْأَجْرِ) أَيِ الْوَافِرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَقْصَ أَجْرِ الصُّوَّامِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُفْطِرِينَ حَصَلَ لَهُمْ أَجْرُ عَمَلِهِمْ وَمِثْلُ أَجْرِ الصُّوَّامِ لِتَعَاطِيهِمْ أَشْغَالَهَمْ وَأَشْغَالَ الصُّوَّامِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: بِالْأَجْرِ كُلِّهِ لِوُجُودِ الصِّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي صُفْرَةَ: فِيهِ أَنَّ أَجْرَ الْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرِ الصِّيَامِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى الْمُعَاوَنَةِ فِي الْجِهَادِ، وَعَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ. وَأَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا يَنْعَقِدُ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ كَوْنِهِ

ص: 84

إِذْ ذَاكَ كَانَ صَوْمُ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الصِّيَامِ وَاقْتَصَرَ عَلَى إِيرَادِهِ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌72 - بَاب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ

2891 -

حَدَّثَنِا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ: يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَالَةَ السَّفَرِ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالسُّلَامَى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الصُّلْحِ مَعَ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي بَقِيَّتُهُ بَعْدَ خَمْسِينَ بَابًا فِي بَابِ مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ.

وَقَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ السَّعْدِيِّ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ وَقِيلَ: بِالضَّمِّ وَالْمُعْجَمَةِ.

وَقَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: (يُعِينُ) يَأْتِي تَوْجِيهُهُ.

وَقَوْلُهُ: (يُحَامِلُهُ) أَيْ يُسَاعِدُهُ فِي الرُّكُوبِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَبَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي بَابِ مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَعَانَ صَاحِبَ الدَّابَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ: وَإِذَا أُجِرَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِدَابَّةِ غَيْرِهِ فَإِذَا حَمَلَ غَيْرَهُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ احْتِسَابًا كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا.

وَقَوْلُهُ: (دَلُّ الطَّرِيقِ) بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْ بَيَانُهُ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الدِّلَالَةِ.

‌73 - بَاب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

2892 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} الْآيَةَ، الرِّبَاطُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ مُلَازَمَةُ الْمَكَانِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْوَطَنِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ فِي إِطْلَاقِهِ فَقَدْ يَكُونُ وَطَنُهُ وَيَنْوِي بِالْإِقَامَةِ فِيهِ دَفْعَ الْعَدُوِّ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ سُكْنَى الثُّغُورِ، فَبَيْنَ الْمُرَابَطَةِ وَالْحِرَاسَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِالْآيَةِ اخْتِيَارٌ لِأَشْهَرِ التَّفَاسِيرِ، فَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وقَتَادَةَ (اصْبِرُوا) عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ (وَصَابِرُوا) أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ (وَرَابِطُوا) فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 85

كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: اصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَصَابِرُوا لِانْتِظَارِ الْوَعْدِ وَرَابِطُوا الْعَدُوَّ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا بَيْنَكُمْ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ وَرَابِطُوا الْخَيْلَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَصْلُ الرِّبَاطِ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خَيْلَهُمْ وَهَؤُلَاءِ خَيْلَهُمِ اسْتِعْدَادًا لِلْقِتَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَتَفْسِيرُهُ بِرِبَاطِ الْخَيْلِ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ وَهُوَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ فِيهِ رِبَاطٌ انْتَهَى. وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَلَمَةَ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِبَاطٌ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ بِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْيَوْمِ فِي التَّرْجَمَةِ وَإِطْلَاقُهُ فِي الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَهَا يُقَيَّدُ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَقَلَّ الرِّبَاطِ يَوْمٌ لِسِيَاقِهِ فِي مَقَامِ الْمُبَالِغَةِ، وَذِكْرُهُ مَعَ مَوْضِعِ سَوْطٍ يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ) هُوَ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ سَمِعَ، وَهِيَ تُحْذَفُ مِنَ الْخَطِّ كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هَذَا مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: وَمَا فِيهَا وَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: وَمَا عَلَيْهَا أَبْلَغُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَاكَ على حَدِيثِ الرَّوْحَةِ وَالْغَدْوَةِ وَكَذَا عَلَى حَدِيثِ: مَوْضِعِ سَوْطِ أَحَدِكُمْ لَكِنْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ رِبَاطُ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ خَيْرٌ م نْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَلِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُثْمَانَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِاخْتِلَافِ الْعَامِلِينَ.

قُلْتُ: أَوْ بِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَلَا يُعَارِضَانِ حَدِيثَ الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صِيَامَ شَهْرٍ وَقِيَامَهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.

‌74 - بَاب مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ

2893 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: الْتَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي وَأَنَا غُلَامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَفِيَّةَ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ

ص: 86

رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُخَاطَبُ بِالْجِهَادِ وَلَكِنْ يَجُوزُ الْخُرُوجُ بِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَيَعْقُوبُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ. وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، وَسَأَذْكُرُ مُعْظَمَ شَرْحِهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ أَحَادِيثِ الِاسْتِعَاذَةِ وَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي الدَّعَوَاتِ، وَقِصَّةُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَالْبِنَاءِ بِهَا وَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأُحُدٍ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَقَوْلُهُ عَنْ الْمَدِينَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرَ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَا صَدْرُهُ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَةِ أَنَسٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ وَفِي رِوَايَةٍ عَشْرَ سِنِينَ وَخَيْبَرُ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا خَدَمَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَبِي طَلْحَةَ: الْتَمِسْ لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ تَعْيِينُ مَنْ يَخْرُجْ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ فَعَيَّنَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ، أَنَسًا، فَيَنْحَطُّ الِالْتِمَاسُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي الْمُسَافَرَةِ بِهِ لَا فِي أَصْلِ الْخِدْمَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَمْلُ الصِّبْيَانِ فِي الْغَزْوِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَتَبِعُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَنَسًا حِينَئِذٍ كَانَ قَدْ زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ عُمْرُهُ عِنْدَ الْهِجْرَةِ

ثَمَانِ سِنِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ الْأُجْرَةِ عَدَمُ وُقُوعِهَا.

قَوْلُهُ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) قِيلَ: هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعٍ مِثْلِ ذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْمَحَبَّةَ فِي بَعْضِ الْجَمَادَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ أَهْلُ أُحُدٍ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَقَالَ الشَّاعِرِ:

وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي

وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا

‌75 - بَاب رُكُوبِ الْبَحْرِ

2894، 2895 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا فِي بَيْتِهَا فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: أَنْتِ مِنْهُمْ، ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَيَقُولُ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ فَتَزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ

ص: 87

بْنُ الصَّامِتِ فَخَرَجَ بِهَا إِلَى الْغَزْوِ فَلَمَّا رَجَعَتْ قُرِّبَتْ دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَوَقَعَتْ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ رُكُوبِ الْبَحْرِ) كَذَا أَطْلَقَ التَّرْجَمَةَ، وَخُصُوصُ إِيرَادِهِ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ يُشِيرُ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْغَزْوِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَوَازِ رُكُوبِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ قَوْلُ مَطَرٍ الْوَرَّاقُ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ إِلَّا بِحَقٍّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ إِذَا ارْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَزُهَيْرٌ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَهُ فِي تَارِيخِهِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَفِيهِ تَقْيِيدُ الْمَنْعِ بِالِارْتِجَاجِ، وَمَفْهُومُهُ الْجَوَازُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا غَلَبَتِ السَّلَامَةُ فَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ سَوَاءٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَهُوَ عَنْ مَالِكٍ، فَمَنَعَهُ لِلْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ رَكِبَهُ لِلْغَزْوِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ فَمَا زَالَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى أَذِنَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ قَرِيبًا وَأَنَّ شَرْحَهُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ.

‌76 - بَاب مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:، أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ قَالَ: قال لِي قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ

2896 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ.

2897 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ نَعَمْ فَيُفْتَحُ".

[الحديث 2897 - طرفاه في: 3594، 3649]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ) أَيْ بِبَرَكَتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ) أَيْ ابْنُ حَرْبٍ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الضُّعَفَاءِ: وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَطَرِيقُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ حِكَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ) أَيْ أَبُو مُصَرِّفٍ.

وَقَوْلُهُ: (عَنْ طَلْحَةَ) أَيِ ابْنِ مُصَرِّفٍ وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الرَّاوِي عَنْهُ وَمُصْعَبُ بْنُ سَعْد أَيِ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَوْلُهُ: (رَأَى سَعْدَ) أَيِ ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ وَالِدُ مُصَعَبٍ الرَّاوِي عَنْهُ. ثُمَّ إِنَّ صُورَةَ هَذَا السِّيَاقِ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ مُصْعَبًا يُدْرِكُ زَمَانَ هَذَا الْقَوْلِ، لَكِنْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ عَنْ مُصْعَبٍ بِالرِّوَايَةِ لَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ،

ص: 88

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ دُونَ مَا فِي أَوَّلِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ مِسْعَرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا أَيْضًا لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ وَلَفْظُهُ: يُنْصَرُ الْمُسْلِمُونَ بِدُعَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي: الْحِلْيَةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْروٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ السَّلَامِ.

قَوْلُهُ: (رَأَى) أَيْ ظَنَّ وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى مَنْ دُونَهُ) زَادَ النَّسَائِيُّ: مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: بِسَبَبِ شَجَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: إِنَّمَا نَصَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعَفَتِهِمْ بِدَعَوَاتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: إِنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الضُّعَفَاءَ أَشَدُّ إِخْلَاصًا فِي الدُّعَاءِ وَأَكْثَرُ خُشُوعًا فِي الْعِبَادَةِ لِخَلَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِزُخْرُفِ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَضَّ سَعْدٍ عَلَى التَّوَاضُعِ وَنَفْيِ الزَّهْوِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَرْكِ احْتِقَارِ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ مَكْحُولٍ فِي قِصَّةِ سَعْدٍ هَذِهِ زِيَادَةً مَعَ إِرْسَالِهَا فَقَالَ: قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ وَيَدْفَعُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَيُكُونُ نَصِيبُهُ كَنَصِيبِ غَيْرِهِ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ إِرَادَةُ الزِّيَادَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سِهَامَ الْقَاتِلَةِ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الْقَوِيُّ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ شَجَاعَتِهِ فَإِنَّ الضَّعِيفَ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ دُعَائِهِ وَإِخْلَاصِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ السِّرُّ فِي تَعْقِيبِ الْمُصَنِّفِ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْروٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَجَابِرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ.

قَوْلُهُ: (يَغْزُو فِئَامٌ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهَمْزَةٍ عَلَى التَّحْتَانِيَّةِ وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهَا أَيْ جَمَاعَةٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِأَنَّهُ يُفْتَحُ لِلصَّحَابَةِ لِفَضْلِهِمْ ثُمَّ لِلتَّابِعِينَ لِفَضْلِهِمْ ثُمَّ لِتَابِعيِهِمْ لِفَضْلِهِمْ، قَالَ: وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّلَاحُ وَالْفَضْلُ وَالنَّصْرُ لِلطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ أَقَلَّ فَكَيْفَ بِمَنْ بَعَدَهُمْ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌77 - بَاب لَا يَقُولُ فُلَانٌ شَهِيدٌ

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ

2898 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى

ص: 89

سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

[الحديث 2898 - أطرافه في: 4202، 4207، 6493، 6607]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ) أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ بِذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ بِالْوَحْيِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ فقال: تَقُولُونَ فِي مَغ ازِيكُمْ فُلَانٌ شَهِيدٌ وَمَاتَ فَلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَدْ أَوْقَرَ رَاحِلَتَهُ، أَلَا لَا تَقُولُوا ذَلِكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَسَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ ثُمَّ فَاءٌ عَنْ عُمَرَ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ؟ قَالُوا: مَنْ أَصَابَهُ السِّلَاحُ قَالَ: كَمْ مَنْ أَصَابَهُ السِّلَاحُ وَلَيْسَ بِشَهِيدٍ وَلَا حَمِيدٍ وَكَمْ مَنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنِفَهُ عِنْدَ اللَّهِ صَدِّيقٌ وَشَهِيدٌ وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْقٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ مُصَغَّرٌ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ الزَّاهِدِ الْمَشْهُورِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ تَعْيِينِ وَصْفِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ.

قَوْلُهُ: (وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ) أَيْ يُجْرَحُ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي، وَوَجْهُ أَخْذِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ يَظْهَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَاضِي مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُطَّلَعُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَمَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُعْطِيَ حُكْمَ الشَّهَادَةِ، فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ أَيْ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ، فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ كَوْنِ كُلِّ مَقْتُولٍ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي بَالَغَ فِي الْقِتَالِ حَتَّى قَالَ الْمُسْلِمُونَ: مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِ أَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَوَجْهُ أَخْذِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا رُجْحَانَهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، فَلَوْ كَانَ قُتِلَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ لِلَّهِ وَإِنَّمَا قَاتَلَ غَضَبًا لِقَوْمِهِ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَقْتُولٍ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ يُعْطَى حُكْمَ الشُّهَدَاءِ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، وَلِذَلِكَ أَطْبَقَ السَّلَفُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَقْتُولِينَ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمَا شُهَدَاءَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحُكْمُ الظَّاهِرُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ قَالَ: لَا يَخْرُجُ مَعَنَا إِلَّا مُقَوًّى فَخَرَجَ رَجُلٌ عَلَى بَكْرٍ ضَعِيفٍ فُوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: الشَّهِيدُ الشَّهِيدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا بِلَالُ نَادِ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَاصٍ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهُ إِلَّا

ص: 90

قَتْلُ نَفْسِهِ وَهُوَ بِذَلِكَ عَاصٍ لَا كَافِرٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى كُفْرِهِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ أَنَّهُ اسْتَحَلَّ قَتْلَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يُتَعَجَّبُ مِنَ الْمُهَلَّبِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ ضِدُّ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يُقَالُ فَلَانٌ شَهِيدٌ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضِدُّ الشَّهَادَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا قَرَّرْتُهُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

‌78 - بَاب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}

2899 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.

[الحديث 2899 - طرفاه في: 3373، 3507]

2900 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ".

[الحديث 2900 - طرفاه في: 3984، 3985]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الْآيَة لَمَّحَ بِمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْقُوَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا الرَّمْيُ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلَاثًا وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: أَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ. فَارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ عِلْمِهِ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ كَفَرَهَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُقْبَةَ رَفَعَهُ: مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ فَقَدْ عَصَى وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: فَقَدْ عَصَانِي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ وَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ تَظْهَرُ بِإِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ لِكَوْنِ الرَّمْيِ أَشَدَّ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ وَأَسْهَلَ مُؤْنَةً، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْمِي رَأْسَ الْكَتِيبَةِ فَيُصَابُ فَيُهْزَمُ مَنْ خَلْفَهُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.

قَوْلُهُ: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ) أَيْ مِنْ بَنِي أَسْلَمَ الْقَبِيلَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ بِلَفْظِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنَ السَّلَامَةِ.

قَوْلُهُ: (يَنْتَضِلُونَ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَتَرَامَوْنَ، وَالتَّنَاضُلُ التَّرَامِي لِلسَّبْقِ، وَفَضُلَ فَلَانٌ فَلَانَا إِذَا غَلَبَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدرَعِ انْتَهَى، وَاسْمُ ابْنِ الْأَدْرَعِ، مِحْجَنٌ، وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قَالَ فِيهِ: وَأَنَا مَعَ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ وَمَثَلُهُ فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْهُ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ لَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ وَفِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ: اسْمُ ابْنِ الْأَدْرَعِ، سَلَمَةُ حَكَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ قَالَ: وَالْأَدْرَعُ لَقَبٌ

ص: 91

وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ) اسْمُ قَائِلِ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَضْلَةُ الْأَسْلَمِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: بَيْنَا مِحْجَنُ بْنُ الْأَدْرعِ يُنَاضِلُ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ نَضْلَةُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَالَ نَضْلَةُ وَأَلْقَى قَوْسَهُ مِنْ يَدِهِ: وَاللَّهِ لَا أَرْمِي مَعَهُ وَأَنْتَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ: وَأَنَا مَعَ جَمَاعَتِكُمْ وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ مَعِيَّةُ الْقَصْدِ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَامَ مَقَامَ الْمُحَلِّلِ فَيَخْرُجُ السَّبْقُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا يَخْرُجُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِمَامِ قَالَ الْمُهَلَّبُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ صَارَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْمُنَاضِلِينَ لَهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ حَيْثُ أَمْسَكُوا لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ فَيَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغَلَبُ فَأَمْسَكُوا عَنْ ذَلِكَ تَأَدُّبًا مَعَهُ انْتَهَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَمْسَكُوا لَهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي هَذَا بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا لَمَّا اسْتَشْعَرُوا مِنْ قُوَّةِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِمْ بِالْغَلَبَةِ حَيْثُ صَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْوُجُوهِ الْمُشْعِرَةِ بِالنَّصْرِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالُوا مَنْ كُنْتَ مَعَهُ فَقَدْ غَلَبَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ نَضْلَةُ: لَا نَغْلِبُ مَنْ كُنْتَ مَعَهُ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ مِنْ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَدَّ الْأَعْلَى يُسَمَّى أَبًا، وَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِذِكْرِ الْمَاهِرِ فِي صِنَاعَتِهِ بِبَيَانِ فَضْلِهِ وَتَطْيِيبِ قُلُوبِ مَنْ هُمْ دُونَهُ، وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَتُهُ بِأُمُورِ الْحَرْبِ، وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى اتِّبَاعِ خِصَالِ الْآبَاءِ الْمَحْمُودَةِ وَالْعَمَلِ بِمِثْلِهَا، وَفِيهِ حُسْنُ أَدَبِ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي أُسَيْدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا وَهُوَ خَطَأٌ. وَقَوْلُهُ: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ كَذَا فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَالْكَثَبُ بِفَتْحَتَيْنِ الْقُرْبُ، فَالْمَعْنَى إِذَا دَنَوْا مِنْكُمْ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الَّذِي يَلِيقُ بِالدُّنُوِّ الْمُطَاعَنَةُ بِالرُّمْحِ وَالْمُضَارَبَةُ بِالسَّيْفِ، وَأَمَّا الَّذِي يَلِيقُ بِرَمْيِ النَّبْلِ فَالْبُعْدُ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ مَعْنَى أَكْثَبُوكُمْ كَاثَرُوكُمْ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبْلَ إِذَا رُمِيَ فِي الْجَمْعِ لَمْ يُخْطِئْ غَالِبًا فَفِيهِ رَدْعٌ لَهُمْ، وَقَدْ تُعُقِبَّ هَذَا التَّفْسِيرُ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَتَفْسِيرُ الْكَثَبِ بِالْكَثْرَةِ غَرِيبٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ زَادَ فِي آخِرِهِ: وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى يَغْشَوْكُمْ فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِتَرْكِ الرَّمْي وَالْقِتَالِ حَتَّى يَقْرَبُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا رَمَوْهُمْ عَلَى بُعْدٍ قَدْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ وَتَذْهَبُ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ وَعَرَّفَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى يَغْشَوْكُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ فِي الرَّمْيِ قُرْبٌ نِسْبِيٌّ بِحَيْثُ تَنَالُهُمُ السِّهَامُ لِأَقْرَبِ قَرِيبٍ بِحَيْثُ يَلْتَحِمُونَ مَعَهُمْ وَالنَّبْلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ نَبْلَةٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى نِبَالِ وَهِيَ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ اللِّطَافُ

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ سَأُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.

‌79 - بَاب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا

2901 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ

ص: 92

بِهَا فَقَالَ: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ. وَزَادَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ فِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا) أَيْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ وَنَحْوِهَا إِلَى مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ - أَيْ مَشْرُوعٌ أَوْ مَطْلُوبٌ - إِلَّا تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الْحِرَابِ. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي: بَابِ أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَذَكَرْنَا فَوَائِدَهُ هُنَاكَ، وَفِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ رَآهُمْ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُمْ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَمْنَعَهُمْ، وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: وَهُمْ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُهُ لِهَذَا شَبِيهَ إِنْكَارِهِ عَلَى الْمُغَنِّيَتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ شِدَّتِهِ فِي الدِّينِ يُنْكِرُ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَالْجِدُّ فِي الْجُمْلَةِ أَوْلَى مِنَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ. وَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْجَوَازِ.

وَقَوْلُهُ: زَادَ عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ زَادَنَا عَلِيٌّ.

‌80 - بَاب الْمِجَنِّ وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ

2902 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ فَكَانَ إِذَا رَمَى يشَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ.

2903 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُهُ فَلَمَّا رَأَتْ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِهِ فَرَقَأَ الدَّمُ.

2904 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

[الحديث 2904 - أطرافه في: 3094، 4033، 4885، 5357، 5358، 6728، 7305]

2905 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيٍّ.

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا

ص: 93

رضي الله عنه يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.

[الحديث 2905 - أطرافه في: 4058، 4059، 6184]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمِجَنِّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبُّوَيْهِ: التِّرَسَةِ جَمْعُ تُرْسٍ، وَالْمِجَنُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَتَثْقِيلِ النُّونِ أَيِ الدَّرَقَةُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ هَذِهِ التَّرَاجِمِ دَفْعُ مَنْ يَتَخَيَّلُ أَنَّ اتِّخَاذَهُ هَذِهِ الْآلَاتِ يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ، وَلَكِنْ يُضَيِّقُ مَسَالِكَ الْوَسْوَسَةِ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَتَّرِسُ بِتُرْسِ صَاحِبِهِ) أَيْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَرِّسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتُرْسٍ وَاحِدٍ الْحَدِيثَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي الْمَنَاقِبِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، قِيلَ: إِنَّ الرَّامِيَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَسْتُرُهُ لِشَغْلِهِ يَدَيْهِ جَمِيعًا بِالرَّمْيِ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتْرُسُهُ بِتُرْسِهِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ سَهْلٍ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ "لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ الْحَدِيثَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى قَرِيبًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عُمَرَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الْحَدِيثَ، ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ وَفِي الْفَرَائِضِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً، لِأَنَّ الْمِجَنَّ مِنْ جُمْلَةِ آلَاتِ السِّلَاحِ كَمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ دَرَقَةٌ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِي: احْبِسْ سِلَاحَكَ لَأَعْطَيْتُ هَذِهِ الدَّرَقَةَ لِبَعْضِ أَوْلَادِي.

رابعها: حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَنَاقِبِ وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ فِيهِ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَسُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَزَعَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ أَنَّ لَفْظَ قَبِيصَةَ هُنَا تَصْحِيفٌ مِمَّنْ دُونَ الْبُخَارِيِّ وَأَنَّ الصَّوَابَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَعَلَى هَذَا فَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ؛ لِأَنَّ قُتَيْبَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الثَّوْرِيِّ، لَكِنْ لَا أَعْرِفُ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ السُّفْيَانَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ هُنَا عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى أَيْضًا، وَدُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ وَاحِدًا مِنْ رُكْنَيِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ ابْنُ شَبُّوَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ قَبْلَهُ لَفْظَ: بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّامِيَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ شَيْءٍ يَقِي بِهِ عَنْ نَفْسِهِ سِهَامَ مَنْ يُرَامِيهِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ وَبَيَانُ مَا يُعَارِضُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌81 - بَاب الدَّرَقِ

2906 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌو:، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.

2907 -

قَالَتْ: وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا

ص: 94

قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقَلَتْ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَيَقُولُ: دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاذْهَبِي، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ: فَلَمَّا غَفَلَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّرَقِ) جَمْعُ دَرَقَةٍ أَيْ جَوَازُ اتِّخَاذِ ذَلِكَ أَوْ مَشْرُوعِيَّتُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَأَغْفَلَ ذَلِكَ فِي التَّهْذِيبِ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْعِيدَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِي أَبِيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ: قَالَ أَحْمَدُ يَعْنِي عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهَذَا السَّنَدِ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَقَالَ دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمْزَتُهُا فَخَرَجَتَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَمَدَ بَدَلَ غَفَلَ وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ عِيَاضٌ: وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِ هِيَ الْوَجْهُ.

‌82 - بَاب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ

2908 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ لَبَحْرٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْفِ بِالْعُنُقِ) الْحَمَائِلُ بِالْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَمِيلَةٍ وَهِيَ مَا يُقَلَّدُ بِهِ السَّيْفُ.

وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْفَرَسِ الْعُرْيِ وَبَابُ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ، وَسِيَاقُهُ هُنَا أَتَمُّ، وَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْهِبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تُرَاعُوا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ مَرَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ أَنْ يُبَيِّنَ زِيَّ السَّلَفِ فِي آلَةِ الْحَرْبِ وَمَا سَبَقَ اسْتِعْمَالُهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِلنَّفْسِ وَأَنْفَى لِلْبِدْعَةِ.

‌83 - بَاب مَا جَاءَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ

2909 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أمامة يَقُولُ: لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ الذَّهَبَ وَلَا الْفِضَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمْ الْعَلَابِيَّ وَالْآنُكَ وَالْحَدِيدَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ) أَيْ مِنَ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ) هُوَ الْمُحَارِبِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ أَوْ بَعْدَهَا. وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ) وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ لِتَحْدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِذَلِكَ سَبَبٌ وَهُوَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ فَرَأَى فِي سُيُوفِنَا شَيْئًا مِنْ حِلْيَةِ فِضَّةٍ، فَغَضِبَ وَقَالَ: فَذَكَرَهُ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بِحِمْصَ وَزَادَ فِيهِ: لَأَنْتُمْ أَبْخَلُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الرَّجُلَ مِنْكُمُ الدِّرْهَمَ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةٍ ثُمَّ أَنْتُمْ

ص: 95

تُمْسِكُونَ وَأَخْرَجَهُ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي فَوَائِدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: نَزَلْنَا حِمْصَ قَافِلِينَ مِنَ الرُّومِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَي زَكَرِيَّا، وَمَكْحُولٌ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى أَبِي أُمَامَةَ فَإِذَا شَيْخٌ هَرِمٌ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ إِذَا رَجُلٌ يَبْلُغُ حَاجَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تُبَلِّغُونَ عَنَّا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سُيُوفِنَا فَإِذَا فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْفِضَّةِ فَغَضِبَ حَتَّى اشْتَدَّ غَضَبُهُ.

قَوْلُهُ: (الْعَلَابِيَّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ عَلْبَاءَ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَقَالَ: الْعَلَابِيُّ الْجُلُودُ الْخَامُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَدْبُوغَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَلَابِيُّ الْعَصَبُ تُؤْخَذُ رَطْبَةً فَيُشَدُّ بِهَا جُفُونُ السُّيُوفِ وَتُلْوَى عَلَيْهَا فَتَجِفُّ، وَكَذَلِكَ تُلَوَى رَطْبَةً عَلَى مَا يُصْدَعُ مِنَ الرِّمَاحِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ عَصَبُ الْعُنُقِ، وَهِيَ أَمْتَنُ مَا يَكُونُ مِنْ عَصَبِ الْبَعِيرِ. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْعَلَابِيَّ ضَرْبٌ مِنَ الرَّصَاصِ فَأَخْطَأَ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقَزَّازُ فِي شَرْحِ غَرِيبِ الْجَامِعِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ قُرِنَ بِالْآنُكِ ظَنَّهُ ضَرْبًا مِنْهُ، وَزَادَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَالْحَدِيدَ وَزَادَ فِيهِ أَشْيَاءَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ. وَالْآنُكُ بِالْمَدِّ وَضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا كَافٌ وَهُوَ الرَّصَاصُ، وَهُوَ وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّصَاصُ الْخَالِصُ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْآنُكَ الْقَصْدِيرُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْآنُكُ الرَّصَاصُ الْقَلَعِيُّ وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَعَةِ مَوْضِعٍ بِالْبَادِيَةِ يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ السُّيُوفُ أَيْضًا فَيُقَالُ: سُيُوفٌ قَلَعِيَّةٌ، وَكَأَنَّهُ مَعْدِنٌ يُوجَدُ فِيهِ الْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَحْلِيَةَ السُّيُوفِ وَغَيْرِهَا مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَوْلَى. وَأَجَابَ مَنْ أَبَاحَهَا بِأَنَّ تَحْلِيَةَ السُّيُوفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا شُرِعَ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَكَانَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ غِنْيَةٌ لِشِدَّتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ.

‌84 - بَاب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ

2910 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَه أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَافلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شجرة وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ.

[الحديث 2910 - أطرافه في: 2913، 4134، 4135، 4136]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.

‌85 - بَاب لُبْسِ الْبَيْضَةِ

2911 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 96

عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ فَكَانَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَغْسِلُ الدَّمَ وَعَلِيٌّ يُمْسِكُ فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الدَّمَ لَا يرتد إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ حَصِيرًا فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْبَيْضَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهِيَ مَا يُلْبَسُ فِي الرَّأْسِ مِنْ آلَاتِ السِّلَاحِ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمَاضِيَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَكَانِ شَرْحِهِ.

‌86 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ

2912 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا سِلَاحَهُ وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ وَأَرْضًا بخيبر جَعَلَهَا صَدَقَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلَاحِ وَعَقْرَ الدَّوَابِّ عِنْدَ الْمَوْتِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى رَدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَسْرِ السِّلَاحِ وَعَقْرِ الدَّوَابِّ إِذَا مَاتَ الرَّئِيسُ فِيهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ يَعْهَدُ بِذَلِكَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى انْقِطَاعِ عَمَلِ الْجَاهِلِيِّ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَبُطْلَانِ آثَارِهِ وَخُمُولِ ذِكْرِهِ، بِخِلَافِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَسَرَ رُمْحَهُ عِنْدَ الِاصْطِدَامِ حَتَّى لَا يَغْنَمَهُ الْعَدُوُّ أَنْ لَوْ قُتِلَ، وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ وَضَرَبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى قُتِلَ كَمَا جَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ فَعَلَهُ جَعْفَرٌ وَغَيْرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِ إِتْلَافِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا مُحَقَّقًا فِي أَمْرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيِّ مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ عِنْدَ مَوْتِهِ - إِلَّا سِلَاحَهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَغَازِي. وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَبِعْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ سِلَاحِهِ وَلَوْ كَانَ رَهَنَ دِرْعَهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِكَسْرِ السِّلَاحِ بَيْعُهُ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

‌87 - بَاب تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْ الْإِمَامِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِالشَّجَرِ

2913 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ.

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَالَ: فمَنْ يَمْنَعُكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِالشَّجَرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَاضِيَ قَبْلَ بَابَيْنِ

ص: 97

مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَكَانِ شَرْحِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يَحْرُسُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ أَبْوَابٍ لَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا إِذَا نَزَلْنَا طَلَبْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمَ شَجَرَةٍ وَأَظَلَّهَا فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، فَيُحْتَمَلُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ يُقَالَ: كَانَ مُخَيَّرًا فِي اتِّخَاذِ الْحَرَسِ فَتَرَكَهُ مَرَّةً لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَ ذَلِكَ.

‌88 - بَاب مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي

2914 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضٌ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ) أَيْ فِي اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا أَيْ مِنَ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُنِيبٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ - الجُرَشِيِّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظٍ بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَعَ السَّيْفِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَتِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْهُ قَوْلَهُ: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ حُسِبَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبُو مُنِيبٍ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ. وَفِي الْإِسْنَادِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جَبَلَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمَامِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ الرُّمْحِ، وَإِلَى حِلِّ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِلَى أَنَّ رِزْقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ فِيهَا لَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ بَذْلُ الْجِزْيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ظِلَّهُ مَمْدُودٌ إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الرُّمْحِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ كَالسَّيْفِ أَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِجَعْلِ الرَّايَاتِ فِي أَطْرَافِ الرُّمْحِ، فَلَمَّا كَانَ ظِلُّ الرُّمْحِ أَسْبَغَ كَانَ نِسْبَةُ الرِّزْقِ إِلَيْهِ أَلْيَقَ.

وَقَدْ تَعَرَّضَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لِظِلِّ السَّيْفِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 98

الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَنُسِبَ الرِّزْقُ إِلَى ظِلِّ الرُّمْحِ لِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الرُّمْحِ الرَّايَةُ، وَنُسِبَتِ الْجَنَّةُ إِلَى ظِلِّ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَقَعُ بِهِ غَالِبًا؛ وَلِأَنَّ ظِلَّ السَّيْفِ يَكْثُرُ ظُهُورُهُ بِكَثْرَةِ حَرَكَةِ السَّيْفِ فِي يَدِ الْمُقَاتِلِ ; وَلِأَنَّ ظِلَّ السَّيْفِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بَعْدَ الضَّرْبِ بِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مَغْمُودًا مُعَلَّقًا.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ بِإِسْنَادَيْنِ لِمَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا.

‌89 - بَاب مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمِيصِ فِي الْحَرْبِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

2915 -

حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي قُبَّةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .

وَقَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَوْمَ بَدْرٍ

[الحديث 2915 - أطرافه في: 3953، 4875، 4877]

2916 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ". وَقَالَ يَعْلَى: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ "دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ". وَقَالَ مُعَلًّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ وَقَالَ: "رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ".

2917 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ فَسَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلَا تَتَّسِعُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ؟ وَقَوْلُهُ: (وَالْقَمِيصُ فِي الْحَرْبِ) أَيْ: حُكْمُهُ وَحُكْمُ لُبْسِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالْأَدْرَاعُ جَمْعُ دِرْعٍ وَهُوَ الْقَمِيصُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الزَّرَدِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَبِسَ الدِّرْعَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ ذَكَرَ الدِّرْعَ وَنَسَبَهُ إِلَى بَعْضِ الشُّجْعَانِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَأَنَّ لُبْسَهَا لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي الدِّرْعِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ وُهَيْبٌ يَعْنِي ابْنَ

ص: 99

خَالِدٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ: يَوْمَ بَدْرٍ يَعْنِي أَنَّ وُهَيْبَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ الْحَذَّاءُ شَيْخُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، فَلَعَلَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى شَيْخَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَحْفَظْهَا، وَرِوَايَةُ وُهَيْبٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَمَرِ، وَيَأْتِي بَيَانُ مَا اسْتَشْكَلَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ هُنَاكَ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَعْلَى، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ: دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ) يَعْنِي أَنَّ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَزَادَ أَنَّ الدِّرْعَ كَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي السَّلَمِ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَلًّى، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ) يَعْنِي أَنَّ مُعَلَّى بْنَ أَسَدٍ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرَّهْنِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَخِيلِ الْمُتَصَدِّقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ الْجُبَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِذِكْرِ الْقَمِيصِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَرُوِيَ بِالنُّونِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلدِّرْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ. وَالْجُبَّةُ بِالْمُوَحَّدَةِ مَا قُطِعَ مِنَ الثِّيَابِ مُشَمَّرًا قَالَهُ فِي الْمَطَالِعِ، وَمَحَلُّ اسْتِشْهَادِهِ لِلتَّرْجَمَةِ - وَإِنْ كَانَ الْمُمَثَّلُ بِهِ فِي الْمَثَلِ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ - مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَثَّلَ بِدِرْعِ الْكَرِيمِ فَتَشْبِيهُ الْكَرِيمِ الْمَحْمُودِ بِالدِّرْعِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الدِّرْعَ مَحْمُودٌ، وَمَوْضِعُ الشَّاهِدِ مِنْهُ دِرْعُ الْكَرِيمِ لَا دِرْعُ الْبَخِيلِ، وَكَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَرِيمَ مَقَامَ الشُّجَاعِ لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا وَكَذَلِكَ ضِدُّهُمَا.

‌90 - بَاب الْجُبَّةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ

2918 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمٍ هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتلَقِيتُهُ بِمَاءٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ وكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتُ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجُبَّةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي قِصَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَفِيهِ: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ وَفِيهِ: فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ وَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

‌91 - بَاب الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ

2919 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.

[الحديث 2919 - أطرافه في: 2920، 2921، 2922، 5839]

ص: 100

2920 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي الْقَمْلَ فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الْحَرِيرِ فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ.

2921 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي حَرِيرٍ.

2922 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَخَّصَ أَوْ رُخِّصَ لَهُمَا لِحِكَّةٍ بِهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الرُّخْصَةِ لِلزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ، ذَكَرَهُ مِنْ خَمْسَةِ طُرُقٍ، فَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَكَذَا قَالَ شُعْبَةُ فِي أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ يَعْنِي الْقَمْلَ، وَرَجَّحَ ابْنُ التِّينِ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا الْحِكَّةُ وَقَالَ: لَعَلَّ أَحَدَ الرُّوَاةِ تَأَوَّلَهَا فَأَخْطَأَ، وَجَمَعَ الدَّاوُدِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ أَرْخَصَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالْإِفْرَادُ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ حِكْمَةً.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَأَنَّ الْحِكَّةَ حَصَلَتْ مِنَ الْقَمْلِ فَنُسِبَتِ الْعِلَّةُ تَارَةً إِلَى السَّبَبِ وَتَارَةً إِلَى سَبَبِ السَّبَبِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ رَخَّصَ أَوْ أَرْخَصَ كَذَا بِالشَّكِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ بِلَفْظِ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا قَالَ وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْحَرْبِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي السَّفَرِ مِنْ حِكَّةٍ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي اللِّبَاسِ مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَرْبِ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَرْبَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّهَا لَا يَبْقَى لَهَا فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ مُنَاسَبَةٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ إِعَادَةُ التَّرْجَمَةِ فِي اللِّبَاسِ، إِذِ الْحِكَّةُ وَالْجَرَبُ مُتَقَارِبَانِ. وَجَعَلَ الطَّبَرِيُّ جَوَازَهُ فِي الْغزْوِ مُسْتَنْبَطًا مِنْ جَوَازِهِ لِلْحِكَّةِ فَقَالَ: دَلَّتِ الرُّخْصَةُ فِي لُبْسِهِ بِسَبَبِ الْحِكَّةِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِلُبْسِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَذَى الْحِكَّةِ كَدَفْعِ سِلَاحِ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَقَدْ تَبِعَ التِّرْمِذِيُّ، الْبُخَارِيَّ فَتَرْجَمَ لَهُ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ ثُمَّ الْمَشْهُورُ عَنِ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَخْتَصُّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْخُصُوصِيَّةَ بِالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَا تَصِحُّ تِلْكَ الدَّعْوَى.

قُلْتُ: قَدْ جَنَحَ إِلَى ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَمِيصَ حَرِيرٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَذَكَرَ لَهُ خَالِدٌ قِصَّةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ: وَأَنْتَ مِثْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ أَوْ لَكَ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ ثُمَّ أَمَرَ مَنْ حَضَرَهُ فَمَزَّقُوهُ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لِبَاسِهِ فَمَنَعَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ بِالْجَوَازِ لِلضَّرُورَةِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْحَرْبِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لِبَاسُهُ فِي الْحَرْبِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَهُوَ مِثْلُ الرُّخْصَةِ فِي الِاخْتِيَالِ فِي الْحَرْبِ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبُرُودَةِ، وَتُعُقِّبَ

ص: 101

بِأَنَّ الْحَرِيرَ حَارٌّ فَالصَّوَابُ أَنَّ الْحِكَّةَ فِيهِ لِخَاصَّةٍ فِيهِ لِدَفْعِ مَا تَنْشَأُ عَنْهُ الْحِكَّةُ كَالْقَمْلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌92 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي السِّكِّينِ

2923 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا ثُمَّ دُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَزَادَ فَأَلْقَى السِّكِّينَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي السِّكِّينِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ الْحَدِيثَ، وَفِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: فَأَلْقَى السِّكِّينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

‌93 - بَاب مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ

2924 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ فِي سَاحَةِ حِمْصَ وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّومِ) أَيْ مِنَ الْفَضْلِ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّومِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ عَيْصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَاسْمُ جَدِّهِمْ قِيلَ: رُومَانِيٌّ وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ لَيْطَا بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْفَرَادِيسِيُّ نُسِبَ لِجَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (عُمَيْرُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيُّ) بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ شَامِيٌّ قَدِيمٌ يُقَالُ اسْمُهُ عَمْرٌو، وَعُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ لَقَبُهُ، وَكَانَ عَابِدًا مُخَضْرَمًا، وَكَانَ عُمَرُ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عِيَاضٍ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالرَّاجِحُ التَّفْرِقَةُ وَأُمُّ حَرَامٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهَا أَنَسٌ هَذَا الْحَدِيثَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ هِشَامٌ: رَأَيْتُ قَبْرَهَا بِالسَّاحِلِ.

قَوْلُهُ: (يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ، وَابْنُ الْمُنِيرِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ إِذْ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: مَغْفُورٌ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى لَوِ ارْتَدَّ وَاحِدٌ مِمَّنْ غَزَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ اتِّفَاقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَغْفُورٌ لِمَنْ وُجِدَ شَرْطُ الْمَغْفِرَةِ فِيهِ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ التِّينِ يُحْتَمَلُ أَنْ

ص: 102

يَكُونَ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَيْشِ فَمَرْدُودٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ لَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ: فَيُمْكِنُ فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرَ ذَلِكَ الْجَيْشِ بِالِاتِّفَاقِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَدِينَةِ قَيْصَرَ الْمَدِينَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا يَوْمَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَهِيَ حِمْصُ وَكَانَتْ دَارَ مَمْلَكَتِهِ إِذْ ذَاكَ، وَهَذَا يَنْدَفِعُ بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ فِيهِمْ، وَحِمْصُ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ قَبْلَ الْغَزْوَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أُمُّ حَرَامٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَكَانَتْ غَزْوَةُ يَزِيدَ الْمَذْكُورَةُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي تِلْكَ الغزاة مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ بَابِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَأَنْ يُعْفَى قَبْرُهُ فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: إِنَّ الرُّومَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَسْقُونَ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا التَّرْغِيبُ فِي سُكْنَى الشَّامِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ أَوْجَبُوا أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّةُ.

‌94 - بَاب قِتَالِ الْيَهُودِ

2925 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِئ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ.

[الحديث 2925 - طرفه في: 3593]

2926 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِتَالِ الْيَهُودِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ.

قَوْلُهُ: (الْفَرَوِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ أَبِي فَرْوَةَ، وَإِسْحَاقُ هَذَا غَيْرُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ الضَّعِيفِ وَهُوَ - أَعْنِي إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - عَمُّ وَالِدِ هَذَا. وَإِسْحَاقُ هَذَا رُبَّمَا رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِوَاسِطَةٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ مَالِكٌ خَارِجَ الْمُوَطَّإِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ إِسْحَاقُ الْمَذْكُورُ بَلْ تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَسَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ طَرِيقَ ابْنِ وَهْبٍ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (تُقَاتِلُونَ) فِيهِ جَوَازُ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُ بقوله وَيَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْتِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: تُقَاتِلُونَ مُخَاطَبَةَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْخِطَابَ الشِّفَاهِيَّ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي حُكْمِ الْغَائِبِينَ: هَلْ وَقَعَ بِتِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ نَفْسِهَا، أَوْ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَقَاءِ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ عِيسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ الَّذِي يُقَاتِلُ الدَّجَّالَ، وَيَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ الَّذِينَ هُمْ تَبَعُ الدَّجَّالِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌95 - بَاب قِتَالِ التُّرْكِ

2927 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ:

ص: 103

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ.

[الحديث 2927 - طرفه في: 3592]

2928 -

حَدَّثَنَي سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ.

[الحديث 2928 - أطرافه في: 2929، 3587، 3590، 3591]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِتَالِ التُّرْكِ) اخْتُلِفَ فِي أَصْلِ التُّرْكِ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُمْ بَنُو قَنْطُورَاءَ أَمَةٍ كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَقَالَ كُرَاعٌ: هُمُ الدَّيْلَمُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ التُّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْغُزُّ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُمْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ وَهُمْ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمْ بَنُو عَمِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، لَمَّا بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ كَانَ بَعْضُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ غَائِبِينَ فَتُرِكُوا لَمْ يَدْخُلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ فَسُمُّوا التُّرْكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ تُبَّعٍ، وَقِيلَ: مِنْ وَلَدِ أَفْرِيدُونَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: ابْنِ يَافِثَ لِصُلْبِهِ، وَقِيلَ: ابْنِ كَوْمِي بْنِ يَافِثَ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ.

قَوْلُهُ: (يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ) هَذَا وَالْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ غَيْرُ التُّرْكِ. وَقَدْ وَقَعَ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَصْحَابَ بَابَكَ كَانَتْ نِعَالُهُمُ الشَّعَرَ. قُلْتُ: بَابَكُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَآخِرُهُ كَافٌ يُقَالُ لَهُ الْخُرَّمِيُّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَكَانَ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ اسْتَبَاحُوا الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَامَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ كَبِيرَةٌ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَغَلَبُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ كَطَبَرِسْتَانَ وَالرَّيِّ، إِلَى أَنْ قُتِلَ بَابَكُ الْمَذْكُورُ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ أَوْ قَبْلَهَا، وَقَتْلُهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ.

قَوْلُهُ: (الْمِجَانُّ) بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ مِجَنٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ أَبْوَابٍ. وَالْمُطَرَّقَةِ الَّتِي أُلْبِسَتِ الْأَطْرِقَةَ مِنَ الْجُلُودِ وَهِيَ الْأَغْشِيَةُ، تَقُولُ: طَارَقْتُ بَيْنَ النَّعْلَيْنِ أَيْ جَعَلْتُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هِيَ الَّتِي أُطْرِقَتْ بِالْعَصَبِ أَيْ أُلْبِسَتْ بِهِ.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ.

‌96 - بَاب قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ

2929 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ. قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةً: صِغَارَ الْأَعْيُنِ ذُلْفَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِتَالِ الَّذِينَ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ

ص: 104

وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا.

قَوْلُهُ: (رِوَايَةً) هُوَ عِوَضٌ عَنْ قَوْلِهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْرَجِ بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ فِيهِ: حُمْرَ الْوُجُوهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِغَارَ الْأَعْيُنِ وَقَوْلُهُ ذُلْفَ الْأُنُوفِ أَيْ صِغَارَهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْلَحُ النِّسَاءِ الذُّلْفُ، وَقِيلَ: الذُّلْفُ الِاسْتِوَاءُ فِي طَرَفِ الْأَنْفِ، وَقِيلَ: قِصَرُ الْأَنْفِ وَانْبِطَاحُهُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌97 - بَاب مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فاسْتَنْصَرَ

2930 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَا أَبَا عُمَارَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَّافهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلَاحٍ فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ) أَيْ صَفَّ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ بَعْدَ هَزِيمَةِ مَنِ انْهَزَمَ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَوَقَعَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَنْصَرَ أَيِ اسْتَنْصَرَ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ رَمَى الْكَفَّارَ بِالتُّرَابِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌98 - بَاب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ

2931 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَلَا اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنْ صَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ.

[الحديث 2931 - أطرافه في: 4111، 4533، 6396]

2932 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.

ص: 105

2933 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ.

[الحديث 2933 - أطرافه في: 2965، 3025، 4115، 6392، 7489]

2934 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنُحِرَتْ جَزُورٌ بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ فَأَرْسَلُوا فَجَاءُوا مِنْ سَلَاهَا وَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَلْقَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، لِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ قَتْلَى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابِعَ، وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أبي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ شُعْبَةُ: أُمَيَّةُ أَوْ أُبَيٌّ وَالصَّحِيحُ أُمَيَّةُ.

2935 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ ولَعَنْتُهُمْ فَقَالَ: مَا لَكِ؟ قُالْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ.

[الحديث 2935 - أطرافه في: 6024، 6030، 6256، 6395، 6401، 6927]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالزَّلْزَلَةِ) ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَلِيٍّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَزَعَمَ الْأَصِيلِيُّ أَنَّهُ ابْنُ حَسَّانَ، وَرَامَ بِذَلِكَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثَ فَأَخْطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَتَجَاسَرَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: الْمُنَاسِبُ أَنَّهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَلَيْسَ فِيهِ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْهَزِيمَةِ، لَكِنْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الزَّلْزَلَةِ لِأَنَّ فِي إِحْرَاقِ بُيُوتِهِمْ غَايَةَ التَّزَلْزُلِ لِنُفُوسِهِمْ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ وَفِيهِ: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَدُخُولُهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ. لِأَنَّ شِدَّةَ الْوَطْأَةِ يَدْخُلُ تَحْتَهَا مَا تَرْجَمَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ اشْدُدْ عَلَيْهِمُ الْبَأْسَ وَالْعُقُوبَةَ وَالْأَخْذَ الشَّدِيدَ. وَابْنُ ذَكْوَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي كِتَابِ الْوَتْرِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَالْمُرَادُ: الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ إِذَا انْهَزَمُوا أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ لَهُمْ قَرَارٌ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَرَادَ أَنْ تَطِيشَ عُقُولُهُمْ، وَتَرْعَدَ أَقْدَامُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَلَا يَثْبُتُوا. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ زِيَادَةً فِي هَذَا الدُّعَاءِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي بَابِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْجَزُورِ الَّتِي نُحِرَتْ بِمَكَّةَ وَفِيهِ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ وَفِيهِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي

ص: 106

الْحَدِيثِ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ سُفْيَانُ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَانَ نَسِيَ السَّابِعَ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ: أُمَيَّةُ أَوْ أُبَيُّ، وَالصَّحِيحُ أُمَيَّةُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: وَهَذِهِ رِوَايَةُ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ هُنَا، وَحَدَّثَ بِهِ أُخْرَى فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَهِيَ رِوَايَةُ شُعْبَةَ، وَحَدَّثَ بِهِ أُخْرَى فَشَكَّ فِيهِ. وَيُوسُفُ المذكور هو، ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ بِطُولِهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَطَرِيقُ شُعْبَةَ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَبْعَثِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ إِسْرَائِيلَ رَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فَسَمَّى السَّابِعَ وَذَكَرْتُ مَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ وَفِيهِ: فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي آخِرِهِ: يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا وَقَدْ ذَكَرَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ خَشِيَ الدَّاعِي أَنَّهُمْ يَدْعُونَ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌99 - بَاب هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ؟

2936 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ.

[الحديث 2936 - طرفه في: 2940]

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُرْشِدُ الْمُسْلِمُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ يُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ) الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَبِالْكِتَابِ الثَّانِي مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا وَمِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ هِرَقْلَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِطُولِهِ ; وَإِسْحَاقُ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَهْمَلَهَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَإِرْشَادُهُمْ مِنْهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْكِتَابَ فَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَهُ مَنْ كَوْنِهِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكَأَنَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَى تَعْلِيمِهِ إِذْ لَا يَقْرَءُونَهُ حَتَّى يُتَرْجَمَ لَهُمْ وَلَا يُتَرْجَمُ لَهُمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُتَرْجِمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِخْرَاجِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ فَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ تَعْلِيمِ الْكَافِرِ الْقُرْآنَ، وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الرَّاجِحَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ الرَّغْبَةُ فِي الدِّينِ وَالدُّخُولُ فِيهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْهُ أَنْ يَتَسَلَّطَ بِذَلِكَ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْجَحُ فِيهِ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى الطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْهُ وَالْكَثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَيْضِ.

‌100 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُمْ

2937 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ

ص: 107

فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائتِ بِهِمْ.

[الحديث 2937 - طرفاه في: 4392، 6397]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهُدَى لِيَتَأَلَّفَهُمْ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قُدُومِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: لِيَتَأَلَّفَهُمْ مِنْ تَفَقُّهِ الْمُصَنِّفَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَارَةً يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَتَارَةً يَدْعُو لَهُمْ، فَالْحَالَةُ الْأُولَى حَيْثُ تَشْتَدُّ شَوْكَتُهُمْ وَيَكْثُرُ أَذَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا بِبَابٍ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ حَيْثُ نؤْمَنُ غَائِلَتُهُمْ وَيُرْجَى تَأَلُّفُهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ دَوْسٍ وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌101 - بَاب دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَلَى مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ؟

وَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَالدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ

2938 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

2939 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى حَرَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ".

قَوْلُهُ: (بَابُ دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) أَيْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ:(وَعَلَى مَا يُقَاتِلُونَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ عَنْ عَلِيٍّ حَيْثُ قَالَ: تُقَاتِلُوهُمْ حتى يَكُونُوا مِثْلَنَا وَفِيهِ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالنُّزُولِ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ الْقِتَالُ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى الرُّومِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى مُقَاتَلَهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ) قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْبَابِ مُسْنَدًا، وَقَوْلُهُ وَالدَّعْوَةُ قَبْلَ الْقِتَالِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ فِي إِغَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَلَى غِرَّةٍ، وَهُوَ مُتَخَرَّجٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ: فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى اشْتِرَاطِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ قَبْلَ انْتِشَارِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لَمْ يُقَاتَلْ حَتَّى يُدْعَى، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ قُوتِلَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِاشْتِهَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ فَالدَّعْوَةُ أَقْطَعُ لِلشَّكِّ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: كُنَّا نَدْعُو وَنَدَعُ. قُلْتُ: وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَالَيْنِ

ص: 108

الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ كِتَابَهُ إِلَى كِسْرَى وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي وَفِيهِ أَنَّ الْمَبْعُوثَ بِهِ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِكِسْرَى وَمَا الْمُرَادُ بِعَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ؟. وَفِي الْحَدِيثِ الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ وَأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ. وَفِيهِ إِرْشَادُ الْمُسْلِمِ إِلَى الْكَافِرِ وَأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ بِتَرْكِ قَتْلِ الرُّسُلِ وَلِهَذَا مَزَّقَ كِسْرَى الْكِتَابَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّسُولِ.

‌102 - بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةِ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ

2940 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

2941 -

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّامِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ابْنُ عَمّ وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي فَقَالَ قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ: كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، فَقَالَ: كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَأَشْرَافُ

ص: 109

النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَم يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ

يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ؟ قُلْتُ: دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً

لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَكِنْ لَمْ أَعلم أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لقاءه وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ

ص: 110

الْأَرِيسِيِّينَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى

مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ.

2942 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ. فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ.

[الحديث 2942 - أطرافه في: 3009، 3701، 4210]

2943 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلًا".

2944 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا

".

ثَانِيهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي إِعْطَاءِ عَلِيٍّ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَغَازِي، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.

2943 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَما يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلًا.

2944 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا

2945 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} .

2946 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ

ص: 111

اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. رَوَاهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الْآيَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَيْصَرَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَالَ: {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي تَرْكِ الْإِغَارَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُمُ الْأَذَانَ، ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي وشَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَيْضًا، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ قِتَالِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ سَهْلٍ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ الدَّعْوَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا شَرْطٌ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ لِكَوْنِهِ كَفَّ عَنِ الْقِتَالِ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ الْأَذَانِ، وَفِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي أَمْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ كَفَّ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَاكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَوَقَعَ هُنَا: فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ بِمَسَاحِيهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ، وَيُجْمِعُ بِأَنَّهُمْ وَصَلُوا أَوَّلَ الْبَلَدِ عِنْدَ الصُّبْحِ فَنَزَلُوا فَصَلُّوا فَتَوَجَّهُوا، وَأَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسَهُ حِينَئِذٍ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَوَصَلَ فِي آخِرِ الزُّقَاقِ إِلَى أَوَّلِ الْحُصُونِ حِينَ بَزَغَتِ الشَّمْسُ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهَا، تَرْجَمَ لَهُ أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ: وَعَلَامَ تُقَاتِلُونَ؟ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ زِيَادَةُ: إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ زَائِدًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي حَدِيثِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسُولُ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرْتُ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ: فَإِذَا صَلَّوْا وَاسْتَقْبَلُوا وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَهُ فِي حَالَةِ قِتَالِهِ لِأَهْلِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَهُ فِي حَالَةِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَهُ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَشَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالطَّاعَاتِ أَنَّ حُكْمَهُمْ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُذْعِنُوا إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الزَّكَاةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْإِيمَانِ

‌103 - بَاب مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ

2947 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَني اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

ص: 112

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ رضي الله عنه، - وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ - قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا.

2948 -

حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ.

2949 -

وَعَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ.

2950 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ إِلَى السَّفَرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ) أَمَّا الْجُمْلَةُ الْأُولَى فَمَعْنَى وَرَّى سَتَرَ وَتُسْتَعْمَلُ فِي إِظْهَارِ شَيْءٍ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَرْيِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ مَا يُجْعَلُ وَرَاءَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ مَنْ وَرَّى بِشَيْءٍ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ وَرَاءَهُ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْحَرْبِ أَخْذُ الْعَدُوِّ عَلَى غِرَّةٍ، وَقَيَّدَهُ السِّيرَافِيُّ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ بِالْهَمْزَةِ قَالَ: وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَمْ يَضْبُطُوا فِيهِ الْهَمْزَةَ وَكَأَنَّهُمْ سَهَّلُوهَا.

وَأَمَّا الْخُرُوجُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْطٍ، بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، ابْنِ شَرِيطٍ، بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَوَّلَهُ. وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَانِعٍ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ أَنَّهُ خَرَجَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ يَوْمَ السَّبْتِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ أَطْرَافًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ ظَاهِرَةً فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُتَيْبَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَافَرَ أَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: وَعَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ مُعَلَّقَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا بِالْوَجْهَيْنِ. نَعَمْ تَوَقَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ جَدِّهِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى هِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَرِوَايَتُهُ لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ هِيَ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْب بْنِ مَالِكٍ،

ص: 113

وَقَدْ سَمِعَ الزُّهْرِيُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَحَدَّثَ يُونُسُ عَنْهُ بِالْحَدِيثَيْنِ مُفَصَّلًا، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ دَفْعَ الْوَهْمِ وَاللَّبْسِ عَمَّنْ يَظُنُّ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ لِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌104 - بَاب الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ

2951 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُّهْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، وَكَأَنَّهُ أَوْرَدَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْبُكُورِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْبُكُورَ بِالْبَرَكَةِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ النَّشَاطِ، وَحَدِيثُ: بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ، بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدِ اعْتَنَى بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِجَمْعِ طُرُقِهِ فَبَلَغَ عَدَدُ مَنْ جَاءَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ الْعِشْرِينَ نَفْسًا.

‌105 - بَاب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ،

وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

2952 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ - إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَتَتْكَ وَاللَّهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ) أَيْ رَدًّا عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الطِّيَرَةِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ أَوَائِلَ الشُّهُورِ لِلْأَعْمَالِ، وَيَكْرَهُونَ التَّصَرُّفَ فِي مُحَاقِ الْقَمَرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كُرَيْبٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْفَصِيحِ فِي التَّارِيخِ؛ وَهُوَ مَا دَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ يُؤَرَّخُ بِمَا خَلَا، وَإِذَا دَخَلَ النِّصْفُ الثَّانِي يُؤَرَّخُ بِمَا بَقِيَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ: أَنَّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقِينَ، لِأَنَّ ذَا الْحِجَّةِ كَانَ أَوَّلُهُ الْخَمِيسَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَةَ كَانَتِ الْجُمُعَةَ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِقَوْلِ أَنَسٍ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ثُمَّ خَرَجَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابَةُ: لِخَمْسٍ بَقِينَ بِنَاءً عَلَى الْعَدَدِ، لِأَنَّ ذَا الْقَعْدَةِ كَانَ أَوَّلُهُ الْأَرْبِعَاءَ فَاتَّفَقَ أَنْ جَاءَ نَاقِصًا، فَجَاءَ أَوَّلُ ذِي الْحِجَّةِ الْخَمِيسُ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ

ص: 114

أَرْبَعٌ لَا خَمْسٌ، كَذَا أَجَابَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ، أَرَادَ ضَمَّ يَوْمِ الْخُرُوجِ إِلَى مَا بَقِيَ، لِأَنَّ التَّأَهُّبَ وَقَعَ فِي أَوَّلِهِ، وَإِنِ اتَّفَقَ التَّأْخِيرُ إِلَى أَنْ صُلِّيَتِ الظُّهْرُ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا تَأَهَّبُوا بَاتُوا لَيْلَةَ السَّبْتِ عَلَى سَفَرٍ اعْتَدُّوا بِهِ مِنْ جُمْلَةِ أَيَّامِ السَّفَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌106 - بَاب الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ

2953 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ.

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ فِي رَمَضَانَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَأَرَادَ بِهِ رَفْعَ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ.

‌107 - بَاب التَّوْدِيعِ

2954 -

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فقَالَ لَنَا: إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا، لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا، فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا.

[الحديث 2954 - طرفه في: 3016]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّوْدِيعِ) عِنْدَ السَّفَرِ أَيْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسَافِرِ لِلْمُقِيمِ أَوْ عَكْسُهُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ ظَاهِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَيُؤْخَذُ الثَّانِي مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْوُقُوعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ بَعْدَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ بَابًا، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ مَنْ أُبْهِمَ فِي هَذَا.

‌108 - بَاب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ

2955 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ.

[الحديث 2955 - طرفه في: 7144]

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ، وَالْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ فِي

ص: 115

نَصِّ الْحَدِيثِ.

ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَاقَهُ هُنَا بِلَفْظِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَقَيَّدَ التَّرْجَمَةَ هُنَاكَ بِمَا وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَوْلُهُ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا الْوُجُودِيَّةِ.

‌109 - بَاب يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ

2956 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ.

2957 -

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ

[الحديث 2957 - طرفه في: 7137]

قَوْلُهُ: (بَابُ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ) يُقَاتَلُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَلَمْ يَزِدِ الْبُخَارِيُّ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُقَاتَلَةُ لِلدَّفْعِ عَنِ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَلْفِهِ حَقِيقَةً أَوْ قُدَّامَهُ، وَوَرَاءُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ.

قَوْلُهُ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ)

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْحَدِيثَ، الْجُمْلَةُ الْأُولَى طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَسَبَقَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ عَادَتَهُ فِي إِيرَادِ هَذِهِ النُّسْخَةِ - وَهِيَ شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنْ يُصَدِّرَ بِأَوَّلِ حَدِيثٍ فِيهَا وَيَعْطِفَ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَمِعَهَا هَكَذَا، وَأَنَّ مُسْلِمًا فِي نُسْخَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَلَكَ طَرِيقًا نَحْوَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا: فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْتَ وَكَيْتَ. وَتَكَلَّفَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ التَّرْجَمَةِ لِقَوْلِهِ (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ) الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُ وَيَنْصُرَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ فِي الزَّمَانِ لَكِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَنْصُرَهُ، فَهُمْ فِي الصُّورَةِ أَمَامَهُ وَفِي الْحَقِيقَةِ خَلْفَهُ فَنَاسَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْخَلْفُ أَوِ الْأَمَامُ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ كَذَا هُنَا، قِيلَ: اسْتَعْمَلَ الْقَوْلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ فَإِنَّهُ قَسِيمُ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَمَرَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَإِنْ أَمَرَ، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَالَ هُنَا حَكَمَ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَيْلِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهُوَ الْمَلِكُ الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ أَيْ: وِزْرًا، وَحَذَفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ: فَإِنَّ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا يَقُولُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ مُنَّةً بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ بِلَا رَيْبٍ ; وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ أَبُو ذَرٍّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: سُتْرَةٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَيَكُفُّ أَذَى بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ كُلُّ قَائِمٍ بِأُمُورِ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

ص: 116

‌110 - بَاب الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}

2958 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَجَعْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ. فَسَأَلْنا نَافِعًا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعَهُمْ، عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ.

2959 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: لَا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 2959 - طرفه في: 4167]

2960 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ، أَلَا تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيْضًا. فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.

[الحديث 2960 - أطرافه في: 4169، 7206، 7208]

2961 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا

فَأَجَابَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ

فَأَكْرِمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ.

2962، 2963 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ رضي الله عنه قَالَ:"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي فَقُلْتُ بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا فَقُلْتُ عَلَامَ تُبَايِعُنَا قَالَ عَلَى الإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ".

[الحديث 2962 - أطرافه في: 3078، 4305، 4307]

[الحديث 2963 - أطرافه في: 3079، 4306، 4308]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَوْتِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ

ص: 117

الرِّوَايَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَقَامَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إِلَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وَالسَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي مَوْقِفِ الْحَرْبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَضْمَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا فَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا ذَكَرَ الْآيَةَ عَقِبَ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْمُبَايَعَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْمَوْتِ، وَوَجْهُ انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِنْهَا أَنَّ الْمُبَايَعَةَ فِيهَا مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ - وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ - أَنَّهُ بَايَعَ عَلَى الْمَوْتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَعَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمَوْتِ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقَعَ الْمَوْتُ وَلَا بُدَّ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ نَافِعٌ وَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ أَيْ: عَلَى الثَّبَاتِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ سَوَاءٌ أَفْضَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مُوَافَقَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ - وَالِدِ سَعِيدٍ -، لِابْنِ عُمَرَ عَلَى خَفَاءِ الشَّجَرَةِ، وَبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهَا افْتِتَانٌ لِمَا وَقَعَ تَحْتَهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَمَا أُمِنَ تَعْظِيمُ بَعْضِ الْجُهَّالِ لَهَا حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ لَهَا قُوَّةَ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ كَمَا نَرَاهُ الْآنَ مُشَاهَدًا فِيمَا هُوَ دُونَهَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ: كَانَ خَفَاؤُهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، أَيْ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ مَوْضِعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَحِلَّ رِضْوَانِهِ لِنُزُولِ الرِّضَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ فيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا - أَيِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَهَا أَيْ: فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلْنَا نَافِعًا) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ نَافِعًا إِنَّمَا جَزَمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فَهِمَهُ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ مُسْنَدًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَيِ: ابْنِ عَاصِمٍ، الْأَنْصَارِيِّ الْمَازِنِيِّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ) أَيِ: الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ) أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الَّذِي يُعْرَفُ أَبُوهُ بِغَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالسَّبَبُ فِي تَلْقِيبِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ بِأُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلِقَتِ امْرَأَتُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ سَبْعُ سِنِينَ وَقَدْ حَفِظَ عَنْهُ. وَأَتَى الْكِرْمَانِيُّ بِأُعْجُوبَةٍ فَقَالَ: ابْنُ حَنْظَلَةَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ يَزِيدَ لِأَنَّ جَدَّهُ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يُكَنَّى أَيْضًا أَبَا حَنْظَلَةَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَنْظَلَةَ، ثُمَّ حُذِفَ لَفْظُ أَبِي تَخْفِيفًا، أَوْ يَكُونُ نُسِبَ إِلَى عَمِّهِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ اسْتِخْفَافًا وَاسْتِهْجَانًا وَاسْتِبْشَاعًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُرَّةِ انْتَهَى. وَلَقَدْ أَطَالَ رحمه الله فِي غَيْرِ طَائِلٍ، وَأَتَى بِغَيْرِ الصَّوَابِ. وَلَوْ رَاجَعَ مَوْضِعًا آخَرَ مِنَ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ لَرَأَى فِيهِ مَا نَصُّهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: عَلَامَ يُبَايِعُ حَنْظَلَةُ النَّاسَ؟ الْحَدِيثَ.

وَهَذَا الْمَوْضِعُ فِي أَثْنَاءِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، فَهَذَا يَرُدُّ احْتِمَالَهُ الثَّانِي، وَأَمَّا احْتِمَالُهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ اتِّفَاقُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى أَنَّ الْأَمِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاويَةَ اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ لَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ، وَأَنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ كَانَ الْأَمِيرَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ كَانَ الْأَمِيرَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَأَنَّهُمَا قُتِلَا جَمِيعًا فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (لَا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ:

ص: 118

وَالْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا عَنْهُ حَتَّى يَمُوتُوا دُونَهُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ، فَقَوْلُهُ: فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ هِيَ كُنْيَةُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَالْقَائِلُ فَقُلْتُ الرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَاهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهِ الْبَيْعَةَ لِسَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ مِقْدَامًا فِي الْحَرْبِ فَأَكَّدَ عَلَيْهِ الْعَقْدَ احْتِيَاطًا. قُلْتُ: أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يُقَاتِلُ قِتَالَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ فَتَعَدَّدَتِ الْبَيْعَةُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَةِ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: كَانَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا

وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَقَالَ: مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا. فَقُلْتُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ.

خَامِسُهَا حَدِيثُ مُجَاشِعٍ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَخُوهُ اسْمُهُ: مُجَالِدٌ بِجِيمٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌111 - بَاب عَزْمِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ

2964 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: لَقَدْ أَتَانِي الْيَوْمَ رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا. فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، إِلَّا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ. وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لَا تَجِدُوهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غير مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِيَ كَدَرُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عَزْمِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ) الْمُرَادُ بِالْعَزْمِ: الْأَمْرُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَثَلًا: مَحَلُّهُ، وَالْمَعْنَى وُجُوبُ طَاعَةِ الْإِمَامِ مَحَلُّهُ فِيمَا لَهُمْ بِهِ طَاقَةٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَتَانِي الْيَوْمَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (مُؤْدِيًا) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ، أَيْ: كَامِلَ الْأَدَاءِ، أَيْ: أَدَاةَ الْحَرْبِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْهَمْزَةِ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مِنْ أَوْدَى إِذَا هَلَكَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ قَوِيًّا، وَكَأَنَّهُ فَسَرَّهُ بِاللَّازِمِ.

وَقَوْلُهُ نَشِيطًا بِنُونٍ وَبِمُعْجَمَةٍ مِنَ النَّشَاطِ.

قَوْلُهُ: (نَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا) كَذَا فِي الرِّوَايَةِ بِالنُّونِ مِنْ قَوْلِهِ نَخْرُجُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ رَجُلًا أَحَدُنَا، أَوْ هُوَ مَحْذُوفُ الصِّفَةِ، أَيْ: رَجُلًا مِنَّا، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ الْكِرْمَانِيُّ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَفِيهِ حِينَئِذٍ الْتِفَاتٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ النُّونِ وَفِيهِ أَيْضًا الْتِفَاتٌ.

قَوْلُهُ: (لَا نُحْصِيهَا) أَيْ: لَا نُطِيقُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وَقِيلَ: لَا نَدْرِي أَهِيَ طَاعَةٌ أَمْ مَعْصِيَةٌ؟ وَالْأَوَّلُ مُطَابِقٌ لِمَا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ فَتَرْجَمَ بِهِ، وَالثَّانِي مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ مِنْهُ، أَيْ: مِنْ تَقْوَى اللَّهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَيَدُلُّهُ عَلَى مَا فِيهِ شِفَاؤُهُ.

وَقَوْلُهُ: شَكَّ نَفْسُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَقْلُوبِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ، أَوْ ضَمَّنَ شَكَّ مَعْنَى لَصِقَ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مَا يَتَرَدَّدُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ.

وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَفْعَلَهُ غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: لَا يَعْزِمُ، أَوْ لِلْعَزْمِ الَّذِي

ص: 119

يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ مَرَّةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ حُكْمِ طَاعَةِ الْأَمِيرِ فَأَجَابَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْوُجُوبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُوَافِقًا لِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (مَا غَبَرَ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، أَيْ: مَضَى، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى مَا مَضَى وَعَلَى مَا بَقِيَ، وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ بِالْمَاضِي هُنَا أَشْبَهُ كَقَوْلِهِ: مَا أَذْكُرُ. وَالثَّغْبُ بِمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا. قَالَ الْقَزَّازُ: وَهُوَ أَكْثَرُ، وَهُوَ الْغَدِيرُ يَكُونُ فِي ظِلٍّ فَيَبْرُدُ مَاؤُهُ وَيَرُوقُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَحْتَفِرُه السَّيْلُ فِي الْأَرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ فَيَصِيرُ مِثْلَ الْأُخْدُودِ، فَيَبْقَى الْمَاءُ فِيهِ فَتَصْفِقُهُ الرِّيحُ فَيَصِيرُ صَافِيًا باردا. وَقِيلَ: هُوَ نُقْرَةٌ فِي صَخْرَةٍ يَبْقَى فِيهَا الْمَاءُ كَذَلِكَ ; فَشَبَّهَ مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا بِمَا شُرِبَ مِنْ صَفْوِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا بِمَا تَأَخَّرَ مِنْ كَدَرِهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ مَاتَ هُوَ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَوُجُودِ تِلْكَ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ فَمَاذَا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ فِيمَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرَّا؟

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا تَوَقُّفُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ خُصُوصِ جَوَابِهِ وَعُدُولِهِ إِلَى الْجَوَابِ الْعَامِّ فَلِلْإِشْكَالِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّوَقُّفُ فِي الْإِفْتَاءِ فِيمَا أُشْكِلَ مِنَ الْأَمْرِ كَمَا لَوْ أَنَّ بَعْضَ الْأَجْنَادِ اسْتَفْتَى أَنَّ السُّلْطَانَ عَيَّنَهُ فِي أَمْرٍ مَخُوفٍ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَكَلَّفَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُطِيقُ، فَمَنْ أَجَابَهُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ أَشْكَلَ الْأَمْرَ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِنْ أَجَابَهُ بِجَوَازِ الِامْتِنَاعِ أَشْكَلَ الْأَمْرَ لِمَا قَدْ يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْفِتْنَةِ، فَالصَّوَابُ التَّوَقُّفُ عَنِ الْجَوَابِ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

‌112 - بَاب كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ

2965 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هو الفزاري، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ - قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما فَقَرَأْتُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ.

2966 -

ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) أَيْ: لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَهُبُّ غَالِبًا بَعْدَ الزَّوَالِ فَيَحْصُلُ بِهَا تَبْرِيدُ حِدَّةِ السِّلَاحِ وَالْحَرْبِ وَزِيَادَةٌ فِي النَّشَاطِ.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى بِمَعْنَى مَا تَرْجَمَ بِهِ ; لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ: إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يَنْهَضَ إِلَى عَدُوِّهِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُمْهِلُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ يَنْهَضُ إِلَى عَدُوِّهِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ: كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَصَحَّحَاهُ، وَفِي رِوَايَتِهِمْ: حَتَّى

ص: 120

تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْخِيرِ لِكَوْنِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مَظِنَّةَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَهُبُوبُ الرِّيحِ قَدْ وَقَعَ النَّصْرُ بِهِ فِي الْأَحْزَابِ فَصَارَ مَظِنَّةً لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ لَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَفْظُهُ يُوَافِقُ مَا قُلْتُهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْسَكَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَاتَلَ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمْسَكَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ قَاتَلَ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَمْسَكَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا ثُمَّ يُقَاتِلَ، وَكَانَ يُقَالُ: عِنْدَ ذَلِكَ تَهِيجُ رِيَاحُ النَّصْرِ وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لِجُيُوشِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ زِيَادَةٌ فِي الدُّعَاءِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي بَابِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌113 - بَاب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الْإِمَامَ

لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ

2967 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْمُغِيرَةِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَتَلَاحَقَ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: مَا لِبَعِيرِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أعيا. قَالَ فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بِخَيْرٍ، قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قَالَ: أَفَتَبِيعُنِيهِ؟ قَالَ: فَاسْتَحْيَيْتُ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَبِعْنِيهِ. فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَرُوسٌ. فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي خَالِي فَسَأَلَنِي عَنْ الْبَعِيرِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ به فَلَامَنِي. قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ: هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا. قَالَ: هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي - أَوْ اسْتُشْهِدَ - وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ؛ فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ.

قَالَ الْمُغِيرَةُ: هَذَا فِي قَضَائِنَا حَسَنٌ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ) أَيْ: مِنَ الرَّعِيَّةِ (الْإِمَامَ) أَيْ: فِي الرُّجُوعِ أَوِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذِهِ الْآيَةُ احْتَجَّ بِهَا الْحَسَنُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْعَسْكَرِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ الْأَمِيرَ، وَهَذَا عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ فِي عُمُومِ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مِمَّنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ فَطَرَأَ لَهُ مَا يَقْتَضِي التَّخَلُّفَ أَوِ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ

ص: 121

جَمَلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: إِنِّي عَرُوسٌ فَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِتَزْوِيجِهِ فِي النِّكَاحِ.

(تَنْبِيهٌ):

قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ الْمُغِيرَةُ: هَذَا فِي قَضَائِنَا حَسَنٌ لَا نَرَى بِهِ بَأْسًا هَذَا مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيِّ أَحَدِ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ جَابِرٍ مِنَ اشْتِرَاطِ رُكُوبِ جَمَلِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: مُرَادُهُ جَوَازُ زِيَادَةِ الْغَرِيمِ عَلَى حَقِّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَرِدْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ هُنَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

‌114 - بَاب مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسِهِ. فِيهِ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ غَزَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعِرْسِهِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: بِزَوْجَتِهِ، وَبِضَمِّهَا أَيْ: بِزَمَانِ عُرْسِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِعُرْسٍ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (فِيهِ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِلَفْظِ: فَقَالَ مَا يُعْجِلُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ الْحَدِيثَ.

‌115 - بَاب مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ بَعْدَ الْبِنَاءِ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الْآتِي فِي الْخُمُسِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْهُ فَقَالَ: غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ: مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ بَعْدَ الْغَزْوِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَالْغَرَضُ هُنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ يَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ لِلْجِهَادِ وَيُقْبِلَ عَلَيْهِ بِنَشَاطٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَعْقِدُ عَقْدَهُ عَلَى امْرَأَةٍ يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْخَاطِرِ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ أَخَفَّ غَالِبًا، وَنَظِيرُهُ الِاشْتِغَالُ بِالْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

(تَنْبِيهَانِ)

أَحَدُهُمَا: أَوْرَدَ الدَّاوُدِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُحَرَّفَةً ثُمَّ اعْتَرَضَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ بَابُ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّهُ اخْتَارَ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ. قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا وَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِرَاضُ، لِأَنَّهُ أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مَوْرِدَ الِاسْتِفْهَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا حُكْمُ مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، هَلْ يُمْنَعُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، أَوْ يَسُوغُ؟ وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ. ثَانِيهِمَا: قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَأَنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا فِي مَكَانٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ الْغَالِبَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ إِذَا اتَّحَدَ مَخْرَجُهُ فِي مَكَانَيْنِ بِصُورَتِهِ غَالِبًا، بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ وَنَحْوِهِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ.

‌116 - بَاب مُبَادَرَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْفَزَعِ

2968 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُبَادَرَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْفَزَعِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي رُكُوبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسَ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ص: 122

الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، وَمَضَى مِرَارًا مِنْهَا فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ.

‌117 - بَاب السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الْفَزَعِ

2969 -

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: فَزِعَ النَّاسُ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا، ثُمَّ خَرَجَ يَرْكُضُ وَحْدَهُ، فَرَكِبَ النَّاسُ يَرْكُضُونَ خَلْفَهُ، فَقَالَ: لَمْ تُرَاعُوا، إِنَّهُ لَبَحْرٌ، فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّرْعَةِ وَالرَّكْضِ فِي الْفَزَعِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَمُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.

‌118 - باب الخروج في الفزع وحده.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ فِي الْفَزَعِ وَحْدَهُ) كَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَاخْتُرِمَ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَقَدْ ضَمَّ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَبُّوَيْهِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا فَقَالَ: بَابُ الْخُرُوجِ فِي الْفَزَعِ وَحْدَهُ وَالْجَعَائِلِ إِلَخْ وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ بَابِ الْجَعَائِلِ مُنَاسَبَةٌ لِذَلِكَ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا قُلْتُ أَوَّلًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جُمْلَةُ مَا فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشِحَّ بِنَفْسِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْغَنَاءِ الشَّدِيدِ وَالثَّبَاتِ الْبَالِغِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسُوغَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْصِمُهُ وَيَنْصُرُهُ.

‌119 - بَاب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلَانِ فِي السَّبِيلِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: الْغَزْوَ. قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِي. قُلْتُ: أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيَّ. قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِي فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِيُجَاهِدُوا ثُمَّ لَا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.

2970 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، فَقَالَ: زَيْدٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: آشْتَرِيهِ؟ فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ.

2971 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ وَلَا

ص: 123

تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ.

2972 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلَانِ فِي السَّبِيلِ) الْجَعَائِلُ بِالْجِيمِ جَمْعُ جَعِيلَةٍ، وَهِيَ: مَا يَجْعَلُهُ الْقَاعِدُ مِنَ الْأُجْرَةِ لِمَنْ يَغْزُو عَنْهُ، وَالْحُمْلَانُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ كَالْحَمْلِ، تَقُولُ: حَمَلَ حَمْلًا وَحُمْلَانًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ أَخْرَجَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَتَطَوَّعَ بِهِ أَوْ أَعَانَ الْغَازِيَ عَلَى غَزْوِهِ بِفَرَسٍ وَنَحْوِهَا فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ أَوْ فَرَسَهُ فِي الْغَزْوِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْحِصْنِ، وَكَرِهَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَعَائِلَ، إِلَّا إِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَلَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَقَالُوا: إِنْ أَعَانَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا جَازَ، لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِجُعْلٍ يَأْخُذُهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنَ السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَمَنْ فَعَلَهُ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَى غَيْرِهِ عِوَضًا، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُمَتِّعُ الْقَاعِدُ الْغَازِيَ بِمَا شَاءَ، فَأَمَّا أَنَّهُ يَبِيعُ غَزْوَهُ فَلَا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْجَعَائِلِ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: أَرَى الْغَازِيَ يَبِيعُ غَزْوَهُ، وَالْجَاعِلَ يَفِرُّ مِنْ غَزْوِهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْغَازِي: هَلْ يَسْتَحِقُّهُ بِسَبَبِ الْغَزْوِ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ يَمْلِكُهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: الْغَزْوَ) هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكَ الْغَزْوَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ أَيْ: أُرِيدُ الْغَزْوَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَتَغْزُو؟ بِالِاسْتِفْهَامِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِمَعْنَاهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مُرَادِ ابْنِ عُمَرَ بِالْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِعَانَةُ الْغَازِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قُرَّةَ قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ نَاسًا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقُمْتُ إِلَى أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثْتُهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: صَدَقَ، جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بِذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِمَعْنَاهُ عَنْهُمَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ؛ أَحَدُهَا: حَدِيثُ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْفَرَسِ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْهِبَةِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْغَزْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ.

وَوَجْهُ دُخُولِ قِصَّةِ فَرَسِ عُمَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الْمَحْمُولَ عَلَيْهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى تَقْوِيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَاوُسٌ مِنْ أَنَّ لِلْآخِذِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَأْخُوذِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كُلُّ مَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَهْمَلَ الْعَمَلَ يَرُدُّ مَا أَخَذَ، وَكَذَا الْأَخْذُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَتَأَهَّلُ لَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَنْ أَعَانَ بِشَيْءٍ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّهُ لِلَّذِي يُعْطَاهُ إِذَا بَلَغَ

ص: 124

رَأْسَ الْمَغْزَى. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا بَلَغْتَ وَادِيَ الْقُرَى فَشَأْنَكَ بِهِ، أَيْ: تَصَرَّفْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ.

وَوَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ الْحُمْلَانُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا: وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ.

‌120 - بَاب الْأَجِيرِ،

وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلْأَجِيرِ مِنْ الْمَغْنَمِ. وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ

2973 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَهُوَ أَوْثَقُ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا فَقَاتَلَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَهَا فَقَالَ: أَيَدْفَعُ يَدَهُ إِلَيْكَ فَتَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَجِيرِ) لِلْأَجِيرِ فِي الْغَزْوِ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتُؤْجِرَ لِلْخِدْمَةِ أَوِ اسْتُؤْجِرَ لِيُقَاتِلَ، فَالْأَوَّلُ؛ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَا يُسْهَمُ لَهُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُسْهَمُ لَهُ؛ لِحَدِيثِ سَلَمَةَ كُنْتُ أَجِيرًا لِطِلْحَةَ أَسُوسُ فَرَسَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لَهُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ إِلَّا إِنْ قَاتَلَ. وَأَمَّا الْأَجِيرُ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِيُقَاتِلَ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا يُسْهَمُ لَهُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: لَهُ سَهْمُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَاسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا عَلَى الْغَزْوِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ سِوَى الْأُجْرَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، أَمَّا الْحُرُّ الْبَالِغُ الْمُسْلِمُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ فَيُسْهَمُ لَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلْأَجِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: الْعَبْدُ وَالْأَجِيرُ إِذَا شَهِدَا الْقِتَالَ أُعْطُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ إِلَخْ) وَهَذَا الصَّنِيعُ جَائِزٌ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ الْمُخَابَرَةَ، وَقَالَ بِصِحَّتِهِ هُنَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلثَّلَاثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْمُخَابَرَةِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْقِصَاصِ ; وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا قَالَ الْمُهَلَّبُ: اسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازَ اسْتِئْجَارِ الْحُرِّ فِي الْجِهَادِ، وَقَدْ خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَةَ فَدَخَلَ الْأَجِيرُ فِي هَذَا الْخِطَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَوْضَحَ مِنَ الَّذِي هُنَا وَلَفْظُهُ: أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ، فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي وَأُجْرِي لَهُ سَهْمِي، فَوَجَدْتُ رَجُلًا، فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَا أَدْرَى مَا سَهْمُكَ وَمَا يَبْلُغُ؟ فَسَمِّ لِي شَيْئًا، كَانَ السَّهْمُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَسَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَهُوَ أَوْثَقُ أَعْمَالِي ; فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: أَحْمَالِي، بِالْمُهْمَلَةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بِالْجِيمِ، وَالَّذِي قَاتَلَ الْأَجِيرُ هُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ نَفْسُهُ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

(تَنْبِيهَانِ):

الْأَوَّلُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بَيْنَ أَثَرِ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ وَحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: بَابُ

ص: 125

اسْتِعَارَةِ الْفَرَسِ فِي الْغَزْوِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَخْلُوَ بَابُ الْأَجِيرِ مِنْ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَأَنَّهُ وَجَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي الطُّرَّةِ خَالِيَةً عَنْ حَدِيثٍ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا وَهِيَ بَابُ الْخُرُوجِ فِي الْفَزَعِ وَحْدَهُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُورِدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ ابْنَ شَبُّوَيْهِ جَعَلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُسْتَقِلَّةً قَبْلَ بَابِ الْأَجِيرِ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَأَوْرَدَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَقِبَ بَابِ الْأَجِيرِ وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا.

ثَانِيهِمَا: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ تَقْدِيمُ بَابِ الْجَعَائِلِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى هُنَا وَأَخَّرَ ذَلِكَ الْبَاقُونَ وَقَدَّمُوا عَلَيْهِ بَابُ مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْخَطْبُ فِيهِ قَرِيبٌ.

‌121 - بَاب مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

2974 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ".

2975 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ فَقَالَ أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي صَبَاحِهَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَاعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ قَالَ لَيَأْخُذَنَّ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَمَا نَرْجُوهُ فَقَالُوا هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ".

[الحديث 2975 - طرفاه في: 3702، 4209]

2976 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلْزُّبَيْرِ رضي الله عنهما "هَا هُنَا أَمَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللِّوَاءُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْمَدِّ هِيَ الرَّايَةُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْعَلَمُ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُمْسِكَهَا رَئِيسُ الْجَيْشِ ثُمَّ صَارَتْ تُحْمَلُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اللِّوَاءُ غَيْرُ الرَّايَةِ، فَاللِّوَاءُ مَا يُعْقَدُ فِي طَرَفِ الرُّمْحِ وَيُلْوَى عَلَيْهِ، وَالرَّايَةُ مَا يُعْقَدُ فِيهِ وَيُتْرَكُ حَتَّى تَصْفِقَهُ الرِّيَاحُ.

وَقِيلَ: اللِّوَاءُ دُونَ الرَّايَةِ. وَقِيلَ: اللِّوَاءُ الْعَلَمُ الضَّخْمُ. وَالْعَلَمُ عَلَامَةٌ لِمَحِلِّ الْأَمِيرِ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، وَالرَّايَةُ يَتَوَلَّاهَا صَاحِبُ الْحَرْبِ. وَجَنَحَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ فَتَرْجَمَ بِالْأَلْوِيَةِ وَأَوْرَدَ حَدِيثَ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ، ثُمَّ تَرْجَمَ لِلرَّايَاتِ وَأَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: أَنَّ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ رَايَتُهُ سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ

ص: 126

حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ آخَرَ مِنْهُمْ: رَأَيْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفْرَاءَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ أُمَّتِي بِالْأَلْوِيَةِ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى رَايَتِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَسَنَدُهُ وَاهٍ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ رَايَةٌ تُسَمَّى الْعِقَابَ سَوْدَاءُ مُرَبَّعَةٌ، وَرَايَةٌ تُسَمَّى الرَّايَةَ الْبَيْضَاءَ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا شَيْءٌ أَسْوَدُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا:

قَوْلُهُ: (عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ فِي الْغَزْوِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ) أَيْ: ابْنَ عُبَادَةَ الصَّحَابِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ صَاحِبُ لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيِ: الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْخَزْرَجِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَغَازِيهِ يَدْفَعُ إِلَى رَأْسِ كُلِّ قَبِيلَةٍ لِوَاءً يُقَاتِلُونَ تَحْتَهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَايَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَكُونُ مَعَ عَلِيٍّ، وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَهَا بِالْمُهْمَلَةِ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ م نْهُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ النَّبَوِيِّ وَلَا يَتَقَرَّرُ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ تَامًّا وَهُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ تَامًّا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ مِنْهَا فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَرَجَّلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ فَقَامَ غُلَامٌ لَهُ فَقَلَّدَ هَدْيَهُ، فَنَظَرَ قَيْسٌ هَدْيَهُ وَقَدْ قُلِّدَ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يُرَجِّلْ شِقَّ رَأْسِهِ الْآخَرَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ بِتَمَامِهِ نَحْوَهُ، وَفِي ذَلِكَ مَصِيرٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْإِحْرَامَ إِذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمُحْرِمِ. وَقَرَأْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ الشَّارِحِينَ تَحَيَّرَ فِي شَرْحِ الْقَدْرِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَتَكَلَّفَ لَهُ وُجُوهًا عَجِيبَةً، فَلْيُنْظَرِ الْمُرَادُ بِالشَّارِحِ الْمَذْكُورِ فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ مَا نَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمَطَالِعِ وَأَبْهَمَ الشَّارِحَ الَّذِي تَحَيَّرَ وَقَالَ: إِنَّهُ حَمَّلَ الْكَلَامَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. وَذَكَرَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي الْحَاشِيَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الرَّايَةَ لَمْ تَكُنْ خَاصَّةً بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَلْ كَانَ يُعْطِيهَا فِي كُلِّ غَزْوَةٍ لِمَنْ يُرِيدُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِلَفْظِ: إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الرَّايَةَ وَاللِّوَاءَ سَوَاءٌ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ - أَيِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَلِّبِ - يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكِزَ الرَّايَةَ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَأُبَيِّنُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي سِيَاقِهِ مِنْ صُورَةِ الْإِرْسَالِ وَالْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَأُبَيِّنُ تَعْيِينَ الْمَكَانَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ الْحَجُونَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ الْخَفِيفَةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّرُ عَلَى الْجَيْشِ مَنْ يُوثَقُ بِقُوَّتِهِ وَبَصِيرَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرَّايَةَ لَا تُرْكَزُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى مَكَانِهِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِأَمْرِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ اتِّخَاذِ الْأَلْوِيَةِ فِي الْحَرْبِ. وَأَنَّ اللِّوَاءَ يَكُونُ مَعَ الْأَمِيرِ

ص: 127

أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ لِذَلِكَ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ الْحَدِيثَ، وَيَأْتِي تَمَامُ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا.

‌122 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وقول الله عز وجل:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}

قَالَهُ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

2977 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.

[الحديث 2977 - أطرافه في: 6998، 7013، 7273]

2978 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ - وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ - ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قَالَهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الَّذِي أَوَّلُهُ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي فَإِنَّ فِيهِ: وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي التَّيَمُّمِ، وَوَقَعَ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي وَظَهَرَ لِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الشَّهْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَمَالِكِ الْكِبَارِ الَّتِي حَوْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ وَمِصْرَ، لَيْسَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ لِلْوَاحِدَةِ مِنْهَا إِلَّا شَهْرٌ فَمَا دُونَهُ، وَدَلَّ حَدِيثُ السَّائِبِ عَلَى أَنَّ التَّرَدُّدَ فِي الشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي سَمِعَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ السَّائِبِ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِتَرَدُّدِهِ، وَحَدِيثُ السَّائِبِ لَا يُنَافِي حَدِيثَ جَابِرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ مُجَرَّدُ حُصُولِ الرُّعْبِ بَلْ هُوَ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَوَّلُهُ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَفِيهِ: وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُوتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَوَامِعُ الْكَلِمِ: الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ تَقَعُ فِيهِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةُ بِالْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ، وَكَذَلِكَ يَقَعُ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يُفْتَحُ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْفُتُوحِ، وَقِيلَ: الْمَعَادِنُ، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا بِوَزْنِ تَفْتَعِلُونَهَا - مِنَ النَّثْلِ بِالنُّونِ وَالْمُثَلَّثَةِ - أَيْ: تَسْتَخْرِجُونَهَا، تَقُولُ: نَثَلْتُ الْبِئْرَ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَ تُرَابَهَا.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، ذَكَرَ طَرَفًا مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِطُولِهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: أَنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ قَيْصَرُ يَنْزِلُ فِيهِ مُدَّةُ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ.

ص: 128

‌123 - بَاب حَمْلِ الزَّادِ فِي الْغَزْوِ، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

2979 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي - وَحَدَّثَتْنِي أَيْضًا فَاطِمَةُ - عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي. قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ؛ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالْآخَرِ السُّفْرَةَ. فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.

[الحديث 2979 - طرفاه في: 3907، 5388]

2980 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عمرو وقال عمرو:، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ.

2981 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّوْا الْعَصْرَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَطْعِمَةِ، ولَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا وَصَلَّيْنَا.

2982 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِم، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: بَابُ حَمْلِ الزَّادِ فِي الْغَزْوِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ حَمْلَ الزَّادِ فِي السَّفَرِ لَيْسَ مُنَافِيًا لِلتَّوَكُّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَسْمِيَتِهَا ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهَا: فَلَمْ تَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا تَرْبِطُهُمَا بِهِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي حَمْلِ آلَةِ الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ. وَالنِّطَاقُ بِكَسْرِ النُّونِ: مَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ وَسَطَهَا لِيَرْتَفِعَ بِهِ ثَوْبُهَا مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ الْمِهْنَةِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْأَضَاحِي الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ

ص: 129

سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ وَفِيهِ: فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَطْعِمَةِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: بِالْأَزْوَادِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَلُكْنَا بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: أَدَرْنَا اللُّقْمَةَ فِي الْفَمِ، وَقَوْلُهُ: وَشَرِبْنَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَضْمَضَةَ، كَذَا قَالَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمُ اسْتَفَّ السَّوِيقَ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ فِي الْمَاءِ وَشَرِبَهُ فَلَا إِشْكَالَ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ: خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ الْحَدِيثَ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: (أَمْلَقُوا) أَيْ: فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمَعْنَى أَمْلَقَ: افْتَقَرَ، وَقَدْ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَفْنَى.

قَوْلُهُ: (فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ) أَيْ: بِسَبَبِ نَحْرِ إِبِلِهِمْ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ.

قَوْلُهُ: (نَادِ فِي النَّاسِ يَأْتُونَ) أَيْ: فَهُمْ يَأْتُونَ، وَلِذَلِكَ رَفَعَهُ، وَزَادَ فِي الشَّرِكَةِ: فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ فَتْحَ النُّونِ وَكَسْرَهَا وَفَتْحَ الطَّاءِ وَسُكُونَهَا.

قَوْلُهُ: (وَبَرَّكَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: دَعَا بِالْبَرَكَةِ، وَقَوْلُهُ:(عَلَيْهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الطَّعَامِ، وَمِثْلُهُ فِي الشَّرِكَةِ.

قَوْلُهُ: (فَاحْتَثَى النَّاسُ) بِمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، أَيْ: أَخَذُوا حَثْيَةً حَثْيَةً.

وَقَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدُ) إِلَى آخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزَةِ مِمَّا يُؤَيِّدُ الرِّسَالَةَ.

وَفِي الْحَدِيثِ حُسْنُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِجَابَتُهُ إِلَى مَا يَلْتَمِسُ مِنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِجْرَاؤُهُمْ عَلَى الْعَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَمَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ دَالَّةٌ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِهِ بِإِجَابَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى حُسْنِ نَظَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي إِجَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ عَلَى نَحْرِ إِبِلِهِمْ مَا يَتَحَتَّمُ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ بِلَا ظَهْرٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُمْ مَا يَحْمِلُهُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ وَنَحْوِهَا، لَكِنْ أَجَابَ عُمَرُ إِلَى مَا أَشَارَ بِهِ لِتَعْجِيلِ الْمُعْجِزَةِ بِالْبَرَكَةِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الطَّعَامِ.

وَقَدْ وَقَعَ لِعُمَرَ شَبِيهٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْمَاءِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَوْلُ عُمَرَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ أَيْ: لِأَنَّ تَوَالِيَ الْمَشْيِ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ اسْتِبْقَاءً لِظُهُورِهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي الْغَلَاءِ إِلْزَامُ مَنْ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ أَنْ يُخْرِجَهُ لِلْبَيْعِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ النَّاسِ، وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ جَوَازُ الْمَشُورَةِ عَلَى الْإِمَامِ بِالْمَصْلَحَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ الِاسْتِشَارَةُ.

‌124 - بَاب حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقَابِ

2983 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ ثلاثمِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا فَفَنِيَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، قَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْنَ كَانَتْ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنْ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ الزَّادِ عَلَى الرِّقَابِ) أَيْ: عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الدَّوَابِّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْعَنْبَرِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

ص: 130

‌125 - بَاب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا

2984 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ. فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي وَلْيُرْدِفْكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، فَانْتَظَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى مَكَّةَ حَتَّى جَاءَتْ.

2985 -

حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُرْدِفَ عَائِشَةَ وَأُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ارْتِدَافِهَا فِي الْعُمْرَةِ خَلْفَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ دُخُولِهِ هُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ.

‌126 - بَاب الِارْتِدَافِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ

2986 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا؛ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِارْتِدَافِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ.

‌127 - بَاب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ

2987 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ.

[الحديث 2987 - أطرافه في: 4566، 5663، 5964، 6207]

2988 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَمَعَهُ بِلَالٌ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ

ص: 131

طَلْحَةَ مِنْ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَفَتَحَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ، فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلًا ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مُخْتَصَرًا فِي ارْتِدَافِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَظْهَرُ وَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ.

وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْحَجِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَكِنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَةٍ.

‌128 - بَاب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ

2989 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ) أَيْ: مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) كَذَا هُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ لَكِنَّ سِيَاقَهُ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِهِ هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي الصُّلْحِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِسِيَاقِهِ هُنَا فَلْيُفَسَّرْ بِهِ هَذَا الْمُهْمَلُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (كُلُّ سُلَامَى) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، أَيْ: أُنْمُلَةٍ، وَقِيلَ: كُلُّ عَظْمٍ مُجَوَّفٍ صَغِيرٍ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ عَظْمٌ يَكُونُ فِي فِرْسِنِ الْبَعِيرِ وَاحِدُهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ. وَقِيلَ: جَمْعُهُ سُلَامَيَاتٌ. وَقَوْلُهُ: كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ بِنَصْبِ كُلٍّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ مُشْكِلٌ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْمَعْهُودُ فِي كُلٍّ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ مِنْ خَبَرٍ وَتَمْيِيزٍ وَغَيْرِهِمَا أَنْ تَجِيءَ عَلَى وَفْقِ الْمُضَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وَهُنَا جَاءَ عَلَى وَفْقِ كُلٍّ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، لِأَنَّ السُّلَامَى مُؤَنَّثَةٌ، لَكِنْ دَلَّ مَجِيئُهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْجَوَازِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ السُّلَامَى مَعْنَى الْعَظْمِ، أَوِ الْمَفْصِلِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ بِعَدَدِ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ عِظَامِهِ صَدَقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الشُّكْرِ لَهُ؛ بِأَنْ جَعَلَ عِظَامَهُ مَفَاصِلَ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِمَا فِي التَّصَرُّفِ بِهَا مِنْ دَقَائِقِ الصَّنَائِعِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الْآدَمِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَعْدِلُ) فَاعِلُهُ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَدْلِ نَحْوُ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}

قَوْلُهُ: (وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا) هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمَتَاعَ أَوِ الرَّاكِبَ.

ص: 132

وَقَوْلُهُ: أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ إِمَّا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ تَنْوِيعٌ، وَحَمْلُ الرَّاكِبِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُ كَمَا هُوَ أَوْ بِعَيْنِهِ فِي الرُّكُوبِ فَتَصِحُّ التَّرْجَمَةُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا تُؤْخَذُ التَّرْجَمَةُ مِنْ مُجَرَّدِ صِيغَةِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ، بَلْ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الْمَعْنَى، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ قَالَ: وَأَنَا آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُعَلَّقًا، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ تَوْقِيفًا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌129 - بَاب كراهية السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ،

وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ

2990 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) سَقَطَ لَفْظُ: كَرَاهِيَةِ، إِلَّا لِلْمُسْتَمْلِي فَأَثْبَتَهَا، وَبِثُبُوتِهَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْآتِي.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ

(1)

(عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) وَتَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ. أَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ فَوَصَلَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَرْقَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ بِلَفْظِ الْكَرَاهَةِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ. وَأَمَّا مُتَابَعَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ فَهِيَ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ أَوِ التَّحْرِيمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ) أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ لَا السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ مَنْ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ لَا يَغْزُو الْعَدُوَّ فِي دَارِهِمْ، وَهُوَ اعْتِرَاضُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ. وَادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِذَلِكَ تَقْوِيَةُ الْقَوْلِ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ وَالطَّائِفَةِ الْقَلِيلَةِ، فَيَجُوزُ فِي تِلْكَ دُونَ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَن مَالِكٍ وَزَادَ: مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُ مَخَافَةَ فَذَكَرَهُ،

(1)

في هامش طبعة بولاق: هو ابن عمر بواسطة، لا أنه ابن عمر نفسه، كما في القسطلاني.

ص: 133

قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ جَعَلُوا التَّعْلِيلَ مِنْ كَلَامِهِ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ ; وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَفَعَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بِلَفْظِ: فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ فَصَحَّ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَلَيْسَ بِمُدْرَجٍ، وَلَعَلَّ مَالِكًا كَانَ يَجْزِمُ بِهِ، ثُمَّ صَارَ يَشُكُّ فِي رَفْعِهِ فَجَعَلَهُ مِنْ تَفْسِيرِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ لَا يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ فِي السَّرَايَا وَالْعَسْكَرِ الصَّغِيرِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرِ الْمَأْمُونِ عَلَيْهِ؛ فَمَنَعَ مَالِكٌ أَيْضًا مُطْلَقًا، وَفَصَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَدَارَ الشَّافِعِيَّةُ الْكَرَاهَةَ مَعَ الْخَوْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالْمَالِكِيَّةِ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ: هَلْ يَصِحُّ لَوْ وَقَعَ وَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ تَعَلُّمِ الْكَافِرِ الْقُرْآنَ؛ فَمَنَعَ مَالِكٌ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، وَفَصَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَأَجَازَهُ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ فَمَنَعَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ هِرَقْلَ حَيْثُ كَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الْآيَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ هَلْ يُرْشَدُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ):

ادَّعَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ تَرْتِيبَ هَذَا الْبَابِ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَدِّمَ حَدِيثَ مَالِكٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ إِلَخْ، قَالَ: وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى الْمُتَابَعَةِ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَادَ فِي الْحَدِيثِ: مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ، وَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ انْتَهَى. وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَلَطِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ يُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ إِلَى لَفْظِ التَّرْجَمَةِ كَمَا بَيَّنَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ مِنْ سَبَبِ الْمُتَابَعَةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَمُتَابَعَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَهُ إِنَّمَا هِيَ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ أَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ الْمُصْحَفُ لَا حَامِلُ الْقُرْآنِ.

‌130 - بَاب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ

2991 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَبَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} وَأَصَبْنَا حُمُرًا فَطَبَخْنَاهَا، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ بِمَا فِيهَا. تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ سُفْيَانَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ) أَيْ: جَوَازُهُ أَوْ مَشْرُوعِيَّتُهُ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ خَيْبَرَ وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالَّذِي نَادَى بِالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ؛ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ: تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنْ سُفْيَانَ يَعْنِي: عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ شَيْخَهُ، وَسَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

ص: 134

‌131 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي التَّكْبِيرِ

2992 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ.

[الحديث 2992 - أطرافه في: 4205، 6384، 6409، 6610، 7386]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي التَّكْبِيرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: كُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ارْبَعُوا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ: ارْفُقُوا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ كَرَاهِيَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ انْتَهَى. وَتَصَرُّفُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ إِذَا انْصَرَفُوا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ.

‌132 - بَاب التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا

2993 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا.

[الحديث 2993 - طرفه في: 2994]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْبِيحِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا) وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا.

‌133 - بَاب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا

2994 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا تَصَوَّبْنَا سَبَّحْنَا.

2995 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ الْغَزْوِ يَقُولُ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ قَالَ صَالِحٌ فَقُلْتُ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ لَا".

ص: 135

ثُمَّ قَال (بَابُ التَّكْبِيرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا)

وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ وَفِيهِ: وَإِذَا تَصَوَّبْنَا سَبَّحْنَا أَيِ: انْحَدَرْنَا، وَالتَّصْوِيبُ النُّزُولُ.

وَالْفَدْفَدُ، بِفَاءَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ: هِيَ الْأَرَضُ الْغَلِيظَةُ ذَاتُ الْحَصَى، وَقِيلَ: الْمُسْتَوِيَةُ. وَقِيلَ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الصُّلْبُ.

وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، زَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، وَتَعَقَّبَهُ الْجَيَّانِيُّ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَسَالِمٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَأَمَّا سَالِمٌ الْمَذْكُورُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَالْغَرَضُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ فِيهِ: كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا، قَالَ الْمُهَلَّبُ: تَكْبِيرُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الِارْتِفَاعِ اسْتِشْعَارً لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ عز وجل وَعِنْدَما يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ مِنْ عَظِيمِ خَلْقِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَسْبِيحُهُ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ قِصَّةِ يُونُسَ؛ فَإِنَّ بِتَسْبِيحِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَسَبَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ لِيُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ التَّسْبِيحِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْخَفِضَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ التَّنْزِيهُ، فَنَاسَبَ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِ الِانْخِفَاضِ كَمَا نَاسَبَ تَكْبِيرَهُ عِنْدَ الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ جِهَتَيِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُوصَفَ بِالْعُلُوِّ لِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْعُلُوِّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالْمُسْتَحِيلُ كَوْنُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِسِّ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي صِفَتِهِ الْعَالِي وَالْعَلِيُّ وَالْمُتَعَالِي، وَلَمْ يَرِدْ ضِدُّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا جَلَّ وَعَزَّ.

‌134 - بَاب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ

2996 -

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ، وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ) أَيْ: إِذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ) هُوَ ابْنُ حَوْشَبٍ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَزْنُ جَعْفَرٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ) أَيْ: مَعَ يَزِيدَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا شَامِيٌّ، وَاسْمُ أَبِيهِ: حَيْوِيلُ، بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ، بَعْدهَا تَحْتَانِيَّةٌ أُخْرَى سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلِيَ خَرَاجَ السِّنْدِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَاتَ فِي خِلَافَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ)، فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ: وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ يَصُومُ الدَّهْرَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ) فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا فَشَغَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مَرَضٌ.

قَوْلُهُ: (كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) هُوَ مِنَ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَقْلُوبِ، فَالْإِقَامَةُ فِي مُقَابِلِ السَّفَرِ وَالصِّحَّةِ فِي مُقَابِلِ الْمَرَضِ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ طَاعَةً فَمُنِعَ مِنْهَا وَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَوْلَا الْمَانِعُ أَنْ يَدُومَ عَلَيْهَا، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ

ص: 136

الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، وَعِنْدَهُ فِي آخِرِهِ: كَأَصْلَحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: أن الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ: اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَم لِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا حَتَّى أُطْلِقَهُ أَوْ أَكْفِتَهُ إِلَيَّ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ اللَّهُ: اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ. وَلِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مُتَابَعٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْمَرِيضِ أَفْضَلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ مَا دَامَ فِي وَثَاقِهِ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ مِنَ اللَّيْلِ يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي النَّوَافِلِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرَائِضِ فَلَا تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ تَحَجَّرَ وَاسِعًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ الْفَرَائِضِ فِي ذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ أَجْرَ مَا عَجَزَ عَنْهُ، كَصَلَاةِ الْمَرِيضِ جَالِسًا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ الْقَائِمِ انْتَهَى. وَلَيْسَ اعْتِرَاضُهُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ إِذَا تَكَلَّفَ الْعَمَلَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَعْذَارَ الْمُرَخِّصَةَ لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ تُسْقِطُ الْكَرَاهَةَ وَالْإِثْمَ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُحَصِّلَةً لِلْفَضِيلَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الرُّويَانِيُّ فِي التَّلْخِيصِ، وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّى وَحَضَرَ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ: مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً فَتَعَذَّرَ فَانْفَرَدَ، كُتِبَ لَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ ; وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَادَةٌ لَكِنْ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ فَتَعَذَّرَ فَانْفَرَدَ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ قَصْدِهِ لَا ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْجَمَاعَةَ لَكِنَّهُ قَصْدٌ مُجَرَّدٌ، وَلَوْ كَانَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً كَانَ دُونَ مَنْ جَمَعَ وَالْأُولَى سَبَقَهَا فِعْلٌ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَلِلثَّانِي أَنَّ أَجْرَ الْفِعْلِ يُضَاعَفُ وَأَجْرَ الْقَصْدِ لَا يُضَاعَفُ بِدَلِيلِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي صَلَّى مُنْفَرِدًا وَلَوْ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ اعْتَادَهَا فَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ صَلَاةِ مُنْفَرِدٍ بِالْأَصَالَةِ وَثَوَابُ مُجْمِعٍ بِالْفَضْلِ. انْتَهَى مُلَخَّصَا.

‌135 - بَاب السَّيْرِ وَحْدَهُ

2997 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ. قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ.

2998 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ح. حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ

ص: 137

صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّيْرِ وَحْدَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا عن جَابِرٍ فِي انْتِدَابِ الزُّبَيْرِ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ هَذَا الْحَدِيثَ كَيْفَ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَرَّرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الزُّبَيْرِ انْتَدَبَ أَنْ لَا يَكُونَ سَارَ مَعَهُ غَيْرُهُ مُتَابِعًا لَهُ.

قُلْتُ: لَكِنْ قَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزُّبَيْرَ تَوَجَّهَ وَحْدَهُ، وَسَيَأْتِي فِي مَنَاقِبِ الزُّبَيْرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ بَنِي قُرَيْظَةَ؟ فَانْطَلَقْتُ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ) هُوَ مَوْصُولٌ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْهُ.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَقَوْلُهُ مَا أَعْلَمُ أَيِ الَّذِي أَعْلَمُهُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْوَحْدَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ.

(تَنْبِيهَانِ):

أَحَدُهُمَا: قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ:، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ، وَقَالَ بَعْدَهُ: وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ عَاصِمٍ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ، وَلَا فِي كِتَابِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ انْتَهَى. وَالَّذِي وَقَعَ لَنَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، فَسَاقَ الْإِسْنَادَ ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ فَذَكَرَهُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبِهَانِيُّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَبِي الْوَلِيدِ، فَلَعَلَّ لَفْظَ: حَدَّثَنَا، فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ وَحْدَهُ.

ثَانِيهِمَا: ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخَاهُ قَدْ رَوَاهُ مَعَهُ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: السَّيْرُ لِمَصْلَحَةِ الْحَرْبِ أَخَصُّ مِنَ السَّفَرِ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السَّفَرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ جَوَازُ السَّفَرِ مُنْفَرِدًا لِلضَّرُورَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَنْتَظِمُ إِلَّا بِالِانْفِرَادِ؛ كَإِرْسَالِ الْجَاسُوسِ وَالطَّلِيعَةِ، وَالْكَرَاهَةُ لِمَا عَدَا ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَالَةُ الْجَوَازِ مُقَيَّدَةً بِالْحَاجَةِ عِنْدَ الْأَمْنِ وَحَالَةُ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةً بِالْخَوْفِ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي بَعْثُ كُلٍّ مِنْ حُذَيْفَةَ، وَنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَخَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَسَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَبُسْبَسَةَ

(1)

فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحِ، وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; وَيَأْتِي فِي بَابِ الْجَاسُوسِ بَعْدَ قَلِيلٍ.

‌136 - بَاب السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ

وقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فليتعجل.

2999 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما كَانَ يَحْيَى يَقُولُ: وَأَنَا أَسْمَعُ فَسَقَطَ عَنِّي - عَنْ مَسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فقَالَ: فَكَانَ يَسِيرُ

(1)

هو بسبسة بن عمرو الجهني. ورد في صحيح مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعثه عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان

ص: 138

الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ.

3000 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ، جمع بَيْنَهُمَا وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا.

3001 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ) أَيْ: فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ، إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ بِطُولِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. ثم ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي سَيْرِ الْعَنَقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - كَانَ يَحْيَى يَقُولُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَسَقَطَ عَنِّي - الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، وَالدَّوْرَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَالَ فِيهِ: سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدُهُ

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَمَّا بَلَغَهُ وَجَعُ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَقَوْلُهُ: نَهْمَتَهُ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَيْ: رَغْبَتَهُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: تَعَجُّلُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُرِيحَ نَفْسَهُ وَيُفْرِحَ أَهْلَهُ، وَتَعَجُّلُهُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِيُعَجِّلَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَتَعَجُّلُ ابْنِ عُمَرَ إِلَى زَوْجَتِهِ لَيُدْرِكَ مِنْ حَيَاتِهَا مَا يُمْكِنُهُ أَنْ تَعْهَدَ إِلَيْهِ بِمَا لَا تَعْهَدُ إِلَى غَيْرِهِ.

‌137 - بَاب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ

3002 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ.

3003 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَابْتَاعَهُ، أَوْ فَأَضَاعَهُ، الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ

ص: 139

يَعُودُ فِي قَيْئِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثَ عُمَرَ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا وَبَيَانُ مَكَانِ شَرْحِهِمَا.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: ابْتَاعَهُ أَوْ أَضَاعَهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: ابْتَاعَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ وَإِنَّمَا عَرَضَهُ لِلْبَيْعِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ بَاعَهُ، فَهُوَ بِمَعْنَى عَرَضَهُ لِلْبَيْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌138 - بَاب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ

3004 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ، وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.

[الحديث 3004 - طرفه في: 5972]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجِهَادِ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ) كَذَا أَطْلَقَ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَقَيَّدَهُ بِالْإِسْلَامِ الْجُمْهُورُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمَا مَنَعَاهُ، لَكِنْ لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ، وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ صَوْمِ دَاوُدَ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَدْ خَالَفَ الْأَعْمَشُ، شُعْبَةَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَعَلَّ لِحَبِيبٍ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ بَكْرَ بْنَ بَكَّارٍ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَاهِمَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ: أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ لِأَسْتَشِيرَكَ. فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: الْزَمْهَا، الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَذَكَرَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرَا بَيَّنْتُهُ فِي تَرْجَمَةِ جَاهِمَةَ مِنْ كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِمَا فَجَاهِدْ) أَيْ: خَصِّصْهُمَا بِجِهَادِ النَّفْسِ فِي رِضَاهُمَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّعْبِيرِ عَنِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَجَاهِدْ، ظَاهِرُهَا إِيصَالُ الضَّرَرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمَا لَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِيصَالُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ كُلْفَةِ الْجِهَادِ، وَهُوَ تَعَبُ الْبَدَنِ وَالْمَالِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتْعِبُ النَّفْسَ يُسَمَّى جِهَادًا، وَفِيهِ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ، وَأَنَّ الْمُسْتَشَارَ يُشِيرُ بِالنَّصِيحَةِ الْمَحْضَةِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ يُسْتَفْضَلُ عَنِ الْأَفْضَلِ فِي أَعْمَالِ الطَّاعَةِ لِيُعْمَلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ فَضْلَ الْجِهَادِ فَبَادَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَقْنَعْ حَتَّى اسْتَأْذَنَ فِيهِ فَدُلَّ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَلَوْلَا السُّؤَالُ مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ. وَلِمُسْلِمٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ نَاعِمٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: ارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا. وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَحْرُمُ الْجِهَادُ إِذَا مَنَعَ الْأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ،

ص: 140

لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلَا إِذْنَ.

وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، قَالَ: الصَّلَاةُ. قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ: فَإِنَّ لِي وَالِدَيْنِ. فَقَالَ: آمُرُكَ بِوَالِدَيْكَ خَيْرًا. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا، لَأُجَاهِدَنَّ وَلأَتْرُكَنَّهُمَا. قَالَ: فَأَنْتَ أَعْلَمُ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جِهَادِ فَرْضِ الْعَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.

وَهَلْ يُلْحَقُ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ بِالْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ؟ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَعَمْ، وَالْأَصَحُّ أَيْضًا أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ لِشُمُولِ طَلَبِ الْبِرِّ، فَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا فَأَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يُعْتَبَرْ إِذْنُ أَبَوَيْهِ، وَلَهُمَا الرُّجُوعُ فِي الْإِذْنِ إِلَّا إِنْ حَضَرَ الصَّفَّ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَا أَنْ لَا يُقَاتِلَ فَحَضَرَ الصَّفَّ فَلَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ بِغَيْرِ إِذْنِ لِأَنَّ الْجِهَادَ إِذَا مُنِعَ مَعَ فَضِيلَتِهِ فَالسَّفَرُ الْمُبَاحُ أَوْلَى، نَعَمْ إِنْ كَانَ سَفَرُهُ لِتَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ، حَيْثُ تَعْيِينُ السَّفَرِ طَرِيقًا إِلَيْهِ، فَلَا مَنْعَ، وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَعْظِيمُ حَقِّهِمَا وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى بِرِّهِمَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌139 - بَاب مَا قِيلَ فِي الْجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي أَعْنَاقِ الْإِبِلِ

3005 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا: لَا تبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي الْجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي أَعْنَاقِ الْإِبِلِ) أَيْ: مِنَ الْكَرَاهَةِ، وَقَيَّدَهُ بِالْإِبِلِ لِوُرُودِ الْخَيْرِ فِيهَا بِخُصُوصِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ هُوَ الْمَازِنِيُّ، وَهُوَ وَشَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ أَنْصَارِيِّونَ مَدَنِيُّونَ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبَّادٌ تَابِعِيَّانِ.

قَوْلُهُ: (إن أَبَا بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ) لَيْسَ لِأَبِي بَشِيرٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِيمَنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ الْحُرَيْرِ، بِمُهْمَلَاتٍ، مُصَغَّرٌ، ابْنِ عَمْرٍو. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَسَاقَ نَسَبَهُ إِلَى مَازِنٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ نِسْبَةُ أَبِي بَشِيرٍ سَاعِدِيًّا، فَإِنْ كَانَ قَيْسٌ يُكَنَّى أَبَا بَشِيرٍ أَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ صَاحِبِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَبُو بَشِيرٍ الْمَازِنِيُّ هَذَا عَاشَ إِلَى بَعْدِ السِّتِّينَ وَشَهِدَ الْحَرَّةَ وَجُرِحَ بِهَا وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الرَّاوِي، وَكَأَنَّهُ شَكَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَمْ أَرَهَا مِنْ طَرِيقِهِ إِلَّا هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ: أَرْسَلَ مَوْلَاهُ زَيْدًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي.

قَوْلُهُ: (فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ) كَذَا هُنَا بِلَفْظِ أَوْ وَهِيَ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ بِلَفْظِ: وَلَا قِلَادَةَ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُهَلَّبُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقِلَادَةِ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ بِكَرَاهَتِهَا إِلَّا فِي الْوَتَرِ، وَقَوْلُهُ: وَتَرٍ، بِالْمُثَنَّاةِ، فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رُبَّمَا صَحَّفَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وَبَرٍ بِالْمُوَحَّدَةِ. قُلْتُ: حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ

ص: 141

الدَّاوُدِيَّ جَزَمَ بِذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ مَا يُنْتَزَعُ عَنِ الْجِمَالِ يُشْبِهُ الصُّوفَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَصُحِّفَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي الْمُرَادِ بِالْأَوْتَارِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ أَوْتَارَ الْقَسِّيِّ لِئَلَّا تُصِيبَهَا الْعَيْنُ بِزَعْمِهِمْ، فَأُمِرُوا بِقَطْعِهَا، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَوْتَارَ لَا تَرُدُّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَقَعَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْعَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَالتَّمِيمَةُ: مَا عُلِّقَ مِنَ الْقَلَائِدِ خَشْيَةَ الْعَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا اعْتَقَدَ الَّذِي قَلَّدَهَا أَنَّهَا تَرُدُّ الْعَيْنَ فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرُدُّ الْقَدَرَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ.

ثَانِيهَا: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَنِقَ الدَّابَّةُ بِهَا عِنْدَ شِدَّةِ الرَّكْضِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ يُرَجِّحُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَيَضِيقُ عَلَيْهَا نَفَسُهَا وَرَعْيُهَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِشَجَرَةٍ فَاخْتَنَقَتْ أَوْ تَعَوَّقَتْ عَنِ السَّيْرِ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ فِيهَا الْأَجْرَاسَ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَرْفُوعًا: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ لَا تَبْقَيَنَّ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ وَلَا جَرَسٍ فِي عُنُقِ بَعِيرٍ إِلَّا قُطِعَ.

قُلْتُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَعْلِيقِ الْأَجْرَاسِ فِي رِقَابِ الْخَيْلِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَهْبٍ الْحَسَّانِيِّ رَفَعَهُ: ارْبِطُوا الْخَيْلَ وَقَلِّدُوهَا، وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ. فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلْإِبِلِ، فَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِهَا فِي التَّرْجَمَةِ لِلْغَالِبِ.

وَقَدْ حَمَلَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْأَوْتَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الثَّأْرِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ: لَا تَطْلُبُوا بِهَا ذُحُولَ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ضَعِيفٌ. وَإِلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّضْرِ جَنَحَ وَكِيعٌ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَا تَرْكَبُوا الْخَيْلَ فِي الْفِتَنِ، فَإِنَّ مَنْ رَكِبَهَا لَمْ يَسْلَمْ أَنْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وَتَرٌ يُطْلَبُ بِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْتَارِ جَمْعُ الْوَتَرِ، بِالتَّحْرِيكِ، لَا الْوَتْرِ بِالْإِسْكَانِ، مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَفَعَهُ: مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ. فَإِنَّهُ عِنْدَ الرُّوَاةِ أَجْمَعَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَالْجَرَسُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَعْرُوفٌ، وَحَكَى عِيَاضٌ إِسْكَانَ الرَّاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي بِالْفَتْحِ اسْمُ الْآلَةِ وَبِالْإِسْكَانِ اسْمُ الصَّوْتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الْجَرَسُ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِيهِ لِصَوْتِهِ لِأَنَّ فِيهَا شَبَهًا بِصَوْتِ النَّاقُوسِ وَشَكْلِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ وَأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ: إِذَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ مِنَ الْقَلَائِدِ بِالْوَتَرِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهَا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ دَفْعُ الْعَيْنِ.

هَذَا كُلُّهُ فِي تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ وَنَحْوُهُ، فَأَمَّا مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَلَا نَهْيَ فِيهِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْعَلُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ وَذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَا نَهْيَ عَمَّا يُعَلَّقُ لِأَجْلِ الزِّينَةِ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْخُيَلَاءَ أَوِ السَّرَفَ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيقِ الْجَرَسِ أَيْضًا.

ثَالِثُهَا يَجُوزُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الصَّغِيرَ مِنْهَا دُونَ الْكَبِيرِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حِبَّانَ فَزَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُ الرُّفْقَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْجَرَسُ إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا.

‌140 - بَاب مَنْ اكْتُتِبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتْ امْرَأَتُهُ حَاجَّةً، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ؟

3006 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

ص: 142

أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتْ امْرَأَتِي حَاجَّةً؟ قَالَ: اذْهَبْ فاحجج مَعَ امْرَأَتِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اكْتَتَبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ حَاجَّةً، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ؟) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ.

وَفِيهِ قَوْلُهُ: اذْهَبْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْمُحْصَرِ مِنَ الْحَجِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَجَّ فِي حَقِّ مِثْلِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ حَجِّ التَّطَوُّعِ فِي حَقِّهِ تَحْصِيلُ حَجِّ الْفَرْضِ لِامْرَأَتِهِ، وَكَانَ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ لَهُ أَفْضَلَ مِنْ مُجَرَّدِ الْجِهَادِ الَّذِي يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ كِتَابَةِ الْجَيْشِ، وَنَظَرُ الْإِمَامِ لِرَعِيَّتِهِ بِالْمَصْلَحَةِ.

‌141 - بَاب الْجَاسُوسِ

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} التَّجَسُّسُ التَّبَحُّثُ.

3007 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ وقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا. فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَءا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ صَدَقَكُمْ. فقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.

قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا.

[الحديث 3007 - أطرافه في: 3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَاسُوسِ) بِجِيمٍ وَمُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: حُكْمُهُ إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَمَشْرُوعِيَّتُهُ إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (وَالتَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ) مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ إِمَّا لِمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِهَا، وَإِمَّا لِأَنْ يَنْتَزِعَ

ص: 143

مِنْهَا حُكْمَ جَاسُوسِ الْكُفَّارِ، فَإِذَا طَلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكْتُمُ أَمَرَهُ بَلْ يَرْفَعُهُ إِلَى الْإِمَامِ لِيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِ جَاسُوسِ الْكُفَّارِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ بَابًا.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَذْكُرُ فِيهِ الْمَرْأَةَ وَتَسْمِيَةَ مَنْ عُرِفَ مِمَّنْ كَاتَبَهُ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: رَوْضَةُ خَاخٍ بِمَنْقُوطَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ، وَالظَّعِينَةُ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ: الْمَرْأَةُ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا أَيْ: عَجَبًا لِجَلَالَةِ رِجَالِهِ وَصَرِيحِ اتِّصَالِهِ

‌142 - بَاب الْكِسْوَةِ لِلْأُسَارَى

3008 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ.

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكِسْوَةِ لِلْأُسَارَى) أَيْ: بِمَا يُوَارِي عَوْرَاتِهِمْ، إِذْ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى) مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

قَوْلُهُ: (وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَوْلُهُ: (يَقْدُرُ عَلَيْهِ) بِضَمِّ الدَّالِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ بَيْنَ الطُّولِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ.

قَوْلُهُ: (فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ) أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عِنْدَ دَفْنِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ وَمَا يُحْتَمَلُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِدْرَاجِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ، أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَقَوْلُهُ: يَدٌ أَيْ: نِعْمَةٌ، وَهُوَ مُحَصَّلُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَنَائِزِ: كَانُوا يَرَوْنَ إِلَخْ

‌143 - بَاب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ

3009 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ رضي الله عنه يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ

ص: 144

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌144 - بَاب الْأُسَارَى فِي السَّلَاسِلِ

3010 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ.

[الحديث 3010 - طرفه في: 4557]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأُسَارَى فِي السَّلَاسِلِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ بِلَفْظِ: يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْعَجَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ الرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ وَضْعِ السَّلَاسِلِ فِي الْأَعْنَاقِ فَالتَّرْجَمَةُ مُطَابِقَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَجَازَ عَنِ الْإِكْرَاهِ فَلَيْسَتْ مُطَابِقَةً.

قُلْتُ: الْمُرَادُ بِكَوْنِ السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ الدُّنْيَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا فِي السَّلَاسِلِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ يَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أُسِرُوا وَقُيِّدُوا، فَلَمَّا عَرَفُوا صِحَّةَ الْإِسْلَامِ دَخَلُوا طَوْعًا، فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَسْرِ وَالتَّقْيِيدِ هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْإِكْرَاهِ التَّسَلْسُلَ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَقَامَ الْمُسَبَّبَ مَقَامَ السَّبَبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّلْسَلَةِ: الْجَذْبَ الَّذِي يَجْذِبُهُ الْحَقُّ مَنْ خَلَّصَ عِبَادَهُ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْهُبُوطِ فِي مَهَاوِي الطَّبِيعَةِ إِلَى الْعُرُوجِ لِلدَّرَجَاتِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَنَحْوُهُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ رَفَعَهُ: رَأَيْتُ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ كَرْهًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ يَسْبِيهُمُ الْمُهَاجِرُونَ فَيُدْخِلُونَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مُكْرَهِينَ.

وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَمَنَعَ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ التَّقْيِيدِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى: يُقَادُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ مُكْرَهِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَمَّ سِلْسِلَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُسْلِمِينَ الْمَأْسُورِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُفْرِ يَمُوتُونَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُقْتَلُونَ فَيُحْشَرُونَ كَذَلِكَ، وَعَبَّرَ عَنِ الْحَشْرِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِثُبُوتِ دُخُولِهِمْ عَقِبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌145 - بَاب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ

3011 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَبُو حَسَنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ تأديبها فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ

ص: 145

أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ) ذَكَرَ فِيهِ: حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ وَأَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الْحَدِيثَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْعِتْقِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: جَاءَ النَّصُّ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى سَائِرِ مَنْ أَحْسَنَ فِي مَعْنَيَيْنِ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ لِمَنْ يُعْتِقُ الْأَمَةَ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، فَإِذَا بُعِثَ فَإِيمَانُهُ مُسْتَمِرٌّ فَكَيْفَ يَتَعَدَّدُ إِيمَانُهُ حَتَّى يَتَعَدَّدَ أَجْرُهُ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ إِيمَانَهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِكَذَا رَسُولٌ، وَالثَّانِي بِأَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْمَوْصُوفُ، فَظَهَرَ التَّغَايُرُ فَثَبَتَ التَّعَدُّدُ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعَدُّدُ أَجْرِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُعَانِدْ كَمَا عَانَدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، فَحَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ الثَّانِي بِمُجَاهَدَتِهِ نَفْسَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَنْظَارِهِ.

‌146 - بَاب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ

بَيَاتًا لَيْلًا، لَنُبَيِّتَنَّهُ لَيْلًا، يُبَيَّتُ لَيْلًا.

3012 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

3013 -

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ: كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثُنَا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عَمْرٌو: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ) أَيْ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَيُبَيَّتُونَ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَفُهِمَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِإِصَابَةِ مَنْ ذَكَرَ قَصْرُ الْخِلَافِ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ الْبَيَاتِ إِذَا عَرِيَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ.

قَوْلُهُ: (بَيَاتًا لَيْلًا) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَنَّاةٌ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ إِذَا وَقَعَ فِي الْخَبَرِ لَفْظَةٌ تُوَافِقُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْرَدَ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَتَبَرُّكًا بِالْأَمْرَيْنِ.

وَوَقَعَ عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ هُنَا: لَنُبَيِّتَنَّهُ لَيْلًا، بَيَّتَ لَيْلًا وَهَذَا جَمِيعُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ بَيَّتَ يُرِيدُ قَوْلَهُ:{بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} وَهِيَ فِي السَّبْعَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ قُدِّرَ بِلَيْلٍ يُبَيَّتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 146

هَبَّتْ لِتَعْذِلَنِي بِلَيْلٍ أَسْمَعِ

سَفَهًا تُبَيِّتُكِ الْمَلَامَةُ فَاهْجَعِي

وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَصَحَّفَ بَيَاتًا، فَجَعَلَهَا: نِيَامًا، بِنُونٍ وَمِيمٍ مِنَ النَّوْمِ فَصَارَتْ هَكَذَا: فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ نِيَامًا لَيْلًا، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنْ زِيَادَتِهِ فِي التَّرْجَمَةِ نِيَامًا وَمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا ضِمْنًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ إِذَا وَقَعَ بِهِمْ لَيْلًا كَانَ أَكْثَرُهُمْ نِيَامًا، لَكِنْ مَا الْحَاجَةُ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالنَّوْمِ وَالْحُكْمُ سَوَاءٌ نِيَامًا كَانُوا أَوْ أَيْقَاظًا؟ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَتْلَهُمْ نِيَامًا أَدْخَلُ فِي الِاغْتِيَالِ مِنْ كَوْنِهِمْ أَيْقَاظًا، فَنَبَّهَ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ صَحَّفَ ثُمَّ تَكَلَّفَ.

وَمَعْنَى الْبَيَاتِ الْمُرَادِ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُغَارَ عَلَى الْكُفَّارِ بِاللَّيْلِ، بِحَيْثُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَسُئِلَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ الصَّعْبِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَظَهَرَ أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ السَّائِلُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَهْلِ الدَّارِ) أَيِ: الْمَنْزِلِ، هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مُسْلِمٍ: سُئِلَ عَنِ الذَّرَارِيِّ، قَالَ عِيَاضٌ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. وَوَجَّهَ النَّوَوِيُّ الثَّانِيَ، وَهُوَ وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ: (هُمْ مِنْهُمْ) أَيْ: فِي الْحُكْمِ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَةَ قَتْلِهِمْ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ إِلَيْهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ: إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُولُ إِلَى الْآبَاءِ إِلَّا بِوَطْءِ الذُّرِّيَّةِ، فَإِذَا أُصِيبُوا لِاخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ، جَازَ قَتْلُهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ: فَسَمِعْتُهُ بِالْفَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ، وَقَوْلُهُ: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الشُّرْبِ، وَقَوْلُهُ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً مُجَرَّدًا هَكَذَا وَمَرَّةً يَذْكُرُ فِيهِ سَمَاعَهُ إِيَّاهُ أَوَّلًا مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَذْكُرُ سَمَاعَهُ إِيَّاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ.

وَنُنَبِّهُ عَلَى نُكْتَةٍ فِي الْمَتْنِ، وَهِيَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: هُمْ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: رَدَّدَهُ سُفْيَانُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ مَرَّتَيْنِ.

وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ هَذَا الْبَابِ: عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُوهِمُ أَنَّ رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هَكَذَا بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كَانَ عَمْرٌو يُحَدِّثنَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ الْمَدِينَةَ الزُّهْرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ، قَالَ سُفْيَانُ فَقَدِمَ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ فَسَمِعْتُهُ يُعِيدُهُ وَيُبْدِيهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي طَرِيقِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ انْتَهَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى نَسْخِ حَدِيثِ الصَّعْبِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ تَتَرَّسَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، أَوْ تَحَصَّنُوا بِحِصْنٍ أَوْ سَفِينَةٍ وَجَعَلُوا مَعَهُمُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ وَلَا تَحْرِيقُهُمْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ زِيَادَةً فِي آخِرِهِ: ثُمَّ نَهَى عَنْهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَهِيَ مُدْرَجَةٌ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ النَّهْيِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ رِيَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ الْآتِي: فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: الْحَقْ خَالِدًا، فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا، وَالْعَسِيفُ

ص: 147

بِمُهْمَلَتَيْنِ وَفَاءٍ: الْأَجِيرُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَخَالِدٌ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةُ الْفَتْحِ، وَفِي ذَلِكَ الْعَامِ كَانَتْ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، وَنَهَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً بِالطَّائِفِ فَقَالَ:: أَلَمْ أَنْهَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، مَنْ صَاحِبُهَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْدَفْتُهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَصْرَعَنِي فَتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوَارَى. وَيُحْتَمَلُ فِي هَذِهِ التَّعَدُّدُ، وَالَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ، وَقَالُوا: إِذَا قَاتَلَتِ الْمَرْأَةُ جَازَ قَتْلُهَا. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ الْقَصْدُ إِلَى قَتْلِهَا إِلَّا إِنْ بَاشَرَتِ الْقَتْلَ وَقَصَدَتْ إِلَيْهِ.

قَالَ: وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ رِيَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، التَّمِيمِيُّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ، فَرَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهَا لَوْ قَاتَلَتْ لَقُتِلَتْ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ كَمَا نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَلِضَعْفِهِنَّ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ فَلِقُصُورِهِمْ عَنْ فِعْلِ الْكُفْرِ، وَلِمَا فِي اسْتِبْقَائِهِمْ جَمِيعًا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ إِمَّا بِالرِّقِّ أَوْ بِالْفِدَاءِ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى بِهِ. وَحَكَى الْحَازِمِيُّ قَوْلًا بِجَوَازِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّعْبِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِأَحَادِيثِ النَّهْيِ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ حَتَّى يَرِدَ الْخَاصُّ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَمَسَّكُوا بِالْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَخَصَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَتَخَلَّى عَنِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ زُهْدًا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْهُمُ الضَّرَرُ فِي الدِّينِ لَكِنْ يَتَوَقَّفُ تَجَنُّبُهُمْ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، فَمَتَى حَصَلَ اجْتُنِبَتْ وَإِلَّا فَلْيُتَنَاوَلْ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.

‌147 - بَاب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ

3014 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ، رضي الله عنه، أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

[الحديث 3014 - طرفه في: 3015]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ بِلَفْظِ: فَأَنْكَرَ

‌148 - بَاب قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ

3015 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

ص: 148

ثُمَّ قَال: (بَابُ قَتْلِ النِّسَاءِ فِي الْحَرْبِ)، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ، بِلَفْظِ: فَنَهَى.

وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي مُسْنَدِهِ بِهَذَا السِّيَاقِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ: نَعَمْ وَعَلَى هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ فِيهِ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِشَيْخِهِ حَدَّثَكُمْ فُلَانٌ، فَسَكَتَ، جَازَ ذَلِكَ مَعَ الْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَحْكَامُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَقَالَ: هُمَا لِمَنْ غَلَبَ.

‌149 - بَاب لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ

3016 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا.

3017 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".

[الحديث 3017 - طرفه في: 6922]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ) هَكَذَا بَتَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهَا عِنْدَهُ، وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّحْرِيقُ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ حَالَ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُكَيْرٍ) بِمُوَحَّدَةٍ وَكَافٍ مُصَغَّرٌ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي بُكَيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ فَأَفَادَ نِسْبَتَهُ وَتَصْرِيحَهُ بِالتَّحْدِيثِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنِ اللَّيْثِ لَيْسَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ عَنْ بُكَيْرٍ، وَمَضَى قَبْلَ أَبْوَابٍ مُعَلَّقًا، وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَرَوَاهُ فِي السِّيرَةِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرٍ فَأَدْخَلَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَجُلًا، وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الدَّوْسِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَنَقَلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ أَصَحُّ، وَسُلَيْمَانُ قَدْ صَحَّ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَعْنِي: وَهُوَ غَيْرُ مُدَلِّسٍ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا) زَادَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً أَنَا فِيهَا قُلْتُ: وَكَانَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ. هَكَذَا بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَلِكَ رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ مُرْسَلًا، وَسَمَّاهُ: هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنْ وَجَدْتُمْ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالرَّجُلَ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ إِلَى

ص: 149

زَيْنَبَ مَا سَبَقَ، فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ يَعْنِي زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ لَمَّا أَسَرَهُ الصَّحَابَةُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَهِّزَ لَهُ لِبِنْتِهِ زَيْنَبَ فَجَهَّزَهَا، فَتَبِعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَرَفِيقُهُ فَنَخَسَا بَعِيرَهَا فَأُسْقِطَتْ وَمَرِضَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: وَكَانَا نَخَسَا بِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَصَابَ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ وَهِيَ فِي خِدْرِهَا فَأُسْقِطَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمُوهُ فَاجْعَلُوهُ بَيْنَ حُزْمَتَيْ حَطَبٍ ثُمَّ أَشْعِلُوا فِيهِ النَّارَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، الْحَدِيثَ، فَكَأَنَّ إِفْرَادَ هَبَّارٍ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ كَانَ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ وَالْآخَرُ كَانَ تَبَعًا لَهُ.

وَسَمَّى ابْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ الرَّجُلَ الْآخَرَ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي زَوَائِدِ السِّيرَةِ عَلَيْهِ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ مُسْنَدِ الْبَزَّارِ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ فَلَعَلَّهُ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَافِعٌ، كَذَلِكَ هُوَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهُ ابْنُ بَشْكُوَالٍ مِنْ مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ كَذَلِكَ.

قُلْتُ: وَقَدْ أَسْلَمَ هَبَّارٌ هَذَا، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ الْمَذْكُورَةِ: فَلَمْ تُصِبْهُ السَّرِيَّةُ وَأَصَابَهُ الْإِسْلَامُ فَهَاجَرَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِسْلَامِهِ، وَلَهُ حَدِيثٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَآخَرُ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ رِوَايَةً فِي قِصَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، وَعَاشَ هَبَّارٌ هَذَا إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ. وَلَمْ أَقِفْ لِرَفِيقِهِ عَلَى ذِكْرٍ فِي الصَّحَابَةِ فَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ: فَأَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ: فَلَمَّا وَدَّعَنَا وَفِي رِوَايَةِ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ: فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ) هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ: وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّحْرِيقِ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرٍ أَوْ فِي حَالِ مُقَاتَلَةٍ أَوْ كَانَ قِصَاصًا، وَأَجَازَهُ عَلِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ قَرِيبًا. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ هَذَا النَّهْيُ عَلَى التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ فِعْلُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ بِالْحَدِيدِ الْمَحْمِيِّ، وَقَدْ حَرَقَ أَبُو بَكْرٍ الْبُغَاةَ بِالنَّارِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَحَرَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالنَّارِ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ يُجِيزُونَ تَحْرِيقَ الْحُصُونِ وَالْمَرَاكِبَ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: لَا حُجَّةَ فِيمَا ذُكِرَ لِلْجَوَازِ، لِأَنَّ قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَتْ قِصَاصًا أَوْ مَنْسُوخَةً كَمَا تَقَدَّمَ.

وَتَجْوِيزُ الصَّحَابِيِّ مُعَارَضٌ بِمَنْعِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَقِصَّةُ الْحُصُونِ وَالْمَرَاكِبِ مُقَيَّدَةٌ بِالضَّرُورَةِ إِلَى ذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ وَلَا صِبْيَانٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَظَاهِرُ النَّهْيِ فِيهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ نَسْخٌ لِأَمْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ كَانَ بِوَحْيٍ إِلَيْهِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ إِلَى ذَلِكَ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي التَّدْخِينِ، وَفِي الْقِصَاصِ بِالنَّارِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ اجْتِهَادًا ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَاسْتِحْبَابُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عِنْدَ الْحُكْمِ لِرَفْعِ الْإِلْبَاسِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا، وَأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ لَا يَرْفَعُ الْعُقُوبَةَ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا. وَفِيهِ كَرَاهَةُ قَتْلِ

ص: 150

مِثْلِ الْبُرْغُوثِ بِالنَّارِ. وَفِيهِ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَوْدِيعِ الْمُسَافِرِ لِأَكَابِرِ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَتَوْدِيعُ أَصْحَابِهِ لَهُ أَيْضًا. وَفِيهِ جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ اتِّفَاقٌ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ غَيْرُ الْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْأُصُولِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالنَّاسِخِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ تَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ نَائِمًا وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ) صَرَّحَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بِتَحْدِيثِ أَيُّوبَ لَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (إنَّ عَلِيًّا حَرَقَ قَوْمًا) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ يَعْنِي الزَّنَادِقَةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، وَأَيُّوبَ، وَعَمَّارًا الدُّهْنِيَّ، اجْتَمَعُوا فَتَذَّكَّرُوا الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ، فَقَالَ أَيُّوبُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ عَمَّارٌ: لَمْ يَحْرِقْهُمْ، وَلَكِنْ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ وَخَرَقَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ دَخَّنَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ الشَّاعِرُ:

لِتَرْمِ بِيَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ

إِذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ

إِذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا

هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرُ دَيْنِ

انْتَهَى. وَكَأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ أَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ فِي إِنْكَارِهِ أَصْلَ التَّحْرِيقِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخْلِصِ: حَدَّثَنَا لُوَيْنٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَذَكَرَهُ عَنْ أَيُّوبَ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ عَنْ عَمَّارٍ وَحْدَهُ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَذَكَرْتُهُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: أَوْقَدْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا فَظَهَرَ بِهَذَا صِحَّةُ مَا كُنْتُ ظَنَنْتُهُ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ فِي آخِرِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ وَمَعَهُمْ كُتُبٌ، فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ وَكُتُبَهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ نَاسٌ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فِي السِّرِّ وَيَأْخُذُونَ الْعَطَاءَ، فَأَتَى بِهِمْ عَلِيٌّ فَوَضَعَهُمْ فِي السِّجْنِ وَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالُوا: اقْتُلْهُمْ، فَقَالَ: لَا بَلْ أَصْنَعُ بِهِمْ كَمَا صُنِعَ بِأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ.

قَوْلُهُ: (لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) هَذَا أَصْرَحُ فِي النَّهْيِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ فِي آخِرِهِ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌150 - بَاب {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَوْلُهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}

- حتى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ - {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فَدَاءً) فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَسَتَأْتِي مَوْصُولَةً مُطَوَّلَةً فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا هُنَا قَوْلُهُ فِيهِ: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ التَّقْسِيمَ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي أَسْرَى الْكَفَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى الْإِمَامِ، يَفْعَلُ

ص: 151

مَا هُوَ الْأَحَظُّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنْ أُسَارَى الْكُفَّارِ أَصْلًا. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ: لَا تُقْتَلُ الْأُسَارَى، بَلْ يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ الْمَنُّ أَصْلًا لَا بِفِدَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَيُرَدُّ الْأَسِيرُ حَرْبِيًّا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ، لَكِنْ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ ذِكْرُ الْقَتْلِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِّيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِكَرَاهَةِ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الْآيَةَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ حِلِّ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بَعْدَ إِبَاحَةِ الْغَنِيمَةِ فَلَا كَرَاهَةَ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ اخْتِلَافًا: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَرْجَحُ؟ مَا أَشَارَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ، أَوْ مَا أَشَارَ بِهِ عُمَرُ مِنَ الْقَتْلِ؟ فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ رَأْيَ عُمَرَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلِمَا فِي الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَبْكِي لِمَا عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنَ الْعَذَابِ لِأَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ. وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ حِينَئِذٍ، وَلِمُوَافَقَةِ رَأْيِهِ الْكِتَابَ الَّذِي سَبَقَ، وَلِمُوَافَقَةِ حَدِيثِ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي وَلِحُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ بَعْدُ مِنْ دُخُولِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالصُّحْبَةِ وَمَنْ وُلِدَ لَهُمْ مَنْ كَانَ وَمَنْ تَجَدَّدَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ. وَحَمَلُوا التَّهْدِيدَ بِالْعَذَابِ عَلَى مَنِ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَيَحْصُلُ عَرَضُ الدُّنْيَا مُجَرَّدًا وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ عُمَرَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} - يَعْنِي: يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ - {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الْآيَةَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَتَفْسِيرُ يُثْخِنَ بِمَعْنَى يَغْلِبَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَيُبَالِغَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْإِثْخَانُ الْقَتْلُ، وَقِيلَ: الْمُبَالَغَةُ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ. وَأَصْلُ الْإِثْخَانِ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ مَنَعَ أَخْذَ الْفِدَاءِ مِنْ أُسَارَى الْكُفَّارِ، وَحُجَّتُهُمْ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ إِطْلَاقَ أَسْرَى كُفَّارِ بَدْرٍ عَلَى مَالٍ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ بَعْدُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قَالَ: فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَسْخَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ: فَقَتَلَ بَعْضَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفَدَى بَعْضًا، وَمَنَّ عَلَى بَعْضٍ. وَكَذَا قَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَنَّ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ وَغَيْرَهُ بِمَكَّةَ وَمَنَّ عَلَى سَائِرِهِمْ. وَسَبَى هَوَازِنَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ. وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ؛ فَدَلَّ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ.

وَمُحَصِّلُ أَحْوَالِهِمْ تَخْيِيرُ الْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ بَيْنَ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، لِمَنْ شُرِعَ أَخْذُهَا مِنْهُ، أَوِ الْقَتْلِ أَوْ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْمَنِّ بِلَا عِوَضٍ أَوْ بِعِوَضٍ، هَذَا فِي الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَيُرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَيَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأَسِيرَةِ الْكَافِرَةِ بِأَسِيرٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلَمَةٍ عِنْدَ الْكُفَّارِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ زَالَ الْقَتْلُ اتِّفَاقًا، وَهَلْ يَصِيرُ رَقِيقًا أَوْ تَبْقَى بَقِيَّةُ الْخِصَالِ؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

‌151 - بَاب هَلْ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنْ الْكَفَرَةِ؟

فِيهِ الْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 152

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ؟ فِيهِ الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي أَوَاخِرِ الشُّرُوطِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَيْضًا، وَلِهَذَا لَمْ يَبُتَّ الْحُكْمَ فِيهَا، قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنِ ائْتَمَنُوهُ يَفِ لَهُمْ بِالْعَهْدِ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُمْ. وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ فَقَالَ: لَوْ خَرَجَ بِهِ الْكَافِرُ لِيُفَادِيَ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالطَّبَرِيُّ: إِعْطَاؤُهُ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ لَا يَفِيَ لَهُمْ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ عَهْدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَتَحْرِيقِ الدَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَسَلَّمَهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وَلِهَذَا تَعَرَّضَ لِلْقَتْلِ، فَقَتَلَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ وَانْفَلَتَ الْآخَرُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.

‌152 - بَاب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ؟

3018 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ، ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أبْغِنَا رِسْلًا. قَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ. فَانْطَلَقُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، فَأَتَى الصَّرِيخُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ الطَّلَبَ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا، وَطَرَحَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: قَتَلُوا وَسَرَقُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقْ)؟ أَيْ: جَزَاءً بِفِعْلِهِ. هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَلِيقُ أَنْ تُذْكَرَ قَبْلَ بَابَيْنِ، فَلَعَلَّ تَأْخِيرَهَا مِنْ تَصَرُّفِ النَّقَلَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا سَقَطَا جَمِيعًا لِلنَّسَفِيِّ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ تَرْجَمَةُ: إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ تِلْوَ تَرْجَمَةِ: (وَلَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْصِيصِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالرِّعَاءِ لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَوْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ لَكَانَ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ جَازَ سَمْلُ أَعْيُنِهِمْ وَهُوَ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ فَجَوَازُهُ إِنْ فَعَلُوهُ أَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَهُوَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْوُضُوءِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْغُسْلِ. وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُعَلًّى بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ ابْنُ أَسَدٍ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَآخَرِينَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: أَبْغِنَا رِسْلًا أَيْ: أَعِنَّا عَلَى طَلَبِهِ، وَالرِّسْلُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ: الدَّرُّ مِنَ اللَّبَنِ. (وَالذَّوْدُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: الثَّلَاثُ مِنَ الْإِبِلِ إِلَى الْعَشْرَةِ، (وَالصَّرِيخُ) صَوْتُ الْمُسْتَغِيثِ. (وَتَرَجَّلَ) بِالْجِيمِ، أَيِ: ارْتَفَعَ.

ص: 153

‌153 - باب

3019 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ الله.

[الحديث 3019 - طرفه في: 3319]

3021 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ قَبْلِهِ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِالتَّحْرِيقِ، حَيْثُ يَجُوزُ إِلَى مَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَحْرِيقِ قَرْيَةِ النَّمَلِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ:(أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً) فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ حَرَّقَ الَّتِي قَرَصَتْهُ وَحْدَهَا لَمَا عُوتِبَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا؟ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي بَدْءِ الْخَلْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌154 - بَاب حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ

3020 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرٌ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ قَالَ فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ قَالَ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ أَوْ أَجْرَبُ قَالَ فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ

[الحديث 3020 - أطرافه في: 3036، 3076، 3823، 4355، 4356، 4357، 6089، 6333]

3021 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ) أَيِ: الَّتِي لِلْمُشْرِكِينَ. كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ حَرْقِ وَضَبَطُوهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ: حَرْقٌ ; وَإِنَّمَا يُقَالُ: تَحْرِيقٌ وَإِحْرَاقٌ، لِأَنَّهُ رُبَاعِيٌّ، فَلَعَلَّهُ كَانَ: حَرَّقَ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ. وَقَدْ تَرْجَمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بَابُ إِذَا حَرَّقَ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: الدُّورَ، مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَالنَّخِيلَ كَذَلِكَ نَسَقًا عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ ظَاهِرَيْنِ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.

أحَدُهُمَا عَنْ جَرِيرٍ فِي قِصَّةِ ذِي الْخَلَصَةِ، بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَالْمُهْمَلَةِ وَحُكِيَ تَسْكِينُ اللَّامِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي. وَقَوْلُهُ فِيهِ: كَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةِ أَيْ: كَعْبَةُ الْجِهَةِ الْيَمَانِيَّةِ عَلَى رَأْي الْبَصْرِيِّينَ.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا هَكَذَا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ

ص: 154

فِي الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ وَالتَّخْرِيبِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاحْتَجُّوا بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ لِجُيُوشِهِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابُوا ذَلِكَ فِي خِلَالِ الْقِتَالِ، كَمَا وَقَعَ فِي نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الطَّائِفِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِالتَّغْرِيقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا نَهَى أَبُو بَكْرٍ جُيُوشَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ سَتُفْتَحُ فَأَرَادَ إِبْقَاءَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌155 - بَاب قَتْلِ النَّائِمِ الْمُشْرِكِ

3022 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنْ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ. قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ أُرِيهِمْ أَنَّنِي أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْحِمَارَ فَدَخَلُوا وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلًا، فَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِي كُوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ. فَأَجَابَنِي فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ فَخَرَجْتُ، ثُمَّ جِئْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، كَأَنِّي مُغِيثٌ فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ. وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، فَقَالَ: مَا لَكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ. قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَنْ دَخَلَ عَلَيَّ فَضَرَبَنِي. قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ لِأَنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ فَوُثِئَتْ رِجْلِي، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ. فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِي رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ. قَالَ: فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ، حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ.

[الحديث 3022 - أطرافه في: 3023، 4038، 4039، 4040]

3023 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنْ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ النَّائِمِ) ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ طَلَبَ قَتْلَ أَبِي رَافِعٍ وَهُوَ نَائِمٌ، وَإِنَّمَا نَادَاهُ لِيَتَحَقَّقَ أَنَّهُ هُوَ لِئَلَّا يَقْتُلَ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا غَرَضَ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي قَتْلِهِ،

ص: 155

وَبَعْدَ أَنْ أَجَابَهُ كَانَ فِي حُكْمِ النَّائِمِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اسْتَمَرَّ عَلَى خَيَالِ نَوْمِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَهُ لَمْ يَفِرَّ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا تَحَوَّلَ مِنْ مَضْجَعِهِ حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّجسِيسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَطَلَبِ غِرَّتِهِمْ، وَجَوَازُ اغْتِيَالِ ذَوِي الْأَذِيَّةِ الْبَالِغَةِ مِنْهُمْ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُؤَلِّبُ عَلَيْهِ النَّاسَ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَمَحَلُّهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَئِسَ مِنْ فَلَاحِهِ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَإِمَّا بِالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

‌156 - بَاب لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ

3024 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ".

3025 -

ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ". وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: "حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ كُنْتُ كَاتِبًا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ".

3026 -

وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا".

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُقَطَّعًا فِي أَبْوَابٍ مِنْهَا: الْجَنَّةُ تَحْتَ الْبَارِقَةِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَمِنْهَا: الصَّبْرُ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ فِي إِسْنَادِهِ فِي أَوَّلِ تَرْجَمَةٍ، وَأَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ فِي: الْقِتَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حِكْمَةُ النَّهْيِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا يَؤولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ، وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَّنِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ وَالاتْكَالِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْعَدُوِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُبَايِنُ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذَ بِالْحَزْمِ. وَقِيلَ: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوْ حُصُولِ الضَّرَرِ، وَإِلَّا فَالْقِتَالُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَعْقِيبُ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُرْسَلًا: لَا تَمَنَّوْا

ص: 156

لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَسَى أَنْ تُبْتَلَوْا بِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوُقُوعِ كَمَا يَنْبَغِي، فَيُكْرَهُ التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ الْإِنْسَانُ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ طَلَبِ الْمُبَارَزَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَا تَدْعُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَإِذَا دُعِيتَ فَأَجِبْ تُنْصَرْ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، إِلَخْ) أَشَارَ بِهَذَا الدُّعَاءِ إِلَى وُجُوهِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، فَبِالْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وَبِمُجْرِي السَّحَابِ، إِلَى الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ فِي تَسْخِيرِ السَّحَابِ حَيْثُ يُحَرَّكُ الرِّيحُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ فِي مَكَانِهِ مَعَ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَحَيْثُ تُمْطِرُ تَارَةً وَأُخْرَى لَا تُمْطِرُ، فَأَشَارَ بِحَرَكَتِهِ إِلَى إِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي حَرَكَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ، وَبِوُقُوفِهِ إِلَى إِمْسَاكِ أَيْدِي الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَبِإِنْزَالِ الْمَطَرِ إِلَى غَنِيمَةِ مَا مَعَهُمْ حَيْثُ يَتَّفِقُ قَتْلُهُمْ، وَبِعَدَمِهِ إِلَى هَزِيمَتِهِمْ حَيْثُ لَا يَحْصُلُ الظَّفَرُ بِشَيءٍ مِنْهُمْ، وَكُلُّهَا أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَشَارَ بِهَازِمِ الْأَحْزَابِ إِلَى التَّوَسُّلِ بِالنِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، وَإِلَى تَجْرِيدِ التَّوَكُّلِ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ.

وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ النِّعَمِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ حَصَلَتِ النِّعْمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَبِإِجْرَاءِ السَّحَابِ حَصَلَتِ النِّعْمَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَهِيَ الرِّزْقُ، وَبِهَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ حَصَلَ حِفْظُ النِّعْمَتَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ كَمَا أَنْعَمْتَ بِعَظِيمِ النِّعْمَتَيْنِ؛ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَحَفِظْتَهُمَا، فَأَبْقِهِمَا.

وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَيْضًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا وَرَبُّهُمْ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ وَهُمْ عَبِيدُكَ، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِكَ، فَاهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا نَحْوَهُ، لَكِنْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ (وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ): فَإِنْ بُلِيتُمْ بِهِمْ فَقُولُوا اللَّهُمَّ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ:(وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ).

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، إِلَخْ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِالْإِسْنَادِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَهَذَا مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ غَيْرُهُ لِهَذَا الْمَتْنِ الْمُخْتَصَرِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ يَسُوقُوهُ مُطَوَّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ) هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادِ الْأَشْعَرِيُّ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يُصِبْ، فَإِنَّهُ مَا لِابْنِ بَرَّادٍ رِوَايَةٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ. وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ بِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ، وَوَصِيَّةُ الْمُقَاتِلِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ أَمْرِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ الْحُسْنَى وَبِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ، وَمُرَاعَاةُ نَشَاطِ النُّفُوسِ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

‌157 - بَاب الْحَرْبُ خَدْعَةٌ

3027 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

[الحديث 3027 - أطرافه في: 3120، 3618، 6630]

3028 -

وَسَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً.

ص: 157

[الحديث 3028 - طرفه في: 3029]

3029 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَصْرَمَ - اسمه بور -، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرْبَ خَدْعَةً.

3030 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا، وَفِي أَوَّلِ الْمُطَوَّلِ ذِكْرُ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

وَقَوْلُهُ: خَدْعَةٌ: بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُولَى الْأَفْصَحُ، حَتَّى قَالَ ثَعْلَبٌ: بَلَغَنَا أَنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، وَالْقَزَّازُ. وَالثَّانِيَةُ ضُبِطَتْ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَلْحَةَ: أَرَادَ ثَعْلَبٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْبِنْيَةَ كَثِيرًا لِوَجَازَةِ لَفْظِهَا وَلِكَوْنِهَا تُعْطِي مَعْنَى الْبِنْيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، قَالَ: وَيُعْطِي مَعْنَاهَا أَيْضًا الْأَمْرُ بِاسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَلَوْ مَرَّةً وَإِلَّا فَقَاتِلْ ; قَالَ: فَكَانَتْ مَعَ اخْتِصَارِهَا كَثِيرَةَ الْمَعْنَى.

وَمَعْنَى خَدْعَةٍ بِالْإِسْكَانِ أَنَّهَا تَخْدَعُ أَهْلَهَا، مِنْ وَصْفِ الْفَاعِلِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، أَوْ أَنَّهَا وَصْفُ الْمَفْعُولِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ: إِذَا خُدِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ تُقَلْ عَثْرَتُهُ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِتْيَانِ بِالتَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَةِ فَإِنَّ الْخِدَاعَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ حَضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ فَكَأَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنْ مَكْرِهِمْ وَلَوْ وَقَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَنْبَغِي التَّهَاوُنُ بِهِمْ لِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمْ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْ قَلَّ، وَفِي اللُّغَةِ الثَّالِثَةِ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ، وَحَكَى الْمُنْذِرِيُّ لُغَةً رَابِعَةً بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، قَالَ: وَهُوَ جَمْعُ خَادِعٍ، أَيْ أَنَّ أَهْلَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْحَرْبِ خَدَعَةٌ.

قُلْتُ: وَحَكَى مَكِّيٌّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ لُغَةً خَامِسَةً: كَسْرَ أَوَّلِهِ مَعَ الْإِسْكَانِ، قَرَأْتُ ذَلِكَ بِخَطِّ مُغْلَطَايْ. وَأَصْلُ الْخَدْعِ: إِظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ.

وَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ فِي الْحَرْبِ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ، وَإنَّ مَنْ لَمْ يَتَيَقَّظْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْعَكِسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَجُوزُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخِدَاعُ فِي الْحَرْبِ يَقَعُ بِالتَّعْرِيضِ وبالسكين وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ: بَلْ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ آكَدُ مِنَ الشَّجَاعَةِ، ولهذا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَعْنَى الْحَرْبُ خَدْعَةٌ، أَيِ: الْحَرْبُ الْجَيِّدَةُ لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَةُ فِي مَقْصُودِهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَةُ لَا الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَةِ وَحُصُولِ الظَّفَرِ مَعَ الْمُخَادَعَةِ بِغَيْرِ خَطَرٍ.

(تَكْمِيلٌ):

ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرْبُ خَدْعَةٌ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ.

‌158 - بَاب الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ

3031 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 158

عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا - يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ. قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ. قَالَ: فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّرْجَمَةُ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ، لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: عَنَّانَا أَيْ: كَلَّفَنَا بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلُهُمْ: سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ أَيْ: طَلَبَهَا مِنَّا لِيَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَوْلُهُمْ: فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ، إِلَخْ مَعْنَاهُ: نَكْرَهُ فِرَاقَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْكَوْنَ مَعَهُ أَبَدًا. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِيمَا قَالُوهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ أَصْلًا، وَجَمِيعُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ تَلْوِيحٌ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ تَرْجَمَ بِذَلِكَ لِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ، قَالَ قُلْ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِذْنُ فِي الْكَذِبِ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِيهِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتِ التَّرْجَمَةُ مُنَافِرَةً لِلْحَدِيثِ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا حِينَئِذٍ: بَابُ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ هَلْ يَسُوغُ مُطْلَقًا أَوْ يَجُوزُ مِنْهُ الْإِيمَاءُ دُونَ التَّصْرِيحِ؟ وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ صَرِيحًا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: تَحْدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مَا فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَنَقَلَ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ مُطْلَقًا أَوْ تَقْيِيدِهِ بِالتَّلْوِيحِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الْجَائِزِ بِالنَّصِّ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ ل حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ، وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَذِبِ بِالْعَقْلِ مَا انْقَلَبَ حَلَالًا انْتَهَى.

وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْحَجَّاجِ ابْنِ عِلَاطٍ، الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي اسْتِئْذَانِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ عَنْهُ مَا شَاءَ لِمَصْلَحَتِهِ فِي اسْتِخْلَاصِ مَالِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَإِخْبَارُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ فِيهِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَقَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَفَّ عَنْ بَيْعَتِهِ: هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ، قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ. لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِالْخِدَاعِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ حَالَةَ الْحَرْبِ خَاصَّةً، وَأَمَّا حَالُ الْمُبَايَعَةِ فَلَيْسَتْ بِحَالِ حَرْبٍ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قِصَّةَ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ أَيْضًا لَمْ تَكُنْ فِي حَالِ حَرْبٍ.

وَالْجَوَابُ الْمُسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِغَيْرِهِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَمْرًا فَلَا يُظْهِرُهُ كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَغْزُوَ وجهةَ الشَّرْقِ فَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرٍ فِي جِهَةِ الْغَرْبِ، وَيَتَجَهَّزُ لِلسَّفَرِ فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ جِهَةَ الْغَرْبِ، وَأَمَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِإِرَادَتِهِ الْغَرْبَ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الشَّرْقُ فَلَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَأَلْتُ بَعْضَ شُيُوخِي عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ:

ص: 159

الْكَذِبُ الْمُبَاحُ فِي الْحَرْبِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَارِيضِ لَا التَّصْرِيحُ بِالتَّأْمِينِ مَثَلًا، قَالَ: وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَوْضِعُ الشَّاهِدِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: قَدْ عَنَّانَا، فَإِنَّهُ سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ لَهُ إِنَّمَا هُوَ لِلدُّنْيَا فَيَكُونَ كَذِبًا مَحْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ أَتْعَبَنَا بِمَا يَقَعُ لَنَا مِنْ مُحَارَبَةِ الْعَرَبِ. فَهُوَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَذِبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الْكَذِبُ الْحَقِيقِيُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أَصْلًا. قَالَ: وَمُحَالٌ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَذِبِ مَنْ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ ذَلِكَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

‌159 - بَاب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ

3032 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ) أَيْ: جَوَازُ قَتْلِ الْحَرْبِيِّ سِرًّا، وَبَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَبَيْنَ التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ وَهِيَ قَتْلُ الْمُشْرِكِ النَّائِمِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

وَذَكَرَ هُنَا طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا فَتَكُوا بِهِ لِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَأَعَانَ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَجَاهُ، وَلَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَأْمِينٌ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ، وَإِنَّمَا أَوْهَمُوهُ ذَلِكَ وَآنَسُوهُ حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ.

‌160 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الِاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ

3033 -

قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ - فَحُدِّثَ بِهِ فِي نَخْلٍ - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ. فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الِاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يُخْشَى مَعَرَّتُهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ: شَرُّهُ وَفَسَادُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَى آخِرِهِ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، وَقَدْ عَلَّقَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْهُ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ كَمَا مَضَى، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ بَابًا.

‌161 - بَاب الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ

فِيهِ سَهْلٌ، وَأَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ

3034 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ - وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ -

ص: 160

وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

إِنَّ الْأَعْدَا قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجَزِ فِي الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ) الرَّجَزُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ وَالزَّايِ: مِنْ بُحُورِ الشِّعْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَرْبِ لِيَزِيدَ فِي النَّشَاطِ وَيَبْعَثَ الْهِمَمَ، وَفِيهِ جَوَازُ تَمَثُّلِ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشِعْرِ غَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي عَمَلِ الطَّاعَةِ لِيُنَشِّطَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ سَهْلٌ، وَأَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ) أَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ، وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ، فَوَصَلَهُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَفِيهِ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ وَسَيَأْتِي، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ حَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَفِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا بِزِيَادَةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ، فَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَفِيهِ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا. وَقِصَّةُ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ وَسَيَأْتِي أَيْضًا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ ارْتِجَازُ سَلَمَةَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ.

وقَوْلُهُ هُنَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْعِدَا قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي عَقِبَ كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ إِلَى أَنَّ كَرَاهَةَ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْحَرْبِ مُخْتَصَّةٌ بِحَالَةِ الْقِتَالِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ.

‌162 - بَاب مَنْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ

3035 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِه.

[الحديث 3035 - طرفاه في: 3822، 6090]

3036 -

وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ) أَيْ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ بِالثَّبَاتِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَضِيلَةِ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَنَاقِبِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِهِ فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى الْأَصْلِ بِلَفْظِ: فِي وَجْهِي وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: هَادِيًا مُهْدِيًا زَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ

ص: 161

أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَادِيًا لِغَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَهْتَدِيَ هُوَ، فَيَكُونُ مُهْدِيًا، انْتَهَى، وَلَيْسَتْ هُنَا صِيغَةُ تَرْتِيبٍ.

‌163 - بَاب دَوَاءِ الْجُرْحِ بِإِحْرَاقِ الْحَصِيرِ

وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَحَمْلِ الْمَاءِ فِي التُّرْسِ

3037 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه: بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أحد مِنْ النَّاسِ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ بِالْمَاءِ فِي تُرْسِهِ، وَكَانَتْ - يَعْنِي فَاطِمَةَ - تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ ثُمَّ حُشِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ دَوَاءِ الْجُرْحِ بِإِحْرَاقِ الْحَصِيرِ، وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ عَنْ أَبِيهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَمْلِ الْمَاءِ فِي التُّرْسِ) اشْتَمَلَ هَذَا الْبَابُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَحَدِيثُ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِيهَا، وَقَدْ أَفْرَدَ الثَّانِيَ مِنْهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَأَوْرَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌164 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْحَرْبِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ،

وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني الحرب، قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ الْحَرْبُ

3038 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا، وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا.

3039 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ. فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ، قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ. فَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ: قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 162

غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أصاب مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا.

فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ. قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجِيبُونه؟ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجِيبُونه؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ.

[الحديث 3039 - أطرافه في: 3986، 4043، 4067، 4561]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْحَرْبِ) أَيْ: مِنَ الْمُقَاتَلَةِ فِي أَحْوَالِ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ: (وَعُقُوبَةُ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ) أَيْ: بِالْهَزِيمَةِ وَحِرْمَانِ الْغَنِيمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يَعْنِي الْحَرْبَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَوْلُهُ: يَعْنِي الْحَرْبَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: قَالَ قَتَادَةُ: الرِّيحُ الْحَرْبُ وَهَذَا قَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا نَحْوَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مَجَازِيٌّ، فَالْمُرَادُ بِالرِّيحِ الْقُوَّةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْفَشَلُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ: الْجُبْنُ، يُقَالُ: فَشَلَ، إِذَا هَابَ أَنْ يُقْدِمَ جُبْنًا. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَفِيهِ: وَلَا تَخْتَلِفَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَكَانِهِ مِنْ أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ غَزَاةِ أُحُدٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ الْهَزِيمَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا مُسْتَوْفًى فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌165 - بَاب إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ

3040 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ. قَالَ: وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ليلا، سَمِعُوا صَوْتًا، قَالَ: فَتَلَقَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقَالَ: لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَجَدْتُهُ بَحْرًا. يَعْنِي الْفَرَسَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا فَزِعُوا بِاللَّيْلِ) أَيْ: يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَنْ يَكْشِفَ الْخَبَرَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَنْدُبَهُ لِذَلِكَ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْهِبَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِرَارًا.

ص: 163

‌166 - بَاب مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحَاهْ، حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ

3041 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ يَا صَبَاحَاهْ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ:

أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ

وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ.

فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ، مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ.

[الحديث 3041 - طرفه في: 4194]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى الْعَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحَاهْ، حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي قِصَّةِ غَطَفَانَ وَفَزَارَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.

وَقَوْلُهُ يَا صَبَاحَاهْ هُوَ مُنَادًى مُسْتَغَاثٌ، وَالْأَلِفُ لِلِاسْتِغَاثَةِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَكَأَنَّهُ نَادَى النَّاسَ اسْتِغَاثَةً بِهِمْ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْهَاءُ لِلنُّدْبَةِ وَرُبَّمَا سَقَطَتْ فِي الْوَصْلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الرِّوَايَةِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.

وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ يُغِيرُونَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَأَهَّبُوا لِمَا دَهَمَكُمْ صَبَاحًا. وَقَوْلُهُ: الرُّضَّعُ بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ اللِّئَامُ، أَيِ: الْيَوْمُ يَوْمُ هَلَاكِ اللِّئَامِ. وَقَوْلُهُ: فَأَسْجِع بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ: أَحْسِنْ أَوِ ارْفُقْ. وَقَوْلُهُ: يُقْرَوْنَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْقِرَى، وَالرَّاءُ مَفْتُوحَةٌ وَمَضْمُومَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى الضَّمِّ: يَجْمَعُونَ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ. وَقِيلَ: يَغْزُونَ، بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَزَايٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِأَنَّهَا اسْتِغَاثَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ.

‌167 - بَاب مَنْ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلَانٍ. وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ

3042 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ:

أَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.

قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلَانٍ) هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ التَّمَدُّحِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْقِعُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الِافْتِخَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَوَازِ الِاخْتِيَالِ - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - فِي

ص: 164

الْحَرْبِ دُونَ غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكِنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَقَالَ فِيهِ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ وَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ سَهْمًا فِي رِجْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ مِنْ كَتِفِهِ، قَالَ قُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ الْحَدِيثَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي ثَبَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَقَوْلُهُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌168 - بَاب إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ

3043 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ - فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ. فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ. قَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ) أَيْ فَأَجَازَهُ الْإِمَامُ نَفَذَ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي نُزُولِ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مَعَاذٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ لُزُومُ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ.

‌169 - بَاب قَتْلِ الْأَسِيرِ وَقَتْلِ الصَّبْرِ

3044 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: اقْتُلُوهُ.

[الحديث 3043 - أطرافه في: 3804، 4121، 6262]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَتْلِ الْأَسِيرِ وَقَتْلِ الصَّبْرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا وَهِيَ أَخْصَرُ.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ - مُتَّبِعًا مَا هُوَ الْأَحَظُّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ - بَيْنَ قَتْلِ الْأَسِيرِ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ بِفِدَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ فَدَاءٍ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ.

‌170 - بَاب هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ؟ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ، وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ

3045 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ - وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 165

بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ - جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ - وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ - ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ. فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا. فقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ.

فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ: خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - وجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ، وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقيعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حتى أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ. وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ. وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنْ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا.

ولست أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا.

[الحديث 3045 - أطرافه في: 3989، 4086، 7402]

ص: 166

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ؟ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ) أَيْ: هَلْ يُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ أَمْ لَا؟ (وَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ).

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَعْثِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، وَقِصَّةَ قَتْل خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَفِيهَا مَا تَرْجَمَ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ الْقَائِلُ فَأَخْبَرَنِي هُوَ ابْنُ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ هُنَاكَ.

‌171 - بَاب فَكَاكِ الْأَسِيرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3046 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فُكُّوا الْعَانِيَ - يَعْنِي الْأَسِيرَ - وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ.

[الحديث 3046 - أطرافه في: 5174، 5373، 5649، 7173]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَكَاكِ الْأَسِيرِ) أَيْ: مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْفَكَاكُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا: التَّخْلِيصُ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: فُكُّوا الْعَانِيَ أَيِ: الْأَسِيرَ، كَذَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْعَانِي فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَزْنُ الْقَاضِي، وَالتَّفْسِيرُ مِنْ قِبَلِ جَرِيرٍ أَوْ قُتَيْبَةَ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَأَخْرَجَهُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: الْعَانِي: الْأَسِيرُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَكَاكُ الْأَسِيرِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُفَادَى بِالرُّءُوسِ، وَأَمَّا بِالْمَالِ فَلَا أَعْرِفُهُ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ أُسَارَى وَاتَّفَقُوا عَلَى الْمُفَادَاةِ تَعَيَّنَتْ، وَلَمْ تَجُزْ مُفَادَاةُ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ.

3047 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ. وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ؟ الْحَدِيثَ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَا فِيهِ فِي الدِّيَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌172 - بَاب فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ

3048 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: لَا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا.

3049 -

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ

ص: 167

الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي؛ فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ: خُذْ، فَأَعْطَاهُ فِي ثَوْبِهِ.

3050 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ الْقَوْلُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَوَّلُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي اسْتِئْذَانِ الْأَنْصَارِ أَنْ يَتْرُكُوا لِلْعَبَّاسِ فِدَاءَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيرَادُهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُهُ قَالَ: أُتِيَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَعْطِنِي؛ فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَعَقِيلًا وَأَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَبَيَانِ مَنْ وَصَلَهُ. وَقَوْلُهُ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَعَقِيلًا يُرِيدُ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُسِرَ مَعَهُمَا أَيْضًا الْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَنَّ الْعَبَّاسَ افْتَدَاهُ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ بَعْضِ الْأَصْنَافِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْهَا، فَالْعَبَّاسُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكِرْمَانِيُّ فَقَدْ تُعُقِّبَ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَالَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنَ الْخَرَاجِ أَوِ الْجِزْيَةِ وَهُمَا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ذَكَرَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ أَيْ: فِي طَلَبِ فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌173 - بَاب الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ

3051 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ) هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ؟ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ. قَالَ مَالِكٌ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ قُبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (أَبُو الْعُمَيْسِ) بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ حَدَّثَنَا إِيَاسٌ.

قَوْلُهُ: (أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ، وَسُمِّيَ الْجَاسُوسُ عَيْنًا؛ لِأَنَّ جُلَّ عَمَلِهِ بِعَيْنِهِ، أَوْ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالرُّؤْيَةِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا، كَأَنَّ جَمِيعَ بَدَنِهِ صَارَ عَيْنًا.

قَوْلُهُ: (فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ: فَلَمَّا طَعِمَ انْسَلَّ، وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَيَّدَ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ

ص: 168

الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ.

قَوْلُهُ: (اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ، عنْ أَبِي الْعُمَيْسِ: أَدْرِكُوهُ؛ فَإِنَّهُ عَيْنٌ زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فِيهِ: فَسَبَقْتُهُمْ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَلَهُ سَلَبَهُ) كَذَا فِيهِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: فَنَفَلَنِي وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، وَزَادَ هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْمَذْكُورِ: فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ، فَخَرَجْتُ أَعْدُو حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ بِالْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَأَضْرِبُ رَأْسَهُ، فَبَدَرَ، فَجِئْتُ بِرَاحِلَتِهِ وَمَا عَلَيْهَا أَقُودُهَا، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ قَتْلُ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ الْبَاعِثُ عَلَى قَتْلِهِ، وَأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَادَرَ لِيُعْلِمَ أَصْحَابَهُ فَيَغْتَنِمُونَ غِرَّتَهُمْ، وَكَانَ فِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ، وَهُوَ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا الْمُعَاهِدُ وَالذِّمِّيُّ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ. أَمَّا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ فَيَنْتَقِضُ اتِّفَاقًا.

وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ السَّلَبَ كُلَّهُ لِلْقَاتِلِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إِلَّا بِقَوْلِ الْإِمَامِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ لَهُمَا، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ بِلَفْظِ: قَامَ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَيْنٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَلَنِي سَلَبَهُ.

فَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ، بَلْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ قَالَ: الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ مَزِيدُ فَائِدَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ حِينِئِذٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} عَامٌّ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، سَوَاءٌ قَيَّدْنَا ذَلِكَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَمْ لَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ابْتِدَاءَ هَذَا الْحُكْمِ كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَهُوَ مَرْدُودٌ لَكِنْ عَلَى غَيْرِ مَالِكٍ مِمَّنْ مَنَعَهُ؛ فَإِنَّ مَالِكًا إِنَّمَا نَفَى الْبَلَاغَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَكَانَتْ مُؤْتَةُ قَبْلَ حُنَيْنٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِلَ جَمِيعَ مَا أَخَذَتْهُ السَّرِيَّةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً إِلَّا ذَلِكَ السَّلَبُ. قُلْتُ: وَمَا أَبَدَاهُ احْتِمَالًا هُوَ الْوَاقِعُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ مَا وَقَعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْغَنَائِمِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ بِالْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أمَانٍ، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ الْمُتَعَلِّقَ بِعَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ جَاسُوسُهُمْ، وَحُكْمُ الْجَاسُوسِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْحَرْبِيِّ الْمُطْلَقِ الدَّاخِلِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَالدَّعْوَى أَعَمُّ مِنَ الدَّلِيلِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَاسُوسَ الْمَذْكُورَ أَوْهَمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَهُ أَمَانٌ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ مِنَ التَّجسِيسِ انْطَلَقَ مُسْرِعًا، فَفَطِنَ لَهُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.

‌174 - بَاب يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ

3052 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ.

ص: 169

قَوْلُهُ: (بَابُ يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ) أَيْ: وَلَوْ نَقَضُوا الْعَهْدَ.

أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ قَتْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي، مَبْسُوطًا فِي الْمَنَاقِبِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ:(وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ)؛ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ بِالْإِشْفَاقِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي الِاسْتِرْقَاقِ، وَالَّذِي قَالَ: إِنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ وَالْجُمْهُورُ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا سَبَى الْحَرْبِيُّ الذِّمِّيَّ، ثُمَّ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ الذِّمِّيَّ. وَأَغْرَبَ ابْنُ قُدَامَةَ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِلَافِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَرْجَمَ بِهِ.

‌175 - باب جوائز الوفد

‌176 - بَاب هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ وَمُعَامَلَتِهِمْ

3053 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ.

وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ.

وَقَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ جَوَائِزِ الْوَفْدِ)، (بَابُ هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ وَمُعَامَلَتِهِمْ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ تَأْخِيرَ تَرْجَمَةِ جَوَائِزِ الْوَفْدِ عَنِ التَّرْجَمَةِ هَلْ يُسْتَشْفَعُ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَابِقٌ لِتَرْجَمَةِ جَوَائِزِ الْوَفْدِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ، بِخِلَافِ التَّرْجَمَةِ الْأُخْرَى، وَكَأَنَّهُ تَرْجَمَ بِهَا وَأَخْلَى بَيَاضًا؛ لِيُورِدَ فِيهَا حَدِيثًا يُنَاسِبُهَا فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ. وَوَقَعَ لِلنَّسَفِيِّ حَذْفُ تَرْجَمَةِ جَوَائِزِ الْوَفْدِ أَصْلًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى تَرْجَمَةِ هَلْ يُسْتَشْفَعُ، وَأَوْرَدَ فِيهَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَعَكْسُهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَفِي مُنَاسَبَتِهِ لَهَا غُمُوضٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ يَقْتَضِي رَفْعَ الِاسْتِشْفَاعِ، وَالْحَضُّ عَلَى إِجَازَةِ الْوَفْدِ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ لَعَلَّ إِلَى فِي التَّرْجَمَةِ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: هَلْ يُسْتَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمَامِ؟ وَهَلْ يُعَامَلُونَ؟ وَدَلَالَةُ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ لِذَلِكَ ظَاهِرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي.

وَقَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْكِتَابِ لَقَبِيصَةَ رِوَايَةٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِلَّا هَذِهِ، وَرِوَايَتُهُ فِيهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَحَكَى الْجَيَّانِيُّ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فِي هَذَا قُتَيْبَةَ بَدَلَ قَبِيصَةَ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ قُتَيْبَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ سَتَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَقُتَيْبَةُ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ

ص: 170

عُيَيْنَةَ دُونَ قَبِيصَةَ، وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَا الثَّوْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ: ابْنُ عِيسَى الزُّهْرِيُّ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَدَّلِ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَأَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَدَّلِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ: أُخْبِرْتُ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ: الْمَدِينَةُ. قَالَ الزُّبَيْرُ: قَالَ غَيْرُهُ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، قَالَ الزُّبَيْرُ: وَهَذَا أَشْبَهُ، وَحَضْرَمَوْتُ آخِرُ الْيَمَنِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: سُمِّيَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ بَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشَةِ وَالْفُرَاتَ وَدِجْلَةَ أَحَاطَتْ بِهَا، وَهِيَ أَرْضُ الْعَرَبِ وَمَعْدِنُهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُ فَارِسَ مِنْ أَقْصَى عَدَنٍ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنْ أَقْصَى عَدَنٍ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ طُولًا، وَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ السَّاحِلِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ) الْعَرْجُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ: مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَيْرُ الْعَرَجِ بِفَتْحِ الرَّاءِ الَّذِي مِنَ الطَّائِفِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ طُولًا، وَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا، وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ بِهَا، يَعْنِي بَحْرَ الْهِنْدِ وَبَحْرَ الْقُلْزُمِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشَةِ، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبِهَا أَوْطَانُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ، لَكِنَّ الَّذِي يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْهَا الْحِجَازُ خَاصَّةً، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ مَا وَالَاهَا، لَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَسْجِدَ، وَعَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ دُخُولُهُمُ الْحَرَمَ لِلتِّجَارَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ أَصْلًا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً.

‌177 - بَاب التَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ

3054 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ - أَوْ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ - فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ - أَوْ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ - ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ: تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّجَمُّلِ لِلْوَفْدِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ طَلَبَهُ لِلتَّجَمُّلِ لِلْوُفُودِ وَلِمَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّجَمُّلَ بِهَذَا الصِّنْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

‌178 - بَاب كَيْفَ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ

3055 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ

ص: 171

ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ صَيَّادٍ يَحْتَلِمُ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُلِطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ؛ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.

3056 -

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، يَأْتِيَانِ النَّخْلَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ النَّخْلَ طَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ - وَهُوَ اسْمُهُ - فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ.

3057 -

وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ؛ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.

[الحديث 3057 - أطرافه في 3337، 3439، 4402، 6175، 7123، 7127، 8407]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي (بَابِ هَلْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ) فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَوَجْهُ مَشْرُوعِيَّةِ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّبِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَحْتَلِمْ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَقُبِلَ لِأَنَّهُ فَائِدَةُ الْعَرْضِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ إِلَخْ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ثَلَاثُ قِصَصٍ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ تَامَّةً: فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَهُنَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَفِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَاقْتَصَرَ فِي الشَّهَادَاتِ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا فِيمَا مَضَى مِنَ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَاقْتَصَرَ فِي الْفِتَنِ عَلَى الثَّالِثَةِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ أَكْثَرِ مُفْرَدَاتِهِ فِي الْجَنَائِزِ. وَقَوْلُهُ: قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهِ، وَقَوْلُهُ:(وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ يَحْتَلِمُ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَشُعَيْبٍ: وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَاعْتَرَضَ بِهِ، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحْتَلِمْ.

قَوْلُهُ: (أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ

ص: 172

الْأُمِّيِّينَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِبَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْعَرَبِ، وَفَسَادُ حُجَّتِهِمْ وَاضِحٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَى الْعَرَبِ وَإِلَى غَيْرِهَا تَعَيَّنَ صِدْقُهُ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْتَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وَلِلْمُسْتَمْلِي: وَرَسُولِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، إِنَّمَا عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الدَّجَّالَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَمْرَهُ كَانَ مُحْتَمَلًا، فَأَرَادَ اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَجَابَ غَلَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ تَمَادَى الِاحْتِمَالُ، أَوْ أَرَادَ بِاسْتِنْطَاقِهِ إِظْهَارَ كَذِبِهِ الْمُنَافِي لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ أَجَابَهُ بِجَوَابٍ مُنْصِفٍ، فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَهَنَةِ، يُخْبِرُ بِالْخَبَرِ فَيَصِحُّ تَارَةً وَيَفْسُدُ أُخْرَى، فَشَاعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي شَأْنِهِ وَحْيٌ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُلُوكَ طَرِيقَةٍ يَخْتَبِرُ حَالَهُ بِهَا، أَيْ: فَهُوَ السَّبَبُ فِي انْطِلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ، وَالْأُخْرَى طَالِعَةٌ نَاتِئَةٌ، فَأَشْفَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّجَّالُ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا: يَمْكُثُ أَبُو الدَّجَّالِ وَأُمُّهُ ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَهُمَا، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَضَرُّ شَيْءٍ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، قَالَ: وَنَعَتَهُمَا، فَقَالَ: أَمَّا أَبُوهُ فَطَوِيلٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ، وَأَمَّا أُمُّهُ ففَرْضَاخَةٌ - أَيْ: بِفَاءِ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ وَبِمُعْجَمَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا ضَخْمَةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ - قَالَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ - يَعْنِي ابْنَ صَيَّادٍ - فَإِذَا هُمَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ: سَلْهَا كَمْ حَمَلَتْ بِهِ؟ فَقَالَتْ: حَمَلْتُ بِهِ اثَّنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، فَلَمَّا وَقَعَ صَاحَ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ابْنِ شَهْرٍ انْتَهَى، فَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي إِرَادَةِ اسْتِكْشَافِ أَمْرِهِ.

قَوْلُهُ: (مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَنَحْوِهِ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ: أَرَى حَقًّا وَبَاطِلًا، وَأَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا وَلِأَحْمَدَ أَرَى عَرْشًا عَلَى الْبَحْرِ حَوْلَهُ الْحِيتَانُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لُبِسَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ: خُلِطَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ أَحْمَدَ فَقَالَ: تَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا.

قَوْلُهُ: (إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خِبْئًا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، وَبِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزٌ، أَيْ: أَخْفَيْتُ لَكَ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (هُوَ الدُّخُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ الْفَتْحَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ الزَّخُّ بِفَتْحِ الزَّايِ بَدَلَ الدَّالِّ وَفَسَّرَهُ بِالْجِمَاعِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَغْلِيظِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَرُدُّهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ: فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: الدُّخَانَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ: الدُّخُّ، وَلِلْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ السُّورَةَ، وَأَرَادَ بَعْضَهَا؛ فَإِنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَخَبَّأْتُ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ صَيَّادٍ بِالدُّخِّ، فَقِيلَ: إِنَّهُ انْدَهَشَ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ لَفْظِ الدُّخَانِ إِلَّا عَلَى بَعْضِهِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْآيَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَهْتَدِ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهَا إِلَّا لِهَذَا الْقَدْرِ النَّاقِصِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَهَنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ أَيْ: قَدْرَ مِثْلِكَ مِنَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاءِ شَيَاطِينِهِمْ مَا يَحْفَظُونَهُ مُخْتَلَطًا صِدْقُهُ بِكَذِبِهِ.

وَحَكَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ أَنَّ السِّرَّ فِي

ص: 173

امْتِحَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ بِجَبَلِ الدُّخَانِ، فَأَرَادَ التَّعْرِيضَ لِابْنِ الصَّيَّادِ بِذَلِكَ، وَاسْتَبْعَدَ الْخَطَّابِيُّ مَا تَقَدَّمَ، وَصَوَّبَ أَنَّهُ أَخَبَأَ لَهُ الدُّخَّ، وَهُوَ نَبْتٌ يَكُونُ بَيْنَ الْبَسَاتِينِ، وَسَبَبُ اسْتِبْعَادِهِ لَهُ أَنَّ الدُّخَانَ لَا يُخَبَّأُ فِي الْيَدِ وَلَا الْكُمِّ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَّأَ لَهُ اسْمَ الدُّخَانِ فِي ضَمِيرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: كَيْفَ اطَّلَعَ ابْنُ صَيَّادٍ أَوْ شَيْطَانُهُ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَحَدَّثَ مَعَ نَفْسِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَهُ، فَاسْتَرَقَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ.

قَوْلُهُ: (اخْسَأْ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) أَيْ: لَنْ تُجَاوِزَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ فِيكَ، أَوْ مِقْدَارَ أَمْثَالِكَ مِنَ الْكُهَّانِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: اسْتَكْشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ؛ لِيُبَيِّنَ لِأَصْحَابِهِ تَمْوِيهَهُ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ حَالُهُ عَلَى ضَعِيفٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُحَصَّلُ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ وَالتَّنَزُّلِ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ الرِّسَالَةَ وَلَمْ يَخْتَلِطْ عَلَيْكَ الْأَمْرُ آمَنْتُ بِكَ. وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا وَخُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ فَلَا. وَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُكَ وَالْتِبَاسُ الْأَمْرِ عَلَيْكَ، فَلَا تَعْدُو قَدْرَكَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ يَكُنْ هُوَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنْ يَكُنْهُ عَلَى وَصْلِ الضَّمِيرِ، وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ جَوَازَهُ، ثُمَّ الضَّمِيرُ لِغَيْرٍ مَذْكُورٍ لَفْظًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي تَخَافُ فَلَنْ تَسْتَطِيعَهُ وَفِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ: أَنْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّالُ.

قَوْلُهُ: (فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَلَسْتَ بِصَاحِبِهِ، إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْذَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِ مَعَ ادِّعَائِهِ النُّبُوَّةَ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْعَهْدِ، قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الْمُتَعَيِّنُ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ: فَلَا يَحِلُّ لَكَ قَتْلُهُ ثُمَّ إِنَّ فِي السُّؤَالِ عِنْدِي نَظَرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْهَمَ أَنَّهُ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَنَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَنَا مَعَهُمْ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّهُ حَضَرَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ شَرْحُ مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ، وَبَيَانُ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ. وَقَوْلُهُ: طَفِقَ أَيْ: جَعَلَ وَيَتَّقِي أَيْ: يَسْتَتِرُ وَيَخْتِلُ أَيْ: يَسْمَعُ فِي خُفْيَةٍ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: رَجَاءَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا؛ لِيَعْلَمَ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ.

قَوْلُهُ: (أَيْ: صَافٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ وَزْنُ بَاغٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: هَذَا مُحَمَّدٌ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ قَدْ جَاءَ وَكَأَنَّ الرَّاوِيَ عَبَّرَ بِاسْمِهِ الَّذِي تَسَمَّى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا اسْمُهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ صَافٍ.

قَوْلُهُ: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) أَيْ: أَظْهَرَ لَنَا مِنْ حَالِهِ مَا نَطَّلِعُ بِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالضَّمِيرُ لِأُمِّ ابْنِ صَيَّادٍ، أَيْ: لَوْ لَمْ تُعْلِمْهُ بِمَجِيئِنَا لَتَمَادَى عَلَى مَا كَانَ فِيهِ، فَسَمِعْنَا مَا يُسْتَكْشَفُ بِهِ أَمْرُهُ. وَغَفَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ لِلزَّمْزَمَةِ، أَيْ: لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا لِفَهْمِنَا كَلَامَهُ، لَكِنَّ عَدَمَ فَهْمِنَا لِمَا يَقُولُ كَوْنُهُ يُهَمْهِمُ، كَذَا قَالَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ) هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ، وَهِيَ مَوْصُولَةٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْفِتَنِ. وَفِي قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ اهْتِمَامُ الْإِمَامِ بِالْأُمُورِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الْفَسَادُ وَالتَّنْقِيبِ عَلَيْهَا، وَإِظْهَارُ كَذِبِ الْمُدَّعِي الْبَاطِلَ وَامْتِحَانُهُ بِمَا يَكْشِفُ حَالَهُ، وَالتَّجَسُّسُ عَلَى أَهْلِ الرَّيْبِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَمْرِ ابْنِ صَيَّادٍ

ص: 174

اخْتِلَافًا كَثِيرًا، سَأَسْتَوْفِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي تَخَافُ مِنْهُ فَلَنْ تَسْتَطِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا لَمَا كَانَ بَيْنَ قَتْلِ عُمَرَ لَهُ حِينَئِذٍ وَكَوْنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَافَاةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌179 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا

قَالَهُ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. قَالَهُ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْجِزْيَةِ.

‌180 - بَاب إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ

3058 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ - فِي حَجَّتِهِ - قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُؤْوُوهُمْ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْخَيْفُ الْوَادِي.

3059 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لَا أَبَا لَكَ فَالْمَاءُ وَالْكَلَا أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلَامِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا".

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِلَّا أَرْضَهُ وَعَقَارَهُ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ، وَيُوَافِقُ التَّرْجَمَةَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: فَرَّ قَوْمٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ أَرْضِهِمْ فَأَخَذْتُهَا، فَأَسْلَمُوا وَخَاصَمُونِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وقَالَ: إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ

ص: 175

اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَلِلْبَاقِينَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ الْحَدِيثَ) ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَشِرَائِهَا مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ بِتَمَامِهِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ هُنَا، لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَبَاحِثِ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقِيلًا عَلَى تَصَرُّفِهِ فِيمَا كَانَ لِأَخَوَيْهِ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرٍ، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّورِ وَالرِّبَاعِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَلَا انْتَزَعَهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ لَمَّا ظَفَرَ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ مَنْ بِيَدِهِ دَارٌ أَوْ أَرْضٌ إِذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِأَمْوَالِهِمْ وَدُورِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْلِمُوا، فَتَقْرِيرُ مَنْ أَسْلَمَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُؤْوُوهُمْ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْقَدْرُ مَعْطُوفًا عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّ هَذَا مُدْرَجٌ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَفَصَلَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فَقَطْ، وَرَوَى شُعَيْبٌ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ فَقَطْ، لَكِنْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: أَحَادِيثُ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَطَرِيقُ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَهُ لِحَدِيثِ أُسَامَةَ فِي الْحَجِّ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ مَعًا فِي الْحَجِّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْكَلَامِ عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي الْحَجِّ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ إِدْرَاجٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

3059 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ؛ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لَا أَبَا لَكَ؟! فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَيْمُ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ، إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا) بِالنُّونِ مُصَغَّرٌ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَقَدْ يُهْمَزُ، وَهَذَا الْمَوْلَى لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ مَعَ إِدْرَاكِهِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمْرَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عُمَيْرٌ وَشَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرُهُمَا، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى عَلِيٍّ لَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّ آلَ هُنَيٍّ يَنْتَسِبُونَ فِي هَمْدَانَ، وَهُمْ مَوَالِي آلِ عُمَرَ، انْتَهَى. وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ النُّبَهَاءِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْحِمَى) بَيَّنَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ هُنَيٍّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ عَلَى حِمَى الرَّبَذَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ.

قَوْلُهُ: (اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ: اكْفُفْ يَدَكَ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْغَرَائِبِ: اضْمُمْ جَنَاحَكَ لِلنَّاسِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ اسْتُرْهُمْ بِجَنَاحِكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.

قَوْلُهُ: (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ: دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ.

قَوْلُهُ: (وَأَدْخِلْ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ، وَالصُّرَيْمَةُ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَكَذَا الْغُنَيْمَةُ، أَيْ: صَاحِبَ الْقِطْعَةِ الْقَلِيلَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَمُتَعَلِّقُ الْإِدْخَالِ مَحْذُوفٌ، وَالْمُرَادُ الْمَرْعَى.

قَوْلُهُ: (وَإِيَّايَ) فِيهِ تَحْذِيرُ الْمُتَكَلِّمِ نَفْسَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ عِنْدَ النُّحَاةِ، كَذَا قِيلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الشُّذُوذَ فِي لَفْظِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ فِي التَّحْقِيقِ إِنَّمَا هُوَ تَحْذِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَكَأَنَّهُ بِتَحْذِيرِ نَفْسِهِ حَذَّرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَكُونُ أَبْلَغَ، وَنَحْوُهُ نَهْيُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَمُرَادُهُ نَهْيُ مَنْ يُخَاطِبُهُ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ الْغُلُولِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: ابْنِ عَوْفٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنِ عَفَّانَ هُوَ عُثْمَانُ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمِثَالِ لِكَثْرَةِ نَعَمِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَنْعَهُمَا الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسَعِ الْمَرْعَى إِلَّا نَعَمَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَنَعَمُ الْمُقِلِّينَ أَوْلَى، فَنَهَاهُ عَنْ إِيثَارِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، أَوْ تَقْدِيمِهِمَا قَبْلَ غَيْرِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَ حِكْمَةَ

ص: 176

ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (بِبَيْتِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ قَبْلَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بِلَفْظِ مُفْرَدِ الْبَيْتِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِنُونٍ قَبْلَ التَّحْتَانِيَّةِ بِلَفْظِ جَمْعِ الْبَنِينَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.

قَوْلُهُ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) حَذَفَ الْمَقُولَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي لَفْظٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا فَقِيرٌ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا أَحَقُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَمَعْنَاهُ: لَا أَتْرُكُهُمْ مُحْتَاجِينَ، وَقَوْلُهُ: لَا أَبَا لَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَظَاهِرُهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ عَلَى مَجَازِهِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْمُضَافِ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ لَا أَبًا لَكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَوْ مُنِعُوا مِنَ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ لَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ فَاحْتَاجَ إِلَى تَعْوِيضِهِمْ بِصَرْفِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهُمْ لِسَدِّ خُلَّتِهِمْ، وَرُبَّمَا عَارَضَ ذَلِكَ الِاحْتِيَاجُ إِلَى النَّقْدِ فِي صَرْفِهِ فِي مُهِمٍّ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَيُرَوْنَ) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ.

وَقَوْلُهُ: أَنِّي قَدْ ظَلَمَتْهُمْ قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْكَثِيرَةِ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَرَادَ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي الْقَلِيلَةِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُعْظَمُ وَالْأَكْثَرُ، وَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ بَوَادِي الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ وَإِنَّمَا سَاغَ لِعُمَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوَاتًا فَحَمَاهُ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ لِمَصْلَحَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مَعَنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِلَادُنَا، قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تُحْمَى عَلَيْنَا، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْفُخُ وَيَفْتِلُ شَارِبَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِنَحْوِهِ وَزَادَ: فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ أَلَحَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، مَا أَنَا بِفَاعِلٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَدْخُلِ ابْنُ عَفَّانَ وَلَا ابْنُ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْكَلَامُ عَائِدٌ عَلَى عُمُومِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَا عَلَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَسْلَمُوا عَفْوًا وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ لَهُمْ، وَلِهَذَا سَاوَمَ بَنِي النَّجَّارِ بِمَكَانِ مَسْجِدِهِ، قَالَ: فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الصُّلْحِ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْعَنْوَةِ فَأَرْضُهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ غُلِبُوا عَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا غُلِبُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الصُّلْحِ فِي ذَلِكَ.

وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ لِمَا بَيَّنَّا أَوّلَ الْبَابِ، وَهُوَ وَمَنْ بَعْدَهُ حَمَلُوا الْأَرْضَ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ هُنَا، وَإِنَّمَا حَمَى عُمَرُ بَعْضَ الْمَوَاتِ مِمَّا فِيهِ نَبَاتٌ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةِ أَحَدٍ، وَخَصَّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ وَخُيُولَ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَذِنَ لِمَنْ كَانَ مُقِلًّا أَنْ يَرْعَى فِيهِ مَوَاشِيَهُ رِفْقًا بِهِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُخَالِفِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (يَرَوْنَ أَنِّي ظَلَمْتُهُمْ)، فَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ، لَا أَنَّهُمْ مُنِعُوا حَقَّهُمُ الْوَاجِبَ لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مِنَ الْإِبِلِ الَّتِي كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَرْكَبُ، وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عِدَّةَ مَا كَانَ فِي الْحِمَى فِي عَهْدِ عُمَرَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ إِبِلٍ وَخَيْلٍ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا كَانَ فِيهِ عُمَرُ مِنَ الْقُوَّةِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْمُوَطَّأِ

(1)

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.

‌181 - بَاب كِتَابَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ

3060 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ:

(1)

قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: هذا الحديث في الموطأ: 60 كتاب دعوة المظلوم، 1 - باب ما يتقى من دعوة المظلوم. حدثني مالك عن زيد بن أسلم

ص: 177

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ النَّاسِ، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُوَ خَائِفٌ.

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ: فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَ مِائَةٍ. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ.

3061 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ كِتَابَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ) أَيْ: مِنَ الْمُقَاتِلَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ كِتَابَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ) فِي رِوَايَةِ أَبي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَحْصُوا بَدَلَ اكْتُبُوا، وَهِيَ أَعَمُّ مِنِ اكْتُبُوا، وَقَدْ يُفَسَّرُ أَحْصُوا بِـ اكْتُبُوا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا: نَخَافُ) هُوَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ، وَحُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ تَرَقُّبِ مَا يُخَافُ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَى أُحُدٍ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ الْجَزْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ حَفْرِ الْخَنْدَقِ. وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ احْتِمَالَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَمَّا كَانُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ فِي عَدَدِهِمْ هَلْ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ حُذَيْفَةَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا إِلَخْ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ مِنْ وِلَايَةِ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْكُوفَةِ كَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، حَيْثُ كَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، أَوْ لَا يُقِيمُهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَكَانَ بَعْضُ الْوَرِعِينَ يُصَلِّي وَحْدَهُ سِرًّا، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ خَشْيَةً مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ حِينَ أَتَمَّ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْصُرُ سِرًّا وَحْدَهُ خَشْيَةَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ أَيَّامَ قَتْلِ عُثْمَانَ؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَقَدْ وَقَعَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ حُذَيْفَةَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاج وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمِائَةٍ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ خَالَفَ الثَّوْرَيَّ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا السَّنَدِ، فَقَالَ: خَمْسَمِائَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَلْفَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ سِتِّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ) أَيْ: أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ خَالَفَ الثَّوْرَيَّ أَيْضًا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْعِدَّةِ، وَطَرِيقُ أَبِي مُعَاوِيَةَ هَذِهِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَأَنَّ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ رَجَحَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ؛ فَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهَا؛ لِكَوْنِهِ أَحْفَظَهُمْ مُطْلَقًا وَزَادَ عَلَيْهِمْ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ الْحَافِظِ مُقَدَّمَةٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَإِنْ كَانَ أَحْفَظَ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ بِخُصُوصِهِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ مُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْعَدَدِ، فَقَدَّمَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ؛ لِزِيَادَتِهَا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ الِاثْنَيْنِ، وَلِجَزْمِهَا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأُمَوِيَّ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ وَافَقَا أَبَا حَمْزَةَ فِي قَوْلِهِ: خَمْسَمِائَةٍ، فَتَتَعَارَضُ الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَحْفَظِيَّةُ، فَلَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ بِالزِّيَادَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ نَظَرِ الْبُخَارِيِّ عَلَى غَيْرِهِ. وَسَلَكَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ طَرِيقَ الْجَمْعِ فَقَالَ: لَعَلَّهُمْ كُتِبُوا مَرَّاتٍ فِي مَوَاطِنَ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ جَمِيعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ وَصَبِيٍّ، وَبِمَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ الرِّجَالَ خَاصَّةً، وَبِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَاتِلَةَ خَاصَّةً.

وَهُوَ

ص: 178

أَحْسَنُ مِنَ الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي أَرَادَ بِقَوْلِهِ: رَجُلٌ نَفْسٌ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً، وَبِمَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ هُمْ وَمَنْ لَيْسَ بِمُقَاتِلٍ، وَبِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ هُمْ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي. قُلْتُ: وَيَخْدِشُ فِي وُجُوهِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ وَمَدَارُهُ عَلَى الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ، وَاخْتِلَافُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ كِتَابَةِ دَوَاوِينِ الْجُيُوشِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَمْيِيزِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُقَاتَلَةِ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ، وَفِيهِ وُقُوعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْإِعْجَابِ بِالْكَثْرَةِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ أَنْ لَا يَتَخَيَّلَ أَنَّ كِتَابَةَ الْجَيْشِ وَإِحْصَاءَ عَدَدِهِ يَكُونُ ذَرِيعَةً؛ لِارْتِفَاعِ الْبَرَكَةِ، بَلِ الْكِتَابَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي حُنَيْنٍ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْإِعْجَابِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَهُوَ يُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى بِلَفْظٍ: اكْتُبُوا؛ لِأَنَّهَا مُشْعِرَةٌ، بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ كِتَابَةُ مَنْ يَتَعَيَّنُ لِلْخُرُوجِ فِي الْمَغَازِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الْحَجِّ مُسْتَوْفًى.

‌182 - بَاب إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ

3062 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح

وَحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِلَى النَّارِ. قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.

[الحديث 3062 - أطرافه في: 4203، 4204، 6606]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي قَاتَلَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عَطْفِهِ لِطَرِيقِهِ عَلَى طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: لَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا خَاصٌّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْفَاجِرَ غَيْرَ الْمُشْرِكِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ، وَحُجَّةُ النَّسْخِ شُهُودُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ حُنَيْنًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَغَازِي، وَأَجَابَ غَيْرُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَوْجُهٍ غَيْرِ هَذِهِ: مِنْهَا أَنَّهُ

ص: 179

صلى الله عليه وسلم تَفَرَّسَ فِي الَّذِي قَالَ لَهُ: لَا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ الرَّغْبَةَ فِي الْإِسْلَامِ، فَرَدَّهُ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فَصَدَقَ ظَنُّهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَحْتَاجُ مُدَّعِي التَّخْصِيصِ إِلَى دَلِيلٍ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قِصَّةُ صَفْوَانَ لَا تُعَارِضُ قَوْلَهُ: لَا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ؛ لِأَنَّ صَفْوَانَ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاخْتِيَارِهِ، لَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: وَهِيَ تَفْرِقَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا أَثَرَ لَهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَقُولُ بِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَالتَّقْرِيرُ يَقُومُ مَقَامَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُتَخَيَّلَ فِي الْإِمَامِ إِذَا حَمَى حَوْزَةَ الْإِسْلَامِ وَكَانَ غَيْرَ عَادِلٍ أَنَّهُ يَطْرَحُ النَّفْعَ فِي الدِّينِ لِفُجُورِهِ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنَّ هَذَا التَّخَيُّلَ مُنْدَفِعٌ بِهَذَا النَّصِّ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُؤَيِّدُ دِينَهُ بِالْفَاجِرِ، وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ.

‌183 - بَاب مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ

3063 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّنِي - أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ - أَنَّهُمْ عِنْدَنَا. وَقَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَأَمَّرَ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ إِذَا خَافَ الْعَدُوَّ) أَيْ: جَازَ ذَلِكَ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَخْذِ خَالِدٍ الرَّايَةَ فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ بِهِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ مَنْ يُعَيَّنُ لِوِلَايَةٍ وَتَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَةُ الْإِمَامِ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ لِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ شَرْعًا وَتَجِبُ طَاعَتُهُ حُكْمًا. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا اتَّفَقَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ إِلَّا السُّلْطَانَ، فَتَعَذَّرَ إِذْنُ السُّلْطَانِ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْآحَادُ، وَكَذَا إِذَا غَابَ إِمَامُ الْجُمُعَةِ قَدَّمَ النَّاسُ لِأَنْفُسِهِمْ.

‌184 - بَاب الْعَوْنِ بِالْمَدَدِ

3064 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَوْنِ بِالْمَدَدِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَا يَمُدُّ بِهِ الْأَمِيرُ بَعْضَ الْعَسْكَرِ مِنَ الرِّجَالِ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ

ص: 180

بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَفِيهِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ وَالْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ لَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ أَنْ يَقَعَ التَّخَلُّفُ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ الْوَفَاءَ.

(تَنْبِيهٌ):

قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَلِحْيَانُ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَإِنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ الرَّجِيعِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌185 - بَاب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا

3065 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الْأَعْلَى: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 3065 - طرفه في: 3976]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا) الْعَرْصَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَيْنَهُمَا: هِيَ الْبُقْعَةُ الْوَاسِعَةُ بِغَيْرِ بِنَاءٍ مِنْ دَارٍ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ) كَذَا رَوَاهُ قَتَادَةُ، وَرَوَاهُ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ ذِكْرِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مُخْتَصَرَةٌ. وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ عَنْ رَوْحٍ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُعَاذٌ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ قَتَادَةَ، إِلَخْ) أَمَّا مُتَابَعَةُ مُعَاذٍ وَهُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ فَوَصَلَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظُهُ: أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثًا، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ، فَوَصَلَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: حِكْمَةُ الْإِقَامَةِ لِإِرَاحَةِ الظَّهْرِ وَالْأَنْفُسِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا كَانَ فِي أَمْنٍ مِنْ عَدُوٍّ وَطَارِقٍ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِقَامَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا كَانَ يُقِيمُ لِيُظْهِرَ تَأْثِيرَ الْغَلَبَةِ وَتَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَقِلَّةَ الِاحْتِفَالِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ تَقَعَ ضِيَافَةُ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمَعَاصِي بِإِيقَاعِ الطَّاعَةِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الضِّيَافَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةٌ.

‌186 - بَاب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ

وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ.

3066 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَهُ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ الْغَنَائِمَ لَا تُقْسَمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَا يَتِمُّ الِاسْتِيلَاءُ إِلَّا بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ

ص: 181

الْجُمْهُورُ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَتَمَامُ الِاسْتِيلَاءِ يَحْصُلُ بِإِحْرَازِهَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَعْتَقُوا حِينَئِذٍ رَقِيقًا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُمْ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرًّا. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ وَهُوَ ابْنُ خَدِيجٍ مُعَلَّقًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَوْصُولًا مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ.

وَحَدِيثُ أَنَسٍ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعِرَّانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْحَجِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَيْضًا بِتَمَامِهِ، وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ.

‌187 - بَاب إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ

3067 -

وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 3067 - طرفاه في: 3068، 3069]

3068 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ "أَنَّ عَبْدًا لِابْنِ عُمَرَ أَبَقَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّ فَرَسًا لِابْنِ عُمَرَ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ فَرَدُّوهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ".

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: عَارَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَيْرِ وَهُوَ حِمَارُ وَحْشٍ أَيْ هَرَبَ

3069 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا غَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ) أَيْ: هَلْ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، أَوْ يَدْخُلُ الْغَنِيمَةَ؟ وَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: لَا يَمْلِكُ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَلِصَاحِبِهِ أَخْذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالْحَسَنِ: لَا يُرَدُّ أَصْلًا، وَيَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْمَغَانِمِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَطَاءٌ، وَاللَّيْثُ، وَمَالكٌ، وَأَحْمَدُ وَآخَرُونَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَنَقَلَهَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ: إِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَأْخُذُهُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ مَالِكٍ إِلَّا فِي الْآبِقِ، فَقَالَ هُوَ وَالثَّوْرِيُّ: صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

قَوْلُهُ: (ذَهَبَ. وَقَوْلُهُ فَأَخَذَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ذَهَبَتْ وَقَالَ: فَأَخَذَهَا وَالْفَرَسُ اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.

قَوْلُهُ: (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ أَنَّ قِصَّةَ الْفَرَسِ

ص: 182

فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِصَّةَ الْعَبْدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَخَالَفَهُ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْعُمَرِيُّ، كَمَا هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْبَابِ، فَجَعَلَهُمَا مَعًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْبَابِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ قِصَّةَ الْفَرَسِ كَانَتْ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ نُمَيْرٍ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَلَمْ يُعَيِّنِ الزَّمَانَ، لَكِنْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنَّهُ افْتَدَى الْغُلَامَ بِرُومِيَّيْنِ، وَكَأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ الْمُصَنِّفِ الْجَزْمَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْحُكْمِ لِتَرَدُّدِ الرُّوَاةِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، لَكِنْ لِلْقَائِلِ بِهِ أَنْ يَحْتَجَّ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ.

وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ كَذَا هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَبَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْحُلْوَانِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ فِيهِ: يَوْمَ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ طَيِّئًا وَأَسَدًا وَزَادَ فِيهِ سَبَبَ أَخْذِ الْعَدُوِّ لِفَرَسِ ابْنِ عُمَرَ، فَفِيهِ: فَاقْتَحَمَ الْفَرَسُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ جَرْفًا فَصَرَعَهُ، وَسَقَطَ ابْنُ عُمَرَ فَعَارَ الْفَرَسُ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي أَبَقَ لِابْنِ عُمَرَ كَانَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، أَخْرَجَهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَارَ) بِمُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ (مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِيرِ وَهُوَ حِمَارُ وَحْشٍ، أَيْ: هَرَبَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَهُ فِي النِّفَارِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ: عَارَ الْفَرَسُ وَالْكَلْبُ عِيَارًا أَيْ: أَفْلَتْ وَذَهَبَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُقَالُ ذَلِكَ لِلْفَرَسِ إِذَا فَعَلَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَطَّالِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى طَرِيقِهِ: عَيَّارٌ، وَمِنْهُ: سَهْمٌ عَايِرٌ إِذَا كَانَ لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ أَتَى.

‌188 - بَاب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ

وقول الله عز وجل: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}

3070 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ.

[الحديث 3070 - طرفاه في: 4101، 4102]

3071 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْلِي وَأَخْلِفِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِفِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ".

[الحديث 3071 - أطرافه في: 3874، 5823، 5845، 5993]

3072 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 183

عَنْهُ "أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: بِالْفَارِسِيَّةِ "كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ) أَيْ: بِلِسَانِ الْفُرْسِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى فَارِسَ بْنِ كَوْمَرَثَ، وَاخْتُلِفَ فِي كَوْمَرَثَ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: مِنْ ذُرِّيَّةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ آدَمُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ لَهُمُ الْفُرْسُ؛ لِأَنَّ جَدَّهُمُ الْأَعْلَى وُلِدَ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا، كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ شُجَاعًا فَارِسًا، فَسُمُّوا الْفُرْسَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام أَوَّلُ مَنْ ذُلِّلَتْ لَهُ الْخَيْلُ، وَالْفُرُوسِيَّةُ تَرْجِعُ إِلَى الْفَرَسِ مِنَ الْخَيْلِ، وَأُمَّةُ الْفُرْسِ كَانَتْ مَوْجُودَةً.

قَوْلُهُ: (وَالرِّطَانَةُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، هُوَ كَلَامُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ، قَالُوا: فِقْهُ هَذَا الْبَابِ يَظْهَرُ فِي تَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ فِي بَابِ إِذَا قَالُوا: صَبَأْنَا، وَلَمْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ كَانَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَالْآخَرَانِ بِالتَّبَعِيَّةِ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَالَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَقْرَبُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ الْأَلْسِنَةَ؛ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ قَوْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَعْرِفَ أَلْسِنَتَهُمْ؛ لِيفْهَمَ عَنْهُمْ وَيَفْهَمُوا عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نُطْقَهُ بِجَمِيعِ الْأَلْسِنَةِ؛ لِإِمْكَانِ التَّرْجُمَانِ الْمَوْثُوقِ بِهِ عِنْدَهُمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الَّذِي صَنَعَهُ بِالْخَنْدَقِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَعَ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ أَنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: السُّورُ بِغَيْرِ هَمْزٍ: الصَّنِيعُ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الطَّعَامُ مُطْلَقًا، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالْحَبَشِيَّةِ، وَبِالْهَمْزِ بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: السُّورُ كَلِمَةٌ بِالْفَارِسِيَّةِ. قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ هُوَ الْفَضْلَةُ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ فَضَلَ ذَلِكَ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ مَنْ أَتَى دَعْوَةً. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى ضَعْفِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ كَحَدِيثِ كَلَامِ أَهْلِ النَّارِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَحَدِيثِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ زَادَتْ فِي خُبْثِهِ، وَنَقَصَتْ مِنْ مُرُوءَتِهِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَسَنَدُهُ وَاهٍ، وَأَخْرَجَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ فَلَا يَتَكَلَّمْنَ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ النِّفَاقَ. الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ وَاهٍ أَيْضًا.

عَنْهُ "أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: بِالْفَارِسِيَّةِ "كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ".

ثَانِيهَا حَدِيثُ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ، وَسَيَأْتِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: سَنَهْ سَنَهْ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سَنَاهْ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ، وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلسَّكْتِ وَقَدْ تُحْذَفُ، قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ، وَهِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ لِلْجَمِيعِ إِلَّا الْقَابِسِيَّ فَكَسَرَهُ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ) أَيْ: ذَكَرَ الرَّاوِي مِنْ بَقَائِهَا أَمَدًا طَوِيلًا، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ وَغَيْرِهَا حَتَّى ذَكَرَتْ وَلِبَعْضِهِمْ: حَتَّى دَكَنَ بِمُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ نُونٌ، أَيِ: اتَّسَخَ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ: (لَمْ تَعِشِ امْرَأَةٌ مِثْلَ مَا عَاشَتْ هَذِهِ - يَعْنِي أُمَّ خَالِدٍ -). قُلْتُ: وَإِدْرَاكُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ دَالٌّ عَلَى طُولِ عُمُرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَهَا.

(تَنْبِيهٌ):

خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ شَيْخُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، هُوَ خَالِدُ

ص: 184

بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَخُو إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ كَرَّرَهُ عَنْهُ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ. وَفِي طَبَقَتِهِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْمَدَنِيُّ لَكِنْ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا لِابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ رِوَايَةً، وَأَوْهَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ شَيْخَ ابْنِ الْمُبَارَكِ هُنَا هُوَ خَالِدُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ؟ بَلْ لَمْ أَرَ لِخَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ رِوَايَةً فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ. ثُمَّ رَاجَعْتُ كَلَامَهُ فَعَلِمْتُ مُرَادَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَفْظَ خَالِدٍ الْمَذْكُورَ هُنَا ثَلَاثَ مِرَارٍ، وَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِّ، وَالثَّالِثُ غَيْرُ الثَّانِي وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَقَوْلُهُ: وَالثَّانِي يُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ خَالِدٌ الْمَذْكُورُ فِي كُنْيَةِ أُمِّ خَالِدٍ، وَكَانَ يُغْنِي عَنْ هَذَا التَّطْوِيلِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ أُمَّ خَالِدٍ سَمَّتْ وَلَدَهَا بِاسْمِ وَالِدِهَا، وَكَانَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِّ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ خَالِدَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَهَذَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مَعَ مَزِيدِ الْفَائِدَةِ.

وَالَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ لَيْسَ تَحْتَهُ كَبِيرُ أَمْرٍ؛ فَإِنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ الرَّاوِيَ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ أَبُوهَا إِلَّا مَنْ يَقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ؛ فَإِنَّ مِنَ الْمَقْطُوعِ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَا أَدْرَكَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ أَبِيهَا، وَأَبُوهَا اسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ، فَانْحَصَرَتِ الْفَائِدَةُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِ كُنْيَةِ أُمِّ خَالِدٍ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ) الْحَدِيثَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: كِخْ كِخْ وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِلصَّبِيِّ عَمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ نَازَعَ الْكِرْمَانِيُّ فِي كَوْنِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ عَجَمِيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ حَسَنَةٌ فَحَذَفَ أَوَّلَهُ إِيجَازًا، وَالثَّالِثُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنِ الْأَخِيرِ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَهُ بِمَا يَفْهَمُهُ، مِمَّا لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ، فَهُوَ كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِيِّ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ لُغَتِهِ. قُلْتُ: وَبِهَذَا يُجَابُ عَنِ الْبَاقِي، وَيُزَادُ بِأَنَّ تَجْوِيزَهُ حَذْفَ أَوَّلِ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ لَا يُعْرَفُ، وَتَشْبِيهَهُ بِقَوْلِهِ: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا لَا يَتَّجِهُ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْأَخِيرِ مَعْهُودٌ فِي التَّرْخِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌189 - بَاب الْغُلُولِ

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ}

3073 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْغُلُولِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ أَيِ: الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ آخِذَهُ يَغُلُّهُ فِي مَتَاعِهِ، أَيْ: يُخْفِيهِ فِيهِ. وَنَقَلَ الْنَوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلى أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ الْحَدِيثَ.

وَيَحْيَى هُوَ

ص: 185

الْقَطَّانُ، وَأَبُو حَيَّانَ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا أُلْفِيَنَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالْفَاءِ، أَيْ: لَا أَجِدُ، هَكَذَا الرِّوَايَةُ لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَبِالْفَاءِ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، لَكِنْ رُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِالْقَافِ مِنَ اللِّقَاءِ، وَكَذَا لِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَ الْأَلِفَ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْقَسَمِ وَفِي تَوْجِيهِهِ تَكَلُّفٌ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ نَهْيِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَهْيُ مَنْ يُخَاطِبُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ.

قَوْلُهُ: (أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ) وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَجِيءُ، وَشَاةٌ فَاعِلُ الظَّرْفِ لِاعْتِمَادِهِ، أَيْ: هِيَ حَالَةٌ شَنِيعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ أَرَاكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي السُّنَنِ: إِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ؛ فَإِنَّهُ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ: صَوْتُ الشَّاةِ يُقَالُ: ثَغَتْ تَثْغُو، وَقَوْلُهُ: فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَأْتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ أَمْرُهَا إِلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ بَلَّغْتُكَ أَيْ: فَلَيْسَ لَكَ عُذْرٌ بَعْدَ الْإِبْلَاغِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبْرَزَ هَذَا الْوَعِيدَ فِي مَقَامِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْقِيَامَةِ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ فِي مُذْنِبِي الْأُمَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ صَوْتُ الْبَعِيرِ.

قَوْلُهُ: (صَامِتٌ) أَيِ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَقِيلَ: مَا لَا رُوحَ فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ: رِقَاعٌ تَخْفِقُ أَيْ: تَتَقَعْقَعُ وَتَضْطَرِبُ إِذَا حَرَّكَتْهَا الرِّيَاحُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَلْمَعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الثِّيَابُ، قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: الْمُرَادُ بِهَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الرِّقَاعِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِذِكْرِ الْغُلُولِ الْحِسِّيِّ فَحَمْلُهُ عَلَى الثِّيَابِ أَنْسَبُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْسِ مَا يَغُلُّهُ مِنَ الرَّقِيقِ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْحَدِيثُ وَعِيدٌ لِمَنْ أَنْفَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمَذْكُورُ لَا بُدَّ مِنْهُ عُقُوبَةً لَهُ بِذَلِكَ؛ لِيَفْتَضِحَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِلَى اللَّهِ الْأَمْرُ فِي تَعْذِيبِهِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ عز وجل: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: يَأْتِ بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ مَا يُسْرَقُ مِنَ النَّقْدِ أَخَفُّ مِنَ الْبَعِيرِ مَثَلًا وَالْبَعِيرُ أَرْخَصُ ثَمَنًا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ الْأَخَفُّ جِنَايَةً بِالْأَثْقَلِ وَعَكْسُهُ؟ لِأَنَّ الْجَوَابَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُقُوبَةِ بِذَلِكَ فَضِيحَةُ الْحَامِلِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ لَا بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَظُنُّ الْأُمَرَاءَ فَهِمُوا تَجْرِيسَ السَّارِقِ وَنَحْوَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ بَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ.

(تَكْمِيلٌ)

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَى الْغَالِّ أَنْ يُعِيدَ مَا غَلَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ: يَدْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ خُمُسَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ لَا يَرَى بِذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مَلَكَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهُ فَلَيْسَ لَهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِ غَيْرِهِ، قَالَ: وَالْوَاجِبُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْإِمَامِ كَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ: فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مِيمٌ قَبْلَ الْهَاءِ، وَهُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ عِنْدَ الْعَلَفِ، وَهُوَ دُونَ الصَّهِيلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى:(عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ حَمْحَمَةٌ) بِحَذْفِ لَفْظِ فَرَسٍ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فَائِدَةُ ذِكْرِ طَرِيقِ أَيُّوبَ التَّنْصِيصَ عَلَى ذِكْرِ الْفَرَسِ.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طريقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ: فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَطَرِيقُ أَيُّوبَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ

ص: 186

أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَقَدْ رَوَيْنَاهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لِيُوسُفَ الْقَاضِي بِالْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ: وَيَجِيءُ رَجُلٌ عَلَى عُنُقِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: فَرَسٌ لَهُ حَمْحَةٌ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ وَلَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنْ كَانَ مَضْبُوطًا فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ.

‌190 - بَاب الْقَلِيلِ مِنْ الْغُلُولِ

وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ

3074 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ فِي النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: كَرْكَرَةُ، يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ. وَهُوَ مَضْبُوطٌ كَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ) أَيْ: هَلْ يَلْتَحِقُ بِالْكَثِيرِ فِي الْحُكْمِ أَمْ لَا؟

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ) يَعْنِي فِي حَدِيثِهِ الَّذِي سَاقَهُ فِي الْبَابِ فِي قِصَّةِ الَّذِي غَلَّ الْعَبَاءَةَ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا أَصَحُّ أَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْأَمْرِ بِحَرْقِ رَحْلِ الْغَالِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ، وَالْأَمْرُ بِحَرْقِ رَحْلِ الْغَالِّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ اللَّيْثِيِّ الْمَدَنِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا - أَيِ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَالِمٍ مَوْقُوفًا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا أَصَحُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ: يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي إِحْرَاقِ رَحْلِ الْغَالِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَرَاوِيهِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: صَالِحٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ ذِكْرِ الْغَالِّ، وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِحَرْقِ مَتَاعِهِ.

قُلْتُ: وَجَاءَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَنِ الْحَسَنِ: يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ كُلُّهُ إِلَّا الْحَيَوَانَ وَالْمُصْحَفَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حِينَ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِالْمَالِ.

(تَنْبِيهٌ):

حَكَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا هُنَا وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِلَخْ بَدَلَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، فَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ فَقَدْ عُرِفَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: هَذَا أَصَحَّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّحْرِيقَ أَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا مِنْ نُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سُفْيَانَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ثَقَلٍ) بِمُثَلَّثَةٍ وَقَافٍ مَفْتُوحَتَيْنِ: الْعِيَالُ وَمَا يَثْقُلُ حَمْلُهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ.

قَوْلُهُ: (كِرْكِرَةُ) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ يُمْسِكُ دَابَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِتَالِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى أَنَّهُ كَانَ نُوبِيًّا أَهْدَاهُ لَهُ هَوْذَةُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ فَأَعْتَقَهُ، وَذَكَرَ

ص: 187

الْبَلَاذُرِيُّ أَنَّهُ مَاتَ فِي الرِّقِّ، أَوِ اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ، فَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ يُقَالُ: بِفَتْحِ الْكَافَيْنِ وَبِكَسْرِهِمَا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي كَافِهِ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَكْسُورَةٌ اتِّفَاقًا، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ سَلَامٍ:، كَرْكَرَةُ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ شَيْخَهُ مُحَمَّدَ بْنَ سَلَامٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: يَعْنِي بِفَتْحِ الْكَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ لِلْأَكْثَرِ بِالْفَتْحِ فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ، وَبِالْكَسْرِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَلَامٍ، وَعِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالْكَسْرِ فِي الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَرْوَزِيِّ فِيهِ ضَبْطٌ إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْأَوَّلَ خِلَافُ الثَّانِي.

وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ قَلِيلِ الْغُلُولِ وَكَثِيرِهِ.

وَقَوْلُهُ: هُوَ فِي النَّارِ أَيْ: يُعَذَّبُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ هُوَ فِي النَّارِ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ.

‌191 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْمَغَانِمِ

3075 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَفِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا، فَقَالَ جَدِّي: إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فِي الْمَغَانِمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي ذَبْحِهِمُ الْإِبِلَ الَّتِي أَصَابُوهَا لِأَجْلِ الْجُوعِ وَنَصَبِهِمْ، وَأَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ.

وَفِيهِ قِصَّةُ الْبَعِيرِ الَّذِي نَدَّ، وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الذَّبْحِ بِالْقَصَبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَقَدْ مَضَى فِي الشَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ؛ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِكَرَاهَةِ مَا صَنَعُوا مِنَ الذَّبْحِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا أَكْفَأَ الْقُدُورَ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهَا بَعْدَ قِسْمَتِهِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهَا (بِذِي الْحُلَيْفَةِ) وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الذَّبْحَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَدِّي كَانَ الْمَذْبُوحُ مَيْتَةً، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ انْتَصَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ، أَوْ حَمَلَ الْإِكْفَاءَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ ذَبَحُوا، لَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ طَمَعُهُمْ كَانَتِ النِّكَايَةُ حَاصِلَةً لَهُمْ. قَالَ: وَإِذَا جَوَّزْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَعُقُوبَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ: يُرَاقُ اللَّبَنُ الْمَغْشُوشُ، وَلَا يُتْرَكُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ أَدَبًا لَهُ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَرَقُ عُقُوبَةً لِلَّذِينِ تَعَجَّلُوا، وَأَمَّا نَفْسُ اللَّحْمِ فَلَمْ يَتْلَفْ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ وَرُدَّ إِلَى الْمَغَانِمِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ تَقَدَّمَ، وَالْجِنَايَةُ بِطَبْخِهِ لَمْ تَقَعْ مِنَ الْجَمِيعِ إِذْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَصْحَابُ الْخُمُسِ، وَمِنَ الْغَانِمِينَ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ وَأَتْلَفُوهُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا

ص: 188

قَالَ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا: أَنَّهَا رِجْسٌ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُحُومَهَا لَمْ تُتْرَكْ بِخِلَافِ تِلْكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا أُبِيحُ لِلْغَازِي مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الْمَغَانِمِ مَا دَامُوا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ فِي (بَابِ مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ) فِي أَوَاخِرِ فَرْضِ الْخُمُسِ.

‌192 - بَاب الْبِشَارَةِ فِي الْفُتُوحِ

3076 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ: قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ وَكَانَ بَيْتًا فِيهِ خَثْعَمُ، يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَحْمَسَ - وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ - فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، فَبَارَكَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا مَرَّاتٍ.

قَالَ مُسَدَّدٌ: بَيْتٌ فِي خَثْعَمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبِشَارَةِ فِي الْفُتُوحِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ فِي قِصَّةِ ذِي الْخَلَصَةِ.

وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُهُ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُسَدَّدٌ: بَيْتٌ فِي خَثْعَمٍ يُرِيدُ أَنَّ مُسَدَّدًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى فَقَالَ: بَدَلَ قَوْلِهِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمٍ

(1)

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّوَابُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى فَقَالَ: بَيْتًا لِخَثْعَمٍ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ مُسَدَّدٍ.

‌193 - بَاب مَا يُعْطَى الْبَشِيرُ. وَأَعْطَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ثَوْبَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالتَّوْبَةِ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُعْطَى لِلْبَشِيرِ، وَأَعْطَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ثَوْبَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالتَّوْبَةِ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْبَشِيرَ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ.

‌194 - بَاب لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ

3077 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.

3078، 3079 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ،

(1)

عبارة القسطلاني: بدل قوله: "وكان بيتا فيه خثعم: بيت في خثعم" وهو الصواب. ونبه عليه مصحح طبعة بولاق

ص: 189

عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ مُجَاشِعٌ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ.

3080 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو، وَابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: ذَهَبْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ بِثَبِيرٍ، فَقَالَتْ لَنَا: انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ مُنْذُ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ، أَوِ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ حُكْمُهَا، فَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ، أَمَّا قَبْلَ فَتْحِ الْبَلَدِ فَمَنْ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْهَا، لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ، فَالْهِجْرَةُ مِنْهُ وَاجِبَةٌ. الثَّانِي: قَادِرٌ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ، وَأَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ، فَمُسْتَحَبَّةٌ؛ لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَمَعُونَتِهِمْ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَالْأَمْنِ مِنْ غَدْرِهِمْ، وَالرَّاحَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ. الثَّالِثُ: عَاجِزٌ، يُعْذَرُ مِنْ أَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَتَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ، فَإِنْ حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّفَ الْخُرُوجَ مِنْهَا أُجِرَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ وُجُوبِ النَّفِيرِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ.

الثَّانِي حَدِيثُ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ.

الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ مُنْذُ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَكَّةَ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلَ الْمَغَازِي.

‌195 - بَاب إِذَا اضْطَرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

وَالْمُؤْمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهَ، وَتَجْرِيدِهِنَّ

3081 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا - فَقَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ - وَكَانَ عَلَوِيًّا -: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ كَذَا، وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا. فَقُلْنَا: الْكِتَابَ، قَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِي، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَى حَاطِبٍ، فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ، وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ، وَلَا ازْدَدْتُ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ.

ص: 190

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمُؤْمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهَ، وَتَجْرِيدِهِنَّ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ فِي رُؤْيَةِ الشَّعْرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، وَهِيَ ذَوَائِبُهَا الْمَضْفُورَةُ، وَفِي التَّجْرِيدِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ: لَأُجَرِّدَنَّكِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجَاسُوسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ السُّلَمِيُّ. وَقَوْلُهُ:(وَكَانَ عُثْمَانِيًّا) أَيْ: يُقَدِّمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فِي الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ (فَقَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ) هُوَ حِبَّانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ عَلَوِيًّا أَيْ: يُقَدِّمُ عَلِيًّا فِي الْفَضْلِ عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْكُوفَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ هَلْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةٌ أَوْ ذِمِّيَّةٌ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُهَا فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ شَمَلَهُمَا الدَّلِيلُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنْ كَانَتْ مُشْرِكَةً لَمْ تُوَافِقِ التَّرْجَمَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ عَهْدٍ فَحُكْمُهَا حُكْمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا كَذَا هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي الْأُخْرَى: فَأَخْرَجَتْهُ وَالْحُجْزَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ: مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: مِنْ حُزَّتِهَا بِحَذْفِ الْجِيمِ. قِيلَ: هِيَ لُغَةٌ عَامِّيَّةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجَاسُوسِ أَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا فَأَخْفَتْهُ فِي عِقَاصِهَا ثُمَّ اضْطُرَّتْ إِلَى إِخْرَاجِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ بِأَنْ تَكُونَ عَقِيصَتُهَا طَوِيلَةٌ بِحَيْثُ تَصِلُ إِلَى حُجْزَتِهَا فَرَبَطَتْهُ فِي عَقِيصَتِهَا وَغَرَزَتْهُ بِحُجْزَتِهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِتَابَانِ إِلَى طَائِفَتَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحُجْزَةِ الْعُقْدَةُ مُطْلَقًا، وَتَكُونُ رِوَايَةُ الْعَقِيصَةِ أَوْضَحَ مِنْ رِوَايَةِ الْحُجْزَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحُجْزَةِ الْحَبْلُ؛ لِأَنَّ الْحَجْزَ هُوَ شَدُّ وَسَطِ يَدَيِ الْبَعِيرِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ يُخَالَفُ فَتُعْقَدُ رِجْلَاهُ، ثُمَّ يُشَدُّ طَرَفَاهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْحِجَازَ.

‌196 - بَاب اسْتِقْبَالِ الْغُزَاةِ

3082 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِابْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهم: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ.

3083 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ رضي الله عنه ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ".

[الحديث 3083 - طرفاه في: 4426، 4427]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْغُزَاةِ) أَيْ: عِنْدَ رُجُوعِهِمْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَسْوَدِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ابْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْأَسْوَدِ، وَحُمَيْدٌ جَدُّهُ يُكَنَّى أَبَا الْأَسْوَدِ، وَهُوَ الَّذِي قَرَنَهُ بيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، فَنُسِبَ تَارَةً إِلَى جَدِّهِ وَأُخْرَى إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَمَا لِحُمَيْدِ بْنِ الْأَسْوَدِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَنَهُ فِيهِ أَيْضًا بِيَزِيد بْنِ زُرَيْعٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ بِهَا أَشْهَرُ، وَكَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، لِابْنِ جَعْفَرٍ) كُلُّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَبْدُ اللَّهِ.

ص: 191

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَائِلَ فَحَمَلَنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَابْنِ عُلَيَّةَ، كِلَاهُمَا عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَقْلُوبًا، وَلَفْظُهُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، لِابْنِ الزُّبَيْرِ جَعَلَ الْمُسْتَفْهِمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَالْقَائِلَ: فَحَمَلَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ؛ فَإِنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بِخِلَافِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدَّ أَبِيهِ، لَكِنَّهُ جَدُّهُ لِأُمِّهِ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ سَارَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَهُ خَلْفَهُ، وَحَمَلَ قُثَمَ بْنَ عَبَّاسٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: حِفْظُ الْيَتِيمِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ مَاتَ، فَعَطَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ النَّصَّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَحْمِلِ ابْنَ جَعْفَرٍ. قَالَ: وَلَعَلَّ الدَّاوُدِيَّ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَعْفَرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، فَمَا أَدْرِي كَيْفَ قَالَ ابْنُ التِّينِ إِنَّهُ نَصٌّ فِي خِلَافِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ عِيَاضٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ الصَّوَابُ، قَالَ: وَتَأْوِيلُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي حَمَلَنَا لِابْنِ جَعْفَرٍ، فَيَكُونُ الْمَتْرُوكُ ابْنَ الزُّبَيْرِ. قَالَ: وَوَقَعَ عَلَى الصَّوَابِ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، فَبَيَّنَ سَبَبَ الْوَهْمِ وَلَفْظُهُ مِثْلُ مُسْلِمٍ، لَكِنْ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (قَالَ نَعَمْ: قَالَ: فَحَمَلَنَا، قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ فِيهِ: قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا يَعْنِي وَأَسْقَطَ قَالَ: الَّتِي بَعْدَ نَعَمْ. قُلْتُ: وَبِإِثْبَاتِهَا تُوَافِقُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَبِحَذْفِهَا تُخَالِفُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ أَيْضًا جَوَازُ الْفَخْرِ بِمَا يَقَعُ مِنْ إِكْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَثُبُوتُ الصُّحْبَةِ لَهُ وَلِابْنِ الزُّبَيْرِ - وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي السِّنِّ - وَقَدْ حَفِظَا غَيْرَ هَذَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْمُلَاقَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَوَقَعَ لِابْنِ التِّينِ هُنَا فِي الْمُرَادِ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ شَيْءٌ رَدَّهُ عَلَيْهِ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقَّنِ، وَالصَّوَابُ مَعَ ابْنِ التِّينِ.

‌197 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنْ الْغَزْوِ

3084 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثًا، قَالَ: آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، حَامِدُونَ، لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.

3085 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ، فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ، فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَاهَا، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا، فَرَكِبَا، وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 192

فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.

3086 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةُ يُرْدِفَهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ الدَّابَةُ، فَصُرِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ، وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ - أَحْسِبُ قَالَ -: اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ، فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَصَدَ قَصْدَهَا، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا، فَرَكِبَا، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ - أَوْ قَالَ: أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: آيِبُونَ تَائِبُونَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ وُقُوعِ صَفِيَّةَ عَنِ النَّاقَةِ، أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الثَّانِي مِنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ إِلَى بَنِي لِحْيَانَ كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَإِرْدَافُ صَفِيَّةَ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرَ مَكَانٌ يُقَالُ لَهُ: عُسْفَانُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الرَّاوِيَ أَضَافَ الْمَقْفَلَ إِلَى عُسْفَانَ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ خَيْبَرَ كَانَتْ عَقِبَهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِالْإِقَامَةِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَ الْغَزْوَتَيْنِ؛ لِتَقَارُبِهِمَا، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الْآتِي فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ بِمَكَّةَ، فَأَضَافَهَا إِلَى أَوْطَاسَ؛ لِتَقَارُبِهِمَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

‌198 - بَاب الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ

3087 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لِي: ادْخُلْ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.

3088 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ.

وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ.

ص: 193

‌199 - بَاب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ

3089 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا - أَوْ بَقَرَةً - زَادَ مُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَارِبٍ: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: اشْتَرَى مِنِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بِأُوقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ - أَوْ دِرْهَمَيْنِ - فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا، أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَوَزَنَ لِي ثَمَنَ الْبَعِيرِ.

3090 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ.

صِرَارٌ: مَوْضِعٌ نَاحِيَةً بِالْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ (بَابُ الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ) أَيْ: مِنَ السَّفَرِ، وَهَذَا الطَّعَامُ يُقَالُ لَهُ: النَّقِيعَةُ بِالنُّونِ وَالْقَافِ. قِيلَ: اشْتُقَّ مِنَ النَّقْعِ وَهُوَ الْغُبَارُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَأْتِي وَعَلَيْهِ غُبَارُ السَّفَرِ، وَقِيلَ: النَّقِيعَةُ مِنَ اللَّبَنِ إِذَا بَرُدَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ) أَيْ: لِأَجْلِ مَنْ يَغْشَاهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَصُومُ فِي السَّفَرِ، لَا فَرْضًا وَلَا تَطَوُّعًا، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي الْحَضَرِ، وَكَانَ إِذَا سَافَرَ أَفْطَرَ، وَإِذَا قَدِمَ صَامَ إِمَّا قَضَاءً إِنْ كَانَ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ، وَإِمَّا تَطَوُّعًا إِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ يُفْطِرُ أَوَّلَ قُدُومِهِ؛ لِأَجْلِ الَّذِينَ يَغْشَوْنَهُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّهْنِئَةِ بِالْقُدُومِ ثُمَّ يَصُومُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَصْنَعُ بَدَلَ يُفْطِرُ، وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصْوَبُ، فَقَدْ وَصَلَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لَمْ يُفْطِرْ، وَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا لَمْ يَصُمْ، فَإِذَا قَدِمَ أَفْطَرَ أَيَّامًا لِغَاشِيَتِهِ، ثُمَّ يَصُومُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ إِطْعَامُ الْإِمَامِ وَالرَّئِيسِ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ السَّلَفِ، وَيُسَمَّى النَّقِيعَةَ بِنُونٍ وَقَافٍ وَزْنُ عَظِيمَةٍ. وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَنْ سَفَرٍ أَطْعَمَ مَنْ يَأْتِيَهُ، وَيُفْطِرُ مَعَهُمْ، وَيَتْرُكُ قَضَاءَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَإِذَا انْتَهَى الطَّعَامُ ابْتَدَأَ قَضَاءَ رَمَضَانَ.

قَالَ: وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لِإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ لَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَاهُ الْمُهَلَّبُ، يَعْنِي مِنَ التَّقْيِيدِ بِرَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الْمُهَلَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ أَفْطَرَ: إِنَّهُ مُتَلَاعِبٌ. وَأَنَّهُ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ، فَحَضَرَ وَلَمْ يَأْكُلْ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ، فَاحْتَاجَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي ابْتَدَأْتُ بِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ حِينَئِذٍ، بَلْ يَقْصِدُ الْفِطْرَ؛ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ تَطَوُّعًا كَانَ أَوْ قَضَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ بَيْعِ جَمَلِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبٍ عَنْهُ بِاخْتِصَارٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا الْحَدِيثَ، وَصِرَارٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَوَهِمَ مَنْ ذَكَرَهُ بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلَهُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السَّنَدِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ وَكِيعٍ، وَمِمَّنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَكِنْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ حَيْثُ يُطْلِقُ مُحَمَّدًا لَا يُرِيدُ إِلَّا

ص: 194

الذُّهْلِيَّ، أَوْ ابْنَ سَلَامٍ، وَيُعْرَفُ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: زَادَ مُعَاذٌ أَيْ: ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي الْوَلِيدِ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، وَأَنَّ اللَّائِقَ بِهِ الْبَابُ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، فَرَوَى وَكِيعٌ طَرَفًا مِنْهُ، وَهُوَ ذَبْحُ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قُدُومِ الْمَدِينَةِ، وَرَوَى أَبُو الْوَلِيدِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْهُ طَرَفًا مِنْهُ، وَهُوَ أَمْرُهُ جَابِرًا بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقُدُومِ، وَرَوَى عَنْهُ مُعَاذٌ جَمِيعَهُ، وَفِيهِ قِصَّةُ الْبَعِيرِ وَذِكْرُ ثَمَنِهِ، لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ تَابَعَ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ شُعْبَةَ فِي سِيَاقِهِ جَمَاعَةٌ.

(خَاتِمَةٌ)

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْجِهَادِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هُنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ طَرِيقًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَالْخَالِصُ مِائَةٌ وَعَشَرَةُ أَحَادِيثَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، وَحَدِيثِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا، وَحَدِيثِ جَابِرٍ اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ وَحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بَلَّغَنَا نَبِيُّنَا وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي قَوْلِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ طَلْحَةَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، وَحَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَحَدِيثِ سَهْلٍ فِي أَسْمَاءِ الْخَيْلِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْعَضْبَاءُ لَا تُسْبَقُ، وَحَدِيثِ سَعْدٍ إِنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ، وَحَدِيثِ سَلَمَةَ ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ، وَحَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ إِذَا أَكْثَبُوكُمْ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّعَاءِ بِبَدْرٍ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ فِي قِتَالِ التُّرْكِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّحْرِيقِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا، وَحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فِي التَّرْجِيلِ، وَحَدِيثِ الْعَبَّاسِ فِي الرَّايَةِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي التَّسْبِيحِ، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي السَّيْرِ وَحْدَهُ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأُسَارَى، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عَلِيٍّ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ قَتْلِ خُبَيْبٍ، وَفِيهِ حَدِيثُ بِنْتِ عِيَاضٍ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ فِي عَيْنِ

الْمُشْرِكِينَ، وَحَدِيثِ عُمَرَ فِي هُنَيٍّ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قِصَّةِ الْغَالِّ، وَحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فِي الْمُلَاقَاةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 195

بسم الله الرحمن الرحيم

‌57 - كِتَاب فَرْضِ الْخُمُسِ

‌1 - بَاب فرض الخمس

3091 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عليهما السلام أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ، فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنْ الْأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَرَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فَإِذَا شَارِفَايَ قَدْ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ؛ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ، فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ، مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النّ ظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجْنَا مَعَهُ.

3092 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاءَ

ص: 196

اللَّهُ عَلَيْهِ".

[الحديث 3092 - أطرافه في: 3711، 4035، 4240، 6725]

3093 -

"فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَالَتْ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَقَالَ لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ وَقَالَ هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ قَالَ فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ".

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: اعْتَرَاكَ: افْتَعَلْتَ مِنْ عَرَوْتُهُ فَأَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي.

[الحديث 3093 - أطرافه في: 3712، 4036، 4241، 6726]

3094 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَأْتِينِي فَقَالَ أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ يَا مَالِ إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ فَاقْبِضْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي قَالَ اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا فَقَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ قَالَ عُمَرُ تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ

ص: 197

أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَا قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ ثُمَّ قَرَأَ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَجَاءَنِي هَذَا يُرِيدُ عَلِيًّا يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالَا نَعَمْ قَالَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا".

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

كِتَابُ فَرْضِ الْخُمُسِ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَلِلْأَكْثَرِ بَابُ، وَحَذَفَهُ بَعْضُهُمْ، وَثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْأَكْثَرِ وَالْخُمُسُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَرْضُ الْخُمُسِ أَيْ: وَقْتُ فَرْضِهِ، أَوْ كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ، أَوْ ثُبُوتُ فَرْضِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِ الْخُمُسِ كَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ، وَكَانَتِ الْغَنَائِمُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، فَيُعْزَلُ خُمُسٌ مِنْهَا يُصْرَفُ فِيمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي مُسْتَحِقِّيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَكَانَ خُمُسُ هَذَا الْخُمُسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَهُ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ، وَعَنْهُ يُرَدُّ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَيُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْغَانِمِينَ

ص: 198

إِلَّا السَّلَبَ؛ فَإِنَّهُ لِلْقَاتِلِ عَلَى الرَّاجِحِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قِصَّةِ الشَّارِفَيْنِ

قَوْلُهُ: (كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ) الشَّارِفُ: الْمُسِنُّ مِنَ النُّوقِ، وَلَا يُقَالُ لِلذَّكَرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ جَوَازَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: جَمْعُ فَاعِلٍ عَلَى فُعُلٍ بِضَمَّتَيْنِ قَلِيلٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخُمُسَ شُرِعَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ الْخُمُسَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ فُرِضَ فِيهِ الْخُمُسُ، قَالَ: وَقِيلَ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: ولَمْ يَأْتِ مَا فِيهِ بَيَانٌ شَافٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ قَوْلُ عَلِيٍّ إِلَى تَأْوِيلٍ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرَ لِي بَعْضُ آلِ جَحْشٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُسَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ الْخُمُسَ، فَعَزَلَ لَهُ الْخُمُسَ، وَقَسَّمَ سَائِرَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، قَالَ: فَوَقَعَ رِضَا اللَّهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَيُحْمَلُ قَوْلُ عَلِيٍّ: وَكَانَ قَدْ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ أَيْ: مِنَ الَّذِي حَصَلَ مِنْ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ.

قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ عَزَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِأَبِي دَاوُدَ وَجَعَلَهَا شَاهِدَةً لِمَا تَأَوَّلَهُ، وَغَفَلَ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْبُخَارِيِّ الَّذِي شَرَحَهُ، وَعَنْ كَوْنِ ظَاهِرِهَا شَاهِدًا عَلَيْهِ لَا لَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَرِ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ خُمُسٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ يُثْبِتُ فِي غَنِيمَةِ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَبْلَ بَدْرٍ الْخُمُسَ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَيَنْفِيهِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ مَعَ أَنَّ الْأَنْفَالَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِفَرْضِ الْخُمُسِ نَزَلَ غَالِبُهَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَقَدْ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ بِأَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي بَدْرٍ وَغَنَائِمِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آيَةَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ تَفْرِقَةِ الْغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السِّيَرِ نَقَلُوا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَأَعْطَاهَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ أَوْ غَابَ لِعُذْرٍ تَكَرُّمًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ كَانَتْ أَوَّلًا بِنَصِّ أَوَّلَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ حَدِيثُ عَلِيٍّ، يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَأَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِيهَا خُمُسٌ.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِسْمَةُ غَنَائِمِ بَدْرٍ وَقَعَتْ عَلَى السَّوَاءِ بَعْدَ أَنْ أُخْرِجَ الْخُمُسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَأَفَادَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ - وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} إِلَى آخِرِهَا - بَيَانُ مَصْرِفِ الْخُمُسِ لَا مَشْرُوعِيَّةَ أَصْلِ الْخُمُسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ السِّيَرِ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: فَلَمَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْغَنِيمَةِ وَسَاءَتْ أَخْلَاقُنَا انْتَزَعَهَا اللَّهُ مِنَّا فَجَعَلَهَا لِرَسُولِهِ، فَقَسَمهَا عَلَى النَّاسِ عَنْ سَوَاءٍ أَيْ: عَلَى سَوَاءٍ، سَاقَهُ مُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَيَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (أَبْتَنِي بِفَاطِمَةَ) أَيْ: أَدْخُلُ بِهَا، وَالْبِنَاءُ الدُّخُولُ بِالزَّوْجَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ بُنِيَتْ لَهُ قُبَّةٌ فَخَلَا فِيهَا بِأَهْلِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ دُخُولِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ؛ فَإِنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَرَادَ الْعَقْدَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: فِي رَجَبٍ، وَقِيلَ: فِي ذِي الْحِجَّةِ، قُلْتُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ يُشْبِهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شَهْرِ الدُّخُولِ بِهَا، وَقِيلَ: تَأَخَّرَ دُخُولُهُ بِهَا إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ، فَدَخَلَ بِهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَفِيهِ بُعْدٌ.

قَوْلُهُ: (وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الشُّرْبِ: طَابِعٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ، وَطَالِعٌ بِلَامٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مَنْ يَدُلُّهُ وَيُسَاعِدُهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ اسْمُ الصَّائِغِ الْمَذْكُورِ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ بُعْدٌ.

قَوْلُهُ: (مُنَاخَتَانِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمَا نَاقَتَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَرِيمَةَ: مُنَاخَانِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الشَّارِفِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ

ص: 199

عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَرَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الشُّرْبِ: وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، أَيْ: الَّذِي أَنَاخَ الشَّارِفَيْنِ بِجَانِبِهِ، وَمَعَهُ قَيْنَةٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ؛ هِيَ الْجَارِيَةُ الْمُغَنِّيَةُ، فَقَالَتْ:، وَالشُّرُفُ جَمْعُ شَارِفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنِّوَاءُ - بِكَسْرِ النُّونِ وَالْمَدِّ مُخَفَّفًا - جَمْعُ نَاوِيَةٍ وَهِيَ النَّاقَةُ السَّمِينَةُ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ رَوَاهُ: ذَا الشَّرَفِ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَفَسَّرَهُ بِالرِّفْعَةِ، وَجَعَلَهُ صِفَةً لِحَمْزَةَ، وَفَتَحَ نُونَ النِّوَاءِ وَفَسَّرَهُ بِالْبُعْدِ أَيْ: الشَّرَفِ الْبَعِيدِ، أَيْ: مَنَالُهُ بَعِيدٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ.

وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ أَبَا يَعْلَى حَدَّثَهُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَ: الثِّوَاءُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، قَالَ: فَلَمْ نَضْبِطْهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ النَّوَى بِالْقَصْرِ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: النِّوَاءُ: الْخِبَاءُ، وَهَذَا أَفْحَشُ فِي الْغَلَطِ، وَحَكَى الْمَرْزُبَانِيُّ فِي مُعْجَمِ الشُّعَرَاءِ أَنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ جَدِّ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَبَقِيَّتُهُ: وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ

ضَعِ السِّكِّينَ فِي اللَّبَّاتِ مِنْهَا

وَضَرِّجْهُنَّ حَمْزَةُ بِالدِّمَاءِ

وَعَجِّلْ مِنْ أَطَايِبهَا لِشَرْبٍ

قَدِيدًا مِنْ طَبِيخٍ أَوْ شِوَاءِ وَالشَّرْبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ شَارِبٍ، كَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، وَالْفِنَاءُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ: الْجَانِبُ، أَيْ: جَانِبُ الدَّارِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا. وَالْقَدِيدُ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ، وَالتَّضْرِيجُ بِمُعْجَمَةٍ وَجِيمٍ: التَّلْطِيخُ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَقَدْ عَرَّفَ بَعْضَ الْمُبْهَمِ فِي قَوْلِهِ فِي شَرْبٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَكِنَّ الْمَخْزُومِيَّ لَيْسَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ. وَأَرَادَ الَّذِي نَظَمَ هَذَا الشِّعْرَ، وَأَمَرَ الْقَيْنَةَ أَنْ تُغَنِّيَ بِهِ أَنْ يَبْعَثَ هِمَّةَ حَمْزَةَ؛ لِمَا عَرَفَ مِنْ كَرَمِهِ عَلَى نَحْرِ النَّاقَتَيْنِ؛ لِيَأْكُلُوا مِنْ لَحْمِهِمَا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: انْهَضْ إِلَى الشُّرُفِ فَانْحَرْهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ الشِّعْرِ. وَفِي قَوْلِهَا: لِلشُّرُفِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا ثِنْتَانِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: يَا حَمْزُ تَرْخِيمٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (قَدْ أُجِبَّتْ) وَقَعَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَنْبَسَةَ فِي الْمَغَازِي، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا: قَدْ جُبَّتْ بِضَمِّ الْجِيمِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، أَيْ: قُطِعَتْ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ: قَدِ اجْتُبَّتْ وَهُوَ صَوَابٌ أَيْضًا، وَالْجَبُّ الِاسْتِئْصَالُ فِي الْقَطْعِ.

قَوْلُهُ: (وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنَ السَّنَامِ، قَالَ: قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَالسَّنَامُ مَا عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ وَقَوْلُهُ: بَقَرَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ أَيْ: شَقَّ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَيْثُ رَأَيْتُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَكَى مِنْ شِدَّةِ الْقَهْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: رَأَيْتُ مَنْظَرًا أَفْظَعَنِي بِفَاءٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ مُعْجَمَةٍ، أَيْ: نَزَلَ بِي أَمْرٌ مُفْظِعٌ أَيْ: مُخِيفٌ مَهُولٌ، وَذَلِكَ لِتَصَوُّرِهِ تَأَخُّرَ الِابْتِنَاءِ بِزَوْجَتِهِ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ لِخَشْيَةِ أَنْ يُنْسَبَ فِي حَقِّهَا إِلَى تَقْصِيرٍ، لَا لِمُجَرَّدِ فَوَاتِ النَّاقَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَدْخُلَ) كَذَا فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (فَطَفِقَ يَلُومُ حَمْزَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ.

ص: 200

قَوْلُهُ: (هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: لِآبَائِي قِيلَ: أَرَادَ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَدٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِعَلِيٍّ أَيْضًا، وَالْجَدُّ يُدْعَى سَيِّدًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَمْزَةَ أَرَادَ الِافْتِخَارَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (الْقَهْقَرَى) هُوَ الْمَشْيُ إِلَى خَلْفٍ، وَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَزْدَادَ عَبَثُ حَمْزَةَ فِي حَالِ سُكْرِهِ، فَيَنْتَقِلُ مِنَ الْقَوْلِ إِلَى الْفِعْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَا يَقَعُ مِنْ حَمْزَةَ بِمَرْأًى مِنْهُ؛ لِيَدْفَعَهُ إِنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (وَخَرَجْنَا مَعَهُ) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَيْ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ بِقَوْلِهِ. وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ رَدٌّ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُدْخِلْ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ، وَالَّذِي يَقُولُ: يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ السُّكْرَ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَعُوقِبَ بِإِمْضَاءِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا نَفْيِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ يَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سُنَّةً. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الْغَانِمَ يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ بِحَقِّ الْغَنِيمَةِ، وَمِنَ الْخُمُسِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّ لِمَالِكِ النَّاقَةِ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا. وَفِيهِ الْإِنَاخَةُ عَلَى بَابِ الْغَيْرِ إِذَا عَرَفَ رِضَاهُ بِذَلِكَ وَعَدَمَ تَضَرُّرِهِ بِهِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ الَّذِي يَجْلُبُهُ الْحُزْنُ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَيْظُ.

وَفِيهِ مَا رُكِّبَ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَسَفِ عَلَى فَوْتِ مَا فِيهِ نَفْعُهُ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اسْتِعْدَاءَ الْمَظْلُومِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَإِخْبَارَهُ بِمَا ظَلَمَ بِهِ خَارِجٌ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَجَوَازُ الِاجْتِمَاعِ فِي الشُّرْبِ الْمُبَاحِ، وَجَوَازُ تَنَاوُلِ مَا يُوضَعُ بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ، وَجَوَازُ الْغِنَاءِ بِالْمُبَاحِ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مِنَ الْأَمَةِ، وَالتَّخَيُّرُ فِيمَا يَأْكُلُهُ، وَأَكْلُ الْكَبِدِ وَإِنْ كَانَتْ دَمًا. وَفِيهِ أَنَّ السُّكْرَ كَانَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ السُّكْرَ لَمْ يُبَحْ قَطُّ، وَيُمْكِنْ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى السُّكْرِ الَّذِي مَعَهُ التَّمْيِيزُ مِنْ أَصْلِهِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي النِّكَاحِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الصِّيَاغَةِ وَالتَّكَسُّبِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ، وَجَوَازُ جَمْعِ الْإِذْخِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالتَّكَسُّبِ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الشُّرْبِ. وَفِيهِ الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلِّ صِنَاعَةٍ بِالْعَارِفِ بِهَا، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِيهِ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ جِنَايَةَ ذَوِي الرَّحِمِ مُغْتَفَرَةٌ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغْرَمَ حَمْزَةَ ثَمَنَ النَّاقَتَيْنِ، وَفِيهِ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى بَيْتِ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ لِيُغَيِّرَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ حِلُّ تَذْكِيَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا بَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا إِلَّا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَفِيهِ سُنَّةُ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ، وَأَنَّ الْإِذْنَ لِلرَّئِيسِ يَشْمَلُ أَتْبَاعَهُ؛ لِأَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَعَلِيًّا دَخَلَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي كَانَ اسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُ، وَأَنَّ السَّكْرَانَ يُلَامُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ اللَّوْمَ، وَأَنَّ لِلْكَبِيرِ فِي بَيْتِهِ أَنْ يُلْقِيَ رِدَاءَهُ تَخْفِيفًا، وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ لِقَاءَ أَتْبَاعِهِ يَكُونُ عَلَى أَكْمَلِ هَيْئَةٍ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَمْزَةَ أَخَذَ رِدَاءَهُ. وَأَنَّ الصَّاحِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَاطِبَ السَّكْرَانَ، وَأَنَّ الذَّاهِبَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ زَائِلِ الْعَقْلِ لَا يُوَلِّيهِ ظَهْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَجَوَازُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ لِقَوْلِ حَمْزَةَ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ وَمُرَادُهُ كَالْعَبِيدِ، وَنُكْتَةُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَهُ فِي الْخُضُوعِ لَهُ، وَجَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَبِيدِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ. قُلْتُ: وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الِانْتِزَاعَاتِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: اعْتَرَاكَ، افْتَعَلْتَ مِنْ عَرَوْتُهُ فَأَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ: يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي.

الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ) زَادَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ.

قَوْلُهُ: (مَا تَرَكَ) هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِيرَاثَهَا

ص: 201

وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِمَّا تَرَكَ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَرَأَ قَوْلَهُ: لَا يُورَثُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ وَصَدَقَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ دَعْوَى مِنْ بَعْضِ الرَّافِضَةِ، فَادَّعَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا، وَالَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: لَا نُورَثُ بِالنُّونِ، وَ: صَدَقَةٌ بِالرَّفْعِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتانِ وَ: مَا تَرَكْنَا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَ: صَدَقَةٌ خَبَرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الصَّحِيحِ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ احْتَجَّ بِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى فَاطِمَةَ رضي الله عنها فِيمَا الْتَمَسَتْ مِنْهُ مِنَ الَّذِي خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَرَاضِي، وَهُمَا مِنْ أَفْصَحِ الْفُصَحَاءِ وَأَعْلَمِهِمْ بِمَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقْرَؤُهُ الرَّافِضِيُّ لَمْ يَكُنْ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حُجَّةٌ وَلَا كَانَ جَوَابُهُ مُطَابِقًا لِسُؤَالِهَا، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ أَنْصَفَ.

قَوْلُهُ: (مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ) سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَرُدُّ تَأْوِيلَ الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فَاطِمَةَ حَمَلَتْ كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ غَضِبَتْ، وَمَا قَدَّمْتُهُ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَقَعَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَعْمَرٍ: فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَكَذَا نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ فَاطِمَةَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: لَا أُكَلِّمُكُمَا، أَيْ: فِي هَذَا الْمِيرَاثِ، وَتَعَقَّبَهُ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: غَضِبَتْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْكَلَامِ جُمْلَةً وَهَذَا صَرِيحُ الْهَجْرِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنْتَ وَرِثْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ أَهْلُهُ؟ قَالَ: لَا بَلْ أَهْلُهُ، قَالَتْ: فَأَيْنَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَطْعَمَ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ جَعَلَهَا لِلَّذِي يَقُومُ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: فَأَنْتَ وَمَا سَمِعْتَهُ. فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ صَرِيحِ الْهُجْرَانِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ.

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَهِيَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: بَلْ أَهْلُهُ؛ فَإِنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ، نَعَمْ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَادَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ، قَالَتْ: أَتُحِبُّ أَنْ آذَنَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَتْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَتَرَضَّاهَا حَتَّى رَضِيَتْ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِسْنَادُهُ إِلَى الشَّعْبِيِّ صَحِيحٌ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي جَوَازِ تَمَادِي فَاطِمَةَ عليها السلام عَلَى هَجْرِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَتُهَا انْقِبَاضًا عَنْ لِقَائِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْهُجْرَانِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَلْتَقِيَا فَيُعْرِضُ هَذَا وَهَذَا، وَكَأَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام لَمَّا خَرَجَتْ غَضْبَى مِنْ عِنْدِ أَبِي بَكْرٍ تَمَادَتْ فِي اشْتِغَالِهَا بِحُزْنِهَا، ثُمَّ بِمَرَضِهَا.

وَأَمَّا سَبَبُ غَضَبِهَا مَعَ احْتِجَاجِ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَلِاعْتِقَادِهَا تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَكَأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: لَا نُورَثُ، وَرَأَتْ أَنَّ مَنَافِعَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ أَرْضٍ وَعَقَارٍ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُورَثَ عَنْهُ، وَتَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ بِالْعُمُومِ، وَاخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَمَّا صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ انْقَطَعَتْ عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِهِ لِذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ أَزَالَ الْإِشْكَالَ، وَأَخْلَقُ بِالْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ وُفُورِ عَقْلِهَا وَدِينِهَا عليها السلام، وَسَيَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: مَنْ يَرِثُكَ؟ قَالَ: أَهْلِي وَوَلَدِي، قَالَتْ: فَمَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا نُورَثُ، وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُولُهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا

ص: 202

بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَصَدَقَتِهِ بِالْمَدِينَةِ) هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَمْ تَطْلُبْ مِنْ جَمِيعِ مَا خَلَّفَ، وَإِنَّمَا طَلَبَتْ شَيْئًا مَخْصُوصًا، فَأَمَّا خَيْبَرُ فَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمَذْكُورَةِ وَسَهْمُهُ مِنْ خَيْبَرَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَهْلِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ قَالَ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَرَوَاهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا، لَيْسَ فِيهِ سَهْلٌ.

وَأَمَّا فَدَكُ - وَهِيَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا كَافٌ -: بَلَدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا مَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي قَاطِبَةً أَنَّ أَهْلَ فَدَكَ كَانُوا مِنْ يَهُودَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أَرْسَلَ أَهْلُ فَدَكَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْبَلَدَ وَيَرْحَلُوا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُسَيِّرَهُمْ فَفَعَلَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَلِأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ فَدَكَ وَقُرًى سَمَّاهَا وَهُوَ يُحَاصِرُ قَوْمًا آخَرِينَ، يَعْنِي بَقِيَّةَ أَهْلِ خَيْبَرَ.

وَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَتْ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الْآيَةَ قَالَ: فَأَعْطَى أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَبَقِيَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَتْ صَدَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَمْوَالًا لِمُخَيْرِيقٍ - بِالْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ مُصَغَّرٌ، وَكَانَ يَهُودِيًّا مِنْ بَقَايَا بَنِي قَيْنُقَاعَ نَازِلًا بِبَنِي النَّضِيرِ - فَشَهِدَ أُحُدًا فَقُتِلَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مُخَيْرِيقٌ سَابِقُ يَهُودَ، وَأَوْصَى مُخَيْرِيقٌ بِأَمْوَالِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ مُخَيْرِيقٌ: إِنْ أُصِبْتُ فَأَمْوَالِي لِمُحَمَّدٍ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، فَهِيَ عَامَّةُ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَكَانَتْ أَمْوَالُ مُخَيْرِيقٍ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَعَلَى هَذِهِ فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، شَمِلَ جَمِيعَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي الْمَنَاقِبِ: وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ يَصْرِفُهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ لِمَنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُهُ لَهُ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي وَجْهٍ: هُوَ لِلْإِمَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ: يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُصْرَفُ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُرَدُّ إِلَى الْأَرْبَعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْقَوْلِ مَنْ يُوجِبُ قَسْمَ الزَّكَاةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَإِنْ فُقِدَ صِنْفٌ رُدَّ عَلَى الْبَاقِينَ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرَدُّ مَعَ سَهْمِ ذَوِيِ الْقُرْبَى إِلَى الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: يُرَدُّ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ إِلَى الْغَانِمِينَ، وَمِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْمَصَالِحِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا صَدَقَتُهُ) أَيْ: صَدَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ) سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا خَيْبَرُ) أَيْ: الَّذِي كَانَ يَخُصُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا (وَفَدَكَ فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ) أَيْ: لَمْ يَدْفَعْهَا لِغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ صَدَقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَخْتَصُّ بِمَا كَانَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَأَمَّا سَهْمُهُ مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، فَكَانَ حُكْمُهُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَدِّمُ نَفَقَةَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهَا مِمَّا كَانَ يَصْرِفُهُ فَيَصْرِفُهُ مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ لِمَقْلِهِ فِي الْمَصَالِحِ. وَعَمِلَ عُمَرُ بَعْدَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ تَصَرَّفَ فِي فَدَكَ بِحَسَبِ

ص: 203

مَا رَآهُ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَنِي مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِقُ مِنْ فَدَكَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَيُزَوِّجُ أَيِّمَهُمْ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهَا فَأَبَى، وَكَانَتْ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ أُقْطِعَهَا مَرْوَانُ يَعْنِي فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَقْطَعَ عُثْمَانُ فَدَكَ لِمَرْوَانَ؛ لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، فَاسْتَغْنَى عُثْمَانُ عَنْهَا بِأَمْوَالِهِ، فَوَصَلَ بِهَا بَعْضَ قَرَابَتِهِ، وَيَشْهَدُ لِصَنِيعِ أَبِي بَكْرٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ الْآتِي بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ.

فَقَدْ عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ لَهُمَا، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ: لَا نُورَثُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ) هُوَ كَلَامُ الزُّهْرِيِّ، أَيْ: حِينَ حَدَّثَ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: الْمُصَنِّفُ (اعْتَرَاكَ: افْتَعَلْتَ) كَذَا فِيهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ افْتَعَلَكَ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ عَرَوْتُهُ فَأَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ: يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي، أَرَادَ بِذَلِكَ شَرْحَ قَوْلِهِ: يَعْرُوهُ وَبَيَّنَ تَصَارِيفَهُ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِصَابَةُ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ، وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ يُفَسِّرُ اللَّفْظَةَ الْغَرِيبَةَ مِنَ الْحَدِيثِ بِتَفْسِيرِ اللَّفْظَةِ الْغَرِيبَةِ مِنَ الْقُرْآنِ.

قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ؛ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ. قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.

قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ: - قَدِيرٌ، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ

امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ؛ فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عُمَرَ مَعَ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ، وَقَعَ قَبْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ قِصَّةُ فَدَكَ، وَكَأَنَّهَا تَرْجَمَةٌ لِحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ أَمْرَ فَدَكٍ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرَوِيُّ) هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ قِتَالِ الْيَهُودِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصُّلْحِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيُّ وَهُوَ مَقْلُوبٌ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ مِثْلَهُ، قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ، مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهِيَ تَشَابُهُ الطَّرَفَيْنِ، مِثَالُهُ مَا وَقَعَ هُنَا: ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ مَالِكٌ، الْأَعْلَى ابْنُ أَوْسٍ، وَالْأَدْنَى ابْنُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ) أَيْ: ابْنُ مُطْعِمٍ (قَدْ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ) أَيْ: الْآتِي ذِكْرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ) كَذَا فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ لِإِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ ضَمُّ أَدْخُلَ عَلَى أَنَّ حَتَّى عَاطِفَةً، أَيِ: انْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى إِلَى أَنْ.

قَوْلُهُ: (مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ) ابْنِ الْحَدَثَانِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ نَصْرِيٌّ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ، وَأَمَّا هُوَ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: لَا تَصِحُّ لَهُ صُحْبَةٌ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُصْعَبٍ - أَوْ غَيْرِهِ - أَنَّهُ رَكِبَ الْخَيْلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا لَعَلَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا وَقَعَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ؛ دَخَلَ أَبُوهُ وَصَحِبَ، وَتَأَخَّرَ هُوَ مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَشَارَكَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِنَّهُ أَخَذَ عَنِ الْعَشَرَةِ. وَلَيْسَ لِمَالِكِ بْنِ أَوْسٍ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الْبُيُوعِ، وَفِي صَنِيعِ ابْنِ شِهَابٍ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي طَلَبِ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَنِعْ بِالْحَدِيثِ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ لِيُشَافِهَهُ بِهِ، وَفِيهِ حِرْصُ ابْنِ شِهَابٍ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ وَتَحْصِيلِهِ.

(تَنْبِيهٌ):

ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الزُّهْرِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ: أَنْكَرَهُ قَوْمٌ، وَقَالُوا: هَذَا مِنْ مُسْتَنْكَرِ مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: فَإِنْ كَانُوا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ فَهَيْهَاتَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَهُوَ جَهْلٌ، فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، وَغَيْرُهُمْ.

قَوْلُهُ: (حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَنَّاةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ: عَلَا وَامْتَدَّ، وَقِيلَ: هُوَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ مَالِكٍ:

ص: 204

حِينَ تَعَالَى النَّهَارُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ: بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا رَسُولُ عُمَرَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ يَرْفَأَ الْحَاجِبَ الْآتِي ذِكْرُهُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَدْ تُضَمُّ، وَهُوَ مَا يُنْسَجُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هُوَ السَّرِيرُ الَّذِي يُعْمَلُ مِنَ الْجَرِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِسًا عَلَى سَرِيرٍ مُفْضِيًا إِلَى رِمَالِهِ، أَيْ: لَيْسَ تَحْتَهُ فِرَاشٌ، وَالْإِفْضَاءُ إِلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ بِحَائِلٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّرِيرِ فِرَاشٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا مَالُ) كَذَا هُوَ بِالتَّرْخِيمِ أَيْ: مَالِكٌ، وَيَجُوزُ فِي اللَّامِ الْكَسْرُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالضَّمُّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ اسْمًا مُسْتَقِلًّا فَيُعْرَبُ إِعْرَابَ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ) أَيْ: مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ. وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ أَيْ: وَرَدَ جَمَاعَةٌ بِأَهْلِيهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، يَسِيرُونَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَالدَّفِيفُ: السَّيْرُ اللَّيِّنُ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَصَابَهُمْ جَدْبٌ فِي بِلَادِهِمْ فَانْتَجَعُوا الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (بِرَضْخٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ، أَيْ: عَطِيَّةٍ غَيْرِ كَثِيرَةٍ وَلَا مُقَدَّرَةٍ.

وَقَوْلُهُ: (لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي) قَالَهُ تَحَرُّجًا مِنْ قَبُولِ الْأَمَانَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا جَرَى لَهُ فِيهِ اكْتِفَاءً بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبَضَهُ؛ لِعَزْمِ عُمَرَ عَلَيْهِ ثَانِيَ مَرَّةٍ.

قَوْلُهُ: (أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ مُشْبَعَةٌ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدْ تُهْمَزُ، وَهِيَ رِوَايَتُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، وَيَرْفَا هَذَا كَانَ مِنْ مَوَالِي عُمَرَ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَلَا تُعْرَفُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ حَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِمَوْلًى لَهُ - يُقَالُ لَهُ: يَرْفَا -: إِذَا جَاءَ طَعَامُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَأَعْلِمْنِي فَذَكَرَ قِصَّةً. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ يَرْفَا قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَنْزِلَةَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ) أَيْ: ابْنِ عَفَّانَ (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ)، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرَفِهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَزَادَ فِيهَا: وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِيِّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَيْضًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ قَالَ: دَخَلَ الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا ذُكِرَ طَلْحَةُ، لَكِنْ لَمْ يُذْكَرْ عُثْمَانُ.

قَوْلُهُ: (فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الْمَغَازِي: فَأَدْخَلَهُمْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ؟) زَادَ شُعَيْبٌ: يَسْتَأْذِنَانِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا) زَادَ شُعَيْبٌ، وَيُونُسُ: فَاسْتَبَّ عَلِيٌّ، وَعَبَّاسٌ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الْفَرَائِضِ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ؛ اسْتَبَّا وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عَلِيٍّ فِي حَقِّ الْعَبَّاسِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا يُفْهِمُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: اسْتَبَّا، وَاسْتَصْوَبَ الْمَازِرِيُّ صَنِيعَ مَنْ حَذَفَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: لَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ وَهِمَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَأَجْوَدُ مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَهَا دَلَالًا عَلَى عَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، فَأَرَادَ رَدْعَهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ يَتَّصِفُ بِهَا لَوْ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ عَنْ عَمْدٍ، قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِوُقُوعِ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الْخَلِيفَةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِذَلِكَ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ تَشَدُّدِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ.

قَوْلُهُ: (وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ) يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ الرَّهْطُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ الْقَوْمُ وَزَادَ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدَّمُوهُمْ لِذَلِكَ، قُلْتُ: وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَأَفَادَتْ تَعْيِينَ مَنْ بَاشَرَ سُؤَالَ عُمَرَ فِي

ص: 205

ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تَئِيدَكُمْ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ التَّحْتَانِيَّةِ مَهْمُوزٌ، وَفَتْحِ الدَّالِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ أَصْلُهَا: تَيْدَكُمْ، وَالتُّؤَدَةُ: الرِّفْقُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الدَّالِ، وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ كَرُوَيْدًا، أَيِ: اصْبِرُوا وَأَمْهِلُوا وَعَلَى رِسْلِكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرُ تَادَ يَتِيدُ، كَمَا يُقَالُ: سِيرُوا سَيْرَكُمْ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي اللُّغَةِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَشُعَيْبٍ: أَتِيدُوا أَيْ: تَمَهَّلُوا، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ايْتَدْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِلْمُفْرَدِ.

قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكُمَا، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟) كَذَا فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَالَا: نَعَمْ وَمَعْنَى أَنْشُدُكُمَا: أَسْأَلُكُمَا رَافِعًا نَشْدِي، أَيْ: صَوْتِي.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِخَاصَّةٍ لَمْ يَخْصُصْ بِهَا غَيْرَهُ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّفْسِيرِ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي النَّفَقَاتِ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قوْتَ سَنَتِهِمْ أَيْ: ثَمَرَ النَّخْلِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ، وَفَدَكُ. فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَسَّمَ جُزْءًا لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَمَا فَضَلَ مِنْهُ جَعَلَهُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَسِّمَ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي مُشْتَرَى السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وذلك مُفَسِّرٌ لِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ.

وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الْمَذْكُورَةِ: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، ثُمَّ فِي طُولِ السَّنَةِ يَحْتَاجُ لِمَنْ يَطْرُقُهُ إِلَى إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ فَيُخْرِجُهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُعَوِّضَ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا عِوَضَهُ، فَلِذَلِكَ اسْتَدَانَ.

قَوْلُهُ: (مَا احْتَازَهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ، هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنَّهُ وَاسَى بِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَغَيْرَهُمْ بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ ابْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟) زَادَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: قَالَا نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَادَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَذَا وَكَذَا وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: كَمَا تَقُولَانِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَجِئْتُمَا، تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَرَأَيْتُمَا كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا وَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً فَيُصَرِّحُ، وَتَارَةً فَيُكَنِّي، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ. وَقَدْ حُذِفَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ، لِعَلِيٍّ.

وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ حُذِفَتْ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ كِلَاهُمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ مَالِكٍ عَلَى مَا قَالَ جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، وَاجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ عَنْ مَالِكٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَفِظُوهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمَحْذُوفُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَتِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْحَدِيثِ، لَكِنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ فِيهِ لِعُمَرَ حَيْثُ قَالَ: جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ، تَسْأَلُنِي

ص: 206

نَصِيبَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ وَفِيهِ: فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا نُورَثُ فَاشْتَمَلَ هَذَا الْفَصْلُ عَلَى مُخَالَفَةِ إِسْحَاقَ لِبَقِيَّةِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فِي كَوْنِهِمْ جَعَلُوا الْقِصَّةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَجَعَلُوا الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ جعلَ الْقِصَّةَ عِنْدَ عُمَرَ وَجَعَلَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِغَيْرِ وَاسِطَةِ أَبِي بَكْرٍ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيِّ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ الْآتِيَةُ فِي الْفَرَائِضِ، فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ عِنْدَ عُمَرَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لِسِيَاقِ إِسْحَاقَ الْفَرَوِيِّ أَصْلًا، فَلَعَلَّ الْقِصَّتَيْنِ مَحْفُوظَتَانِ، وَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ لِبَيَانِ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ شَدِيدٌ وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْقِصَّةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَبَّاسَ، وَعَلِيًّا قَدْ عَلِمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا نُورَثُ، فَإِنْ كَانَا سَمِعَاهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَطْلُبَانِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ وَإِنْ كَانَا إِنَّمَا سَمِعَاهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَوْ فِي زَمَنِهِ بِحَيْثُ أَفَادَ عِنْدَهُمَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَطْلُبَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - حَمْلُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسِ اعْتَقَدَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: لَا نُورَثُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ مَا يَخْلُفُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ ظُلْمَ مَنْ خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا مُخَاصَمَةُ عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ ثَانِيًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ: لَمْ يَكُنْ فِي الْمِيرَاثِ، إِنَّمَا تَنَازَعَا فِي وِلَايَةِ الصَّدَقَةِ، وَفِي صَرْفِهَا كَيْفَ تُصْرَفُ؟ كَذَا قَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، وَلَفْظُهُ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ جِئْتُمَانِي الْآنَ تَخْتَصِمَانِ، يَقُولُ هَذَا: أُرِيدُ نَصِيبِي مِنَ ابْنِ أَخِي، وَيَقُولُ هَذَا: أُرِيدُ نَصِيبِي مِنَ امْرَأَتِي، وَاللَّهِ لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا إِلَّا بِذَلِكَ، أَيْ: إِلَّا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْلِيمِهَا لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْوِلَايَةِ. وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ نَحْوَهُ.

وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: أَرَادَا أَنَّ عُمَرَ يُقَسِّمُهَا لِيَنْفَرِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنَظَرِ مَا يَتَوَلَّاهُ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ قَسْمٍ، وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ وَاسْتَحْسَنُوهُ، وَفِيهِ مِنَ النَّظَرِ مَا تَقَدَّمَ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ جَزْمُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ ثُمَّ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بِأَنَّ عَلِيًّا، وَعَبَّاسًا لَمْ يَطْلُبَا مِنْ عُمَرَ إِلَّا ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ السِّيَاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمَا جَاءَاهُ مَرَّتَيْنِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الْعُذْرَ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ أَنَّهُمَا شَرَحَا اللَّفْظَ الْوَارِدَ فِي مُسْلِمٍ دُونَ اللَّفْظِ الْوَارِدِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا قَوْلُ عَمَرَ: جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَإِنَّمَا عَبَّرَ بِذَلِكَ لِبَيَانِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، كَيْفَ يُقْسَمُ أَنْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مِيرَاثٌ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْغَضَّ مِنْهُمَا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَزَادَ الْإِمَامِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي آخِرِهِ: فَأَصْلِحَا أَمْرَكُمَا، وَإِلَّا لَمْ يَرْجِعْ وَاللَّهِ إِلَيْكُمَا، فَقَامَا وَتَرَكَا الْخُصُومَةَ وَأُمْضِيَتْ صَدَقَةً. وَزَادَ شُعَيْبٌ فِي آخِرِهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عُرْوَةَ فَقَالَ: صَدَقَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، أَنَا سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ فَذَكَرَ حَدِيثًا. قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِيَدِ عَلِيٍّ مَنَعَهَا عَبَّاسًا فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَانَتْ بِيَدِ الْحَسَنِ، ثُمَّ بِيَدِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهِيَ صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مَعْمَرٌ: ثُمَّ كَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ حَتَّى وَلِيَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ - فَقَبَضُوهَا. وَزَادَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي أَنَّ إِعْرَاضَ الْعَبَّاسِ عَنْهَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا غَسَّانَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَدَنِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ الْيَوْمَ بِيَدِ الْخَلِيفَةِ يَكْتُبُ فِي عَهْدِهِ يُوَلِّي عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِهِ مَنْ

ص: 207

يَقْبِضُهَا، وَيُفَرِّقُهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الْأُمُورُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْفَيْءُ وَالْخُمُسُ سَوَاءٌ يُجْعَلَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيُعْطِي الْإِمَامُ أَقَارِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ. وَفَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَبَيْنَ الْفَيْءِ، فَقَالَ: الْخُمُسُ مَوْضُوعٌ فِيمَا عَيَّنَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ فِي آيَةِ الْخُمسِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، لَا يُتَعَدَّى بِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ النَّظَرُ فِي مَصْرِفِهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيُّ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ، وَأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُ خُمُسُ الْخُمُسِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ لِمُسْتَحِقِّ نَظِيرِهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَصْرِفُ الْفَيْءِ كُلُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ: فَكَانَتْ هَذِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ عُمَرَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ فِي بَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَتْ فَاطِمَةُ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْ جُمْلَتِهِ خَيْبَرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ سَهْمُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَهُوَ الْخُمُسُ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ: مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَفَدَكَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ كُلِّ قَبِيلَةٍ كَبِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَادِيَ الرَّجُلَ الشَّرِيفَ الْكَبِيرَ بِاسْمِهِ وَبِالتَّرْخِيمِ حَيْثُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَنْقِيصَهُ، وَفِيهِ اسْتِعْفَاءُ الْمَرْءِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَسُؤَالُهُ الْإِمَامَ ذَلِكَ بِالرِّفْقِ، وَفِيهِ اتِّخَاذُ الْحَاجِبِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ فِي إِنْفَاذِ حُكْمٍ وَتَبْيِينِ الْحَاكِمِ وَجْهَ حُكْمِهِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الْإِمَامِ مَنْ يَنْظُرُ عَلَى الْوَقْفِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَالتَّشْرِيكُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُ يُؤْخَذُ جَوَازُ أَكْثَرِ مِنْهُمَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِادِّخَارِ خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ مُشَدِّدِي الْمُتَزَهِّدِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْعَقَارِ، وَاسْتِغْلَالِ مَنْفَعَتِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّخَاذِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ، وَالْمَنْفَعَةُ مِنْ زِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ عِنْدَهُ الدَّلِيلُ صَارَ إِلَيْهِ وَقَضَى بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْأَتْبَاعَ إِذَا رَأَوْا مِنَ الْكَبِيرِ انْقِبَاضًا لَمْ يُفَاتِحُوهُ حَتَّى يُفَاتِحَهُمْ بِالْكَلَامِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ إِلَّا قَدْرَ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ مَنْ يُمَوِّنُهُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ فِيهِ التَّصَرُّفُ بِالْقَسْمِ، وَالْعَطِيَّةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مِلْكَ رَقَبَةِ مَا غَنِمَهُ، وَإِنَّمَا مَلَّكَهُ مَنَافِعَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُورَثُ: احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قَالَ: أَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الْعُمُومَ فَلَا اسْتِغْرَاقَ عِنْدَهُ لِكُلِّ مَنْ مَاتَ أَنَّهُ يُورَثُ، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَهُ فَلَا يُسَلِّمُ دُخُولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَلَوْ سَلَّمَ دُخُولَهُ لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَخَبَرُ الْآحَادِ يُخَصِّصُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسَخُ، فَكَيْفَ بِالْخَبَرِ إِذَا جَاءَ مِثْلَ مَجِيءِ هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ: لَا نُورَثُ.

‌2 - باب أداء الخمس من الدين

3095 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ

ص: 208

عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الدَّيْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ هُنَاكَ: أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الْإِيمَانِ وَهُوَ عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي تَرَادُفِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ شَرْحِ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْخُمُسِ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

‌3 - بَاب نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ

3096 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ.

3097 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.

[الحديث 3097 - طرفه في: 6451]

3098 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ سِلَاحَهُ وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً".

قَوْلُهُ: (بَابُ نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَاخِرِ الْوَقْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِهِ قَبْلَ بِبَابٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْمِيرَاثِ فِي الْفَرَائِضِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: عَامِلِي فَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ. وَقِيلَ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَامِلَ عَلَى النَّخْلِ، وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ حَافِرُ قَبْرِهِ عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْخَصَائِصِ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ خَادِمُهُ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: دِينَارًا كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا سُفْيَانُ، الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَسَّامِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الشَّعِيرِ الَّذِي كَانَ فِي رَفِّهَا فَكَالَتْهُ فَفَنِيَ، وَسَيَأْتِي بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَشَرْحِهِ فِي الرِّقَاقِ، وَتَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَيْلِ أَوَائِلَ الْبُيُوعِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَأَخَذَ الشَّعِيرَ مِنْهَا.

3098 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا سِلَاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً.

ثَالِثُهَا:

ص: 209

حَدِيثُ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا سِلَاحَهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا، وَأَنَّ شَرْحَهُ يَأْتِي مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ فِي أَوَّلِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ فَسُقِطَ عَلَيْهِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، مُسَدَّدٌ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَيَّانِيُّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ مَا عِنْدَهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ يَحْيَى هُوَ ابْنُ مُوسَى أَوِ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

‌4 - بَاب مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا نُسِبَ مِنْ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ،

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وَ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}

3099 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدٌ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ.

3100 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَفِي نَوْبَتِي، وَبَيْن سَحْرِي وَنَحْرِي، وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسِوَاكٍ، فَضَعُفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ، ثُمَّ سَنَنْتُهُ بِهِ.

3101 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ - فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ - ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِمَا رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكُمَا، قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا.

3102 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ.

3103 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا.

3104 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ

ص: 210

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ فَقَالَ: هَا هُنَا الْفِتْنَةُ - ثَلَاثًا - مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ.

3105 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بنت عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُرَاهُ فُلَانًا - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ - الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وَ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: غَرَضُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تُحَقِّقُ دَوَامَ اسْتِحْقَاقِهِنَّ لِلْبُيُوتِ مَا بَقِينَ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُنَّ وَسُكْنَاهُنَّ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالسِّرُّ فِيهِ حَبْسُهُنَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا.

ثَانِيهَا حَدِيثُهَا: تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي، وَفِيهِ ذِكْرُ السِّوَاكِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[الحديث 3104 - أطرافه في: 3279، 3511، 5296، 7092، 7093]

ثَالِثُهَا حَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهَا فِيهِ: عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاعْتِكَافِ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ.

خَامِسُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ.

سَادِسُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ -: الْفِتْنَةُ هَاهُنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْفِتَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسْكَنِ لَا يُنَاسِبُ مَا قَصَدَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَالِكُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَغَيْرُهُمَا.

سَابِعُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الرَّضَاعِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ فِي الشَّهَادَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْوَهْمِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَنْ شَيْخِهِ، وَقَدْ ضَرَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي ذَرٍّ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، وَلَفْظُ الزِّيَادَةِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَهَذَا الْقَدْرُ زَائِدٌ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَلَّكَ كُلًّا مِنْ أَزْوَاجِهِ الْبَيْتَ الَّذِي هِيَ فِيهِ، فَسَكَنَ بَعْدَهُ فِيهِنَّ بِذَلِكَ التَّمْلِيكِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يُنَازِعْهُنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَئُونَتِهِنَّ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَاهَا لَهُنَّ، مِمَّا كَانَ بِيَدِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي قَالَ: وَهَذَا أَرْجَحُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثْنَ عَنْهُنَّ مَنَازِلَهُنَّ، وَلَوْ كَانَتِ الْبُيُوتُ مِلْكًا لَهُنَّ لَانْتَقَلَتْ إِلَى وَرَثَتِهِنَّ، وَفِي تَرْكِ وَرَثَتِهِنَّ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا زِيدَتْ بُيُوتُهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ؛ لِعُمُومِ نَفْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ فِيمَا كَانَ يُصْرَفُ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ حَبَسَ عَلَيْهِنَّ بُيُوتَهُنَّ، ثُمَّ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَبَسَ دَارًا جَازَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِمَنْعِ أَصْلِ الدَّعْوَى، ثُمَّ عَلَى التَّنَزُّلِ لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ إِلَّا إِنْ صَرَّحَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ؟

ص: 211

‌5 - بَاب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ

وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ

وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا تبرك أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ

3106 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ: سَطْرٌ، وَرَسُولُ: سَطْرٌ، وَاللَّهِ: سَطْرٌ.

3107 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: "أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

[الحديث 3107 - طرفاه 5857، 5858]

3108 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها كِسَاءً مُلَبَّدًا وَقَالَتْ فِي هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم". وَزَادَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْمُلَبَّدَةَ".

[الحديث 3108 - طرفه في: 5818]

3109 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ". قَالَ عَاصِمٌ: "رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ".

[الحديث 3109 - طرفه في: 5638]

3110 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدُّؤَلِيِّ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ حَدَّثَهُ "أَنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ إِلَيَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لَا. فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عليها السلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا

ص: 212

وَأَنَا يَوْمَئِذٍ الْمُحْتَلِمُ، فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا.

3111 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ، عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ذَاكِرًا عُثْمَانَ رضي الله عنه، ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ، فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُرْ سُعَاتَكَ يعملوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا. فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا.

[الحديث 3111 - طرفه في: 3112]

3112 -

وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُنْذِرًا الثَّوْرِيَّ، عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَال: أَرْسَلَنِي أَبِي؛ خُذْ هَذَا الْكِتَابَ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ، وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ) الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ تَثْبِيتُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُورَثْ وَلَا بِيعَ مَوْجُودُهُ، بَلْ تُرِكَ بِيَدِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مِيرَاثًا لَبِيعَتْ وَقُسِّمَتْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مِمَّا لَمْ تُذْكَرْ قِسْمَتُهُ وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَبَرَّكَ أَصْحَابُهُ أَيْ: بِهِ، وَحَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَلِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخَيْهِ: شَرِكَ بِالشِّينِ مِنَ الشَّرِكَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِمَّا يَتَبَرَّكُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُهَلَّبِ: إِنَّهُ إِنَّمَا تَرْجَمَ بِذَلِكَ؛ لِيَتَأَسَّى بِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي اتِّخَاذِ هَذِهِ الْآلَاتِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى وَهُوَ الْأَلْيَقُ؛ لِدُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْخُمُسِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا مِمَّا تَرْجَمَ بِهِ إِلَّا الْخَاتَمُ وَالنَّعْلُ وَالسَّيْفُ، وَذَكَرَ فِيهِ الْكِسَاءَ وَالْإِزَارَ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فِي التَّرْجَمَةِ، فَمَا ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَهُ فِي الْبَابِ الدِّرْعُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبُيُوعِ وَالرَّهْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْعَصَا، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ، وَقَدْ مَضَى فِي الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ذِكْرُ الْمِخْصَرَةِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ عَصًا يُمْسِكُهَا الْكَبِيرُ يَتَّكِئُ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَضِيبُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَوْحَطٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ حَتَّى كَسَرَهَا جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ الشَّعْرُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي الطَّهَارَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ: عِنْدَنَا شَعْرٌ مَنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَارَ إِلَيْنَا مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآنِيَتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَدَحِ، فَمِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ مِنَ الْآنِيَةِ سِوَى الْقَدَحِ، وَفِيهِ كِفَايَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا عَدَاهُ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ فَالْأَوَّلُ مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْخَاتَمِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَتَمَ الْكِتَابَ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ فِيهِ مِنَ

ص: 213

الزِّيَادَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّانِي: حَدِيثُهُ: أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ بِالْجِيمِ، أَيْ: لَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: خَلِقَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (لَهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَهَا (قِبَالَانِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ) الْقَائِلُ هُوَ عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ، وَكَأَنَّهُ رَأَى النَّعْلَيْنِ مَعَ أَنَسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ نِسْبَتَهُمَا، فَحَدَّثَهُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ أَيْضًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى

قَوْلُهُ: (كِسَاءً مُلَبَّدًا) أَيْ: ثَخِنَ وَسَطُهُ وَصَفِقَ حَتَّى صَارَ يُشْبِهُ اللُّبَدَ، وَيُقَالُ: الْمُرَادُ هُنَا الْمُرَقَّعُ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ (عَنْ حُمَيْدٍ) هُوَ ابْنُ هِلَالٍ، وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ أَيْضًا.

قَالَ عَاصِمٌ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِإِسْقَاطِ ابْنِ سِيرِينَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ هَكَذَا إِلَّا أَبَا حَمْزَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: خَالَفَهُ شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ سِيرِينَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَمْزَةَ، قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ فَفَصَّلَ بَعْضَهُ عَنْ أَنَسٍ، وَبَعْضَهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَوْلُهُ: (إِنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ بِفَتْحِهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ لِأَنَسٍ، وَجَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِالثَّانِي، وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةٍ بِلَفْظِ: فَجَعَلْتُ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَجَعَلْتُ بِضَمِّ الْجِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَرَجَعَ إِلَى الِاحْتِمَالِ لِإِبْهَامِ الْجَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَاصِمٌ) هُوَ الْأَحْوَلُ الرَّاوِي (رَأَيْتُ الْقَدَحَ، وَشَرِبْتُ فِيهِ).

الْخَامِسُ: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي خِطْبَةِ عَلِيٍّ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي النِّكَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا دَارَ بَيْنَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي أَمْرِ سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَرَادَ الْمِسْوَرُ بِذَلِكَ صِيَانَةَ سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيْفِ الْمَذْكُورِ ذُو الْفَقَارِ الَّذِي تَنَفَّلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْمِسْوَرِ لِقِصَّةِ خِطْبَةِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ طَلَبِهِ لِلسَّيْفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَرِزُ عَمَّا يُوجِبُ وُقُوعَ التَّكْدِيرِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ، أَيْ: فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْطِيَنِي السَّيْفَ حَتَّى لَا يَحْصُلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِكَ كُدُورَةٌ بِسَبَبِهِ، أَوْ كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَاعِي جَانِبَ بَنِي عَمِّهِ الْعَبْشَمِيِّينَ، فَأَنْتَ أَيْضًا رَاعِ جَانِبَ بَنِي عَمِّكَ النَّوْفَلِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْمِسْوَرَ نَوْفَلِيٌّ، كَذَا قَالَ، وَالْمِسْوَرُ زُهْرِيٌّ لَا نَوْفَلِيٌّ، قَالَ: أَوْ كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ رَفَاهِيَةَ خَاطِرِ فَاطِمَةَ عليها السلام، فَأَنَا أَيْضًا أُحِبُّ رَفَاهِيَةَ خَاطِرِكَ؛ لِكَوْنِكَ ابْنَ ابْنِهَا، فَأَعْطِنِي السَّيْفَ حَتَّى أَحْفَظَهُ لَكَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمَا قَبْلَهُ ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَسَأَذْكُرُ إِشْكَالًا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

السادس قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ثِقَةٌ عَابِدٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ وَشَيْخُهُ مُنْذِرُ بْنُ يَعْلَى، أَبُو يَعْلَى الثَّوْرِيُّ كُوفِيَّانِ قَرِينَانِ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ عَلِيٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ: ذَاكِرًا عُثْمَانَ بِسُوءٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ: حَدَّثَنِي مُنْذِرٌ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَنَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ مِنْ عُثْمَانَ، فَقَالَ: مَهْ، فَقُلْنَا لَهُ: أَكَانَ أَبُوكَ يَسُبُّ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: مَا سَبَّهُ، وَلَوْ سَبَّهُ يَوْمًا لَسَبَّهُ يَوْمَ جِئْتُهُ. فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا

ص: 214

سُعَاةَ عُثْمَانَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الشَّاكِي، وَلَا الْمَشْكُوِّ. وَالسُّعَاةُ جَمْعُ سَاعٍ، وَهُوَ الْعَامِلُ الَّذِي يَسْعَى فِي اسْتِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْمِلُهَا إِلَى الْإِمَامِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ مَكْتُوبٌ فِيهَا بَيَانُ مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْكِتَابَ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ وَفِي، رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: خُذْ كِتَابَ السُّعَاةِ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (أَغْنِهَا) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ وَكَسْرِ النُّونِ، أَيِ: اصْرِفْهَا تَقُولُ: أَغْنِ وَجْهَكَ عَنِّي. أَيِ: اصْرِفْهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أَيْ: يَصُدُّهُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ: قَوْلُهُ: اغْنِهَا عَنَّا بِأَلِفِ وَصْلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا التَّرْكُ وَالْإِعْرَاضُ، وَمِنْهُ (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) أَيْ: تَرَكَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ شَيْءٍ تَرَكَهُ تَقُولُ: غَنِيَ فُلَانٌ عَنْ كَذَا فَهُوَ غَانٍ بِوَزْنِ عَلِمَ فَهُوَ عَالِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ وَقِيلَ كَانَ عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ عُثْمَانَ فَاسْتَغْنَى عَنِ النَّظَرِ فِي الصَّحِيفَةِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ: قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَجِدْ عَلِيٌّ بُدًّا حِينَ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهُ أَنْ يُنْهِيَهُ إِلَيْهِ، وَنَرَى أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا رَدَّهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا مِنْ ذَلِكَ فَاسْتَغْنَى عَنْهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ بَذْلُ النَّصِيحَةِ لِلْأُمَرَاءِ وَكَشْفُ أَحْوَالِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْفَسَادُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَلِلْإِمَامِ التَّنْقِيبُ عَنْ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا طُعِنَ بِهِ عَلَى سُعَاتِهِ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَكَانَ التَّدْبِيرُ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْإِنْكَارِ، أَوْ كَانَ الَّذِي أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ لَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلِذَلِكَ عَذَرَهُ عَلِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِسُوءٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: ضَعْهُ مَوْضِعَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ إِلَخْ) هُوَ فِي كِتَابِ النَّوَادِرِ لَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَالْحُمَيْدِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَرَادَ بِرِوَايَتِهِ هَذِهِ بَيَانَ تَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ، وَكَذَا التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ مِنْ مُنْذِرٍ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عَلَى تَعْيِينِ مَا كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ، لَكِنْ أَخْرَجَ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا: لَا تَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ مِنَ الرَّخَّةِ وَلَا مِنَ النُّخَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النُّخَّةُ بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ: أَوْلَادُ الْغَنَمِ، وَالرَّخَّةُ بِرَاءٍ وَمُعْجَمَةٍ أَيْضًا: أَوْلَادُ الْإِبِلِ انْتَهَى. وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ مِمَّا يُحْتَمَلُ.

‌6 - بَاب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسَاكِينِ

وإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالْأَرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنْ السَّبْيِ فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ،

3113 -

حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُهُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ

ص: 215

لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ.

[الحديث 3113 - أطرافه في: 3705، 5361، 5362، 6318]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ) أَيْ: خُمُسَ الْغَنِيمَةِ (لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسَاكِينِ) النَّوَائِبُ: جَمْعُ نَائِبَةٍ، وَهُوَ مَا يَنُوبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْأَمْرِ الْحَادِثِ (وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالْأَرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَالطَّحِينَ (وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْيِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى).

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا فَذَكَرَ الذِّكْرَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا الْأَرَامِلِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمْ وَأَدَع أَهْلَ الصُّفَّةِ تُطْوَى بُطُونُهُمْ مِنَ الْجُوعِ، لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ، وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ الضَّمْرِيِّ عَنْ ضُبَاعَةَ - أَوْ أُمِّ الْحَكَمِ بِنْتِ الزُّبَيْرِ - قَالَتْ: أَصَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا، فَذَهَبْتُ أَنَا وَأُخْتِي فَاطِمَةُ نَسْأَلُهُ، فَقَالَ: سَبَقَكُمَا يَتَامَى بَدْرٍ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فَاطِمَةَ أَنْ تُرْسِلَ السِّتْرَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَ الْخُمُسَ حَيْثُ يَرَى؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ اسْتِحْقَاقٌ لِلْغَانِمِينَ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ هُوَ الْخُمُسُ، وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ وَأَعَزَّ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ أَقْرَبِيهِ وَصَرَفَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَالَ نَحْوَهُ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى قَسْمًا مَفْرُوضًا لَأَخْدَمَ

ابْنَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ شَيْئًا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهَا وَامْتَنَّ بِهِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى، وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَزَادَ: وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَخَذَا بِذَلِكَ وَقَسَمَا جَمِيعَ الْخُمُسِ، وَلَمْ يَجْعَلَا لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْهُ حَقًّا مَخْصُوصًا بِهِ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ.

قُلْتُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَمَّا خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ، الْحَدِيثَ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاتَهُ الْحَدِيثَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ فَاطِمَةَ وَقَعَتْ قَبْلَ فَرْضِ الْخُمُسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَى قَرِيبًا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَخْرَجُوا الْخُمُسَ مِنْ أَوَّلِ غَنِيمَةٍ غَنِمُوهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حِصَّةَ خُمُسِ الْخُمُسِ - وَهُوَ حَقُّ ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْفَيْءِ الْمَذْكُورِ - لَمْ يَبْلُغْ قَدْرَ الرَّأْسِ الَّذِي طَلَبَتْهُ فَاطِمَةُ، فَكَانَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ يَسِيرًا جِدًّا، يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَوْ أَعْطَاهَا الرَّأْسَ أَثَّرَ فِي حَقِّ بَقِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِمَّنْ ذُكِرَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ مُسْتَحِقِّي الْخُمُسِ عَلَى بَعْضٍ، وَيُعْطِيَ الْأَوْكَدَ فَالْأَوْكَدَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ حَمْلُ الْإِنْسَانِ أَهْلَهُ عَلَى مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّقَلُّلِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْقُنُوعِ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ الصَّابِرِينَ فِي الْآخِرَةِ.

قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَخِيرًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذِكْرِ الْإِيثَارِ عَدَمُ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الشَّيْءِ، فَفِي تَرْكِ الْقِسْمَةِ وَإِعْطَاءِ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ دُونَ الْآخَرِ إِيثَارُ الْآخِذِ عَلَى الْمَمْنُوعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ.

ص: 216

‌7 - بَاب قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}

يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي

3114 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمَنْصُورٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أنه قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا - قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ: إِنَّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا - قَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي؛ فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ.

وَقَالَ حُصَيْنٌ: بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ.

قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا عَنْ جَابِرٍ: أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي.

[الحديث 3114 - أطرافه في: 3115، 3538، 6186، 6187، 6189، 6196]

3115 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: "وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ الْقَاسِمَ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ لَا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلَا نُنْعِمُكَ عَيْنًا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحْسَنَتْ الأَنْصَارُ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ".

3116 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ".

3117 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ".

3118 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ وَاسْمُهُ نُعْمَانُ عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يَعْنِي وَلِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ) هَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِلرَّسُولِ لِلْمِلْكِ، وَأَنَّ لِلرَّسُولِ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ

ص: 217

سَوَاءٌ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، وَهَلْ كَانَ يَمْلِكُهُ أَوْ لَا؟ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمَالَ الْبُخَارِيُّ إِلَى الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ لَهُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: لَا حُجَّةَ لِمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْخُمُسَ يَمْلِكُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ فَرْضِ الْخُمُسِ كَانَ يُعْطِي الْغَنِيمَةَ لِلْغَانِمِينَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَلَمَّا فُرِضَ الْخُمُسُ تَبَيَّنَ لِلْغَانِمِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ، وَإِنَّمَا خُصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنِسْبَةِ الْخُمُسِ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِ، وَكَذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّهِ، لِلتَّبَرُّكِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ السَّهْمُ الْأَوَّلُ يُقْسَمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لِلَّهِ، وَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِسْمُ الرَّسُولِ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَيَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يَرَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي) لَمْ يَقَعْ هَذَا اللَّفْظُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثَيْنِ: أَمَّا حَدِيثُ: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ فَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ: إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي فَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورِ، وَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الِاعْتِصَامِ بِهَذَا اللَّفْظِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ جَابِرٍ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَبَيَّنَ الْبُخَارِيُّ الِاخْتِلَافَ عَلَى شُعْبَةَ: هَلْ أَرَادَ الْأَنْصَارِيُّ أَنْ يُسَمِّيَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا أَوِ الْقَاسِمَ، وَأَشَارَ إِلَى تَرَجُّحِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْقَاسِمَ بِرِوَايَةِ سُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - لَهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، وَيَتَرَجَّحُ أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْإِنْكَارُ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَيْهِ إِلَّا حَيْثُ لَزِمَ مِنْ تَسْمِيَةِ وَلَدِهِ الْقَاسِمَ أَنْ يَصِيرَ يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ: إِنَّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: حَمَلْتُهُ عَلَى عُنُقِي) هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ مُسْنَدِ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حُصَيْنٌ: بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ أَيْضًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَكَأَنَّ شُعْبَةَ كَانَ تَارَةً يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَتَارَةً يَجْمَعُهُمْ وَيَفْصِلُ أَلْفَاظَهُمْ، وَقَوْلُهُ: لَا تَكَنَّوْا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا تَكَنَّوْا بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.

وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: لَا نُكَنِّيكَ وَلَا نُنَعِّمْكَ عَيْنًا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا نُنَعِّمْكَ عَيْنًا لَا نُكْرِمْكَ، وَلَا تَقَرُّ عَيْنُكَ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَنْصَارِيٍّ: سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.

الثَّانِي حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ صَدْرِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْأَخِيرِ مِنْهُ فِي الِاعْتِصَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:

قَوْلُهُ: (مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ فُلَيْحٍ فِي أَوَّلِهِ: وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَالْمَعْنَى لَا أَتَصَرَّفُ فِيكُمْ بِعَطِيَّةٍ وَلَا مَنْعٍ بِرَأْيِي، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا أَنَا الْقَاسِمُ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ أَيْ: لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنْ أَنَا إِلَّا خَازِنٌ.

الرَّابِعُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي: ابْنَ أَبِي أَيُّوبَ

ص: 218

وَأَبُو الْأَسْوَدِ) هُوَ النَّوْفَلِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: يَتِيمُ عُرْوَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ أَنْصَارِيٌّ، وَهُوَ زُرَقِيٌّ، وَبِذَلِكَ وَصَفَهُ الدَّوْرَقِيُّ، وَاسْمُ أَبِي عَيَّاشٍ، عُبَيْدٌ، وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الصَّامِتِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِنْتِ ثَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ رِجَالًا وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَبُو الْوَلِيدِ اسْمُهُ عُبَيْدٌ، قُلْتُ: فَرَّقَ غَيْرُ وَاحِدٍ بَيْنَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَامِرٍ وَبَيْنَ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ قَهْدٍ بِالْقَافِ لَقَبُهُ ثَامِرٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلُهُ: خَضِرَةٌ أُنِّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْغَنِيمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ مَالِ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: خَضِرَةٌ أَيْ: مُشْتَهَاةٌ، وَالنُّفُوسُ تَمِيلُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَالِ اللَّهِ مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّخَوُّضُ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللَّهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْغَلَبَةِ.

قَوْلُهُ: (يَتَخَوَّضُونَ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ (فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْقِسْمَةِ وَبِغَيْرِهَا، وَبِذَلِكَ تُنَاسِبُ التَّرْجَمَةَ.

(تَنْبِيهٌ):

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ خَوْلَةَ لِلتَّرْجَمَةِ خَفِيَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْ: بِغَيْرِ قِسْمَةِ حَقٍّ، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنْ خَصَّصْنَاهُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِتُفْهَمَ مِنْهُ التَّرْجَمَةُ. قُلْتُ: وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى قَيْدِ الِاعْتِذَارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ، فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْقِسْمَةِ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ بِحُكْمِ الْعَدْلِ وَاتِّبَاعِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِإِيرَادِهِ تَخْوِيفَ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِهِ مُنَاسَبَةً، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْغَنَائِمِ شَيْئًا بِغَيْرِ قَسْمِ الْإِمَامِ كَانَ عَاصِيًا، وَفِيهِ رَدْعُ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ أَوْ يَمْنَعُوهُ مِنْ أَهْلِهِ.

‌8 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْغَنَائِمُ.

وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} الآية. وَهِيَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.

3119 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ؛ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

3120 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

3121 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ سَمِعَ جَرِيرًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول

ص: 219

الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

[الحديث 3121 - طرفاه في: 3619، 6629]

3122 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ".

3123 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ".

3124 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَطْعَمْهَا فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا".

[الحديث 3124 - طرفه في: 5157]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ: أُحِلَّتْ لِي وَهُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا الثَّانِي طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَاضِي فِي التَّيَمُّمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا كَانَ مَنْ قَبْلَنَا يَصْنَعُ فِي الْغَنِيمَةِ

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} الْآيَةَ) هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَتَحُوا خَيْبَرَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (فَهِيَ لِلْعَامَّةِ) أَيِ: الْغَنِيمَةُ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ قَاتَلَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ) أَيْ: حَتَّى يُبَيِّنَ الرَّسُولُ مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ فِي الْخَيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي عَلَامَاتِ

ص: 220

النُّبُوَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُنْفِقَتْ كُنُوزُهُمَا فِي الْمَغَانِمِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مِثْلُهُ، وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ. وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ إِسْحَاقَ هَذَا مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ، لَكِنْ وَجَدْنَاهُ بَعْدَهُ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بِهَذَا السِّيَاقِ، فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُرَادُ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.

سَادِسُهَا: حَدِيثُهُ فِي قِصَّةِ النَّبِيِّ الَّذِي غَزَا الْقَرْيَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا الشَّكُّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَحْدَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ، وَهَذَا النَّبِيُّ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَبَيَّنَ تَسْمِيَةَ الْقَرْيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ وَرَدَ أَصْلُهُ مِنْ طَرِيقٍ مَرْفُوعَةٍ صَحِيحَةٍ، أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ فِي بَابِ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الْإِمَامَ: فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ لِدَاوُدَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةٍ خَرَجَ إِلَيْهَا: لَا يَتْبَعُنِي مَنْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَبْنِ بِهَا، أَوْ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْنَدًا، لَكِنْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ذَمِّ النُّجُومِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حذَيْفَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْمُبْتَدَأِ لَهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ يُوشَعَ مِنْهُ أَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَى بَدْءِ الْخَلْقِ وَآجَالِهِمْ، فَأَرَاهُمْ ذَلِكَ فِي مَاءٍ مِنْ غَمَامَةٍ أَمْطَرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ مَتَى يَمُوتُ، فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَاتَلَهُمْ دَاوُدُ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَخْرَجُوا إِلَى دَاوُدَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَكَانَ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُدَ وَلَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ، فَشَكَى إِلَى اللَّهِ وَدَعَاهُ فَحُبِسَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ، فَزِيدَ فِي النَّهَارِ، فَاخْتَلَطَتِ الزِّيَادَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ حِسَابُهُمْ، قُلْتُ: وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَدَ أَوْلَى؛ فَإِنَّ رِجَالَ إِسْنَادِهِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ، فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا لَمْ تُحْبَسْ إِلَّا لِيُوشَعَ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ مُوسَى بِالْمَسِيرِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ تَابُوتَ يُوسُفَ، فَلَمْ يُدَلَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الْفَجْرُ أَنْ يَطْلُعَ، وَكَانَ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الطُّلُوعَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ فَفَعَلَ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي حَقِّ يُوشَعَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَا يَنْفِي أَنْ يُحْبَسَ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِغَيْرِهِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ حَبْسُ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ حَتَّى قَالَ أَبُو تَمَّامٍ فِي قَصِيدَةٍ:

فَوَاللَّهِ لَا أَدْرِي أَأَحْلَامُ نَائِمٍ

أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ

وَلَا يُعَارِضُهُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَ قُرَيْشًا صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ رَأَى الْعِيرَ الَّتِي لَهُمْ وَأَنَّهَا تَقْدَمُ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَدَعَا اللَّهَ فَحُبِسَتِ الشَّمْسُ حَتَّى دَخَلَتِ الْعِيرُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، لَكِنْ وَقَعَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَّرَتْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْحَصْرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا مَضَى لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ إِلَّا لِيُوشَعَ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أَنَّهَا تُحْبَسُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ

ص: 221

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَمَّا نَامَ عَلَى رُكْبَةِ عَلِيٍّ فَفَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَرُدَّتِ الشَّمْسُ حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ ثُمَّ غَرَبَتْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِيرَادِهِ لَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَكَذَا ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الرَّوَافِضِ فِي زَعْمِ وَضْعِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا حَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الشَّمْسَ رُدَّتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ لَمَّا شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ - كَذَا قَالَ - وَعَزَاهُ لِلطَّحَاوِيِّ، وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ مَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ، فَإِنْ ثَبَتَ مَا قَالَ فَهَذِهِ قِصَّةٌ ثَالِثَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَجَاءَ أَيْضًا أَنَّهَا حُبِسَتْ لِمُوسَى لَمَّا حَمَلَ تَابُوتَ يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَجَاءَ أَيْضًا أَنَّهَا حُبِسَتْ لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام وَهُوَ فِيمَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ ثُمَّ الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: مَا بَلَغَكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام: رُدُّوهَا عَلَيَّ؟ فَقُلْتُ: قَالَ لِي كَعْبٌ: كَانَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَرَسًا عَرَضَهَا، فَغَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ، فَأَمَرَ بِرَدِّهَا فَضَرَبَ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهَا، فَسَلَبَهُ اللَّهُ مُلْكَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ الْخَيْلَ بِقَتْلِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبَ كَعْبٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُلَيْمَانُ جِهَادَ عَدُوِّهِ، فَتَشَاغَلَ بِعَرْضِ الْخَيْلِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ: رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ لَا يَظْلِمُونَ وَلَا يَأْمُرُونَ بِالظُّلْمِ. قُلْتُ: أَوْرَدَ هَذَا الْأَثَرَ جَمَاعَةٌ سَاكِتِينَ عَلَيْهِ جَازِمِينَ بِقَوْلِهِمْ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَالثَّابِتُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُؤَنَّثَ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوهَا، لِلْخَيْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بُضْعَ امْرَأَةٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، الْبُضْعُ يُطْلَقُ عَلَى الْفَرْجِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْجِمَاعِ، وَالْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ لَائِقَةٌ هُنَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَهْرِ وَعَلَى الطَّلَاقِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْبُضْعُ: النِّكَاحُ، يُقَالُ: مَلَكَ فُلَانٌ بُضْعَ فُلَانَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا) أَيْ: وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِلَمَّا يُشْعِرُ بِتَوَقُّعِ ذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَفِي التَّقْيِيدِ بِعَدَمِ الدُّخُولِ مَا يُفْهِمُ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَا يَخْفَى فَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ رُبَّمَا اسْتَمَرَّ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَمَا قَبْلَ الدُّخُولِ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ: وَلَمَّا يُرْفَعْ سُقُفُهَا وَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْفَاءِ لِتُوَافِقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَوَهِمَ مَنْ ضَبَطَ بِالْإِسْكَانِ وَتَكَلَّفَ فِي تَوْجِيهِ الضَّمِيرِ الْمُؤَنَّثِ لِلسُّقُفِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ خَلِفَاتٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا فَاءٌ خَفِيفَةٌ، جَمْعُ: خَلِفَةٍ، وَهِيَ الْحَامِلُ مِنَ النُّوقِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ النُّوقِ، وَ: أَوْ فِي قَوْلِهِ: غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ لِلتَّنْوِيعِ، وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ وَصْفُ الْغَنَمِ بِالْحَمْلِ؛ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، أَوْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ يَقِلُّ صَبْرُهَا فَيُخْشَى عَلَيْهَا الضَّيَاعُ، بِخِلَافِ النُّوقِ فَلَا يُخْشَى عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ الْحَمْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ لِلشَّكِّ، أَيْ: هَلْ قَالَ غَنَمًا بِغَيْرِ صِفَةٍ، أَوْ خَلِفَاتٍ، أَيْ: بِصِفَةِ أَنَّهَا حَوَامِلُ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ وَلَا رَجُلٌ لَهُ غَنَمٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ خَلِفَاتٌ

قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرُ وَلَدَ وِلَادًا وَوِلَادَةً

قَوْلُهُ: (فَغَزَا) أَيْ بِمَنْ تَبِعَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ

قَوْلُهُ: (فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ) هِيَ أَرِيحَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَمُهْمَلَةٌ مَعَ الْقَصْرِ، سَمَّاهَا الْحَاكِمُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ كَعْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ أَيْ قَرَّبَ جُيُوشَهُ لَهَا

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِلشَّمْسِ إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ، وَبَيَّنَ الْحَاكِمُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ

ص: 222

كَعْبٍ سَبَبَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ إنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْقَرْيَةِ وَقْتَ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَكَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ وَيَدْخُلَ اللَّيْلُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَا مَأْمُورٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِينَ أَنَّ أَمْرَ الْجَمَادَاتِ أَمْرُ تَسْخِيرٍ وَأَمْرَ الْعُقَلَاءِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، وَخِطَابُهُ لِلشَّمْسِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا تَمْيِيزًا وَإِدْرَاكًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْفِتَنِ فِي سُجُودِهَا تَحْتَ الْعَرْشِ وَاسْتِئْذَانِهَا مِنْ أَنْ تَطْلُعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اسْتِحْضَارِهِ فِي النَّفْسِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَوُّلُهَا عَنْ عَادَتِهَا إِلَّا بِخَرْقِ الْعَادَةِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْهَا وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنِّي مَأْمُورٌ فَاحْبِسْهَا عَلَيَّ حَتَّى تَقْضِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، أَيْ قَدْرَ مَا تَنْقَضِي حَاجَتُنَا مِنْ فَتْحِ الْبَلَدِ، قَالَ عِيَاضٌ: اخْتُلِفَ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ هُنَا، فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا، وَقِيلَ وُقِفَتْ، وَقِيلَ بُطِّئَتْ حَرَكَتُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَالثَّالِثُ أَرْجَحُ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ. وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ هَارُونَ بْنِ يُوسُفَ الرَّمَادِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَابِعَ عَشَرَى حُزَيْرَانَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّهَارُ فِي غَايَةِ الطُّولِ

قَوْلُهُ: (فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى فَوَاقَعَ الْقَوْمَ فَظَفِرَ.

قَوْلُهُ: (فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ فَجَاءَتْ يَعْنِي النَّارَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَكَانُوا إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَتَأْكُلُهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَطْعَمْهَا) أَيْ لَمْ تَذُقْ لَهَا طَعْمًا، وَهُوَ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ

قَوْلُهُ: (فَقَالَ إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا) هُوَ السَّرِقَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَلَزِقَتْ) فِيهِ حَذْفٌ يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَيْ فَبَايَعُوهُ فَلَزِقَتْ

قَوْلُهُ: (فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَجُلَانِ بِالْجَزْمِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَامَةَ الْغُلُولِ إِلْزَاقَ يَدِ الْغَالِّ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا يَدٌ عَلَيْهَا حَقٌّ يُطْلَبُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهَا يَدٌ يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا وَيُحْبَسَ صَاحِبُهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ شَهَادَةِ الْيَدِ عَلَى صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ:(فِيكُمُ الْغُلُولُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَا أَجَلْ غَلَلْنَا.

قَوْلُهُ: (فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الْغَنَائِمَ رَحْمَةً رَحِمَنَاهَا وَتَخْفِيفًا خَفَّفَهُ عَنَّا

قَوْلُهُ: (رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ لَمَّا رَأَى مِنْ ضَعْفِنَا وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ إِظْهَارَ الْعَجْزِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْجِبُ ثُبُوتَ الْفَضْلِ، وَفِيهِ اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحِلِّ الْغَنِيمَةِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَائِلِ فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ غَنِيمَةُ السَّرِيَّةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ غَنِيمَةَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَّمَهَا مَعَ غَنَائِمِ بَدْرٍ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فِتَنَ الدُّنْيَا تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى الْهَلَعِ وَمَحَبَّةِ الْبَقَاءِ، لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَ عَلَى قُرْبٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ قَلْبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَيَجِدُ الشَّيْطَانُ السَّبِيلَ إِلَى شَغْلِ قَلْبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَرْأَةِ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ تَقَدَّمَ مَا يُعَكِّرُ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بِمَا قَبْلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَوْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَوَّضَ

ص: 223

إِلَّا لِحَازِمٍ فَارِغِ الْبَالِ لَهَا، لِأَنَّ مَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ رُبَّمَا ضَعُفَتْ عَزِيمَتُهُ وَقَلَّتْ رَغْبَتُهُ فِي الطَّاعَةِ، وَالْقَلْبُ إِذَا تَفَرَّقَ ضَعُفَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ وَإِذَا اجْتَمَعَ قَوِيَ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَضَى كَانُوا يَغْزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ أَعْدَائِهِمْ وَأَسْلَابَهُمْ، لَكِنْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بَلْ يَجْمَعُونَهَا، وَعَلَامَةُ قَبُولِ غَزْوِهِمْ ذَلِكَ أَنْ تَنْزِلَ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا، وَعَلَامَةُ عَدَمِ قَبُولِهِ أَنْ لَا تَنْزِلَ. وَمِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَقَعَ فِيهِمُ الْغُلُولُ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَحِمَهَا لِشَرَفِ نَبِيِّهَا عِنْدَهُ فَأَحَلَّ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِمُ الْغُلُولَ، فَطَوَى عَنْهُمْ فَضِيحَةَ أَمْرِ عَدَمِ الْقَبُولِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ تَتْرَى.

وَدَخَلَ فِي عُمُومِ أَكْلِ النَّارِ الْغَنِيمَةُ وَالسَّبْيُ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ إِهْلَاكُ الذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ النِّسَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ اسْتِثْنَاؤُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ الْغَنَائِمِ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ السَّبْيُ لَمَا كَانَ لَهُمْ أَرِقَّاءُ. وَيُشْكِلُ عَلَى الْحَصْرِ أَنَّهُ كَانَ السَّارِقُ يَسْتَرِقُ كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ. وَفِيهِ مُعَاقَبَةُ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ سُفَهَائِهَا. وَفِيهِ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْبَاطِنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ كَمَا فِي حَدِيثِ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ الْحَدِيثَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى جَوَازِ إِحْرَاقِ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نُسِخَ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ اسْتُنْبِطَ مِنْ إِحْرَاقِ الْغَنِيمَةِ بِأَكْلِ النَّارِ جَوَازُ إِحْرَاقِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ السَّبِيلُ إِلَى أَخْذِهَا غَنِيمَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يَرِدِ التَّصْرِيحُ بِنَسْخِهِ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِتَالَ آخِرِ النَّهَارِ أَفْضَلُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِنَّمَا وَقَعَ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَعَمْ فِي قِصَّةِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِحْبَابِ الْقِتَالِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَتَهُبُّ الرِّيَاحُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ يُغْنِي عَنْ هَذَا

‌9 - بَاب الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ

3125 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ) هَذَا لَفْظُ أَثَرٍ أَخْرَجَهُ عَب دُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَمَّارٍ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ذَكَرَهُ فِي قِصَّةٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَنَّ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَدْ صَرَّحَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَثَرُ إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَ عِنْدَهُ حُسْنَ النَّظَرِ لِآخِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ خَاصَّةً فَوَقَفَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ الَّذِي يَجْمَعُ مَصْلَحَتَهُمْ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الْآيَةَ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ السَّوَادَ، فَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: دَعْهُمْ يَكُونُوا مَادَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكَهُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ قِسْمَةَ الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: إِنْ قَسَمْتَهَا صَارَ الرِّيعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ يَبْتَدِرُونَ فَيَصِيرُ إِلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أَوِ الْمَرْأَةِ، وَيَأْتِي الْقَوْمُ يَسُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَسَدًّا فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، فَاقْتَضَى رَأْيُ عُمَرَ تَأْخِيرَ قَسْمِ الْأَرْضِ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا لِلْغَانِمِينَ وَلِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْغَانِمِينَ

ص: 224

بِهِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَيْشَ إِذَا فَصَلُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَدَدًا لِجَيْشٍ آخَرَ فَوَافَوْهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ مَعَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا قَسَمَ صلى الله عليه وسلم لِلْأَشْعَرِيِّينَ لَمَّا قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِنْ خَيْبَرَ، وَبِمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ

الْوَقْعَةَ كَعُثْمَانَ فِي بَدْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَمَّا قِصَّةُ الْأَشْعَرِيِّينَ فَسَيَأْتِي سِيَاقُهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَالْجَوَابُ عَنْهَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قِصَّةِ عُثْمَانَ فَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهَا بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ لَا بِمَنْ كَانَ مِثْلَهُ،

ثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ نُزُولِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فَصَارَتْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ.

ثَالِثُهَا: عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ فَرْضِ الْخُمُسِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إِعْطَاءٌ مِنَ الْخُمُسِ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي.

رَابِعُهَا: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَنْفَعَةِ الْجَيْشِ أَوْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَيُسْهَمُ لَهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ إِلَّا فِي خَيْبَرَ، فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ قَسَمَ لِأَصْحَابِ السَّفِينَةِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ أَعْطَى الْأَنْصَارَ عِوَضَ مَا كَانُوا أَعْطُوا الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ مَا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ بِمَا أَعْطَى الْأَشْعَرِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ الْمَنْقُولَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ عُمَرَ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ الْغَانِمِينَ الَّذِينَ افْتَتَحُوا أَرْضَ السَّوَادِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَنْ تُقْسَمَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَعْلِيلِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَبْتُ أَنْفُسَ الْغَانِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بَعْضَ خَيْبَرَ لَا جَمِيعَهَا، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَسَمَ خَيْبَرَ عَزَلَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَنْزِلُ بِهِ، وَقَسَمَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ فَدَفَعُوهَا إِلَى الْيَهُودِ لِيَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي عَزَلَهُ مَا افْتُتِحَ صُلْحًا، وَبِالَّذِي قَسَمَهُ مَا افْتُتِحَ عَنْوَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَأَخْرَجَ قَوْلَ عُمَرَ الْمُقْتَضِيَ لِوَقْفِ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ وَهَذَا ضِدُّ مَا تَرْجَمَ بِهِ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُطَابِقَ لِتَرْجَمَتِهِ قَوْلُ عُمَرَ كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ فَأَوْمَأَ الْبُخَارِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ الْقِسْمَةِ النَّاجِزَةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ الْآتِيَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ الْحَاضِرَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الَّذِي يَغِيبُ عَنِ الْوَقْعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَرَادَ التَّوْفِيقَ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَبَيْنَ مَا جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى أَنْ تُوقَفَ الْأَرْضُ، بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ احْتِجَاجِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ فَيَحْصُلُ اشْتِرَاكُ مَنْ ذُكِرَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ} فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَهِيَ كَالشَّرْطِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ فِي حَالِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَوْ أَعْرَبْنَاهَا اسْتِئْنَافِيَّةً لَلَزِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَكُونُ مُسْتَغْفِرًا لَهُمْ وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَبْقَاهَا عُمَرُ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ وَقَفَهَا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْرَى فِيهَا الْخَرَاجَ وَمَنَعَ بَيْعَهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: أَبْقَاهَا مِلْكًا لِمَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْكَفَرَةِ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 225

‌10 - بَاب مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغْنَمِ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ

3126 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغْنَمِ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ)؟ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ الْحَدِيثَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَصْدَ الْغَنِيمَةِ لَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلْأَجْرِ وَلَا مُنْقِصًا إِذَا قَصَدَ مَعَهُ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَصْرَ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْغَنِيمَةِ يُنَافِي قَصْدَ الْإِعْلَاءِ لَمَا جَاءَ الْجَوَابُ عَامًّا وَلَقَالَ مَثَلًا: مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغْنَمِ فَلَيْسَ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَمَا ادَّعَى أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بُعْدٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّقْصَ مِنَ الْأَجْرِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، فَلَيْسَ مَنْ قَصَدَ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ مَحْضًا فِي الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ ضَمَّ إِلَى هَذَا الْقَصْدِ قَصْدًا آخَرَ مِنْ غَنِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغْنَمِ - يَعْنِي خَاصَّةً - فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا لَا أَجْرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يُتَرْجِمُ لَهُ بِنَقْصِ الْأَجْرِ؟ وَجَوَابُهُ مَا قَدَّمْتُهُ.

‌11 - بَاب قِسْمَةِ الْإِمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ

3127 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّدةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شيء. وَرَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ. تَابَعَهُ اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.

قَوْلُهُ (بَابُ قِسْمَةِ الْإِمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ (وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ) أَيْ فِي مَجْلِسِ الْقِسْمَةِ، أَوْ غَابَ عَنْهُ أَيْ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقِسْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ رَدٌّ لِمَا اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْهَدِيَّةَ لِمَنْ حَضَرَ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْهِبَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُرْسَلٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي آخِرِهِ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ أَيْ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، قَالَ: وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَتَابَعَهُ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فَاتَّفَقَ اثْنَانِ عَنْ أَيُّوبَ عَلَى إِرْسَالِهِ وَوَصَلَهُ ثَالِثٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَوَافَقَهُ آخَرُ عَنْ شَيْخِهِمْ، وَاعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ الْمَوْصُولَ لِحِفْظِ مَنْ وَصَلَهُ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ تَأْتِي

ص: 226

مَوْصُولَةً فِي الْأَدَبِ، وَرِوَايَةُ حَاتِمِ بْنِ وَرْدَانَ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الشَّهَادَاتِ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الْهِبَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ وَقَوْلُهُ فِيهِ خَبَّأْتُ لَكَ هَذَا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَا أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَحَلَالٌ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّهُ فَيْءٌ، وَلَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْهُ مَا شَاءَ وَيُؤْثِرَ بِهِ مَنْ شَاءَ كَالْفَيْءِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَمِيرَهُمْ، وَقَدْ مَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.

‌12 - بَاب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِي نَوَائِبِهِ

3128 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (بَابُ كَيْفَ قَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَوَائِبِهِ)

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ

وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَعَ بَيَانِ الْكَيْفِيَّةِ الْمُتَرْجَمِ بِهَا فِي الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْهِبَةِ. وَمُحَصَّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ أَرْضَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَكَانَتْ لَهُ خَالِصَةً، لَكِنَّهُ آثَرَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا إِلَى الْأَنْصَارِ مَا كَانُوا وَاسَوْهُمْ بِهِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ، فَاسْتَغْنَى الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا بِذَلِكَ، ثُمَّ فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ فَحُوصِرُوا فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَسَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ وَأَعْطَى مِنْ نَصِيبِهِ فِي نَوَائِبِهِ - أَيْ فِي نَفَقَاتِ أَهْلِهِ وَمَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ - وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مُخْتَصَرًا.

‌13 - بَاب بَرَكَةِ الْغَازِي فِي مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةِ الْأَمْرِ

3129 -

حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا فَقَالَ: يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِي. وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ - فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ - خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ - وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ منه فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلَاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ

ص: 227

عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ. فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِلَّا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَدَارًا بِالْكُوفَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا، وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ.

وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي: كَمْ عَلَى أَخِي مِنْ الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ فَقَالَ مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. فَبَاعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ. فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ - فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا، قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا. قَالَ قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا. قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ - وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتْ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ.

فقَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. وقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ. قَالَ: أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ. فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا. قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ.

قَالَ: وكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ قَوْلُهُ (بَابُ بَرَكَةِ الْغَازِي فِي مَالِهِ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَصَحَّفَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: تَرِكَةِ بِالْمُثَنَّاةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّجِهَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي الْقِصَّةِ ذِكْرَ مَا خَلَّفَهُ الزُّبَيْرُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقِصَّةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي دَيْنِهِ وَمَا جَرَى لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فِي وَفَاتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهَا، وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ

ص: 228

وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلَا شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ. وَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي مُسْنَدِ الزُّبَيْرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُذْكَرَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوْصَى الزُّبَيْرُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْجَمَلِ وَقَالَ: مَا مِنِّي عُضْوٌ إِلَّا وَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَوْلُهُ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ إِلَخْ لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِهِ نَعَمْ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ عَالِيًا فَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَوَقَفْتُ عَلَى قِطَعٍ مِنْهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَغَيْرِهَا سَأُبَيِّنُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ) يُرِيدُ الْوَقْعَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَنْ مَعَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ الزُّبَيْرُ، وَنُسِبَتِ الْوَقْعَةُ إِلَى الْجَمَلِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ الصَّحَابِيَّ الْمَشْهُورَ كَانَ مَعَهُمْ فَأَرْكَبَ عَائِشَةَ عَلَى جَمَلٍ عَظِيمٍ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ - وَقِيلَ: ثَمَانِينَ، وَقِيلَ: أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - فَوَقَفَتْ بِهِ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ مَعَهَا يُقَاتِلُونَ حَوْلَ الْجَمَلِ حَتَّى عُقِرَ الْجَمَلُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، هَذَا مُلَخَّصُ الْقِصَّةِ، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ سَبَبِهَا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.

قَوْلُهُ (لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ ظَالِمٌ عِنْدَ خَصْمِهِ مَظْلُومٌ عِنْدَ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِمَّا صَحَابِيٌّ مُتَأَوِّلٌ فَهُوَ مَظْلُومٌ وَإِمَّا غَيْرُ صَحَابِيٍّ قَاتَلَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَهُوَ ظَالِمٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ قِيلَ جَمِيعُ الْحُرُوبِ كَذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا أَوَّلُ حَرْبٍ وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ إِنَّمَا قَالَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالْمَعْنَى لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُ لِلظَّالِمِ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ، أَوْ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا مَظْلُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُ لَهُ الشَّهَادَةَ، وَظَنَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ يُقْتَلُ مَظْلُومًا إِمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعَ عَلِيٌّ وَهُوَ قَوْلُهُ لَمَّا جَاءَهُ قَاتِلُ الزُّبَيْرِ بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَثَّامِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُخْتَصَرًا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قُتِلْتُ لَأُقْتَلَنَّ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ وَمَا فَعَلْتُ يَعْنِي شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي.

قَوْلُهُ (وَإِنِّي لَا أُرَانِي) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الظَّنِّ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ، وَظَنُّهُ أَنَّهُ سَيُقْتَلُ مَظْلُومًا قَدْ تَحَقَّقَ لِأَنَّهُ قُتِلَ غَدْرًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ عَلِيٌّ فَانْصَرَفَ عَنِ الْقِتَالِ فَنَامَ بِمَكَانٍ فَفَتَكَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُسَمَّى عَمْرَو بْنَ جُرْمُوزٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ زَايٌ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ إِنَّا لَمَعَ عَلِيٍّ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ فَقَالَ: أَيْنَ الزُّبَيْرُ؟ فَجَاءَ الزُّبَيْرُ، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى يَدِ عَلِيٍّ يُشِيرُ بِهَا إِذْ وَلَّى الزُّبَيْرُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْقِتَالُ وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ عَلِيًّا ذَكَّرَ الزُّبَيْرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ، فَرَجَعَ لِذَلِكَ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَخَلِيفَةُ فِي تَارِيخِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ بِالْجِيمِ قَالَ: فَانْطَلَقَ الزُّبَيْرُ مُنْصَرِفًا فَقَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ بِوَادِي السِّبَاعِ.

قَوْلُهُ (وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي) فِي رِوَايَةِ عَثَّامٍ انْظُرْ يَا بُنَيَّ دَيْنِي، فَإِنِّي لَا أَدَعُ شَيْئًا أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْهُ

قَوْلُهُ (وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ) أَيْ ثُلُثِ مَالِهِ (وَثُلُثِهِ) أَيْ ثُلُثِ الثُّلُثِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ (فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا

ص: 229

فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَاهُ ثُلُثُ ذَلِكَ الْفَضْلِ الَّذِي أَوْصَى بِهِ مِنَ الثُّلُثِ لِبَنِيهِ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ مِنْ خَارِجٍ لَكِنَّهُ لَا يُوَضِّحُ اللَّفْظَ الْوَارِدَ، وَضَبَطَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ فَثَلِّثْهُ لِوَلَدِكَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مِنَ التَّثْلِيثِ وَهُوَ أَقْرَبُ.

قَوْلُهُ (قَالَ هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ رَاوِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (قَدْ وَازَى) بِالزَّايِ أَيْ سَاوَى، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ وَازَى بِالْوَاوِ خِلَافًا لِلْجَوْهَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ آزَى بِالْهَمْزِ وَلَا يُقَالُ وَازَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي السِّنِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَاوَى بَنُو عَبْدِ اللَّهِ فِي أَنْصِبَائِهِمْ مِنَ الْوَصِيَّةِ أَوْلَادَ الزُّبَيْرِ فِي أَنْصِبَائِهِمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ كَثْرَةِ أَوْلَادِ الزُّبَيْرِ مَعْنًى. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَظْهَرْ مِقْدَارُ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ وَلَا الْمُوصَى بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى، فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ أَوْلَادَ عَبْدِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَبِرُوا وَتَأَهَّلُوا حَتَّى سَاوَوْا أَعْمَامَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَى أَبِيهِمْ حِصَّتُهُ.

وَقَوْلُهُ خُبَيْبٌ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرٌ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَبِهِ كَانَ يُكَنِّيهِ مَنْ لَا يُرِيدُ تَعْظِيمَهُ لِأَنَّهُ كُنِّيَ فِي الْأَوَّلِ بِكُنْيَةِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرٍ) وَقَوْلُهُ: خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ بِالرَّفْعِ أَيْ هُمْ خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ وَغَيْرُهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا كَالْمِثَالِ وَإِلَّا فَفِي أَوْلَادِهِ أَيْضًا مَنْ سَاوَى بَعْضَ وَلَدِ الزُّبَيْرِ فِي السِّنِّ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْبَعْضِ

(1)

وَقَوْلُهُ: وَلَهُ أَيْ لِلزُّبَيْرِ وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَجَعَلَهُ ضَمِيرًا لِعَبْدِ اللَّهِ فَلَا يُغْتَرَّ بِهِ.

وَقَوْلُهُ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ فَأَمَّا أَوْلَادُ عَبْدِ اللَّهِ إِذْ ذَاكَ فَهُمْ خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ وَقَدْ ذُكِرَا، وَهَاشِمٌ، وَثَابِتٌ، وَأَمَّا سَائِرُ وَلَدِهِ فَوُلِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَوْلَادُ الزُّبَيْرِ فَالتِّسْعَةُ الذُّكُورُ هُمْ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعُرْوَةُ، وَالْمُنْذِرُ أُمُّهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَخَالِدٌ أُمُّهُمَا أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَمُصْعَبٌ، وَحَمْزَةُ أُمُّهُمَا الرَّبَابُ بِنْتُ أَنِيفٍ، وَعُبَيْدَةُ، وَجَعْفَرٌ أُمُّهُمَا زَيْنَبُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَسَائِرُ وَلَدِ الزُّبَيْرِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مَاتُوا قَبْلَهُ وَالتِّسْعُ الْإِنَاثُ هُنَّ خَدِيجَةُ الْكُبْرَى وَأُمُّ الْحَسَنِ وَعَائِشَةُ أُمُّهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَبِيبَةُ وَسَوْدَةُ، وَهِنْدٌ أُمُّهُنَّ أُمُّ خَالِدٍ، وَرَمْلَةُ أُمُّهَا الرَّبَابُ، وَحَفْصَةُ أُمُّهَا زَيْنَبُ، وَزَيْنَبُ أُمُّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ.

قَوْلُهُ (إِلَّا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ) كَذَا فِيهِ، وَصَوَابُهُ مِنْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ. وَالْغَابَةُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ أَرْضٌ عَظِيمَةٌ شَهِيرَةٌ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ (وَدَارًا بِمِصْرَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ صُلْحًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِنَا فُتِحَتْ عَنْوَةً امْتِنَاعُ بِنَاءِ أَحَدِ الْغَانِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ فِيهَا. قَوْلُهُ (لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ) أَيْ مَا كَانَ يَقْبِضُ مِنْ أَحَدٍ وَدِيعَةً إِلَّا إِنْ رَضِيَ صَاحِبُهَا أَنْ يَجْعَلَهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ غَرَضُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى عَلَى الْمَالِ أَنْ يُضَيَّعَ فَيُظَنَّ بِهِ التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِهِ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ مَضْمُونًا فَيَكُونُ أَوْثَقَ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَأَبْقَى لِمُرُوءَتِهِ. زَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلِيَطِيبَ لَهُ رِبْحُ ذَلِكَ الْمَالِ. قُلْتُ: وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.

قَوْلُهُ (وَمَا وَلِيَ خراجا قَطُّ إِلَخْ) أَيْ أَنَّ كَثْرَةَ مَالِهِ مَا حَصَلَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِظَنِّ السَّوْءِ بِأَصْحَابِهَا. بَلْ كَانَ كَسْبُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ،

(1)

قوله: "على أنه بيان للبعض" لعله: بيان للولد؛ إذ هو المجرور بالإضافة لبعض. وعبارة القسطلاني: وقول الفتح: "ويجوز جره على أنه بيان للبعض" سهو.

ص: 230

وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِثْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ (فَحَسَبْتُ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْحِسَابِ.

قَوْلُهُ (فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَكَتَمَ الْبَاقِيَ لِئَلَّا يَسْتَعْظِمَ حَكِيمٌ مَا اسْتَدَانَ بِهِ الزُّبَيْرُ فَيَظُنُّ بِهِ عَدَمَ الْحَزْمِ وَبِعَبْدِ اللَّهِ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَعْظَمَ حَكِيمٌ أَمْرَ مِائَةِ أَلْفٍ احْتَاجَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الْجَمِيعَ وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ، وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ابْنَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَكِتْمَانِهِ الزَّائِدَ كَذِبٌ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِبَعْضِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ صَادِقٌ. قُلْتُ: لَكِنْ مَنْ يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْعَدَدِ يَرَاهُ إِخْبَارًا بِغَيْرِ الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ التِّينِ فِي قَوْلِهِ:(فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاسْتَعِينُوا بِي) مَعَ قَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ: مَا أَرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا بَعْضُ التَّجَوُّزِ، وَكَذَا فِي كِتْمَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَا كَانَ عَلَى أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بَذَلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِائَةَ أَلْفٍ إِعَانَةً لَهُ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ فَامْتَنَعَ، فَبَذَلَ لَهُ مِائَتَيْ أَلْفٍ فَامْتَنَعَ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ ثُمَّ قَالَ: لَمْ أُرِدْ مِنْكَ هَذَا، وَلَكِنْ تَنْطَلِقُ مَعِي إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْتَشْفِعُ بِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: أَجِئْتَ بِهَؤُلَاءِ تَسْتَشْفِعُ بِهِمْ عَلَيَّ؟ هِيَ لَكَ. قَالَ: لَا أُرِيدُ ذَلِكَ. قَالَ: فَأَعْطِنِي بِهَا نَعْلَيْكَ هَاتَيْنِ أَوْ نَحْوَهَا، قَالَ: لَا أُرِيدُ.

قَالَ: فَهِيَ عَلَيْكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَحُكْمُكَ. قَالَ: أُعْطِيكَ بِهَا أَرْضًا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَعْطَاهُ. قَالَ فَرَغِبَ مُعَاوِيَةُ فِيهَا فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ فَبَاعَهَا عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ (بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ) كَأَنَّهُ قَسَمَهَا سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّهَا قُوِّمَتْ كُلُّ سَهْمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ.

قَوْلُهُ (فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ (فَبَاعَ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْغَابَةِ وَالدُّورِ لَا مِنَ الْغَابَةِ وَحْدَهَا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ وَأَنَّهُ بَاعَ الْغَابَةَ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ بَاعَ نَصِيبَ الزُّبَيْرِ مِنَ الْغَابَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي دَيْنِهِ، فَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي تَرْجَمَةِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(1)

بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا، فَأَتَيْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِ وَأَسْتَشِيرُهُ فَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا: فَقَالَ ابْنُ أَخِي ذَكَرْتَ دَيْنَ أَبِيكَ فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِائَةَ أَلْفٍ فَنِصْفُهَا عَلَيَّ، قُلْتُ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ: لِلَّهِ أَنْتَ! كَمْ تَرَكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّهُ تَرَكَ أَلْفَيْ أَلْفٍ قَالَ: مَا أَرَادَ أَبُوكَ إِلَّا أَنْ يَدَعَنَا عَالَةً. قُلْتُ: فَإِنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً وَإِنَّمَا جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ فِيهَا بِسَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَلَهُ شِرْكٌ فِي الْغَابَةِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَقَاسِمْهُ فَإِنْ سَأَلَكَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا تَبِعْهُ ثُمَّ اعْرِضْ عَلَيْهِ فَإِنْ رَغِبَ فَبِعْهُ، قَالَ فَجِئْتُ فَجَعَلَ أَمْرَ الْقِسْمَةِ إِلَيَّ فَقَسَمْتُهَا وَقُلْتُ: اشْتَرِ مِنِّي إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ لِي دَيْنٌ وَقَدْ أَخَذْتُهَا مِنْكَ بِهِ، قَالَ: قُلْتُ: هِيَ لَكَ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ فَاشْتَرَاهَا كُلَّهَا مِنْهُ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ.

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِإِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْمُعْظَمِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ بَقِيَ مِنْهَا بِغَيْرِ بَيْعٍ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا فَيَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ ثَمَنِهَا إِذْ ذَاكَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسينَ أَلْفًا خَاصَّةً فَيَبْقَى مِنَ الدَّيْنِ أَلْفُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَكَأَنَّهُ بَاعَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الدُّورِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ

(1)

في هامش طبعة بولاق: كذا في نسخة، وفي أخرى زيادة "ابن مصعب".

ص: 231

بْنِ عُرْوَةَ قَالَ تُوُفِّيَ الزُّبَيْرُ وَتَرَكَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَلْفَيْ أَلْفٍ فَضَمِنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَدَّاهَا، وَلَمْ تَقَعْ فِي التَّرِكَةِ دَارُهُ الَّتِي بِمَكَّةَ وَلَا الَّتِي بِالْكُوفَةِ وَلَا الَّتِي بِمِصْرَ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا فَأَفَادَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَقَعْ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا أَوَّلْتُهُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَانِ بِالْبَصْرَةِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ.

وَرَوَى أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ فَاسْتَقَرَّ عِنْدَهُ أَيْ ثَبَتَ قَتْلُ الزُّبَيْرِ نَظَرَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَجَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لِي عَلَى أَخِي شَيْءٌ وَلَا أَحْسَبُهُ تَرَكَ بِهِ وَفَاءً أَفَتُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَكَمْ هُوَ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ قَالَ: فَإِنَّهُ تَرَكَ بِهَا وَفَاءً بِحَمْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ (فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ) أَيْ فِي خِلَافَتِهِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ اسْتِبْرَاءً لِلدَّيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ آخِرُ الْأَرْبَعِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَعَلَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْغَابَةِ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَذَهُ مِنْ حِصَّتِهِ أَوْ مِنْ نَصِيبِ أَوْلَادِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ دَارَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَمْنَعُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ وِفَادَتِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ كَانَتْ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَأَخُّرِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ لِاسْتِبْرَاءِ بَقِيَّةِ مَنْ لَهُ دَيْنٌ، ثُمَّ وَفَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمُتَقَدِّمُ وَتَكُونُ وِفَادَتُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَتِهِ جَزْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا مِائَةَ أَلْفٍ) هُوَ بِنَصْبِ مِائَةٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ

قَوْلُهُ (فَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ) أَيْ فَرَبِحَ مِائَتَيْ أَلْفٍ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ) أَيْ مَاتَ عَنْهُنَّ، وَهُنَّ أُمُّ خَالِدٍ وَالرَّبَابُ وَزَيْنَبُ الْمَذْكُورَاتُ قَبْلُ، وَعَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدٍ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ فَكَانَ طَلَّقَهُمَا، وَقِيلَ: أَعَادَ أَسْمَاءَ وَطَلَّقَ عَاتِكَةَ فَقُتِلَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ فَصُولِحَتْ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ (وَرَفَعَ الثُّلُثَ) أَيِ الْمُوصَى بِهِ.

قَوْلُهُ (فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ.

قَوْلُهُ (فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَسْعُودٍ الرَّاوِي، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ أَنَّ مِيرَاثَ الزُّبَيْرِ قُسِمَ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ، زَادَ عَلَى رِوَايَةِ إِسْحَاقَ وَنَيِّفٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِكُلِّ زَوْجَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ فَنَصِيبُ الْأَرْبَعِ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ وَهَذَا هُوَ الثُّمُنُ، وَيَرْتَفِعُ مِنْ ضَرْبِهِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الثُّلُثَانِ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ الثُّلُثُ الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ قَدْرُ نِصْفِ الثُّلُثَيْنِ وَجُمْلَتُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ كَانَ جُمْلَةُ مَالِهِ عَلَى هَذَا سَبْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ قَدِيمًا ابْنُ بَطَّالٍ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ، لَكِنَّهُ وَهِمَ فَقَالَ: وَتِسْعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: الصَّوَابُ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: نَقَصَ عَنِ التَّحْرِيرِ سَبْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ يَعْنِي خَارِجًا عَنْ قَدْرِ الدَّيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ فِي الْحِسَابِ.

وَقَدْ سَاقَ الْبَلَاذُرِيُّ فِي تَارِيخِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِسَنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَقَارَاتِهِ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَكَانَ الثَّمَنُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ ثُلُثَا الْمَالِ الَّذِي اقْتَسَمَهُ الْوَرَثَةُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ نِصْفُهُ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ كَانَ جَمِيعُ الْمَالِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ فَيَزِيدُ عَمَّا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ،

ص: 232

فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ زَوْجَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ كَانَ لَوْ قُسِمَ الْمَالُ كُلُّهُ بِغَيْرِ وَفَاءِ الدَّيْنِ لَكِنْ خَرَجَ الدَّيْنُ مِنْ حِصَّةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونُ الَّذِي يُورَثُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرُ يَخِفُّ الْوَهْمُ فِي الْحِسَابِ وَيَبْقَى التَّفَاوُتُ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ فَقَطْ. لَكِنْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ تَرِكَةَ الزُّبَيْرِ بَلَغَتْ أَحَدًا أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ أَيْضًا لَا تَحْرِيرَ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْقَوْمَ أَتَوْا مِنْ عَدَمِ إِلْقَاءِ الْبَالِ لِتَحْرِيرِ الْحِسَابِ، إِذِ الْغَرَضُ فِيهِ ذِكْرُ الْكَثْرَةِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنِ الْبَرَكَةِ فِي تَرِكَةِ الزُّبَيْرِ إِذْ خَلَّفَ دَيْنًا كَثِيرًا وَلَمْ يُخَلِّفْ إِلَّا الْعَقَارَ الْمَذْكُورَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَبُورِكَ فِيهِ حَتَّى تَحَصَّلَ مِنْهُ هَذَا الْمَالُ الْعَظِيمُ.

وَقَدْ جَرَتْ لِلْعَرَبِ عَادَةٌ بِإِلْغَاءِ الْكُسُورِ تَارَةً وَجَبْرِهَا أُخْرَى فَهَذَا مِنْ ذَاكَ، وَقَدْ وَقَعَ إِلْغَاءُ الْكُسُورِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ بَلَغَ ثُمُنُ نِسَاءِ الزُّبَيْرِ أَلْفَ أَلْفٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَفِي رِوَايَةِ عَثَّامِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ لِابْنِهِ: انْظُرْ دَيْنِي وَهُوَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ أَنَّ قِيمَةَ مَا تَرَكَهُ الزُّبَيْرُ كَانَ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَّاجِ أَنَّ جُمْلَةَ مَا حَصَلَ مِنْ عَقَارِهِ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ مِيرَاثَهُ قُسِّمَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي النَّوَادِرِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَفِي الْمُجَالَسَةِ لِلدِّينَوَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ أَنَّ الزُّبَيْرَ تَرَكَ مِنَ الْعُرُوضِ قِيمَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَقْصِدُوا إِلَى التَّحْرِيرِ الْبَالِغِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ إِنَّ جَمِيعَ الْمَالِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَيَبْقَى الْوَهْمُ فِي قَوْلِهِ وَمِائَتَا أَلْفٍ، قَالَ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ مِائَةَ أَلْفٍ وَاحِدَةً، قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ الْوَهْمُ فِي لَفْظِ مِائَتَا أَلْفٍ حَيْثُ وَقَعَ فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِائَةُ أَلْفٍ وَاحِدَةٌ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

قُلْتُ: وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ يُتَعَجَّبُ مِنْ وُقُوعِ مِثْلِهِ فِيهِ مَعَ تَيَقُّظِهِ لِلْوَهْمِ الَّذِي فِي الْأَصْلِ وَتَفَرُّغِ بَالِهِ لِلْجَمْعِ وَالْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ زَوْجَةٍ إِذَا كَانَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَةَ أَلْفٍ لَا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَالِ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَةَ أَلْفٍ، بَلْ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَالِ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَةَ أَلْفٍ إِذَا كَانَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى التَّحْرِيرِ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ، عَنِ الدِّمْيَاطِيِّ أَنَّ الْوَهْمَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي نَصِيبِ كُلِّ زَوْجَةٍ إِنَّهُ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ أَلْفُ أَلْفٍ سَوَاءٌ بِغَيْرِ كَسْرٍ، وَإِذَا اخْتَصَّ الْوَهْمُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَحْدَهَا خَرَجَ بَقِيَّةُ مَا فِيهِ عَلَى الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثُّمُنُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ فَيَكُونَ ثُمُنًا مِنْ أَصْلِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الثُّلُثُ صَارَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا الدَّيْنُ صَارَ الْجَمِيعُ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَلَعَلَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ لَمَّا وَقَعَ لَهُ ذِكْرُ مِائَتَا أَلْفٍ عِنْدَ الْجُمْلَةِ ذَكَرَهَا عِنْدَ نَصِيبِ كُلِّ زَوْجَةٍ سَهْوًا، وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَرِثَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ لِلزُّبَيْرِ رُبُعَ الثُّمُنِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ وَجَّهَهُ الدِّمْيَاطِيُّ أَيْضًا بِأَحْسَنَ مِنْهُ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَجَمِيعُ مَالِ الزُّبَيْرِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ صَحِيحٌ وَالْمُرَادُ بِهِ

قِيمَةُ مَا خَلَّفَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ تِسْعَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ بِمُقْتَضَى مَا يَحْصُلُ مِنْ ضَرْبِ أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ وَهُوَ رُبُعُ الثُّمُنِ فِي ثَمَانِيَةٍ مَعَ ضَمِّ الثُّلُثِ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قُدِّرَ الدَّيْنُ حَتَّى يَرْتَفِعَ مِنَ الْجَمِيعِ تِسْعَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ حَصَلَ هَذَا الزَّائِدُ مِنْ نَمَاءِ الْعَقَارِ وَالْأَرَاضِي فِي

ص: 233

الْمُدَّةِ الَّتِي أَخَّرَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَسْمَ التَّرِكَةِ اسْتِبْرَاءً لِلدَّيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِعَدَمِ تَكَلُّفِهِ وَتَبْقِيَةِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَقَدْ تَلَقَّاهُ الْكِرْمَانِيُّ فَذَكَرَ مُلَخَّصًا وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِقَائِلِهِ وَلَعَلَّهُ مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ فِي تَرْجَمَةِ عَاتِكَةَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ صَالَحَ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدٍ عَنْ نَصِيبِهَا مِنَ الثُّمُنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا فَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ الدِّمْيَاطِيُّ وَقَالَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ الزُّبَيْرِ كَيْفَ مَا تَصَدَّى لِتَحْرِيرِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي صُولِحَتْ بِهِ قَدْرَ ثُلُثَيِ الْعُشْرِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا وَكَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا، وَرَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بَقِيَّةَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى مَنْ صَالَحَهَا لَهُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَصْلَ الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيمَةُ مَا تَرَكَ الزُّبَيْرُ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ فَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ لِعَدَمِ تَحْرِيرِهِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قُسِمَ مَالُ الزُّبَيْرِ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ نَدْبُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ حُضُورِ أَمْرٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفَوْتُ، وَأَنَّ لِلْوَصِيِّ تَأْخِيرُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ حَتَّى تُوَفَّى دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتُنَفَّذَ وَصَايَاهُ إِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثٌ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَ الدُّيُونِ وَأَصْحَابَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهَا بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَمَنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي وَقَعَ الْعِلْمُ بِهِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا وَلَمْ يُتَرَبَّصْ بِهِ انْتِظَارُ شَيْءٍ مُتَوَهَّمٍ، فَإِذَا ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ اسْتُعِيدَ مِنْهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِمَالِكٍ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ أَجَلَ الْمَفْقُودِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا اخْتَارَ التَّأْخِيرَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِأَنَّ الْمُدُنَ الْوَاسِعَةَ الَّتِي يُؤْتَى الْحِجَازُ مِنْ جِهَتِهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ أَرْبَعًا: الْيَمَنُ وَالْعِرَاقُ وَالشَّامُ وَمِصْرُ، فَبَنَى عَلَى أَنَّ كُلَّ قُطْرٍ لَا يَتَأَخَّرُ أَهْلُهُ فِي الْغَالِبِ عَنِ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فَيَحْسُنُ اسْتِيعَابُهُمْ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهُمْ فِي طُولِ الْمُدَّةِ يُبْلِغُ الْخَبَرَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْأَقْطَارِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَرْبَعَ هِيَ الْغَايَةُ فِي الْآحَادِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْهُ الْعَشَرَاتُ لِأَنَّ فِيهَا وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَاخْتَارَ الْمَوْسِمَ لِأَنَّهُ مَجْمَعَ النَّاسِ مِنَ الْآفَاقِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّرَبُّصِ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ نَقْدًا وَلَمْ يَخْتَرْ صَاحِبُ الدَّيْنِ إِلَّا النَّقْدَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَحْفَادِ إِذَا كَانَ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنَ الْآبَاءِ مَوْجُودًا، وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَا تُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَفِيهِ جَوَازُ شِرَاءِ الْوَارِثِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ عَرَضَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ يُحِلِّلَهُمْ مِنْ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَفِيهِ بَيَانُ جُودِ ابْنِ جَعْفَرٍ لِسَمَاحَتِهِ بِهَذَا الْمَالِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ مَنْ عَرَضَ عَلَى شَخْصٍ أَنْ يَهَبَهُ شَيْئًا فَامْتَنَعَ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يُعَدُّ رَاجِعًا فِي هِبَتِهِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِينَ يُنْفِذُونَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا بَلَغُوا، وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْكُومِ بِهِ عِنْدَ التَّشَاحِّ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَرَفِ النُّفُوسِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ اهـ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَحَمَّلَ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى ذِمَّتِهِ وَالْتَزَمَ وَفَاءَهُ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرْضَوْا لَمْ يُفِدْهُمْ تَرْكُ بَعْضِ أَصْحَابِ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِنَقْصِ الْمَوْجُودِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَنِ الْوَفَاءِ لِظُهُورِ قِلَّتِهِ وَعِظَمِ كَثْرَةِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ مُبَالَغَةُ الزُّبَيْرِ فِي الْإِحْسَانِ لِأَصْدِقَائِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ وَدَائِعَهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ، وَيَقُومُ بِوَصَايَاهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى احْتَاطَ لِأَمْوَالِهِمْ وَدِيعَةً أَوْ وَصِيَّةً بِأَنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَصْيِيرِهَا فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا غَالِبًا، وَإِنَّمَا يَنْقُلهَا مِنَ الْيَدِ لِلذِّمَّةِ

ص: 234

مُبَالَغَةً فِي حِفْظِهَا لَهُمْ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ الْمُتَقَدِّمِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَطِيبَ لَهُ رِبْحُ ذَلِكَ الْمَالِ نَظَرًا لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتِّجَارَةِ وَأَنَّ كَثْرَةَ مَالِهِ إِنَّمَا زَادَتْ بِالتِّجَارَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الَّذِي خَلَّفَهُ حَالَ مَوْتِهِ يَفِي بِالدَّيْنِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَانَ دُونَ الدُّيُونِ بِكَثِيرٍ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَارَكَ فِيهِ بِأَنْ أَلْقَى فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ الْعَقَارِ الَّذِي خَلَّفَهُ الرَّغْبَةَ فِي شِرَائِهِ حَتَّى زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، ثُمَّ سَرَتْ تِلْكَ الْبَرَكَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى رَبِحَ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الْأَرْضِ مَا أَرْبَحَهُ مُعَاوِيَةُ. وَفِيهِ أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْخَدَمِ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ جَمْعَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ مِنْ جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ لَهَجًا بِالْوَعْظِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْوَاعِظِ التَّحْرِيضَ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا، وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا لَا يُكْرَهُ لِلزُّبَيْرِ وَأَنْظَارِهِ لَا يَطَّرِدُ. وَفِيهِ بَرَكَةُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ بِغَيْرِ كَثِيرِ تَعَبٍ وَلَا دُخُولٍ فِي مَكْرُوهٍ كَاللَّغْوِ الْوَاقِعِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِمَنْ يُظَنُّ بِهِ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِمَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ، لِأَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ لِابْنِهِ اسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ وَالْمَوْلَى لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فَجَوَّزَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بَعْضَ عُتَقَائِهِ مَثَلًا فَاسْتَفْهَمَهُ فَعَرَفَ حِينَئِذٍ مُرَادَهُ، وَفِيهِ مَنْزِلَةُ الزُّبَيْرِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانَ فِي غَايَةِ الْوُثُوقِ بِاللَّهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحِقًّا مُصِيبًا فِي الْقِتَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ أَكْبَرَ هَمِّهِ دَيْنُهُ، وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ أَوْ أَنَّهُ آثِمٌ بِاجْتِهَادِهِ ذَلِكَ لَكَانَ اهْتِمَامُهُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْقِتَالِ أَشَدَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتَمَدَ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُؤْجَرُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَلَوْ أَخْطَأَ. وَفِيهِ شِدَّةُ أَمْرِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ مِثْلَ الزُّبَيْرِ مَعَ مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَثَبَتَ لَهُ مِنَ الْمَنَاقِبِ رَهِبَ مِنْ وُجُوهِ مُطَالَبَةِ مَنْ لَهُ فِي جِهَتِهِ حَقٌّ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّجَوُّزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ فِي الْمَوَاسِمِ لِأَنَّهُ إِنَّ عَدَّ مَوْسِمَ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَلَمْ يُؤَخِّرْ ذَلِكَ إِلَّا ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَمْ يَعُدَّهُ فَقَدْ أَخَّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَنِصْفًا، فَفِيهِ إِلْغَاءُ الْكَسْرِ أَوْ جَبْرُهُ. وَفِيهِ قُوَّةُ نَفْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِعَدَمِ قَبُولِهِ مَا سَأَلَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ، وَمَا سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنَ الْمُحَالَةِ.

‌14 - بَاب إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ رَسُولًا فِي حَاجَةٍ، أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ، هَلْ يُسْهَمُ لَهُ؟

3130 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ

[الحديث 3130 - أطرافه في: 3698، 3704، 4066، 4513، 4514، 4650، 4651، 7095]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ رَسُولًا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ) أَيْ بِبَلَدِهِ (هَلْ يُسْهَمُ لَهُ) أَيْ مَعَ الْغَانِمِينَ أَمْ لَا؟

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَقَوْلُهُ عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ - يَعْنِي الْأَصِيلِيَّ -، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُخْتَصَرًا فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِ عُثْمَانَ عَنْ بَدْرٍ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَلَى الصَّوَابِ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ

ص: 235

الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ

‌15 - بَاب: وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ

مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ - فَتَحَلَّلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَالْأَنْفَالِ مِنْ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الْأَنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ من تَمْرَ خَيْبَرَ

3131، 3132 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ

طَيَّبُوا فأَذِنُوا. فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ.

3133 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَأُتِيَ ذَكَرَ دَجَاجَةً وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ لِلطَّعَامِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ لَا آكُلُ فَقَالَ هَلُمَّ فَلْأُحَدِّثْكُمْ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا لَا يُبَارَكُ لَنَا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا إِنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا أَفَنَسِيتَ قَالَ لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي

ص: 236

وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".

[الحديث 3133 - أطرافه في: 4385، 4415، 5517، 5518، 6623، 6649، 6678، 6680، 6718، 6719، 6721، 7555]

3134 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا".

[الحديث 3134 - طرفه في: 4338]

3135 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ".

3136 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ إِمَّا قَالَ فِي بِضْعٍ وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَاهُنَا وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا أَوْ قَالَ فَأَعْطَانَا مِنْهَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إِلاَّ أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ".

[الحديث 3136 - أطرافه في: 3876، 4230، 4223]

3137 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَنِي مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لِي كَذَا وَكَذَا فَحَثَا لِي ثَلَاثًا وَجَعَلَ سُفْيَانُ يَحْثُو بِكَفَّيْهِ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ لَنَا هَكَذَا قَالَ لَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَقَالَ مَرَّةً فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَسَأَلْتُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقُلْتُ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ سَأَلْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي قَالَ قُلْتَ

ص: 237

تَبْخَلُ عَنِّي مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ" قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ فَحَثَا لِي حَثْيَةً وَقَالَ عُدَّهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَ مِائَةٍ قَالَ فَخُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْنِ". وَقَالَ يَعْنِي ابْنَ الْمُنْكَدِرِ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ.

3138 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ اعْدِلْ فَقَالَ لَهُ لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ".

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (وَمِنَ الدَّلِيلِ) هُوَ عَطْفٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ حَيْثُ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ هُنَا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ بَعْدَ بَابٍ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْإِمَامِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرَاجِمِ أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ تَوَلِّي قِسْمَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ، وَالْحُكْمُ بَعْدَهُ كَذَلِكَ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ، هَذَا مُحَصَّلُ مَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَتَبْيِينُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ كُلُّ تَرْجَمَةٍ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخُمُسَ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُونَ الْإِمَامِ وَلَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا لِلْإِمَامِ، فَالتَّوْجِيهُ الْأَوَّلُ هُوَ اللَّائِقُ، وَقَدْ أَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ أَيْضًا إِلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا فَقَالَ: لَا تَفَاوُتَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِذْ نَوَائِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَوَائِبُ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ لَهُ وَلِلْإِمَامِ بَعْدَهُ.

قُلْتُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: ظَاهِرُ لَفْظِ التَّرَاجِمِ التَّخَالُفُ، وَيَرْتَفِعُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَعْنَى إِلَى التَّوَافُقِ، وَحَاصِلُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُخَالَفَةِ الْخُمُسُ يُؤْخَذُ مِنْ سَهْمِ اللَّهِ ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي خَمْسَةً كَمَا فِي الْآيَةِ.

الثَّانِي: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خُمُسُ الْخُمُسِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْبَعَةٌ لِلْمَذْكُورِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَلَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا. الثَّالِثُ قَوْلُ زَيْنِ الْعَابِدِينَ: الْخُمُسُ كُلُّهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَالْمُرَادُ بِالْيَتَامَى يَتَامَى ذَوِي الْقُرْبَى وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، لَكِنَّ السَّنَدَ إِلَيْهِ وَاهٍ. الرَّابِعُ هُوَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخُمُسُهُ لِخَاصَّتِهِ وَبَاقِيهِ لِتَصَرُّفِهِ. الْخَامِسُ هُوَ لِلْإِمَامِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْفَيْءِ. السَّادِسُ يُرْصَدُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. السَّابِعُ يَكُونُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَوِي الْقُرْبَى وَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ فِي الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هَوَازِنُ فَاعِلٌ، وَالْمُرَادُ الْقَبِيلَةُ وَأَطْلَقَهَا عَلَى بَعْضِهِمْ مَجَازًا، وَالنَّبِيَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَوْلُهُ بِرَضَاعِهِ أَيْ بِسَبَبِ رَضَاعِهِ، لِأَنَّ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةَ مُرْضِعَتَهُ كَانَتْ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ سُؤَالِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ مَوْصُولَةً، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِذِكْرِ الرَّضَاعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً وَفِيهَا شِعْرُ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا

إِذْ فُوكُ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ

وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا فِي سِيَاقِهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِسْوَرِ فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ بَعْضِ أَلْفَاظِهِ فِي أَوَاخِرِ الْعِتْقِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالْأَنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ

ص: 238

وَمَا أَعْطَى الْأَنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ) أَمَّا حَدِيثُ الْوَعْدِ مِنَ الْفَيْءِ فَيَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ فَمَذْكُورٌ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ إِعْطَاءِ الْأَنْصَارِ فَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَرِيبًا، وَأَمَّا حَدِيثُ إِعْطَاءِ جَابِرٍ مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ فَهُوَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَظَهَرَ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ لِلْبَابِ طَرَفٌ مِنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ الْمِسْوَرِ وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ فِي الْوَكَالَةِ.

الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بن عَاصِمٍ الْكُلَيْنِيِّ) بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَيُّوبُ، بَيَّنَ ذَلِكَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى ذِكْرُ دَجَاجَةٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فَأَتَى بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْإِتْيَانِ وَذِكْرُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَدَجَاجَةٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَأُتِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَذَكَرَ بِفَتْحَتَيْنِ وَدَجَاجَةً بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، كَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَسْتَحْضِرِ اللَّفْظَ كُلَّهُ وَحَفِظَ مِنْهُ لَفْظَ دَجَاجَةٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: فَأُتِيَ بِلَحْمِ دَجَاجٍ وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَدَعَاهُ لِلطَّعَامِ، أَيِ الَّذِي فِي الدَّجَاجَةِ، وَسَيَأْتِي فِي النُّذُورِ بِلَفْظِ: فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ دَجَاجٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ.

قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ) هُوَ نِسْبَةٌ إِلَى بَطْنٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَأُبِينَ هُنَاكَ مَا قِيلَ فِي اسْمِهِ وَمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ فَلَمْ يَجِدْ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَضَرَ شَيْءٌ مِنَ الْغَنَائِمِ فَحَمَلَهُمْ مِنْهَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْخُمُسِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِالتَّنْجِيزِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ فَكَذَا لَهُ التَّصَرُّفُ بِتَنْجِيزِ مَا عَلَّقَ.

الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ سَرِيَّةً) ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ نَجْدٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جِهَتَهَا.

قَوْلُهُ: (فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً) فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ سِهَمانهُمْ) أَيْ أَنْصِبَاؤُهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَلَغَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ، وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْصِبَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ.

قَوْلُهُ: (اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا) وَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ بِالشَّكِّ وَالِاخْتِصَارِ وَإِيهَامِ الَّذِي نَفَلَهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا وَأَعْطَانَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَسَمَ بَيْنَنَا غَنِيمَتَنَا فَأَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ نَافِعٍ وَلَفْظُهُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ وَأَتْبَعْتُ سَرِيَّةً مِنَ الْجَيْشِ، وَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَلَ أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيرًا بَعِيرًا، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنَّ ذَلِكَ الْجَيْشَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اتَّفَقَ جَمَاعَةُ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ عَلَى رِوَايَتِهِ بِالشَّكِّ، إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ شُعَيْبٍ، وَمَالِكٍ جَمِيعًا فَلَمْ يَشُكَّ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَةِ شُعَيْبٍ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ بِغَيْرِ شَكٍّ، فَكَأَنَّهُ أَيْضًا حَمَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَةِ اللَّيْثِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ نَافِعٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بِغَيْرِ شَكٍّ لَمْ يَقَعِ الشَّكُّ فِيهِ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا) بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ مُسَمًّى، وَالنَّفَلُ زِيَادَةٌ يُزَادُهَا الْغَازِي عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهُ نَفْلُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا عَدَا الْفَرْضَ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي الْقَسْمِ وَالتَّنْفِيلِ هَلْ

ص: 239

كَانَا جَمِيعًا مِنْ أَمِيرِ ذَلِكَ الْجَيْشِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَحَدِهِمَا؟ فَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ صَرِيحَةٌ أَنَّ التَّنْفِيلَ كَانَ مِنَ الْأَمِيرِ وَالْقَسْمَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُقَرِّرًا لِذَلِكَ. مُجِيزًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَلَمْ يُغَيِّرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَهُ أَيْضًا وَنَفَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بَعِيرًا ; وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّقْرِيرِ فَتَجْتَمِعُ الرِّوَايَتَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ نَفَلَهُمْ فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَازَتْ نِسْبَتُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَيْشَ إِذَا انْفَرَدَ مِنْهُ قِطْعَةٌ فَغَنِمُوا شَيْئًا كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لِلْجَمِيعِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، أَيْ إِذَا خَرَجَ الْجَيْشُ جَمِيعُهُ ثُمَّ انْفَرَدَتْ مِنْهُ قِطْعَةٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَيْشَ الْقَاعِدَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُشَارِكُ الْجَيْشَ الْخَارِجَ إِلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ، بَلْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ الْحَدِيثَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مِنَ الْجَيْشِ عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي فِيهِ الْإِمَامُ يَنْفَرِدُ بِمَا يَغْنَمُهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا بِمُشَارَكَةِ الْجَيْشِ لَهُمْ إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ يَلْحَقُهُمْ عَوْنُهُ وَغَوْثُهُ لَوِ احْتَاجُوا انْتَهَى. وَهَذَا الْقَيْدُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ السَّرِيَّةَ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْهُ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إِنَّهُ انْفَرَدَ بِذَلِكَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّنْفِيلِ، وَمَعْنَاهُ تَخْصِيصُ مَنْ لَهُ أَثَرٌ فِي الْحَرْبِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، لَكِنَّهُ خَصَّهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ مَنْ بَعْدَهُ، نَعَمْ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ بِشَرْطٍ مِنْ أَمِيرِ الْجَيْشِ كَأَنْ يُحَرِّضَ عَلَى الْقِتَالِ وَيَعِدَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ إِلَى الثُّلُثِ قَبْلَ الْقَسْمِ، وَاعْتُلَّ بِأَنَّ الْقِتَالَ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلدُّنْيَا، قَالَ: فَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا انْتَهَى.

وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنَ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ أَوْ مِمَّا عَدَا الْخُمُسِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَنَقَلَهُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ شَاذٌّ عِنْدَهُمْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُمْ نُفِّلُوا نِصْفَ السُّدُسِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَهَذَا وَاضِحٌ، وَقَدْ زَادَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ إِيضَاحًا فَقَالَ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا مِائَةً لَكَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ أَلْفٌ وَمِائَتَا بَعِيرٍ وَيَكُونُ الْخُمُسُ مِنَ الْأَصْلِ ثَلَاثَمِائَةِ بَعِيرٍ وَخُمُسُهَا سِتُّونَ، وَقَدْ نَطَقَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُمْ نُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا نُفِّلُوا مِائَةَ بَعِيرٍ، وَإِذَا كَانَ خُمُسُ الْخُمُسِ سِتِّينَ لَمْ يَفِ كُلُّهُ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ لِكُلٍّ مِنَ الْمِائَةِ، وَهَكَذَا كَيْفَمَا فَرَضْتَ الْعَدَدَ. قَالَ: وَقَدْ أَلْجَأَ هَذَا الْإِلْزَامُ بَعْضَهُمْ فَادَّعَى أَنَّ جَمِيعَ مَا حَصَلَ لِلْغَانِمِينَ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا فَقِيلَ لَهُ فَيَكُونُ خُمُسُهَا ثَلَاثَةَ أَبْعِرَةٍ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ السَّرِيَّةُ كُلُّهَا ثَلَاثَةَ رِجَالٍ كَذَا قِيلَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَهُوَ سَهْوٌ عَلَى التَّفْرِيغِ الْمَذْكُورِ، بَلْ يَلْزَمُ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رَجُلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَدِ انْفَصَلَ مَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ النَّفَلَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ بِأَوْجُهٍ:

مِنْهَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا أَبْعِرَةً بَلْ كَانَ فِيهَا أَصْنَافٌ أُخْرَى، فَيَكُونُ التَّنْفِيلُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْأَصْنَافِ دُونَ بَعْضٍ.

ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نَفَلَهُمْ مِنْ سَهْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ وَغَيْرِهَا فَضَمَّ هَذَا إِلَى هَذَا فَلِذَلِكَ زَادَتِ الْعِدَّةُ،

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ نَفَلَ بَعْضَ الْجَيْشِ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ: وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَرُدُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً، وَأَنَّهُمْ غَنِمُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ بَعِيرًا فَخَرَجَ مِنْهَا الْخُمُسُ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَقَسَّمَ عَلَيْهِمُ الْبَقِيَّةَ فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا ثُمَّ نُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَعَلَى هَذَا فَقَدْ نُفِّلُوا ثُلُثَ الْخُمُسِ. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَدٌّ لِلِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُفِّلُوا سِتَّةً مِنَ الْعَشَرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: النَّفَلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ: لَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَكْثَرُ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْلَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ. وَالَّذِي

ص: 240

يَقْرَبُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِلَى سُهْمَانِهِمْ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَقَرَّرَ لَهُمُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنَ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الْمُوَزَّعَةِ عَلَيْهِمْ فَيَبْقَى لِلنَّفَلِ مِنَ الْخُمُسِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً بَعَثَهَا قِبَلَ نَجْدٍ مِنْ إِبِلٍ جَاءُوا بِهَا نَفَلًا سِوَى نَصِيبِهِمْ مِنَ الْمَغْنَمِ لَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ وَسَاقَهُ الطَّحَاوِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخُمُسِ لِلْمُقَاتِلَةِ. وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ كَانَ النَّاسُ يعطفون النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ.

قُلْتُ: وَظَاهِرُهُ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْجَيْشِ لِمَعْنًى فِيهِ فَذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ لَا مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنِ انْفَرَدَتْ قِطْعَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يُنَفِّلَهَا مِمَّا غَنِمَتْ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ فَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْخُمُسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ انْتَهَى. وَهَذَا الشَّرْطُ قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَتَحَدَّدُ، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} فَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُنَفِّلُ مِنْ أَوَّلِ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يُنَفِّلُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً. وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ. وَحَدِيثُ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ بدل لِمَا قَالُوا وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ قِسْمَةِ أَعْيَانِ الْغَنِيمَةِ لَا أَثْمَانِهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا أَوْ بَيَانًا لِلْجَوَازِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا التَّخْيِيرُ، وَفِيهِ أَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ إِذَا فَعَلَ مَصْلَحَةً لَمْ يَنْقُضْهَا الْإِمَامُ.

الرَّابِعُ حَدِيثُهُ كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَالْخُمُسُ وَاجِبٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ النَّفَلَ مِنَ الْخُمُسِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْأَقْوَالِ. نَعَمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِ السَّرِيَّةِ بِالتَّنْفِيلِ دُونَ بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لِلْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ بِمَسَائِلِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ دَقِيقُ الْمَأْخَذِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ أَنَّ التَّنْفِيلَ يَقَعُ لِلتَّرْغِيبِ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَالْمُخَاطَرَةِ فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ لَمْ يَضُرَّهُمْ ذَلِكَ قَطْعًا لِكَوْنِهِ صَدَرَ لَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَحْضِ التَّعَبُّدِ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ، لَكِنَّ ضَبْطَ قَانُونِهَا وَتَمْيِيزَهَا مِمَّا تَضُرُّ مُدَاخَلَتُهُ مُشْكِلٌ جِدًّا.

الْخَامِسُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي مَجِيئِهِمْ مِنَ الْحَبَشَةِ وَفِي آخِرِهِ: وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَحَادِيثُ الْبَابِ مُطَابِقَةٌ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ، إِلَّا هَذَا الْأَخِيرَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَسَمَ لَهُمْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنَ الْخُمُسِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ، وَالْحَدِيثُ نَاطِقٌ بِهَا، قَالَ: لَكِنَّ وَجْهَ الْمُطَابَقَةِ أَنَّهُ إِذَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُنَفِّذَ اجْتِهَادَهُ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْغَانِمِينَ فَيَقْسِمُ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ، فَلَأَنْ يُنْفِذَ اجْتِهَادَهُ فِي الْخُمُسِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ مُعَيَّنٌ وَإِنِ اسْتَحَقَّهُ صِنْفٌ مَخْصُوصٌ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُمْ بِرِضَا بَقِيَّةِ الْجَيْشِ انْتَهَى.

وَهَذَا جَزَمَ بِهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْخُمُسِ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمُنِيرِ لَوْ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَخْصِيصٌ فَظَاهِرٌ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخُمُسِ وَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ

ص: 241

مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ لِكَوْنِهِمْ وَصَلُوا قَبْلَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَعْدَ حَوْزِهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يَتَرَجَّحُ بِقَوْلِهِ أَسْهَمَ لَهُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَسْهَمَ لَهُ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الِافْتِخَارَ وَيَسْتَدْعِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا لَمْ يَقَعْ لِغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّادِسُ حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ) سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَأَنَّهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، لَكِنْ فِيهِ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَعَدَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَابِرًا كَانَ بَعْدَ السَّنَةِ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْمَالِ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ جِهَةُ الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَأَنَّهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخُمُسِ أَوْ مِنَ الْفَيْءِ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِلَالًا.

قَوْلُهُ: (فَحَثَى لِي) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَرَّةً) الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ بِهَذَا السَّنَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي الْهِبَةِ بِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِلَى آخِرِهَا، وَتَقَدَّمَتِ الزِّيَادَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ إِلَى قَوْلِهِ خُذْ مِثْلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ مُتَّصِلٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَيْ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ عَلِيٍّ. وَظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فَحَثَى لِي ثَلَاثًا لَكِنَّ قَوْلَهُ فَحَثَى لِي حَثْيَةً مَعَ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَجَعَلَ سُفْيَانُ يَحْثُو بِكَفَّيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَثْيَةَ مَا يُؤْخَذُ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا، وَالَّذِي قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْحَثْيَةَ مَا يَمْلَأُ الْكَفَّ، وَالْحَفْنَةُ مَا يَمْلَأُ الْكَفَّيْنِ. نَعَمْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْحَثْيَةَ وَالْحَفْنَةَ بِمَعْنًى وَهَذَا الْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ حَثْيَةً مِنْ حَثَى يَحْثِي، وَيَجُوزُ حَثْوَةً مِنْ حَثَا يَحْثُو وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَوْلُهُ تَبْخَلُ عَنِّي أَيْ مِنْ جِهَتِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَعْنِي ابْنَ الْمُنْكَدِرِ) الَّذِي قَالَ وَقَالَ هُوَ سُفْيَانُ الَّذِي قَالَ يَعْنِي هُوَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ

قَوْلُهُ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا وَقَعَ أَدْوَى غَيْرَ مَهْمُوزٍ، مِنْ دَوَى إِذَا كَانَ بِهِ مَرَضٌ فِي جَوْفِهِ، وَالصَّوَابُ أَدْوَأُ بِالْهَمْزِ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاءِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ سَهَّلُوا الْهَمْزَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ فِي حَدِيثِهِ فَظَهَرَ بِذَلِكَ اتِّصَالُهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَإِنَّهَا تُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ أَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ تَوْجِيهُ وَفَاءِ أَبِي بَكْرٍ لِعِدَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَنَّ وَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَجُوزُ إِخْلَافُهُ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الضَّمَانِ فِي الصِّحَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ذَلِكَ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ أُمِرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَوْلَى، وَأَنَّ جَابِرًا لَمْ يَدَّعِ أَنَّ لَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُطَالِبْهُ أَبُو بَكْرٍ بِبَيِّنَةٍ وَوَفَّى ذَلِكَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمَوْكُولِ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَحُومُ الْمُصَنِّفُ وَبِهِ تَرْجَمَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ إِعْطَاءَ جَابِرٍ حَتَّى قَالَ لَهُ مَا قَالَ إِمَّا لِأَمْرٍ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى الطَّلَبِ، أَوْ لِئَلَّا يَكْثُرَ الطَّالِبُونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَنْعَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْجِزْيَةِ بَيَانُ

الْخِلَافِ فِي مَصْرِفِهَا، وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا أَنَّ مَصْرِفَهَا عِنْدَهُ مَصْرِفُ الْخُمُسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُرَّةُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ثُمَّ هَاءٍ، وَفِي الْإِسْنَادِ بَصْرِيَّانِ هُوَ وَالرَّاوِي عَنْهُ، وَحِجَازِيَّانِ شَيْخُهُ وَالضَّحَّاكُ، وَقَدْ خَالَفَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ فَقَالَ: عَنْ قُرَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بَدَلَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ ; وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ

ص: 242

أَرْجَحُ فَقَدْ وَافَقَ شَيْخَهُ عَلَى ذَلِكَ عَنْ قُرَّةَ، عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، فَاتِّفَاقُ هَؤُلَاءِ الْحُفَّاظِ الثَّلَاثَةِ أَرْجَحُ مِنَ انْفِرَادِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ قُرَّةَ عَنْ شَيْخَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَنْ قُرَّةَ، عَنْ عَمْرٍو، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْمَعْنَى، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَيَانُ تَسْمِيَته الْقَائِلِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَقَدْ شَقِيتُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ لِلْأَكْثَرِ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَالشَّرْطُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ لَا يَعْدِلُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الشَّقَاءُ، بَلْ هُوَ عَادِلٌ فَلَا يَشْقَى. وَحَكَى عِيَاضٌ فَتْحَهَا وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَحَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ رِوَايَةِ شَيْخِهِ الْمَنِيعِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ قُرَّةَ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ شَقِيتَ أَيْ ضَلَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا التَّابِعُ حَيْثُ تَقْتَدِي بِمَنْ لَا يَعْدِلُ، أَوْ حَيْثُ تَعْتَقِدُ فِي نَبِيِّكَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ.

‌16 - بَاب مَا مَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ

3139 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ.

[الحديث 3139 - طرفه في: 4024]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا مَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً فَيُنَفِّلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَتَارَةً مِنَ الْخُمُسِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كَانَ يَمُنُّ عَلَى الْأُسَارَى مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَتَارَةً مِنَ الْخُمُسِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ شَيْءٍ لَوْ وَقَعَ لَفَعَلَهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأُسَارَى بِغَيْرِ فِدَاءٍ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغَنَائِمَ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْغَانِمِينَ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكُونَ بِنَفْسِ الْغَنِيمَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيبُ أَنْفُسَ الْغَانِمِينَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَلَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ.

وَلِلْفَرِيقَيْنِ احْتِجَاجَاتٌ أُخْرَى وَأَجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ أُطِلْ بِهَا هُنَا لِأَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ الْمُنِيرِ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: إِنَّ طِيبَ قُلُوبِ الْغَانِمِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُذْعِنَ بَعْضُهُمْ، فَكَيْفَ بَتَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يُعْطِيهِ إِيَّاهُمْ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْمَحَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَصَرَّفُ فِيهَا حَيْثُ شَاءَ، وَفَرْضُ الْخُمُسِ إِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ قِسْمَةِ غَنَائِمِ بَدْرٍ كَمَا تَقَرَّرَ فَلَا حُجَّةَ إِذًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ أَنْكَرَ الدَّاوُدِيُّ دُخُولَ التَّخْمِيسِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ فِيهِمْ غَيْرُ أَمْرَيْنِ إِمَّا الْمَنُّ بِغَيْرِ فِدَاءٍ وَإِمَّا الْفِدَاءُ بِمَالٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَلَّمَ أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ أَوْ شَيْئَيْنِ مِمَّا خُيِّرَ فِيهِ مَنْعُ التَّخْيِيرِ، وَقَدْ قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَغَيْرَهُ، وَادِّعَاؤُهُ أَنَّ قُرَيْشًا لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ الرِّقِّ يَحْتَاجُ إِلَى

ص: 243

دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخِلَافِ هَلْ يُسْتَرَقُّ الْعَرَبِيُّ أَوْ لَا ثَابِتٌ مَشْهُورٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ النَّتْنَى بِنُونَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنَةٌ مَقْصُورٌ جَمْعُ نَتِنٍ أَوْ نَتِينٍ كَزَمِنٍ وَزَمْنَى أَوْ جَرِيحٍ وَجَرْحَى، وَرُوِيَ بِمُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَهُ هُوَ الصَّوَابَ.

‌17 - بَاب وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْإِمَامِ، وَأَنَّهُ يُعْطِي بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ

مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ، وَلِمَا مَسَّتْهُمْ فِي جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ

3140 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ - اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَبْدُ شَمْسٍ، وَهَاشِمٌ، وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ. وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ.

[الحديث 3140 - طرفاه في: 3502، 4229]

قَوْلُهُ: (بَابٌ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْإِمَامِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ قَبْلُ بِبَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَعُمَّهُمْ) أَيْ لَمْ يَعُمَّ قُرَيْشًا. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ أَحْوَجُ إِلَيْهِ أَيْ دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ حَذْفُ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ:(تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ) بِضَمِّ النُّونِ أَيِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ، قَالَ: وَإِذَا طَالَ الْكَلَامُ فَلَا ضَعْفَ وَمِنْهُ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أَيْ وَفِي الْأَرْضِ هُوَ إِلَهٌ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَى) أَيْ أَبْعَدَ قَرَابَةً مِمَّنْ لَمْ يُعْطِ، وَوَقَعَ فِي هَذَا اخْتِصَارٌ اقْتَضَى تَوَقُّفَنَا فِي فَهْمِهِ، وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِتَوْجِيهِهِ، وَسِيَاقُهُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فَقَالَ فِيهِ: وَقَسَمَ لَهُمْ قَسْمًا لَمْ يَعُمَّ عَامَّتَهُمْ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ قَرِيبًا دُونَ مَنْ أَحْوَجُ مِنْهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ أَعْطَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ قَرَابَةً أَيْ مِمَّنْ لَمْ يُعْطِ. وَقَوْلُهُ لِمَا يَشْكُو تَعْلِيلٌ لِعَطِيَّةِ الْأَبْعَدِ قَرَابَةً، وَقَوْلُهُ: فِي جَنْبِهِ أَيْ جَانِبِهِ، وَقَوْلُهُ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ أَيْ وَحُلَفَاءِ قَوْمِهِمْ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) فِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِيمَا قَسَمَ مِنَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَضَعَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ

ص: 244

وَإِنَّمَا اخْتُصَّ جُبَيْرٌ، وَعُثْمَانُ بِذَلِكَ لِأَنَّ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ، وَهَاشِمٌ، وَالْمُطَّلِبُ سَوَاءٌ الْجَمِيعُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى عَبْدِ مَنَافٍ. وَوَقَعَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا.

قَوْلُهُ: (شَيْءٌ وَاحِدٌ) لِلْأَكْثَرِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْهَمْزَةِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: رَوَيْنَاهُ هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ انْتَهَى. وَقَدْ وَجَدْتُهُ فِي أَصْلِي هُنَا مِنْ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَفِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَفِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ مِنْ رِوَايَتِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَحْدَهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ أَجْوَدُ فِي الْمَعْنَى، وَحَكَاهَا عِيَاضٌ رِوَايَةً خَارِجَ الصَّحِيحِ وَقَالَ: الصَّوَابُ رِوَايَةُ الْكَافَّةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِلَاطِ وَالِامْتِزَاجِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا عَلَى التَّمْثِيلِ وَالتَّنْظِيرِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ شَيْءٌ أَحَدٌ بِغَيْرِ وَاوٍ بِهَمْزِ الْأَلِفِ، فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ لِأَحَدٍ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِشَيْءٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَالْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ، وَقِيلَ الْأَحَدُ الْمُنْفَرِدُ بِالْمَعْنَى وَالْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِالذَّاتِ، وَقِيلَ الْأَحَدُ لِنَفْيِ مَا يُذْكَرُ مَعَهُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْوَاحِدُ اسْمٌ لِمِفْتَاحِ الْعَدَدِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقِيلَ لَا يُقَالُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، حَكَاهُ جَمِيعَهُ عِيَاضٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ (وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ) هُوَ عِنْدِي مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ أَيْضًا عَنِ اللَّيْثِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بِتَمَامِهِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ بَيْنَ الذُّهْلِيِّ فِي جَمْعِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ ذِكْرِهِ لِرِوَايَةِ يُونُسَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ هُرْمُزَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى قَالَ هُوَ لِقُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَهُ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَرَضَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا، فَرَدَدْنَاهُ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ دَعَانَا أَنْ يُنْكِحَ أَيِّمَنَا وَيُخْدِمَ عَائِلَنَا وَيَقْضِيَ عَنْ غَارِمِنَا فَأَبَيْنَا إِلَّا أَنْ يُسْلِمَهُ لَنَا، قَالَ فَتَرَكْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ، وَقَوْلُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ أَيْ ابْنِ هِلَالٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ. وَقَوْلُهُ وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ لَمْ يُسَمِّ أُمَّهُ وَهِيَ وَاقِدَةُ بِالْقَافِ بِنْتُ أَبِي عَدِيٍّ وَاسْمُهُ نَوْفَلُ ابْنُ عُبَادَةَ، مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ، وَلِعَبْدِ شَمْسٍ، وَنَوْفَلٍ الْأَبْهَرَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ ائْتِلَافًا سَرَى فِي أَوْلَادِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَلِهَذَا لَمَّا كَتَبَتْ قُرَيْشٌ الصَّحِيفَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَحَصَرُوهُمْ فِي الشِّعْبِ دَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ تَدْخُلْ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ قَرَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَطَائِفَةٌ

ص: 245

مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ لِإِلْحَاقِ بَنِي الْمُطَّلِبِ بِهِمْ، وَقِيلَ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا لَكِنْ يُعْطِي الْإِمَامُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَصْبَغُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَوْهِينُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ إِذْ لَوْ أَعْطَاهُمْ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ لَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ وَمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا، وَالْمُلَخَّصُ أَنَّ الْآيَةَ نَصَّتْ عَلَى اسْتِحْقَاقِ قُرْبَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ لِأَنَّهُ شَقِيقٌ، وَفِي بَنِي نَوْفَلٍ إِذَا لَمْ تُعْتَبَرْ قَرَابَةُ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي سَبَبِ إِخْرَاجِهِمْ فَقِيلَ: الْعِلَّةُ الْقَرَابَةُ مَعَ النُّصْرَةِ فَلِذَلِكَ دَخَلَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ لِفِقْدَانِ جُزْءِ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطِهَا ; وَقِيلَ: الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَرَابَةِ، وَوُجِدَ بِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ مَانِعٌ لِكَوْنِهِمُ انْحَازُوا عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَحَارَبُوهُمْ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقُرْبَى عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ يُقْسَمُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى لَا يُفَضَّلُ غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ، وَأَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ذُكِرَ لَا إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ قَسَمَ خُمُسَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَفْضِيلٍ وَلَا عَدَمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ فَالْأَصْلُ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا أُطْلِقَتِ التَّسْوِيَةُ وَالتَّعْمِيمُ، فَالْحَدِيثُ إِذًا حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى التَّعْمِيمِ بِأَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ نَائِبَهُ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ يَضْبِطُ مَنْ فِيهِ وَيَجُوزُ النَّقْلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِلْحَاجَةِ، وَقِيلَ لَا بَلْ يَخْتَصُّ كُلُّ نَاحِيَةٍ بِمَنْ فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِكَيْفِيَّةِ الْقَسْمِ، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ التَّسْوِيَةُ وَبِهَا قَالَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ، فَيَحْتَاجُ مَنْ جَعَلَ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى تَعْمِيمِ ذَوِي الْقُرْبَى فِي قِسْمَةِ سَهْمِهِمْ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَيَخُصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَعَنْ مَالِكٍ يَعُمُّهُمْ فِي الْإِعْطَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَخُصُّ الْفُقَرَاءَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ لَمَّا مُنِعُوا الزَّكَاةَ عُمُّوا بِالسَّهْمِ وَلِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ إِكْرَامًا لَهُمْ، بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَإِنَّهُمْ أُعْطُوا لِسَدِّ الْخُلَّةِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى لَفْظٌ عَامٌّ خُصَّ بِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَمْ يُنْقَلِ اقْتِرَانٌ إِجْمَالِيٌّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.

‌18 - بَاب مَنْ لَمْ يُخَمِّسْ الْأَسْلَابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ وَحُكْمِ الْإِمَامِ فِيهِ

3141 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا

ص: 246

قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ. سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعَ يُوسُفُ، صَالِحًا، وَسمع إِبْرَاهِيمَ، أَبَاهُ عبد الرحمن بن عوف.

[الحديث 3141 - طرفاه في: 3964، 3988]

3142 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ مَا بَالُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ فَأَعْطَاهُ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَاوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلَامِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الْأَسْلَابَ) السَّلَبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ مَا يُوجَدُ مَعَ الْمُحَارِبِ مِنْ مَلْبُوسٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا تَدْخُلُ الدَّابَّةُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يَخْتَصُّ بِأَدَاةِ الْحَرْبِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ فِيهِ) أَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَهُوَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْقَدْرِ حَسْبُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ فَهُوَ مِنْ تَفَقُّهِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ شَهِيرٌ، وَإِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ سَوَاءٌ قَالَ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ. وَقَالَ: إِنَّهُ فَتْوَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ إِلَّا إِنْ شَرَطَ لَهُ الْإِمَامُ ذَلِكَ. وَعَنْ مَالِكٍ يُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْقَاتِلَ السَّلَبَ أَوْ يُخَمِّسَهُ وَاخْتَارَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَعَنْ إِسْحَاقَ إِذَا كَثُرَتِ الْأَسْلَابُ خُمِّسَتْ، وَمَكْحُولٌ، وَالثَّوْرِيُّ يُخَمِّسُ مُطْلَقًا، وَقَدْ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَتَمَسَّكُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَإِنَّهُ خَصَّصَ ذَلِكَ الْعُمُومَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ حُنَيْنٍ.

وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، مِنْهَا يَوْمُ بَدْرٍ كَمَا فِي أَوَّلِ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا يَوْمَ أُحُدٍ

ص: 247

فَسَلَّمَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَبَهُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ رَجُلًا فَنَفَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ. ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مُقَرَّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَإِنْكَارِهِ عَلَيْهِ أَخْذَهُ السَّلَبَ مِنَ الْقَاتِلِ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.

وَكَمَا رَوَى الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: تَعَالَ بِنَا نَدْعُو، فَدَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي رَجُلًا شَدِيدًا بَأْسُهُ فَأُقَاتِلُهُ وَيُقَاتِلُنِي ثُمَّ ارْزُقْنِي عَلَيْهِ الظَّفَرَ حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ الْحَدِيثَ، وَكَمَا رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كَانَتْ صَفِيَّةُ فِي حِصْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ قَتْلِهَا الْيَهُودِيَّ، وَقَوْلِهَا لِحَسَّانَ انْزِلْ فَاسْلُبْهُ ; فَقَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ حَاجَةٌ وَكَمَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي فِي قِصَّةِ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو هَلَّا اسْتَلَبْتَ دِرْعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ خَيْرٌ مِنْهَا، فَقَالَ: إِن اتَّقَانِي بِسَوْأَتِهِ، وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ الْقِتَالُ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ لِئَلَّا تَضْعُفَ نِيَّاتُ الْمُجَاهِدِينَ، وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا نَالَهُ قَبْلَ الْحَرْبِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا اسْتَحَقَّ الْقَاتِلُ.

ثُمَّ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْقَاتِلِ السَّلَبَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقَرَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجِبُ لِلْقَاتِلِ لَكَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ وَلَكَانَ جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي قَتْلِهِ، فَلَمَّا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ فِي السِّيَاقِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ السَّلَبَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَثْخَنَ فِي الْقَتْلِ وَلَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الضَّرْبِ أَوِ الطَّعْنِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: نَظَرُهُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّيْفَيْنِ وَاسْتِلَالُهُ لَهُمَا هُوَ لِيَرَى مَا بَلَغَ الدَّمُ مِنْ سَيْفَيْهِمَا وَمِقْدَارَ عُمْقِ دُخُولِهِمَا فِي جِسْمِ الْمَقْتُولِ لِيَحْكُمَ بِالسَّلَبِ لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُمَا أَوَّلًا هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُمَا لَوْ مَسَحَاهُمَا لَمَا تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَثْخَنَهُ لِيُطَيِّبَ نَفْسَ الْآخَرِ.

وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَقُولُ إِنَّ الْأَنْصَارِيَّيْنِ ضَرَبَاهُ فَأَثْخَنَاهُ وَبَلَغَا بِهِ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُعْلَمُ مَعَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَّا قَدْرَ مَا يُطْفَأُ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَصَلَ إِلَى قَطْعِ الْحَشْوَةِ وَإِبَانَتِهَا أَوْ بِمَا يُعْلَمُ أَنَّ عَمَلَ كُلٍّ مِنْ سَيْفَيْهِمَا كَعَمَلِ الْآخَرِ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَقَ بِالضَّرْبِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُثَبِّتِ لِجِرَاحِهِ حَتَّى وَقَعَتْ بِهِ ضَرْبَةُ الثَّانِي فَاشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَالْآخَرُ قَتَلَهُ وَهُوَ مُثَبِّتٌ فَلِذَلِكَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلسَّابِقِ إِلَى إِثْخَانِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّهُ قَتَلَهُ، وَتَأْتِي كَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدِيثَةٍ) بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِلْغُلَامَيْنِ وَأَسْنَانُهُمَا بِالرَّفْعِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ أَضْلُعٍ مِنْهُمَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ اللَّامِ فجَمْعُ ضِلَعٍ، وَرُوِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ مِنَ الضَّلَاعَةِ وَهِيَ الْقُوَّةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ بَيْنَ أَصْلُحٍ مِنْهُمَا بِالصَّادِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَنَسَبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، لِمُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ خَالَفَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ ابْنِ سَنْجَرٍ، وَعَفَّانُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي كُلَّهُمْ عَنْ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالُوا أَضْلُعٍ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ، قَالَ: وَاجْتِمَاعُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ أَوْلَى مِنَ انْفِرَادِ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْخِلَافَ عَلَى الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فَلَا يَلِيقُ الْجَزْمُ بِأَنَّ مُسَدَّدًا نَطَقَ بِهِ هَكَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيِّ، وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَغَيْرِهِمَا كُلُّهُمْ

عَنْ

ص: 248

يُوسُفَ كَالْجَمَاعَةِ ; وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَا يُفَارِقُ سَوَادَهُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَهُوَ الشَّخْصُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا) أَيِ الْأَقْرَبُ أَجَلًا، وَقِيلَ إِنَّ لَفْظَ الْأَعْجَلِ تَحْرِيفٌ وَإِنَّمَا هُوَ الْأَعْجَزُ، وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا، وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ الْمُصَنِّفُ) سَمِعَ يُوسُفَ (يَعْنِي ابْنَ الْمَاجِشُونِ صَالِحًا) يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَذْكُورَ فِي الْإِسْنَادِ (وَسَمِعَ إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ) وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلُهُ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ سَمَاعَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَبِيهِ، وَأَمَّا سَمَاعُ يُوسُفَ مِنْ صَالِحٍ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَدْخَلَ بَيْنَ يُوسُفَ، وَصَالِحٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلًا لَمْ يَضْبِطْ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالرَّجُلُ هُوَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ سَمِعَهُ مِنْ صَالِحٍ وَثَبَّتَهُ فِيهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ فِيهِ عَنِ ابْنِ أَفْلَحَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ عُمَرُ ابْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَكُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ إِلَّا الرَّاوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ نَزَلَهَا، وَقَوْلُهُ فَاسْتَدْبَرْتُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَاسْتَدَرْتُ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى دُخُولِ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلَّا مَنِ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ لِأَنَّهُ قَالَ إِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ فَلَا يَسْتَحِقَّ السَّلَبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعُورِضَ بِأَنَّ السَّهْمَ عُلِّقَ عَلَى الْمَظِنَّةِ، وَالسَّلَبُ يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ فَهُوَ أَوْلَى، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَسْتَحِقُّهُ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُنْهَزِمًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِالْمُبَارَزَةِ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ فَلَا سَلَبَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْقَاتِلِ الَّذِي أَثْخَنَهُ بِالْقَتْلِ دُونَ مَنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ أَبِي جَهْلٍ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ مِنْ كُلِّ مَقْتُولٍ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ امْرَأَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى السَّلَبَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يُقْبَلُ، وَسِيَاقُ أَبِي قَتَادَةَ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ لِأَبِي قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.

وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَصِحَّ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ الْقَاتِلُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ هُنَا الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّ السَّلَبَ عِنْدَهُ فَهُوَ شَاهِدٌ، وَالشَّاهِدُ الثَّانِي وُجُودُ السَّلَبِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ وَلِذَلِكَ جُعِلَ لَوْثًا فِي بَابِ الْقَسَامَةِ، وَقِيلَ إِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ أَبُو قَتَادَةَ بِإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَهذا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مَنْسُوبًا لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ فَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَالُ هُنَا مَنْسُوبٌ لِجَمِيعِ الْجَيْشِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هُنَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ يُكْتَفَى بِهِ.

‌19 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ

رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3143 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ

ص: 249

أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ.

3144 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ قَالَ وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ قَالَ فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ فَقَالَ عُمَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا هَذَا فَقَالَ مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّبْيِ قَالَ اذْهَبْ فَأَرْسِلْ الْجَارِيَتَيْنِ قَالَ نَافِعٌ وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَلَوْ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ".

وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وقَالَ: "مِنْ الْخُمُسِ".

وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّذْرِ وَلَمْ يَقُلْ "يَوْمٍ".

3145 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رضي الله عنه قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ". وَزَادَ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ بِسَبْيٍ فَقَسَمَهُ

بِهَذَا".

3146 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُعْطِي قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ".

[الحديث 3146 - أطرافه في: 3147، 3528، 3778، 3793، 4331، 4332، 4333، 4334، 4337، 5860، 6762، 7441]

3147 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ

ص: 250

الْأَنْصَارِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ قَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: فأَمَّا ذَوُوا آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الْأَنْصَارَ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَوْضِ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ.

3148 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونني بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.

3149 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

[الحديث 3149 - طرفاه في: 5809، 6088]

3150 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: فَمَنْ

ص: 251

يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.

[الحديث 3150 - أطرافه في: 3405، 4335، 4336، 6059، 6100، 6291، 6336]

3151 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: "كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ".

وَقَالَ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ".

[الحديث 3151 - طرفه في: 5224]

3152 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا وَكَانَتْ الأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَأُقِرُّوا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ) سَيَأْتِي بَيَانُهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَنِيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ، أَوْ كَانَ يَتَوَقَّعُ بِإِعْطَائِهِ إِسْلَامَ نُظَرَائِهِ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَغَيْرَهُمْ) أَيْ غَيْرَ الْمُؤَلَّفَةِ مِمَّنْ تَظْهَرُ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي إِعْطَائِهِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ) أَيْ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالْفَيْءِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الْخُمُسِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ إِلَى الْإِمَامِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لِغَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ الثَّابِتَةِ. وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَيْنَ كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: مِنَ الْخُمُسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، قِيلَ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ صَرِيحٌ بِالْإِعْطَاءِ مِنْ نَفْسِ الْخُمُسِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَسَيَأْتِي هُنَاكَ مَوْصُولًا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الْحَدِيثَ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ قِصَّتُهُ مَعَ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي نَذْرِ عُمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِيهِ وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ وَهُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ) كَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ نَقَلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَوْصُولًا، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ لَكِنْ فِي الْقِصَّةِ الثَّالِثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ

ص: 252

لَا فِي جَمِيعِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ مَعْمَرًا وَصَلَهُ أَيْضًا عَنْ أَيُّوبَ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَصَلَهَا فِي الْمَغَازِي وَهُوَ فِي قِصَّةِ النَّذْرِ فَقَطْ، وَذَكَرَ فِي الْمَغَازِي أَيْضًا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ رَوَاهُ مَوْصُولًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا أَيْضًا هُنَاكَ وَأَنَّهُ أَيْضًا فِي النَّذْرِ فَقَطْ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالنَّذْرِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا الْجُرْجَانِيَّ فَقَالَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ هُنَا، وَهُوَ فِي الْمَغَازِي، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مُرْسَلٌ وَحَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ مَوْصُولٌ، وَحَمَّادٌ أَثْبَتُ فِي أَيُّوبَ مِنْ جَرِيرٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الْمَوْصُولَةُ فَهِيَ فِي قِصَّةِ النَّذْرِ فَقَطْ دُونَ قِصَّةِ الْجَارِيَتَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ حَدِيثَ الْجَارِيَتَيْنِ فَوَصَلَهُ عَنْهُ قَوْمٌ وَأَرْسَلَهُ آخَرُونَ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ)، فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ سُؤَالَهُ لِذَلِكَ وَقَعَ وَهُوَ بِالْجِعِرَّانَةِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الطَّائِفِ.

قَوْلُهُ: (وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ) أَيْ مِنْ هَوَازِنَ، لَمْ أَرَ مَنْ سَمَّاهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَوْصُولًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّذْرِ، قَالَ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَكِفَ فَلَمْ أَعْتَكِفْ حَتَّى كَانَ بَعْدَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي جَارِيَةً، فَبَيْنَا أَنَا مُعْتَكِفٌ إِذْ سَمِعْتُ تَكْبِيرًا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّبْيِ) سَتَأْتِي صِفَةُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَنَظَرَ أَوْ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ سَعْيِهِمْ فِي السِّكَكِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ لِعُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَةِ فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: السَّبْيُ أَسْلَمُوا، فَأَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ وَالْجَارِيَةُ فَأَرْسَلَهَا

قَوْلُهُ: (قَالَ اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْأَخْذُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

(تَنْبِيهٌ):

اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ، وَحَكَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبَعْدَ الْعَيْنِ مُثَنَّاةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مِيمٌ مَكْسُورَةٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعِرَّانَةِ وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ) هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو النُّعْمَانِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ جَمِيعًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ ذَكَرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعِرَّانَةِ فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي اعْتِمَارِهِ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرْتُ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ سَبَبَ خَفَاءِ عُمْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعِرَّانَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلْيُرَاجَعْ مِنْهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَ بِهِ نَافِعًا، وَلَا كُلُّ مَا حَدَّثَ بِهِ نَافِعًا حَفِظَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا يَرُدُّهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، فَإِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهَا نَافِعًا. وَدَلَّتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنْفِيهَا. قَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمَهُ ابْنُ عُمَرَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ فِيهِ نِسْيَانٌ انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَرَفَ بِهَا وَنَسِيَهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَمْ يَعْرِفْ بِهَا لَا هُوَ وَلَا عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ النَّمَرِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (أَخَافُ ظَلَعَهُمْ) بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ وَاللَّامِ وَبِالْمُهْمَلَةِ أَيِ اعْوِجَاجَهُمْ (وَجَزَعَهُمْ) بِالْجِيمِ وَالزَّايِ بِوَزْنِهِ، وَأَصْلُ الظَّلَعِ الْمَيْلُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَرَضِ الْقَلْبِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ.

قَوْلُهُ: (وَالْغَنَاءُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ النُّونِ وَمَدٍّ وَهُوَ الْكِفَايَةُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ بِلَفْظِ ضِدِّ الْفَقْرِ، وَقَوْلُهُ بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيِ الَّتِي قَالَهَا فِي حَقِّهِ وَهِيَ إِدْخَالُهُ إِيَّاهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْغَنَاءِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالْمَعْنَى لَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ بَدَلًا مِنَ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي لِي أَوْ يَكُونُ لِي ذَلِكَ، وَتُقَالُ تِلْكَ

ص: 253

الْكَلِمَةُ فِي حَقِّي.

قَوْلُهُ: (زَادَ أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ جَرِيرٍ) هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي أَوَاخِرِ الْجُمُعَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ يُعَلِّقُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِيهِ وَاسِطَةٌ مِثْلَ هَذَا، فَإِنَّ أَبَا عَاصِمٍ شَيْخُهُ وَقَدْ عَلَّقَ عَنْهُ هَذَا هُنَا، وَلَمَّا سَاقَهُ مَوْصُولًا أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَاصِمٍ وَاسِطَةً.

قَوْلُهُ: (أَوْ بِسَبْيٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِشَيْءٍ وَهُوَ أَشْمَلُ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي عَطِيَّةِ الْمُؤَلَّفِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، ذَكَرَهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فَقَدْ ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ عَنْ أَنَسٍ.

خَامِسُهَا حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ شَرْحِ الْمَتْنِ، وَقَوْلُهُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ أَيْ مَرْجِعَهُ، كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ هُنَا مُقْبِلًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالسَّمُرَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ شَجَرَةٌ طَوِيلَةٌ مُتَفَرِّقَةُ الرَّأْسِ قَلِيلَةُ الظِّلِّ صَغِيرَةُ الْوَرَقِ وَالشَّوْكِ صُلْبَةُ الْخَشَبِ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: وَالْعِضَاهُ شَجَرُ الشَّوْكِ كَالطَّلْحِ وَالْعَوْسَجِ وَالسِّدْرِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: السَّمُرَةُ هِيَ الْعِضَاهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَرَقُ السَّمُرَةِ أَثْبَتُ وَظِلُّهَا أَكْثَفُ، وَيُقَالُ هِيَ شَجَرَةُ الطَّلْحِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَاحِدَةِ الْعِضَاهِ فَقِيلَ عَضَةٌ بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلُ شَفَةٍ وَشِفَاهُ، وَالْأَصْلُ عَضْهَةٌ وَشَفَهَةٌ فَحُذِفَتِ الْهَاءُ، وَقِيلَ وَاحِدُهَا عِضَاهَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ) فِي مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ حَتَّى عَدَلُوا بِنَاقَتِهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِسَمُرَاتٍ فَانْتَهَسْنَ ظَهْرَهُ وَانْتَزَعْنَ رِدَاءَهُ فَقَالَ: نَاوِلُونِي رِدَائِي فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَفِيهِ فَنَزَلَ وَنَزَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَأَقْبَلَتْ هَوَازِنُ فَقَالُوا: جِئْنَا نَسْتَشْفِعُ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ، وَنَسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهِ ذَمُّ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْبُخْلُ وَالْكَذِبُ وَالْجُبْنُ، وَأَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا.

وَفِيهِ مَا كَانَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحِلْمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَسَعَةِ الْجُودِ وَالصَّبْرِ عَلَى جُفَاةِ الْأَعْرَابِ. وَفِيهِ جَوَازُ وَصْفِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَخَوْفِ ظَنِّ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْفَخْرِ الْمَذْمُومِ. وَفِيهِ رِضَا السَّائِلِ لِلْحَقِّ بِالْوَعْدِ إِذَا تَحَقَّقَ عَنِ الْوَاعِدِ التَّنْجِيزُ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ إِنْ شَاءَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَرْبِ وَإِنْ شَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.

سَادِسُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَبَذَ رِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ. وَنَجْرَانُ بِنُونٍ وَجِيمٍ وَزْنُ شَعْبَانَ بَلْدَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَدَبِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

سَابِعُهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعُيَيْنَةُ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مُصَغَّرا هُوَ ابْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ.

ثَامِنُهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ النِّكَاحِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو ضَمْرَةَ هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْغَرَضُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانُ فَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ أَبَا ضَمْرَةَ خَالَفَ أَبَا أُسَامَةَ فِي وَصْلِهِ فَأَرْسَلَهُ، ثَانِيَتُهُمَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ تَعْيِينَ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ فَأَقْطَعَ الزُّبَيْرَ مِنْهَا، وَبِذَلِكَ يَرْتَفِعُ اسْتِشْكَالُ الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضَ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُهَا قَدْ أَسْلَمُوا رَاغِبِينَ فِي الدِّينِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَبْلُغُهُ الْمَأْمَنُ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَأَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ مِنْهُ.

تَاسِعُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَفِيهِ قِصَّةُ إِجْلَاءِ عُمَرَ لَهُمْ بِاخْتِصَارٍ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ نَتْرُكُكُمْ مِنَ التَّرْكِ، وَفِي رِوَايَةِ

ص: 254

الْكُشْمِيهَنِيِّ نُقِرُّكُمْ مِنَ التَّقْرِيرِ. وَقَوْلُهُ هُنَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُسْلِمِينَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ; فَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي صُفْرَةَ: وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ صَحِيحٌ أَيْضًا، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا أَيْ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى فَتْحِ أَكْثَرِهَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْيَهُودُ أَنْ يُصَالِحُوهُ فَكَانَتْ لِلْيَهُودِ، فَلَمَّا صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ الْأَرْضَ كَانَتْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ثَمَرَةِ الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُفْتَتَحَةِ وَغَيْرِ الْمُفْتَتَحَةِ، وَالْمُرَادُ بِظُهُورِهِ عَلَيْهَا غَلَبَتُهُ لَهُمْ فَكَانَ حِينَئِذٍ بَعْضُ الْأَرْضِ لِلْيَهُودِ وَبَعْضُهَا لِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَحَادِيثُ الْبَابِ مُطَابِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ إِلَّا هَذَا الْأَخِيرَ فَلَيْسَ فِيهِ لِلْعَطَاءِ ذِكْرٌ، وَلَكِنْ فِيهِ ذِكْرُ جِهَاتٍ مُطَابِقَةٍ لِلتَّرْجَمَةِ قَدْ عُلِمَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ أَنَّهَا كَانَتْ جِهَاتُ عَطَاءٍ، فَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَدْخُلُ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌20 - بَاب مَا يُصِيبُ مِنْ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ

3153 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.

[الحديث 3153 - طرفاه في: 4224، 5508]

3154 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ".

3155 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما يَقُولُ: "أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْفِئُوا الْقُدُورَ فَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا".

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ قَالَ وَقَالَ آخَرُونَ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ".

[الحديث 3155 - أطرافه في: 4220، 4222، 4224، 5526]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُصِيبُ) أَيِ الْمُجَاهِدُ (مِنَ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ) أَيْ هَلْ يَجِبُ تَخْمِيسُهُ فِي الْغَانِمِينَ، أَوْ يُبَاحُ أَكْلُهُ لِلْمُقَاتِلِينَ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْغَانِمِينَ مِنَ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ وَكُلُّ طَعَامٍ يُعْتَادُ أَكْلُهُ عُمُومًا، وَكَذَلِكَ عَلَفُ الدَّوَابِّ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ يَعِزُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ.

وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الضَّرُورَةُ نَاجِزَةٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ دَوَابِّهِمْ وَلُبْسِ ثِيَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ سِلَاحِهِمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ، وَرَدِّ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ

ص: 255

وَشَرَطَ الْأَوْزَاعِيُّ فِيهِ إِذْنَ الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّمَا فَرَغَتْ حَاجَتُهُ، وَلَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَلَا يَنْتَظِرُ بِرَدِّهِ انْقِضَاءَ الْحَرْبِ لِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلْهَلَاكِ، وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَأْخُذْ دَابَّةً مِنَ الْمَغْنَمِ فَيَرْكَبَهَا حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا إِلَى الْمَغَانِمِ وَذَكَرَ فِي الثَّوْبِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْآخِذُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ يُبْقِي دَابَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَوْبٌ وَلَا دَابَّةٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَأْخُذْ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: يَأْخُذُ إِلَّا إِنْ نَهَى الْإِمَامُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْغُلُولِ، وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَلْيُقْتَصَرْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْعَلَفُ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُبَاحُ ذَبْحُ الْأَنْعَامِ لِلْأَكْلِ كَمَا يَجُوزُ أَخْذُ الطَّعَامِ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالضَّرُورَةِ إِلَى الْأَكْلِ حَيْثُ لَا طَعَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الْإِبِلِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَزْنُ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فَرَمَى إِنْسَانٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ دُلِّيَ بِجِرَابٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ.

قَوْلُهُ: (بِجِرَابٍ) بِكَسْرِ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (فَنَزَوْتُ) بِالنُّونِ وَالزَّايِ أَيْ وَثَبْتُ مُسْرِعًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مُعْضَلٍ أَنَّ صَاحِبَ الْمَغَانِمِ كَعْبَ بْنَ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخَذَ مِنْهُ الْجِرَابَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِرَابِهِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّهُ اسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ وَمِنْ قَوْلِهِ مَعًا، وَمَوْضِعُ الْحُجَّةِ مِنْهُ عَدَمُ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّمًا، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ هُوَ لَكَ وَكَأَنَّهُ عَرَفَ شِدَّةَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ فَسَوَّغَ لَهُ الِاسْتِئْثَارَ بِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ فَاسْتَحْيَيْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ مُعَانَاةِ التَّنَزُّهِ عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الشُّحُومِ الَّتِي تُوجَدُ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْيَهُودِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُهَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَزَادَ فِيهِ: وَالْفَوَاكِهَ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نُصِيبُ الْعَسَلَ وَالسَّمْنَ فِي الْمَغَازِي فَنَأْكُلُهُ وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ أَصَبْنَا طَعَامًا وَأَغْنَامًا يَوْمَ الْيَرْمُوكَ فَلَمْ يُقَسَّمْ وَهَذَا الْمَوْقُوفُ لَا يُغَايِرُ الْأَوَّلَ لِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ، وَلِلْأَوَّلِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لِلتَّصْرِيحِ بِكَوْنِهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا يَوْمُ الْيَرْمُوكِ فَكَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ يُوَافِقُ الْمَرْفُوعَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَرْفَعُهُ) أَيْ وَلَا نَحْمِلُهُ عَلَى سَبِيلِ الِادِّخَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَلَا نَرْفَعُهُ إِلَى مُتَوَلِّي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَسْتَأْذِنُهُ فِي أَكْلِهِ اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْإِذْنِ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فِي ذَبْحِهِمُ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِرَاقَتِهَا، وَفِيهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي سَبَبِ النَّهْيِ هَلْ هُوَ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوْ لِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِالْإِسْرَاعِ إِلَى الْمَأْكُولَاتِ وَانْطِلَاقِ الْأَيْدِي فِيهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَدِمُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ظَهَرَ

ص: 256

أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِرَاقَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ إِلَّا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَأَمَّا حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ أَصَبْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ غَنَمًا فَذَكَرَ الْأَمْرَ بِإِكْفَائِهَا وَفِيهِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ النُّهْبَةُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنَ النُّهْبَةِ، لِأَنَّ أَكْلَ نَعَمِ أَهْلِ الْحَرْبِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَيْضًا: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّحَاوِيُّ وَلَفْظُهُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَاجَتَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى رَاوِي الْحَدِيثِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ بِلَفْظِ: قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: فَتَحَدَّثْنَا بَيْنَنَا أَيِ الصَّحَابَةُ.

وَقَوْلُهُ: وَقَالَ آخَرُونَ أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ لَحْمِ الْحُمُرِ هَلْ هُوَ لِذَاتِهَا أَوْ لِعَارِضٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ وَرِوَايَةُ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌58 - كِتَاب الْجِزْيَةِ والموادعة

‌1 - بَاب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْلِ الذمة والْحَرْبِ

وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} يَعْنِي أَذِلَّاءُ وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ

3156 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ - عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ - عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ

3157 -

حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ

3158 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ

ص: 257

الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".

[الحديث 3158 - طرفاه في: 4015، 6425]

3159 -

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ فَقَالَ إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هَذِهِ قَالَ نَعَمْ مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلَانِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الْآخَرُ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتْ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الْآخَرُ فَارِسُ فَمُرْ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَقَامَ تَرْجُمَانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ مَا أَنْتُمْ قَالَ نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ".

3160 -

فَقَالَ النُّعْمَانُ رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ وَلَمْ يُخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجِزْيَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ، وَأَبِي نُعَيْمٍ كِتَابُ الْجِزْيَةِ، وَوَقَعَ لِجَمِيعِهِمُ الْبَسْمَلَةُ

ص: 258

أَوَّلَهُ سِوَى أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (الْجِزْيَةُ وَالْمُوَادَعَةُ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِ) فِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْمُوَادَعَةَ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالْجِزْيَةُ مِنْ جَزَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَسَّمْتُهُ ثُمَّ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ مِنَ الْجَزَاءِ أَيْ لِأَنَّهَا جَزَاءُ تَرْكِهِمْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنَ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهَا تَكْفِي مَنْ تُوضَعُ عَلَيْهِ فِي عِصْمَةِ دَمِهِ. وَالْمُوَادَعَةُ الْمُتَارَكَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا مُتَارَكَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِمَصْلَحَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا يُوَافِقُهَا إِلَّا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فِي تَأْخِيرِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْقِتَالَ وَانْتِظَارِهِ زَوَالَ الشَّمْسِ. قُلْتُ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُوَادَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ إِثْبَاتِ لَفْظِ كِتَابٍ فِي صَدْرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَيَكُونُ الْكِتَابُ مَعْقُودًا لِلْجِزْيَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَالْأَبْوَابُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُفَرَّعَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّلَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَنَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا فَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ} إِلَخْ) هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ، وَدَلَّ مَن طُوقُ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي أَذِلَّاءَ) هُوَ تَفْسِيرُ (وَهُمْ صَاغِرُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ: الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: (عَنْ يَدٍ) أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ لِقَاهِرٍ وَأَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ يَدٍ فَقَدْ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(عَنْ يَدٍ) أَيْ نِعْمَةٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ يُعْطِيهَا مِنْ يَدِهِ وَلَا يَبْعَثُ بِهَا، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: الْمُرَادُ بِالصَّغَارِ هُنَا الْتِزَامُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى التَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ. لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّخْصِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيُضْطَرُّ إِلَى احْتِمَالِهِ يَسْتَلْزِمُ الذُّلَّ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ فُلَانٌ أَسْكَنُ مِنْ فُلَانٍ أَحْوَجُ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ) هَذَا الْكَلَامُ ثَبَتَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَالْقَائِلُ: وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكُونِ، قِيلَ هُوَ الْفَرَبْرِيُّ الرَّاوِي عَنِ الْبُخَارِيِّ، أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ أَسْكَنُ مِنَ الْمَسْكَنَةِ لَا مِنَ السُّكُونِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَادَّةِ وَاحِدًا، وَوَجْهُ ذِكْرِ الْمَسْكَنَةِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الصَّغَارَ بِالذِّلَّةِ وَجَاءَ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} نَاسَبَ ذِكْرَ الْمَسْكَنَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الذِّلَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ) هَذِهِ بَقِيَّةُ التَّرْجَمَةِ، قِيلَ: وَعَطْفُ الْعَجَمِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا خُصُوصًا وَعُمُومًا وَجْهِيًّا، فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَهُمُ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْتَنَدَهُ فِي الْبَابِ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: تُؤْخَذُ مِنْ مَجُوسِ الْعَجَمِ دُونَ مَجُوسِ الْعَرَبِ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ جَمِيعِ كُفَّارِ الْعَجَمِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ، وَعَنْ مَالِكٍ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا مَنِ ارْتَدَّ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ الشَّامِ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى قَبُولِهَا مِنَ الْمَجُوسِ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَطْ، وَنَقَلَ أَيْضًا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَلَا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، لَكِنْ حَكَى غَيْرُهُ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ حِلَّ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا خِلَافُ إِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ بَأْسًا إِذَا أَمَرَهُ الْمُسْلِمُ بِذَبْحِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَعَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بَأْسًا بِالتَّسَرِّي بِالْمَجُوسِيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا وَيَلْتَحِقُ بِهِمُ الْمَجُوسُ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ

ص: 259

صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَجُوسِ فَدَلَّ عَلَى إِلْحَاقِهِمْ بِهِمْ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثَبَتَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكِتَابِ وَعَلَى الْمَجُوسِ بِالسُّنَّةِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِ فَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا فَالْجِزْيَةُ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْمَجُوسِ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ مَفْهُومِ الْآيَةِ، فَلَمَّا انْتَفَى تَخْصِيصُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَجُوسَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ ثُمَّ رُفِعَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ عَلِيٍّ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرُهُ.

وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ وَهُمْ قُرَيْشٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَهِرْ عِنْدَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَنْ لَهُ كِتَابٌ إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيُ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِلَخْ، وَأَشَارَ بِهَذَا الْأَثَرِ إِلَى جَوَازِ التَّفَاوُتِ فِي الْجِزْيَةِ، وَأَقَلُّ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ، وَخَصَّهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْفَقِيرِ، وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِأَثَرِ مُجَاهِدٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُمَرَ، وَعِنْد الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَاكِسَ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَاثْنَيْ عَشَرَ وَهَذَا عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِاثْنَيْ عَشَرَ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُزَادُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَيُنْقَصُ مِنْهَا عَمَّنْ لَا يُطِيقُ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَدْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ دِينَارٌ، وَفِيهِ حَدِيثُ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَخْذِهَا مِنَ الصَّبِيِّ فَالْجُمْهُورُ لَا عَلَى مَفْهُومِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَكَذَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ وَلَا زَمِنٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا عَاجِزٍ عَنِ الْكَسْبِ وَلَا أَجِيرٍ وَلَا مِنْ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ فِي قَوْلٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْوُجُوبُ عَلَى مَنْ ذُكِرَ آخِرًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ يَشْتَمِلُ الْأَخِيرُ عَلَى حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَمْرًا) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْبَصْرِيُّ (وَعَمْرُو بْنُ أَوْسٍ) هُوَ الثَّقَفِيُّ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُ رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَجِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي التَّهَجُّدِ، وَلَيْسَتْ لَهُ هُنَا رِوَايَةٌ، بَلْ ذَكَرَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بَجَالَةَ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالتَّحَدُّثِ وَإِنَّمَا حَدَّثَ غَيْرَهُ فَسَمِعَهُ هُوَ، وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَسُوغُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَمَنَعَ مِنْهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَالَ الْبَرْقَانِيُّ: يَقُولُ سَمِعْتُ فُلَانًا.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْجِيمِ الْخَفِيفَةِ تَابِعِيٌّ شَهِيرٌ كَبِيرٌ تَمِيمِيٌّ بَصْرِيٌّ وَهُوَ ابْنُ عَبَدَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَيُقَالُ فِيهِ عَبْدٌ بِالسُّكُونِ بِلَا هَاءٍ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَيْ وَحَجَّ حِينَئِذٍ بَجَالَةُ مَعَهُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَكَانَ مُصْعَبُ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقُتِلَ مُصْعَبٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ هَكَذَا يَقُولهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَضَبَطَهُ أَهْلُ النَّسَبِ بِكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ. وَمَنْ قَالَهُ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ فَقَدْ صَحَّفَ. وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ عُبَادَةَ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ، عَمُّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ. وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ. وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى الْأَهْوَازِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى تَنَادُرَ

ص: 260

(قُلْتُ) هِيَ مِنْ قُرَى الْأَهْوَازِ. وَذَكَرَ الْبَلَاذُرِيُّ أَنَّهُ عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَوَلِيَ لِزِيَادٍ بَعْضَ عَمَلِهِ.

قَوْلُهُ: (قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ) كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، لِأَنَّ عُمَرَ قُتِلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ.

قَوْلُهُ: (فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ) زَادَ مُسَدَّدٌ، وَأَبُو يَعْلَى فِي رِوَايَتِهِمَا اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ قَالَ: فَقَتَلْنَا فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْمَحَارِمِ مِنْهُمْ، وَصَنَعَ طَعَامًا فَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ السَّيْفَ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَأَكَلُوا بِغَيْرِ زَمْزَمَةٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ عُمَرُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَحَارِمِ مِنَ الْمَجُوسِ مَنْعَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ وَإِفْشَاءِ عُقُودِهِمْ بِهِ، وَهُوَ كَمَا شَرَطَ عَلَى النَّصَارَى أَنْ لَا يُظْهِرُوا صَلِيبَهُمْ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ بَجَالَةَ مَا يُبَيِّنُ سَبَبَ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَحَارِمِهِمْ كَيْمَا نُلْحِقُهُمْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِ السَّاحِرِ فَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَاقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ السَّاحِرِ فِي بَابِ هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) قُلْتُ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِ عُمَرَ فَهُوَ مُتَّصِلٌ وَتَكُونُ فِيهِ رِوَايَةُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَبِذَلِكَ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُهُ: فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ: انْظُرْ مَجُوسَ مَنْ قِبَلَكَ فَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي فَذَكَرَهُ. لَكِنَّ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ ذَكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قُشَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ بَجَالَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: شَرٌّ، الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَبِلَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَتَرَكُوا مَا سَمِعْتُ ; وَعَلَى هَذَا فَبَجَالَةُ يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمَاعًا وَعَنْ عُمَرَ كِتَابَةً كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ أَصْحَابِي أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ مَا أَخَذْتُهَا وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ بِالْمَجُوسِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مَعَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ مَالِكٍ فَزَادَ فِيهِ: عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا لِأَنَّ جَدَّهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ لَمْ يَلْحَقْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَلَا عُمَرَ، فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ جَدِّهِ يَعُودُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا لِأَنَّ جَدَّهُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ سَمِعَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثٍ بِلَفْظِ: سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ.

قُلْتُ: وَقَعَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ قَالَ مَالِكٌ فِي الْجِزْيَةِ: وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَكِنْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَعِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ، فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلَادَهُ بَنَاتَهُ، فَأَطَاعُوهُ وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ فَأُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ وَعَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِسَ قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا. فَقَالَ: إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَنُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ.

ص: 261

فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: وَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَضَعَ الْأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ، فَهَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: لَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِعَ لَرُفِعَ حُكْمُهُ وَلَمَا اسْتَثْنَى حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ تَبَعًا لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ تَحْرِيمُ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ قَدْ يَغِيبُ عَنْهُ عِلْمُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أَقْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامِهِ، وَأَنَّهُ لَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَهْلِ الْكِتَابِ اخْتِصَاصَهُمْ بِذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِإِلْحَاقِ الْمَجُوسِ بِهِمْ فَرَجَعَ إِلَيْهِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (الْأَنْصَارِيُّ) الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ هُنَا وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصَفَهُ بِالْأَنْصَارِيِّ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَنَزَلَ مَكَّةَ وَحَالَفَ بَعْضَ أَهْلِهَا فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ أَنْصَارِيًّا مُهَاجِرِيًّا، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ لَفْظَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَهْمٌ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنْهُ بِدُونِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ بَدْرٍ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي أَنَّهُ عُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ بِالتَّصْغِيرِ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ تَصْغِيرٍ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ فَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالصَّوَابُ الْوَحْدَةُ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ) أَيِ الْبَلَدِ الْمَشْهُورِ بِالْعِرَاقِ، وَهِيَ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَهَجَرَ، وَقَوْلُهُ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا أَيْ بِجِزْيَةِ أَهْلِهَا، وَكَانَ غَالِبُ أَهْلِهَا إِذْ ذَاكَ الْمَجُوسَ، فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بِالْجِعِرَّانَةِ أَرْسَلَ الْعَلَاءَ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى عَامِلِ الْبَحْرَيْنِ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ وَصَالَحَ مَجُوسَ تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى الْجِزْيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ) كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ فَقَدِمَ مَكَّةَ فَخَالَفَ بِهَا بَنِي مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ الْحَضْرَمِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زهرمز، وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا أَغَارَ بَنُو تَمِيمٍ وَبَنُو شَيْبَانَ عَلَى مَالِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا عَلَيْهِمْ زَهْرَمْزُ فَكَانَتْ وَقْعَةُ ذِي قَارٍ فَقَتَلُوا الْفُرْسَ وَأَسَرُوا أَمِيرَهُمْ، فَاشْتَرَاهُ صَخْرُ بْنُ رَزِينٍ الدَّيْلِيُّ فَسَرَقَهُ مِنْهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَتَبِعَهُ صَخْرٌ حَتَّى افْتَدَاهُ مِنْهُ فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، وَكَانَ صَنَّاعًا فَعُتِقَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ نُجَبَاءُ وَتَزَوَّجَ أَبُو سُفْيَانَ ابْنَتَهُ الصَّعْبَةَ فَصَارَتْ دَعْوَاهُمْ فِي آلِ حَرْبٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ وَالِدُ طَلْحَةَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ فَوَلَدَتْ لَهُ طَلْحَةَ.

قَالَ وَقَالَ غَيْرُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ كُلْثُومَ بْنَ رَزِينٍ أَوْ أَخَاهُ الْأَسْوَدَ خَرَجَ تَاجِرًا فَرَأَى بِحَضْرَمَوْتَ عَبْدًا فَارِسًا نَجَّارًا يُقَالُ لَهُ زَهْرَمْزُ، فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ وَكَانَ حِمْيَرِيًّا يُكَنَّى أَبَا رِفَاعَةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ فَصَارَ يُقَالُ لَهُ الْحَضْرَمِيُّ حَتَّى غَلَبَ عَلَى اسْمِهِ، فَجَاوَرَ أَبَا سُفْيَانَ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ، وَكَانَ آلُ رَزِينٍ حُلَفَاءَ لِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَسْلَمَ الْعَلَاءُ قَدِيمًا وَمَاتَ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْعَلَاءُ بِالْيَمَنِ وَعَمْرُو بْنُ عَوْفٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنهم.

قَوْلُهُ: (فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بَيَانُ الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَقَدْرُهُ وَقِصَّةُ الْعَبَّاسِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَسَمِعَتِ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَقَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ

ص: 262

فِي التَّجْمِيعِ إِلَّا لِأَمْرٍ يَطْرَأُ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ، إِذْ كَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مَسْجِدٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمِ اجْتَمَعُوا لِأَمْرٍ، وَدَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَهُوَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْمَالِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَالُ رَأَوْا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حَقًّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعَدَهُمْ بِأَنْ يُعْطِيَهِمْ مِنْهُ إِذَا حَضَرَ، وَقَدْ وَعَدَ جَابِرًا بَعْدَ هَذَا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ فَوَفَّى لَهُ أَبُو بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَتَعَرَّضُوا لَهُ) أَيْ سَأَلُوهُ بِالْإِشَارَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ الْأَخْفَشُ: أَجَلْ فِي الْمَعْنَى مِثْلُ نَعَمْ، لَكِنَّ نَعَمْ يَحْسُنُ أَنْ تُقَالَ جَوَابَ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَجَلْ أَحْسَنُ مِنْ نَعَمْ فِي التَّصْدِيقِ.

قَوْلُهُ: (فَأَبْشِرُوا) أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.

قَوْلُهُ: (فَتَنَافَسُوهَا) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ طَلَبَ الْعَطَاءِ مِنَ الْإِمَامِ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ، وَفِيهِ الْبُشْرَى مِنَ الْإِمَامِ لِأَتْبَاعِهِ وَتَوْسِيعُ أَمَلِهِمْ مِنْهُ، وَفِيهِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُنَافَسَةَ فِي الدُّنْيَا قَدْ تَجُرُّ إِلَى هَلَاكِ الدِّينِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرَضِينَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ - إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْب دُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ. وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ

ثالثها: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَزَعَمَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ الْمُعَمَّرُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ قَالَ: لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ الرَّقِّيَّ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُعْتَمِرِ الْبَصْرِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَافٍ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَهَبْ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَ الْآخَرِ أَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا الْتَقَيَا مَثَلًا فِي الْحَجِّ أَوْ فِي الْغَزْوِ؟ وَمَا ذَكَرَهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ الْمُعَمَّرَ بْنَ سُلَيْمَانَ رَقِّيٌّ، وَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بَصْرِيٌّ فَمَهْمَا اسْتُبْعِدَ مِنْ لِقَاءِ الرَّقِّيِّ الْبَصْرِيَّ جَاءَ مِثْلُهُ فِي لِقَاءِ الرَّقِّيِّ لِلْبَصْرِيِّ، وَأَيْضًا فَالَّذِينَ جَمَعُوا رِجَالَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِمُ الْمُعَمَّرَ بْنَ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيَّ وَأَطْبَقُوا عَلَى ذِكْرِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ الْبَصْرِيِّ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَحَكَى أَنَّهُ قِيلَ: الصَّوَابُ فِي هَذَا مُعَمَّرُ بْنُ رَاشِدٍ يَعْنِي شَيْخَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ رَاشِدٍ رِوَايَةٌ أَصْلًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. ثُمَّ رَأَيْتُ سَلَفَ الدِّمْيَاطِيِّ فِيمَا جَزَمَ بِهِ.

فَقَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي الْمَطَالِعِ: وَقَعَ فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْجِزْيَةِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَذَا لِلْجَمِيعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالُوا: وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ، وَكَذَا كَانَ فِي أَصْلِ الْأَصِيلِيِّ فَزَادَ فِيهِ التَّاءَ وَأَصْلَحَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالَ الْأَصِيلِيُّ: الْمُعْتَمِرُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُعَمَّرُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالرَّقِّيُّ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُعْتَمِرِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَاكِمُ وَلَا الْبَاجِيُّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، الْمُعَمَّرَ بْنَ سُلَيْمَانَ، بَلْ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: يَرْوِي عَنِ الْمُعْتَمِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ رِوَايَةً.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ) هُوَ ابْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ الْمَذْكُورُ بَعْدُ، وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ) هُوَ جَدُّ زِيَادٍ، وَحَيَّةُ أَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مُثْقَلَةٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَاسْمُ جَدِّهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعْتِبٍ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِبَعِيدٍ، لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ الْفُتُوحَ فِي وَسَطِ خِلَافَةِ عُمَرَ يَكُونُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُمَيَّزًا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ أَحَدٌ إِلَّا أَسْلَمَ وَشَهِدَهَا وَهَذَا مِنْهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ كَبِيرٍ فَإِنَّ عَمَّهُ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ رَئِيسَ ثَقِيفٍ فِي زَمَانِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ابْنُ عَمِّهِ،

ص: 263

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ حَدَّثَنِي أَبِي وَلِسَعِيدٍ حَفِيدِهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْأَشْرِبَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعَمُّهُ زِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَذَكَرَ أَبُو الشَّيْخِ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ حَيَّةَ وَلِيَ إِمْرَةَ أَصْبَهَانَ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الْأَمْصَارِ) أَيْ فِي مَجْمُوعِ الْبِلَادِ الْكِبَارِ، وَالْأَفْنَاءُ بِالْفَاءِ وَالنُّونِ مَمْدُودٌ جَمْعُ فِنْوٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ إِذَا لَمْ تُعَيَّنْ قَبِيلَتُهُ. وَالْمِصْرُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْكِرْمَانِيِّ الْأَنْصَارِ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمِيمِ وَشَرَحَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضِهَا الْأَمْصَارُ.

قَوْلُهُ: (فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ) فِي السِّيَاقِ اخْتِصَارٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ إِسْلَامَ الْهُرْمُزَانِ كَانَ بَعْدَ قِتَالٍ كَثِيرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَدِينَةِ تُسْتَرَ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ عُمَرَ فَأَسَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ مَعَ أَنَسٍ فَأَسْلَمَ فَصَارَ عُمَرُ يُقَرِّبهُ وَيَسْتَشِيرُهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ - بِالتَّصْغِيرِ - ابْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ وَاطَأَ أَبَا لُؤْلُؤَةَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ فَعَدَا عَلَى الْهُرْمُزَانِ فَقَتَلَهُ بَعْدَ قَتْلِ عُمَرَ، وَسَتَأْتِي قِصَّةُ إِسْلَامِ الْهُرْمُزَانِ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ. وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا زَايٌ، وَكَانَ مِنْ زُعَمَاءِ الْفُرْسِ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي قَصْدِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ الْهُرْمُزَانَ فِي فَارِسَ وَأَصْبَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ أَيْ بِأَيِّهَا يَبْدَأُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ فِي جِهَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْهُرْمُزَانُ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَكَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَالرَّأْسُ كِسْرَى وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ وَالْجَنَاحُ الْآخَرُ فَارِسُ نَظَرٌ، لِأَنَّ كِسْرَى هُوَ رَأْسُ أَهْلِ فَارِسَ، وَأَمَّا قَيْصَرُ صَاحِبُ الرُّومِ فَلَمْ يَكُنْ كِسْرَى رَأْسًا لَهُمْ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: فَإِنَّ فَارِسَ الْيَوْمَ رَأْسٌ وَجَنَاحَانِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّ قَيْصَرَ كَانَ بِالشَّامِ ثُمَّ بِبِلَادِ الشَّمَالِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُمْ بِالْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَالْمَشْرِقِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ كِسْرَى رَأْسَ الْمُلُوكِ وَهُوَ مَلِكُ الْمَشْرِقِ وَقَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ دُونَهُ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ جَنَاحَانِ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْجَنَاحَ الثَّانِيَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ كَمُلُوكِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ مَثَلًا، لَكِنْ دَلَّتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا أَهْلَ بِلَادِهِ الَّتِي هُوَ عَالِمٌ بِهَا، وَكَأَنَّ الْجُيُوشَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ بِالْبِلَادِ الثَّلَاثَةِ، وَأَكْثَرُهَا وَأَعْظَمُهَا بِالْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا كِسْرَى لِأَنَّهُ كَانَ رَأْسُهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى) فِي رِوَايَةِ مُبَارَكٍ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ قَالَ: فَاقْطَعِ الْجَنَاحَيْنِ يَلِنْ لَكَ الرَّأْسُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ: بَلِ اقْطَعِ الرَّأْسَ أَوَّلًا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عَادَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ) بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ الْمُزَنِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ هَاجَرَ هُوَ وَإِخْوَةٌ لَهُ سَبْعَةٌ وَقِيلَ عَشَرَةٌ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِنَّ لِلْإِيمَانِ بُيُوتًا، وَإِنَّ بَيْتَ آلِ مُقَرِّنٍ مِنْ بُيُوتِ الْإِيمَانِ وَكَانَ النُّعْمَانُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بِفَتْحِ الْقَادِسِيَّةِ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِالنُّعْمَانِ يُصَلِّي فَقَعَدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنِّي مُسْتَعْمِلُكَ، قَالَ أَمَّا جَابِيًا فَلَا، وَلَكِنْ غَازِيًا، قَالَ: فَإِنَّكَ غَازٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ الزُّبَيْرُ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَمْرٍو، وَالْأَشْعَثُ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَأَرَادَ عُمَرُ الْمَسِيرَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَعَثَ النُّعْمَانَ وَمَعَهُ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَإِلَى حُذَيْفَةَ أَنْ يَسِيرَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا بِنَهَاوَنْدَ، وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَالْوَاوِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، قَالَ: وَإِذَا الْتَقَيْتُمْ فَأَمِيرُكُمُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ) وَقَدْ عُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهَا نَهَاوَنْدُ.

قَوْلُهُ: (خَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى) سَمَّاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ فِي

ص: 264

رِوَايَتِهِ بُنْدَارٌ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، فَلَعَلَّ أَحَدَهُمَا لَقَبُهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ تَرْجُمَانُ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَرْسَلَ بُنْدَارٌ إِلَيْهِمْ أَنْ أَرْسِلُوا إِلَيْنَا رَجُلًا نُكَلِّمُهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ نَهَرٌ. فَسَرَّحَ إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةَ، فَعَبَرَ النَّهَرَ، فَشَاوَرَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ أَصْحَابَهُ كَيْفَ نَقْعُدُ لِلرَّسُولِ؟ فَقَالُوا لَهُ: اقْعُدْ فِي هَيْئَةِ الْمُلْكِ وَبَهْجَتِهِ، فَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَامَ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ حَوْلَ سِمَاطَيْنِ عَلَيْهِمْ أَسَاوِرُ الذَّهَبِ وَالْقِرَطَةُ وَالدِّيبَاجُ، قَالَ: فَأَذِنَ لِلْمُغِيرَةِ فَأَخَذَ بِضَبْعَيْهِ رَجُلَانِ وَمَعَهُ رُمْحُهُ وَسَيْفُهُ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِرُمْحِهِ فِي بُسُطِهِمْ لِيَتَطَيَّرُوا وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَمَضَيْتُ وَنُكِّسَتْ رَأْسِي فَدُفِعْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ الرَّسُولَ لَا يُفْعَلُ بِهِ هَذَا.

قَوْلُهُ: (مَا أَنْتُمْ) هَكَذَا خَاطَبَهُ بِصِيغَةِ مَنْ لَا يَعْقِلُ احْتِقَارًا لَهُ، وَفِي رِوَايَته ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَصَابَكُمْ جُوعٌ وَجَهْدٌ فَجِئْتُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ مِرْنَاكُمْ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ أَعْطَيْنَاكُمُ الْمِيرَةَ أَيِ الزَّادَ وَرَجَعْتُمْ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَطْوَلُ النَّاسِ جُوعًا وَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ آمُرَ هَؤُلَاءِ الْأَسَاوِرَةَ أَنْ يَنْتَظِمُوكُمْ بِالنِّشَابِ إِلَّا تَنَجُّسًا لِجِيَفِكُمْ، قَالَ: فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ: مَا أَخْطَأْتَ شَيْئًا مِنْ صِفَتِنَا، كَذَلِكَ كُنَّا، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولَهُ.

قَوْلُهُ: (نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي شَرَفٍ مِنَّا، أَوْسَطُنَا حَسَبًا، وَأَصْدَقُنَا حَدِيثًا

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ) هَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِيهِ إِخْبَارُ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقِتَالِ الْمَجُوسِ حَتَّى يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، فَفِيهِ دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ النُّعْمَانُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُخْتَصَرًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُ النُّعْمَانِ، لِلْمُغِيرَةِ رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الشِّدَّةِ، وَقَوْلُهُ فَلَمْ يُنَدِّمْكَ أَيْ مَا لَقِيتَ مَعَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَمْ يُحْزِنْكَ أَيْ لَوْ قُتِلْتَ مَعَهُ لِعِلْمِكَ بِمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ وَثَوَابِ الشَّهَادَةِ، قَالَ وَقَوْلُهُ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ إِلَخْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَابْتِدَاءُ قِصَّةٍ أُخْرَى أهـ.

وَقَدْ بَيَّنَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ ارْتِبَاطَ كَلَامِ النُّعْمَانِ بِمَا قَبْلَهُ، وَبِسِيَاقِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ قِصَّةً مُسْتَأْنَفَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ أَنْكَرَ عَلَى النُّعْمَانِ تَأْخِيرَ الْقِتَالِ فَاعْتَذَرَ النُّعْمَانُ بِمَا قَالَهُ، وَمَا أَوَّلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَلَمْ يُنَدِّمْكَ إِلَخْ فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَلَمْ يُنَدِّمْكَ أَيْ عَلَى التَّأَنِّي وَالصَّبْرِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُحْزِنْكَ شَرْحُهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ مِنَ الْحُزْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِغَيْرِ نُونٍ وَهُوَ أَوْجَهُ لِوِفَاقِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى وَلَفْظُ مُبَارَكٍ مُلَخَّصًا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا النَّهَرَ أَوْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ، قَالَ النُّعْمَانُ اعْبُرُوا إِلَيْهِمْ، قَالَ فَتَلَاقَوْا وَقَدْ قَرَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ خَلْفَهُمْ لِئَلَّا يَفِرُّوا، قَالَ: فَرَأَى الْمُغِيرَةُ كَثْرَتَهُمْ فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فَشَلًا أَنَّ عَدُوَّنَا يُتْرَكُونَ يَتَأَهَّبُونَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيَّ لَقَدْ أَعْجَلْتُهُمْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَصَافَفْنَاهُمْ، فَرَشَقُونَا حَتَّى أَسْرَعُوا فِينَا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ، لِلنُّعْمَانِ: إِنَّهُ قَدْ أَسْرَعَ فِي النَّاسِ فَلَوْ حَمَلْتَ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: إِنَّكَ لَذُو مَنَاقِبَ، وَقَدْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهَا وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ قَدْ كَانَ اللَّهُ أَشْهَدَكَ أَمْثَالَهَا، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أُنَاجِزَهُمْ إِلَّا شَيْءٌ شَهِدْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ -.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ) جَمْعُ رِيحٍ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، لَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ انْقَلَبَتْ يَاءً وَالْجَمْعُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ جِنِّيٍّ جَمْعَ رِيحٍ عَلَى أَرْيَاحٍ.

قَوْلُهُ: (وَتَحْضُرُ الصَّلَوَاتُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَتَزُولُ الشَّمْسُ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى ; وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ:

ص: 265

وَيَطِيبُ الْقِتَالُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَيَنْزِلُ النَّصْرُ وَزَادَ مَعًا وَاللَّفْظُ لِمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ النُّعْمَانُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُقِرَّ عَيْنِي الْيَوْمَ بِفَتْحٍ يَكُونُ فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَذُلُّ الْكُفْرِ وَالشَّهَادَةُ لِي ثُمَّ قَالَ إِنِّي هَازٌّ اللِّوَاءَ فَتَيَسَّرُوا لِلْقِتَالِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَلْيَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ هَازُّهُ الثَّانِيَةَ فَتَأَهَّبُوا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَلْيَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَرْمِي مِنْ سِلَاحِهِ، ثُمَّ هَازُّهُ الثَّالِثَةَ فَاحْمِلُوا، وَلَا يَلْوِيَنَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ قُتِلْتُ، فَإِنْ قُتِلْتُ فَعَلَى النَّاسِ حُذَيْفَةُ. قَالَ فَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا يَوْمَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَظْفَرَ.

فَثَبَتُوا لَنَا، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَجَعَلَ الْوَاحِدُ يَقَعُ عَلَى الْآخَرِ فَيَقْتُلُ سَبْعَةً، وَجَعَلَ الْحَسَكُ الَّذِي جَعَلُوهُ خَلْفَهُمْ يَعْقِرُهُمْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَوَقَعَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَنْ بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَجَعَلَ النُّعْمَانُ يَتَقَدَّمُ بِاللِّوَاءِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْفَتْحُ جَاءَتْهُ نَشَّابَةٌ فِي خَاصِرَتِهِ فَصَرَعَتْهُ، فَسَجَّاهُ أَخُوهُ مَعْقِلٌ ثَوْبًا وَأَخَذَ اللِّوَاءَ، وَرَجَعَ النَّاسُ فَنَزَلُوا وَبَايَعُوا حُذَيْفَةَ، فَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ: وَسَمَّاهُ سَيْفٌ فِي الْفُتُوحِ طَرِيفَ بْنَ سَهْمٍ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ أَنَّهُ ذَهَبَ بِالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا تَرَافَقَا، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِلنُّعْمَانِ وَمَعْرِفَةُ الْمُغِيرَةِ بِالْحَرْبِ وَقُوَّةُ نَفْسِهِ وَشَهَامَتُهُ وَفَصَاحَتُهُ وَبَلَاغَتُهُ، وَلَقَدِ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ هَذَا الْوَجِيزُ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَنَحْوِهِمَا، وَعَلَى أَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَعَلَى مُعْتَقَدِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانِ بِالْمِعَادِ، وَعَلَى بَيَانِ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِخْبَارِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَوُقُوعِهَا كَمَا أَخْبَرَ، وَفِيهِ فَضْلُ الْمَشُورَةِ وَأَنَّ الْكَبِيرَ لَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي مُشَاوَرَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَكُونُ أَمِيرًا عَلَى الْأَفْضَلِ، لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ فِي جَيْشٍ عَلَيْهِ فِيهِ

النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَالزُّبَيْرُ أَفْضَلُ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَمِثْلُهُ تَأْمِيرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَجَوْدَةُ تَصَوُّرِ الْهُرْمُزَانِ وَلِذَلِكَ اسْتَشَارَهُ عُمَرُ، وَتَشْبِيهٌ لِغَائِبِ الْمَجُوسِ بِحَاضِرٍ مَحْسُوسٍ لِتَقْرِيبِهِ إِلَى الْفَهْمِ، وَفِيهِ الْبُدَاءَةُ بِقِتَالِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَبَيَانُ مَا كَانَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْفَقْرِ وَشَظَفِ الْعَيْشِ، وَالْإِرْسَالُ إِلَى الْإِمَامِ بِالْبِشَارَةِ، وَفَضْلُ الْقِتَالِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُغِيرُ صَبَاحًا لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ الْمُصَافَفَةِ وَذَاكَ عِنْدَ الْغَارَةِ.

‌2 - بَاب إِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ مَلِكَ الْقَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ؟

3161 -

حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ مَلِكَ الْقَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ)؟ أَيْ لِبَقِيَّةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.

أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ فَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ بَغْلَةً الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ وَكَسَاهُ بُرْدًا كَذَا فِيهِ بِالْوَاوِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالْفَاءِ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ فَاعِلَ كَسَا هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 266

وَقَوْلُهُ بِبَحْرِهِمْ أَيْ بِقَرْيَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَقَعْ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ صِيغَةُ الْأَمَانِ وَلَا صِيغَةُ الطَّلَبِ لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الْعَادَةِ فِي أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي أَهْدَى إِنَّمَا طَلَبَ إِبْقَاءَ مُلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مُلْكُهُ بِبَقَاءِ رَعِيَّتِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مُوَادَعَتَهُ مُوَادَعَةٌ لِرَعِيَّتِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَكْفِي فِي مُطَابَقَةِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ غَيْرِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ فَقَالَ لَمَّا انْتَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ بَحْنَةُ بْنُ رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِـ بَحْنَةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ فَذَكَرَهُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا صَالَحَ مَلِكَ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ بَقِيَّتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَكْسِ ذَلِكَ هُوَ مَا إِذَا اسْتَأْمَنَ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ هَلْ يَدْخُلُ هُوَ فِيهِمْ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ لَفْظًا، وَقَالَ أَصْبَغُ، وَسَحْنُونٌ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ يَكْتَفِي بِالْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذِ الْأَمَانَ لِغَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ يَقْصِدُ إِدْخَالَ نَفْسِهِ.

‌3 - بَاب الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ، وَالْإِلُّ: الْقَرَابَةُ

3162 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قُلْنَا: أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الْوَصَاةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفًا بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، تَقُولُ وَصَّيْتُهُ وَأَوْصَيْتُهُ تَوْصِيَةً وَالِاسْمُ الْوَصَاةُ وَالْوَصِيَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَصَايَا.

قَوْلُهُ: (وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْإِلُّ الْقَرَابَةُ) هُوَ تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ

كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ الْإِلُّ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَالْيَمِينُ، وَمَجَازُ الذِّمَّةِ التَّذَمُّمُ وَالْجَمْعُ ذِمَمٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُطْلَقُ الْإِلُّ أَيْضًا عَلَى الْعَهْدِ وَعَلَى الْجِوَارِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْإِلُّ اللَّهُ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ الضُّبَعِيُّ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجُوَيْرِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ بِالْجِيمِ مُصَغَّرٌ مَالَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي قِصَّةِ مَقْتَلِ عُمَرَ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي مَنَاقِبِهِ، وَقِيلَ إِنَّ جُوَيْرِيَةَ هَذَا هُوَ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ مَا يُقَوِّيهِ، فَإِنْ ثَبَتَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ قُلْتُ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَطِيقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ أَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ والْحَضُّ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَالْإِصْلَاحُ لِمَعَانِي الْمَالِ وَأُصُولِ الِاكْتِسَابِ.

ص: 267

‌4 - بَاب مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْبَحْرَيْنِ،

وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَيْءُ وَالْجِزْيَةُ

3163 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: ذَاكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ يَقُولُونَ لَهُ. قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ

3164 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي: لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا. فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ قَالَ لِي: لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَأَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَقَالَ لِي: احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لِي: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ، فَأَعْطَانِي أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةٍ.

3165 -

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، فإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فقَالَ: خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَالْجِزْيَةِ وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَيْءُ وَالْجِزْيَةُ) اشْتَمَلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ ثَلَاثَةٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ.

فَأَمَّا إِقْطَاعُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِذَلِكَ وَأَشَارَ عَلَى الْأَنْصَارِ بِهِ مِرَارًا فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا تَرَكَهُ، فَنَزَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا بِالْقُوَّةِ مَنْزِلَةَ مَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِحٌ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْبَلَدُ الْمَشْهُورُ بِالْعِرَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَالَحَهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ. وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِقْطَاعِهَا لِلْأَنْصَارِ تَخْصِيصُهُمْ بِمَا يَتَحَصَّلُ مِنْ جِزْيَتِهَا وَخَرَاجِهَا لَا تَمْلِيكَ رَقَبَتِهَا لِأَنَّ أَرْضَ الصُّلْحِ

ص: 268

لَا تُقْسَمُ وَلَا تُقْطَعُ. وَأَمَّا مَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَالْجِزْيَةِ فَحَدِيثُ جَابِرٍ دَالٌّ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَى فِي الْخُمُسِ مَشْرُوحًا.

وَأَمَّا مَصْرِفُ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ فَعَطْفُ الْجِزْيَةِ عَلَى الْفَيْءِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْفَيْءُ كُلُّ مَا حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمُعَلَّقُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الْمُعَلَّقِ بِعَيْنِهِ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ وَبَعْضَ فَوَائِدِهِ، وَأَعَادَهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْخُمُسِ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْبَحْرَيْنِ كَانَ مِنَ الْجِزْيَةِ وَأَنَّ مَصْرِفَ الْجِزْيَةِ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ، وَأَنَّ الْمُصَنِّفَ يَخْتَارُ أَنَّهُ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الطَّوِيلِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ يَخْتَصِمَانِ قَالَ قَرَأَ عُمَرُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الْآيَةَ، فَقَالُوا: اسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَالَ فِيهِ فَاسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ النَّاسَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ فِيهَا حَقٌّ، إِلَّا بَعْضُ مَنْ تَمْلِكُونَ مِنْ أَرِقَّائِكُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حُكْمُ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَاحِدٌ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْعُشْرِ إِذَا اتَّجَرُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ يُعَمُّ بِهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَتُصْرَفُ مِنْهُ أَعْطِيَةُ الْمُقَاتِلَةِ وَأَرْزَاقُ الذُّرِّيَّةِ وَمَا يَنُوبُ الْإِمَامُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي قَسْمِ الْفَيْءِ: فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى التَّسْوِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ إِلَى التَّفْضِيلِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ فَضَّلَ وَإِنْ شَاءَ سَوَّى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَحَادِيثُ الْبَابِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ يَشْتَرِطُ التَّعْمِيمَ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ فِي قِسْمَةٍ مِنْ يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْأَعْزَبَ حَظًّا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: انْفَرَدَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي الْفَيْءِ الْخُمُسَ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَلَا يُحْفَظُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، لِأَنَّ الْآيَاتِ التَّالِيَاتِ لِآيَةِ الْفَيْءِ مَعْطُوفَاتٍ عَلَى آيَةِ الْفَيْءِ مِنْ قَوْلِهِ:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إِلَى آخِرِهَا فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَ الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ، لِمَنْ ذُكِرَ فِيهَا فَقَطْ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَعْطِيَةَ الْمُقَاتِلَةِ وَأَرْزَاقَ الذُّرِّيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْخُمُسُ فَجَعَلَ خُمُسَ الْفَيْءِ وَاجِبًا لَهُمْ، وَخَالَفَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْفَيْءِ لَا يَخْتَصُّ بِفَقِيرِهِمْ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ فِي قَوْلِ عُمَرَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ إِلَّا وَلَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، قَالَ يَقُولُ: الْفَيْءُ لِلْغَنِيِّ وَلِلْفَقِيرِ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

‌5 - بَاب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ

3166 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو، وحَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ

ص: 269

مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا.

[الحديث 3166 - طرفه في: 6914]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ) كَذَا قَيَّدَهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَيْسَ التَّقْيِيدُ فِي الْخَبَرِ، لَكِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَوَقَعَ مَنْصُوصًا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْآتِي ذِكْرُهَا بِلَفْظِ: بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي الدِّيَاتِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ.

وعَبْدُ الْوَاحِدِ شَيْخُ شَيْخِهِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْفُقَيْمِيُّ بِالْفَاءِ وَالْقَافِ مُصَغَّرا كُوفِيٌّ ثِقَةٌ مَالَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الْأَدَبِ.

قَوْلُهُ: (مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ، كَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ،، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، وَتَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَعَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْفُقَيْمِيُّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ رَوَوْهُ هَكَذَا، وَخَالَفَهُمْ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَرَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو فَزَادَ فِيهِ رَجُلًا بَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ النَّسَائِيُّ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةَ مَرْوَانَ لِأَجْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، لَكِنَّ سَمَاعَ مُجَاهِدٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ثَابِتٌ، وَلَيْسَ بِمُدَلِّسٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدٌ سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ جُنَادَةَ ثُمَّ لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَوْ سَمِعَاهُ مَعًا وَثَبَّتَهُ فِيهِ جُنَادَةُ فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو تَارَةً وَحَدَّثَ بِهِ عَنْ جُنَادَةَ أُخْرَى، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوِ اخْتِلَافِ لَفْظٍ فَإِنَّ لَفْظَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ فَقَالَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مُعَاهَدًا وَهُوَ بِالْمَعْنَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجَمِيعِ أَرْبَعِينَ عَامًا إِلَّا عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الْغَفَّارِ فَقَالَ: سَبْعِينَ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.

(تَنْبِيهَانِ):

أَحَدُهُمَا اتَّفَقَتِ النُّسَخُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَيَّانِيُّ. ثَانِيهمَا قَوْلُهُ لَمْ يَرَحْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَأَصْلُهُ يَرَاحُ أَيْ وَجَدَ رِيحَ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ ضَمَّ أَوَّلِهِ وَكَسْرَ الرَّاءِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ ثَالِثَةً وَهُوَ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَكَسْرُ ثَانِيهِ مِنْ رَاحَ يَرِيحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌6 - بَاب إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ

وَقَالَ عُمَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ

3167 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَقَالَ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

[الحديث 3167 - طرفاه في: 6944، 7248]

3168 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ. ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا

ص: 270

عَبَّاسٍ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: مَا لَهُ؟ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ. فَقَالَ: ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَالثَّالِثَةُ إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا، وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ هَلْ يُسْتَشْفَعُ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ وَلَفْظُهُ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ فَيَكُونُ إِخْرَاجُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَفِي الِاعْتِصَامِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِنَسَبِ الْيَهُودِ الْمَذْكُورِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ بَقَايَا مِنَ الْيَهُودِ تَأَخَّرُوا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ إجْلَاءِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَالْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْمَغَازِي، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَمَرُّوا إِلَى أَنْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ، وَيُحْتَمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ فَتَحَ مَا بَقِيَ مِنْ خَيْبَرَ هَمَّ بِإِجْلَاءِ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ صَالَحَ مِنَ الْيَهُودِ ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ لِيَعْمَلُوا فِي الْأَرْضِ فَبَقَّاهُمْ، أَوْ كَانَ قَدْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ الْمَذْكُورِينَ طَائِفَةٌ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُعْتَمِدِينَ عَلَى الرِّضَا بِإِبْقَائِهِمْ لِلْعَمَلِ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ ثُمَّ مَنَعَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سُكْنَى الْمَدِينَةِ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بَلْ سِيَاقُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ بَنُو النَّضِيرِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى مَجِيءِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبَيْتُ الْمِدْرَاسِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي يُدْرَسُ فِيهِ كِتَابُهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْمِدْرَاسِ

الْعَالِمُ الَّذِي يَدْرُسُ كِتَابَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى حَتَّى أَتَى الْمِدْرَاسَ وَقَوْلُهُ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا مِنَ الْجِنَاسِ الْحَسَنِ لِسُهُولَةِ لَفْظِهِ وَعَدَمِ تَكَلُّفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي كِتَابِ هِرَقْلَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَقَوْلُهُ: اعْلَمُوا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِ قَوْلِهِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا: لِمَ قُلْتَ هَذَا وَكَرَّرْتَهُ؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ سَلِمْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمِمَّا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ: قَدْ بَلَّغْتُ

(1)

كَلِمَةَ مَكْرٍ وَمُدَاجَاةٍ لِيُدَافِعُوهُ بِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُهَا وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أُرِيدُ أَيِ التَّبْلِيغَ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ) مِنَ الْوِجْدَانِ أَيْ يَجِدْ مُشْتَرِيًا، أَوْ مِنَ الْوَجْدِ أَيِ الْمَحَبَّةِ أَيْ يُحِبُّهُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ فِرَاقُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مِمَّا يَعْسُرُ تَحْوِيلُهُ فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ.

ثَانِيهمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ) مُحَمَّدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ،

(1)

في هامش طبعة بولاق: وقولهم: "قد بلغت" وقوله بعده: "ذلك أريد" كذا في نسخ الشرح التي بأيدينا، وليس في نسخ البخاري شيء من ذلك، فلعلها رواية وقعت له فكتب عليها.

ص: 271

حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ الْمَتْنِ فِي الْوَفَاةِ آخِرَ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ إِخْرَاجَ كُلِّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِمْ كَعَمَلِ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَقَرَّ عُمَرُ مَنْ أَقَرَّ بِالسَّوَادِ وَالشَّامِ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَلْ يَلْتَحِقُ بِهَا مَا كَانَ عَلَى حُكْمِهَا.

‌7 - بَاب إِذَا غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ؟

3169 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعُوا لي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ. فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ

[الحديث 3169 - طرفاه في: 4249، 5777]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ فِي سُمِّ الشَّاةِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَلَمْ يَجْزِمِ الْبُخَارِيُّ بِالْحُكْمِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي مُعَاقَبَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَهْدَتِ السُّمَّ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌8 - بَاب دُعَاءِ الْإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا

3170 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنْ الْقُنُوتِ قَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلَانًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ - يَشُكُّ فِيهِ - مِنْ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ

قَوْلُهُ: (بَابُ دُعَاءِ الْإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْقُنُوتِ.

وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي

ص: 272

كِتَابِ الْوِتْرِ. وَقَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ) أَوَّلُهُ تَحْتَانِيَّةٌ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ فِيهِ زَيْدٌ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَعَاصِمٌ شَيْخُهُ هُوَ الْأَحْوَلُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

‌9 - بَاب أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ

3171 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ ابنة أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ ابنة أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ؛ فُلَانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَلِكَ ضُحًى

قَوْلُهُ: (بَابُ أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهنَّ) الْجِوَارُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا الْمُجَاوَرَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِجَارَةُ، تَقُولُ جَاوَرْتُهُ أُجَاوِرُهُ مُجَاوَرَةً وَجِوَارًا، وَأَجَرْتُهُ أُجِيرُهُ إِجَارًا وَجِوَارًا.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرَادِ بِفُلَانِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِهِ، وَوَقَعَ هُنَا لِلدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ وَهَمٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهَمٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَالَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا يَوْمُ الْفَتْحِ عَلَى الصَّوَابِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ الْمَرْأَةِ، إِلَّا شَيْئًا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ - يَعْنِي ابْنَ الْمَاجِشُونِ صَاحِبَ مَالِكٍ - لَا أَحْفَظُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ قَالَ: إِنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ إِلَى الْإِمَامِ، وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ عَلَى قَضَايَا خَاصَّةٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى إِغْفَالِ هَذَا الْقَائِلِ انْتَهَى. وَجَاءَ عَنْ سَحْنُونٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فَقَالَ: هُوَ إِلَى الْإِمَامِ، إِنْ أَجَازَهُ جَازَ وَإِنْ رَدَّهُ رُدَّ.

‌10 - بَاب ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ

3172 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ: فِيهَا الْجِرَاحَاتُ، وَأَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَالْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجِوَارُهُمْ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي الصَّحِيفَةِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ

ص: 273

هُوَ ابْنُ سَلَامٍ نَسَبَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ مِثْلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَدِينَةِ حَدَثًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ التَّرْجَمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ فَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ ; وَيَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: أَدْنَاهُمْ أَيْ أَقَلُّهُمْ كُلُّ وَضِيعٍ بِالنَّصِّ وَكُلُّ شَرِيفٍ بِالْفَحْوَى فَدَخَلَ فِي أَدْنَاهُمُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ.

فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَأَجَازَ الْجُمْهُورُ أَمَانَهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَاتَلَ جَازَ أَمَانُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ صَحَّ أَمَانُهُ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ أَمَانَ الصَّبِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ قُلْتُ: وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُشْعِرُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْقِلُ، وَالْخِلَافُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ بِلَا خِلَافٍ كَالْكَافِرِ. لَكِنْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ غَزَا الذِّمِّيُّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّنَ أَحَدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ أَمْضَاهُ وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْأَسِيرَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَقَالَ: لَا يَنْفُذُ أَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ. وَقَدْ مَضَى كَثِيرٌ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَتَأْتِي بَقِيَّتُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌11 - بَاب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ

وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتْرَسْ فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا. وَقَالَ: تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالُوا) أَيِ الْمُشْرِكُونَ حِينَ يُقَاتِلُونَ (صَبَأْنَا) أَيْ وَأَرَادُوا الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا (وَلَمْ يُحْسِنُوا أَسْلَمْنَا) أَيْ جَرْيًا مِنْهُمْ عَلَى لُغَتِهِمْ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْقِتَالِ عَنْهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُعْتَبَرُ بِأَدَاتِهَا كَيْفَمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ لَفْظِيَّةً أَوْ غَيْرَ لَفْظِيَّةٍ بِأَيِّ لُغَةٍ كَانَتْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنَ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ غَزَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا فَقَالُوا: صَبَأْنَا وَأَرَادُوا أَسْلَمْنَا، فَلَمْ يَقْبَلْ خَالِدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَقَتَلَهُمْ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى مِنْ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَقَدْ عَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُدْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا قَضَى بِجَوْرٍ أَوْ بِخِلَافِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ، لَكِنْ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْإِثْمَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا الضَّمَانُ فَيَلْزَمُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: مَا كَانَ فِي قَتْلٍ أَوْ جِرَاحٍ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَلْزَمُ فِيهِ ضَمَانٌ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُتَمَسَّكُ بِهَا فِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ يُتَرْجِمُ بِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يُورِدْهُ فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ فَإِنَّهُ تَرْجَمَ بِقَوْلِهِ صَبَأْنَا وَلَمْ يُورِدْهَا، وَاكْتَفَى بِطَرَفِ الْحَدِيثِ الَّذِي وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتْرَس فَقَدْ أَمَّنَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ نُحَاصِرُ قَصْرَ فَارِسَ فَقَالَ: إِذَا حَاصَرْتُمْ قَصْرًا

ص: 274

فَلَا تَقُولُوا انْزِلْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ، وَإِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَقَالَ لَا تَخَفْ فَقَدْ أَمَّنَهُ، وَإِذَا قَالَ مَتْرَس فَقَدْ أَمَّنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا وَأَوَّلُ هَذَا الْأَثَرِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَمَتْرَس كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مَعْنَاهَا لَا تَخَفْ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَقَدْ تُخَفَّفُ التَّاءُ وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ مِنَ الْعَجَمِ، وَقِيلَ بِإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيِّ مَطْرَس بِالطَّاءِ بَدَلَ الْمُثَنَّاةِ، قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: هِيَ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَ فَخَّمَ الْمُثَنَّاةَ فَصَارَتْ تُشْبِهُ الطَّاءَ كَمَا يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ) فَاعِلُ قَالَ هُوَ عُمَرُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ حَاصَرْنَا تُسْتَرَ، فَنَزَلَ الْهُرْمُزَانُ عَلَى حُكْمِ عُمَرَ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِ عَلَيْهِ اسْتَعْجَمَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، وَكَانَ ذَلِكَ تَأْمِينًا مِنْ عُمَرَ وَرَوَيْنَاهُ مُطَوَّلًا فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، وَفِي نُسْخَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنْهُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَعَثَ مَعِي أَبُو مُوسَى، بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَرَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يُكَلِّمُهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ، قَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ كَلَامُ مَيِّتٍ؟ قَالَ تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، قَالَ فَأَرَادَ قَتْلَهُ فَقُلْتُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، قَدْ قُلْتَ لَهُ تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ، فَقَالَ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَشَهِدَ لِيَ الزُّبَيْرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَتَرَكَهُ فَأَسْلَمَ، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ. يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا نَسِيَ حُكْمَهُ فَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِهِ نَفَّذَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ فَشَهِدَ الثَّانِي بِوَفْقِهِ انْتَفَتِ الرِّيبَةُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَةِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا الْمُرَادُ اللُّغَاتُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ لُغَةً: سِتَّةَ عَشَرَ فِي وَلَدِ سَامٍ، وَمِثْلُهَا فِي وَلَدِ حَامٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي وَلَدِ يَافِثَ.

‌12 - بَاب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ

وَقَوْلِهِ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} - جنحوا: طلبوا السلم - {فَاجْنَحْ لَهَا} الْآيَةَ

3173 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ - فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا فَقَالَ: أتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ - أَوْ صَاحِبَكُمْ - قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: فَتُبْرِئكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ) أَيْ كَالْأَسْرَى.

قَوْلُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} - جَنَحُوا طَلَبُوا السَّلْمَ - {فَاجْنَحْ لَهَا} أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَفْسِيرُ {جَنَحُوا} بطَلَبُوا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى {جَنَحُوا} مَالُوا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَاحِدٌ وَهُوَ الصُّلْحُ. وَقَالَ

ص: 275

أَبُو عُمَرَ: وَالسَّلْمُ بِالْفَتْحِ الصُّلْحُ، وَالسِّلْمُ بِالْكَسْرِ الْإِسْلَامُ. وَمَعْنَى الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصُّلْحِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْأَحَظُّ لِلْإِسْلَامِ الْمُصَالَحَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ ظَاهِرًا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُصَالَحَةِ فَلَا.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَقَتْلِهِ بِخَيْبَرَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: انْطَلَقَ إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ وَفَهِمَ الْمُهَلَّبُ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ أَنَّهُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ فَقَالَ: إِنَّمَا وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ وَطَمَعًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَرُدُّهُ مَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ سَبَبَ إِعْطَائِهِ دِيَتَهُ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ أَهْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبًا لِذَلِكَ. وَبِهَذَا تَتِمُّ التَّرْجَمَةُ. وَأَمَّا أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ مُوَادَعَةِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ كَشَغْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ حَرْبِهِمْ. وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا ضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ جَازَتْ لَهُمْ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ يُعْطُونَهُمْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْمُسْلِمِينَ شَهَادَةٌ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ يُكَفُّوا عَنْهُمْ، إِلَّا فِي حَالَةِ مَخَافَةِ اصْطِلَامِ الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الضَّرُورَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ يُطْلَقْ إِلَّا بِفِدْيَةٍ جَازَ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِثْمُ مَنْ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يُشْعِرُ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْقَسَامَةِ مِنْ كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ):

قَوْلُهُ فِي نَسَبِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ابْنِ زَيْدٍ يُقَالُ إِنَّ الصَّوَابَ كَعْبٌ بَدَلَ زَيْدٍ.

‌13 - بَاب فَضْلِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ

3174 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَادَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الْغَدْرَ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الرُّسُلِ.

‌14 - بَاب هَلْ يُعْفَى عَنْ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

3175 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ

[الحديث 3175 - أطرافه في: 2268، 5763، 5765، 5766، 6063، 6391]

ص: 276

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يُقْتَلُ سَاحِرُ أَهْلِ الْعَهْدِ لَكِنْ يُعَاقَبُ، إِلَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ فَيُقْتَلُ، أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْخَلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ نُقِضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: يُقْتَلُ السَّاحِرُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَالزِّنْدِيقِ. وَقَوْلُهُ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَخْ وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ هَكَذَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَرْجَمَ بِلَفْظِ الذِّمِّيِّ وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ بِلَفْظِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَأَجَابَ بِلَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْأَوَّلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَمُرَادُهُ مَنْ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا حُجَّةَ لِابْنِ شِهَابٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ السِّحْرَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْوَحْيِ وَلَا فِي بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ اعْتَرَاهُ شَيْءٌ مِنَ التَّخَيُّلِ، وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ عَلَيْهِ لِيَقْطَعَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِ السِّحْرِ مَا يَنَالُ الْمَرِيضَ مِنْ ضَرَرِ الْحُمَّى. قُلْتُ: وَلِهَذَا الِاحْتِمَالِ لَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ.

ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ وَأَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عُوفِيَ أَمَرَ بِالْبِئْرِ فَرُدِمَتْ وَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَامًّا فِي كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌15 - بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ الْغَدْرِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الآية

3176 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ - فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُحْذَرُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا (مِنَ الْغَدْرِ).

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الْآيَةَ) هُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْغَدْرِ، وَحَسْبُ بِإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَافٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ احْتِمَالَ طَلَبِ الْعَدُوِّ لِلصُّلْحِ خَدِيعَةً لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِذَا ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُعْزَمُ وَيُتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَفِي تَصْرِيحِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بِالسَّمَاعِ لَهُ مِنْ بُسْرٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ زَيْدَ بْنَ وَاقِدٍ فَهُوَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ لَيْسَ فِيهَا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ.

قَوْلُهُ: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الْوَلِيدِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

ص: 277

فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ. فَقَالَ ادْخُلْ. فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: كُلُّكَ. فَدَخَلْتُ فَقَالَ الْوَلِيدُ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ.

قَوْلُهُ: (سِتًّا) أَيْ سِتَّ عَلَامَاتٍ لِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ لِظُهُورِ أَشْرَاطِهَا الْمُقْتَرِبَةِ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مُوتَانِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، قَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ الْمَوْتُ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْمَوْتُ الْكَثِيرُ الْوُقُوعِ، وَيُقَالُ بِالضَّمِّ لُغَةُ تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ يَفْتَحُونَهَا. وَيُقَالُ لِلْبَلِيدِ مَوْتَانُ الْقَلْبِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالسُّكُونِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَغْلَطُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فَيَقُولُ مَوَتَانٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْوَاوِ، وَإِنَّمَا ذَاكَ اسْمُ الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تُحْيَا بِالزَّرْعِ وَالْإِصْلَاحِ.

(تَنْبِيهٌ):

فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ ثُمَّ مَوْتَتَانِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (كَعُقَاصِ الْغَنَمِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ

(1)

وَتَخْفِيفُ الْقَافِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الدَّوَابَّ فَيَسِيلُ مِنْ أُنُوفِهَا شَيْءٌ فَتَمُوتُ فَجْأَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنْهُ أُخِذَ الْإِقْعَاصُ وَهُوَ الْقَتْلُ مَكَانَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعِقَاصُ دَاءٌ يَأْخُذُ فِي الصَّدْرِ كَأَنَّهُ يَكْسِرُ الْعُنُقَ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ظَهَرَتْ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ) أَيْ كَثْرَتُهُ، وَظَهَرَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ عِنْدَ تِلْكَ الْفُتُوحِ الْعَظِيمَةِ، وَالْفِتْنَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا افْتُتِحَتْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَاسْتَمَرَّتِ الْفِتَنُ بَعْدَهُ، وَالسَّادِسَةُ لَمْ تَجِئْ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (هُدْنَةٌ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ هِيَ الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ بَعْدَ التَّحَرُّكِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَنِي الْأَصْفَرِ) هُمُ الرُّومُ.

قَوْلُهُ: (غَايَةٍ) أَيْ رَايَةٍ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا غَايَةُ الْمُتَّبِعِ إِذَا وَقَفَتْ وَقَفَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ذِي مِخْبَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي نَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ رَايَةٍ بَدَلَ غَايَةٍ.

وَفِي أَوَّلِهِ سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا أَمْنًا، ثُمَّ تَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا فَتُنْصَرُونَ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ مَرْجًا فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلِيبِ الصَّلِيبَ، فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُومُ إِلَيْهِ فَيَدْفَعُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ فَيَأْتُونَ فَذَكَرَهُ. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا وَقَعَتِ الْمَلَاحِمُ بَعَثَ اللَّهُ بَعْثًا مِنَ الْمَوَالِي يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِمُ الدِّينَ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا: الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَفَعَهُ: بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ سِتُّ سِنِينَ، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي السَّابِعَةِ وَإِسْنَادُهُ أَصَحُّ مِنْ إِسْنَادِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ غَابَةٍ بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْغَابَةُ الْأَجَمَةُ كَأَنَّهُ شَبَّهَ كَثْرَةَ الرِّمَاحِ بِالْأَجَمَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْغَابَةُ الْغَيْضَةُ، فَاسْتُعِيرَتْ لِلرَّايَاتِ تُرْفَعُ لِرُؤَسَاءِ الْجَيْشِ لِمَا يُشْرَعُ مَعَهَا مِنَ الرِّمَاحِ، وَجُمْلَةُ الْعَدَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ تِسْعُمِائَةِ أَلْفٍ وَسِتُّونَ أَلْفًا، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ أَلْفُ أَلْفٍ فَأُلْغِيَتْ كُسُورُهُ.

وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ذِي مِخْبَرٍ، وَلَفْظُهُ: فَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ، فَيَأْتُونَ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَابَةً تَحْتَ كُلِّ غَابَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: تَذَاكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَشَيْخُنَا مِنْ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَكَانَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عُمْرَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: الْمُهَلَّبُ فِيهِ أَنَّ الْغَدْرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ ظَهَرَ أَكْثَرُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَمَّا قِصَّةُ الرُّومِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَى الْآنَ وَلَا بَلَغَنَا أَنَّهُمْ غَزَوْا فِي الْبَرِّ فِي هَذَا الْعَدَدِ فَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ بَعْدُ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ وَنِذَارَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ كَثْرَةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَدَ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ سَيَكُونُ

(1)

في هامش طبعة بولاق: كذا في نسخ الشارح التي بأيدينا، والذي في نسخ البخاري بتقديم القاف على العين، وبه ضبط القسطلاني، وهو المنصوص في كتب اللغة والمتعين من قول أبي عبيد، ومنه أخذ الاقعاص.

ص: 278

أَضْعَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِمُعَاذٍ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، فَقَدْ وَقَعَ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ، يَعْنِي: مَوْتَهُ صلى الله عليه وسلم، وَفَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالطَّاعُونَ، قَالَ: وَبَقِيَ ثَلَاثٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: إنَّ لِهَذَا أَهْلًا. وَوَقَعَ فِي الْفِتَنِ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ تَكُونُ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ عَلَى يَدِ مَلِكٍ مِنْ آلِ هِرَقْلَ.

‌16 - بَاب كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الْآيَةَ

3177 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيِ: اطْرَحْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعْلِمُهُمْ بِأَنَّ الْعَهْدَ انْتَقَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَلَى مِثْلٍ، وَقِيلَ: عَلَى عَدْلٍ، وَقِيلَ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قَدْ حَارَبْتَهُمْ حَتَّى يَصِيرُوا مِثْلَكَ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَعْنَى إِذَا عَاهَدْتَ قَوْمًا فَخَشِيتَ مِنْهُمُ النَّقْضَ، فَلَا تُوقِعْ بِهِمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى تُعْلِمَهُمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ سَيُشْرَحُ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: خَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدْرَ الْمُشْرِكِينَ فَلِذَلِكَ بَعَثَ مَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ.

‌17 - بَاب إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ

وَقَوْلِ اللَّهِ: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}

3178 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا.

3179 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الْقُرْآنَ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ

ص: 279

عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ.

3180 -

قَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَشُدُّ اللَّهُ عز وجل قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ) الْغَدْرُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ: مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الْقُرْآنَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: مَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَكَرَّرَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ: هَلْ تَقُومُ مَقَامَ الْعَنْعَنَةِ فَتُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ أَوْ لَا تُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ، إِلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِيهِ؟ وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الْخَطِيبُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى مِثْلَهُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا، (وَإِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ) أَيِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ وَافَقَهُ أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا) مِنَ الْجِبَايَةِ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ، أَيْ: لَمْ تَأْخُذُوا مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (تُنْتَهَكُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ تُتَنَاوَلُ مِمَّا لَا يَحِلُّ مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.

قَوْلُهُ: (فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ) أَيْ: يَمْتَنِعُونَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعَهُ: مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَقْبَلُ مُبَالَغَةً فِي الْإِشَارَةِ إِلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لَا يُجْتَبَى إِلَيْهِمْ بَعِيرٌ وَلَا دِرْهَمٌ، قَالُوا: مِمَّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ، وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّوْصِيَةُ بِالْوَفَاءِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ لِمَا فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ نَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ التَّحْذِيرُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ ذَلِكَ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَلَمْ يَجْتَبِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَتَضِيقُ أَحْوَالُهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا الْحَدِيثُ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ لَا تُقَسَّمُ وَلَا تُبَاعُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ مَنْعُ الْخَرَاجِ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْإِنْذَارِ بِمَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ.

ص: 280

‌18 - باب

3181 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا.

[الحديث 3181 - أطرافه في: 3182، 3189، 4844، 7308]

3182 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

3183 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِيهَا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا هُوَ بِلَا تَرْجَمَةٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالطَّرِيقُ الْأُولَى مِنْهُمَا مُخْتَصَرَةٌ، وَقَدْ سَاقَهُ مِنْهَا بِتَمَامِهِ فِي الِاعْتِصَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَوَائِدِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِسْوَرِ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِصِفِّينَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالثَّانِي حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي وُفُودِ أُمِّهَا، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِهَا الْعَهْدَ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ وَقَهْرِهِمْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ مَآلَ الْغَدْرِ مَذْمُومٌ وَمُقَابِلُ ذَلِكَ مَمْدُوحٌ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ تَعَلُّقُ الْحَدِيثِ الثَّانِيِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ عَدَمَ الْغَدْرِ اقْتَضَى جَوَازَ صِلَةِ الْقَرِيبِ وَلَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْوَاصِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَسْمَاءَ فِي الْهِبَةِ مَشْرُوحًا.

وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ أَرَادَ بِهِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ لِأَبِي جَنْدَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مِنْ قِصَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَعَبْدُ

ص: 281

الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ فِي إِسْنَادِهِ بِالْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ خَفِيفَةٌ وَبِالْهَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهُوَ مَصْرُوفٌ مَعَ أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَلَمٍ عِنْدَهُمْ. وَإِنَّمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ لِأَهْلِ صِفِّينَ مَا قَالَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ كَرَاهِيَةُ التَّحْكِيمِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ لِلصُّلْحِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَعْقَبَ خَيْرًا كَثِيرًا وَظَهَرَ أَنَّ رَأْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصُّلْحِ أَتَمُّ وَأَحْمَدُ مِنْ رَأْيِهِمْ فِي الْمُنَاجَزَةِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَالِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌19 - بَاب الْمُصَالَحَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ

3184 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَني شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ، وَلَا يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ: فَأَخَذَ يَكْتُبُ الشَّرْطَ بَيْنهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نَمْنَعْكَ وَلَتابعْنَاكَ، وَلكِنِ اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَا وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ لَا يَكْتُبُ، قَالَ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: امْحَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهُ أَبَدًا، قَالَ: فَأَرِنِيهِ، قَالَ: فَأَرَاهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَمَضَتْ الْأَيَّامُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: نَعَمْ، فارْتَحَلَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُصَالَحَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ) أَيْ يُسْتَفَادُ مِنْ وُقُوعِ الْمُصَالَحَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَوَازُهَا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ تَكُنْ ثَلَاثَةً، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي الْعُمْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصُّلْحِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابَةِ الصُّلْحِ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌20 - بَاب الْمُوَادَعَةِ مِنْ غَيْرِ وَقْتٍ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُوَادَعَةِ مِنْ غَيْرِ وَقْتٍ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ فَالْمُوَادَعَةُ فِيهِ لَا حَدَّ لَهَا مَعْلُومٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، بَلْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْأَحَظَّ وَالْأَحْوَطَّ لِلْمُسْلِمِينَ.

‌21 - بَاب طَرْحِ جِيَفِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْبِئْرِ وَلَا يُؤْخَذُ لَهمْ ثَمَنٌ

3185 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النبي صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي

ص: 282

مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ وقذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام، فَأَخَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ - أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ - فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَيٍّ - فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي الْبِئْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ طَرْحِ جِيَفِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْبِئْرِ وَلَا يُؤْخَذُ لَهُمْ ثَمَنٌ)

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِيهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَمَضَى شَرْحُهُ أَيْضًا. وَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُؤْخَذُ لَهُمْ ثَمَنٌ) أَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرَادُوا أَنْ يَشْتَرُوا جَسَدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَبَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَهُمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا حَاجَةَ لَنَا بِثَمَنِهِ وَلَا جَسَدِهِ، فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلَغَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ بَذَلُوا فِيهِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَادَةَ تَشْهَدُ أَنَّ أَهْلَ قَتْلَى بَدْرٍ لَوْ فَهِمُوا أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءَ أَجْسَادِهِمْ لَبَذَلُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا شَاهِدٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ غَيْرَ قَوِيٍّ.

‌22 - بَاب إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ

3186، 3187 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَحَدُهُمَا يُنْصَبُ - وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ.

3188 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

[الحديث 3188 - أطرافه في: 6177، 6178، 6966، 7111]

3189 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ إِلاَّ الإِذْخِرَ".

ص: 283

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَرٍّ لِفَاجِرِ أَوْ بَرٍّ، أَوْ مِنْ فَاجِرٍ لِبَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ. وَبَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالتَّرْجَمَةِ السَّابِقَةِ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا وَثَانِيهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ مَعًا: لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ. وَقَوْلُهُ وَعَنْ ثَابِتٍ قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شُعْبَةُ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، قَالَ فِي مَوْضِعَيْنِ: وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُرَقِّمْ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثَابِتٍ رَقْمَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَحَدُهُمَا يُنْصَبُ وَقَالَ الْآخَرُ - يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ) لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ يُنْصَبُ وَلَا يُرَى، وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عِنْدَ اسْتِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ كَأَنَّهُ عُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ اللِّوَاءِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّأْسِ فَنُصِبَ عِنْدَ السُّفْلِ زِيَادَةً فِي فَضِيحَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ غَالِبًا تَمْتَدُّ إِلَى الْأَلْوِيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِامْتِدَادِهَا إِلَى الَّتِي بَدَتْ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَيَزْدَادُ بِهَا فَضِيحَتُهُ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ:

قَوْلُهُ: (يُنْصَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِغَدْرَتِهِ) أَيْ: بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِلْعَرَبِ بِنَحْرِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ لِلْوَفَاءِ رَايَةً بَيْضَاءَ، وَلِلْغَدْرِ رَايَةً سَوْدَاءَ، لِيَلُومُوا الْغَادِرَ وَيَذُمُّوهُ، فَاقْتَضَى الْحَدِيثُ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ لِلْغَادِرِ لِيَشْتَهِرَ بِصِفَتِهِ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَذُمُّهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، وَأَمَّا الْوَفَاءُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ كَذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ لِوَاءُ الْحَمْدِ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَدْرِ قَرِيبًا وَالْكَلَامُ عَلَى اللِّوَاءِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّايَةِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. وَفِي الْحَدِيثِ غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لَاسِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ غَدْرَهُ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْإِمَامِ إِذَا غَدَرَ فِي عُهُودِهِ لِرَعِيَّتِهِ أَوْ لِمُقَاتِلَتِهِ أَوْ لِلْإِمَامَةِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا، فَمَتَى خَانَ فِيهَا أَوْ تَرَكَ الرِّفْقَ فَقَدْ غَدَرَ بِعَهْدِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَهْيُ الرَّعِيَّةِ عَنِ الْغَدْرِ بِالْإِمَامِ، فَلَا تَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا تَتَعَرَّضُ لِمَعْصِيَتِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي مَا الْمَانِعُ مِنْ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا وَأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ ابْنُ عَمْرٍو رَاوِي الْحَدِيثِ هُوَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ أَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآبَائِهِمْ لِقَوْلِهِ فِيهِ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِيَةُ فِي الْفِتَنِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأُمَّهَاتِهِمْ فَقَدْ يُخَصُّ هَذَا مِنَ الْعُمُومِ. وَتَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَغْدِرُونَ كَمَا حَكَاهُ الْبَاجِيُّ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ وَبَاقِيهِ فِي الْحَجِّ، وَفِي تَعَلُّقِهِ بِالتَّرْجَمَةِ غُمُوضٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُهُ أَنَّ مَحَارِمَ اللَّهِ عُهُودُهُ إِلَى عِبَادِهِ، فَمَنِ انْتَهَكَ مِنْهَا شَيْئًا كَانَ غَادِرًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْقِتَالَ بِمَكَّةَ حَرَامٌ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ أَحَدٌ فِيمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُهُ أَنَّ النَّصَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ اخْتُصَّتْ بِالْحُرْمَةِ إِلَّا فِي السَّاعَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِ الْبِرُّ فِيهَا، إِذْ كُلُّ بُقْعَةٍ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا اخْتُصَّتْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا إِذْ مَعْنَاهُ لَا تَغْدِرُوا بِالْأَئِمَّةِ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الْوَفَاءِ بِالْخُرُوجِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَحْرِيمِ الْغَدْرِ، أَوْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ

ص: 284

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَغْدِرْ بِاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ، بَلْ كَانَ بِإِحْلَالِ اللَّهِ لَهُ سَاعَةً، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ لَهُ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ سَبَبِ الْفَتْحِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ غَدْرُ قُرَيْشٍ بِخُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَحَارَبُوا مَعَ بَنِي بَكْرٍ حُلَفَاءِ قُرَيْشٍ، فَأَمَدَّتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ وَبَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا

وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي مُفَصَّلًا، فَكَانَ عَاقِبَةُ نَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ بِمَا فَعَلُوهُ أَنْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا مَكَّةَ وَاضْطَرُّوا إِلَى طَلَبِ الْأَمَانِ وَصَارُوا بَعْدَ الْعِزِّ وَالْقُوَّةِ فِي غَايَةِ الْوَهَنِ إِلَى أَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ لِذَلِكَ كَارِهٌ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْبَرِّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْفَاجِرِ إِلَى خُزَاعَةَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَمْ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ فَرْضِ الْخُمُسِ وَالْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ - وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ بَقَايَا الْجِهَادِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ، كَمَا أُفْرِدَتِ الْعُمْرَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ - مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا مَضَى سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي صِفَةِ نَقْشِ الْخَاتَمِ، وَحَدِيثِهِ فِي النَّعْلَيْنِ، وَحَدِيثِهِ فِي الْقَدَحِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ، وَحَدِيثِ خَوْلَةَ: إِنَّ رِجَالًا يَخُوضُونَ، وَحَدِيثِ تَرِكَةِ الزُّبَيْرِ، وَحَدِيثِ سُؤَالِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَحَدِيثِ إِعْطَاءِ جَابِرٍ مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، وَحَدِيثِهِ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ فَهَذِهِ فِي الْخُمُسِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ، وَحَدِيثِ عُمَرَ فِيهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ فِيمَنْ سَحَرَ، وَحَدِيثِ عَوْفٍ فِي الْمَلَاحِمِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ وَفِيهَا مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عِشْرُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 285

بسم الله الرحمن الرحيم

‌59 - كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، كِتَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلنَّسَفِيِّ ذِكْرُ بَدَلَ كِتَابٍ، وَلِلصَّغَانِيِّ أَبْوَابُ بَدَلَ كِتَابٍ. وَوَبَدْءُ الْخَلْقِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِالْهَمْز أَيِ ابْتِدَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ.

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ: كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ، هَيْنٌ وَهَيِّنٌ: مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ، وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ. {أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا، حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ. لُغُوبٌ: النَّصَبُ. {أَطْوَارًا} طَوْرًا كَذَا، وَطَوْرًا كَذَا، عَدَا طَوْرَهُ: أَيْ قَدْرَهُ

3190 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَبِلْنَا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتُكَ تَفَلَّتَتْ، لَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ.

3191 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ أن لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَا نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.

3192 -

وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ.

ص: 286

مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ".

3193 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي وَيُكَذِّبُنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي".

[الحديث 3193 - طرفاه في: 9474، 4975]

3194 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي".

[الحديث 3194 - أطرافه في: 7404، 7412، 7453، 7553، 7554]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ كُوفِيٌّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ) أَيِ الْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ، أَيْ أَنَّهُمَا حَمَلَا أَهْوَنَ عَلَى غَيْرِ التَّفْضِيلِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصِّفَةُ كَقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ

أَيْ وَإِنِّي لَوَجِلٌ، وَأَثَرُ الرَّبِيعِ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَأَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ وَأَظُنُّهُ عَنِ الْحَسَنِ وَلَكِنَّ لَفْظَهُ: وَإِعَادَتُهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ بَدْئِهِ، وَكُلٌّ عَلَى اللَّهِ هَيِّنٌ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ إِبْقَاءُ صِيغَةِ أَفْعَلَ عَلَى بَابِهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا: وَهُوَ عَلَيْهِ هين، وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ ابْتُدِئَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، وَالْإِعَادَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، انْتَهَى. وَلَا يَثْبُتُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ كَمَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْحَيَوَانِ وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} يَصِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ قَرِيبًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي قَوْلِهِ:{أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أَيْسَرُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خُوطِبَ الْعِبَادُ بِمَا يَعْقِلُونَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَعْثَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فَجَعَلَهُ مَثَلًا وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَذَكَرَ الرَّبِيعُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَا أَنَّ شَيْئًا يَعْظُمُ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لِمَا لَمْ يَكُنْ كُنْ فَيَخْرُجُ مُتَّصِلًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَإِلَيْهِ نَحَا الْفَرَّاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (وَهَيِّنٌ وَهَيْنٌ مِثْلُ لَيِّنٍ وَلَيْنٌ وَمَيِّتٌ وَمَيْتٌ وَضَيِّقٌ وَضَيْقٌ) الْأَوَّلُ بِالتَّشْدِيدِ وَالثَّانِي بِالتَّخْفِيفِ فِي الْجَمِيعِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} هِيَ مُخَفَّفَةٌ بِمَنْزِلَةِ هَيْنٍ وَلَيْنٍ وَضَيْقٍ بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا وَالتَّشْدِيدِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّحْلِ، وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ تَمْدَحُ بِالْهَيْنِ اللَّيْنِ مُخَفَّفًا وَتَذُمُّ بِهِمَا مُثَقَّلًا، فَالْهَيْنُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْهَوْنِ وَهُوَ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَمِنْهُ يَمْشُونَ هَوْنًا وَعَيْنُهُ وَاوٌ، بِخِلَافِ الْهَيِّنِ بِالتَّشْدِيدِ.

قَوْلُهُ: أَفَعَيِينَا أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ. كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ

ص: 287

مَعْنَى قَوْلِهِ: أَفَعَيِينَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ: مَا أَعْجَزَنَا الْخَلْقُ الْأَوَّلُ حِينَ أَنْشَأْنَاكُمْ، وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} يَقُولُ: أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا إِنْشَاؤُكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَتَشُكُّوا فِي الْبَعْثِ؟ وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: عَيِيتُ بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ أَعْرِفْ وَجْهَهُ، وَمِنْهُ الْعِيُّ فِي الْكَلَامِ.

قَوْلُهُ: {لُغُوبٍ} النَّصَبُ) أَيْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أَيْ: مِنْ نَصَبٍ، وَالنَّصَبُ التَّعَبُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهَذَا تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: أَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْيَهُودَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَقَالَ:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أَيْ: مِنْ إِعْيَاءٍ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَظَنَّ أَنَّ النَّصَبَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِسُكُونِ الصَّادِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ ضَبْطَ اللُّغُوبِ، فَقَالَ مُتَعَقِّبًا عَلَيْهِ: لَمْ أَرَ أَحَدًا نَصَبَ اللَّامَ فِي الْفِعْلِ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ بِالنَّصْبِ الْأَحْمَقُ.

قَوْلُهُ: (أَطْوَارًا طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وَالْأَطْوَارُ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ وَاحِدُهَا طَوْرٌ بِالْفَتْحِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْأَطْوَارِ كَوْنَهُ مَرَّةً نُطْفَةً وَمَرَّةً عَلَقَةً إِلَخْ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ نَحْوَهُ وَقَالَ: الْمُرَادُ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ صِحَّةٍ وَسَقَمٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَصْنَافًا فِي الْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) يَعْنِي: وَفْدَهُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَقْتِ قُدُومِهِمْ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (أَبْشِرُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنَ الْبِشَارَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا بَشَّرْتَنَا) الْقَائِلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) إِمَّا لِلْأَسَفِ عَلَيْهِمْ كَيْفَ آثَرُوا الدُّنْيَا، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَحْضُرْهُ مَا يُعْطِيهِمْ فَيَتَأَلَّفْهُمْ بِهِ، أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ) هُمُ الْأَشْعَرِيُّونَ قَوْمُ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عِمْرَانَ هَذَا وَفِيهِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ هُنَا نَافِعُ بْنُ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ مَعَ مَنْ وَفَدَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ حِمْيَرَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مُسْتَنَدَ ذَلِكَ فِي بَابِ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَطْفِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى الْأَشْعَرِيِّينَ مَعَ أَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، لَمَّا كَانَ زَمَانُ قُدُومِ الطَّائِفَتَيْنِ مُخْتَلِفًا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ الْآخَرِينَ وَقَعَ الْعَطْفُ.

قَوْلُهُ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَصْرِ أَيِ: اقْبَلُوا مِنِّي مَا يَقْتَضِي أَنْ تُبَشَّرُوا إِذَا أَخَذْتُمْ بِهِ بِالْجَنَّةِ، كَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ الْيُسْرَى بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ: (إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا) فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَهُوَ بِفَتْحِ أَنْ أَيْ مِنْ أَجْلِ تَرْكِهِمْ لَهَا، وَيُرْوَى بِكَسْرِ إِنْ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ)، أَيْ عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَعَنْ حَالِ الْعَرْشِ، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ يُحَدِّثُ مَعْنَى يَذْكُرُ، وَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا عَنْ أَوَّلِ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقْتَضِي السِّيَاقُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ تَقَدَّمَ خَلْقُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ: نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا جِئْنَا نَسْأَلُكَ) كَذَا الْكُشْمِيهَنِيُّ، وَلِغَيْرِهِ: جِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ، وَزَادَ فِي التَّوْحِيدِ: وَنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَكَذَا هِيَ فِي قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ هَذَا الْأَمْرِ) أَيِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْأَمْرُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ وَيُرَادُ بِهِ الشَّأْنُ وَالْحُكْمُ

ص: 288

وَالْحَثُّ عَلَى الْفِعْلِ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ) فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ، وَالْقِصَّةُ مُتَّحِدَةٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَقَعَتْ بِالْمَعْنَى، وَلَعَلَّ رَاوِيهَا أَخَذَهَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ - كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبَابِ أَصْرَحُ فِي الْعَدَمِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ لَا الْمَاءُ وَلَا الْعَرْشُ وَلَا غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَولهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَاءَ سَابِقًا ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ فَصَرَّحَ بِتَرْتِيبِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ الْمَاءِ وَالْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) هَكَذَا جَاءَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي التَّوْحِيدِ: ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَقَعْ بِلَفْظِ ثُمَّ إِلَّا فِي ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى: ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّرْتِيبِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ وَهِيَ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي قَوْلِهِ، وَهُوَ الْآنَ إِلَى آخِرِهِ، وَأَمَّا لَفْظُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ فَرِوَايَةُ الْبَابِ بِلَفْظِ: وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُ بِمَعْنَاهَا. وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ الْمَذْكُورِ: كَانَ اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ وَاوٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، لَكِنْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ كَانَا مَبْدَأُ هَذَا الْعَالَمِ لِكَوْنِهِمَا خُلِقَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْعَرْشِ إِذْ ذَاكَ إِلَّا الْمَاءُ. وَمُحَصَّلُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بـ كَانَ فِي الْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةَ وَفِي الثَّانِيِ الْحُدُوثَ بَعْدَ الْعَدَمِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ مَرْفُوعًا: أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ، وَرَوَى السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الْقَلَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَاءَ وَالْعَرْشَ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْهُ صَدَرَ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَيْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ اكْتُبْ أَوَّلَ مَا خُلِقَ، وَأَمَّا حَدِيثُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ فَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ ثَبْتٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ هُوَ تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَحَكَى أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ فِي أَيِّهِمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْعَرْشُ أَوِ الْقَلَمُ؟ قَالَ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى سَبْقِ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ الثَّانِي، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَازِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ، وَلَيْسَ فِيهِ سَبْقُ خَلْقِ الْقَلَمِ عَلَى الْعَرْشِ، بَلْ فِيهِ سَبْقُ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ،

ص: 289

فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: بَدْءُ الْخَلْقِ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَخُلِقَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْمَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ) أَيْ قَدَّرَ (فِي الذِّكْرِ) أَيْ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ، أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ مَبْدَإِ الْأَشْيَاءِ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ وَجَوَازُ جَوَابِ الْعَالِمِ بِمَا يَسْتَحْضِرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْكَفُّ إِنْ خَشِيَ عَلَى السَّائِلِ مَا يَدْخُلُ عَلَى مُعْتَقِدِهِ. وَفِيهِ أَنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ وَنَوْعَهُ حَادِثٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، لَا عَنْ عَجْزٍ عَنْ ذَلِكَ بَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّينَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَحُدُوثِ الْعِلْمِ مُسْتَمِرَّانِ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ.

قَوْلُهُ: (فَنَادَى مُنَادٍ) فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ.

قَوْلُهُ: (ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ) أَيِ انْفَلَتَتْ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتَكَ أَيْ أَدْرِكْ رَاحِلَتَكَ فَهُوَ بِالنَّصْبِ، أَوْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُكَ فَهُوَ بِالرَّفْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ. وَقَوْلُهُ تَفَلَّتَتْ بِالْفَاءِ أَيْ شَرَدَتْ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (دُونَهَا السَّرَابُ) بِالضَّمِّ، أَيْ: يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا، وَالسَّرَابُ بِالْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يُرَى نَهَارًا فِي الْفَلَاةِ كَأَنَّهُ مَاءٌ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا) فِي التَّوْحِيدِ: أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ يَعْنِي: لِأَنَّهُ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ فِي ظَنِّهِ، فَتَأَسَّفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ كُنْتُ كَثِيرَ التَّطَلُّبِ لِتَحْصِيلِ مَا ظَنَّ عِمْرَانُ أَنَّهُ فَاتَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى أَنْ وَقَفْتُ عَلَى قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ فَقَوِيَ فِي ظَنِّي أَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِخُصُوصِهَا لِخُلُوِّ قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ، إِلَّا أَنَّ فِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَا فِيهِنَّ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ عز وجل.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةَ مَنَازِلَهُمْ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ، فَقَالَ ابْنُ الْفَلَكِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ عِيسَى، وَرَقَبَةَ، أَبُو حَمْزَةَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَالَ الطَّرْقِيُّ: سَقَطَ أَبُو حَمْزَةَ مِنْ كِتَابِ الْفَرَبْرِيِّ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، فَعِنْدَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ: رَوَى عِيسَى، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ رَقَبَةَ قَالَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ رُمَيْحٍ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، قُلْتُ: وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَهُوَ يَرْوِي الصَّحِيحَ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ حِينَئِذٍ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ أَسْقَطَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، لَكِنْ جَعَلَ بَيْنَ عِيسَى، وَرَقَبَةَ ضَبَّةَ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ أَلْحَقَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ وَقَدْ وَصَفُوهُ بِقِلَّةِ الْإِتْقَانِ، وَعِيسَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبُخَارِيُّ وَلَقَبُهُ غُنْجَارٌ بِمُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ وَصَلَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى الْمَذْكُورِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، عَنْ رَقَبَةَ، الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ رَقَبَةَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ ابْنُ مَصْقَلَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تُبْدَلُ سِينًا بَعْدَهَا قَافٌ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عِيسَى فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي

حَمْزَةَ نَحْوَهُ، لَكِنْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ) هِيَ غَايَةُ قَوْلِهِ أَخْبَرَنَا أَيْ أَخْبَرَنَا عَنْ مُبْتَدَأِ الْخَلْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً لِلتَّحَقُّقِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ

ص: 290

خَبَرِ الصَّادِقِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: حَتَّى يَدْخُلَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْذُ ابْتُدِئَتْ إِلَى أَنْ تَفْنَى إِلَى أَنْ تُبْعَثَ، فَشَمِلَ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَفِي تَيْسِيرِ إِيرَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَيَقْرَبُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ مُعْجِزَاتِهِ لَا مِرْيَةَ فِي كَثْرَتِهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ مِثْلَهُ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَقَالَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَيْسِيرُ الْقَوْلِ الْكَثِيرِ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَهَذَا فِيهِ تَيْسِيرُ الْجُرْمِ الْوَاسِعِ فِي الظَّرْفِ الضَّيِّقِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَنَبَذَهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ أَنَّهُمَا كَانَا مَرْئِيَّيْنِ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِحَدِيثِ الْبَابِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ. ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَحَدَّثَنَا بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا لَفْظُ أَحْمَدَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ مُطَوَّلًا، وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ مَا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ سَاقَهُ بِلَفْظِ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَامَ يُحَدِّثُنَا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: حَسَنٌ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي زَيْدِ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي مَرْيَمَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، انْتَهَى. وَلَمْ يَقَعْ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ حَدِيثُ الْبَابِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَأَفَادَ حَدِيثُ أَبِي زَيْدٍ بَيَانَ الْمَقَامِ الْمَذْكُورِ زَمَانًا وَمَكَانًا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أَحْمَدَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ) بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ يَشْتِمُنِي وَالشَّتْمُ هُوَ الْوَصْفُ بِمَا يَقْتَضِي النَّقْصَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى الْوَلَدِ لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِمْكَانَ الْمُسْتَدْعِي لِلْحُدُوثِ، وَذَلِكَ غَايَةُ النَّقْصِ فِي حَقِّ الْبَارِي سبحانه وتعالى، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَا قَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَهُوَ قَوْلُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا

قَوْلُهُ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) أَيْ: خَلَقَ الْخَلْقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أَوِ الْمُرَادُ أَوْجَدَ جِنْسَهُ، وَقَضَى يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَكَمَ وَأَتْقَنَ وَفَرَغَ وَأَمْضَى.

قَوْلُهُ: (كَتَبَ فِي كِتَابِهِ) أَيْ: أَمَرَ الْقَلَمَ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَرِيبًا فَقَالَ لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّفْظُ الَّذِي قَضَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}

قَوْلُهُ: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) قِيلَ: مَعْنَاهُ دُونَ الْعَرْشِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي إِجْرَاءِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ أَيْ ذِكْرُهُ أَوْ عِلْمُهُ فَلَا تَكُونُ الْعِنْدِيَّةُ مَكَانِيَّةٌ بَلْ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ كَوْنِهِ مَخْفِيًّا عَنِ الْخَلْقِ مَرْفُوعًا عَنْ حَيِّزِ إِدْرَاكِهِمْ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ فَوْقَ زَائِدٌ كَقَوْلِهِ:

ص: 291

{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} وَالْمُرَادُ اثْنَتَانِ فَصَاعِدًا، وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ دَعْوَى الزِّيَادَةِ مَا إِذَا بَقِيَ الْكَلَامُ مُسْتَقِيمًا مَعَ حَذْفِهَا كَمَا فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعَ الْحَذْفِ، فَهُوَ عِنْدَهُ الْعَرْشُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَحْمَتِي) بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كَتَبَ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى حِكَايَةِ مَضْمُونِ الْكِتَابِ

قَوْلُهُ: (غَلَبَتْ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي التَّوْحِيدِ سَبَقَتْ بَدَلَ غَلَبَتْ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْغَضَبِ لَازِمُهُ وَهُوَ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَى مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الْغَضَبُ؛ لِأَنَّ السَّبْقَ وَالْغَلَبَةَ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ، أَيْ تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ سَابِقٌ عَلَى تَعَلُّقِ الْغَضَبِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُقْتَضَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَمَّا الْغَضَبُ فَإِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى سَابِقَةِ عَمَلٍ مِنَ الْعَبْدِ الْحَادِثِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اسْتِشْكَالُ مَنْ أَوْرَدَ وُقُوعَ الْعَذَابِ قَبْلَ الرَّحْمَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، كَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ثُمَّ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى الْغَلَبَةِ الْكَثْرَةُ وَالشُّمُولُ، تَقُولُ غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الْكَرَمُ أَيْ أَكْثَرُ أَفْعَالِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاء عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الرَّحْمَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ لَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَقَدُّمِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عَلَى بَعْضٍ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِالرَّحْمَةِ إِلَى إِسْكَانِ آدَمَ الْجَنَّةَ أَوَّلَ مَا خُلِقَ مَثَلًا وَمُقَابِلُهَا مَا وَقَعَ مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ اسْتَمَرَّتْ أَحْوَالُ الْأُمَمِ بِتَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ فِي خَلْقِهِمْ بِالتَّوَسُّعِ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يَقَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَأَمَّا مَا أَشْكَلَ مِنْ أَمْرِ مَنْ يُعَذَّبُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فَالرَّحْمَةُ سَابِقَةٌ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا، وَلَوْلَا وُجُودُهَا لَخُلِّدُوا أَبَدًا.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِي سَبْقِ الرَّحْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنَ الْغَضَبِ وَأَنَّهَا تَنَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَأَنَّ الْغَضَبَ لَا يَنَالُهُمْ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ، فَالرَّحْمَةُ تَشْمَلُ الشَّخْصَ جَنِينًا وَرَضِيعًا وَفَطِيمًا وَنَاشِئًا قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ الْغَضَبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَسْتَحِقُّ مَعَهُ ذَلِكَ.

‌2 - بَاب مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} السَّمَاءُ. {سَمْكَهَا} بِنَاءَهَا. الْحُبُكُ: اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا. {وَأَذِنَتْ} سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ. {وَأَلْقَتْ} أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنْ الْمَوْتَى، وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ. {طَحَاهَا} أي: دَحَاهَا. {بِالسَّاهِرَةِ} وَجْهُ الْأَرْضِ، كَانَ فِيهَا الْحَيَوَانُ نَوْمُهُمْ وَسَهَرُهُمْ.

3195 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ - فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الْأَرْضَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.

3196 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال النبي

ص: 292

صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ".

3197 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ".

3198 -

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ) أَوْ فِي بَيَانِ وَضْعِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الْآيَةَ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرَضِينَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِثْلُ السَّمَاوَاتِ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً وَأَنَّ السَّبْعَ مُتَجَاوِرَةٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْأَرْضَ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ الْقَوْلُ بِالتَّجَاوُرِ، وَإِلَّا فَيَصِيرُ صَرِيحًا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَيَدُلُّ لِلْقَوْلِ الظَّاهِرِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قَالَ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَنَحْوُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْخَلْقِ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُطَوَّلًا، وَأَوَّلَهُ أَيْ سَبْعَ أَرَضِينَ فِي كُلِّ أَرْضٍ آدَمُ كَآدَمِكُمْ وَنُوحٌ كَنُوحِكُمْ وَإِبْرَاهِيمُ كَإِبْرَاهِيمِكُمْ وَعِيسَى كَعِيسَى وَنَبِيٌّ كَنَبِيِّكُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ شَاذٌّ بِمُرَّةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ حَدَّثَكُمْ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَرْتُمْ وَكُفْرُكُمْ تَكْذِيبُكُمْ بِهَا.

وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: وَهُنَّ مَكْتُوبَاتٌ بَعْضُهُنَّ عَلَى بَعْضٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يَرُدُّ أَيْضًا عَلَى أَهْلِ الْهَيْئَةِ قَوْلَهُمْ أَنْ لَا مَسَافَةَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَأَرْضٍ وَإِنْ كَانَتْ فَوْقَهَا، وَأَنَّ السَّابِعَةَ صَمَّاءُ لَا جَوْفَ لَهَا، وَفِي وَسَطِهَا الْمَرْكَزُ وَهِيَ نُقْطَةٌ مُقَدَّرَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَأَنَّ سُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ كَذَلِكَ، وَأَنَّ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَأَرْضٍ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَرْفُوعًا: بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَجُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ بُطْءِ السَّيْرِ وَسُرْعَتِهِ.

قَوْلُهُ: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} السَّمَاءُ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَسَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ فِي بَابِ الْمَلَائِكَةِ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ

ص: 293

أَنَسٍ السَّقْفُ الْمَرْفُوعُ: الْعَرْشُ، كَذَا قَالَ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، وَهُوَ يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ السَّمَاءَ كُرِّيَّةٌ لِأَنَّ السَّقْفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَكُونُ كُرِّيًّا.

قَوْلُهُ: {سَمْكَهَا} بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ (بِنَاءَهَا) بِالْمَدِّ، يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَفَعَ سَمْكَهَا} أَيْ: رَفَعَ بُنْيَانَهَا، وَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحُبُكُ اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ الْإِسْكَافِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ {ذَاتِ الْحُبُكِ} أَيِ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ، غَيْرَ أَنَّهَا كَالْبَرَدِ الْمُسَلْسَلِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ قَالَ:{ذَاتِ الْحُبُكِ} أَيِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ، وَالْحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حَبِيكَةٍ كَطُرُقٍ وَطَرِيقَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقِيلَ وَاحِدُهَا حِبَاكٌ كَمِثَالٍ وَمُثُلٍ، وَقِيلَ الْحُبُكُ الطَّرِيقُ الَّتِي تُرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ آثَارِ الْغَيْمِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ، وَقِيلَ: هِيَ النُّجُومُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَوِ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ.

قَوْلُهُ: (أَذِنَتْ: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} وَمَعْنَى سَمْعِهَا وَإِطَاعَتِهَا قَبُولُهَا مَا يُرَادُ مِنْهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أَيْ أَطَاعَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا أَيْ سَمِعَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحُقَّتْ أَيْ حُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ.

قَوْلُهُ: {وَأَلْقَتْ} أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى {وَتَخَلَّتْ} أَيْ (عَنْهُمْ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَلْقَتْ مَا اسْتَوْدَعَهَا اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: {طَحَاهَا} دَحَاهَا) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَالْمَعْنَى بَسَطَهَا يَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا: دَحَاهَا أَيْ بَسَطَهَا.

قَوْلُهُ: {بِالسَّاهِرَةِ} وَجْهُ الْأَرْضِ كَانَ فِيهَا الْحَيَوَانُ نَوْمُهُمْ وَسَهَرُهُمْ) هُوَ تَفْسِيرُ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْقِيَامَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ كَالْخُبْزَةِ، وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ مَرْفُوعًا فِي الرِّقَاقِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَفْسِيرُ السَّاهِرَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَرْوَزِيٌّ سَمِعَ مِنَ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِخُرَاسَانَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْبَحْثَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِي كُتُبِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِخُرَاسَانَ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَّثَ بِهِ هُنَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِشْرٌ صَحِبَ ابْنَ الْمُبَارَكِ فَسَمِعَهُ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا بِالْبَصْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ: إن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي آخِرِ الْمَغَازِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ، وَمَضَى شَرْحُ أَكْثَرِهِ فِي الْعِلْمِ وَبَعْضُهُ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) اسْمُ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَثَبَتَ لِسَائِرِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، قُلْتُ: وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ هُنَا عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

ص: 294

أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ فَاحِشٌ. قُلْتُ: وَافَقَ الْأَصِيلِيُّ لَكِنْ صَحَّفَ عَنْ فَصَارَتْ ابْنُ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِفُحْشِ الْوَهْمِ وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي بَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي عَلَى الصَّوَابِ لِلْجَمَاعَةِ أَيْضًا حَتَّى الْأَصِيلِيِّ، وَاسْتَمَرَّ الْقَابِسِيُّ عَلَى وَهْمِهِ فَقَالَ هُنَاكَ أَيْضًا: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَرْوَى بِنْتِ أُنَيْسٍ فِي مُخَاصَمَتِهَا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ.

قَوْلُهُ: (كَهَيْئَتِهِ) الْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ صِفَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاءَ. وَالزَّمَانُ اسْمٌ لِقَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَزَعَمَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي كِتَابِهِ تَفْضِيلُ الْأَزْمِنَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ مَارْسَ وَهُوَ آذَارُ وَهُوَ بَرْمَهَاتُ بِالْقِبْطِيَّةِ، وَفِيهِ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَ حُلُولِ الشَّمْسِ بُرْجَ الْحَمَلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ) أَيِ ابْنِ عُرْوَةَ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ لِقَاءِ عُرْوَةَ، سَعِيدًا، وَقَدْ لَقِيَ عُرْوَةُ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ وَفَاةً مِنْ سَعِيدٍ كَوَالِدِهِ الزُّبَيْرِ، وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا.

‌3 - بَاب فِي النُّجُومِ

وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{هَشِيمًا} مُتَغَيِّرًا، وَالْأَبُّ: مَا يَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وَالْأَنَامُ الْخَلْقُ، {بَرْزَخٌ} حَاجِبٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{أَلْفَافًا} مُلْتَفَّةً، وَالْغُلْبُ: الْمُلْتَفَّةُ، {فِرَاشًا} مِهَادًا، كَقَوْلِهِ:{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ، {نَكِدًا} قَلِيلًا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي النُّجُومِ وَقَالَ قَتَادَةُ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ عَنْهُ بِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَأَنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ غَرَسَ بِنَجْمِ كَذَا كَانَ كَذَا وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا كَانَ كَذَا وَلَعَمْرِي مَا مِنَ النُّجُومِ نَجْمٌ إِلَّا وَيُولَدُ بِهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذِهِ النُّجُومِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّائِرِ شَيْء مِنْ هَذَا الْغَيْبِ، انْتَهَى. وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا وَقَعَ اسْتِطْرَادًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُ قَتَادَةَ فِي النُّجُومِ حَسَنٌ، إِلَّا قَوْلَهُ: أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرٌ انْتَهَى. وَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْكُفْرُ فِي حَقِّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ الِاخْتِرَاعَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا عَلَامَةً عَلَى حُدُوثِ أَمْرٍ فِي الْأَرْضِ فَلَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِيمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فِي بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} الضَّمِيرُ لِلسَّمَاءِ؛ أَيْ وَجَعَلْنَا شُهُبَهَا رُجُومًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَصَارَ الضَّمِيرُ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي التَّنْوِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: النُّجُومُ كُلُّهَا مُعَلَّقَةٌ كَالْقَنَادِيلِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَتَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ فِي الْمَسَاجِدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، {هَشِيمًا} مُتَغَيِّرًا) لَمْ أَرَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ مَوْصُولَةٍ. لَكِنْ ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ: {هَشِيمًا} أَيْ يَابِسًا مُتَفَتِّتًا، وَ {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ تُفَرِّقُهُ.

قَوْلُهُ: (وَالْأَبُّ مَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ قَالَ: الْأَبُّ

ص: 295

مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا تَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَبُّ الْحَشِيشُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ: الْأَبُّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، زَادَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا الْفَاكِهَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: عَرَفْنَا الْفَاكِهَةَ فَمَا الْأَبُّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَالْأَنَامُ الْخَلْقُ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} قَالَ: لِلْخَلْقِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقُ، وَمِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَنَامُ النَّاسُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُوَ كُلُّ ذِي رُوحٍ.

قَوْلُهُ: {بَرْزَخٌ} حَاجِبٌ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ حَاجِزٌ بِالزَّايِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلَّا قَوْلَهُ:(وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَلْفَافًا} مُلْتَفَّةً، وَالْغُلْبُ: الْمُلْتَفَّةُ) وَصَلَهُمَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} قَالَ: مُلْتَفَّةٌ. وَمِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أَيْ مُلْتَفَّةً، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَدَائِقُ: مَا الْتَفَّتْ، وَالْغُلْبُ: مَا غَلُظَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ: الْغُلْبُ: شَجَرٌ بِالْجَبَلِ لَا يَحْمِلُ يُسْتَظَلُّ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبَى طَلْحَةَ عَنْهُ قَالَ: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أَيْ مُجْتَمِعَةً. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَلْفَافُ جَمْعُ لَفٍّ أَوْ لَفِيفٍ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اللِّفَافُ جَمْعُ لَفِيفَةٍ وَهِيَ الْغَلِيظَةُ، وَلَيْسَ الِالْتِفَافُ مِنَ الْغِلَظِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ غَلُظَ بِالِالْتِفَافِ.

قَوْلُهُ: (فِرَاشًا: مِهَادًا كَقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمَا، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ: فِرَاشًا: هِيَ فِرَاشٌ يُمْشَى عَلَيْهَا وَهِيَ الْمِهَادُ وَالْقَرَارُ.

قَوْلُهُ: {نَكِدًا} قَلِيلًا) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: {لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} قَالَ: النَّكِدُ: الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ كَالْبَلَدِ السَّبِخَةِ الْمَالِحَةِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ مِنْهَا الْبَرَكَةُ.

‌4 - بَاب صِفَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ

{بِحُسْبَانٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: كَحُسْبَانِ الرَّحَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا، حُسْبَانٌ: جَمَاعَةُ الْحِسَابِ، مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ، {ضُحَاهَا} ضَوْؤها. {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لَا يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ، {سَابِقُ النَّهَارِ} يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ. {نَسْلَخُ} نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ، وَنُجْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. {وَاهِيَةٌ} وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا. {أَرْجَائِهَا} مَا لَمْ يَنْشَقَّ مِنْهَا، فَهُو عَلَى حَافَتَيْهَا كَقَوْلِكَ: عَلَى أَرْجَاءِ الْبِئْرِ. أَغْطَشَ وَجَنَّ: أَظْلَمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُوِّرَتْ تُكَوَّرُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْؤهَا. {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ. {اتَّسَقَ} اسْتَوَى. {بُرُوجًا} مَنَازِلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. فالْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُؤْبَةُ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ، يُقَالُ:{يُولِجُ} يُكَوِّرُ {وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ.

ص: 296

3199 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ: أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

[الحديث 3199 - أطرافه في: 4802، 4803، 7424، 7433]

3200 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

3201 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عمرو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيتان مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهما فَصَلُّوا.

3202 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ.

3203 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ قَامَ فَكَبَّرَ وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقَامَ كَمَا هُوَ فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ.

ثالثها: بقية الأحاديث عن عبد الله بن عمرو ومن بعده في ذكر الكسوف.

3204 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا.

ص: 297

قَوْلُهُ: (بَابٌ صِفَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحُسْبَانٍ) أَيْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ قَالَ مُجَاهِدٌ كَحُسْبَانِ الرَّحَى وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ عَلَى حَسَبِ الْحَرَكَةِ الرَّحَوِيَّةِ الدَّوْرِيَّةِ وَعَلَى وَضْعِهَا، وَقَوْلُهُ:(وَقَالَ غَيْرُهُ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا)، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ وَهُوَ الْغِفَارِيُّ مِثْلَهُ، وَرَوَى الْحَرْبِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ.

قَوْلُهُ: (حُسْبَانٌ جَمَاعَةُ الْحِسَابِ) يَعْنِي: أَنَّ حُسْبَانَ جَمَاعَةُ الْحِسَابِ كَشُهْبَانٍ جَمْعُ شِهَابٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مَنْ جَعَلَهُ مِنَ الْحِسَابِ احْتَمَلَ الْجَمْعَ وَاحْتَمَلَ الْمَصْدَرَ، تَقُولُ: حَسِبَ حُسْبَانًا، ثُمَّ هُوَ مِنَ الْحِسَابِ بِالْفَتْحِ وَمِنَ الظَّنِّ بِالْكَسْرِ أَيْ فِي الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: (ضُحَاهَا ضَوْؤهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قَالَ: ضَوْؤهَا. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الضُّحَى يَقَعُ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَعِنْدَهُ تَشْتَدُّ إِضَاءَةُ الشَّمْسِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ قَالَ: ضُحَاهَا النَّهَارُ.

قَوْلُهُ: {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لَا يُسْتَرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: {نَسْلَخُ} نُخْرِجْ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا بِلَفْظِ: يَخْرُجُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ وَيَجْرِي كُلٌّ مِنْهُمَا فِي فَلَكٍ.

قَوْلُهُ: {وَاهِيَةٌ} وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَاهِيَةٌ} قَالَ: مُتَمَزِّقَةٌ ضَعِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: {أَرْجَائِهَا} مَا لَمْ تَنْشَقَّ مِنْهَا فَهُوَ عَلَى حَافَّتَيْهَا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَهُوَ عَلَى حَافَّتِهَا، وَكَأَنَّهُ أَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْمَلَكِ وَجَمَعَ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} أَيْ عَلَى حَافَّاتِ السَّمَاءِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَلَى حَافَّاتِ الدُّنْيَا، وَصَوَّبَ الْأَوَّلَ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالْمَلَكُ عَلَى حَافَّاتِ السَّمَاءِ حِينَ تَنْشَقُّ، وَالْأَرْجَاءُ بِالْمَدِّ جَمْعُ رَجًا بِالْقَصْرِ وَالْمُرَادُ النَّوَاحِي.

قَوْلُهُ: (أَغْطَشَ وَجَنَّ: أَظْلَمَ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَيْ أَظْلَمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْأَوَّلُ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: قَوْلُهُ: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أَيْ أَظْلَمَ لَيْلَهَا، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى أَغْطَشَ لَيْلَهَا جَعَلَهُ مُظْلِمًا، وَأَمَّا أَغْطَشَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَإِنْ سَاغَ فَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى وَلَكِنَّ الْمَعْرُوفَ أَظْلَمَ الْوَقْتُ جَاءَتْ ظُلْمَتُهُ وَأَظْلَمْنَا وَقَعْنَا فِي ظُلْمَةٍ. قُلْتُ: لَمْ يُرِدِ الْبُخَارِيُّ الْقَاصِرَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ مُتَعَدٍّ وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ أَغْطَشَ فَقَطْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَيْ: غَطَّى عَلَيْهِ وَأَظْلَمَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: {كُوِّرَتْ} تُكَوَّرُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْؤهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ عَنْهُ، وَكَأَنَّ هَذَا كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِلَّا فَمَعْنَى التَّكْوِيرِ اللَّفُّ تَقُولُ: كَوَّرْتُ الْعِمَامَةَ تَكْوِيرًا إِذَا لَفَفْتُهَا، وَالتَّكْوِيرُ أَيْضًا الْجَمْعُ تَقُولُ: كَوَّرْتُهُ إِذَا جَمَعْتُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} يَقُولُ: أَظْلَمَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ: كُوِّرَتْ أَيْ رُمِيَ بِهَا، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ {كُوِّرَتْ} قَالَ: اضْمَحَلَّتْ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّكْوِيرُ فِي الْأَصْلِ الْجَمْعُ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ أَنَّهَا تُلَفُّ وَيُرْمَى بِهَا فَيَذْهَبَ ضَوْؤهَا.

قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أَيْ جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فُضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: {اتَّسَقَ} اسْتَوَى) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ

ص: 298

حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} قَالَ: اسْتَوَى.

قَوْلُهُ: {بُرُوجًا} مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) وَصَلَهُ ابْنُ حُمَيْدٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْبُرُوجُ الْكَوَاكِبُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ، وَقِيلَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ قُصُورٌ عَلَى أَبْوَابِ السَّمَاءِ فِيهَا الْحَرَسُ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْبُرُوجَ غَيْرُ الْمَنَازِلِ، فَالْبُرُوجُ اثْنَا عَشَرَ وَالْمَنَازِلُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَكُلُّ بُرْجٍ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْزِلَتَيْنِ وَثُلُثٍ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (فَالْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ) وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنِ الْأَثْرَمِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: الْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَرُورُ الْحَرُّ الدَّائِمُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ خَاصَّةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُؤْبَةُ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا عَنْهُ بَعْدُ، وَأَمَّا قَوْلُ رُؤْبَةَ وَهُوَ ابْنُ الْعَجَّاجِ التَّيْمِيُّ الرَّاجِزُ الْمَشْهُورُ فَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْهُ فِي الْمَجَازِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالظِّلِّ وَالْحَرُورُ فِي الْآيَةِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ يُولِجُ يُكَوِّرُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبُّوَيْهِ يَكُونُ بِنُونٍ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُولِجُ أَيْ يُنْقِصُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَزِيدُ فِي النَّهَارِ وَكَذَلِكَ النَّهَارُ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَخَلَ فِي الْآخَرِ يَتَقَاصَّانِ ذَلِكَ فِي السَّاعَاتِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ قَالَ: يُولِجُ لَيْلَ الصَّيْفِ فِي نَهَارِهِ أَيْ يُدْخِلُ، وَيُدْخِلُ نَهَارَ الشِّتَاءِ فِي لَيْلِهِ.

قَوْلُهُ: {وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ) هُوَ قَوْلُ عُبَيْدَةَ قَالَ قَوْلُهُ: {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ لَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يس، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَظَاهِرُهُ مُغَايِرٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الشَّمْسَ مُرَصَّعَةٌ فِي الْفَلَكِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي يَسِيرُ هُوَ الْفَلَكُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسِيرُ وَتَجْرِي، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أَيْ يَدُورُونَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنْكَرَ قَوْمٌ سُجُودَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ مُمْكِنٌ، وَتَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّسْخِيرِ الدَّائِمِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ مَجْرَاهَا فَتَسْجُدَ ثُمَّ تَرْجِعَ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِالْخُرُوجِ الْوُقُوفَ فَوَاضِحٌ، وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ سُجُودُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ تَسْجُدُ بِصُورَةِ الْحَالِ فَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَآخِرُهُ جِيمٌ هُوَ لَقَبُهُ وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِلُغَةِ الْفُرْسِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ دَانَاهُ فَعُرِّبَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَاسْمُ أَبِيهِ فَيْرُوزُ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْهُ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يُحَدِّثُ فِي زَمَنِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَجَاءَ الْحَسَنُ - أَيِ الْبَصْرِيُّ - فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ، وَمِثْلُهُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَالَ: فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يَقُلْ: خَالِدَ الْقَسْرِيَّ، وَأَخْرَجَهُ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: فِي زَمَنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَيِ: ابْنِ أَسِيدٍ، أَيْ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ فَإِنَّ خَالِدًا هَذَا كَانَ قَدْ وَلِيَ الْبَصْرَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ قَبْلَ الْحَجَّاجِ بِخِلَافِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (مُكَوَّرَانِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فِي النَّارِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أُحَدِّثُكَ

ص: 299

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ: لِيَرَاهُمَا مَنْ عَبَدَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ الْأَهْوَالِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} قَالَ: يُجْمَعَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي النَّارِ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمَا فِي النَّارِ تَعْذِيبُهُمَا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَبْكِيتٌ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُهُمَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُمَا كَانَتْ بَاطِلًا.

وَقِيلَ: إِنَّهُمَا خُلِقَا مِنَ النَّارِ فَأُعِيدَا فِيهَا. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِهِمَا فِي النَّارِ تَعْذِيبُهُمَا، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي النَّارِ مَلَائِكَةٌ وَحِجَارَةٌ وَغَيْرُهَا لِتَكُونَ لِأَهْلِ النَّارِ عَذَابًا وَآلَةً مِنْ آلَاتِ الْعَذَابِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَكُونُ هِيَ مُعَذَّبَةً. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِمَا وُصِفَا بِأَنَّهُمَا يَسْبَحَانِ فِي قَوْلِهِ:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَأَنَّ كُلَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى يَكُونُ فِي النَّارِ وَكَانَا فِي النَّارِ يُعَذَّبُ بِهِمَا أَهْلُهُمَا بِحَيْثُ لَا يَبْرَحَانِ مِنْهُمَا فَصَارَا كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ.

وقد تقدمت كلها مشروحة في كتاب الكسوف،

وقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ كَذَا فِي الْأُصُولِ بِأَدَاةِ الْكُنْيَةِ، وَهُوَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

‌5 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ،

{قَاصِفًا} تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ. {لَوَاقِحَ} مَلَاقِحَ مُلْقِحَةً. {إِعْصَارٌ} رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ. {صِرٌّ} بَرْدٌ. {نَشْرًا} مُتَفَرِّقَةً.

3205 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ.

3206 -

حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ فَإِذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ عاد [24 الأحقاف]: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الْآيَةَ.

[الحديث 3206 - طرفه في: 4829]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) نُشُرًا بِضَمِّ النُّونِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْبَابِ.

قَوْلُهُ: {قَاصِفًا} تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الَّتِي تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ تُحَطِّمُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقَاصِفُ الَّتِي تُفَرِّقُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا.

قَوْلُهُ: {لَوَاقِحَ} مَلَاقِحٌ مُلَقِّحَةٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}

ص: 300

وَأَنَّ أَصْلَ لَوَاقِحَ مَلَاقِحُ وَوَاحِدُهَا مُلَقِّحَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وِفَاقًا لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُمَا قَالُوا: لَوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحَةٍ وَلَاقِحٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَإِنْ قِيلَ الرِّيحُ مُلَقِّحَةٌ لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ قِيلَ لَهَا لَوَاقِحُ؟ فَالْجَوَابُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُجْعَلَ الرِّيحَ هِيَ الَّتِي تُلَقِّحُ بِمُرُورِهَا عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ فَيَكُونُ فِيهَا اللِّقَاحُ، فَيُقَالُ رِيحٌ لَاقِحٌ كَمَا يُقَالُ مَاءٌ مَلَاقِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ وَصْفُ رِيحِ الْعَذَابِ بِأَنَّهَا عَقِيمٌ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ وَصْفَهَا بِاللَّقْحِ لِكَوْنِ اللَّقْحِ يَقَعُ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهَا لَاقِحَةٌ مِنْ وَجْهٍ مُلَقِّحَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ لَقْحَهَا حَمْلُهَا الْمَاءَ، وَإِلْقَاحُهَا عَمَلُهَا فِي السَّحَابِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَتُلَقِّحُ السَّحَابَ، وَتَمُرُّ بِهِ فَتُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ، ثُمَّ تُمْطِرُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَ الرِّيحَ لَاقِحًا لِأَنَّهَا تُقِلُّ السَّحَابَ وَتَصْرِفُهُ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ فَتَسْتَدِرُّهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرِّيحِ الْجَنُوبِ: لَاقِحٌ وَحَامِلٌ، وَلِلشَّمَالِ: حَائِلٌ وَعَقِيمٌ.

قَوْلُهُ: {إِعْصَارٌ} رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْإِعْصَارُ الرِّيحُ، وَالنَّارُ السَّمُومُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْإِعْصَارُ رِيحٌ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِيهِ نَارٌ}

قَوْلُهُ: {صِرٌّ} بَرْدٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصِّرُّ شِدَّةُ الْبَرْدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} يَقُولُ: صِرٌّ بَرْدٌ. كَذَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (نُشُرًا مُتَفَرِّقَةً) هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: (نُشُرًا) أَيْ مِنْ كُلِّ مَهَبٍّ وَجَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَكَمِ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِالْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ هِيَ الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ، وَالدَّبُورُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ مُقَابِلُهَا، يُشِيرُ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْأَحْزَابِ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَكَانَتْ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَقِيلَ إِنَّ الصَّبَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ رِيحَ قَمِيصِ يُوسُفَ إِلَى يَعْقُوبَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ إِخْبَارُ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ لَا عَلَى الْفَخْرِ، وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِهْلَاكِهَا.

ثَانِيهِمَا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ (مَخِيلَةٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ هِيَ السَّحَابَةُ الَّتِي يُخَالُ فِيهَا الْمَطَرُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ أَمْطَرَتْ إِلَّا فِي الْعَذَابِ، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَيُقَالُ مَطَرَتْ، وَقَوْلُهُ سُرِّيَ عَنْهُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ تَذَكُّرُ مَا يَذْهَلُ الْمَرْءُ عَنْهُ مِمَّا وَقَعَ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ السَّيْرِ فِي سَبِيلِهِمْ خَشْيَةً مِنْ وُقُوعِ مِثْلِ مَا أَصَابَهُمْ. وَفِيهِ شَفَقَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْشَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَذَّبَ الْقَوْمُ وَهُوَ فِيهِمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى كَرَامَةٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَرِفْعَةٍ، فَلَا يُتَخَيَّلُ انْحِطَاطُ دَرَجَتِهِ أَصْلًا. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ كَانَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ، كَانَ إِذَا رَأَى فَعَلَ كَذَا.

وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ بِالْمَذْكُورِينَ أَوْ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ مَقَامُ الْخَوْفِ يَقْتَضِي غَلَبَةُ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَأَوْلَى مِنَ الْجَمِيعِ أَنْ يُقَالَ خَشِيَ عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ فِيهِمْ أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ،

ص: 301

أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ لِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِرَجَاءَ إِسْلَامِهِ، وَهُوَ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

‌6 - بَاب ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الْمَلَائِكَةُ

3207 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ. وقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ - وَذَكَرَ يَعْنِي رَجُلًا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ - فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ ملآن حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنْ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ الْبُرَاقُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقَالَا: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ فَسَلَّمْتُ، فقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِدْرِيسَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قيل: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْنَا عَلَى هَارُونَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَأَتَيْنَا عَلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، نِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ أَخٍ وَنَبِيٍّ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ: مَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ

ص: 302

فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ ابْنٍ وَنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ

صَلَاةً، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جِئْتُ مُوسَى فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلَاةً، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْكَ عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ، فَرَجَعْتُ فَسَأَلْتُهُ، فَجَعَلَهَا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ ثُمَّ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عِشْرِينَ، ثُمَّ مِثْلَهُ فَجَعَلَ عَشْرًا، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَجَعَلَهَا خَمْسًا، فَأَتَيْتُ مُوسَى فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا خَمْسًا، فَقَالَ مِثْلَهُ، قُلْتُ: فسَلَّمْتُ، فَنُودِيَ: إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَأَجْزِي الْحَسَنَةَ عَشْرًا.

وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.

[الحديث 3207 - أطرافه في: 3393، 3430، 3887]

3208 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ".

[الحديث 3208 - أطرافه في: 3332، 6594، 7454]

3209 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَابَعَهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ".

[الحديث 3209 - طرفاه في: 6040، 7485]

ص: 303

3210 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ".

[الحديث 3210 - أطرافه في: 3288، 5762، 6213، 7561]

3211 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".

3212 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقَالَ كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ قَالَ: نَعَمْ".

3213 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ".

[الحديث 3213 - أطرافه في: 4123، 4124، 6153]

3214 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ح حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ هِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى غُبَارٍ سَاطِعٍ فِي سِكَّةِ بَنِي غَنْمٍ زَادَ مُوسَى مَوْكِبَ جِبْرِيلَ".

3215 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ قَالَ كُلُّ ذَاكَ يَأْتِينِي الْمَلَكُ أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ وَيَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ أَحْيَانًا رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ".

3216 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ أَيْ فُلُ هَلُمَّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:

ص: 304

ذَاكَ الَّذِي لَا تَوَى عَلَيْهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".

3217 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ تَرَى مَا لَا أَرَى تُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم".

[الحديث 3217 - أطرافه في: 3768، 6153، 6201، 6249]

3218 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ ح حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِجِبْرِيلَ أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا قَالَ فَنَزَلَتْ [64 مريم]: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الْآيَةَ.

[الحديث 3218 - طرفاه في: 4731، 7455]

3219 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".

[الحديث 3219 - طرفه في: 4991]

3220 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَفَاطِمَةُ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ".

3221 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ قَالَ سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ".

3222 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ

ص: 305

وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ لِي جِبْرِيلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ".

3223 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ يُصَلُّونَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ) جَمْعُ مَلَكٍ بِفَتْحِ اللَّامِ، فَقِيلَ: مُخَفَّفٌ مِنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوكَةِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَأَصْلُهُ لَاكَ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْمَلْكُ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ وَحِينَئِذٍ لَا مَدْخَلَ لِلْمِيمِ فِيهِ، وَأَصْلُ وَزْنِهِ مَفْعَلٌ فَتُرِكَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَظَهَرَتْ فِي الْجَمْعِ وَزِيدَتِ الْهَاءُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ وَإِمَّا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَجُمِعَ عَلَى الْقَلْبِ وَإِلَّا لَقِيلَ مَالَكَهْ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمِيمُ فِي الْمَلَكِ أَصْلِيَّةٌ وَزْنُهُ فَعَلٌ كَأَسَدٍ هُوَ مِنَ الْمَلْكِ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْأَخْذُ بِقُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَوَزْنُ مَلَائِكَةٍ فَعَائِلَةٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا فِي جَمْعِهِ أَمْلَاكٌ، وَأَفْعَالٌ لَا يَكُونُ جَمْعًا لِمَا فِي أَوَّلِهِ مِيمٌ زَائِدَةٌ، قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: الْمَلَائِكَةُ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ أُعْطِيَتْ قُدْرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَسْكَنُهَا السَّمَاوَاتُ، وَأَبْطَلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الْكَوَاكِبُ أَوْ إِنَّهَا الْأَنْفُسُ الْخَيِّرَةُ الَّتِي فَارَقَتْ أَجْسَادَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ شَيْءٌ مِنْهَا.

وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَثْرَتِهِمْ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.

وَذَكَرَ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلَا إِنَاثًا وَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَنَاكَحُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ. قُلْتُ: وَفِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ مَا يُؤَيِّدُ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنَّهَا شَجَرَةُ الْخُلْدِ الَّتِي تَأْكُلُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَفِي هَذَا وَمَا وَرَدَ مِنَ الْقُرْآنِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ. وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ عِنْدَهُ بَلْ لِتَقَدُّمِهِمْ فِي الْخَلْقِ وَلِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} ، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صِفَةِ الْحَجِّ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَلِأَنَّهُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الرُّسُلِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالشَّرَائِعِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ الْكَلَامَ فِيهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَسْأَلَةَ تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ أَدِلَّةِ كَثْرَتِهِمْ مَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ

ص: 306

يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ هُنَاكَ مَعَ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الْمَلَائِكَةَ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، وَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَعْنِي كَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ عَادَةَ الْمُصَنِّفِ غَالِبًا يَفْصِلُ الْأَحَادِيثَ بِالتَّرَاجِمِ وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ هُنَا. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ مَنِ اشْتُهِرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ، وَوَقَعَ ذِكْرُهُ فِي أَكْثَرِ أَحَادِيثِهِ، وَمِيكَائِيلَ وَهُوَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ وَحْدَهُ، وَالْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِتَصْوِيرِ ابْنِ آدَمَ، وَمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ، وَمَلَكِ الْجِبَالِ، وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ، وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ فِي السَّحَابِ، وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَخَزَنَةِ الْجَنَّةِ، وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ.

وَوَقَعَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَأَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْمُصَلِّي وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَيَدْعُونَ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ، وَيَلْعَنُونَ مَنْ هَجَرَتْ فِرَاشَ زَوْجِهَا، وَمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَاصًّا مِنْهُمْ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَبِأَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَبِأَنَّهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ ذُو قُوَّةٍ مَكِينٌ مُطَاعٌ أَمِينٌ، وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ سُرْيَانِيًّا لَكِنَّهُ وَقَعَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُوَ إِصْلَاحُ مَا وَهِيَ، وَجِبْرِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِصْلَاحُ الْعَامُّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَرَبِيٌّ وَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرُوتِ اللَّهِ، وَاسْتُبْعِدَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِ صَرْفِهِ وَفِي اللَّفْظَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لُغَةً أَوَّلُهَا جِبْرِيلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ ثُمَّ لَامٍ خَفِيفَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَنَافِعٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَاصِمٍ، ثَانِيهَا بِفَتْحِ الْجِيمِ قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، ثَالِثُهَا مِثْلُهُ لَكِنْ بِفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ هَمْزَةٌ قَرَأَهَا حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، رَابِعُهَا مِثْلُهُ بِحَذْفِ مَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ قَرَأَهَا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ. خَامِسُهَا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ. سَادِسُهَا بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ ثُمَّ هَمْزَةٌ ثُمَّ يَاءٌ ثُمَّ لَامٌ خَفِيفَةٌ قَرَأَهَا عِكْرِمَةُ. سَابِعُهَا مِثْلُهَا بِغَيْرِ هَمْزٍ قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ.

ثَامِنُهَا مِثْلُ السَّادِسَةِ إِلَّا أَنَّهَا بِيَاءٍ قَبْلَ الْهَمْزِ. تَاسِعُهَا جَبْرَالُ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَامٍ خَفِيفَةٍ. عَاشِرُهَا مِثْلُهُ لَكِنْ بِيَاءٍ بَعْدَ الْأَلِفِ قَرَأَهَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. حَادِي عَشْرَهَا جَرِينُ مِثْلُ كَثِيرٍ لَكِنْ بِنُونٍ. ثَانِي عَشْرَهَا مِثْلُهُ لَكِنْ بِكَسْرِ الْجِيمِ. ثَالِثُ عَشْرَهَا مِثْلُ حَمْزَةَ لَكِنْ بِنُونٍ بَدَلَ اللَّامِ لَخَّصْتُهُ مِنْ إِعْرَابِ السَّمِينِ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: جِبْرِيلُ مِنَ الْكُرُوبِيِّينَ وَهُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: عَلَى الرِّيحِ وَالْجُنُودِ، قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ؟ قَالَ: عَلَى النَّبَاتِ وَالْقَطْرِ، قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ قَالَ: عَلَى قَبْضِ الْأَرْوَاحِ الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ ضُعِّفَ لِسُوءِ حِفْظِهِ وَلَمْ يُتْرَكْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا وَزَيْدٍ أَيْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ جِبْرِيلَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وَهُوَ مُقْتَضَى عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} وَفِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ مَوْتِ مَلَكِ الْمَوْتِ بَعْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ: مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا؟ قَالَ: مَا ضَحِكَ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ وَأَمَّا

ص: 307

مَلَكُ التَّصْوِيرِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا مَلَكُ الْجِبَالِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ أَيْضًا، وَمِنْ مَشَاهِيرِ الْمَلَائِكَةِ إِسْرَافِيلُ وَلَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ رَوَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَجُوزِيَ بِوِلَايَةِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا أَوْ نَبِيًّا مَلِكًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ الْحَدِيثَ، وَقَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ الْعَظَمَةِ لِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَحَادِيثَ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ فَلْيَطْلُبْهَا مِنْهُ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ: مِنْهُمُ الْأُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ، وَالْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ، وَالسَّدَنَةُ لِجِنَانِهِ، وَالثَّابِتَةُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ، الْخَارِجَةُ عَنِ الْأَقْطَارِ أَكْنَافُهُمْ، الْمَاسَّةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَوْرَدَهُ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قُبَيْلَ أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ سَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ خَلِيفَةَ، وَهُنَاكَ عَلَى لَفْظِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَسَأُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَلْآنٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: مَلْأَى وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْإِنَاءِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الطَّسْتِ لِأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ: مُلِئَ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى لَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، فَعَلَى هَذَا لَا تَغَايُرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَلْآنٍ، وَقَوْلُهُ مَرَاقِّ الْبَطْنِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ هُوَ مَا سَفَلَ مِنَ الْبَطْنِ وَرَقَّ مِنْ جِلْدِهِ، وَأَصْلُهُ مَرَاقِقُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ رِقَّةِ الْجِلْدِ.

وَقَوْلُهُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَرْكُوبًا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ إِلَخْ يُرِيدُ أَنَّ هَمَّامًا فَصَّلَ فِي سِيَاقِهِ قِصَّةَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ مِنْ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، فَرَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقِصَّةَ الْبَيْتِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَأَمَّا سَعِيدٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهِشَامٌ وَهُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ فَأَدْرَجَا قِصَّةَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ هَمَّامٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ هُنَا عَنْ هُدْبَةَ عَنْهُ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ عَنْ هُدْبَةَ، فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ فَرَفَعَ لِيَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَلَا يَعُودُونَ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ عَنْ هُدْبَةَ بِهِ مُفَصَّلًا، وَعُرِفَ بِذَلِكَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِذَاءِ الْكَعْبَةِ لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا، يَدْخُلُهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ قَتَادَةَ كَانَ تَارَةً يُدْرِجُ قِصَّةَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَتَارَةً يَفْصِلُهَا، وَحِينَ يَفْصِلُهَا تَارَةً يَذْكُرُ سَنَدَهَا وَتَارَةً يُبْهِمُهُ، وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ

وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ قَالَ: السَّمَاءُ، وَعَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ قَالَ: بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْبَيْتِ حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ هَذَا فِي الْأَرْضِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّا.، وَلِابْنِ مَرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَنَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَالِحٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ،

ص: 308

وَهُوَ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ لَكِنْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَزَادَ: وَفِي السَّمَاءِ نَهْرٌ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَوَانِ يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلَّ يَوْمٍ فَيَغْمِسُ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ فَيَخِرُّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكًا، فَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ بِدُونِ ذِكْرِ النَّهَرِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَكِنْ مَوْقُوفًا، وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ هُوَ الْكَعْبَةُ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ.

وَبِهِ جَزَمَ شَيْخُنَا فِي الْقَامُوسِ، وَقِيلَ هُوَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، وَقِيلَ هُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقِيلَ إِنَّهُ بِنَاءُ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رُفِعَ زَمَنَ الطُّوفَانِ، وَكَأَنَّ هَذَا شَبَّهَهُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْكَعْبَةُ، وَيُسَمَّى الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ الضِّرَاحَ وَالضَّرِيحَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ مُوَكَّلٌ بِمَا ذُكِرَ عِنْدَ تَصْوِيرِ الْآدَمِيِّ، وَسَيَأْتِي مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الصَّادِقُ أَيْ فِي قَوْلِهِ والْمَصْدُوقُ أَيْ فِيمَا وَعَدَهُ بِهِ رَبُّهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَوْصُولَةٍ وَمُعَلَّقَةٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الْمُعَلَّقَةِ، وَهِيَ مُتَابَعَةُ أَبِي عَاصِمٍ، وَقَدْ وَصَلَهَا فِي الْأَدَبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ هُنَا، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُعَلِّقُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَا عَاصِمٍ مِنْ شُيُوخِهِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ إِلَخْ) زَادَ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي آخِرِهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَإِذَا أَبْغَضَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ رَوْحٍ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) قَالَ الْجَيَّانِيُّ: مُحَمَّدٌ هَذَا هُوَ الذُّهْلِيُّ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: مُحَمَّدٌ هَذَا هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي، فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَأَبَا نُعَيْمٍ لَمْ يَجِدَا الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَأَخْرَجَاهُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ لَمَا ضَاقَ عَلَيْهِمَا مَخْرَجُهُ، وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْأَدْنَى مِصْرِيُّونَ، وَلِلَّيْثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ سَيَأْتِي فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ قَرِيبًا، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الطِّبِّ، وَقَوْلُهُ الْعَنَانُ هُوَ السَّحَابُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَوَاحِدُهُ عَنَانَةٌ كَسَحَابَةٍ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ السَّحَابُ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَدْرَجَهُ فِي الْخَبَرِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْجُمُعَةِ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ وَالْأَغَرِّ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ:، وَالْأَعْرَجِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَغَرِّ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ وَحْدَهُ. وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَفَادَهُ الْجَيَّانِيُّ، عَنِ ابْنِ السَّكَنِ قَالَ: وَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَدِيثُ الْأَغَرِّ لَا الْأَعْرَجِ.

قُلْتُ: بَلْ وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ أَيْضًا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَظَهَرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَمَلَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ تَارَةً يُفْرِدُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ وَتَارَةً يَذْكُرُهُ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَتَارَةً عَنْ ثَلَاثَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَغَرِّ وَحْدَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ

ص: 309

رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَغَر جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَحْدَهُ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ وَحْدَهُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ لِحَسَّانَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ رُوحِ الْقُدُسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَبَيَّنْتُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ حَسَّانَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ مُرَاجَعَتُهُ لِحَسَّانَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: مَا حَفِظْتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَ سَعِيدًا بِالْقِصَّةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِمُدَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: سِيَاقُ الْبُخَارِيِّ صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِرْسَالِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي ذِكْرِ حَسَّانَ أَيْضًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ جِبْرِيلُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعِ عن سَعِيدٍ فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ، عَنْ حَسَّانَ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ أَنَسٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى غُبَارٍ سَاطِعٍ فِي سِكَّةِ بَنِي غَنْمٍ السِّكَّةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّشْدِيدِ: الزُّقَاقُ، وَبَنُو غَنْمٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ بَنُو غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ بن النَّجَّارِ. مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَآخَرُونَ. وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ هُنَا بَنُو غَنْمٍ حَيٌّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (زَادَ مُوسَى مَوْكِبَ جِبْرِيلَ) مُوسَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَزَادَ فِي الْمَتْنِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ. وَطَرِيقُ مُوسَى هَذِهِ مَوْصُولَةٌ فِي الْمَغَازِي عَنْهُ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُعَلِّقُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَطَّرِدْ لَهُ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَمُوسَى مِنْ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ عَلَّقَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ مَا أَخَذَهُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَعَلَّقَ عَنْ مُوسَى مَا أَخَذَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا يُعَلِّقُهُ عَنْ مَشَايِخِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمْ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَذْكُرُ عَنْ مَشَايِخِهِ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا حَمَلَهُ عَنْهُمْ بِالْمُنَاوَلَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَغَازِي بِتَحْدِيثِ مُوسَى لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَلَوْ كَانَ مُنَاوَلَةً لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحْدِيثِ. وَقَوْلُهُ: مَوْكِبُ جِبْرِيلَ يَجُوزُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ كَنَظَائِرِهِ، وَرَجَّحَ ابْنُ التِّينِ الْخَفْضَ. وَإِسْحَاقُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَجَزَمَ بِهِ الْكَلَابَاذِيُّ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَجِيءِ الْوَحْيِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدَّمْتُ أَنَّ عَامِرَ بْنَ صَالِحٍ الزُّبَيْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَإِنِّي وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْحَاكِمِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ صَالِحٍ تَفَرَّدَ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمُتَابَعُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ سَأَلْتُ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْجِهَادِ: أَدْخَلَ الْأَوْزَاعِيُّ بَيْنَ يَحْيَى، وَأَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ.

قُلْتُ: رِوَايَتُهُ عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَيَحْيَى مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا أَثْبَتَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي سَلَامِ جِبْرِيلَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَنَاقِبِ، وَإِسْمَاعِيلُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ

ص: 310

ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ

(1)

وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي إِسْنَادِهِ، فَقَالَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ يُونُسَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وَسِيَاقُهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ وَكِيعٍ، وَيَحْيَى الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَيُقَالُ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ بِضَمِّ الْعَيْنِ اتِّفَاقًا، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ فِيهِ عَمْرٌو.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُهُ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، وَفَاطِمَةُ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُهُ فِي مُدَارَسَةِ جِبْرِيلَ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَوْلُهُ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ مَوْصُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، وَكَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ كَانَ يَفْصِلُ الرِّوَايَةَ فِيهِ عَنْ شَيْخَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ قَوْلُهُ: وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَفَاطِمَةُ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَصَلَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَوَصَلَهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ فِي صَلَاةِ جِبْرِيلَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَمَامَ، وَحَكَى ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْكَسْرِ وَاسْتَشْكَلَهُ؛ لِأَنَّ إِمَامَ مَعْرِفَةٌ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْحَالِ فَوَجَبَ جَعْلُهُ نَكِرَةً بِالتَّأْوِيلِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَضْمُومًا إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ هُنَا: قَالَ: وَإِنْ زَنَى لَمْ يُعَيِّنِ الْقَائِلَ، وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَبُو ذَرٍّ الرَّاوِي، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ وَإِنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ حَذْفِ فِعْلِ الشَّرْطِ وَالِاكْتِفَاءِ بِحَرْفِهِ، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الرُّوَاةِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

‌7 - بَاب إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ

3224 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَشَوْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وِسَادَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ كَأَنَّهَا نُمْرُقَةٌ، فَجَاءَ فَقَامَ بَيْنَ الناس وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: وِسَادَةٌ جَعَلْتُهَا لَكَ لِتَضْطَجِعَ عَلَيْهَا. قَالَ: أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ؟ وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ الصُّورَةَ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيَقُولُ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ.

(1)

في هامش طبعة بولاق: هذا ليس سند الحديث الحادي عشر في نسخ المتن التي بأيدينا بل سند الحديث الثالث عشر، و منتهاه إلى ابن عباس لا إلى عائشة، فإما كلامه سبق قلم و إما نسخته التي شرح عليها غير نسختنا التي بأيدينا

ص: 311

3225 -

حدثنا ابن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أنه سمع بن عباس رضي الله عنهما يقول سمعت أبا طلحة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل".

[الحديث 3225 - أطرافه في: 3226، 3322، 4002، 5949، 5958]

3226 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ وَمَعَ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ الَّذِي كَانَ فِي حَجْرِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمَا زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ قَالَ بُسْرٌ فَمَرِضَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فَعُدْنَاهُ فَإِذَا نَحْنُ فِي بَيْتِهِ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ فَقُلْتُ لعبيد الله الْخَوْلَانِيِّ أَلَمْ يُحَدِّثْنَا فِي التَّصَاوِيرِ فَقَالَ إِنَّهُ قَالَ إِلاَّ رَقْمٌ فِي ثَوْبٍ أَلَا سَمِعْتَهُ قُلْتُ لَا قَالَ بَلَى قَدْ ذَكَرَهُ".

3227 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "وَعَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ".

[الحديث 3227 - طرفه في: 5960]

3228 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

3229 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ مَا لَمْ يَقُمْ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يُحْدِثْ".

3230 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ}. قَالَ سُفْيَانُ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَنَادَوْا يَا مَالِ".

[الحديث 3230 - طرفاه في: 3266، 4819]

3231 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ

ص: 312

كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".

[الحديث 3231 - طرفه في: 7389]

3232 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ".

[الحديث 3232 - طرفاه في: 4856، 4857]

3233 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ: "رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ".

[الحديث 3233 - طرفه في: 4858]

3234 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الأُفُقِ".

[الحديث 3234 - أطرافه في: 3235، 4612، 4855، 7380، 7531]

3235 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ ابْنِ الأَشْوَعِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَيْنَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قَالَتْ ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الأُفُقَ".

3236 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالَا الَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ".

ص: 313

3237 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ". تَابَعَهُ شُعْبَةُ وَأَبُو حَمْزَةَ وَابْنُ دَاوُدَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ.

[الحديث 3237 - طرفاه في: 5193، 5194]

3238 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ عَنِّي الْوَحْيُ فَتْرَةً فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِّجْزُ: الأَوْثَانُ".

3239 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ. وقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ - يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعًا، مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبِطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} قَالَ أَنَسٌ، وَأَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَحْرُسُ الْمَلَائِكَةُ الْمَدِينَةَ مِنْ الدَّجَّالِ.

[الحديث 3239 - طرفه في: 3396]

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ بِإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ هُنَا بَابُ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَصَارَ تَرْجَمَةً بِغَيْرِ حَدِيثٍ وَصَارَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَتْلُوهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ فَأَشْكَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، فَخَفَّ الْإِشْكَالُ، لَكِنْ لَوْ قَالَ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ أَوْ وَبِهِ قَالَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَزَالَ الْإِشْكَالُ، وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَإِنَّهُ سَاقَ حَدِيثَ يَتَعَاقَبُونَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ، فَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَذَلِكَ، وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ بَقِيَّةُ تَرْجَمَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَشَوْتُ وِسَادَةً، تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اللِّبَاسِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ، وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الْأَوْزَاعِيُّ، ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إِسْنَادِهِ، يَعْنِي حَيْثُ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَهُ، قَالَ:

ص: 314

وَرَوَاهُ سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ نَحْوَ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ. قُلْتُ: هُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ فَأَثْبَتَ ابْنَ عَبَّاسٍ تَارَةً وَأَسْقَطَهُ تَارَةً وَرَجَّحَ رِوَايَةَ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَمْرٌو) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ سَالِمًا وَالصَّوَابُ عُمَرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي اللِّبَاسِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَوْلُهُ: وَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا وَسَاقَهُ فِي اللِّبَاسِ بِتَمَامِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثه: أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا أَيْضًا فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَابْنُ فُلَيْحٍ هُوَ مُحَمَّدٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ابْنُ أَفْلَحَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

الْحَدِيثُ السادس وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى أَيِ ابْنِ أُمَيَّةَ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَهُمْ مَكِّيُّونَ.

قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: وَنَادَوْا يَا مَالُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَنَادَوْا يَا مَالُ) يَعْنِي بِغَيْرِ كَافٍ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكُمْ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ عَبْدِ يَالِيلَ) بِتَحْتَانِيَّةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ لَامٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ (ابْنُ عَبْدِ كُلَالٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَاسْمُهُ كِنَانَةُ، وَالَّذِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ هُوَ عَبْدُ يَالِيلَ نَفْسُهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ عَبْدَ كُلَالٍ أَخُوهُ لَا أَبُوهُ، وَأَنَّهُ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ، وَيُقَالُ اسْمُ ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ مَسْعُودٌ وَلَهُ أَخٌ أَعْمَى لَهُ ذِكْرٌ فِي السِّيرَةِ فِي قَذْفِ النُّجُومِ عِنْدَ الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ ابْنُ عَبْدِ يَالِيلَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّائِفِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ الثَّقَفِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هُمَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُود، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ فِيهِ: يَعْنِي كِنَانَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ عَظِيمُ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَالِيلَ وَفَدَ مَعَ وَفْدِ الطَّائِفِ سَنَةَ عَشْرٍ فَأَسْلَمُوا، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ لِذَلِكَ، لَكِنْ ذَكَرَ الْمَدِينِيُّ أَنَّ الْوَفْدَ أَسْلَمُوا إِلَّا كِنَانَةَ فَخَرَجَ إِلَى الرُّومِ وَمَاتَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ تَوَجَّهَ إِلَى الطَّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ، فَعَمَدَ إِلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَهُمْ سَادَتُهُمْ وَهُمْ إِخْوَة عَبْدِ يَالِيلَ، وَحَبِيبٌ، وَمَسْعُودٌ بَنُو عَمْرٍو، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَشَكَا إِلَيْهِمْ مَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَقْبَحَ رَدٍّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ مُطَوَّلًا، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْمَبْعَثِ وَأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَخَدِيجَةَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى وَجْهِي) أَيْ عَلَى الْجِهَةِ الْمُوَاجِهَةِ لِي.

قَوْلُهُ: (بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ) هُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الْمَنَازِلِ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَرْنٌ كُلُّ جَبَلٍ صَغِيرٍ مُنْقَطِعٍ مِنْ جَبَلٍ كَبِيرٍ، وَحَكَى

ص: 315

عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ: هُوَ غَلَطٌ، وَحَكَى الْقَابِسِيُّ أَنَّ مَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ أَرَادَ الْجَبَلَ، وَمَنْ حَرَّكَهَا أَرَادَ الطَّرِيقَ الَّتِي بِقُرْبٍ مِنْهُ، وَأَفَادَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالطَّائِفِ كَانَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ.

قَوْلُهُ: (مَلَكُ الْجِبَالِ) أَيِ الْمُوَكَّلُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخَيْهِ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَمَا شِئْتَ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مِقْدَامِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ، قَوْلُهُ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَمَا عَلِمْتَ أَوْ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ، وَقَوْلُهُ: مَا شِئْتَ اسْتِفْهَامٌ وَجَزَاؤُهُ مُقَدَّرٌ

(1)

أَيْ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ.

قَوْلُهُ: (الْأَخْشَبَيْنِ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالَّذِي يُقَابِلُهُ وَكَأَنَّهُ قُعَيْقِعَانَ، وَقالَ الصَّغَانِيُّ: بَلْ هُوَ الْجَبَلُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ هُوَ ثَوْرٌ كَالْكِرْمَانِيِّ، وَسُمِّيَا بِذَلِكَ لِصَلَابَتِهِمَا وَغِلَظِ حِجَارَتِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِإِطْبَاقِهِمَا أَنْ يَلْتَقِيَا عَلَى مَنْ بِمَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ طَبَقًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (بَلْ أَرْجُو) كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَا أَرْجُو، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ شَفَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمِهِ، وَمَزِيدِ صَبْرِهِ وَحِلْمِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: خَضِرًا وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مَصْرُوفًا، يَقُولُونَ: أَخْضَرُ خَضِرٌ، كَمَا قَالُوا: أَعْوَرُ عَوِرٌ، وَلِبَعْضِهِمْ بِسُكُونِ ثَانِيهِ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّ الرَّفْرَفَ يُؤَنَّثُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَمْعُ رَفْرَفَةٍ فَعَلَى هَذَا فَيُتَّجَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِلْخَطَّابِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ بَسَطَ أَجْنِحَتَهُ كَمَا يُبْسَطُ الثَّوْبُ، وَهَذَا لَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ ذَكَرَهُ عَنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ أَيْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ

(2)

.

وَالثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} الْحَدِيثَ نَحْوَهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَابْنُ أَشْوَعَ بِالْمُعْجَمَةِ وَزْنُ أَحْمَدَ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَشْوَعَ نِسْبَةً لِجَدِّهِ، وَلِلْأَكْثَرِ ابْنُ الْأَشْوَعِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ هُنَا عَنْ أَبِي الْأَشْوَعِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كُنْيَتَهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ سَمُرَةَ: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَقَدْ مَضَى مُطَوَّلًا فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شُعْبَةُ، وَأَبُو حَمْزَةَ، وَابْنُ دَاوُدَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ) أَيْ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ شُعْبَةَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي النِّكَاحِ وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْمَتْنِ هُنَاكَ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي حَمْزَةَ فَلَمْ أَجِدْهَا، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ ابْنِ دَاوُدَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْخُرَيْبِيُّ بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ فَوَصَلَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: لعل فيه سقطا، والأصل والله أعلم:"وقوله: ما شئت استفهام، وقوله: إن شئت شرط وجزاؤه مقدر".

(2)

قال مصحح طبعة بولاق: لعل الأولى "أو المفعول محذوف" كما صرح به القسطلاني.

ص: 316

الْكَبِيرِ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رُؤْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَ رِوَايَتَيْ شُعْبَةَ، وَسَعِيدٍ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ سَعِيدٍ، وَفِي رِوَايَتِهِ زِيَادَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ. قُلْتُ: سَأُبَيِّنُ ذَلِكَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ، وَالسَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ.

قَوْلُهُ (قَالَ أَنَسٌ، وَأَبُو بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَحْرُسُ الْمَلَائِكَةُ الْمَدِينَةَ مِنَ الدَّجَّالِ) أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ أَوَاخِرَ الْحَجِّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا فِي الْفِتَنِ، وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ (آدَمُ طُوَالًا) هُوَ بِمَدِّ أَلِفِ آدَمَ كَلَفْظِ جَدِّ الْبَشَرِ، وَالْمُرَادُ هُنَا وَصْفُ مُوسَى بِالْأَدَمَةِ وَهِيَ لَوْنٌ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ.

‌8 - بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {مُطَهَّرَةٌ} مِنْ الْحَيْضِ وَالْبَوْلِ وَالْبُزَاقِ. {كُلَّمَا رُزِقُوا} أُتُوا بِشَيْءٍ ثُمَّ أُتُوا بِآخَرَ، {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أُتِينَا مِنْ قَبْلُ. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَخْتَلِفُ فِي الطّعم. {قُطُوفُهَا} يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا. {دَانِيَةٌ} قَرِيبَةٌ. الْأَرَائِكُ: السُّرُرُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الْوُجُوهِ، وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{سَلْسَبِيلا} حَدِيدَةُ الْجِرْيَةِ. {غَوْلٌ} وَجَعُ الْبَطْنِ. {يُنْزَفُونَ} لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{دِهَاقًا} مُمْتَلِئًا. كَوَاعِبَ): نَوَاهِدَ. الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ. التَّسْنِيمُ: يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. {خِتَامُهُ} طِينُهُ {مِسْكٌ} ، {نَضَّاخَتَانِ} فَيَّاضَتَانِ، يُقَالُ: مَوْضُونَةٌ: مَنْسُوجَةٌ، مِنْهُ: وَضِينُ النَّاقَةِ، وَالْكُوبُ مَا لَا أُذْنَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ، وَالْأَبَارِيقُ ذَوَاتُ الْآذَانِ وَالْعُرَى. {عُرُبًا} مُثَقَّلَةً وَاحِدُهَا عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةِ الْعَرِبَةَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الْغَنِجَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ الشَّكِلَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَوْحٌ: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ، وَالْمَنْضُودُ: الْمَوْزُ، وَالْمَخْضُودُ: الْمُوقَرُ حَمْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: لَا شَوْكَ لَهُ، وَالْعُرُبُ: الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَيُقَالُ: مَسْكُوبٌ: جَارٍ. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. {لَغْوًا} بَاطِلًا. {تَأْثِيمًا} كَذِبًا. أَفْنَانٌ: أَغْصَانٌ. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ. {مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنْ الرِّيِّ.

3240 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ.

ص: 317

3241 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".

[الحديث 3241 - أطرافه في: 5198، 6449، 6546]

3242 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ".

[الحديث 3242 - أطرافه في: 3680، 5227، 7023، 7025]

3243 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِ أَهْلٌ لَا يَرَاهُمْ الْآخَرُونَ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ "سِتُّونَ مِيلًا".

[الحديث 3243 - طرفه في: 4879]

3244 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .

[الحديث 3244 - أطرافه في: 4779، 4780، 7498]

3245 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".

[الحديث 3245 - أطرافه في: 3246، 3254، 3327]

3246 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

ص: 318

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنْ الْحُسْنِ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَا يَسْقَمُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ آنِيَتُهُمْ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمْ الأَلُوَّةُ قَالَ أَبُو الْيَمَانِ يَعْنِي الْعُودَ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ".

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ - أُرَاهُ - تَغْرُبَ.

3247 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَدْخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".

[الحديث 3247 - طرفاه في: 6543، 6554]

3248 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: "أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا".

3249 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبٍ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهِ وَلِينِهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا".

[الحديث 3249 - أطرافه في: 3802، 5836، 6640]

3250 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".

3251 -

حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا".

3252 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ

ص: 319

سَنَةٍ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} .

[الحديث 3252 - طرفه في: 4881]

3253 -

"وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ".

3254 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَحَاسُدَ لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ".

3255 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ".

3256 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".

[الحديث 3256 - طرفه في: 6556]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ) أَيْ: مَوْجُودَةٌ الْآنَ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً دَالَّةً عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ: فَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهَا مَوْجُودَةً الْآنَ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَتِهَا. وَأَصْرَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْبَوْلِ وَالْبُصَاقِ، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا

(1)

إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ مُفَرَّقًا دُونَ أَوَّلِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَمِنَ الْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ لَكِنْ قَالَ: مِنَ الْأَذَى وَالْإِثْمِ، وَرَوَى هَذَا عَنْ قَتَادَةَ مَوْصُولًا قَالَ: عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَتَمَّ مِنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: يَطُوفُ الْوِلْدَانُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْفَوَاكِهِ فَيَأْكُلُونَهَا، ثُمَّ يُؤْتَوْنَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَذَا الَّذِي أَتَيْتُمُونَا بِهِ آنِفًا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: كُلُوا فَإِنَّ اللَّوْنَ وَاحِدٌ وَالطَّعْمَ مُخْتَلِفٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَبْلِيَّةِ هُنَا مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا وَالطَّبَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ قَالَ: أُتُوا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا وَرَجَّحَ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: نسخ المتن التي بأيدينا ليس فيها لفظ "منها".

ص: 320

هَذَا الطَّبَرِيُّ مِنْ جِهَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا رُزِقُوهُ، قَالَ: فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوَّلُ رِزْقٍ رُزِقُوهُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَكُونَ قَبْلَهُ إِلَّا مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَخْتَلِفُ فِي الطَّعْمِ) هُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مُتَشَابِهًا أَيْ خِيَارًا لَا رَدَاءَةَ فِيهِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ أُتِينَا وَلِغَيْرِهِ أُوتِينَا وَهُوَ الصَّوَابُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ مِنْ أُوتِيتُهُ بِمَعْنَى أُعْطِيتُهُ، وَلَيْسَ مِنْ أَتَيْتُهُ بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى جِئْتُهُ.

قَوْلُهُ: (قُطُوفُهَا: يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا. دَانِيَةً: قَرِيبَةً) أَمَّا قَوْلُهُ: يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قَالَ: يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ شَاءَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: دَانِيَةً قَرِيبَةً فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: دَنَتْ فَلَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ.

قَوْلُهُ: (الْأَرَائِكُ: السُّرُرُ) رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَرَائِكُ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ جَمِيعًا أَنَّ الْأَرِيكَةَ هِيَ الْحَجْلَةُ عَلَى السَّرِيرِ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ: الْأَرِيكَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا سَرِيرًا مُتَّخَذًا فِي قُبَّةٍ عَلَيْهِ شَوَارِهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسْنُ النَّضْرَةُ فِي الْوَجْهِ وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ) رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سَلْسَبِيلا} حَدِيدَةُ الْجِرْيَةِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَحَدِيدَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْضًا أَيْ قَوِيَّةُ الْجِرْيَةِ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ الْقَابِسِيَّ رَوَاهَا حَرِيدَةُ بِرَاءٍ بَدَلَ الدَّالِ الْأُولَى وَفَسَّرَهَا بِلَيِّنَةٍ، قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ لَا يُعْرَفُ وَإِنَّمَا فَسَرُّوا السَّلْسَبِيلَ بِالسَّهْلَةِ اللَّيِّنَةِ الْجِرْيَةِ. قُلْتُ: يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى تَفْسِيرِ قَتَادَةَ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا} قَالَ: سِلْسِلَةٌ لَهُمْ يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَجْرِي شِبْهَ السَّيْلِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ قُوَّةَ الْجَرْيِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ بَلْ أَرَادَ مُجَاهِدٌ صِفَةَ جَرْيِ الْعَيْنِ، وَأَرَادَ قَتَادَةُ صِفَةَ الْمَاءِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: السَّلْسَبِيلُ اسْمُ الْعَيْنِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلَكِنِ اسْتُبْعِدَ لِوُقُوعِ الصَّرْفِ فِيهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامٌ مَفْصُولٌ مِنْ فِعْلِ أَمْرٍ وَاسْمِ مَفْعُولٍ.

قَوْلُهُ: {غَوْلٌ} وَجَعُ الْبَطْنِ. {يُنْزَفُونَ} لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ) رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دِهَاقًا: مُمْتَلِئَةً) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ قَالَ: الْكَأْسُ الدِّهَاقُ الْمُمْتَلِئَةُ الْمُتَتَابِعَةُ، وَسَيَأْتِي فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: {وَكَوَاعِبَ} نَوَاهِدَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} قَالَ: نَوَاهِدُ، انْتَهَى. وَهُوَ جَمْعُ نَاهِدٍ، وَالنَّاهِدُ الَّتِي بَدَا نَهْدُهَا.

قَوْلُهُ: (الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} قَالَ: الْخَمْرُ خُتِمَ بِالْمِسْكِ، وَقِيلَ: الرَّحِيقُ هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (التَّسْنِيمُ يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّسْنِيمُ يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ صِرْفٌ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَيُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.

قَوْلُهُ: {خِتَامُهُ} طِينُهُ مِسْكٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ: طِينُهُ مِسْكٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَالْمُرَادُ مَا يَبْقَى آخِرَ الْإِنَاءِ مِنَ الدُّرْدِيِّ مَثَلًا. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ آخِرَ

ص: 321

شُرْبِهِمْ يُخْتَمُ بِرَائِحَةِ الْمِسْكِ. قُلْتُ: هَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ فِي قَوْلِهِ خِتَامُهُ مِسْكٌ قَالَ: هُوَ شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ آخِرَ شَرَابِهِمْ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خِتَامُهُ آخِرُ طَعْمِهِ.

قَوْلُهُ: {نَضَّاخَتَانِ} فَيَّاضَتَانِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ {مَوْضُونَةٍ} مَنْسُوجَةٌ، مِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: مَوْضُونَةٍ أَيْ مَنْسُوجَةٍ، وَإِنَّمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ وَضِينَ النَّاقَةِ وَضِينًا لِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: على {سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} يُقَالُ: مُتَدَاخِلَةٌ كَمَا يُوصَلُ حَلَقُ الدِّرْعِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ مُضَاعَفَةً. قَالَ: وَالْوَضِينُ الْبِطَانُ إِذَا نُسِجَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مُضَاعَفًا، وَهُوَ وَضِينٌ فِي مَوْضِعِ مَوْضُونٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: مَوْضُونَةٍ قَالَ: التَّوْضِينُ التَّشْبِيكُ وَالنَّسْجُ، يَقُولُ وَسَطُهَا مُشَبَّكٌ مَنْسُوجٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: مَوْضُونَةٍ قَالَ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ.

قَوْلُهُ: (وَالْكُوبُ مَا لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ، وَالْأَبَارِيقُ ذَوَاتُ الْآذَانِ وَالْعُرَى) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ سَوَاءٌ، وَروي عن عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الْكُوبُ الَّذِي دُونَ الْإِبْرِيقِ لَيْسَ لَهُ عُرْوَةٌ.

قَوْلُهُ: {عُرُبًا} مُثَقَّلَةٌ) أَيْ مَضْمُومَةُ الرَّاءِ (وَاحِدُهَا عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ) أَيْ عَلَى وَزْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَحَكَى عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: عُرْبًا بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ كَالرُّسُلِ وَالرُّسْلِ بِالتَّخْفِيفِ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْوَجْهُ التَّثْقِيلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ أَوْ فَعِيلٍ أَوْ فِعَالٍ جُمِعَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَهُوَ مُثَقَّلٌ مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا، قُلْتُ: مُرَادُهُمْ بِالتَّثْقِيلِ الضَّمُّ وَبِالتَّخْفِيفِ الْإِسْكَانُ.

قَوْلُهُ: (يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةَ الْعَرِبَةُ إِلَخْ) جَزَمَ الْفَرَّاءُ بِأَنَّهَا الْغَنِجَةُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ قَالَ: هِيَ الشَّكِلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَغْنُوجَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُهُ فِي كِتَابِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هِيَ الْحَسَنَةُ الْكَلَامِ، وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: الْعُرُبُ كَلَامُهُنَّ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ حِذَامٍ فِي قَوْلِهِ:{عُرُبًا} قَالَ: الْعَرِبَةُ الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ، كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَسَنَةُ التَّبَعُّلِ: إِنَّهَا لَعَرِبَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: الْعَرِبَةُ الَّتِي تَشْتَهِي زَوْجَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِلنَّاقَةِ إِنَّهَا لَعَرِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَوْحٌ جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} قَالَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَرَوْحٌ قَالَ جَنَّةٌ، وَرَيْحَانٌ قَالَ رِزْقٌ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ وَرْقَاءَ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ:{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} قَالَ: الرَّوْحُ جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَالرَّيْحَانُ رِزْقٌ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَنْضُودُ الْمَوْزُ، وَالْمَخْضُودُ الْمُوقَرُ حَمْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا الَّذِي لَا شَوْكَ لَهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} قَالَ: الْمَوْزُ الْمُتَرَاكِمُ. وَالسِّدْرُ الْمَخْضُودُ الْمُوقَرُ حَمْلًا. وَيُقَالُ أَيْضًا الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْجَبُونَ بِوَجٍّ وَظِلَالِهِ مِنْ طَلْحٍ وَسِدْرٍ. قُلْتُ: وَجٌّ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ بِالطَّائِفِ، وَكَأَنَّ عِيَاضًا لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فَزَعَمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَشَارِقِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ تَخْلِيطٌ، قَالَ: وَالصَّوَابُ وَالطَّلْحُ الْمَوْزُ، وَالْمَنْضُودُ الْمُوقَرُ حَمْلًا الَّذِي نَضَدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ كَثْرَةِ حَمْلِهِ. كَذَا قَالَ، وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَسَانِيدِهِ إِلَيْهِمْ، فَنَقَلَ الْأَوَّلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَنَقَلَ الثَّانِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَأَنَّ عِيَاضًا اسْتَبْعَدَ تَفْسِيرَ الْخَضَدِ بِالثِّقَلِ لِأَنَّ الْخَضَدَ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْضًا أَنَّ الْخَضَدَ التَّثَنِّي، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، أَيْ أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ حَمْلِهِ انْثَنَى، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ

ص: 322

هُوَ فَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ اتِّفَاقَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّلْحِ الْمَنْضُودِ الْمَوْزُ، وَأَسْنَدَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا وَالطَّلْعِ بِالْعَيْنِ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا تُغَيِّرُهَا؟ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُهَاجُ الْيَوْمَ فَظَهَرَ بِذَلِكَ فَسَادُ الِاعْتِرَاضِ، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَالْعُرُبُ الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ) كَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْعُرُبُ الْعَوَاشِقُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا.

قَوْلُهُ: {مَسْكُوبٍ} جَارٍ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} وقَوْلُهُ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَصَلَهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ: الْمَرْفُوعَةُ الْعَالِيَةُ، تَقُولُ بِنَاءٌ مُرْتَفِعٌ أَيْ عَالٍ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قَالَ: ارْتِفَاعُهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْفُرُشَ الدَّرَجَةُ وَهَذَا الْقَدْرُ ارْتِفَاعٌ، قَالَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفُرُشِ الْمَرْفُوعَةِ النِّسَاءُ الْمُرْتَفِعَاتُ الْقَدْرِ بِحُسْنِهِنَّ وَجَمَالِهِنَّ.

قَوْلُهُ: (لَغْوًا بَاطِلًا، تَأْثِيمً كَذِبًا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} وَقَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَفْنَانٍ أَغْصَانٍ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} وَقَوْلُهُ: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى مِنْ قَرِيبٍ، وَصَلَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ يَعْنِي أَفْنَانَ أَلْوَانٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَوَاحِدُهَا عَلَى هَذَا فَنٌّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَنَنٌ، وَقَوْلُهُ:{مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ مُسْوَادَّتَانِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: {مُدْهَامَّتَانِ} يَعْنِي: خَضْرَاوَانِ إِلَى السَّوَادِ مِنَ الرِّيِّ، وَعَنْ عَطِيَّةَ: كَادَتَا أَنْ تَكُونَا سَوْدَاوَيْنِ مِنْ شِدَّةِ الرِّيِّ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ إِلَى السَّوَادِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا: الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي عَرْضِ مَقْعَدِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ زَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْجَنَائِزِ.

الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي رَجَاءٍ وَهُوَ الْعُطَارِدِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَكْثَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مَعَ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى أَبِي رَجَاءٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حَالَةَ اطِّلَاعِهِ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ. وَسَلْمٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَزَرِيرٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ أَوَّلُهُ زَايٌ بَعْدَهَا رَاءٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ أَيْضًا.

الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْقَصْرِ الَّذِي رَأَى لِعُمَرَ فِي الْجَنَّةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَنَامًا لَكِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْمَلَ حُكْمَ غَيْرَةِ عُمَرَ حَتَّى امْتَنَعَ مِنْ دُخُولِ الْقَصْرِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَا يَرَى فِي يَقَظَتِهِ أَوْ نَوْمِهِ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْجَنَّةِ إِذْ رَأَيْتُ فِيهَا جَارِيَةً، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: دُرٌّ مُجَوَّفٌ طُولُهُ وَقَعَ عِنْدَهُمَا بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْنَى الْخَيْمَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ السَّاتِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، وَالْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ سِتُّونَ مِيلًا يَعْنِي: أَنَّهُمَا رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَا سِتُّونَ بَدَلَ قَوْلِ هَمَّامٍ ثَلَاثُونَ، وَطَرِيقُ أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ هُنَاكَ، وَطَرِيقُ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ قُدَامَةَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: إِنَّ

ص: 323

لِلْعَبْدِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا أُعِدَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ السَّجْدَةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي صِفَةِ آدَمَ مِنْ وَجْهٍ رَابِعٍ.

قَوْلُهُ: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ) أَيْ جَمَاعَةٍ.

قَوْلُهُ: (صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ فِي الْإِضَاءَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الرِّقَاقِ بِلَفْظِ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هُنَا: وَالَّذِينَ عَلَى أَثَرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ) زَادَ فِي صِفَةِ آدَمَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: لَا يَسْقَمُونَ، وَقَدِ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ عَنْهُمْ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُونَ ولا يبولون وَلَا يَتَغَوَّطُونَ طَعَامَهُمْ، ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ وَكَأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِمَّا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، قَالَ: الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَذًى، قَالَ: تَكُونُ حَاجَةُ أَحَدِهِمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، وَسَمَّى الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ هَذَا السَّائِلَ ثَعْلَبَةَ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتْ أَغْذِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَذًى وَلَا فَضْلَةً تُسْتَقْذَرُ، بَلْ يَتَوَلَّدُ عَنْ تِلْكَ الْأَغْذِيَةِ أَطْيَبُ رِيحٍ وَأَحْسَنُهُ.

قَوْلُهُ: (آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: وَالْفِضَّةُ، وَقَالَ فِي الْأَمْشَاطِ عَكْسَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصِّنْفَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ لِبَعْضِهِمْ وَالْآخَرُ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ دَرَجَةً لَمَنْ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ عَشَرَةُ آلَافِ خَادِمٍ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ صَحْفَتَانِ وَاحِدَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَالْأُخْرَى مِنْ فِضَّةٍ، الْحَدِيثَ.

(تَنْبِيهٌ):

الْمُشْطُ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ وَالْأَفْصَحُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ) الْأَلُوَّةُ الْعُودُ الَّذِي يُبَخَّرُ بِهِ، قِيلَ: جُعِلَتْ مَجَامِرُهُمْ نَفْسُ الْعُودِ، لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الْأَلُوَّةُ فَعَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ تَجَوُّزٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ الْأَلُوَّةُ قَالَ أَبُو الْيَمَانِ يَعْنِي الْعُودَ وَالْمَجَامِرُ جَمْعُ مِجْمَرَةٍ وَهِيَ الْمِبْخَرَةُ سُمِّيَتْ مِجْمَرَةً لِأَنَّهَا يُوضَعُ فِيهَا الْجَمْرُ لِيَفُوحَ بِهِ مَا يُوضَعُ فِيهَا مِنَ الْبَخُورِ، وَالْأَلُوَّةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَبِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ كَسْرَ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ وَقِيلَ زَائِدَةٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَرَاهَا فَارِسِيَّةً عُرِّبَتْ.

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ رَائِحَةَ الْعُودِ إِنَّمَا تَفُوحُ بِوَضْعِهِ فِي النَّارِ، وَالْجَنَّةُ لَا نَارَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: يُنْظَرُ هَلْ فِي الْجَنَّةِ نَارٌ؟ وَيُجَابُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْتَعِلَ بِغَيْرِ نَارٍ بَلْ بِقَوْلِهِ: كُنْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مِجْمَرَةً بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَعِلَ بِنَارٍ لَا ضَرَرَ فِيهَا وَلَا إِحْرَاقَ، أَوْ يَفُوحُ بِغَيْرِ اشْتِعَالٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَشْتَهِي الطَّيْرَ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَشْوِيًّا وَفِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ حَادِي الْأَرْوَاحِ، وَزَادَ فِي الطَّيْرِ أَوْ يُشْوَى خَارِجَ الْجَنَّةِ أَوْ بِأَسْبَابٍ قُدِّرَتْ لِإِنْضَاجِهِ وَلَا تَتَعَيَّنُ النَّارُ، قَالَ: وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} ، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وَهِيَ لَا شَمْسَ فِيهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ يُقَالُ أَيُّ حَاجَةٍ لَهُمْ إِلَى الْمُشْطِ وَهُمْ مُرْدٌ

ص: 324

وَشُعُورُهُمْ لَا تَتَّسِخُ؟ وَأَيُّ حَاجَةٍ لَهُمْ إِلَى الْبَخُورِ وَرِيحُهُمْ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ؟ قَالَ: وَيُجَابُ بِأَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَكِسْوَةٍ وَطِيبٍ وَلَيْسَ عَنْ أَلَمِ جُوعٍ أَوْ ظَمَإٍ أَوْ عُرْيٍ أَوْ نَتْنٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّاتٌ مُتَتَالِيَةٌ وَنِعَمٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنَعَّمُونَ بِنَوْعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَيْئَةِ تَنَعُّمِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاضُلِ فِي اللَّذَّةِ، وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَهُمْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ) أَيْ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي صِفَةِ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: وَإِنَّ لَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً سِوَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَفِي سَنَدِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَلِأَبِي يَعْلَى فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الطَّوِيلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فَيَدْخُلُ الرَّجُلُ عَلَى اثنتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِمَّا يُنْشِئُ اللَّهُ وَزَوْجَتَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَقَالَ غَرِيبٌ، وَمِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عِنْدَهُ: لِلشَّهِيدِ سِتُّ خِصَالٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَيَتَزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ رَفَعَهُ مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا زَوَّجَهُ اللَّهُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَسَبْعِينَ وَثِنْتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُزَوَّجُ خَمْسَمِائَةِ حَوْرَاءَ أَوْ إِنَّهُ لَيُفْضِي إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ بِكْرٍ وَثَمَانِيَةِ آلَافِ

ثَيِّبٍ، وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُفْضِي إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ زِيَادَةٌ عَلَى زَوْجَتَيْنِ سِوَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لِلْمُؤْمِنِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لَهُ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ صَحَّحَهُ الضِّيَاءُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صِفَةِ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَقَلَّ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ تَنْظِيرًا لِقَوْلِهِ جَنَّتَانِ وَعَيْنَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ تَثْنِيَةُ التَّكْثِيرِ وَالتَّعْظِيمِ نَحْوُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَكِنْ يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ الْمُتَقَدِّمِ: رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَكْثَرِيَّتِهِنَّ فِي النَّارِ نَفْيُ أَكْثَرِيَّتِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَقَلَّ سَاكِنِهَا النِّسَاءَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ كَوْنَهُنَّ أَكْثَرُ سَاكِنِي النَّارِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ لِمَا قَدَّمْتُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ خُرُوجِ الْعُصَاةِ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا وَقَعَ زَوْجَتَانِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَهِيَ لُغَةٌ تَكَرَّرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهَا وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ كَانَ يُنَكِّرُ زَوْجَةً وَيَقُولُ: إِنَّمَا هِيَ زَوْجٌ، قَالَ: فَأَنْشَدْنَاهُ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:

وَأنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي

لَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَنِيلُهَا

قَالَ: فَسَكَتَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ شَوَاهِدَ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ) فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعَظْمِ، وَالْمُخُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مَا فِي دَاخِلِ الْعَظْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَصْفُهَا بِالصَّفَاءِ الْبَالِغِ وَأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ الْعَظْمِ لَا يَسْتَتِرُ

ص: 325

بِالْعَظْمِ وَاللَّحْمِ وَالْجِلْدِ. وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ: يَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ.

قَوْلُهُ: (قَلْبُ وَاحِدٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِالْإِضَافَةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بِالتَّنْوِينِ قَلْبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي حُذِفَتْ أَدَاتُهُ أَيْ كَقَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَحَاسُدَ بَيْنَهُمْ وَلَا اخْتِلَافَ أَيْ: أَنَّ قُلُوبَهُمْ طَهُرَتْ عَنْ مَذْمُومِ الْأَخْلَاقِ.

قَوْلُهُ: (يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أَيْ قَدْرَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا التَّسْبِيحُ لَيْسَ عَنْ تَكْلِيفٍ وَإِلْزَامٍ، وَقَدْ فَسَّرَهُ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ: يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ تَنَفُّسَ الْإِنْسَانِ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَجَعَلَ تَنَفُّسَهُمْ تَسْبِيحًا، وَسَبَبُهُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَنَوَّرَتْ بِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَامْتَلَأَتْ بِحُبِّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ تَحْتَ الْعَرْشِ سِتَارَةً مُعَلَّقَةٌ فِيهِ ثُمَّ تُطْوَى، فَإِذَا نُشِرَتْ كَانَتْ عَلَامَةَ الْبُكُورِ، وَإِذَا طُوِيَتْ كَانَتْ عَلَامَةَ الْعَشِيِّ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الثانية: (قَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ - أُرَاهُ - تَغْرُبَ) كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ شَكَّ فِي لَفْظِ تَغْرُبَ فَأَدْخَلَ قَبْلَهَا أُرَاهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ، فَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَنْ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: إِلَى أَنْ تَغِيبَ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ظَنَّهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْإِبْكَارُ مَصْدَرٌ، تَقُولُ أَبْكَرَ فُلَانٌ فِي حَاجَتِهِ يُبَكِّرُ إِبْكَارًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، وَأَمَّا الْعَشِيُّ فَمِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى يَسْتَطِيعُهُ

وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ يَذُوقُ

قَالَ: وَالْفَيْءُ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَتَنَاهَى بِمَغِيبِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَمَضَى مُعْظَمُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ مَنَادِيلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ.

الحديث العاشر حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ عَقِبَ حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهِ: فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهِ وَلِينِهِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا فِي اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَلَيْسَ لِرَوْحِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ الزِّيَادَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، وَفِيهِ: وَلَقَابَ قَوْسٍ، وَهَذَا الْأَخِيرُ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُقَالُ إِنَّهَا طُوبَى.

(قُلْتُ) وَشَاهِدُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّمَا نُكِّرَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ جِنْسِهَا بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (يَسِيرُ الرَّاكِبُ) أَيْ: أَيُّ رَاكِبٍ فُرِضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ، وَقَوْلُهُ: فِي ظِلِّهَا أَيْ فِي نَعِيمِهَا وَرَاحَتِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَيْشٌ ظَلِيلٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى ظِلِّهَا نَاحِيَتِهَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى امْتِدَادِهَا،

ص: 326

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنَا فِي ظِلِّكَ أَيْ نَاحِيَتِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمُحْوِجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الظِّلَّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الدُّنْيَا مَا يَقِي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَأَذَاهَا وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ وَلَا أَذًى، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الظِّلُّ الْمَمْدُودُ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَاقٍ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهَا فَيَخْرُجُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَتَحَدَّثُونَ فِي ظِلِّهَا فَيَشْتَهِي بَعْضُهُمُ اللَّهْوَ فَيُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا فَيُحَرِّكُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بِكُلِّ لَهْوٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ تَقَدَّمَ فِي السَّادِسِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي: ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجَنَائِزِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَفَاضُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ، وَهَذَا مِنْ صَحِيحِ أَحَادِيثِ مَالِكٍ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّإِ، وَوَهِمَ أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ فَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بَدَلَ صَفْوَانَ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ، وَكَأَنَّهُ دَخَلَ لَهُ إِسْنَادُ حَدِيثٍ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ، فَإِنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدٍ بَدَلَ صَفْوَانَ، فَهَذَا السَّنَدُ وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ وَفِي التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَنَقَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَسْتُ أَدْفَعُ حَدِيثَ فُلَيْحٍ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، انْتَهَى. وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَهِمَ فِيهِ أَيْضًا، قُلْتُ: وَلَكِنَّهُ لَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيَأْتِي أَيْضًا فِي بَابِ صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الرِّقَاقِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَيْضًا لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (يَتَرَاءَوْنَ)

(1)

فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ يَرَوْنَ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ تَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهُمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَالنُّجُومِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ.

قَوْلُهُ: (الدُّرِّيُّ) هُوَ النَّجْمُ الشَّدِيدُ الْإِضَاءَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ النَّجْمُ الْعَظِيمُ الْمِقْدَارِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ وَقَدْ تُسَكَّنُ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَمَدٌّ وَقَدْ يُكْسَرُ أَوَّلُهُ عَلَى الْحَالَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، فَبِالتَّشْدِيدِ كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ لِبَيَاضِهِ وَضِيَائِهِ، وَبِالْهَمْزِ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ دَرَأَ أَيْ دَفَعَ لِانْدِفَاعِهِ عِنْدَ طُلُوعِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ الْكِسَائِيِّ تَثْلِيثَ الدَّالِ قَالَ: فَبِالضَّمِّ نِسْبَةً إِلَى الدُّرِّ وَبِالْكَسْرِ الْجَارِي وَبِالْفَتْحِ اللَّامِعُ.

قَوْلُهُ: (الْغَابِرُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّإِ الْغَايِرُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ عِيَاضٌ: كَأَنَّهُ الدَّاخِلُ فِي الْغُرُوبِ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ الْغَارِبُ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ، قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ الَّذِي يَبْعُدُ لِلْغُرُوبِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَائِبُ، وَلَكِنْ لَا يَحْسُنُ هُنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ بُعْدَهُ عَنِ الْأَرْضِ كَبُعْدِ غُرَفِ الْجَنَّةِ عَنْ رَبَضِهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَمَعْنَى الْغَابِرِ هُنَا الذَّاهِبُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْمُرَادُ بِالْأُفُقِ السَّمَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ هِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ، وَمِنْ الثَّانِيَةُ مُبَيِّنَةٌ لَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرِدُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ أَيْضًا، قَالَ: وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ أَصْلِهَا وَلَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ: وَوَقَعَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: إِلَى الْمَشْرِقِ وَهُوَ أَوْضَحُ، وَوَقَعَ

(1)

كذا في نسخ الشرح، وهي روايته التي شرح عليها، وأما رواية أبي ذر فهي:"إن أهل الجنة يتراءيون" بوزن يتفاعلون

ص: 327

فِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَهْلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: إِنَّمَا تَغُورُ الْكَوَاكِبُ فِي الْمَغْرِبِ خَاصَّةً فَكَيْفَ وَقَعَ ذِكْرُ الْمَشْرِقِ؟ وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى رِوَايَةِ الْغَايِرِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَأَمَّا بِالْمُوَحَّدَةِ فَالْغَابِرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاضِي وَالْبَاقِي فَلَا إِشْكَالَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ بَلَى) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بَلَى حَرْفُ جَوَابٍ وَتَصْدِيقٍ، وَالسِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِالْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ وَإِيجَابِ الثَّانِي، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ بَلْ فَغُيِّرَتْ بِبَلَى، وَقَوْلُهُ: رِجَالٌ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَهُمْ رِجَالٌ، أَيْ تِلْكَ الْمَنَازِلُ مَنَازِلُ رِجَالٍ آمَنُوا. قُلْتُ: حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَلْ بَدَلَ بَلَى، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ بَلَى بِأَنَّ التَّقْدِيرَ نَعَمْ هِيَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ قَدْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْوُصُولِ إِلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَلَى جَوَابَ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِمْ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلَى يَبْلُغُهَا رِجَالٌ غَيْرُهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) أَيْ حَقَّ تَصْدِيقِهِمْ وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهُ وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ رِجَالٌ يُشِيرُ إِلَى نَاسٍ مَخْصُوصِينَ مَوْصُوفِينَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ وُصِفَ بِهَا كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ بَلَغَ تِلْكَ الْمَنَازِلَ صِفَةٌ أُخْرَى، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُهَا مَنْ لَهُ عَمَلٌ مَخْصُوصٌ، وَمَنْ لَا عَمَلَ لَهُ كَانَ بُلُوغُهَا إِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وَأَنْعَمَا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هِيَ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ هَذِهِ الْمَنَازِلَ الَّتِي وَصَفَ، وَأَمَّا مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا فَوْقَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَأَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هَكَذَا فِيهِ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَفَسَدَ تَأْوِيلُ الدَّاوُدِيِّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْغُرَفَ الْمَذْكُورَةَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا مَنْ دُونَهُمْ فَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ أَصْحَابُ الْغُرَفِ الَّذِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمَنْ دُونَهُمْ مَنْ دَخَلَ بِالشَّفَاعَةِ. وَيُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ قَوْلُهُ فِي صِفَتِهِمْ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ وَتَصْدِيقُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ صَدَّقَ بِمَنْ سَيَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَهُوَ بِطَرِيقِ التَّوَقُّعِ لَا بِطَرِيقِ الْوَاقِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب صِفَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ. فِيهِ عُبَادَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3257 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صِفَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِالصِّفَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالصِّفَةِ الْعَدَدَ أَوِ التَّسْمِيَةَ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي

ص: 328

سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ فِي الصِّيَامِ وَفِي الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ: فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الصِّيَامِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَفِي الْجِهَادِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فِيهِ عُبَادَةُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا وَصَلَهُ هُوَ فِي ذِكْرِ عِيسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَرِيقِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيِّهَا شَاءَ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ لِأَبْوَابِ الْجَنَّةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُعَلَّقُ فِي الْبَابِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمُعَلَّقُ فِيهِ أَيْضًا، وَعَنْ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَوَرَدَ فِي صِفَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، وَلَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ، وَلَهَا شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ حَدِيثُ سَهْلٍ الْمُسْنَدُ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَدِيثَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ تَأْخِيرُ الْمُسْنَدِ عَنِ الْمُعَلَّقَيْنِ.

‌10 - بَاب صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ

غَسَّاقًا يُقَالُ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ، وَكَأَنَّ الْغَسَاقَ وَالْغَسْقَ وَاحِدٌ. غِسْلِينُ كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينُ، فِعْلِينُ مِنْ الْغَسْلِ، مِنْ الْجُرْحِ وَالدَّبَرِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ غَيْرهُ: {حَاصِبًا} الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَالْحَاصِبُ مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ، هُمْ حَصَبُهَا، وَيُقَالُ: حَصَبَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ، وَالْحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِنْ حَصْبَاءِ الْحِجَارَةِ. صَدِيدٌ: قَيْحٌ وَدَمٌ. {خَبَتْ} طَفِئَتْ. {تُورُونَ} تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ: أَوْقَدْتُ. {لِلْمُقْوِينَ} لِلْمُسَافِرِينَ. وَالْقِيُّ: الْقَفْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صِرَاطُ الْجَحِيمِ: سَوَاءُ الْجَحِيمِ وَوَسَطُ الْجَحِيمِ. {لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ. {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ. {وِرْدًا} عِطَاشًا. {غَيًّا} خُسْرَانًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِمْ النَّارُ. {وَنُحَاسٌ} الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ. يُقَالُ {ذُوقُوا} بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ. مَارِجٌ: خَالِصٌ مِنْ النَّارِ، مَرَجَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلَّاهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. {مَرِيجٍ} مُلْتَبِسٍ، مَرِجَ أَمْرُ النَّاسِ: اخْتَلَطَ. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} مَرَجْتَ دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا

3258 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَبْرِدْ، ثُمَّ قَالَ: أَبْرِدْ، حَتَّى فَاءَ الْفَيْءُ - يَعْنِي: لِلتُّلُولِ -

ص: 329

ثُمَّ قَالَ: أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

3259 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".

3260 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ".

3261 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى فَقَالَ أَبْرِدْهَا عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ قَالَ بِمَاءِ زَمْزَمَ" شَكَّ هَمَّامٌ.

3262 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ".

[الحديث 3262 - طرفه في: 5726]

3263 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ".

[الحديث 3263 - طرفه في: 5725]

3264 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ".

[الحديث 3264 - طرفه في: 5723]

3265 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا".

3266 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ عَطَاءً يُخْبِرُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} .

ص: 330

3267 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ: "لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ". رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الأَعْمَشِ.

[الحديث 3267 - طرفه في: 7098]

قَوْلُهُ: (بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ) الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (غَسَّاقًا، يُقَالُ غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ) وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} الْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَالْغَسَّاقُ مَا هُمِيَ وَسَالَ، يُقَالُ: غَسَقْتُ مِنَ الْعَيْنِ وَمِنَ الْجُرْحِ، وَيُقَالُ: عَيْنُهُ تَغْسِقُ أَيْ تَسِيلُ، وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ مَا سَالَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الصَّدِيدِ، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَمِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ دُمُوعِهِمْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ الْبَارِدُ الَّذِي يُحْرِقُ بِبَرْدِهِ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ السَّائِلَ، وَمَنْ قَرَأَهُ بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ الْبَارِدَ. وَقِيلَ: الْغَسَّاقُ الْمُنْتِنُ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ وَقَالَ: إِنَّهَا بِالطِّخَارِيَّةِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مَرْفُوعًا: لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهْرَاقُ إِلَى الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا: الْغَسَّاقُ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ، لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْهُ تُهْرَاقُ بِالْمَغْرِبِ لَأَنْتَنَ أَهْلَ الْمَشْرِقِ.

قَوْلُهُ: (وَكَأَنَّ الْغَسَّاقَ وَالْغَسِيقَ وَاحِدٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْغَسِيقُ بِوَزْنِ فَعِيلٍ، وَلِغَيْرِهِ وَالْغَسَقُ بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الْغَاسِقُ: اللَّيْلُ إِذَا لَبِسَ الْأَشْيَاءَ وَغَطَّاهَا، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ هُجُومُهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ هُجُومَ السَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ السَّائِلُ مِنَ الصَّدِيدِ الْجَامِعِ بَيْنَ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ النَّتْنِ، وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (غِسْلِينٍ كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينٌ، فِعْلِينٌ مِنَ الْغُسْلِ مِنَ الْجُرْحِ وَالدَّبَرِ) كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: الْغِسْلِينُ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَالدَّبَرُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ هُوَ مَا يُصِيبُ الْإِبِلَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ.

(تَنْبِيهٌ):

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} يُعَارِضُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الضَّرِيعَ مِنَ الْغِسْلِينِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الضَّرِيعَ نَبَاتٌ، وَقِيلَ: الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ مَنْ يُطْعَمُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَةِ الْأُولَى فَطَعَامُهُ مِنْ غِسْلِينٍ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِالثَّانِيَةِ فَطَعَامُهُ مِنْ ضَرِيعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَصَبُ جَهَنَّمَ حَطَبٌ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَاصِبًا الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَالْحَاصِبُ مَا يَرْمِي

ص: 331

بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ هُمْ حَصَبُهَا) أَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بِهَذَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَرَوَى الْفَرَّاءُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَرَآهَا حَطَبُ بِالطَّاءِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ تُسْجَرُ بِهِمُ النَّارُ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هِيجَتْ بِهِ النَّارُ فَهُوَ حَصَبٌ لَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أَيْ رِيحًا عَاصِفًا يَحْصِبُ، وَفِي قَوْلِهِ:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} : كُلُّ شَيْءٍ أَلْقَيْتَهُ فِي النَّارِ فَقَدْ حَصَبْتَهَا بِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: حَصَبُ جَهَنَّمَ قَالَ: تُحْصَبُ بِهِمْ جَهَنَّمُ وَهُوَ الرَّمْيُ، يَقُولُ: يُرْمَى بِهِمْ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ حَصَبَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ، وَالْحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِنْ حَصْبَاءِ الْحِجَارَةِ) رَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قَالَ: مَطَرُ الْحِجَارَةِ.

قَوْلُهُ: (صَدِيدٌ: قَيْحٌ وَدَمٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قَالَ: الصَّدِيدُ الْقَيْحُ وَالدَّمُ.

قَوْلُهُ: (خَبَتْ: طَفِئَتْ) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلَّمَا خَبَتْ} قَالَ: طَفِئَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَمِثْلُهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرَجَحَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّارِ إِذَا سَكَنَ لَهَبُهَا وَعَلَا الْجَمْرَ رَمَادٌ: خَبَتْ، فَإِنْ طُفِئَ مُعْظَمُ الْجَمْرِ قَالُوا: خَمَدَتْ، فَإِنْ طُفِئَ كُلُّهُ قَالُوا: هَمَدَتْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تُطْفَأُ.

قَوْلُهُ: (تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ: أَوْقَدْتُ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُورُونَ أَيْ: تَسْتَخْرِجُونَ مِنْ أَوْرَيْتُ، قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: وَرَيْتُ.

قَوْلُهُ: (لِلْمُقْوِينَ: لِلْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيُّ: الْقَفْرُ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِلْمُقْوِينَ لِلْمُسَافِرِينَ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: لِلْمُقْوِينَ أَيِ الْمُسْتَمْتِعِينَ الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أَيْ مَنْفَعَةً لِلْمُسَافِرِينَ إِذَا نَزَلُوا بِالْأَرْضِ، وَالْأَرْضُ الْقِيُّ - يَعْنِي بِكَسْرِ الْقَافِ وَالتَّشْدِيدِ - الْقَفْرُ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ، وَرَجَّحَ هَذَا الطَّبَرِيُّ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صِرَاطِ الْجَحِيمِ: سَوَاءِ الْجَحِيمِ وَوَسَطِ الْجَحِيمِ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} قَالَ: فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ: يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} الشَّوْبُ الْخَلْطُ وَهُوَ الْمَزْجُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ كُلُّ شَيْءٍ خَلَطْتَهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَشُوبٌ.

قَوْلُهُ: (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ: صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ وَالشَّهِيقُ فِي الصَّدْرِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ كَصَوْتِ الْحِمَارِ أَوَّلُهُ زَفِيرٌ وَآخِرُهُ شَهِيقٌ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّهِيقُ هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ مِنَ الْحِمَارِ.

قَوْلُهُ: (وِرْدًا: عِطَاشًا) رَوَى ابْنُ أبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} قَالَ: عِطَاشًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُنْقَطِعَةً أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الظَّمَإِ، وَقَوْلُهُ: وِرْدًا، هُوَ مَصْدَرُ وَرَدْتُ، وَالتَّقْدِيرُ ذَوِي وِرْدٍ، وَهَذَا يُنَافِي الْعَطَشَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوُرُودِ عَلَى الْمَاءِ الْوُصُولُ إِلَى تَنَاوُلِهِ، فَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنَّهُمْ يَشْكُونَ الْعَطَشَ فَتَرْفَعُ لَهُمْ جَهَنَّمُ سَرَابَ مَاءٍ فَيُقَالُ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيَرِدُونَهَا فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (غَيًّا: خُسْرَانًا) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: خُسْرَانًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ

ص: 332

فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْجَرُونَ: تُوقَدُ لَهُمُ النَّارُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِهِمْ وَهُوَ أَوْضَحُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَنُحَاسٌ الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ) أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} قَالَ: قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ حَمْرَاءَ وَنُحَاسٌ، قَالَ: يُذَابُ الصُّفْرُ فَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ ذُوقُوا بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ) لَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالذَّوْقُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ ذَوْقُ الْفَمِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّوْقُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ:{ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} وَقَوْلُهُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ أَنَّهُ فَسَّرَهُ هُنَا بِمَعْنَى التَّخَيُّلِ، وَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا وَهُوَ دَقِيقٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا}

قَوْلُهُ: (مَارِجٌ خَالِصٌ مِنَ النَّارِ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قَالَ: مِنْ خَالِصِ النَّارِ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خُلِقَتِ الْجِنُّ مِنْ مَارِجٍ، وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ، وَسَيَأْتِي قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَارِجُ نَارٌ دُونَ الْحِجَابِ، وَيُرْوَى خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْهَا، وَمِنْهَا هَذِهِ الصَّوَاعِقُ.

قَوْلُهُ: (مَرَجَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلَّاهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَمْرٍ مُلْتَبِسٍ

(1)

وَمَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ اخْتَلَطَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَمْرٍ مُنْتَشِرٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أَيْ: مُخْتَلِطٍ، يُقَالُ: مَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ أَيِ اخْتَلَطَ وَأُهْمِلَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قَالَ: مُخْتَلِطٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ قَالَ: مُلْتَبِسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ.

قَوْلُهُ: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: مَرَجْتَ دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا} هُوَ كَقَوْلِكَ مَرَجْتَ دَابَّتَكَ خَلَّيْتَ عَنْهَا وَتَرَكْتَهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قَالَ: أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَلْتَقِيَانِ بَعْدُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ هُنَا بَحْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ كُلَّ عَامٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ أَبْزَى مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ قَالَ: هُمَا بَحْرَا فَارِسَ وَالرُّومِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ مِنْ أَصْدَافِ بَحْرِ الْأَرْضِ عَنْ قَطْرِ السَّمَاءِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْبَحْرُ الْحُلْوُ وَالْبَحْرُ الْمِلْحُ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: مِنْهُمَا مِنْ مَجَازِ التَّغْلِيبِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ، الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي الْأَمْرِ بِالْإِبْرَادِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ.

الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ جَهَنَّمَ مَوْجُودَةٌ الْآنَ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

الْخَامِسُ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي ذَلِكَ.

السَّادِسُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ.

السَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ

(1)

في هامش طبعة بولاق: كذا في جميع نسخ الشرح، وهذه الجملة مع واو مرج ليست في نسخ المتن التي بأيدينا، فهي نسخته. اهـ.

ص: 333

الْجَمِيعِ فِي الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّامِنُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (نَارُكُمْ جُزْءٌ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ جُزْءٌ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا) فِي رِوَايَةِ لِأَحْمَدَ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ وَالْجَمْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ لَا الْعَدَدِ الْخَاصِّ أَوِ الْحُكْمِ لِلزَّائِدِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا حَرُّهَا.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً) إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ إِنَّ نَارَ الدُّنْيَا كَانَتْ مُجْزِئَةً لِتَعْذِيبِ الْعُصَاةِ.

قَوْلُهُ: (فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ) كَذَا هُنَا وَالْمَعْنَى عَلَى نِيرَانِ الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى النَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّمَا أَعَادَ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةَ تَفْضِيلِ نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى نَارِ الدُّنْيَا؛ إِشَارَةً إِلَى الْمَنْعِ مِنْ دَعْوَى الْإِجْزَاءِ، أَيْ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ لِيَتَمَيَّزَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْخَالِقِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْ خَلْقِهِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ حَرِّهَا) زَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ وَنَحْوَهُ لِلْحَاكِمِ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ، وَزَادَا: فَإِنَّهَا لَتَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا يُعِيدَهَا فِيهَا. وَفِي الْجَامِعِ لِابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: هَذِهِ النَّارُ ضُرِبَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ.

التَّاسِعُ: حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ الْمَلَائِكَةِ.

رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ.

الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ) هُوَ عُثْمَانُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَبَيَانُ السَّبَبِ فِيهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَكَذَا طَرِيقُ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ الَّتِي عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا، فَقَدْ وَصَلَهَا هُنَاكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُقْذَفُونَ: يُرْمَوْنَ. {دُحُورًا} مَطْرُودِينَ. {وَاصِبٌ} دَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَدْحُورًا} مَطْرُودًا، يُقَالُ:{مَرِيدًا} مُتَمَرِّدًا. بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ. {وَاسْتَفْزِزْ} اسْتَخِفَّ {بِخَيْلِكَ} الْفُرْسَانُ. وَالرَّجْلُ: الرَّجَّالَةُ، وَاحِدُهَا: رَاجِلٌ، مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ. {لأَحْتَنِكَنَّ} لَأَسْتَأْصِلَنَّ. {قَرِينٌ} شَيْطَانٌ.

3268 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَهُ وَوَعَاهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا، وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي؟ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَقُلْتُ: اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فَقَالَ: لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتْ الْبِئْرُ.

ص: 334

3269 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ".

3270 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ أَوْ قَالَ فِي أُذُنِهِ".

3271 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ".

3272 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ".

3273 -

"وَلَا تَحَيَّنُوا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ أَوْ الشَّيْطَانِ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ هِشَامٌ".

3274 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَمْنَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيَمْنَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَليُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ".

3275 -

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَارْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ

ص: 335

مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ".

3276 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ".

3277 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ".

3278 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ".

3279 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ".

3280 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ قَالَ جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا".

[الحديث 3280 - أطرافه في: 3304، 3316، 5623، 6295، 6296]

3281 -

حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ

ص: 336

يَجْرِي مِنْ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَالَ شَيْئًا".

3282 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَاعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فَقَالُوا لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ. فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ؟ ".

[الحديث 3282 - طرفاه في: 6048، 6115]

3283 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ".

قَالَ: وَحَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

مِثْلَهُ.

3284 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَكَرَهُ".

3285 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ فَيَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ".

3286 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ".

[الحديث 3286 - طرفاه في: 3431، 4548]

3287 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمْتُ الشَّأْمَ فَقُلْتُ مَنْ هَا هُنَا قَالُوا أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ أَفِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ وَقَالَ: الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَمَّارًا".

[الحديث 3287 - أطرافه في: 3742، 3743، 3761، 4941، 4944، 6287]

ص: 337

3288 -

قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ أَخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَلَائِكَةُ تَتَحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ بِالأَمْرِ يَكُونُ فِي الأَرْضِ فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتَقُرُّهَا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ".

3289 -

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ الشَّيْطَانُ".

[الحديث 3289 - طرفاه في: 6223، 6226]

3290 -

حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ أَخْبَرَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ فَصَاحَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ فَقَالَ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ".

[الحديث 3290 - أطرافه في: 3824، 4065، 6668، 6883، 6890]

3291 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ".

3292 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ".

[الحديث 3292 - أطرافه في: 5747، 6984، 6986، 6995، 6996، 7005، 7044]

3293 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ

ص: 338

وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ".

[الحديث 3293 - طرفه في: 6403]

3294 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ فَقَالَ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَاتِي كُنَّ عِنْدِي فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ قَالَ عُمَرُ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ ثُمَّ قَالَ أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ".

[الحديث 3294 - طرفاه في: 3683، 6085]

3295 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ) إِبْلِيسُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْلَسَ إِذَا أَيْأَسَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لَصُرِفَ كَإِلْكِيلٍ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُصْرَفْ وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَشَبَّهُوهُ بِالْعَجَمِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَوَانِعِ الصَّرْفِ وَبِأَنَّ لَهُ نَظَائِرَ كَإِخْرِيطٍ وَإِصْلِيتٍ، وَاسْتُبْعِدَ كَوْنُهُ مُشْتَقًّا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِنَّمَا سُمِّيَ إِبْلِيسَ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِطَرْدِهِ وَلَعْنِهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، كَذَا قِيلَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِجَوَازِ أَنْ يُسَمَّى بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَقَعُ لَهُ، نَعَمْ رَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ حَيْثُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ عَزَازِيلُ ثُمَّ إِبْلِيسُ بَعْدُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحَارِثُ وَالْحَكَمُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُرَّةَ. وَفِي كِتَابِ لَيْسَ لِابْنِ خَالَوَيْهِ كُنْيَتُهُ أَبُو الْكُرُوبِيِّينَ.

وَقَوْلُهُ: وَجُنُودِهِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ. الْحَدِيثُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: عَرْشُ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ مُسِخَ لَمَّا طُرِدَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَصْلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،

ص: 339

مَشْهُورَيْنِ سَيَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَيُقْذَفُونَ: يُرْمَوْنَ، دُحُورًا: مَطْرُودِينَ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا} الْآيَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي بيانه فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَدْحُورًا: مَطْرُودًا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا؛ اسْتِطْرَادًا لِذِكْرِهِ: دُحُورًا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ مَرِيدًا مُتَمَرِّدًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أَيْ مُتَمَرِّدًا.

قَوْلُهُ: (بَتَكَهُ قَطَعَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} أَيْ لَيَقْطَعُنَّ، يُقَالُ بَتَكَهُ قَطَعَهُ.

قَوْلُهُ: (وَاسْتَفْزِزْ: اسْتَخِفَّ بِخَيْلِكَ الْفُرْسَانَ، وَالرَّجْلُ الرَّجَّالَةُ وَاحِدُهَا رَاجِلٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (لَأَحْتَنِكَنَّ: لَأَسْتَأْصِلَنَّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} يَقُولُ: لَأَسْتَمِيلَنَّهُمْ وَلَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ يُقَالُ: احْتَنَكَ فُلَانٌ مَا عِنْدَ فُلَانٍ إِذَا أَخَذَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ.

قَوْلُهُ: (قَرِينٌ: شَيْطَانٌ) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} قَالَ: شَيْطَانٌ، وَعَنْ غَيْرِ مُجَاهِدٍ خِلَافُهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَالَ شَيَاطِينَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هُنَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِاسْتِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ هُنَاكَ، وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الشُّرَّاحِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ إِلَخْ) رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي نُسْخَةِ عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى رَأْسِ النَّائِمِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَخُو إِسْمَاعِيلَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَوَهِمَ مَنْ سَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي بَوْلِ الشَّيْطَانِ فِي أُذُنِ النَّائِمِ عَنِ الصَّلَاةِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيْضًا.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي النَّدْبِ إِلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، يَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَائِلُ: لَا أَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ قَالَ هِشَامٌ هُوَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: حَاجِبَ الشَّمْسِ هُوَ طَرَفُ قُرْصِهَا الَّذِي يَبْدُوَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَبْقَى عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَقَرْنَا الشَّيْطَانِ جَانِبَا رَأْسِهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ يَنْتَصِبُ فِي مُحَاذَاةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ حَتَّى إِذَا طَلَعَتْ كَانَتْ بَيْنَ جَانِبَيْ رَأْسِهِ لِتَقَعَ السَّجْدَةُ لَهُ إِذَا سَجَدَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ لَهَا، وَكَذَا عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُشَاهِدُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَلَوْ شَاهَدَ الشَّيْطَانَ لَرَآهُ مُنْتَصِبًا عِنْدَهَا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْهَيْئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّمْسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَالشَّيَاطِينَ قَدْ مُنِعُوا مِنْ وُلُوجِ السَّمَاءِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ الرَّابِعِ، وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ غَيْرُ الْأَفْلَاكِ خِلَافًا لِأَهْلِ الْهَيْئَةِ. وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ ثَبْتَ كَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْجَيَّانِيُّ.

السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْإِذْنِ بِقَتْلِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ.

السَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.

الثَّامِنُ: حَدِيثُ يَأْتِي الشَّيْطَانُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) أَيْ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَلْجَأُ إِلَى اللَّهِ فِي دَفْعِهِ، وَيَعْلَمُ

ص: 340

أَنَّهُ يُرِيدُ إِفْسَادَ دِينِهِ وَعَقْلِهِ بِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا وَسْوَسَ بِذَلِكَ فَاسْتَعَاذَ الشَّخْصُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَكَفَّ عَنْ مُطَاوَلَتِهِ فِي ذَلِكَ انْدَفَعَ، قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَرَّضَ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْآدَمِيَّ يَقَعُ مِنْهُ الْكَلَامُ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَالْحَالُ مَعَهُ مَحْصُورٌ، فَإِذَا رَاعَى الطَّرِيقَةَ وَأَصَابَ الْحُجَّةَ انْقَطَعَ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَلَيْسَ لِوَسْوَسَتِهِ انْتِهَاءٌ، بَلْ كُلَّمَا أُلْزِمَ حُجَّةً زَاغَ إِلَى غَيْرِهَا إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِالْمَرْءِ إِلَى الْحَيْرَةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ يَنْقُضُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، ثُمَّ لَوْ كَانَ السُّؤَالُ مُتَّجِهًا لَاسْتَلْزَمَ التَّسَلْسُلَ وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْعَقْلُ أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُحْدِثٍ. فَلَوْ كَانَ هُوَ مُفْتَقِرًا إِلَى مُحْدِثٍ لَكَانَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، انْتَهَى.

وَالَّذِي نَحَا إِلَيْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَمُخَاطَبَةِ الْبَشَرِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. فَسَوَّى فِي الْكَفِّ عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كُلِّ سَائِلٍ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَشَرٍ وَغَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَأَلَنِي عَنْهَا اثْنَانِ، وَكَانَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ وَاهِيًا لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، أَوِ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ نَظِيرَ الْأَمْرِ بِالْكَفِّ عَنِ الْخَوْضِ فِي الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: الْخَوَاطِرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: فَالَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ وَلَا يُجْلِيهَا شُبْهَةٌ هِيَ الَّتِي تَنْدَفِعُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا يَنْزِلُ الْحَدِيثُ، وَعَلَى مِثْلِهَا يَنْطَلِقُ اسْمُ وَسْوَسَةٍ، وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الْمُسْتَقِرَّةُ النَّاشِئَةُ عَنِ الشُّبْهَةِ فَهِيَ الَّتِي لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّأَمُّلِ وَالِاحْتِجَاجِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنِ الْمُوجَدِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَقْبَلُ الْمُنَاظَرَةَ، وَلِأَنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لَا يَزِيدُ الْمَرْءَ إِلَّا حَيْرَةً، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا الْمَلْجَأُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِصَامُ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ كَثْرَةِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِي الْمَرْءَ وَعَمَّا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ بِوُقُوعِ مَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصِّيَامِ.

الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي التَّفْسِيرِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي طُلُوعِ الْفِتْنَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْفِتَنِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْشَأَ الْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَكَذَا وَقَعَ.

الثَّانِي عَشَرَ: حَدِيثُ جَابِرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ قَالَ جُنْحُ اللَّيْلِ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِكَسْرِهَا، وَالْمَعْنَى إِقْبَالُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، يُقَالُ: جَنَحَ اللَّيْلُ: أَقْبَلَ. وَاسْتَجْنَحَ: حَانَ جُنْحُهُ، أَوْ وَقَعَ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ اسْتَنْجَعَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الْحَاءِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَعِنْدَ الْأَصِيلِيِّ أَوَّلُ اللَّيْلِ بَدَلَ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ تَامَّةٌ أَيْ حَصَلَ.

قَوْلُهُ: (فَخَلُّوهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا خِيفَ عَلَى الصِّبْيَانِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَلُوذُ بِهَا الشَّيَاطِينُ مَوْجُودَةٌ مَعَهُمْ غَالِبًا، وَالذِّكْرُ الَّذِي يَحْرُزُ مِنْهُمْ مَفْقُودٌ مِنَ الصِّبْيَانِ غَالِبًا وَالشَّيَاطِينُ عِنْدَ انْتِشَارِهِمْ يَتَعَلَّقُونَ بِمَا يُمْكِنهُمُ التَّعَلُّقُ بِهِ، فَلِذَلِكَ خِيفَ عَلَى الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالْحِكْمَةُ فِي انْتِشَارِهِمْ حِينَئِذٍ أَنَّ حَرَكَتَهُمْ فِي اللَّيْلِ أَمْكَنُ مِنْهَا لَهُمْ فِي النَّهَارِ، لِأَنَّ الظَّلَامَ أَجْمَعُ لِلْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ

ص: 341

كُلُّ سَوَادٍ. وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَمَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَغْلِقْ بَابَكَ) هُوَ خِطَابٌ لِمُفْرَدٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَهُوَ عَامٌّ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْمُفْرَدِ بِالْمُفْرَدِ تُفِيدُ التَّوْزِيعَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ صَفِيَّةَ، تَقَدَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَفِيهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلشَّيْطَانِ قُوَّةً عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى بَاطِنِ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ أَيْ أَنَّ وَسْوَسَتَهُ تَصِلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ مِثْلَ جَرْيِ الدَّمِ مِنَ الْبَدَنِ.

الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ، يَأْتِي فِي الْأَدَبِ. وَالْوَدَجُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَبِالْجِيمِ عِرْقٌ فِي الْعُنُقِ.

قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقَدَّمَ فِي الرَّابِعِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شُعْبَةُ فَلَهُ فِيهِ شَيْخَانِ.

السَّادِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَذَكَرَهُ أَيْ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَتَمَامُهُ هُنَاكَ فَذَعْتُهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُ قَوْلِهِ فَذَعْتُهُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى إِمْكَانِ رُؤْيَةِ الْجِنِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا.

وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ رَبْطِ مَنْ يُخْشَى هَرَبُهُ مِمَّنْ فِي قَتْلِهِ حَقٌّ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ فِيهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ لَا تُعَدُّ كَلَامًا فَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُجُودِ السَّهْوِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: حَدِيثُهُ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِي جَنْبِهِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِفْرَادِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ الْجُرْجَانِيِّ جَنْبَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ فِي كِتَابِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ جَنْبِهِ بِالْإِفْرَادِ لَكِنْ بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ، قُلْتُ: لَعَلَّ نُقْطَتَهُ سَقَطَتْ مِنَ الْقَلَمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَالْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْجِلْدَةُ الَّتِي فِيهَا الْجَنِينُ أَوِ الثَّوْبُ الْمَلْفُوفُ عَلَى الطِّفْلِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي فَضْلِ عَمَّارٍ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي الْمَنَاقِبِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ مَزِيَّةٌ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ تَسَلُّطًا عَلَى مَنْ لَمْ يُجِرْهُ اللَّهُ مِنْهُ.

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي ذِكْرِ الْكُهَّانِ، أَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا عَنِ اللَّيْثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ وَقَالَ: يُقَالُ إِنَّ الْبُخَارِيَّ حَمَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّثَاؤُبِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَدَبِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ هَلْ هُوَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَبِيهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ قَتْلِ وَالِدِ حُذَيْفَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُهَا فِي الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ.

وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ الْحَدِيثَ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي التَّعْبِيرِ، وَفَائِدَةُ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ - وَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى أَعْلَى مِنْهَا - التَّصْرِيحُ فِيهَا بِتَحْدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، لِيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي فَضْلِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الدَّعَوَاتِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ سَعْدٍ اسْتَأْذَنَ

ص: 342

عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِنْثَارِ، وَفِيهِ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ. وَالْخَيْشُومُ - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ - هُوَ الْأَنْفُ، وَقِيلَ: الْمَنْخِرُ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَسْتَنْثِرْ أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَنْشِقْ لِأَنَّ الِاسْتِنْثَارَ يَقَعُ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ بِغَيْرِ عَكْسٍ، فَقَدْ يَسْتَنْشِقُ وَلَا يَسْتَنْثِرُ، وَالِاسْتِنْثَارُ مِنْ تَمَامِ فَائِدَةِ الِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِنْشَاقِ جَذْبُ الْمَاءِ بِرِيحِ الْأَنْفِ إِلَى أَقْصَاهُ، وَالِاسْتِنْثَارُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِنْشَاقِ تَنْظِيفُ دَاخِلِ الْأَنْفِ، وَالِاسْتِنْثَارُ يُخْرِجُ ذَلِكَ الْوَسَخَ مَعَ الْمَاءِ؛ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِنْشَاقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِنْثَارَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّثْرَةِ وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ، وَقِيلَ: الْأَنْفُ نَفْسُهُ، فَعَلَى هَذَا فَمَنِ اسْتَنْشَقَ، فَقَدِ اسْتَنْثَرَ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْمَاءَ بِأَنْفِهِ أَوْ بِطَرَفِ أَنْفِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا يَقَعُ لِكُلِّ نَائِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ لَمْ يَحْتَرِسْ مِنَ الشَّيْطَانِ بِشَيْءٍ مِنَ الذِّكْرِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ قَبْلَ حَدِيثِ سَعْدٍ؛ فَإِنَّ فِيهِ: فَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْقُرْبِ هُنَا أَنَّهُ لَا يَقْرَبُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِيهِ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَيَكُونُ مَبِيتُهُ عَلَى الْأَنْفِ لِيَتَوَصَّلَ مِنْهُ إِلَى الْقَلْبِ إِذَا اسْتَيْقَظَ، فَمَنِ اسْتَنْثَرَ مَنَعَهُ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى مَا يَقْصِدُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، فَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مُسْتَيْقِظٍ. ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِنْشَاقَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا لِكُلِّ مَنِ اسْتَيْقَظَ أَوْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِوُجُوبِهِ فِي الْغُسْلِ وَطَائِفَةٌ بِوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ أَيْضًا، وَهَلْ تَتَأَدَّى السُّنَّةُ بِمُجَرَّدِهِ بِغَيْرِ اسْتِنْثَارٍ أَمْ لَا؟ خِلَافَ، وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ وَتَأَمُّلٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ.

لِقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إِلَى قَوْلِهِ: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، {بَخْسًا} نَقْصًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ. قَالَ اللَّهُ:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} سَيحْضَرُون لِلْحِسَابِ. {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عِنْدَ الْحِسَابِ.

3296 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ الْجِنِّ وَإِلَى كَوْنِهِمْ مُكَلَّفِينَ، فَأَمَّا إِثْبَاتُ وُجُودِهِمْ فَقَدْ نَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالزَّنَادِقَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَهُمْ رَأْسًا، قَالَ: وَلَا يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُشَرِّعِينَ، إِنَّمَا الْعَجَبُ مِنَ الْمُشَرِّعِينَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ مَا يَقْدَحُ فِي إِثْبَاتِهِمْ. قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا اسْتَرْوَحَ إِلَيْهِ مَنْ نَفَاهُمْ حُضُورُهُمْ

ص: 343

عِنْدَ الْإِنْسِ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَلَوْ شَاءُوا لَأَبْدَوْا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِعَجَائِبِ الْمَقْدُورَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ وُجُودَهُمْ وَيَنْفُونَهُ الْآنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُمْ وَيَنْفِي تَسَلُّطَهُمْ عَلَى الْإِنْسِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ: الدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهِمُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ، إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ أَجْسَامٍ غَائِبَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ، وَلَوْ كَانَ إِثْبَاتُهُمْ بِاضْطِرَارٍ لَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَدَيَّنُ بِإِثْبَاتِهِمْ، وَذَلِكَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَشَاغَلَ بِإِيرَادِهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ صِفَةِ النَّارِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وَاخْتُلِفَ فِي صِفَتِهِمْ: فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجِنُّ أَجْسَادٌ رَقِيقَةٌ بَسِيطَةٌ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إِنْ ثَبَتَ بِهِ سَمْعٌ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ: الْجِنُّ أَجْسَامٌ مُؤَلَّفَةٌ وَأَشْخَاصٌ مُمَثَّلَةٌ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَقِيقَةً وَأَنْ تَكُونَ كَثِيفَةً خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهَا رَقِيقَةٌ، وَأَنَّ امْتِنَاعَ رُؤْيَتِنَا لَهُمْ مِنْ جِهَةِ رِقَّتِهَا. وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الرِّقَّةَ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَنْ رُؤْيَتِنَا بَعْضُ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ إِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِينَا إِدْرَاكَهَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. انْتَهَى. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ عَلَى صُوَرِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرَى شَيْئًا مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَطَوَّرَ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى مِنَ الْحَيَوَانِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَخبَارُ بِتَطَوُّرِهِمْ فِي الصُّوَرِ.

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: هُوَ تَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَلَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلْ يَنْتَقِلُونَ، لَكِنْ لَا بِاقْتِدَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ بِضَرْبٍ مِنَ الْفِعْلِ إِذَا فَعَلَهُ انْتَقَلَ كَالسِّحْرِ، وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَثَرٌ عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْغِيلَانَى ذُكِرُوا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِمْ فَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا سُمِّيَ شَيْطَانًا، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ خَاصَّةً أَوْلَادُ إِبْلِيسَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ لَيْسُوا مِنْ وَلَدِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنِّ يُقَوِّي أَنَّهُمْ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفَ صِنْفُهُ فَمَنْ كَانَ كَافِرًا سُمِّيَ شَيْطَانًا وَإِلَّا قِيلَ لَهُ جِنِّيٌّ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجِنُّ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مُكَلَّفُونَ، وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مَا حَكَى زَرْقَانُ عَنْ بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى أَفْعَالِهِمْ وَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ لِلْجَمَاعَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الشَّيَاطِينِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ شَرِّهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ وَارْتَكَبَ النَّهْيَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَالْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ إِثْبَاتَ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ رُسُلًا أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَوْ جَازَ أَنَّ الْمُرَادَ بِرُسُلِ الْجِنِّ رُسُلُ الْإِنْسِ لَجَازَ عَكْسُهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ. انْتَهَى. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رُسُلَ الْإِنْسِ رُسُلٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَرُسُلُ الْجِنِّ بَثَّهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَسَمِعُوا كَلَامَ الرُّسُلِ مِنَ الْإِنْسِ وَبَلَّغُوا قَوْمَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الْآيَةَ، وَاحْتَجَّ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ قَالَ: وَلَيْسَ الْجِنُّ مِنْ قَوْمِ الْإِنْسِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ نَبِيٌّ إِلَّا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم؛ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِاتِّفَاقٍ. انْتَهَى، وَقَالَ

ص: 344

ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} قَالَ: هُوَ رَسُولُ الْجِنِّ، وَهَذَا ذَكَرَهُ

(1)

.

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ مَعَ الْعِيسَوِيَّةِ: وَقَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ادَّعَى كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: وَثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظٍ: وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى الْإِنْسِ فَقَطْ، وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنَ الْفُرُوعِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ لِمَا ثَبَتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرَّوْثِ وَالْعَظْمِ وَأَنَّهُمَا زَادُ الْجِنِّ، وَسَيَأْتِي فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي آخِرِهِ: فَقُلْتُ: مَا بَالُ الرَّوْثِ وَالْعَظْمِ؟ قَالَ: هُمَا طَعَامُ الْجِنِّ. . الْحَدِيثَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَنَاوُلِهِمْ لِلرَّوْثِ وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْإِنْسِ.

وَكَذَلِكَ رَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خَيْبَرَ فَتَبِعَهُ رَجُلَانِ، وَآخَرُ يَتْلُوهُمَا يَقُولُ: ارْجِعَا. حَتَّى رَدَّهُمَا، ثُمَّ لَحِقَهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَيْنِ شَيْطَانَانِ، فَإِذَا أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْرَأْ عليه السلام، وَأَخْبِرْهُ أَنَّا فِي جَمْعِ صَدَقَاتِنَا، وَلَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ لَبَعَثْنَا بِهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَنَهَى عَنِ الْخَلْوَةِ، أَيِ السَّفَرِ مُنْفَرِدًا.

وَاخْتُلِفَ أَيْضًا: هَلْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ بِالنَّفْيِ، وَقِيلَ بِمُقَابِلِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: أَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ تَشَمُّمٌ وَاسْتِرْوَاحٌ لَا مَضْغٌ وَلَا بَلْعٌ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ وَلَمْ يُسَمِّ، ثُمَّ سَمَّى فِي آخِرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا سَمَّى اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبْ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الْجِنَّ أَصْنَافٌ: فَخَالِصُهُمْ رِيحٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَجِنْسٌ مِنْهُمْ يَقَعُ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَمِنْهُمُ السَّعَالِي وَالْغُولُ وَالْقُطْرُبُ.

وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ جَامِعًا لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ فِي الثَّالِثِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَحَدِ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَفِي سَقْفِ بَيْتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، وَإِذَا وُضِعَ الْغَدَاءُ نَزَلُوا فَتَغَدَّوْا مَعَهُمْ وَالْعَشَاءُ كَذَلِكَ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ يَتَنَاكَحُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} وَالدَّلَالَةُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ.

وَاعْتَلَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْجَانَّ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَفِي النَّارِ مِنَ الْيُبُوسَةِ وَالْخِفَّةِ مَا يَمْنَعُ مَعَهُ التَّوَالُدَ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْلَهُمْ مِنَ النَّارِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْآدَمِيِّ مِنَ التُّرَابِ، وَكَمَا أَنَّ الْآدَمِيَّ لَيْسَ طِينًا حَقِيقَةً، كَذَلِكَ الْجِنِّيُّ لَيْسَ نَارًا حَقِيقَةً، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ تَعَرُّضِ الشَّيْطَانِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ رِيقِهِ عَلَى يَدَيَّ. قُلْتُ: وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} فَقَالَ كَيْفَ تُحْرِقُ النَّارُ النَّارَ؟

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَثَوَابُهُمْ

(1)

في هامش طبعة بولاق: هذه الكلمة ثابتة في بعض النسخ وساقطة من بعضها وبعدها علامة وقفة.

ص: 345

وَعِقَابُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ أَثْبَتَ تَكْلِيفَهُمْ أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الْمَعَاصِي.

وَاخْتُلِفَ: هَلْ يُثَابُونَ؟ فَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ مَوْقُوفًا. قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، قَالَ اللَّهُ لِمُؤْمِنِ الْجِنِّ وَسَائِرِ الْأُمَمِ أَيْ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسِ: كُونُوا تُرَابًا، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: ثَوَابُ الْجِنِّ أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمْ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَدْخُلُونَ مَدْخَلَ الْإِنْسِ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَثَانِيهَا: يَكُونُونَ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَرَابِعُهَا: التَّوَقُّفُ عَنِ الْجَوَابِ فِي هَذَا.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي هَذَا لَهُمْ ثَوَابٌ، قَالَ: فَوَجَدْنَا مِصْدَاقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} قُلْتُ: وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} يَلِي الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ وَهْبٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} الْآيَةَ، فَإِنَّ الْآيَةَ بَعْدَهَا أَيْضًا:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُغِيثِ بْنِ سُمَيٍّ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يَسْمَعُ زَفِيرَ جَهَنَّمَ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ. وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمُ الْعِقَابَ وَلَهُمُ الثَّوَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ثُمَّ قَالَ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَخْسًا: نُقْصَانًا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْجِنِّ: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} قَالَ يَحْيَى الْفَرَّاءُ: الْبَخْسُ: النَّقْصُ، وَالرَّهَقُ: الظُّلْمُ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ فَإِنَّهُ يَخَافُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ تَكْلِيفِهِمْ

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ. وَفِيهِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ؟ قَالُوا: بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ إِلَخْ وَفِيهِ: قَالَ: عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنَّهُمْ سَيَحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ قُلْتُ: وَهَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَسَرَوَاتُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سَرِيَّةٍ بِتَحْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ شَرِيفَةٍ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأُمَّهَاتُهُنَّ وَلِغَيْرِهِ وَأُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَصْوَبُ، وَوَقَعَ أَيْضًا لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} بِالْإِفْرَادِ، وَرِوَايَتُهُ أَشْبَهُ.

قَوْلُهُ: (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْأَذَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌13 - بَاب قَوْلِ الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ،

{مَصْرِفًا} مَعْدِلًا. {صَرَفْنَا} أَيْ وَجَّهْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِهِمْ وَتَعْيِينِ بَلَدِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ:

ص: 346

(صَرَفْنَا أَيْ وَجَّهْنَا) هُوَ تَفْسِيرُ الْمُصَنِّفِ، وَقَوْلُهُ:(مَصْرِفًا: مَعْدِلًا) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ أَبِي كَبِيرٍ - بِالْمُوَحَّدَةِ - الْهُذَلِيِّ:

أَزُهَيْرُ هَلْ عَنْ مَيْتَةٍ مِنْ مَصْرِفِ

أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا، وَاللَّائِقُ بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي تَوَجُّهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُكَاظَ وَاسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِقِرَاءَتِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بِتَمَامِهِ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِالْآيَةِ الَّتِي صَدَّرَ بِهَا هَذَا الْبَابَ.

‌14 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا، يُقَالُ: الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي وَالْأَسَاوِدُ. {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، ويُقَالُ:{صَافَّاتٍ} بُسُطٌ أَجْنِحَتَهُنَّ، {وَيَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ.

3297 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ".

[الحديث 3298 - أطرافه في: 3310، 3312، 4016]

3298 -

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لِأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ لَا تَقْتُلْهَا فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ قَالَ إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَهِيَ الْعَوَامِرُ".

[الحديث 3298 - طرفاه في: 3311، 3313]

3299 -

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَالزُّبَيْدِيُّ وَقَالَ صَالِحٌ وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابْنُ مُجَمِّعٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى سَبْقِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ عَلَى الْحَيَوَانِ، أَوْ سَبْقِ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى خَلْقِ آدَمَ. وَالدَّابَّةُ لُغَةً مَا دَبَّ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الطَّيْرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وَعُرْفًا ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْفَرَسِ وَقِيلَ: بِالْحِمَارِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنَّ خَلْقَ الدَّوَابِّ كَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقِيلَ: الثُّعْبَانُ الْكَبِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ، الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي وَالْأَسَاوِدُ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ الْجَانُّ أَجْنَاسٌ قَالَ عِيَاضٌ: الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، قُلْتُ: هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{كَأَنَّهَا جَانٌّ} وَفِي قَوْلِهِ: {حَيَّةٌ تَسْعَى} كَأَنَّهَا جَانٌّ مِنَ الْحَيَّاتِ أَوْ مِنْ حَيَّةِ الْجَانِّ، فَجَرَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَصَا فِي أَوَّلِ الْحَالِ جَانًّا وَهِيَ

ص: 347

الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، ثُمَّ صَارَتْ ثُعْبَانًا، فَحِينَئِذٍ أَلْقَى الْعَصَا، وَقِيلَ: اخْتَلَفَ وَصْفُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا: فَكَانَتْ كَالْحَيَّةِ فِي سَعْيِهَا وَكَالْجَانِّ فِي حَرَكَتِهَا وَكَالثُّعْبَانِ فِي ابْتِلَاعِهَا.

وَالْأَفَاعِي جَمْعُ أَفْعَى وَهِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالذَّكَرُ مِنْهَا أُفْعُوَانٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْعَيْنِ، وَكُنْيَةُ الْأُفْعُوَانِ أَبُو حَيَّانَ، وَأَبُو يَحْيَى لِأَنَّهُ يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ الشُّجَاعُ الْأَسْوَدُ الَّذِي يُوَاثِبُ الْإِنْسَانَ، وَمِنْ صِفَةِ الْأَفْعَى إِذَا فُقِئَتْ عَيْنُهَا عَادَتْ وَلَا تُغْمِضُ حَدَقَتَهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَسَاوِدُ جَمْعُ أَسْوَدَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ حَيَّةٌ فِيهَا سَوَادٌ. وَهِيَ أَخْبَثُ الْحَيَّاتِ. وَيُقَالُ لَهُ: أَسْوَدُ سَالِخٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْلُخُ جِلْدَهُ كُلَّ عَامٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ

(1)

وَقِيلَ: هِيَ حَيَّةٌ رَقِيقَةٌ رَقْشَاءُ دَقِيقَةُ الْعُنُقِ عَرِيضَةُ الرَّأْسِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ ذَاتَ قَرْنَيْنِ. وَالْهَاءُ فِي الْحَيَّةِ لِلْوَحْدَةِ، كَدَجَاجَةٍ، وَقَدْ عَدَّ لَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ لَيْسَ سَبْعِينَ اسْمًا.

قَوْلُهُ: (آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أَيْ فِي قَبْضَتِهِ وَمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَخَصَّ النَّاصِيَةَ بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ تَقُولُ: نَاصِيَةُ فُلَانٍ فِي يَدِ فُلَانٍ: إِذَا كَانَ فِي طَاعَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَجُزُّونَ نَاصِيَةَ الْأَسِيرِ إِذَا أَطْلَقُوهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ صَافَّاتٍ: بُسُطٌ أَجْنِحَتُهُنَّ) وَقَوْلُهُ: (يَقْبِضْنَ: يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أَيْ بَاسِطَاتِ أَجْنِحَتَهُنَّ، وَ (يَقْبِضْنَ) يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صَافَّاتٍ قَالَ: بُسُطٌ أَجْنِحَتُهُنَّ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ.

قَوْلُهُ: (وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) تَثْنِيَةُ طُفْيَةٍ - بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ - وَهِيَ خُوصَةُ الْمُقَلِ، وَالطَّفْيُ خُوصُ الْمُقَلِ، شَبَّهَ بِهِ الْخَطَّ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ إنَّ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ جِنْسٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِهِ خَطَّانِ أَبْيَضَانِ.

قَوْلُهُ: (وَالْأَبْتَرَ) هُوَ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، زَادَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَّهُ أَزْرَقُ اللَّوْنِ لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ، وَقِيلَ: الْأَبْتَرُ الْحَيَّةُ الْقَصِيرَةُ الذَّنَبِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هي الْأَفْعَى الَّتِي تَكُونُ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْبَرَ قَلِيلًا، وَقَوْلُهُ: وَالْأَبْتَرَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرِ ; وَوَقَعَ فِي الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ لَا تَقْتُلُوا الْحَيَّاتِ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ وَظَاهِرُهُ اتِّحَادُهُمَا، لَكِنْ لَا يَنْفِي الْمُغَايَرَةَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ) أَيْ يَمْحُوَانِ نُورَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ.

قَوْلُهُ: (وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ: الْجَنِينُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَحَادِيثَ: فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي بَعْدَ أَحَادِيثَ: وَيُصِيبُ الْحَبَلَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا وَيُذْهِبُ الْحَبَلَ وَكُلُّهَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكُنْتُ لَا أَتْرُكُ حَيَّةً إِلَّا قَتَلْتُهَا، حَتَّى طَارَدْتُ حَيَّةً مِنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: أُطَارِدُ أَيْ أَتْبَعُ وَأَطْلُبُ.

قَوْلُهُ: (فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ اسْمُهُ بَشِيرٌ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ: مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: رِفَاعَةُ، وَقِيلَ: بَلِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَرِفَاعَةُ، وَبَشِيرٌ أَخَوَاهُ، وَاسْمُ جَدِّهِ زَنْبَرٌ بِزَايٍ وَنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَهُوَ أَوْسِيٌّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنُ زَيْدٍ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ اسْمُهُ مَرْوَانُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ وَشَهِدَ أُحُدًا، وَيُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا، وَاسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَمَاتَ فِي أَوَّلِ

(2)

(1)

في نسخة أخرى "من أسود وأسوده".

(2)

في نسخة "في آخر".

ص: 348

خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ) أَيِ اللَّاتِي يُوجَدْنَ فِي الْبُيُوتِ، وَظَاهِرُهُ التَّعْمِيمُ فِي جَمِيعِ الْبُيُوتِ، وَعَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصُهُ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِبُيُوتِ الْمُدُنِ دُونَ غَيْرِهَا، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَتُقْتَلُ فِي الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهَا الْحَيَّةُ الَّتِي تَكُونُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ وَلَا تَلْتَوِي فِي مِشْيَتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ الْعَوَامِرُ) هُوَ كَلَامُ الزُّهْرِيِّ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَهِيَ الْعَوَامِرُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: عُمَّارُ الْبُيُوتِ سُكَّانُهَا مِنَ الْجِنِّ، وَتَسْمِيَتُهُنَّ عَوَامِرُ لِطُولِ لُبْثِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُمْرِ وَهُوَ طُولُ الْبَقَاءِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالثَّلَاثِ: فَقِيلَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ: أَنْ يُقَالَ لَهُنَّ أَنْتُنَّ فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ إِنْ لَبِثْتِ عِنْدَنَا، أَوْ ظَهَرْتِ لَنَا، أَوْ عُدْتِ إِلَيْنَا.

قَوْلُهُ: (وَقَال عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ) يُرِيدُ أَنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَلَى الشَّكِّ فِي اسْمِ الَّذِي لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَسَاقَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ يُونُسُ) أَيِ ابْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْ سُفْيَانَ، وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَالزُّبَيْدِيُّ، أَيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ تَابَعُوا مَعْمَرًا عَلَى رِوَايَتِهِ بِالشَّكِّ الْمَذْكُورِ. فَأَمَّا رِوَايَةُ يُونُسَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا، فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَمَّا رِوَايَةُ إِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ فَرُوِّينَاهَا فِي نُسْخَتِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَكُنْتُ لَا أَتْرُكُ حَيَّةً أَرَاهَا إِلَّا قَتَلْتُهَا وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَتَرَى ذَلِكَ مِنْ سُمِّيَّتِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ صَالِحٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَابْنُ مُجَمِّعٍ إِلَخْ) يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ رَوَوُا الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَجَمَعُوا فِيهِ بَيْنَ أَبِي لُبَابَةَ، وَزَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ صَالِحٍ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَرَوَيْنَاهَا فِي نُسْخَتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ مَوْصُولَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مُجَمِّعٍ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ - بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ - الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ فَوَصَلَهَا الْبَغَوِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ قَالَ ابْنُ السَّكَنِ: لَمْ أَجِدْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ أَبِي لُبَابَةَ، وَزَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، إِلَّا ابْنَ مُجَمِّعٍ هَذَا، وَجَعْفَرَ بْنَ بُرْقَانَ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ مَقَالٌ. انْتَهَى. وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ عَنْهُ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَذْهَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ لَهُ مَوْصُولَةً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَصَالِحٍ، فَصَارَ مَنْ رَوَاهُ بِالْجَمْعِ أَرْبَعَةً، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُقَارِبُ الْخَمْسَةَ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِالشَّكِّ إِلَّا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الَّذِي رَأَى ابْنَ عُمَرَ هُوَ أَبُو لُبَابَةَ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَهُوَ يُرَجِّحُ مَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَقْدِيمِهِ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى ذِكْرِ أَبِي لُبَابَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَيْسَ لِزَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ - أَخِي عُمَرَ - رِوَايَةٌ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْجِنَّ لَا تَتَمَثَّلُ بِذِي الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرِ، فَلِذَلِكَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِمَا. وَسَيَأْتِي التَّعَقُّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَبْتَرَ أَوْ ذَا طُفْيَتَيْنِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إِنْذَارٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ الْإِذْنُ فِي قَتْلِ غَيْرِهِمَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، وَفِيهِ: فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ

ص: 349

فَإِنَّهُ كَافِرٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لِلْإِرْشَادِ، نَعَمْ مَا كَانَ مِنْهَا مُحَقَّقَ الضَّرَرِ وَجَبَ دَفْعُهُ.

‌15 - بَاب خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ

3300 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُوشِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ. الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْإِيمَانِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

3301 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ".

[الحديث 3302 - أطرافه في: 3499، 4388، 4389، 4390]

3302 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ الإِيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا أَلَا إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ".

[الحديث 3302 - أطرافه في: 3498، 4387، 5303]

3303 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا".

3304 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ مَا أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ".

3305 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلاَّ الْفَأرَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ

ص: 350

الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ فَحَدَّثْتُ كَعْبًا فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لِي مِرَارًا فَقُلْتُ: أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ".

3306 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ الْفُوَيْسِقُ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِ".

3307 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ".

[الحديث 3307 - طرفه في: 3359]

3308 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ وَيُصِيبُ الْحَبَلَ". تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ "أخبرنا أَبَا أُسَامَةَ".

[الحديث 3308 - طرفه في: 3309]

3309 -

حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن هشام قال: حدثني أبي عن عائشة قالت: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأبتر، وقالَ: إنه يُصِيبُ البصَرَ، ويُذهِبُ الحبَلَ".

3310 -

حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ ثُمَّ نَهَى قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَدَمَ حَائِطًا لَهُ فَوَجَدَ فِيهِ سِلْخَ حَيَّةٍ فَقَالَ انْظُرُوا أَيْنَ هُوَ فَنَظَرُوا فَقَالَ اقْتُلُوهُ فَكُنْتُ أَقْتُلُهَا لِذَلِكَ ".

3311 -

"فَلَقِيتُ أَبَا لُبَابَةَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلاَّ كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ".

3312 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ.

3313 -

فَحَدَّثَهُ أَبُو لُبَابَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ، فَأَمْسَكَ عَنْهَا.

الثاني حديث أبي سعيد الخدري "يوشك أن يكون خير مال المسلم، الحديث، وقد تقدم في أوائل، ويأتى شرحه في كتاب الفتن".

(تَنْبِيهَانِ):

الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِأَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فِي الْجِزْيَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

الثَّانِي: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ

ص: 351

قَبْلَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا بَابُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَسَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ اللَّائِقُ بِالْحَالِ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَلِي حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ لَيْسَ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَنَمِ إِلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ كُفْرِ الْمَجُوسِ، لِأَنَّ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا فِي غَايَةِ الْقَسْوَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ حَتَّى مَزَّقَ مَلِكُهُمْ كِتَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْفِتَنُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (وَالْفَخْرُ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ الْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ، (وَالْخُيَلَاءُ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمَدِّ: الْكِبْرُ وَاحْتِقَارُ الْغَيْرِ.

قَوْلُهُ: (الْفَدَّادِينَ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ خَفَّفَهَا وَقَالَ: إِنَّهُ جَمْعُ فَدَّانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَقَرُ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَدَّانُ آلَةُ الْحَرْثِ وَالسِّكَّةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْفَدَّادُونَ جَمْعُ فَدَّانٍ، وَهُوَ مَنْ يَعْلُو صَوْتُهُ فِي إِبِلِهِ وَخَيْلِهِ وَحَرْثِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْفَدِيدُ هُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَحَكَى الْأَخْفَشُ وَوَهَّاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَدَّادِينَ مَنْ يَسْكُنُ الْفَدَافِدَ جَمْعُ فَدْفَدٍ وَهِيَ الْبَرَارِي وَالصَّحَارِي، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَّ الْفَدَّادِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْمِائَتَيْنِ إِلَى الْأَلْفِ، وَعَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ مِنَ التَّخْفِيفِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْفَدَادِينَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْفَدَّادُونَ هُمُ الرُّعَاةُ وَالْجَمَّالُونَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ذَمَّ هَؤُلَاءِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمُعَالَجَةِ مَا هُمْ فِيهِ عَنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ.

قَوْلُهُ: (أَهْلُ الْوَبَرِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَهْلِ الْمَدَرِ، وَعَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِأَهْلِ الْوَبَرِ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الْوَبَرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَيْلِ وَقَالَ: إِنَّ الْخَيْلَ لَا وَبَرَ لَهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَا بَيَّنْتُهُ.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ أَيِ في الْفَدَّادِينَ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَالسَّكِينَةُ) تُطْلَقُ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا نَظِيرَ لَهَا أَيْ فِي وَزْنِهَا إِلَّا قَوْلَهُمْ عَلَى فُلَانٍ ضَرِيبَةٌ أَيْ خَرَاجٌ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَهْلَ الْغَنَمِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ غَالِبًا دُونَ أَهْلِ الْإِبِلِ فِي التَّوَسُّعِ وَالْكَثْرَةِ وَهُمَا مِنْ سَبَبِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِأَهْلِ الْغَنَمِ أَهْلَ الْيَمَنِ لِأَنَّ غَالِبَ مَوَاشِيهِمُ الْغَنَمُ، بِخِلَافِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ إِبِلٍ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: اتَّخِذِي الْغَنَمَ فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً.

الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسُ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ) فِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَمَانٍ الْأَنْصَارُ، لِكَوْنِ أَصْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لِأَنَّ فِي إِشَارَتِهِ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُهَا حِينَئِذٍ لَا الَّذِينَ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنْهَا، وَسَبَبُ الثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إِسْرَاعُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَبُولُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبُولُهُمُ الْبُشْرَى حِينَ لَمْ تَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ بِقَوْلِهِ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَقَوْلُهُ: قَرْنَا الشَّيْطَانِ أَيْ جَانِبَا رَأْسِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ضُرِبَ الْمَثَلُ بِقَرْنَيِ الشَّيْطَانِ فِيمَا لَا يُحْمَدُ مِنَ الْأُمُورِ.

وَقَوْلُهُ: أَرَقُّ أَفْئِدَةً أَيْ أَنَّ غِشَاءَ قَلْبِ أَحَدِهِمْ رَقِيقٌ، وَإِذَا رَقَّ الْغِشَاءُ أَسْرَعَ نُفُوذُ الشَّيْءِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَعْفَرَ بْنِ رَبِيعَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ

ص: 352

الْخَمْسَةُ أَصْحَابُ الْأُصُولِ عَلَى إِخْرَاجِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قُتَيْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ دِيكٍ وَهُوَ ذَكَرُ الدَّجَاجِ، وَالدِّيكُ خَصِيصَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ اللَّيْلِيِّ، فَإِنَّهُ يُقَسِّطُ أَصْوَاتَهُ فِيهَا تَقْسِيطًا لَا يَكَادُ يَتَفَاوَتُ، وَيُوَالِي صِيَاحَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ لَا يَكَادُ يُخْطِئُ، سَوَاءٌ أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَ، وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِاعْتِمَادِ الدِّيكِ الْمُجَرَّبِ فِي الْوَقْتِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا) بِفَتْحِ اللَّامِ، قَالَ عِيَاضٌ: كَانَ السَّبَبُ فِيهِ رَجَاءَ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى دُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّالِحِينَ تَبَرُّكًا بِهِمْ، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ - مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَفَعَهُ: لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ. وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَبَبُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَأَنَّ دِيكًا صَرَخَ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَلِيمِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ الْخَيْرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَبَّ وَلَا أَنْ يُسْتَهَانَ بِهِ، بَلْ يُكْرَمُ وَيُحْسَنُ إِلَيْهِ. قَالَ: وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ بِصَوْتِهِ حَقِيقَةً: صَلُّوا أَوْ حَانَتِ الصَّلَاةُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّهُ يَصْرُخُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ؛ فِطْرَةً فَطَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا سَمِعْتُمْ نُهَاقَ الْحَمِيرِ) زَادَ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَنُبَاحَ الْكِلَابِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ رَفَعَهُ لَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ حَتَّى يَرَى شَيْطَانًا أَوْ يَتَمَثَّلَ لَهُ شَيْطَانٌ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَصَلُّوا عَلَيَّ. قَالَ عِيَاضٌ: وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالتَّعَوُّذِ لِمَا يُخْشَى مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرِّ وَسْوَسَتِهِ، فَيُلْجَأُ إِلَى اللَّهِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُتَعَلَّمُ مِنَ الدِّيكِ خَمْسُ خِصَالٍ: حُسْنُ الصَّوْتِ، وَالْقِيَامُ فِي السَّحَرِ، وَالْغَيْرَةُ، وَالسَّخَاءُ، وَكَثْرَةُ الْجِمَاعِ.

السَّادِسُ: حَدِيثُ جَابِرٍ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْبَابِ، وَالْقَائِلُ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَإِسْحَاقُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ مَنْصُورٍ، وَقَدْ أَهْمَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ - تَبَعًا لِخَلَفٍ - عَزْوَهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

السَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ الْحَذَّاءُ، وَمُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ) بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ الْفَأْرَةِ مُسِخَ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا لَبَنُ الْغَنَمِ فَتَشْرَبَهُ، وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا لَبَنُ الْإِبِلِ فَلَا فَلَا تَشْرَبُهُ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثْتُ كَعْبًا) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا؟.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أَفَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَفَأُنْزِلَتْ عَلَيَّ التَّوْرَاةُ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا أَجبَرَ بِمَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ يَكُونُ لِلْحَدِيثِ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَفِي سُكُوتِ كَعْبٍ عَنِ الرَّدِّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَرُّعِهِ، وَكَأَنَّهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَبْلُغْهُمَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَسْخِ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ.

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِلَّا فَالْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ الْمَمْسُوخُ بِأَعْيَانِهَا تَوَالَدَتْ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

الثَّامِنُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سَمَاعِهَا عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَقَدْ حَفِظَ غَيْرُهَا كَمَا تَرَى. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ

ص: 353

كَانَ فِي بَيْتِهَا رُمْحٌ مَوْضُوعٌ، فَسُئِلَتْ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْوَزَغَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهَا انْتَهَى. وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَلَعَلَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَأَطْلَقَتْ لَفْظَ أَخْبَرَنَا مَجَازًا أَيْ أَخْبَرَ الصَّحَابَةُ، كَمَا قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ خَطَبَنَا عِمْرَانُ وَأَرَادَ أَنَّهُ خَطَبَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) قَائِلُ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةَ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْ سَعْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةَ فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْقَرِينِ عَنْ قَرِينِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ أَرْجَحُ؛ فَإِنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَمَالِكٍ مَعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، ولَيْسَ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا وَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ وَصَلَهُ لِمَعْمَرٍ وَأَرْسَلَهُ لِيُونُسَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشُّرَّاحِ وَلَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

التَّاسِعُ: حَدِيثُ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ بِأَتَمَّ مِنْهُ، وَأُمُّ شَرِيكٍ اسْمُهَا غُزَيَّةُ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: غُزَيْلَةٌ، يُقَالُ هِيَ عَامِرِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ، وَيُقَالُ أَنْصَارِيَّةٌ وَيُقَالُ دَوْسِيَّةٌ.

الْعَاشِرُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قَتْلِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرِ، أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادَيْنِ إِلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَوْرَدَهُ بَعْدَهُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ طَرِيقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ: (تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) يُرِيدُ أَنَّ حَمَّادًا تَابَعَ أَبَا أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ هِشَامٍ، وَاسْمُ أَبِي أُسَامَةَ أَيْضًا حَمَّادٌ، وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ) هُوَ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَمَنْ دُونَهُ، وَأَمَّا مَنْ فَوْقَهُ فَمَدَنِيٌّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ ثُمَّ نَهَى) هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَفَاعِلُ نَهَى هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَوَّلًا يَأْخُذُ بِعُمُومِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، فَمَنْ تَرَكَهُنَّ مَخَافَةَ ثَأْرِهِنَّ فَلَيْسَ مِنِّي.

قَوْلُهُ: (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَدَمَ حَائِطًا لَهُ فَوَجَدَ فِيهِ سِلْخَ حَيَّةٍ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَهُوَ جِلْدُهَا، كَذَا وَقَعَ هُنَا مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ كَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ لِيَفْتَحَ لَهُ بَابًا فِي دَارِهِ يَسْتَقْرِبُ بِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ الْغِلْمَانُ جِلْدَ جَانٍّ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْتَمِسُوهُ فَاقْتُلُوهُ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلُوهُ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ نَافِعٍ نَحْوَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَكُنْتُ أَقْتُلُهَا لِذَلِكَ وَهُوَ الْقَائِلُ فَلَقِيتُ أَبَا لُبَابَةَ.

قَوْلُهُ: (لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ ذِي طُفْيَتَيْنِ) إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ لَيْسَ مِنَ الْجِنَّانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ كُلَّ ذِي طُفْيَتَيْنِ فَاقْتُلُوهُ. وَالْجِنَّانُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ - جَمْعُ جَانٍّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، وَقِيلَ: الرَّقِيقَةُ الْخَفِيفَةُ، وَقِيلَ: الدَّقِيقَةُ الْبَيْضَاءُ.

الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْخَمْسِ الَّتِي ل اجُنَاحَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ، وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْحُدَيَّا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ

ص: 354

عُمَرَ الْحِدَأَةُ وَالْحُدَيَّا بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَقَالَ: الصَّوَابُ الْحُدَيْأَةُ أَوِ الْحَدِّيَّةُ؛ أَيْ بِهَمْزَةٍ وَزِيَادَةِ هَاءٍ أَوْ بِالتَّشْدِيدِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْحُدَيْأَةَ لَيْسَ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّحَدِّي يَقُولُونَ: فُلَانٌ يَتَحَدَّى فُلَانًا أَيْ يُنَازِعُهُ وَيُغَالِبُهُ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِهَذَا الطَّائِرِ الْحُدَيَّا وَيَجْمَعُونَهُ الْحَدَادِيَّ، وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ. وَأَمَّا الْأَزْهَرِيُّ فَصَوَّبَهُ وَقَالَ: الْحُدَيْأَةُ تَصْغِيرُ الْحُدَيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

‌16 - بَاب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء

وَخَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ

3314 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحُدَيَّا وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.

3315 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ.

3316 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ كَثِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ قَالَ: خَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ، وَاكْفِئُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْمساءِ؛ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ؛ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَحَبِيبٌ عَنْ عَطَاءٍ: فَإِنَّ لِلشَّيَاطِينِ.

3317 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ فَنَزَلَتْ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا". وَعَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

مِثْلَهُ. قَالَ: "وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً". وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ. وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

ص: 355

3318 -

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ". قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

3319 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلَا نَمْلَةً وَاحِدَةً".

(تَنْبِيهٌ):

: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ هُنَا بَابُ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ وَلَا مَعْنًى لِذِكْرِهِ هُنَا، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَيْضًا بَابُ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَهُوَ أَوْلَى.

الثَّانِي عَشَرَ: حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا كَثِيرٌ) هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ - بَصْرِيٌّ قَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ الْحَاكِمُ: مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً: صَالِحٌ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَحَادِيثُهُ مُسْتَقِيمَةً. قُلْتُ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، قَدْ تُوبِعَ عَلَيْهِ كَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَآخَرُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَلَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (رَفَعَهُ) كَذَا هُنَا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (خَمِّرُوا الْآنِيَةَ) أَيْ غَطُّوهَا. وَمَضَى فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ: وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تُعَرِّضَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْأَشْرِبَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَوْكِئُوا) بِكَسْرِ الْكَافِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيِ ارْبُطُوهَا وَشُدُّوهَا، وَالْوِكَاءُ اسْمُ مَا يُسَدُّ بِهِ فَمُ الْقِرْبَةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَجِيفُوا) بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ أَيْ أَغْلِقُوهَا تَقُولُ: أَجَفْتُ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتُهُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: تَقُولُ جَفَأْتُ الْبَابَ أَغْلَقْتُهُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ هَكَذَا غَيْرَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ أَجِيفُوا لَامُهُ فَاءٌ، وَجَفَأْتُ لَامُهُ هَمْزَةٌ. زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا.

قَوْلُهُ: (وَاكْفِتُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَيْ ضُمُّوهُمْ إِلَيْكُمْ، وَالْمَعْنَى: امْنَعُوهُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ الْمَسَاءِ) فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْبَابِ: إِذَا جَنَحَ اللَّيْلُ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطَفَةً) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ وَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِذَا ذَهَبَ وَكَأَنَّهُ ذَكَّرَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ) هِيَ الْفَأْرَةُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (اجْتَرَّتْ) بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ رُبَّمَا جَرَّتْ وَسَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ نَارُ السِّرَاجِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ الْمُعَلَّقَةُ فَإِنْ خِيفَ بِسَبَبِهَا حَرِيقٌ دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فَلَا بَأْسَ بِهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَمِيعُ أَوَامِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلنَّدْبِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ

ص: 356

قَوْمٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِغَلْقِ الْأَبْوَابِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِاللَّيْلِ ; وَكَأَنَّ اخْتِصَاصَ اللَّيْلِ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّهَارَ غَالِبًا مَحَلُّ التَّيَقُّظِ بِخِلَافِ اللَّيْلِ، وَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسُوقُ الْفَأْرَةَ إِلَى حَرْقِ الدَّارِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَبِيبٌ، عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّ لِلشَّيَاطِينِ) يَعْنِي أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ، وَحَبِيبًا - وَهُوَ الْمعَلِّمُ - رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا رَوَاهُ كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا فِي رِوَايَتِهِمَا: فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ بَدَلَ قَوْلِ كَثِيرٍ فِي رِوَايَتِهِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ وَرِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ، وَرِوَايَةُ حَبِيبٍ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ الْمَذْكُورِ.

وَعَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. قَالَ: وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً. وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ.

وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْحَيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْأَعْمَشِ) يَعْنِي أَنَّ يَحْيَى بْنَ آدَمَ رَوَاهُ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ شَيْخَيْنِ أَفْرَدَهُمَا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ.

قَوْلُهُ: (رَطْبَةٌ) أَيْ غَضَّةٌ طَرِيَّةٌ فِي أَوَّلِ مَا تَلَاهَا وَوُصِفَتْ هِيَ بِالرُّطُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرُّطُوبَةِ رُطُوبَةُ فِيهِ أَيْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهَا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ رِيقُهُ مِنْ تِلَاوَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصَفَهَا بِالرُّطُوبَةِ لِسُهُولَتِهَا، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَقَوْلُهُ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ وَوُقِيتُمْ شَرَّهَا أَيْ قَتْلُكُمْ إِيَّاهَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ.

وَفِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْحَيَّةِ فِي الْحَرَمِ، وَجَوَازُ قَتْلِهَا فِي جُحْرِهَا، وَالْجُحْرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ.

قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَعًا، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْقَائِلُ قَالَ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ) أَيْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَطَرِيقُ أَبِي عَوَانَةَ سَتَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (الْمُرْسَلَاتِ).

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَفْصٌ) هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ (وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ خَالَفُوا إِسْرَائِيلَ فَجَعَلُوا الْأَسْوَدَ بَدَلَ عَلْقَمَةَ. وَرِوَايَةُ حَفْصٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مَوْصُولَةً.

قَوْلُهُ: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا حِمْيَرِيَّةٌ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَلَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ طَائِفَةً مِنْ حِمْيَرٍ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ فَنُسِبَتْ إِلَى دِينِهَا تَارَةً وَإِلَى قَبِيلَتِهَا أُخْرَى، وَقَدْ وَقَعَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ لِلْبَيْهَقِيِّ وَأَبْدَاهُ عِيَاضٌ احْتِمَالًا، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَأَنْكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي هِرَّةٍ) أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ جَرَّا هِرَّةٍ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَجَرَّا - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - مَقْصُورٌ وَيَجُوزُ فِيهِ الْمَدُّ، وَالْهِرَّةُ أُنْثَى السِّنَّوْرِ وَالْهِرُّ الذَّكَرُ، وَيُجْمَعُ الْهِرُّ عَلَى هِرَرَةٍ كَقِرْدٍ وَقِرَدَةٍ، وَتُجْمَعُ الْهِرَّةُ عَلَى هِرَرٍ كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَاضِي فِي الْكُسُوفِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا، وَبِمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَالْمُرَادُ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتُهَا مِنْ فَأْرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ نَبَاتُ الْأَرْضِ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْأَةَ عُذِّبَتْ بِسَبَبِ قَتْلِ هَذِهِ الْهِرَّةِ بِالْحَبْسِ، قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً فَعُذِّبَتْ بِالنَّارِ حَقِيقَةً، أَوْ بِالْحِسَابِ لِأَنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً فَعُذِّبَتْ بِكُفْرِهَا وَزِيدَتْ عَذَابًا بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ مُسْلِمَةً وَعُذِّبَتْ

ص: 357

بِسَبَبِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ النَّارَ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، كَذَا قَالَ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا كَافِرَةً مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لَهَا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ بِتَمَامِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ.

وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْهِرَّةِ وَرِبَاطِهَا إِذَا لَمْ يُهْمَلْ إِطْعَامُهَا وَسَقْيُهَا، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ غَيْرُ الْهِرَّةِ فِي مَعْنَاهَا، وَأَنَّ الْهِرَّ لَا يُمْلَكُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إِطْعَامُهُ عَلَى مَنْ حَبَسَهُ، كَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ عَلَى مَالِكِهِ، كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مِلْكِهَا، لَكِنْ فِي قَوْلِهِ هِرَّةٍ لَهَا كَمَا هِيَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ مَا يَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) قِيلَ هُوَ الْعُزَيْرُ، وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ مُوسَى عليه السلام، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَلَدَغَتْهُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَرَصَتْهُ، وَلَيْسَ هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنَّ ذَاكَ مَعْنَاهُ الْإِحْرَاقُ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا بَعْدَهَا زَايٌ أَيْ مَتَاعِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ) أَيْ بَيْتَ النَّمْلِ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي الْجِهَادِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، وَقَرْيَةُ النَّمْلِ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِهِنَّ، وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ فِي الْأَوْطَانِ فَيَقُولُونَ لِمَسْكَنِ الْإِنْسَانِ وَطَنٌ، وَلِمَسْكَنِ الْإِبِلِ عَطَنٌ، وَلِلْأَسَدِ عَرِينٌ وَغَابَةٌ، وَلِلظَّبْيِ كِنَاسٌ، وَلِلضَّبِّ وِجَارٌ، وَلِلطَّائِرِ عُشٌّ، وَلِلزُّنْبُورِ كَوْرٌ، وَلِلْيَرْبُوعِ نَافِقٌ، وَلِلنَّمْلِ قَرْيَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً) يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: فَهَلَّا أَحْرَقْتَ نَمْلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الَّتِي آذَتْكَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا جِنَايَةٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ إِحْرَاقِ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي بِالنَّارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَأْتِ فِي شَرْعِنَا مَا يَرْفَعُهُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ مَا يُشْعِرُ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ، لَكِنْ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا النَّهْيُ عَنِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيِّ جَوَازُ قَتْلِ النَّمْلِ وَجَوَازُ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْعَتْبُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ وَلَا فِي الْإِحْرَاقِ، بَلْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَلَا يَجُوزُ إِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ إِلَّا فِي الْقِصَاصِ بِشَرْطِهِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا قَتْلُ النَّمْلِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ انْتَهَى، وَقَدْ قَيَّدَ غَيْرُهُ كَالْخَطَّابِيِّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِ مِنَ النَّمْلِ بِالسُّلَيْمَانِيِّ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: النَّمْلُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الذَّرُّ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَبِهِ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ. وَفِي قَوْلِهِ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْإِحْرَاقَ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيِّ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعَاتَبْ أَصْلًا وَرَأْسًا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَى طَبْعُهُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ كُلِّ مُؤْذٍ.

وَيُقَالُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ سَبَبًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذُنُوبِ أَهْلِهَا فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا فَقَالَ: يَا رَبِّ قَدْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَدَوَابٌّ وَمَنْ لَمْ يَقْتَرِفْ ذَنْبًا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَرَتْ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ، فَنَبَّهَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَنَّ الْجِنْسَ الْمُؤْذِيَ يُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ يُؤْذِ، وَتُقْتَلُ أَوْلَادُهُ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغِ الْأَذَى انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ إِنْكَارًا لِمَا فَعَلَ بَلْ جَوَابًا لَهُ وَإِيضَاحًا لِحِكْمَةِ شُمُولِ الْهَلَاكِ لِجَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِذَلِكَ أَيْ إِذَا اخْتَلَطَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِهْلَاكَ بِغَيْرِهِ وَتَعَيَّنَ إِهْلَاكَ الْجَمِيعِ طَرِيقًا إِلَى إِهْلَاكِ الْمُسْتَحِقِّ جَازَ إِهْلَاكُ الْجَمِيعِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَتَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: النَّمْلُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَكَيْفَ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَقَ نَمْلَةً وَاحِدَةً جَازَ مَعَ أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ لِقَوْلِهِ

ص: 358

تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ثُمَّ أَجَابَ بِتَجْوِيزِ أَنَّ التَّحْرِيقَ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَرُدُّ عَلَى قَوْلِنَا كَانَ جَائِزا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذُمَّ عَلَيْهِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ قَدْ يُذَمُّ الرَّفِيعُ الْقَدْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى انْتَهَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالذَّمِّ فِي هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ النَّبِيِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ بِالْعِتَابِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ حَيْثُ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ آذَاهُ مِنْهُ وَاحِدٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرُ وَالصَّفْحُ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ لَهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، فَلَوِ انْفَرَدَ هَذَا النَّظَرُ وَلَمْ ينضم إِلَيْهِ التَّشَفِّي لَمْ يُعَاتَبْ. قَالَ: وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا التَّمَسُّكَ بِأَصْلِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً انْتَهَى.

(تَكْمِلَةٌ):

النَّمْلَةُ وَاحِدَةُ النَّمْلِ وَجَمْعُ الْجَمْعِ نِمَالٌ. وَالنَّمْلُ أَعْظَمُ الْحَيَوَانَاتِ حِيلَةً فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ أَنْذَرَ الْبَاقِينَ، وَيَحْتَكِرُ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِلشِّتَاءِ، وَإِذَا خَافَ الْعَفَنَ عَلَى الْحَبِّ أَخْرَجَهُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَإِذَا حَفَرَ مَكَانَهُ اتَّخَذَهَا تَعَارِيجَ؛ لِئَلَّا يَجْرِيَ إِلَيْهَا مَاءُ الْمَطَرِ، وَلَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ مَا يَحْمِلُ أَثْقَلَ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَالذَّرُّ فِي النَّمْلِ كَالزُّنْبُورِ فِي النَّحْلِ.

قَوْلُهُ: (أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ مُسَبِّحَة)

(1)

اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى حَقِيقَةً، وَيَتَأَيَّدُ بِهِ قَوْلُ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّسْبِيحِ.

‌17 - بَاب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ

فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْأُخْرَى شِفَاءً

3320 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَالْأُخْرَى شِفَاءً.

[الحديث 3320 - طرفه في: 5782]

3321 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ قَالَ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ".

[الحديث 3321 - طرفه في: 3467]

3322 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْتُهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ".

(1)

هذه الفقرة ليست في نسخة صحيح البخاري المتداولة.

ص: 359

3323 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ".

3324 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا يَنْقُصْ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ".

3325 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ الشَّنَئِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". فَقَالَ السَّائِبُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ هَذِهِ الْقِبْلَةِ".

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ، وَسَيَأْتِي شَرْحهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ بَابُ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ وَسَاقَهُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَحُذِفَ عِنْدَ الْبَاقِينَ وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بَعْدَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي سَقَتِ الْكَلْبَ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الصُّورَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فِي الْمَعْنَى، وَسَبَقَ شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ طَرِيقًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَحَدِيثِ عُمَرَ فِيهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تُكَوَّرُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي زِيَارَةِ جِبْرِيلَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْكَلْبِ، وَحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَنَادَوْا يَا مَالك، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي، وَحَدِيثِ عِمْرَانَ اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ وَحَدِيثِ سَهْلٍ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحُمَّى، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قَتْلِ وَالِدِ حُذَيْفَةَ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ وَفِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَرْبَعُونَ أَثَرًا. وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.

ص: 360

بسم الله الرحمن الرحيم

‌60 - كِتَاب أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم: كِتَابُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ شَبُّوَيْهِ نَحْوَهُ، وَقَدَّمَ الْآيَةَ الْآتِيَةَ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي ذِكْرِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَالْأَنْبِيَاءُ جَمْعُ نَبِيٍّ، وَقَدْ قُرِئَ بِالْهَمْز، فَقِيلَ: هُوَ الْأَصْلُ، وَتَرْكُهُ تَسْهِيلٌ، وَقِيلَ الَّذِي بِالْهَمْزِ مِنَ النَّبَأِ، وَالَّذِي بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ، وَالنُّبُوَّةُ نِعْمَةٌ يَمُنُّ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بِعِلْمِهِ وَلَا كَشْفِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا بِاسْتِعْدَادِ وِلَايَتِهِ، وَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ شَرْعًا مَنْ حَصَلَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ. وَلَيْسَتْ رَاجِعَةٌ إِلَى جِسْمِ النَّبِيِّ وَلَا إِلَى عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِهِ، بَلْ وَلَا إِلَى عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا، بَلِ الْمَرْجِعُ إِلَى إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِأَنِّي نَبَّأْتُكَ أَوْ جَعَلْتُكَ نَبِيًّا. وَعَلَى هَذَا فَلَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ.

‌1 - بَاب خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ

{صَلْصَالٍ} طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ، كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ، وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ، كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ، وَصَرْصَرَ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ، مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ. {فَمَرَّتْ بِهِ} اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ، {أَلا تَسْجُدَ} أَنْ تَسْجُدَ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ. {فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةِ خَلْقٍ. وَرِيَاشًا: الْمَالُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ: وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّبَاسِ. {مَا تُمْنُونَ} النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} النُّطْفَةُ فِي الْإِحْلِيلِ. كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ شَفْعٌ السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوَتْرُ اللَّهُ عز وجل. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ. {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إِلَّا مَنْ آمَنَ. {خُسْرٍ} ضَلَالٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فقال: إِلَّا مَنْ آمَنَ. {لازِبٍ} لَازِمٌ. نُنْشِئُكُمْ فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ. {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نُعَظِّمُكَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} فَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} ، {فَأَزَلَّهُمَا} فَاسْتَزَلَّهُمَا. وَيَتَسَنَّهْ: يَتَغَيَّرْ. آسِنٌ: مُتَغَيِّرٌ. وَالْمَسْنُونُ: الْمُتَغَيِّرُ. {حَمَإٍ} جَمْعُ حَمْأَةٍ، وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ. {يَخْصِفَانِ} أَخْذُ الْخِصَافِ {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. {سَوْآتُهُمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هَاهُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ. قَبِيلُهُ: جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ.

ص: 361

3326 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ، مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ.

[الحديث 3226 - طرفه في: 6227]

3227 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ الأَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ وَأَزْوَاجُهُمْ الْحُورُ الْعِينُ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ".

3228 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغَسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ" فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَبِمَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ؟ ".

3229 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ. وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ. فَجَاءَتْ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْيرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ

ص: 362

لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَوَقَعُوا فِيهِ".

[الحديث 3329 - أطرافه في: 3911، 3938، 4480]

3330 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ يَعْنِي "لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا".

3331 -

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُوسَى بْنُ حِزَامٍ قَالَا حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ".

[الحديث 3331 - طرفاه في: 5184، 5186]

3332 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ".

3333 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهَا قَالَ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ يَا رَبِّ أُنْثَى يَا رَبِّ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ".

3334 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا "لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ".

[الحديث 3334 - طرفاه في: 6538، 6557]

ص: 363

3335 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ".

[الحديث 3335 - طرفاه في: 6867، 7321]

قَوْلُهُ: (بَابُ خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ آثَارًا، ثُمَّ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ فَجَعَلَهُ طِينًا ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ كَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ ; ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. وَكَانَ أَوَّلُ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحَ بَصَرَهُ وَخَيَاشِيمَهُ، فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، الْحَدِيثَ.

وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: أنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ رَفَعَهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَطِيفُ بِهِ ; فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَتَمَالَكُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.

وَآدَمُ اسْمٌ سُرْيَانِيٌّ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ آدَامُ بِإِشْبَاعِ فَتْحَةِ الدَّالِ بِوَزْنِ خَانَامَ وَزنة فَاعَالُ، وَامْتَنَعَ صَرْفُهُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: التُّرَابُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ آدَامُ، فَسُمِّيَ آدَمُ بِهِ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الثَّانِيَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ، جَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْجَوَالِيقِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ بِوَزْنِ أَفْعَلَ مِنَ الْأَدْمَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنه يَكُونَ كَأَعْيَنَ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ لِلْوَزْنِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَدَمْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا خَلَطْتُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَاءً وَطِينًا فَخُلِطَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (صَلْصَالٌ: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ) هُوَ تَفْسِيرُ الْفَرَّاءِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّلْصَالُ الْيَابِسُ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ نَارٌ، فَإِذَا نَقَرْتَهُ صَلَّ فَسُمِعَتْ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فَإِذَا طُبِخَ بِالنَّارِ فَهُوَ فَخَّارٌ. وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فَهُوَ صَلْصَالٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ، يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ، كَمَا يَقُولُونَ: صَرَّ الْبَابُ وَصَرْصَرَ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ، مِثْلَ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ) أَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالْمُنْتِنِ فَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُنْتِنَ تَفْسِيرُهُ الْمَسْنُونُ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُ فَكَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.

قَوْلُهُ: (فَمَرَّتْ بِهِ: اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (أَلا تَسْجُدَ: أَنْ تَسْجُدَ) يَعْنِي أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَذَا قَالَهُ وَزَادَ: وَلَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَتُلِحِّينَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ

وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ

وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةٌ، بَلْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ، فَحَمَلَكَ عَلَى أَلا تَسْجُدَ؟

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَمِثْلُهُ لِلنَّسَفِيِّ، وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا بَابٌ وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيفَةِ: آدَمُ، أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَابِطٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: وَالْأَرْضُ مَكَّةُ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مُقْتَضَى مَا نَقَلَهُ السُّدِّيُّ عَنْ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الْآيَةَ،

ص: 364

وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّهُ خَلِيفَةُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ خَلِيفَةُ الْجِنِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَنْ سَكَنَهَا قَبْلَ آدَمَ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ صِلَةٌ، وَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ رَدُّوهُ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا جَرْأَةٌ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَزَادَ: إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} مَا زَائِدَةٌ.

قَوْلُهُ: ({فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةِ خَلْقٍ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، رَوَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَنَبَاتَ أَسْنَانِهِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكَبَدُ الشِّدَّةُ، قَالَ لَبِيدٌ:

يَا عَيْنُ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ

قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ

قَوْلُهُ: (وَرِيَاشًا: الْمَالُ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: تَقُولُ أَعْطَانِي رِيشَهُ أَيْ كِسَوْتَهُ، قَالَ: وَالرِّيَاشُ أَيْضًا الْمَعَاشُ.

قَوْلُهُ: (مَا تُمْنُونَ: النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: يُقَالُ: أَمْنَى وَمَنَى، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَوْلُهُ تُمْنُونَ يَعْنِي النُّطَفَ إِذَا قُذِفَتْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَ ذَلِكَ أَمْ نَحْنُ).

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} النُّطْفَةُ فِي الْإِحْلِيلِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِ النُّطْفَةِ الَّتِي فِي الْإِحْلِيلِ إِلَى الصُّلْبِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَيُعَكِّرُ عَلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْإِنْسَانِ وَرَجْعِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ، السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوِتْرُ اللَّهُ) وهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَلَفْظُهُ كُلُّ خَلْقِ اللَّهِ شَفْعٌ: السَّمَاءُ، وَالْأَرْضُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنَحْوُ هَذَا شَفْعٌ، وَالْوِتْرُ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَبِهَذَا زَالَ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ إِيرَادِ ال مُصَنِّفِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِهِ: السَّمَاءُ شَفْعٌ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ سَبْعٌ وَالسَّبْعُ لَيْسَ بِشَفْعٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادُ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أن كُلُّ شَيْءٍ لَهُ مُقَابِلٌ يُقَابِلُهُ وَيُذْكَرُ مَعَهُ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ شَفْعٌ، كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، إِلَخْ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ، وَالشَّقَاءُ وَالسَّعَادَةُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَالْوِتْرُ اللَّهُ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ. وَأُخْرِجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوِتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعُ يَوْمُ الذَّبْحِ، وَفِي رِوَايَةِ أَيَّامِ الذَّبْحِ. وَهَذَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرُوا بِهِ قَوْلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.

قَوْلُهُ: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ، {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إِلَّا مَنْ آمَنَ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (خُسْرٍ: ضَلَالٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَنْ آمَنَ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} يَعْنِي فِي ضَلَالٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ {إِلا مَنْ آمَنَ} وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَالتِّلَاوَةُ {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا}

قَوْلُهُ: (لَازِبٍ: لَازِمٍ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ طِينٍ لازِبٍ} قَالَ: لَازِقٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ يَصِيرُ طِينًا يَلْزَقُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِاللَّازِمِ فَكَأَنَّهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: مَعْنَى اللَّازِبِ اللَّازِمُ، قَالَ النَّابِغَةُ:

وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ

أَيْ لَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (نُنْشِئَكُمْ فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا

ص: 365

لا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {مَا لا تَعْلَمُونَ}

قَوْلُهُ: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نُعَظِّمُكَ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {فَتَلَقَّى آدَمُ} هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ أَنَّ هَذَا التَّلَقِّيَ كَانَ قَبْلَ الْهُبُوطِ؛ لِأَنَّ بَعْدَهُ:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا كَانَ سَابِقًا لِلتَّلَقِّي، وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ صِيغَةُ تَرْتِيبٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ {فَأَزَلَّهُمَا} اسْتَزَلَّهُمَا، وَيَتَسَنَّهْ: يَتَغَيَّرُ. {آسِنٍ} الْمَسْنُونُ الْمُتَغَيِّرُ. {حَمَإٍ} جَمْعُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ: وَقَالَ غَيْرُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ بِحَذْفِ قَالَ فَكَأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَشْكَلُ. وَقَوْلُهُ: فَأَزَلَّهُمَا أَيْ دَعَاهُمَا إِلَى الزَّلَّةِ، وَإِيرَادُ قَوْلِهِ {يَتَسَنَّهْ} يَتَغَيَّرُ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ آدَمَ ذُكِرَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمَسْنُونِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا - بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ تَفْسِيرَ {يَتَسَنَّهْ} وَ {آسِنٍ} -: لَعَلَّهُ ذَكَرَهُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِقَوْلِهِ {مَسْنُونٍ} وَفِي هَذَا تَكْثِيرٌ لِحَجْمِ الْكِتَابِ لَا لِتَكْثِيرِ الْفَوَائِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الشَّارِحِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الْأَصْلِ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَا ارْتِيَابَ فِي أَنَّ إِيرَادَ شَرْحِ غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَوَائِدُ، وَادِّعَاؤُهُ نَفْيَ تكثير الْفَائِدَةِ مَرْدُودٌ، وَهَذَا الْكِتَابُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ مَوْضُوعِهِ إِيرَادَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ فَهِمُوا مِنْ إِيرَادِهِ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُهُ جَامِعًا لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الدِّرَايَةِ شَرْحُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ.

وَجَرَتْ عَادَتُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا وَرَدَتْ فِيهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ وَقَعَتْ أَوْ أَصْلُهَا أَوْ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَشْرَحَ اللَّفْظَةَ الْقُرْآنِيَّةَ، فَيُفِيدُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرَ الْحَدِيثِ مَعًا، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَحَادِيثَ تُوَافِقُ شَرْطَهُ سَدَّ مَكَانَهَا بِبَيَانِ تَفْسِيرِ الْغَرِيبِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ نَفْيُ الْفَائِدَةِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (يَخْصِفَانِ أَخَذَ الْخِصَافَ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{يَخْصِفَانِ} قَالَ: يُرَقِّعَانِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ خَصَفْتُ النَّعْلَ أَيْ خَرَزْتُهَا.

قَوْلُهُ: (سَوْآتِهِمَا كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} الْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَهُوَ هُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ إِلَى وَقْتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (قَبِيلُهُ جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَقَبِيلُهُ قَالَ: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا، أَفْرَدَ الْأَخِيرَ مِنْهَا بِبَابٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَذَا في وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ الرَّاوِي عَنْ مَعْمَرٍ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَأْتِي فِي أَوَّلِ الِاسْتِئْذَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْعِتْقِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِآدَمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي خَلَقَهُ عَلَيْهَا، لَمْ يَنْتَقِلْ فِي النَّشْأَةِ أَحْوَالًا، وَلَا تَرَدَّدَ فِي الْأَرْحَامِ أَطْوَارًا كَذُرِّيَّتِهِ، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ رَجُلًا كَامِلًا سَوِيًّا مِنْ أَوَّلِ مَا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَعَادَ الضَّمِيرُ أَيْضًا عَلَى آدَمَ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى صُورَتِهِ: أَيْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ، إِبْطَالًا لِقَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (سِتُّونَ ذِرَاعًا) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ الْمُتَعَارَفِ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ

ص: 366

الْمُخَاطَبِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ ذِرَاعَ كُلِّ أَحَدٍ بِقَدْرِ رُبُعِهِ فَلَوْ كَانَ بِالذِّرَاعِ الْمَعْهُودِ لَكَانَتْ يَدُهُ قَصِيرَةً فِي جَنْبِ طُولِ جَسَدِهِ

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الِاسْتِئْذَانِ.

قَوْلُهُ: (فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ) أَيْ عَلَى صِفَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ النَّقْصِ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِهِ تَنْتَفِي عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ هُنَا: وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَإِثْبَاتُ الْوَاوِ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ طُولُهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ طُولُهُ إِلَخْ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا، وَأَمَّا مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا: أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ كَانَتْ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، فَحَطَّهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِطَ الطُّولِ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ خُلِقَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ عَلَى طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طُوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سُحُوقٌ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ) أَيْ أَنَّ كُلَّ قَرْنٍ يَكُونُ نَشَأْتُهُ فِي الطُّولِ أَقْصَرَ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَانْتَهَى تَنَاقُصُ الطُّولِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ: فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ؛ أَيْ كَمَا يَزِيدُ الشَّخْصُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ السَّاعَتَيْنِ وَلَا الْيَوْمَيْنِ حَتَّى إِذَا كَثُرَتِ الْأَيَّامُ تَبَيَّنَ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي النَّقْصِ، وَيَشْكُلُ عَلَى هَذَا مَا يُوجَدُ الْآنَ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَدِيَارِ ثَمُودَ فَإِنَّ مَسَاكِنَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَامَاتِهِمْ لَمْ تَكُنْ مُفْرِطَةَ الطُّولِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْتِيبُ السَّابِقُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَهْدَهُمْ قَدِيمٌ، وَأَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آدَمَ دُونَ الزَّمَانِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي إِلَى الْآنَ مَا يُزِيلُ هَذَا الْإِشْكَالِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ: الْأَلَنْجُوجُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ النُّونِ بِجِيمَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالْوَاوُ سَاكِنَةٌ: هُوَ الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَلَفْظُ الْأَلَنْجُوجِ هُنَا تَفْسِيرُ الْأَلُوَّةِ، وَالْعُودُ تَفْسِيرُ التَّفْسِيرِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِ خَلْقِ لَا بِضَمِّهِ، وَقَوْلُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي سُؤَالِهَا عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ إِذَا احْتَلَمَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ فَبِمَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ سَبَبِ الشَّبَهِ، وَقَدْ عَلَّلَهُ هُنَا بِالسَّبْقِ، وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالْعُلُوِّ، وَسَأَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ) لَمْ يَسْبِقْ لِلْمَتْنِ الْمَذْكُورِ طَرِيقٌ يَعُودُ عَلَيْهَا هَذَا الضَّمِيرُ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ شَيْخُهُ هُوَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الَّذِي سَاقَهُ، فَكَأَنَّهُ كَتَبَ مِنْ حِفْظِهِ وَتَرَدَّدَ فِي بَعْضِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: نَحْوَهُ يَعْنِي وَلَمْ أَرَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ إِلَّا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَهُ فِي ذِكْرِ مُوسَى عليه السلام مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ الدَّهْرَ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ) يَخْنَزُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا بَعْدَهَا زَايٌ أَيْ يُنْتِنُ، وَالْخَنَزُ التَّغَيُّرُ وَالنَّتْنُ، قِيلَ: أَصْلُهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ادَّخَرُوا لَحْمَ السَّلْوَى وَكَانُوا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِذَلِكَ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَوْلَا أن بني إِسْرَائِيلَ سَنُّوا ادِّخَارَ اللَّحْمِ حَتَّى أَنْتَنَ لَمَا ادُّخِرَ فَلَمْ يُنْتِنْ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ

ص: 367

عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: فِي بَعْضِ الْكُتُبِ لَوْلَا أَنِّي كَتَبْتُ الْفَسَادَ عَلَى الطَّعَامِ لَخَزَنَهُ الْأَغْنِيَاءُ عَنِ الْفُقَرَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا حَوَّاءُ) أَيِ امْرَأَةُ آدَمَ وَهِيَ بِالْمَدِّ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ، وَسَيَأْتِي صِفَةُ خَلْقِهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَقَوْلُهُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ حَوَّاءَ فِي تَزْيِينِهَا لِآدَمَ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ حَتَّى وَقَعَ فِي ذَلِكَ، فَمَعْنَى خِيَانَتِهَا أَنَّهَا قَبِلَتْ مَا زَيَّنَ لَهَا إِبْلِيسُ حَتَّى زَيَّنَتْهُ لِآدَمَ، وَلَمَّا كَانَتْ هِيَ أُمَّ بَنَاتِ آدَمَ أَشْبَهْنَهَا بِالْوِلَادَةِ وَنَزَعَ الْعِرْقَ فَلَا تَكَادُ امْرَأَةٌ تَسْلَمُ مِنْ خِيَانَةِ زَوْجِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخِيَانَةِ هُنَا ارْتِكَابَ الْفَوَاحِشِ، حَاشَا وَكَلَّا، وَلَكِنْ لَمَّا مَالَتْ إِلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَحَسَّنَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عُدَّ ذَلِكَ خِيَانَةً لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ النِّسَاءِ فَخِيَانَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحَسَبِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا حَدِيثُ جَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ أُمِّهِنَّ الْكُبْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَبْعِهِنَّ فَلَا يُفْرَطُ فِي لَوْمِ مَنْ وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ، وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَّ بِهَذَا فِي الِاسْتِرْسَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ بَلْ يَضْبِطْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَيُجَاهِدْنَ هَوَاهُنَّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: (مُوسَى بْنُ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا زَايٌ خَفِيفَةٌ، وَهُوَ تِرْمِذِيٌّ نَزَلَ بَلْخَ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ زَاهِدًا عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَيْسَرَةَ) هُوَ ابْنُ عِمَارَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْكُوفِيُّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.

قَوْلُهُ: (اسْتَوْصُوا) قِيلَ مَعْنَاهُ تَوَاصَوْا بِهِنَّ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالِاسْتِفْعَالُ بِمَعْنَى الْإِفْعَالِ كَالِاسْتِجَابَةِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السِّينُ لِلطَّلَبِ، وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ أَيِ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي حَقِّهِنَّ، أَوِ اطْلُبُوا الْوَصِيَّةَ مِنْ غَيْرِكُمْ بِهِنَّ كَمَنْ يَعُودُ مَرِيضًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ آكَدُ لِضَعْفِهِنَّ وَاحْتِيَاجِهِنَّ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِنَّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ وَاعْمَلُوا بِهَا وَارْفُقُوا بِهِنَّ وَأَحْسِنُوا عِشْرَتَهُنَّ. قُلْتُ: وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَوْجُهِ فِي نَظَرِي، وَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا قَالَ الطِّيبِيُّ.

قَوْلُهُ: (خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا، قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ وَقِيلَ مِنْ ضِلَعِهِ الْقَصِيرِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَادَ الْيُسْرَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ لَحْمٌ، وَمَعْنَى خُلِقَتْ: أَيْ أُخْرِجَتْ كَمَا تَخْرُجُ النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ مَبْلَغِ ضِلَعٍ فَهِيَ كَالضِّلَعِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ) قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الْمَرْأَةِ لِسَانُهَا، وَفِي اسْتِعْمَالِ أَعْوَجَ اسْتِعْمَالٌ لِأَفْعَلَ فِي الْعُيُوبِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ فَلَا يُنْكَرُ اعْوِجَاجُهَا، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّقْوِيمَ كَمَا أَنَّ الضِّلَعَ لَا يَقْبَلُهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ) قِيلَ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلطَّلَاقِ أَيْ إِنْ أَرَدْتَ مِنْهَا أَنْ تَتْرُكَ اعْوِجَاجَهَا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى فِرَاقِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا.

وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الضِّلَعَ مُذَكَّرٌ خِلَافًا لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ فِي رِوَايَتِهِ لِلْمَرْأَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الضِّلَعَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّفْظَانِ صَحِيحَانِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا ذُرِّيَّتُهُ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ خَلْقِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ وَسَيَأْتِي أَيْضًا هُنَاكَ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ:

ص: 368

حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (يَرْفَعُهُ) هِيَ لَفْظَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي مَوْضِعِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا) يُقَالُ هُوَ أَبُو طَالِبٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْقِصَاصِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِيُلَمِّحَ بِقِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ حَيْثُ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَمْ يَصِحَّ عَلَى شَرْطِهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّتِهِمَا، وَفِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ كِفَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ.

وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ الْقَاتِلِ فَالْمَشْهُورُ قَابِيلُ بِوَزْنِ الْمَقْتُولِ لَكِنَّ أَوَّلَهُ هَاءٌ، وَقِيلَ اسْمُ الْمَقْتُولِ قَيْنُ بِلَفْظِ الْحَدَّادِ وَقِيلَ: قَايِنُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ.

وَذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَشَايِخِهِ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ سَبَبَ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّ آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ وَلَدِهِ بِأُنْثَى الْآخَرِ، وَأَنَّ أُخْتَ قَابِيلَ كَانَتْ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، فَأَرَادَ قَابِيلُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِأُخْتِهِ فَمَنَعَهُ آدَمُ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ أَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، فَقَرَّبَ قَابِيلُ حُزْمَةً مِنْ زَرْعٍ وَكَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً وَكَانَ صَاحِبَ مَوَاشٍ، فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ دُونَ قَابِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الشَّرِّ بَيْنَهُمَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

وَنَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ آدَمُ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ بِابْنَةٍ لَهُ وَإِنَّمَا زَوَّجَ قَابِيلَ جِنِّيَّةً وَزَوَّجَ هَابِيلَ حُورِيَّةً، فَغَضِبَ قَابِيلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَقَرِّبَا قُرْبَانًا. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ جَابِرٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بَنِي آدَمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ كُلِّهِمْ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحُورِ الْعِينِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَصْلٌ وَلَا شَاهِدٌ.

‌2 - بَاب الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ

3336 -

قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ) كَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَرْجَمَةِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ رُكِّبُوا مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ

قَوْلُهُ: (الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ إِلَخْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى التَّشَاكُلِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ الْخَيِّرَ مِنَ النَّاسِ يَحِنُّ إِلَى شَكْلِهِ، وَالشِّرِّيرَ نَظِيرُ ذَلِكَ يَمِيلُ إِلَى نَظِيرِهِ، فَتَعَارُفُ الْأَرْوَاحِ يَقَعُ بِحَسَبِ الطِّبَاعِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَإِذَا اتَّفَقَتْ تَعَارَفَتْ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ تَنَاكَرَتْ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ فِي حَالِ الْغَيْبِ عَلَى مَا جَاءَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَجْسَامِ، وَكَانَتْ تَلْتَقِي فَتَتَشَاءَمُ، فَلَمَّا حَلَّتْ بِالْأَجْسَامِ تَعَارَفَتْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَصَارَ تَعَارُفُهَا وَتَنَاكُرُهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْعَهْدِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ أَوَّلُ مَا خُلِقَتْ خُلِقَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ، وَمَعْنَى تَقَابُلِهَا أَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي فِيهَا الْأَرْوَاحُ إِذَا الْتَقَتْ فِي الدُّنْيَا ائْتَلَفَتْ أَوِ اخْتَلَفَتْ عَلَى حَسَبِ مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْوَاحُ فِي الدُّنْيَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِالتَّعَارُفِ. قُلْتُ: وَلَا يُعَكِّرُ

ص: 369

عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَنَافِرِينَ رُبَّمَا ائْتَلَفَا، لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَبْدَأ التَّلَاقِي، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. وَأَمَّا فِي ثَانِي الْحَالِ فَيَكُونُ مُكْتَسَبًا؛ لِتَجَدُّدِ وَصْفٍ يَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَعْدَ النُّفْرَةِ كَإِيمَانِ الْكَافِرِ وَإِحْسَانِ الْمُسِيءِ.

وَقَوْلُهُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ أَيْ أَجْنَاسٌ مُجَنَّسَةٌ أَوْ جُمُوعٌ مُجَمَّعَةٌ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ نُفْرَةً مِمَّنْ لَهُ فَضِيلَةٌ أَوْ صَلَاحٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ لِيَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنَ الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي عَكْسِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَرْوَاحُ وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي كَوْنِهَا أَرْوَاحًا لَكِنَّهَا تَتَمَايَزُ بِأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَنَوَّعُ بِهَا، فَتَتَشَاكَلُ أَشْخَاصُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَتَتَنَاسَبُ بِسَبَبِ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الْخَاصِّ لِذَلِكَ النَّوْعِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلِذَلِكَ نُشَاهِدُ أَشْخَاصَ كُلِّ نَوْعٍ تَأْلَفُ نَوْعَهَا وَتَنْفِرُ مِنْ مُخَالِفِهَا. ثُمَّ إِنَّا نَجِدُ بَعْضَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ يَتَآلَفُ وَبَعْضُهَا يَتَنَافَرُ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ وَالِانْفِرَادُ بِسَبَبِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) هُوَ الْمِصْرِيُّ (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا) يَعْنِي مِثْلَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِهِ، وَرُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، وَفِيهِ قِصَّةٌ فِي أَوَّلِهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ كَانَتِ امْرَأَةٌ مَزَّاحَةٌ بِمَكَّةَ، فَنَزَلَتْ عَلَى امْرَأَةٍ مِثْلِهَا فِي الْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: صَدَقَ حِبِّي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ زُنْبُورٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَيْضًا بِسَنَدِهِ الْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَعْنَاهَا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَبُو صَالِحٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا يُخَرِّجُ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الِاسْتِشْهَادِ، فَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ بِلَا إِسْنَادٍ، فَصَارَ أَقْوَى مِمَّا لَوْ سَاقَهُ بِإِسْنَادٍ اهـ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي كِتَابِهِ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ إِسْنَادًا آخَرَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاقَهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. قُلْتُ: وَلِلْمَتْنِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

‌3 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بَادِيَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا، {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي. {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ: جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ. دَأْبٌ: مِثْلُ حَالٌ.

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

3337 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ. وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.

3338 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

ص: 370

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنْ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ".

3339 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ".

[الحديث 3339 - طرفاه في: 4487، 7349]

3340 -

حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَةٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ بِمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمْ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي ائْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونِي فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ لَا أَحْفَظُ سَائِرَهُ".

[الحديث 3340 - طرفاه في: 3361، 4712]

3341 -

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ".

[الحديث 3341 - أطرافه في: 3345، 3376، 4869، 4870، 4871، 4872، 4873، 4874]

ص: 371

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ شَرْحِ الْكَلِمَاتِ اللَّاتِي مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَفْصِيِّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَلِلْبَاقِينَ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْأَخِيرِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَبْلَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ. وَنُوحٌ هُوَ ابْنُ لَمْكَ - بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا كَافٌ - ابْنُ مَتُّوشَلَخَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ - ابْنِ خَنُوخَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُعْجَمَةٌ - وَهُوَ إِدْرِيسُ فِيمَا يُقَالُ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مَوْلِدَ نُوحٍ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَأَنَّهُ بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ مُدَّةَ عُمُرِهِ أَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْغَرَقِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ? قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ? قَالَ عَشَرَةُ قُرُونٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بَادِيَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ أَيْ أَوَّلَ النَّظَرِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ.

قَوْلُهُ: {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي، {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ) وَصَلَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَجْهُ الْأَرْضِ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَفَارَ التَّنُّورُ} قَالَ وَجْهُ الْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَزَادَ: تَشَامَخَتِ الْجِبَالُ يَوْمَ الْغَرَقِ وَتَوَاضَعَ هُوَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَغْرَقْ وَأُرْسِيَتْ عَلَيْهِ سَفِينَةُ نُوحٍ.

قَوْلُهُ: (دَأْبٌ حَالٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْفِتَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَلَقَدْ أَنْذَرَه نُوحٌ قَوْمَهُ وَخَصَّ نُوحًا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}

الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَعْنَى كَذَلِكَ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي شَهَادَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِنُوحٍ بِالتَّبْلِيغِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ بَيَانُ السَّبَبِ فِي عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ الْأَصْنَامَ.

مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفْسِي نَفْسِي، ائْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونِي، فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَا أَحْفَظُ سَائِرَهُ.

الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الشَّفَاعَةِ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (دُعْوَةٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ

(1)

الْوَلِيمَةُ. وَقَوْلُهُ: (فَرُفِعَتْ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ) أَيْ ذِرَاعُ الشَّاةِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَنَهَسَ) بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ أَخَذَ مِنْهَا بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِظُهُورِ ذَلِكَ لَهُ يَوْمَئِذٍ، حَيْثُ تَكُونُ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الرِّقَاقِ مَعَ تَتِمَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا. فَأَمَّا كَوْنُهُ أَوَّلَ الرُّسُلِ فَقَدِ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَبِالضَّرُورَةِ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَنَّ أَوْلَادَهُ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ رَسُولٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِنُوحٍ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِمْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ فِي زَمَنِ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْأَرْضِ أَهْلٌ أَوْ لِأَنَّ رِسَالَةَ آدَمَ إِلَى بَنِيهِ كَانَتْ كَالتَّرْبِيَةِ لِلْأَوْلَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَسُولٌ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي عِدَّةِ بِلَادٍ، وَآدَمُ إِنَّمَا

(1)

في هامش طبعة بولاق: في بعض النسخ، وعبارة القسطلاني بفتح الدال أو كسرها

ص: 372

أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ فَقَطْ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِإِدْرِيسَ، وَلَا يَرِدُ لِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ جَدَّ نُوحٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّيَمُّمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِيَّةِ نَبِيِّنَا بِعُمُومِ الْبَعْثَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا فَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ: إِنَّ نُوحًا كَانَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي لَذَّتَهُ، وَأَبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ، وَأَذْهَبَ عَنِّي أَذَاهُ.

الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِرَاءَةِ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ اقْتَرَبَتْ.

‌4 - بَاب: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} - إلى - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ. {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} ، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} - إِلَى - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} سَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَجَحَ عِنْدَهُ كَوْنُ إِدْرِيسَ لَيْسَ مِنْ أَجْدَادِ نُوحٍ فَلِهَذَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

وَإِلْيَاسُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} فَقَرَأَهُ الْأَكْثَرُ بِصُورَةِ الِاسْمِ الْمَذْكُورِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ وَنُونٍ فِي آخِرِهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ آلِ يَاسِينَ بِفَصْلِ آلٍ مِنْ يَاسِينَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ سَلَامٌ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى إِلْيَاسَ الْمُبْدَأُ بِذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا زِيدَتْ فِيهِ الْيَاءُ وَالنُّونُ كَمَا قَالُوا فِي إِدْرِيسَ إِدْرَاسِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} يُذْكَرُ بِخَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ، قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ، وَيَعْقُوبُ هُوَ إِسْرَائِيلُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَوَصَلَهُ جُوَيْبِرٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَقَدْ أَخَذَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ هَذَا أَنَّ إِدْرِيسَ لَمْ يَكُنْ جَدًّا لِنُوحٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ إِلْيَاسَ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه السلام لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْدَادِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالِابْنِ الصَّالِحِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ جَيِّدٌ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالتَّلَطُّفِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ نَصًّا فِيمَا زَعَمَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لَمَّا سَاقَ النَّسَبَ الْكَرِيمَ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى نُوحٍ قَالَ: ابْنُ لَمْكِ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ النَّبِيُّ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَأْخُوذٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَكْثَرُ خَنُوخُ بِمُعْجَمَتَيْنِ بَعْدَ الْأُول نُونٌ بِوَزْنِ ثَمُودَ، وَقِيلَ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لَكِنْ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَقِيلَ كَذَلِكَ لَكِنْ بَدَلَ الْخَاءِ الْأُولَى هَاءٌ، وَقِيلَ: كَالثَّانِي لَكِنْ بَدَلَ الْمُعْجَمَةِ مُهْمَلَةٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظِ إِدْرِيسَ فَقِيلَ هُوَ عَرَبِيٌّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدِّرَاسَةِ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ دَرْسِهِ الصُّحُفَ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ سُرْيَانِيٌّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ كَانَ سُرْيَانِيًّا، وَلَكِنْ

ص: 373

لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنُ لَفْظِ إِدْرِيسَ عَرَبِيًّا إِذَا ثَبَتَ بِأَنَّ لَهُ اسْمَيْنِ.

‌5 - بَاب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عليه السلام،

وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ، وَيُقَالُ: جَدُّ نُوحٍ عليهما السلام. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}

3342 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ. ح

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: مَعِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَافْتَحْ، فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى.

ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ.

قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ إِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لِي كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ.

وَقَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ.

قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَيَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: مَا الَّذِي فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً،

ص: 374

قَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ، فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ، فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدْ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي.

ثُمَّ انْطَلَقَ، حَتَّى أَتَى السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ. ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ إِدْرِيسَ) سَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَفْصِيِّ وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَقِيلَ: جَدُّ نُوحٍ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنَ الثَّانِي مَا تَقَدَّمَ، وَلَعَلَّ الثَّانِيَ أَطْلَقَ ذَلِكَ مَجَازًا لِأَنَّ جَدَّ الْأَبِ جَدٌّ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ جَدٌّ لِنُوحٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِدْرِيسُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، لَا أَنَّ نُوحًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ:{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} - إِلَى أن قال - {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِلْيَاسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ - لِنُوحٍ أَوْ لِإِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ لَا مَحَالَةَ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ ابْنُ نُسَيِّ بْنِ فَنُحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ وَهْبٌ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّ إِلْيَاسَ عَمَّرَ كَمَا عَمَّرَ الْخَضِرُ، وَأَنَّهُ يَبْقَى إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلَا جَمِيعًا، وَأَنَّ طُولَهُ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْكُلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ الْبَلَوِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ خَبَرٌ بَاطِلٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ مَكَانٌ عَلِيٌّ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَرْفَعُ مَكَانًا مِنْهُ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى السَّمَاءِ م نْ هُوَ حَيٌّ غَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عِيسَى أَيْضًا قَدْ رُفِعَ وَهُوَ حَيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَوْنُ إِدْرِيسَ رُفِعَ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ مَرْفُوعَةٍ قَوِيَّةٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} أَنَّ إِدْرِيسَ سَأَلَ صَدِيقًا لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تُعْلِمَنِي كَمْ بَقِيَ مِنْ أَجَلِ إِدْرِيسَ، قَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ؟ قَالَ: هُوَ مَعِي، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، أُمِرْتُ بِأَنْ أَقْبِضَ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. فَقُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} . وَهَذه مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ إِدْرِيسَ رُفِعَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ لَهُ أَوَّلِيَّاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ عَبْدَانُ وَفِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَصَلَهُ أَيْضًا الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ عَبْدَانُ بِهِ.

ص: 375

‌6 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}

وَقَوْلِهِ: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ {عَاتِيَةٍ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} - مُتَتَابِعَةً - {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} - أُصُولُهَا - {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} بَقِيَّةٍ.

3343 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ.

3344 -

قَالَ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: "بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ الْمُجَاشِعِيِّ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ قَالُوا يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَلَا تَأْمَنُونِي فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَاقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".

[الحديث 3344 - أطرافه في: 3610، 4351، 4667، 5058، 6163، 6931، 6933، 7432، 5762]

3345 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} هُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ جَاوَرَ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَسَمَّاهُ أَخًا لَهُمْ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ لَا مِنْ جِهَةِ أُخُوَّةِ الدِّينِ، هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي نَسَبِهِ. وَأَمَّا ابْنُ هِشَامٍ فَقَالَ اسْمُهُ عَابِرُ بْنُ أَرْفَخْشَد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.

قَوْلُهُ: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} الْأَحْقَافُ جَمْعُ حِقْفٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمُعْوَجُّ مِنَ الرَّمْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَسَاكِنُ عَادٍ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ

ص: 376

حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْزِلُونَ الرَّمْلَ بِأَرْضِ الشَّحْرِ وَمَا وَالَاهَا، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبِيلَةً يُنْزِلُونَ الرَّمْلَ بِالدَّوِّ وَالدَّهْنَاءِ وَعَالِجَ وَوِبَارَ وَعَمَّانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ أَخْصَبَ الْبِلَادِ وَأَكْثَرَهَا جِنَانًا، فَلَمَّا سَخِطَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ جَعَلَهَا مَفَاوِزَ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ عَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى، أَمَّا رِوَايَةُ عَطَاءٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ ذِكْرِ الرِّيحِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَأَوَّلُهُ كَانَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَفِي آخِرِهِ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الْآيَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ ابْنُ يَسَارٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وقَوْلُ اللَّهِ عز وجل {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} - شَدِيدَةٍ - {عَاتِيَةٍ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ) أَمَّا تَفْسِيرُ الصَّرْصَرِ بِالشَّدِيدَةِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَرُوِّينَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ: عَاتِيَةٍ قَالَ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ، وَمَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَّا مِقْدَارُ الْخَاتَمِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ مِنْ مُجَاهِدٍ، وَجَاءَ نَحْوُهَا عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِوَزْنٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ. إِلَّا يَوْمَ عَادٍ فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فَعَبَّتْ عَلَى الْخَزَّانِ وَمِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَوْلُهُ: (حُسُومًا مُتَتَابِعَةً) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أَيْ أَدَامَهَا {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} وَلَاءً مُتَتَابِعَةً، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنَ الْحَسْمِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ.

قَوْلُهُ: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} - أُصُولُهَا - {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} : بَقِيَّةٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ: قَوْلُهُ: خَاوِيَةٍ أَيْ أُصُولُهَا، وَهِيَ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَنَّثَ النَّخْلَ. وَشَبَّهَهُمْ بِأَعْجَازِ النَّخْلِ إِشَارَةً إِلَى عِظَمِ أَجْسَامِهِمْ، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ رَأْسُ أَحَدِهِمْ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَقِيلَ: كَانَ طُولُهُ اثْنَيْ عَشْرَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: كَانَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ، وَرَوَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ طُولُ أَقْصَرِهِمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَأَطْوَلُهُمْ مِائَةً وَالْكَلْبِيُّ بِأَلْفٍ.

وَفِي قَوْلِهِ: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أَيْ مِنْ بَقِيَّةٍ، وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَحْمِلُ الرَّجُلَ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ تُلْقِيهِ فَتَشْدَخُ رَأْسَهُ، فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وَأَعْجَازُ نخْلٍ هِيَ الَّتِي لَا رُءُوسَ لَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ وَوَرَدَ فِي صِفَةِ إِهْلَاكِهِمْ بِالرِّيحِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَاهُ: مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مَوْضِعَ الْخَاتَمِ، فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرَآهُمُ الْحَاضِرَةُ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرنَا، فَأَلْقَتْهُمْ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا جَمِيعًا.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَأَوْرَدَهُ. فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ قَائِلًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ فَوَصَلَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَوَّلهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ أَيْ: قَتْلًا لَا يُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا؛ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَقْتُلُهُمْ بِالْآلَةِ الَّتِي قُتِلَتْ بِهَا عَادٌ بِعَيْنِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَيُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى قَتْلُ ثَمُودَ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ

ص: 377

صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(*)

‌17 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا وقوله: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ.

الْحِجْرُ: مَوْضِعُ ثَمُودَ، وَأَمَّا حَرْثٌ حِجْرٌ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حِجْرٌ، ومنه: حجر مَحْجُورٌ وَالْحِجْرُ: كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ، وَمَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ: فَهُوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ، مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ: حِجْرُ، وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ: حِجْرٌ وَحِجًى، وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ: فَهُوَ الْمَنْزِل.

3377 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ - قَالَ: انْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنَعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ.

[الحديث 3377 - أطرافه في: 4942، 5204، 6042]

3378 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا فَقَالُوا قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِي الشُّمُوسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ".

[الحديث 3378 - طرفه في: 3379]

3379 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَاعْتَجَنُوا بِهِ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ الْعَجِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ". تَابَعَهُ أُسَامَةُ عَنْ نَافِعٍ.

3380 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهم "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ

(*) تنبيه: قدم الحافظ ابن حجر الباب التالي (وهو الباب 17 من كتاب الأنبياء) فوضعه هنا (قبل الباب السابع) ليكون الكلام على نبي الله صالح عليه السلام وقومه من ثمود بعد الكلام على نبي الله شعيب وقومه من عاد، فاقتضى ذلك أن تكون الأحاديث المرقمة في صحيح البخاري من رقم 3377 إلى 3381 متقدمة عن ترتيبها المتسلسل. فنحن في ترتيب طبع الشرح راعينا ترتيب الشارح، وفي ترتيب ترقيم أحاديث صحيح البخاري راعينا ترتيب هذه الأحاديث في النسخ المتداولة من صحيح البخاري.

ص: 378

يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ".

3381 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللِّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} - وَقَوْلُهُ - {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} هُوَ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسِيفِ بْنِ مَاشَخِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاجِرِ بْنِ ثَمُودَ بْنِ عَامرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْحِجْرِ، وَهُوَ بَيْنَ تَبُوكَ وَالْحِجَازِ.

قَوْلُهُ: (الْحِجْرُ مَوْضِعُ ثَمُودَ، وَأَمَّا حَرْثٌ حِجْرٌ: حَرَامٌ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أَيْ حَرَامٌ.

قَوْلُهُ: (وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ حِجْرًا مَحْجُورًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا.

قَوْلُهُ: (وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ، وَمَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنَ الْحَرَامِ سُمِّيَ حِجْرُ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ حُطَامًا لِأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْبَيْتِ وَتُرِكَ هُوَ مَحْطُومًا، وَقِيلَ: الْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، سُمِّيَ حَطِيمًا لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ) أَيِ الْحَطِيمَ (مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ) وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ حَطِيمًا لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطْرَحُ فِيهِ ثِيَابَهَا الَّتِي تَطُوفُ فِيهَا وَتَتْرُكُهَا حَتَّى تَتَحَطَّمَ وَتَفْسُدَ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِيمَا بَعْدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَعَلَى هَذَا هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَ حَطِيمًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَعْبَةِ، فَأُخْرِجَ عَنْهَا؛ وَكَأَنَّهُ كُسِرَ مِنْهَا. فَيَصِحُّ لَهُمْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَقَوْلُهُ: مُشْتَقٌّ لَيْسَ هُوَ مَحْمُولًا عَلَى الِاشْتِقَاقِ الَّذِي حَدَثَ اصْطِلَاحُهُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنَ الْخَيْلِ حِجْرٌ، وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ وَحِجَى) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِذِي حِجْرٍ} أَيْ عَقْلٍ، قَالَ: وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنَ الْخَيْلِ: حِجْرٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا حِجْرُ الْيَمَامَةِ فَهُوَ الْمَنْزِلُ) ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا، وَإِلَّا فَهَذَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هِيَ قَصَبَةُ الْيَمَامَةِ الْبَلَدُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي ذِكْرِ عَاقِرِ النَّاقَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنَعَةٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (فِي قَوْمِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ فِي قُوَّةٍ.

قَوْلُهُ: (كَأَبِي زَمْعَةَ) هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ حَيْثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا.

وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ، وَقَدْ فَرَّقَهَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. وَعَاقِرُ النَّاقَةِ اسْمُهُ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ، قِيلَ: كَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ أَصْهَبَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ سَبَبَ عَقْرِهِمُ النَّاقَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا اقْتَرَحُوهَا عَلَى صَالِحٍ عليه السلام، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَعَنَّتُوا فِي وَصْفِهَا، فَأَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ نَاقَةً مِنْ صَخْرَةٍ بِالصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ، فَآمَنَ بَعْضٌ وَكَفَرَ بَعْضٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا النَّاقَةَ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتْ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ كُلِّهِ، وَكَانُوا يَرْفَعُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِلْغَدِ، ثُمَّ ضَاقَ بِهِمُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ فَانْتَدَبَ تِسْعَةَ رَهْطٍ - مِنْهُمْ قِدَارُ الْمَذْكُورُ فَبَاشَرَ عَقْرَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ صَالِحًا عليه السلام أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ سَيَقَعُ بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَوَقَعَ كَذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي كِتَابِهِ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: أنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ تَرِدُ يَوْمَهَا فَتَشْرَبُ

ص: 379

جَمِيعَ الْمَاءِ وَيَحْتَلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانَتْ تَشْرَبُ. وَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعْفٌ وَهَذَا مِنْهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي بِئْرِ ثَمُودَ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ) بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ عَقِبَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِيَارِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ.

قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، وَأَبِي الشُّمُوسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ) أَمَّا حَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فَوَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ سَبْرَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - الْجُهَنِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ حِينَ رَاحَ مِنَ الْحِجْرِ: مَنْ كَانَ عَجَنَ مِنْكُمْ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَجِينَهُ أَوْ حَاسَ بِهِ حَيْسًا فَلْيُلْقِهِ. وَلَيْسَ لِسَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ أَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ كَالَّذِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الشُّمُوسِ - وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ بَكْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ - فَوَصَلَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ مُطَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ - فَأَلْقَى ذُو الْعَجِينِ عَجِينَهُ وَذُو الْحَيْسِ حَيْسَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ حَسَيْتُ حَيْسَةً، أَفَأُلْقِمُهَا رَاحِلَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ) وَصَلَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَأَتَوْا عَلَى وَادٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ بِوَادٍ مَلْعُونٍ فَأَسْرِعُوا، وَقَالَ: مَنِ اعْتَجَنَ عَجِينَهُ أَوْ طَبَخَ قِدْرًا فَلْيَكُبَّهَا. الْحَدِيثَ. وَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ نَافِعٍ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ زِيَادَةً عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمَاضِيَةِ. وَسُئِلَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ: مِنْ أَيْنَ عُلِمَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ؟ فَقَالَ: بِالتَّوَاتُرِ، إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَهَا بِالْوَحْيِ، وَيُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَنْ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِيَارِ ثَمُودَ، وَيَلْتَحِقُ بِهَا نَظَائِرُهَا مِنَ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي كَانَتْ لِمَنْ هَلَكَ بِتَعْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْكَرَاهَةِ الْمَذْكُورَةِ هَلْ هِيَ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ؟ وَعَلَى التَّحْرِيمِ هَلْ يَمْتَنِعُ صِحَّةُ التَّطَهُّرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ مِنْ أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أُسَامَةُ) يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ اللَّيْثِيَّ (عَنْ نَافِعٍ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رُوِينَا هَذِهِ الطَّرِيقَ مَوْصُولَةً فِي حَدِيثِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَفِي آخِرِهِ: وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى بِئْرِ نَاقَةِ صَالِحٍ وَيَسْتَقُوا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَسَاكِنَ ثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ كَصِفَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ وَرَدَ فِيهِمْ. قَوْلُهُ في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (حَدَّثَنَا وَهْبٌ) هُوَ ابْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، لَكِنْ زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْيَاءَ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ فِي الْأَصْلِ فَاسْتُثْقِلَتِ الْكَسْرَةُ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) أَيْ كَرَاهِيَةَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَتَبَاكَوْا خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ

ص: 380

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَهُوَ أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ هُوَ الْجَدُّ الْأَعْلَى لِثَقِيفٍ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ هَذَا الْبَابُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ بِعِدَّةِ أَبْوَابٍ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا حَكَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ أَنَّ نُسْخَةَ الْأَصْلِ مِنَ الْبُخَارِيِّ كَانَتْ وَرَقًا غَيْرَ مَحْبُوكٍ، فَرُبَّمَا وُجِدَتِ الْوَرَقَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَنُسِخَتْ عَلَى مَا وُجِدَتْ، فَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّرَاجِمِ إِشْكَالٌ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمُودَ كَانُوا بَعْدَ عَادٍ كَمَا كَانَ عَادٌ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ.

‌7 - بَاب قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} وقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {سَبَبًا} سببا: طريقا - إِلَى قَوْلِهِ - {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَاحِدُهَا زُبْرَةٌ: وَهِيَ الْقِطَعُ، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يُقَالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجَبَلَيْنِ، وَالسُّدَّيْنِ: الْجَبَلَيْنِ. {خَرْجًا} أَجْرًا، {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَصْبُبْ عَلَيْهِ رَصَاصًا، وَيُقَالُ: الْحَدِيدُ، وَيُقَالُ: الصُّفْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّحَاسُ. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يَعْلُوهُ، اسْطَاعَ: اسْتَفْعَلَ، مِنْ طُعْتُ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ فُتِحَ: أَسْطَاعَ يَسْطِيعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ. {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أَلْزَقَهُ بِالْأَرْضِ، وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ: لَا سَنَامَ لَهَا، وَالدَّكْدَاكُ مِنْ الْأَرْضِ: مِثْلُهُ حَتَّى صَلُبَ وَتَلَبَّدَ. {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: حَدَبٌ: أَكَمَةٌ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ؟ قَالَ: قد رَأَيْتَهُ.

3346 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنهن أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - فقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ.

[الحديث 3346 - أطرافه في: 3598، 7059، 7135]

ص: 381

3347 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَتَحَ اللَّهُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذَا وَعَقَدَ بِيَدِهِ تِسْعِينَ".

[الحديث 3347 - طرفه في: 7136]

3348 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ".

[الحديث 3348 - أطرافه في: 4741، 6530، 7483]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {سَبَبًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَفِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ تَرْجَمَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ إِشَارَةٌ إِلَى تَوْهِينِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ الْيُونَانِيُّ، لِأَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ عِيسَى عليه السلام، وَبَيْنَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الْمُتَأَخِّرَ لُقِّبَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْمُتَقَدِّمِ لِسَعَةِ مُلْكِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى الْبِلَادِ الْكَثِيرَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ وَقَتَلَ مَلِكَهُمِ انْتَظَمَ لَهُ مُلْكُ الْمَمْلَكَتَيْنِ الْوَاسِعَتَيْنِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ فَلُقِّبَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِذَلِكَ، وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي قَصَّ اللَّهُ نَبَأَهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْتُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مَا رَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا فَسَمِعَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَتَلَقَّاهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَسَلَّمَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَصَافَحَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَافَحَ. وَمِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ أَفْسَدْتُمْ بِئْرِي؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِي، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ تَحَاكَمَ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي شَيْءٍ فَحَكَمَ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَجَدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَبْنِيَانِ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَفْهَمَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا: نَحْنُ عَبْدَانِ مَأْمُورَانِ، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا؟ فَقَامَتْ خَمْسَةُ أَكْبُشٍ فَشَهِدَتْ، فَقَالَ: قَدْ صَدَقْتُمْ. قَالَ: وَأَظُنُّ الْأَكْبُشَ الْمَذْكُورَةَ حِجَارَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَنَمًا. فَهَذِهِ الْآثَارُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَيَدُلُّ عَلَى قِدَمِ عَهْدِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.

ثَانِيَ الْأَوْجُهِ: قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا. وَكَانَ الْإِسْكَنْدَرُ كَافِرًا، وَكَانَ مُعَلِّمُهُ أَرَسْطَاطَالِيسَ، وَكَانَ يَأْتَمِرُ

ص: 382

بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا شَكٍّ، وَسَأَذْكُرُ مَا جَاءَ فِي أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا.

ثَالِثُهَا: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ كَمَا سَنَذْكُرُ بَعْدُ، وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرُ فَهُوَ مِنَ الْيُونَانِ، وَالْعَرَبُ كُلُّهَا مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ هَلْ هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ أَوْ لَا؟ وَالْيُونَانُ مِنْ وَلَدِ يَافِثِ بْنِ نُوحٍ عَلَى الرَّاجِحِ فَافْتَرَقَا. وَشُبْهَةُ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعٍ الْجِيزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: كَانَ مِنَ الرُّومِ فَأُعْطِيَ مُلْكًا فَصَارَ إِلَى مِصْرَ وَبَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ مَلَكٌ فَعَرَجَ بِهِ فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَحْتَكَ، قَالَ: أَرَى مَدِينَةً وَاحِدَةً، قَالَ: تِلْكَ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيَكَ وَقَدْ جَعَلَ لَكَ فِي الْأَرْضِ سُلْطَانًا، فَسِرْ فِيهَا وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ وَثَبِّتِ الْعَالِمَ.

وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَرَفَعَ النِّزَاعَ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَوْ لَا. وَذَكَرَ وَهْبٌ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أُمَمٍ: أُمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ، وَأُمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ، وَهِيَ: نَاسِكُ وَمَنْسَكُ وَتَأْوِيلُ وَهَاوِيلُ، فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً حَكَاهَا الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النَّسَبِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ سَمِعْتُ ابْنَ الْكَوَّا يَقُولُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَخْبِرْنِي مَا كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ؟ قَالَ: كَانَ رَجُلًا أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ ضَرْبَةً مَاتَ مِنْهَا، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ ضَرْبَةً مَاتَ مِنْهَا، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ، فَسُمِّيَ ذو الْقَرْنَيْنِ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ تُوبِعَ عَلَى أَبِي الطُّفَيْلِ، أَخْرَجَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَنَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ. وَفِيهِ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلَكًا.

وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، سَمِعْنَاهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ لِلْحَافِظِ الضِّيَاءِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ولَمْ يَكُنْ نَبِيًّا مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ: بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْبَعْثُ عَلَى غَيْرِ رِسَالَةِ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: تُسَمِّيهِ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَحَكَى الْجَاحِظُ فِي الْحَيَوَانِ أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: وَاسْمُ أَبِيهِ فَيْرَى، وَاسْمُ أُمِّهِ غَيْرَى، وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْمُلُوكِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَا يُومِئُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى فِي الْكَلَامِ عَلَى أَخْبَارِ الْخَضِرِ.

وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسِيدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقَرْنَ الشَّمْسِ مِنْ مَطْلَعِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَهُمَا وَقِيلَ: رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ أَخَذَ بِقَرْنَيِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ حَقِيقَةً، وَهَذَا أَنْكَرَهُ عَلِيٌّ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ تُوَارِيهُمَا ثِيَابُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ طَوِيلَتَانِ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى كَانَ يَطَأُ عَلَيْهِمَا، وَتَسْمِيَةُ الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ قَرْنًا مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ عَطِيَّةَ وَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:

فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا

وَقِيلَ: كَانَتْ صَفْحَتَا رَأْسِهِ مِنْ نُحَاسٍ، وَقِيلَ لِتَاجِهِ قَرْنَانِ، وَقِيلَ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَمَّرَ حَتَّى فَنِيَ فِي زَمَنِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَقَدْ بَلَغَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ أُمُّهُ وَأَبُوهُ مِنْ بَيْتِ شَرَفٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَاتَلَ قَاتَلَ بِيَدَيْهِ وَرِكَابَيْهِ جَمِيعًا،

ص: 383

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أُعْطِيَ عِلْمَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ فِي كِتَابِ النَّسَبِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذُو الْقَرْنَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِضَعْفِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشَيْخِهِ، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: كَانَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِبْرَاهِيمَ أَرْبَعُونَ أَبًا أَوْ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ الصَّعْبُ وَبِهِ جَزَمَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ حَبِيبٍ فِي كِتَابِ الْمُحَبَّرِ هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي الْقَيْسِ أَحَدُ مُلُوكِ الْحِيرَةِ، وَأُمُّهُ مَاءُ السَّمَاءِ مَاوِيَّةُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ جُشَمَ، قَالَ وَقِيلَ: اسْمُهُ الصَّعْبُ بْنُ قَرْنِ بْنِ هُمَّالٍ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هُوَ إِسْكَنْدَرُوسُ بْنُ فِيلْبُوسَ وَقِيلَ فِيلِبْسُ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمَسْعُودِيُّ، وَقِيلَ: اسْمُهُ الْهَمَيْسَعُ ذَكَرَهُ الْهَمْدَانِيُّ فِي كُتُبِ النَّسَبِ قَالَ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو الصَّعْبِ وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَرِينِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْدِ، وَقِيلَ: بِإِسْقَاطِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنْهُ أَنَّ اسْمَ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مَرْزُبَانُ بْنُ مُرْدَيْهِ، بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَقِيلَ: بِزَايٍ فَقَدْ صُرِّحَ بِأَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ، وَلِذَلِكَ اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ

لِشُهْرَةِ السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمَا اثْنَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ فِي بِئْرِ السَّبُعِ بِالشَّامِ فَقَضَى لِإِبْرَاهِيمَ وَالْآخَرُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ عَهْدِ عِيسَى. قُلْتُ: لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْخَضِرِ حَيْثُ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى قَرِيبًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى، وَمُوسَى كَانَ قَبْلَ زَمَنِ عِيسَى قَطْعًا، وَتَأْتِي بَقِيَّةُ أَخْبَارِ الْخَضِرِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذَا عَلَى طَرِيقة مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ اسْمُهُ هَرْمَسُ، وَيُقَالُ هِرْدِيسُ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ تَبَعًا لِلسُّهَيْلِيِّ أَنَّهُ قِيلَ إِنَّهُ أَفْرِيدُونُ، وَهُوَ الْمَلِكُ الْقَدِيمُ لِلْفُرْسِ الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ الْجَبَّارَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:

فَكَأَنَّهُ الضَّحَّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ

بِالْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُ

وَلِلضَّحَّاكِ قِصَصٌ طَوِيلَةٌ ذَكَرَهَا الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ كَثْرَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي أَشْعَارِهِمْ، قَالَ أَعْشَى بْنُ ثَعْلَبَةَ:

وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَمْسَى ثَاوِيًا

بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ هُنَاكَ مُقِيمُ

وَالْحِنْوُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ فِي نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضُبَيْعٍ:

وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَمَّرَ مُلْكَهُ

أَلْفَيْنِ أَمْسَى بَعْدَ ذَاكَ رَمِيمًا

وَقَالَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ:

وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا

بِاللَّحْدِ بَيْنَ مَلَاعِبِ الْأَرْيَاحِ

وَقَالَ تُبَّعُ الْحِمْيَرِيُّ:

قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِيَ مُسْلِمًا

مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَحْشُدُ

ص: 384

مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ عَمَّتِي

مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الْهُدْهُدُ

وَقَالَ بَعْضُ الْحَارِثِيِّينَ يَفْتَخِرُ بِكَوْنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ يُخَاطِبُ قَوْمًا مِنْ مُضَرَ:

سَمُّوا لَنَا وَاحِدًا مِنْكُمْ فَنَعْرِفُهُ

فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِاسْمِ الْمُلْكِ مُحْتَمِلًا

كَالتُّبَّعَيْنِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ يَقْبَلُهُ

أَهْلُ الْحِجَى وَأَحَقُّ الْقَوْلِ مَا قُبِلَا

وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ:

انْتَهَى.

وَيُؤْخَذُ مِنْ أَكْثَرِ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الرَّاجِحَ فِي اسْمِهِ الصَّعْبُ، وَوَقَعَ ذِكْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَيْضًا فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ، وَطَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ عليه السلام وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَنُمْرُودُ، وَبُخْتَنَصَّرُ. وَرَوَاهُ وَكِيعٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ فَسَمَّاهُمْ.

قَوْلُهُ: {سَبَبًا} طَرِيقًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ بَلَغَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ؟ قَالَ: سُخِّرَ لَهُ السَّحَابُ، وَبُسِطَ لَهُ النُّورُ، وَبَدَتْ لَهُ الْأَسْبَابُ.

قَوْلُهُ: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَاحِدُهَا زُبْرَةٌ وَهِيَ الْقِطَعُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} أَيْ قِطَعَ الْحَدِيدِ وَاحِدُهَا زُبْرَةٌ.

قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يُقَالُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَبَلَيْنِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قَالَ: بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ مَا بَيْنَ النَّاحِيَتَيْنِ مِنَ الْجَبَلَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَالسَّدَّيْنِ: الْجَبَلَيْنِ) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَنَّهُ سَارَ حَتَّى بَلَغَ مَطْلَعَ الشَّمْسِ، ثُمَّ أَتَى السَّدَّيْنِ وَهُمَا جَبَلَانِ لَيِّنَانِ يَزْلَقُ عَنْهُمَا كُلُّ شَيْءٍ فَبَنَى السَّدَّيْنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَالسَّدَّيْنِ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ بِمَعْنًى قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَا كَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ فَبِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ الْآدَمِيِّ فَبِالْفَتْحِ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مَا رَأَيْتَهُ وَبِالضَّمِّ مَا تَوَارَى عَنْكَ.

قَوْلُهُ: {خَرْجًا} أَجْرًا) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{خَرْجًا} قَالَ أَجْرًا عَظِيمًا.

قَوْلُهُ: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَصُبُّ عَلَيْهِ رَصَاصًا، وَيُقَالُ الْحَدِيدُ، وَيُقَالُ الصُّفْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّحَاسُ) أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَحَكَاهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَيْ أَصُبُّ عَلَيْهِ حَدِيدًا ذَائِبًا، وَجَعَلَهُ قَوْمٌ الرَّصَاصَ انْتَهَى. وَالرَّصَاصُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ:{أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قَالَ صُفْرًا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قَالَ: النُّحَاسُ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، وَبَنَاء لَهُمْ بِالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: شَرَّفَهُ بِزُبُرِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ وَجَعَلَ لَهُ عِرْقًا مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ صُفْرَ النُّحَاسِ وَحُمْرَتِهِ وَسَوَادِ الْحَدِيدِ.

قَوْلُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يَعْلُوهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أَيْ أَنْ يَعْلُوهُ، تَقُولُ ظَهَرْتُ فَوْقَ الْجَبَلِ أَيْ عَلَوْتُهُ.

قَوْلُهُ: (اسْطَاعَ اسْتَفْعَلَ مِنْ طُعْتُ لَهُ فَلِذَلِكَ فَتَحَ أَسْطَاعَ يُسْطِيعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمِ اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ) يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ

ص: 385

مِنْ أَسْطَاعَ وَضَمِّ الْيَاءِ مِنْ يَسْطِيعُ.

قَوْلُهُ: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أَلْزَقَهُ بِالْأَرْضِ، وَيُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءُ لَا سَنَامَ لَهَا وَالدِّكْدَاكُ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ حَتَّى صَلُبَ وَتَلَبَّدَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أَيْ تَرَكَهُ مَدْكُوكًا أَيْ أَلْزَقَهُ بِالْأَرْضِ، وَيُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءَ أَيْ لَا سَنَامَ لَهَا مُسْتَوِيَةُ الظَّهْرِ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِمَصْدَرِهِمَا فَمِنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ (حَدَبٌ) أَكَمَةٌ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قَالَ مِنْ كُلِّ أَكَمَةٍ. وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ قَبِيلَتَانِ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: يَأْجُوجُ أُمَّةٌ وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ لَا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ صُلْبِهِ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلَاحَ، لَا يَمُرُّونَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا خَرَجُوا إِلَّا أَكَلُوهُ، وَيَأْكُلُونَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ أَشَارَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى حِكَايَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ نَامَ فَاحْتَلَمَ فَاخْتَلَطَ مَنِيُّهُ بِتُرَابٍ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ وَلَدٌ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ نَسْلِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ جِدًّا لَا أَصْلَ لَهُ إِلَّا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ أَنَّ أُمَّةً مِنْهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ فَتَرَكَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَنَى السَّدَّ بِأَرْمِينِيَّةَ فَسُمُّوا التُّرْكَ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتَ السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ طَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ وَطَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ. قَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً مُنْكَرَةً وَهِيَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَرَجُلٌ رَأَى السَّدَّ فَسَاقَهُ مُطَوَّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ مَوْصُولَةً

أَحَدُهَا: حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي ذِكْرِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ بِاخْتِصَارٍ وَيَأْتِي هُنَاكَ أَيْضًا.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي بَعْثِ النَّارِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى كَثْرَتِهِمْ وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ نَحْوُ عُشْرِ عُشْرِ الْعُشْرِ وَأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ.

‌8 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}

وَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ

3349 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ،

ص: 386

فَأَقُولُ: كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْحَكِيمُ} .

[الحديث 3349 - أطرافه في: 3447، 4625، 4626، 4740، 6525، 6526]

3350 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ".

[الحديث 2350 - طرفاه في: 4768، 4769]

3351 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَوَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ فَقَالَ: أَمَا لَهُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ".

3352 -

حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام فقال: قاتلهم الله والله إن استقسما بالأزلام قط".

3353 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قِيلَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ. فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا".

قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ "عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

[الحديث 3353 - أطرافه في: 3374، 3383، 3490، 4689]

3354 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم".

ص: 387

3355 -

حَدَّثَنا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّالَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ أَوْ ك ف ر قَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي".

3356 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُّومِ". تابعه عبد الرحمن عن أبي سلمة.

[الحديث 3356 - طرفه في: 6298]

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ تَابَعَهُ عَجْلَانُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.

3357 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ الرُّعَيْنِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلَاث كذبات".

3358 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلاَّ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. وَقَالَ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ اللَّهَ فَأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوْ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ".

ص: 388

3359 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوْ ابْنُ سَلَامٍ عَنْهُ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام

3360 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ: بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَإِبْرَاهِيمُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ، وَالْخَلِيلُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَهُوَ مِنَ الْخُلَّةِ بِالضَّمِّ وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ الْقَلْبَ فَصَارَتْ خِلَالَهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَقِيلَ: الْخُلَّةُ أَصْلُهَا الِاسْتِصْفَاءُ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوَالِي وَيُعَادِي فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَخُلَّةُ اللَّهِ لَهُ نَصْرُهُ وَجَعْلُهُ إِمَامًا، وَقِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى رَبِّهِ وَقَصْرِهِ حَاجَتَهُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ النَّحْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ آزَرَ - وَاسْمُهُ تَارَحُ بِمُثَنَّاةٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ - ابْنُ نَاحُورَ - بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ - ابْنِ شَارُوخَ - بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ - ابْنِ رَاغُوءَ - بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ - ابْنِ فَالَخَ - بِفَاءٍ وَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ - ابْنِ عَبِيرَ - وَيُقَالُ عَابِرَ، وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ - ابْنِ شَالِخَ - بِمُعْجَمَتَيْنِ - ابْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. لَا يَخْتَلِفُ جُمْهُورُ أَهْلِ النَّسَبِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا فِي النُّطْقِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. نَعَمْ سَاقَ ابْنُ حِبَّانَ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ شَاذٌّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ) يَعْنِي الْأَوَّاهُ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ وَكِيعٌ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: الْأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ الرَّحِيمُ، وَلَمْ يَقُلْ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَوَّاهُ؟ قَالَ: الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ فِي الدُّعَاءِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ الْمُوقِنُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ الْحَفِيظُ، الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ سِرًّا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ سِرًّا. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَوَّاهُ الْمُنِيبُ: الْفَقِيهُ الْمُوَفَّقُ. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْأَوَّاهُ الْمُسيحُ. وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي قَوْلِهِ {أَوَّاهٌ} قَالَ: كَانَ إِذَا ذَكَرَ النَّارَ قَالَ أَوَّاهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: أَوَّهْ أَوَّهْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَأَوَّاهٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ رَجُلًا مُبْهَمًا، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ فَعَّالٌ مِنَ التَّأَوُّهِ وَمَعْنَاهُ مُتَضَرِّعٌ شَفَقًا وَلُزُومًا لِطَاعَةِ رَبِّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ عِشْرِينَ حَدِيثًا:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِفَةِ الْحَشْرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى

ص: 389

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُؤْتَى بِكُرْسِيٍّ فَيُطْرَحُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَيُؤْتَى بِي فَأُكْسَى حُلَّةً لَا يَقُومُ لَهَا الْبَشَرُ، وَيُقَالُ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي خُصُوصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أُلْقِيَ فِي النَّارِ عُرْيَانًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُصُوصِيَّتِهِ عليه السلام بِذَلِكَ تَفْضِيلُهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْمَفْضُولَ قَدْ يَمْتَازُ بِشَيْءٍ يُخَصُّ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَضِيلَةُ الْمُطْلَقَةُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَدْخُلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدا لِهَذَا فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ.

وَقَدْ ثَبَتَ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَوَّلِيَّاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ: مِنْهَا أَوَّلُ مَنْ ضَافَ الضَّيْفَ، وَقَصَّ الشَّارِبَ وَاخْتَتَنَ وَرَأَى الشَّيْبَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَتَيْتُ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ فِي كِتَابِي إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَوَائِلِ وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الشُّعَرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رُؤْيَةِ الصُّوَرِ فِي الْبَيْتِ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ مَضَى أَيْضًا فِي الْحَجِّ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَزْلَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَمُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يَعْنِي أَنَّهُمَا خَالَفَا يَحْيَى الْقَطَّانَ فِي الْإِسْنَادِ فَلَمْ يَقُولَا فِيهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، وَرِوَايَةُ مُعْتَمِرٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ بَعْضِ شَرْحِهِ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ، ذَكَرَ مِنْهُ هُنَا طَرَفًا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا، وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ.

سَادِسُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَجِّ وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَغَيْرِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَقَالَ: بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً، تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وتَابَعَهُ عَجْلَانُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ.

سَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُّومِ، رُوِينَاهُ بِالتَّشْدِيدِ عَنِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا بِالتَّخْفِيفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي التَّخْفِيفِ، وَأَنْكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ التَّشْدِيدَ أَصْلًا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَكَانٍ، وَقِيلَ: اسْمُ آلَةِ النَّجَّارِ، فَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَفِيهِ اللُّغَتَانِ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَعَكَسَهُ الدَّاوُدِيُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ التَّشْدِيدَ فِي الْآلَةِ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فَقِيلَ هِيَ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ ثَنِيَّةٌ بِالسَّرَاةِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ الْآلَةُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِالْخِتَانِ، فَاخْتَتَنَ بِقَدُّومٍ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ عَجِلْتَ قَبْلَ أَنْ نَأْمُرَكَ بِآلَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَرِهْتُ أَنْ أُؤَخِّرَ أَمْرَكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَقَالَ: بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً) يَعْنِي أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَصَرَّحَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَقْدِيمُ رِوَايَةِ أَبِي الْيَمَانِ بَعْدَ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، وَالَّذِي هُنَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَتَابَعَهُ عَجْلَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَمَّا مُتَابَعَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَصَلَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا مَرَّتْ بِهِ ثَمَانُونَ وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عَجْلَانَ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ مِثْلَ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ،

ص: 390

وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فَوَصَلَهَا أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً عِنْدَ اخْتِتَانِهِ. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأ مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْمَتْنِ شَيْءٌ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ مِقْدَارُ عُمُرِهِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعَقِيقَةِ لِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا مِثْلُهُ وَزَادَ: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ حُسِبَ مِنْ مَبْدَأ نُبُوَّتِهِ وَالثَّانِي مِنْ مَبْدَأ مَوْلِدِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَبَعْدَ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ مُهْمَلَةٌ الرُّعَيْنِيُّ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ مِصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَأَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيٌّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ فِي النِّكَاحِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَلَمْ يَقَعْ رَفْعُهُ هُنَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَلَا كَرِيمَةَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَالْحَدِيثُ فِي الْأَصْلِ مَرْفُوعٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَكَمَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ غَالِبًا لَا يُصَرِّحُ بِرَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِهِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ) قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْجَمْعِ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَذْبَةٍ بِسُكُونِ الذَّالِ، وَهُوَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ كَذَبَ كَذْبَةً كَمَا تَقُولُ رَكَعَ رَكْعَةً وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَكَنَ فِي الْجَمْعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ فَقَالَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: {هَذَا رَبِّي} وَقَوْلُهُ لِآلِهَتِهِمْ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} انْتَهَى.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذِكْرُ الْكَوْكَبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَيَحْتَاجُ فِي ذِكْرِ الْكَوْكَبِ إِلَى تَأْوِيلٍ، قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي سَارَةَ، وَالَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الطُّرُقُ ذِكْرُ سَارَةَ دُونَ الْكَوْكَبِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ مَعَ أَنَّهُ أَدْخَلُ مِنْ ذِكْرِ سَارَةَ لِمَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ فَلَمْ يَعُدَّهَا لِأَنَّ حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَيْسَتْ بِحَالِ تَكْلِيفٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَكِنَّهُ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّوْبِيخُ، وَقِيلَ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى قَوْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَغَيَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ أنَّهُ قَالَ تَوْبِيخًا لِقَوْمِهِ أَوْ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي الْكَذَبَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ الْكَذِبَ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ، فَقَوْلُهُ:{إِنِّي سَقِيمٌ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأُسْقَمُ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَثِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنِّي سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ سَقِيمُ الْحُجَّةِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَكُمْ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، وَقَوْلُهُ:

{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا قَالَهُ تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ وَقَطْعًا لِقَوْمِهِ فِي قَوْلِهِمْ أنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يُتَجَوَّزُ فِيهِ فِي الشَّرْطِ

ص: 391

الْمُتَّصِلِ، وَلِهَذَا أَرْدَفَ قَوْلَهُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} بِقَوْلِهِ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُشْتَرَطٌ بِقَوْلِهِ:{إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ السَّبَبَ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ} أَيْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ: كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ، ثُمَّ يَقُولُ: فَاسْأَلُوهُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

وَقَوْلُهُ: هَذِهِ أُخْتِي يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا، قَالَ ابْنُ عُقَيْلٍ: دَلَالَةُ الْعَقْلِ تَصْرِفُ ظَاهِرَ إِطْلَاقِ الْكَذِبِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْلَ قَطَعَ بِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ لِيُعْلَمَ صِدْقُ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلَا ثِقَةَ مَعَ تَجْوِيزِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ الْكَذِبِ مِنْهُ، وإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ بِصُورَةِ الْكَذِبِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَلَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام يَعْنِي إِطْلَاقَ الْكَذِبِ عَلَى ذَلِكَ - إِلَّا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ لِعُلُوِّ مَقَامِهِ، وَإِلَّا فَالْكَذِبُ الْمَحْضُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ يَجُوزُ، وَقَدْ يَجِبُ لِتَحَمُّلِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ دَفْعًا لِأَعْظَمِهِمَا، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِيَّاهَا كَذَبَاتٍ فَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا تُذَمُّ، فَإِنَّ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مُخِلًّا لَكِنَّهُ قَدْ يَحْسُنُ فِي مَوَاضِعَ وَهَذَا مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ) خَصَّهُمَا بِذَلِكَ لِأَنَّ قِصَّةَ سَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ لَكِنْ تَضَمَّنَتْ حَظًّا لِنَفْسِهِ وَنَفْعًا لَهُ بِخِلَافِ الثِّنْتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ مَحْضًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ الْمَذْكُورَةِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ كُلُّ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَاللَّهِ إِنْ جَادَلَ بِهِنَّ إِلَّا عَنْ دِينِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ النَّاسِ، وَاسْمُ الْجَبَّارِ الْمَذْكُورِ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ سَبَأ وَأنَّهُ كَانَ عَلَى مِصْرَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ وَقِيلَ: اسْمُهُ صَادُوقٌ وَحَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَكَانَ عَلَى الْأُرْدُنِ، وَقِيلَ: سِنَانُ بْنُ عُلْوَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُرَيْجِ

(1)

بْنِ عِمْلَاقَ بْنِ لَاوِدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَيُقَالُ أنَّهُ أَخُو الضَّحَّاكِ الَّذِي مَلَكَ الْأَقَالِيمَ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي إِنَّ هُنَا رَجُلًا وَفِي كِتَابِ التِّيجَانِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ رَجُلٌ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَشْتَرِي مِنْهُ الْقَمْحَ فَنَمَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَهُ لِلْمَلِكِ أنِّي رَأَيْتُهَا تَطْحَنُ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي إِعْطَاءِ الْمَلِكِ لَهَا هَاجَرَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَخْدُمَ نَفْسَهَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ يُوسُفَ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، زَادَ أَبُو يَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ يَعْنِي سورَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ الْمَاضِيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَاخْتُلِفَ فِي وَالِدِ سَارَةَ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اسْمَهُ هَارَانُ فَقِيلَ: هُوَ مَلِكُ حَرَّانَ وَأنَّ إِبْرَاهِيمَ تَزَوَّجَهَا لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بِلَادِ قَوْمِهِ إِلَى حَرَّانَ، وَقِيلَ: هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالنَّقَّاشُ وَاسْتُبْعِدَ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ بِنْتُ عَمِّهِ، وَتَوَافَقَ الِاسْمَانِ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِ أَبِيهَا تَوْبَلَ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. . إِلَخْ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهَا أَوَّلًا ثُمَّ أَعْلَمَهَا بِذَلِكَ لِئَلَّا تُكَذِّبَهُ عِنْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، وَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا دَخَلَ

(1)

في نسخة "عويج" بالواو

ص: 392

أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، الْحَدِيثَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهَمَا بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَحَسَّ بِأَنَّ الْمَلِكَ سَيَطْلُبُهَا مِنْهُ فَأَوْصَاهَا بِمَا أَوْصَاهَا، فَلَمَّا وَقَعَ مَا حَسِبَهُ أَعَادَ عَلَيْهَا الْوَصِيَّةَ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّالِمَ يُرِيدُ اغْتِصَابهَا عَلَى نَفْسِهَا أُخْتًا كَانَتْ أَوْ زَوْجَةً، فَقِيلَ: كَانَ مِنْ دِينِ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ إِلَّا لِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، كَذَا قِيلَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَتِمَّةٍ وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ دَفْعَ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ اغْتِصَابَ الْمَلِكِ إِيَّاهَا وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ إِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فِي الْحَيَاةِ حَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى قَتْلِهِ وَإِعْدَامِهِ أَوْ حَبْسِهِ وَإِضْرَارِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهَا أَخًا فَإِنَّ الْغَيْرَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْأَخِ خَاصَّةً لَا مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ فَلَا يُبَالِي بِهِ.

وَقِيلَ: أَرَادَ إِنْ عَلِمَ أَنَّكِ امْرَأَتِي أَلْزَمَنِي بِالطَّلَاقِ، وَالتَّقْرِيرُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ جَاءَ صَرِيحًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِهِ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ دِينِ الْمَلِكِ أَنَّ الْأَخَ أَحَقُّ بِأَنْ تَكُونَ أُخْتُهُ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ هِيَ أُخْتِي اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْجَبَّارُ فَلَا يُنَازِعُهُ فِيهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ هِيَ أُخْتِي وَأَنَا زَوْجُهَا فَلِمَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ هِيَ أُخْتِي؟ وَأَيْضًا فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ الْجَبَّارُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا أَنْ يَغْتَصِبَهَا نَفْسَهَا. وَذَكَرَ الْمُنْذِرِيُّ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْجَبَّارِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَقْتُلَ زَوْجَهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ هِيَ أُخْتِي، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَادِلًا خَطَبَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَرْجُو مُدَافَعَتَهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا خَلَصَ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ مِمَّا قَرَّرْتُهُ أَوَّلًا، وَهَذَا أُخِذَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي مُشْكِلِ الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ) يَشْكُلُ عَلَيْهِ كَوْنُ لُوطٍ كَانَ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَرْضِ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ لَهُ فِيهَا مَا وَقَعَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ لُوطٌ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي بَعْضِهَا ذَهَبَ يُنَاوِلُهَا يَدَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمَلِكِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَغُطَّ هُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ فِي أَوَّلِهِ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ اخْتَنَقَ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ مَصْرُوعٌ، قِيلَ: الْغَطُّ صَوْتُ النَّائِمِ مِنْ شِدَّةِ النَّفْخِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ ضُبِطَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ فَغَطَّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالصَّوَابُ ضَمُّهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ عُوقِبَ تَارَةً بِقَبْضِ يَدِهِ وَتَارَةً بِالصِرَاعِهِ. وَقَوْلُهُ: فَدَعَتْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَتِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهَا إِنْ كُنْتُ مَعَ كَوْنِهَا قَاطِعَةً بِأَنَّهُ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا ذَكَرَتْهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ هَضْمًا لِنَفْسِهَا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ لَهَا ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدَيَّ، فَفَعَلَتْ. فِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَتِ اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يَقُولُوا هِيَ الَّتِي قَتَلَتْهُ، قَالَ: فَأُرْسِلَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ حَاجِبٍ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَهَذَا يُنَاسِبُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ

ص: 393

الصَّرَعِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الْمُتَمَرِّدُ مِنَ الْجِنِّ، وَكَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْجِنِّ جِدًّا وَيَرَوْنَ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْخَوَارِقِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ) أَيْ وَهَبَهَا لَهَا لِتَخْدُمَهَا لِأَنَّهُ أَعْظَمَهَا أَنْ تَخْدِمَ نَفْسَهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا آجَرَ، ذَكَرَهَا بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْهَاءِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَالْجِيمُ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهِيَ اسْمٌ سُرْيَانِيٌّ، وَيُقَالُ إِنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ مُلُوكِ الْقِبْطِ وَإِنَّهَا مِنْ حَفْنَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ قَرْيَةٌ بِمِصْرَ، قَالَ الْيَعْقُوبِيُّ: كَانَتْ مَدِينَةٌ انْتَهَى، وَهِيَ الْآنَ كَفْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلِصْنَا بِالْبَرِّ الشَّرْقِيِّ مِنَ الصَّعِيدِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَشْمُونَيْنِ، وَفِيهَا آثَارٌ عَظِيمَةٌ بَاقِيَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَتْهُ) فِي رِوَايَةٍ الأعرج: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ.

قَوْلُهُ: (مَهْيَمْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي مَتهْيًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ مَهْيَنْ بِنُونٍ وَهِيَ بَدَلُ الْمِيمِ، وَكَأَنَّ الْمُسْتَمْلِيَ لَمَّا سَمِعَهَا بِنُونٍ ظَنَّهَا نُونَ تَنْوِينٍ، وَيُقَالُ أنَّ الْخَلِيلَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَمَعْنَاهَا مَا الْخَبَرُ.

قَوْلُهُ: (رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ - أَوِ الْفَاجِرِ - فِي نَحْرِهِ) هَذَا مَثَلٌ تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَرَادَ أَمْرًا بَاطِلًا فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً، أَيْ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ، وَكَبَتَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ أَيْ رَدَّهُ خَاسِئًا، وَيُقَالُ أَصْلُهُ كَبَدَ أَيْ بَلَغَ الْهَمُّ كَبِدَهُ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الدَّالُ مُثَنَّاةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَخْدَمَ مَعْطُوفًا عَلَى كَبَتَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَخْدَمَ هُوَ الْكَافِرُ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) كَأَن خَاطَبَ بِذَلِكَ الْعَرَبَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِمْ لِلْفَلَوَاتِ الَّتِي بِهَا مَوَاقِعُ الْقَطْرِ لِأَجْلِ رَعْيِ دَوَابِّهِمْ، فَفِيهِ تَمَسُّكٌ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَاءِ السَّمَاءِ زَمْزَمَ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْبَعَهَا لِهَاجَرَ فَعَاشَ وَلَدُهَا بِهَا فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ أَوْلَادُهَا، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقَالُ لَهُ مَاءُ السَّمَاءِ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَلَدُ هَاجَرَ وَقَدْ رُبِّيَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ.

وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ وَصَفَائِهِ فَأَشْبَهَ مَاءَ السَّمَاءِ وَعَلَى هَذَا فَلَا مُتَمَسِّكَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَاءِ السَّمَاءِ عَامِرُ وَلَدُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ بُقْيَا بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْغِطْرِيفِ وَهُوَ جَدُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، قَالُوا: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَحِطَ النَّاسُ أَقَامَ لَهُمْ مَالَهُ مَقَامَ الْمَطَرِ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِبَاحَةُ الْمَعَارِيضِ، وَالرُّخْصَةُ فِي الِانْقِيَادِ لِلظَّالِمِ وَالْغَاصِبِ، وَقَبُولُ صِلَةِ الْمَلِكِ الظَّالِمِ، وَقَبُولُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ، وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَكِفَايَةُ الرَّبِّ لِمَنْ أَخْلَصَ فِي الدُّعَاءِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ. وَفِيهِ ابْتِلَاءُ الصَّالِحِينَ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُقَالُ أنَّ اللَّهَ كَشَفَ لِإِبْرَاهِيمَ حَتَّى رَأَى حَالَ الْمَلِكِ مَعَ سَارَةَ مُعَايَنَةً وَأنَّهُ لَمْ يَصِلْ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التِّيجَانِ وَلَفْظُهُ: فَأَمَرَ بِإِدْخَالِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَحَّى إِبْرَاهِيمَ إِلَى خَارِجِ الْقَصْرِ وَقَامَ إِلَى سَارَةَ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَصْرَ لِإِبْرَاهِيمَ كَالْقَارُورَةِ الصَّافِيَةِ فَصَارَ يَرَاهُمَا وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمَا، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَابَهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ مِنَ الْكَرْبِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأُمَمِ قَبْلَنَا وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بِالْأَنْبِيَاءِ، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ سَارَةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوِ ابْنُ سَلَامٍ عَنْهُ) كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ لَهُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى - وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مَشَايِخِهِ - وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْهُ فَأَوْرَدَهُ هَكَذَا، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ هَذَا فِي أَمَاكِنَ عَدِيدَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ ابْنُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَنيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ حِجَازِيُّونَ مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ فَصَاعِدًا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَأَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ.

قَوْلُهُ: (أُمِّ شَرِيكٍ) فِي رِوَايَةِ

ص: 394

أَبِي عَاصِمٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَلَفْظُ الْمَتْنِ أَنَّهَا اسْتَأْمَرَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ الْوَزَغَاتِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِنَّ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ، وَالْوَزَغَاتُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ وَزَغَةٍ وَهِيَ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، وَذَكَرَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْوَزَغَ أَصَمُّ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلْ فِي مَكَانٍ فِيهِ زَعْفَرَانُ، وَأَنَّهُ يُلَقِّحُ بِفِيهِ، وَأَنَّهُ يَبِيضُ، وَيُقَالُ لِكِبَارِهَا سَامٌّ أَبْرَصُ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْحَدِيثَ، مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَذَا قَالَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ ذَكَرَ مُحَاجَّةَ قَوْمِهِ لَهُ، ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} فَهَذَا كُلُّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقَوْلُهُ:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} خِطَابٌ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا، إِلَخْ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} فَظَهَرَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ بِتَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِهِ، وَاقْتَصَرَ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى قَوْلِهِ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الشَّفَاعَةِ، ذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِإِبْرَاهِيمَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَوَقَعَ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ قَدْ سَمِعَ بِخُلَّتِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْخُلَّةِ، وَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ: كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَأَحْمَدَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ، إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهَا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّوْحِيدِ وَفِي غَيْرِهِ وَسَيَأْتِي.

‌9 - بَاب يزفون: النسلان في المشي

3361 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِلَحْمٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ - فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ - فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ - فَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ -: نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى. تَابَعَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3362 -

حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلَا

ص: 395

أَنَّهَا عَجِلَتْ لَكَانَ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا.

3363 -

قَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَمَّا كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ فَحَدَّثَنِي قَالَ إِنِّي وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي سُلَيْمانَ جُلُوسٌ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ مَا هَكَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ عليهم السلام وَهِيَ تُرْضِعُهُ مَعَهَا شَنَّةٌ لَمْ يَرْفَعْهُ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ".

3364 -

حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ حَتَّى بَلَغَ يَشْكُرُونَ وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ

ص: 396

يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ.

وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ - أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ - مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا - قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ - فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ.

وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السلام وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السلام، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ

الْهَيْئَةِ - وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ - فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ:

ص: 397

فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهنا بَيْتًا - وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا - قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

3365 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا قَالَ إِلَى اللَّهِ قَالَتْ رَضِيتُ بِاللَّهِ قَالَ فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى لَمَّا فَنِيَ الْمَاءُ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا قَالَ فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا فَلَمَّا بَلَغَتْ الْوَادِيَ سَعَتْ وَأَتَتْ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ أَشْوَاطًا ثُمَّ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ تَعْنِي الصَّبِيَّ فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا فَقَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا ثُمَّ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقَالَتْ أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَإِذَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الأَرْضِ قَالَ فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِزُ قَالَ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِرًا قَالَ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنْ الْمَاءِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا قَالَ فَمَرَّ نَاسٌ مِنْ جُرْهُمَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَاكَ وَقَالُوا مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إِلاَّ عَلَى مَاءٍ فَبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَأَتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَتَوْا إِلَيْهَا فَقَالُوا يَا أُمَّ إِسْمَاعِيلَ أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكِ أَوْ نَسْكُنَ مَعَكِ فَبَلَغَ ابْنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمْ امْرَأَةً قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ قَالَ قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ أَنْتِ ذَاكِ فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجَاءَ فَقَالَ أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ فَقَالَتْ أَلَا تَنْزِلُ

ص: 398

فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ فَقَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ قَالَ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ فَقَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا قَالَ أَطِعْ رَبَّكَ قَالَ إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ قَالَ إِذَنْ أَفْعَلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ: حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ قَبْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا

(1)

مَا صُورَتُهُ: يَزِفُّونَ النَّسَلَانُ فِي الْمَشْيِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالْبَاقِينَ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ وَقَعَ عِنْدَهُ بَابُ يَزِفُّونَ النَّسَلَانُ فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَقَوْلُهُ: بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ يَقَعُ عِنْدَهُمْ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ، وَتَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مَعَ قَوْمِهِ حِينَ كَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْوَزِيفُ: النَّسَلَانُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَى آلِهَتِهِمْ فَإِذَا هِيَ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ مُسْتَقْبَلَ بَابِ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ إِلَى جَنْبِهِ أَصْغَرُ مِنْهُ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، فَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ وَقَالُوا: إِذَا رَجَعْنَا وَجَدْنَا الْآلِهَةَ بَرَّكَتْ فِي طَعَامِنَا فَأَكَلْنَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ قَالَ:{أَلا تَأْكُلُونَ} ؟ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَأَخَذَ حَدِيدَةً فَبَقَرَ كُلَّ صَنَمٍ فِي حَافَّتَيْهِ ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَمَعُوا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَطَبَ حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَتَمْرَضُ فَتَقُولُ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ لِإِبْرَاهِيمَ حَطَبًا.

فَلَمَّا جَمَعُوا لَهُ وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ وَأَرَادُوا إِحْرَاقَهُ قَالَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ يُحْرَقُ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ انْتَهَى. وَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ إِنْ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ مَحْفُوظَةً أَشَارَ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُمْ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنْتَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْأَرْضِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَزَمْزَمَ، سَاقَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:

الْأُولَى قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ زِيَادَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَزِيَادَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ النَّسَائِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ وَهْبٌ: وَحَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَوَضَحَ أَنَّ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ كَانَ إِذَا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَإِذَا رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَيْضًا قَالَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ: أَتَيْتُ سَلَامَ بْنَ أَبِي مُطِيعٍ فَحَدَّثْتُهُ بِهَذَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَأَنْكَرَهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لِي: فَأَبُوكَ مَا يَقُولُ؟ قُلْتُ: يَقُولُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: قَدْ غَلِطَ، إِنَّمَا هُوَ أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ انْتَهَى.

وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ لِأَيُّوبَ فِيهِ عِدَّةُ طُرُقٍ، فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: عَنْ أَيُّوبَ نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ

(1)

أي الذي برقم 3361 في أول هذا الباب

ص: 399

يَذْكُرْ أُبَيًّا، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، أَحَدُهُمَا هَكَذَا، وَالْآخَرُ قَالَ فِيهِ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا تَرَى، وَقَدْ عَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ إِخْرَاجَهُ رِوَايَةَ أَيُّوبَ لِاضْطِرَابِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اعْتِمَادَ الْبُخَارِيِّ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ مَقْرُونًا بِأَيُّوبَ فَرِوَايَةُ أَيُّوبَ إِمَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ. وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ قَدْحًا لِثِقَةِ الْجَمِيعِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى ثِقَاتٍ حُفَّاظٍ: إِنْ كَانَ بِإِثْبَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ بِإِسْقَاطِهِمَا فَأَيُّوبُ قَدْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَعْتَمِدِ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ الْخَالِصِ كَمَا تَرَى. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَرَدَّ كَلَامَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِنَحْوِ هَذَا الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ.

الطريقة الثانية: قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ:، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَمَّا كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ فَحَدَّثَنِي قَالَ: إِنِّي وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ جُلُوسٌ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: مَا هَكَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ عليهم السلام وَهِيَ تُرْضِعُهُ مَعَهَا شَنَّةٌ، لَمْ يَرْفَعْهُ) انْتَهَى، هَكَذَا سَاقَهُ مُخْتَصَرًا مُعَلَّقًا، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ فَارُوقٍ الْخَطَّابِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أبي وَعُثْمَانُ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعُثْمَانُ بْنُ حَبَشِيٍّ جُلُوسٌ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَكَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْأَنْصَارِيِّ كَذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ، وَالْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُعْشُمٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ كَثِيرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ فِي أُنَاسٍ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِأَعْلَى الْمَسْجِدِ لَيْلًا فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَلُونِي قَبْلَ أَلَّا تَرَوْنِي، فَسَأَلَهُ الْقَوْمُ فَأَكْثَرُوا، فَكَانَ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ أَنْ قَالَ رَجُلٌ: أَحَقُّ مَا سَمِعْنَا فِي الْمَقَامِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ جَاءَ مِنَ الشَّامِ حَلَفَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ، فَقَرَّبَتْ

(1)

إِلَيْهِ امْرَأَةُ إِسْمَاعِيلَ الْمَقَامَ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ لَا يَنْزِلُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ سَلُونِي، فَإِنِّي قَدْ أَوْشَكْتُ أَنْ أَذْهَبَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ. فَأَكْثَرَ النَّاسُ مَسْأَلَتَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ كَمَا كُنَّا نَتَحَدَّثُ؟ قَالَ: وَمَا كُنْتَ تَتَحَدَّثُ؟ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ جَاءَ عَرَضَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةُ إِسْمَاعِيلَ النُّزُولَ فَأَبَى أَنْ يَنْزِلَ، فَجَاءَتْهُ بِذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الطَّاءِ هُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْوَسَطُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ النُّطُقُ بِضَمِّ النُّونِ وَالطَّاءِ وَهُوَ جَمْعُ مِنْطَقٍ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَارَةَ كَانَتْ وَهَبَتْ هَاجَرَ لِإِبْرَاهِيمَ فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِإِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ غَارَتْ مِنْهَا فَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ فَاتَّخَذَتْ هَاجَرُ مِنْطَقًا فَشَدَّتْ بِهِ وَسَطَهَا وَهَرَبَتْ وَجَرَّتْ ذَيْلَهَا لِتُخْفِيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، وَيُقَالُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ شَفَعَ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "فقدمت".

ص: 400

فِيهَا وَقَالَ لِسَارَةَ: حَلِّلِي يَمِينَكِ بِأَنْ تَثْقُبِي أُذُنَيْهَا وَتَخْفِضِيهَا، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَوَّلُ مَا أحدث الْعَرَبُ جَرَّ الذُّيُولِ عَنْ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَيُقَالُ إِنَّ سَارَةَ اشْتَدَّتْ بِهَا الْغَيْرَةُ فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ إِلَى مَكَّةَ لِذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَوَّأَ لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ وَأُمِّهِ، قَالَ: وَحُمِلُوا فِيمَا حُدِّثْتُ عَلَى الْبُرَاقِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى وَضَعَهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَوَضَعَهُمَا.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ دَوْحَةٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ: الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ.

قَوْلُهُ (فَوْقَ الزَّمْزَمِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَوْقَ زَمْزَمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ أَمْرِهَا فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ) أَيْ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بُنِيَ.

قَوْلُهُ: (وَسِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ) السِّقَاءُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ قِرْبَةٌ صَغِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرٍ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَمَعَهَا شَنَّةٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهِيَ الْقِرْبَةُ الْعَتِيقَةُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ) أَيْ وَلَّى رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَانْصَرَفَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ بِالشَّامِ وَتَرَكَ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ عِنْدَ الْبَيْتِ.

قَوْلُهُ: (فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَأَدْرَكَتْهُ بِكَدَاءَ وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَادَتْهُ ثَلَاثًا فَأَجَابَهَا فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَتْ لَهُ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَقَالَتْ: لَنْ يُضَيِّعَنَا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَتْ: حَسْبِي وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرٍ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ فَقَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ مَمْدُودٌ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ مِنْهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ الْبَنِيَّةِ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَضَبَطَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كُدًى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ وَقَالَ: هِيَ الَّتِي بِأَسْفَلَ مَكَّةَ عِنْدَ قُعَيْقِعَانَ، قَالَ: لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِأَسْفَلَ مَكَّةَ. قُلْتُ: وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَانِعٍ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، فَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ.

قَوْلُهُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتِّلَاوَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ) زَادَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فَانْقَطَعَ لَبَنُهَا وَفِي رِوَايَته وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ حِينَئِذٍ ابْنَ سَنَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَتَلَمَّظُ وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ أَيْضًا، وَمَعْنَى يَتَلَبَّطُ وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ: يَتَمَرَّغُ وَيَضْرِبُ بِنَفْسِهِ الْأَرْضَ، وَيَقْرَبُ مِنْهَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَلَمَّا ظَمِئَ إِسْمَاعِيلُ جَعَلَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِعَقِبَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ، أَيْ يَشْهَقُ وَيَعْلُو صَوْتُهُ وَيَنْخَفِضُ كَالَّذِي يُنَازِعُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَالْوَادِي يَوْمَئِذٍ عَمِيقٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ تَسْتَغِيثُ رَبَّهَا وَتَدْعُوهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ) أَيِ الَّذِي أَصَابَهُ الْجَهْدُ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشِقُّ.

قَوْلُهُ: (سَبْعَ مَرَّاتٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا سُعِيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَتَفَقَّدُ إِسْمَاعِيلَ وَتَنْظُرُ مَا حَدَثَ لَهُ بَعْدَهَا وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ، وَنَفْسُهَا بِالرَّفْعِ الْفَاعِلُ أَيْ لَمْ تَتْرُكْهَا نَفْسُهَا مُسْتَقِرَّةً فَتُشَاهِدَهُ فِي حَالِ الْمَوْتِ فَرَجَعَتْ، وَهَذَا فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ

ص: 401

صَهٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةٌ، كَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسَهَا فَقَالَتْ لَهَا اسْكُتِي، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَتْ: أَغِثْنِي إِنْ كَانَ عِنْدكَ خَيْرٌ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غَوَاثٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ لِلْأَكْثَرِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، قِيلَ: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَاتِ فَعَالٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ غَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ ضَمَّ أَوَّلِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَغِيثُ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ كَسْرَهُ أَيْضًا وَالضَّمُّ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَغِثْنِي.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: فَإِذَا جِبْرِيلُ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ.

قَوْلُهُ: (فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا، وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ تُعَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِعَقِبِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَرَكَضَ جِبْرِيلُ بِرِجْلِهِ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَفَحَصَ الْأَرْضَ بِإِصْبَعِهِ فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَزَعَمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ أَنَّهَا هَمْزَةُ جِبْرِيلَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَفَاضَ الْمَاءُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ فَانْبَثَقَ الْمَاءُ وَهِيَ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَقَاف أَيْ تَفَجَّرَ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدٍ أَيْ تَجْعَلُهُ مِثْلَ الْحَوْضِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ تَحْفِنُ بِنُونٍ بَدَلَ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، فَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَجَعَلَتْ تَفْحَصُ الْأَرْضَ بِيَدَيْهَا.

قَوْلُهُ: (وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا) هُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهَا، وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ فَقَالَ دَعِيهِ فَإِنَّهَا رُوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ زَمْزَمَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ لَوْ تَرَكَتْهُ وَهَذَا الْقَدْرُ صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرَفْعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَدِيثِ مَرْفُوعٌ.

قَوْلُهُ: (عَيْنًا مَعِينًا) أَيْ ظَاهِرًا جَارِيًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِرًا فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ مَعِينًا صِفَةُ الْمَاءِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَمَعِينٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ إِنْ كَانَ مِنْ عَانَهُ فَهُوَ بِوَزْنِ مَفْعِلٍ وَأَصْلُهُ مَعْوُونٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعنِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ فَهُوَ بِوَزْنِ فَعولٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ ظُهُورُ زَمْزَمَ نِعْمَةً مِنَ اللَّهِ مَحْضَةً بِغَيْرِ عَمَلِ عَامِلٍ، فَلَمَّا خَالَطَهَا تَحْوِيطُ هَاجَرَ دَاخَلَهَا كَسْبُ الْبَشَرِ فَقَصُرَتْ عَلَى ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَوْجِيهِ تَذْكِيرِ مَعِينٍ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ وَهُوَ الْمَعِينُ مُؤَنَّثٌ.

قَوْلُهُ: (لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيِ الْهَلَاكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ لَا تَخَافِي أَنْ يَنْفَذ الْمَاءُ وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْوَازِعِ، عَنْ أَيُّوبَ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ لَا تَخَافِي عَلَى أَهْلِ هَذَا الْوَادِي ظَمَأً فَإِنَّهَا عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا ضِيفَانُ اللَّهِ زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فَقَالَتْ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَبْنِيهِ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ وَأَشَارَ لَهَا إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَدَرَةٌ حَمْرَاءُ فَقَالَ: هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْعَتِيقُ، وَاعْلَمِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَرْفَعَانِهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ) بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ الْبَيْتُ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى آدَمَ فَأَمَرَهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ فَبَنَاهُ آدَمُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالطَّوَافِ بِهِ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ آدَمَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ،

ص: 402

وَقِيلَ: بَنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَهُ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ بْنُ آدَمَ وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ آخِرَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ) أَيْ هَاجَرُ (كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْحَالِ الْمَوْصُوفَةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهَا كَانَتْ تتَغَذَّى بِمَاءِ زَمْزَمَ فَيَكْفِيهَا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ ثُمَّ قَافٌ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ الْمُخْتَلِطُونَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي سَفَرٍ أَمْ لَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ جُرْهُمٍ) هُوَ ابْنُ قَحْطَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ ابْنُ يَقْطُنَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ جُرْهُمٌ وَأَخُوهُ قَطُورَا أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ، وَكَانَ رَئِيسُ جُرْهُمٍ مِضَاضُ بْنُ عَمْرٍو وَرَئِيسُ قَطُورَا السَّمَيْدَعُ وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَمِيعِ جُرْهُمٌ وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَكَانَتْ جُرْهُمٌ يَوْمَئِذٍ بِوَادٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ إِنَّ أَصْلَهُمْ مِنَ الْعَمَالِقَةِ.

قَوْلُهُ: (مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ) وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ كَدَاءَ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ فِي أَعْلَى مَكَّةَ، وَأَمَّا الَّذِي فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَبِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ، يَعْنِي فَيَكُونُ الصَّوَابُ هُنَا بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَدْخُلُوهَا مِنَ الْجِهَةِ الْعُلْيَا وَيَنْزِلُوا مِنَ الْجِهَةِ السُّفْلَى.

قَوْلُهُ: (فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ هُوَ الَّذِي يَحُومُ عَلَى الْمَاءِ وَيَتَرَدَّدُ وَلَا يَمْضِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ رَسُولًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَكِيلِ وَعَلَى الْأَجِيرِ، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مُرْسِلِهِ أَوْ مُوَكِّلِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْرِي مُسْرِعًا فِي حَوَائِجِهِ، وَقَوْلُهُ: جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ أَرْسَلُوا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ فَأَرْسَلُوا رَسُولًا وَيَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَكُونُ الْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ لِقَوْلِهِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ بِصِيغَةِ الْجَميعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ بِالْإِرْسَالِ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنْ خَادِمٍ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَلْفَى ذَلِكَ) بِالْفَاءِ أَيْ وَجَدَ (أُمَّ إِسْمَاعِيلَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ضِدَّ الْوَحْشَةِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ أَيْ تُحِبُّ جِنْسَهَا.

قَوْلُهُ: (وَشَبَّ الْغُلَامُ) أَيْ إِسْمَاعِيلُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَنَشَأَ إِسْمَاعِيلُ بَيْنَ وِلْدَانِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ لِسَانَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا، وَفِيهِ تَضْعِيفٌ لِقَوْلِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِلَفْظِ أَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُبِينَةِ إِسْمَاعِيلُ وَبِهَذَا الْقَيْدِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَتَكُونُ أَوَّلِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ لَا الْأَوَّلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، فَيَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ أَصْلَ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جُرْهُمٍ أَلْهَمَهُ اللَّهُ الْعَرَبِيَّةَ الْفَصِيحَةَ الْمُبِينَةَ فَنَطَقَ بِهَا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الشَّرْقِيِّ بْنِ قَطَامِيٍّ أنَّ عَرَبِيَّةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ أَفْصَحُ مِنْ عَرَبِيَّةِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَبَقَايَا حِمْيَرَ وَجُرْهُمٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ فِي الْحَدِيثِ مُقَيَّدَةٌ بِإِسْمَاعِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِسْمَاعِيلُ أَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي كِتَابِ الْوِشَاحِ أَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِالْعَرَبِيَّةِ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، ثُمَّ إِسْمَاعِيلُ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُوَافِقُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْفَسَهُمْ) بِفَتْحِ الْفَاءِ بِلَفْظِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِنَ النَّفَاسَةِ أَيْ كَثُرَتْ رَغْبَتُهُمْ فِيهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَنِسَهُمْ بِغَيْرِ فَاءٍ مِنَ الْأُنْسِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَنْفَسَهُمْ أَيْ رَغْبَتَهُمْ فِي مُصَاهَرَتِهِ لِنَفَاسَتِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَنْفَسَهُمْ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ أَيْ رَغَّبَهُمْ فِيهِ إِذْ صَارَ نَفِيسًا عِنْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ) حَكَى الْأَزْرَقِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ اسْمَهَا عُمَارَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ أُسَامَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ

ص: 403

أَنَّهَا بِنْتُ صَدًى وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ اسْمَهَا جُدَّى بِنْتُ سَعْدٍ، وَعِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّ اسْمَهَا حُبَّى بِنْتُ أَسْعَدَ بْنِ عَمْلَقَ، وَعِنْدَ الْفَاكِهِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ خَطَبَهَا إِلَى أَبِيهَا فَزَوَّجَهَا مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَاتَتْ) هَاجَرُ أَيْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ.

قَوْلُهُ: (يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ يَتَفَقَّدُ حَالَ مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِالسُّكُونِ وَقَالَ: التَّرِكَةُ بِالْكَسْرِ بَيْضُ النَّعَامِ وَيُقَالُ لَهَا التَّرِيكَةُ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا حِينَ تَبِيضُ تَتْرُكُ بَيْضَهَا وَتَذْهَبُ ثُمَّ تَعُودُ تَطْلُبُهُ فَتَحْضُنُ مَا وَجَدَتْ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ أَمْ غَيْرُهُ، وَفِيهَا ضَرَبَ الشَّاعِرُ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ:

كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ

وَحَاضِنَةٍ بَيْضَ أُخْرَى صَبَاحًا

قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ كَانَ عِنْدَمَا بَلَغَ السَّعْيَ، وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ رَضِيعًا وَعَادَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ فَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ لَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بَيْنَ زَمَانِ الرَّضَاعِ وَالتَّزْوِيجِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ هَذَا الْمَجِيءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَأُمِرَ بِالذَّبْحِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ مَجِيئِهِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي خَبَرٍ آخَرَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَزُورُ هَاجَرَ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى الْبُرَاقِ يَغْدُو غَدْوَةً فَيَأْتِي مَكَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقِيلُ فِي مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ نَحْوَهُ: وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَزُورُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ عَلَى الْبُرَاقِ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ أَيْ بَعْدَ مَجِيئِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا) أَيْ يَطْلُبَ لَنَا الرِّزْقَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَكَانَ عَيْشُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْدَ، يَخْرُجُ فَيَتَصَيَّدُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَرْعَى مَاشِيَتَهُ وَيَخْرُجُ مُتَنَكِّبًا قَوْسَهُ فَيَرْمِي الصَّيْدَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَتْ مَسَارِحُهُ الَّتِي يَرْعَى فِيهَا السِّدْرَةَ إِلَى السِّرِّ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ) فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فَقَالَ لَهَا: هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ قَالَتْ: لَاهَا اللَّهِ إِذَنْ، قَالَ: فَكَيْفَ عَيْشُكُمْ؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ جَهْدًا فَقَالَتْ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلَا طَعَامَ، وَأَمَّا الشَّاءُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا الْمَصْرَ - أَيِ الشَّخْبَ - وَأَمَّا الْمَاءُ فَعَلَى مَا تَرَى مِنَ الْغِلَظِ انْتَهَى. وَالشَّخْبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ السَّيَلَانُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: كَالْمُسْتَخِفَّةِ بِشَأْنِهِ.

قَوْلُهُ: (عَتَبَةَ بَابِكَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ كِنَايَةً عَنِ الْمَرْأَةِ، وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُوَافِقَةِ لَهَا وَهُوَ حِفْظُ الْبَابِ وَصَوْنُ مَا هُوَ دَاخِلَهُ وَكَوْنُهَا مَحَلَّ الْوَطْءِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ تَغْيِيرَ عَتَبَةِ الْبَابِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ كَأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: غَيَّرْتُ عَتَبَةَ بَابِي أَوْ عَتَبَةُ بَابِي مُغَيَّرَةٌ وَيَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَيَقَعُ، أُخْبِرْتُ بِذَلِكَ عَنْ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْبُلْقِينِيِّ، وَتَمَامُهُ التَّفْرِيعُ عَلَى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا إِذْ حَكَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَزَوَّجَ مِنْهُمُ امْرَأَةً أُخْرَى) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَتَبِعَهُ الْمَسْعُودِيُّ ثُمَّ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ اسْمَهَا سَامَةُ بِنْتُ مُهَلْهَلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا عَاتِكَةُ، وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ قَدِيمَةٍ مِنْ كِتَابِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّهَا بَشَامَةُ بِنْتُ مُهَلْهَلِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفٍ وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ بَشَامَةُ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ، قَالَ: وَقِيلَ اسْمُهَا جَدَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مِضَاضٍ، وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ اسْمَهَا رِعْلَةُ بِنْتُ مِضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيَّةُ، وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا رِعْلَةُ بِنْتُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ جُرْهُمٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُخْتَلِفِ أَنَّ اسْمَهَا السَّيِّدَةُ بِنْتُ مِضَاضٍ وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَنَظَرَ إِسْمَاعِيلُ

ص: 404

إِلَى بِنْتِ مِضَاضِ بْنِ عَمْرٍو فَأَعْجَبَتْهُ فَخَطَبَهَا إِلَى أَبِيهَا فَتَزَوَّجَهَا وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْجَوَّانِيُّ أَنَّ اسْمَهَا هَالَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: الْحَنْفَاءُ وَقِيلَ سَلْمَى، فَحَصَلْنَا مِنَ اسْمِهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ وَمِنْ أَبِيهَا عَلَى أَرْبَعَةٍ.

قَوْلُهُ: (نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ نَحْنُ فِي خَيْرِ عَيْشٍ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ فِي لَبَنٍ كَثِيرٍ وَلَحْمٍ كَثِيرٍ وَمَاءٍ طَيِّبٍ.

قَوْلُهُ: (مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ) فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ ذَكَرَ اللَّبَنَ مَعَ اللَّحْمِ وَالْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي طَعَامِ أَهْلِ مَكَّةَ وَشَرَابِهِمْ بَرَكَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا يَخْلُوَانِ بِالتَّثْنِيَةِ. قَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ: خَلَوْتُ بِالشَّيْءِ وَاخْتَلَيْتُ إِذَا لَمْ أَخْلِطْ بِهِ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: أَخْلَى الرَّجُلُ اللَّبَنَ إِذَا لَمْ يَشْرَبْ غَيْرَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: لَيْسَ أَحَدٌ يَخْلُو عَلَى اللَّحْمِ وَالْمَاءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا اشْتَكَى بَطْنَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ نَحْوَهُ فَقَالَتِ انْزِلْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَاطْعَمْ وَاشْرَبْ. قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ النُّزُولَ. قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَاكَ أَشْعَثَ أَفَلَا أَغْسِلُ رَأْسَكَ وَأَدْهُنُهُ؟ قَالَ: بَلَى إِنْ شِئْتِ. فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَبْيَضُ مِثْلُ الْمَهَاةِ، وَكَانَ فِي بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ مُلْقًى فَوَضَعَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا شِقَّ رَأْسِهِ وَهُوَ عَلَى دَابَّتِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، فَلَمَّا فَرَغَ حَوَّلَتْ لَهُ الْمَقَامَ حَتَّى وَضَعَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا بِرَأْسِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرَ، فَالْأَثَرُ الَّذِي فِي الْمَقَامِ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيهِ مَوْضِعُ الْعَقِبِ وَالْإصْبُعِ وَعِنْدَ الْفَاكِهِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ سَارَةَ دَاخَلَتْهَا غَيْرَةٌ، فقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكِ، وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ.

قَوْلُهُ: (هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ وَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ شَيْخٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبُهُمْ رِيحًا.

قَوْلُهُ: (يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا صَلَاحُ الْمَنْزِلِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُمْسِكَكِ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ وَلَقَدْ كُنْتِ عَلَيَّ كَرِيمَةً وَقَدِ ازْدَدْتِ عَلَيَّ كَرَامَةً، فَوَلَدَتْ لِإِسْمَاعِيلَ عَشَرَةَ ذُكُورٍ زَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَأْتِي عَلَى الْبُرَاقِ يَعْنِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ وَأُعْجِبَ إِبْرَاهِيمُ بِجَدَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ.

قَوْلُهُ: (يَبْرِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالنَّبْلُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ: السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَكَّبَ فِيهِ نَصْلُهُ وَرِيشُهُ، وَهُوَ السَّهْمُ الْعَرَبِيُّ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُصْلِحُ بَيْتًا لَهُ وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ هُوَ الْمُوَافِقُ لِغَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ.

قَوْلُهُ: (دَوْحَةُ) هِيَ الَّتِي نَزَلَ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ قدومهما كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ.

قَوْلُهُ: (فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ) يَعْنِي مِنَ الِاعْتِنَاقِ وَالْمُصَافَحَةِ وَتَقْبِيلِ الْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: بَكَيَا حَتَّى أَجَابَهُمَا الطَّيْرُ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَاعَدَ لِقَاؤُهُمَا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ أَنَّ عُمُرَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ وَعُمُرُ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأُعِينُكَ بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ أنْ أَفْعَلَ بِنَصْبِ اللَّامِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْنِيَ أَوَّلًا وَحْدَهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُعِينَهُ إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: فَيَكُونُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ

ص: 405

أَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يُعِينُهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ الْبَيْتَ وَتُعِينَنِي. وَتَخَلَّلَ بَيْنَ قَوْلِهِ أَبْنِيَ الْبَيْتَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَتُعِينَنِي قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ.

قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ فَبَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُمَا يَعْنِي فِي مُشَارَكَتِهِمَا فِي الْبِنَاءِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ الْجُرْهُمِيُّونَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ.

قَوْلُهُ: (رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ الْقَوَاعِدَ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ آدَمُ يَا رَبِّ إِنِّي لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: ابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بَيْتِيَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَأَبِي جَهْمٍ فَبَلَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْأَسَاسِ أَسَاسَ آدَمَ وَجَعَلَ طُولَهُ فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ وَعَرْضَهُ فِي الْأَرْضِ - يَعْنِي دَوْرَهُ - ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَكَانَ ذَلِكَ بِذِرَاعِهِمْ، زَادَ أَبُو جَهْمٍ وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِحِجَارَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَقْفًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا عِنْدَ بَابِهِ خِزَانَةً لِلْبَيْتِ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْبَيْتِ وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ اتَّبِعِ السَّكِينَةَ، فَحَلَّقَتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَأَنَّهَا سَحَابَةٌ، فَحَفَرَا يُرِيدَانِ أَسَاسَ آدَمَ الْأَوَّلَ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَالْحَاكِمِ رَأَى عَلَى رَأْسِهِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الْغَمَامَةِ فِيهِ مِثْلَ الرَّأْسِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى ظِلِّي - أَوْ عَلَى قَدْرِي - وَلَا تَزِدْ، وَلَا تَنْقُصْ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ) يَعْنِي الْمَقَامَ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ زَادَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ عَلَى الْمَقَامِ يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعُهُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الرُّكْنُ وَضَعَهُ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعَهُ وَأَخَذَ الْمَقَامَ فَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ تِلْكَ الْمَوَاقِفَ، وَحَجَّهُ إِسْحَاقُ وَسَارَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِالشَّامِ وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَجَرِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْوَادِي يَطْلُبُ حَجَرًا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَقَدْ كَانَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حِينَ غَرِقَتِ الْأَرْضُ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ فَرَأَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ مَنْ جَاءَكَ بِهِ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ لَمْ يَكِلْنِي إِلَيْكَ وَلَا إِلَى حَجَرِكَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ بِالْهِنْدِ وَكَانَ يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ.

وَهِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُعْجَمَةِ طَيْرٌ أَبْيَضُ كَبِيرٌ، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاللَّهِ مَا بَنَيَاهُ بِقِصَّةٍ وَلَا مَدَرٍ، وَلَا كَانَ لَهُمَا مِنَ السَّعَةِ وَالْأَعْوَانِ مَا يَسْقُفَانِهِ وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي كُلَّ يَوْمٍ سَافًا وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ كَانَ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ حِرَاءَ وَثُبَيْرٍ وَلُبْنَانَ وَجَبَلِ الطُّورِ وَجَبَلِ الْخَمْرِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: جَبَلُ الْخَمْرِ - يَعْنِي بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ - هُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ

ص: 406

ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أنَّ آدَمَ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: حِرَاءَ وَطُورِ زِيتَا وَطُورِ سَيْنَاءَ، وَالْجُودِيِّ وَلُبْنَانَ، وَكَانَ رَبَضُهُ مِنْ حِرَاءَ ومِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّهُ أَسَّسَ الْبَيْتَ مِنْ سِتَّةِ أَجْبُلٍ: مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ وَمِنَ الطُّورِ وَمِنْ قُدْسٍ وَمِنْ وَرْقَانَ وَمِنْ رَضْوَى وَمِنْ أُحُدٍ.

الطَّرِيقُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ) هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَكِّيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ) يَعْنِي سَارَةَ (مَا كَانَ) يَعْنِي مِنْ غَيْرَةِ سَارَةَ لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ مَضَتْ بَقِيَّةُ شَرْحِ الْحَدِيثِ ضِمْنَ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌10 - باب

3366 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ.

[الحديث 3366 - طرفه في: 3425]

3367 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا" وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3368 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهم زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ". وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ".

3369 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

[الحديث 3369 - طرفه في: 6360]

ص: 407

3370 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو قرةَ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْهَمْذانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: بَلَى فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ، قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

[الحديث 3370 - طرفاه في: 4797، 6357]

3371 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهما إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي نَجْلِسُ فِي الطَّرِيقِ فَيَعْرِضُ عَلَيَّ الْقُرْآنَ وَأَعْرِضُ عَلَيْهِ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ تَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ) بِضَمِّ اللَّامِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهِيَ ضَمَّةُ بِنَاءٍ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ مِثْلُ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَالتَّقْدِيرُ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ مَصْرُوفًا وَغَيْرَ مَصْرُوفٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَيٌّ) بِالتَّنْوِينِ وَتَرْكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ بَيْتُ الْعِبَادَةِ لَا مُطْلَقُ الْبُيُوتِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَبْلَهُ قَالَ كَانَتِ الْبُيُوتُ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) يَعْنِي مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قِيلَ لَهُ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَوْضِعُ عِبَادَةٍ، وَقِيلَ لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْخَبَائِثِ، وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، انْتَهَى، وَمُسْتَنَدُهُ فِي أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خِلَالًا ثَلَاثًا الْحَدِيثَ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ أَنَّ دَاوُدَ عليه السلام ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَأَقْضِي بِنَاءَهُ عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ، قَالَ: وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى أَوَّلِ الْبِنَاءِ وَوَضْعِ أَسَاسِ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ وَلَا سُلَيْمَانُ أَوَّلَ مَنْ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدْ رُوِينَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ آدَمُ، ثُمَّ انْتَشَرَ وَلَدُهُ فِي الْأَرْضِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ وَضَعَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْكَعْبَةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ

ص: 408

وَسُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَيَا الْمَسْجِدَيْنِ ابْتَدَآ وَضْعَهُمَا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ تَجْدِيدٌ لِمَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرُهُمَا.

قُلْتُ: وَقَدْ مَشَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: فِي هَذَا الْخَبَرِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَ إِسْمَاعِيلَ وَدَاوُدَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ لِطُولِ الزَّمَانِ - بِالِاتِّفَاقِ - بَيْنَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام الْبَيْتَ وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام. ثُمَّ إِنَّ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ قِصَّةَ دَاوُدَ فِي قَتْلِ جَالُوتَ كَانَتْ بَعْدَ مُوسَى بِمُدَّةٍ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ بِنَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى أَوَّلَ مَا وَضَعَ بِنَاءَهُ بَعْضُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ قَبْلَ دَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ ثُمَّ دَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ فَزَادَا فِيهِ وَوَسَّعَاهُ فَأُضِيفَ إِلَيْهِمَا بِنَاؤُهُ، قَالَ: وَقَدْ يُنْسَبُ هَذَا الْمَسْجِدُ إِلَى إِيلِيَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَانِيهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَسْتُ أُحَقِّقُ لِمَ أُضِيفَ إِلَيْهِ، قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُوَجَّهٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِغَيْرِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى آدَمُ عليه السلام، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: سَامُ بْنُ نُوحٍ عليه السلام، وَقِيلَ: يَعْقُوبُ عليه السلام، فَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ مَا وَقَعَ مِمَّنْ بَعْدَهُمَا تَجْدِيدًا كَمَا وَقَعَ فِي الْكَعْبَةِ، وَعَلَى الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ الْوَاقِعُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَوْ يَعْقُوبَ أَصْلًا وَتَأْسِيسًا وَمِنْ دَاوُدَ تَجْدِيدًا لِذَلِكَ وَابْتِدَاءَ بِنَاءٍ فَلَمْ يَكْمُلْ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَكْمَلَهُ سُلَيْمَانُ عليه السلام، لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَوْجَهُ.

وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ آدَمَ هُوَ الَّذِي أَسَّسَ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدَيْنِ، فَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ، وَبِنَاءُ آدَمَ لِلْبَيْتِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الْبَيْتَ رُفِعَ زَمَنَ الطُّوفَانِ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَضَعَ اللَّهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ لَمَّا هَبَطَ، فَفَقَدَ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبِيحَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: يَا آدَمُ إِنِّي قَدْ أَهْبَطْتُ بَيْتًا يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ آدَمُ إِلَى مَكَّةَ ; وَكَانَ قَدْ هَبَطَ بِالْهِنْدِ وَمُدَّ لَهُ فِي خَطْوِهِ فَأَتَى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَاتَّخَذَ فِيهِ مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ لِيَكُونَ قِبْلَةً لِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ. وَأَمَّا ظَنُّ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ إِيلِيَاءَ اسْمُ رَجُلٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ اسْمُ الْبَلَدِ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَسْجِدُ كَمَا يُقَالُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدُ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبِكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ: إِيلِيَاءُ مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: مَدُّ آخِرِهِ وَقَصْرُهُ وَحَذْفُ الْيَاءِ الْأُولَى، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

لَوَى ابْنُ أَبِي الرَّقْرَاقِ عَيْنَيْهِ بَعْدَمَا

دَنَا مِنْ أَعَالِي إِيلِيَاءَ وَغَوْرَا

وَعَلَى مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَانِيهَا كَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَهْ) بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِهَا.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ) أَيْ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، زَادَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي آخِرِهِ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ أَيْ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي جَامِعِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ أَيْ صَالِحَةٌ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. وَيُخَصُّ هَذَا الْعُمُومُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّهْيُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ مَوْصُولًا وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مُعَلَّقًا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَذِكْرُ أُحُدٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُمَا ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَوْصُولًا هُنَاكَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) يَعْنِي أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ مَالِكٍ كمَا

ص: 409

رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ فَقَالَ بَدَلَ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ أنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ، وَأَبُو بَكْرٍ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ هُوَ الصِّدِّيقُ، وَقَدْ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ إِسْمَاعِيلَ فِي التَّفْسِيرِ وَلَفْظُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الْوَاقِعُ، وَكَأَنَّهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ نَسَبَهُ لِجَدِّهِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ ذِكْرَ هَذَا التَّعْلِيقِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الدَّعَوَاتِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الدَّعَوَاتِ أَيْضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي أَوَاخِرِ تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ، وَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَهِمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَعَزَا رِوَايَةَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ هَذِهِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الصَّلَاةِ عَنْ قَيْسِ بْنِ حَفْصٍ، وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَاغْتَرَّ بِذَلِكَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقَّنِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا أَحَالَ بِشَرْحِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَقَالَ: تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ تَبِعَ شَيْخَهُ مُغْلَطَايْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ صَنَعَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَصْلًا، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّعْوِيذِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى قَالَا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو حَفْصٍ الْأَبَّارُ فَرَّقَهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (عَنِ الْمِنْهَالِ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَالْإِسْنَادُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كُوفِيُّونَ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ فَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بَدَلَ سَعِيدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَفْصٍ الْأَبَّارِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ فَحَمَلَ رِوَايَةَ الْأَعْمَشِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْ رِوَايَةَ الْأَبَّارِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَاكُمَا) يُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَسَمَّاهُ أَبًا لِكَوْنِهِ جَدًّا عَلَا.

قَوْلُهُ: (بِكَلِمَاتِ اللَّهِ) قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا كَلَامُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقِيلَ أَقْضِيَتُهُ، وَقِيلَ مَا وَعَدَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} الْمُرَادُ بِالتَّامَّةِ: الْكَامِلَةُ، وَقِيلَ النَّافِعَةُ، وَقِيلَ الشَّافِيَةُ، وَقِيلَ الْمُبَارَكَةُ، وَقِيلَ الْقَاضِيَةُ الَّتِي تَمْضِي وَتَسْتَمِرُّ وَلَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ وَلَا يَدْخُلهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَعِيذُ بِمَخْلُوقٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ) يَدْخُلُ تَحْتَهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

قَوْلُهُ: (وَهَامَّةٍ) بِالتَّشْدِيدِ وَاحِدَةُ الْهَوَامِّ ذَوَاتِ السَّمُومِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا لَهُ سُمٌّ يَقْتُلُ فَأَمَّا مَا لَا يَقْتُلُ سُمُّهُ فَيُقَالُ لَهُ السَّوَامُّ، وَقِيلَ الْمُرَادُ كُلُّ نَسَمَةٍ تَهُمُّ بِسُوءٍ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ دَاءٍ وَآفَةٍ تُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جُنُونٍ وَخَبَلٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَصْلُهُ مِنْ أَلْمَمْتُ إِلْمَامًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَامَّةٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا ذَاتُ لَمَمٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَعْنِي أَنَّهَا تَأْتِي فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، وَقَالَ لَامَّةٌ لِيُؤَاخِيَ لَفْظَ هَامَّةٍ لِكَوْنِهِ أَخَفَّ عَلَى اللِّسَانِ.

‌11 - بَاب قَوْل الله عز وجل: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}

الْآيَةَ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الْآيَةَ

3372 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ

ص: 410

عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ.

[الحديث 3372 - أطرافه في: 3375، 3387، 4537، 4694، 6992]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ. لَا تَوْجَلْ: لَا تَخَفْ) كَذَا اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَالَ: سَاقَ الْآيَتَيْنِ بِلَا حَدِيثٍ انْتَهَى. وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عَقِبَ هَذَا فِي الْأَصْلِ بَيَاضٌ فَحُذِفَ. وَقِصَّةُ أَضْيَافِ إِبْرَاهِيمَ أَوْرَدَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مُبَيَّنَةً، وَفِيهَا أَنَّهُ لَمَّا قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْعِجْلَ قَالُوا: إِنَّا لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ لَهُ ثَمَنًا، قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ: تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ، قَالَ: فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَقَالَ: حُقَّ لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فَزِعَ مِنْهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ مُحْصَنٍ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةً: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَرَفَايِيلُ وَمِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ أَنَّ جِبْرِيلَ مَسَحَ بِجَنَاحَيْهِ الْعِجْلَ فَقَامَ يَدْرُجُ حَتَّى لَحِقَ بِأُمِّهِ فِي الدَّارِ.

قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} . كَذَا وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ مُتَّصِلًا بِالْبَابِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بَدَلَ قَوْلِهِ:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ بَابُ قَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، إِلَخْ وَسَقَطَ كُلُّ ذَلِكَ لِلنَّسَفِيِّ فَصَارَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَكْمِلَةَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَكَمُلَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عِشْرِينَ حَدِيثًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَسَعِيدٌ كَذَا قَالَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، الزُّهْرِيِّ فَقَالَ إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ لِلْمُصَنِّفِ قَرِيبًا، وَتَابَعَ مَالِكًا، أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَجَحَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ جَنَحَ إِلَى تَصْحِيحِ الطَّرِيقَيْنِ فَأَخْرَجَهُمَا مَعًا، وَهُوَ نَظَرٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ صَاحِبُ حَدِيثٍ، وَهُوَ المَعْرُوف بِالرِّوَايَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ هُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي حَدَّثَ بِهَا مَالِكٌ خَارِجَ الْمُوَطَّأ وَاشْتُهِرَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبَ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ) سَقَطَ لَفْظُ الشَّكِّ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالشَّكِّ هُنَا، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَحَمَلَهُ أَيْضًا الطَّبَرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَجَعَلَ سَبَبَهُ حُصُولَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، لَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَقِرَّ وَلَا زَلْزَلَتِ الْإِيمَانَ الثَّابِتَ، وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ وَيسوسُ بِهِ الشَّيْطَانُ، فَرَضِيَ اللَّهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِأَنْ قَالَ: بَلَى.

وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ عَطَاءٌ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: دَخَلَ قَلْبَ إِبْرَاهِيمَ

ص: 411

بَعْضُ مَا يَدْخُلُ قُلُوبَ النَّاسِ فَقَالَ ذَلِكَ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ تَوَزَّعَتْهَا الدَّوَابُّ وَالسِّبَاعُ وَمِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَتَى عَلَى جِيفَةِ حِمَارٍ عَلَيْهِ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ فَعَجِبَ وَقَالَ: رَبِّ لَقَدْ عَلِمْتُ لَتَجْمَعَنَّهَا، وَلَكِنْ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا اسْتَأْذَنَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَنْ يُبَشِّرَهُ فَأَذِنَ لَهُ فَذَكَرَ قِصَّةً مَعَهُ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ رُوحِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، قَالَ فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَدْعُو رَبَّهُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى حَتَّى أَعْلَمَ أَنِّي خَلِيلُكَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْخُلَّةِ وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أَنِّي خَلِيلُكَ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَعْلَمَ أَنَّكَ أَجَبْتَ دُعَائِي. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ لِأَعْلَمَ أَنَّكَ تُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ.

وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ جَنَحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ أَنَّهُ قَالَ: طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ لِتَذْهَبَ عَنْهُ شِدَّةُ الْخَوْفِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنِ ; وَقِيلَ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نُمْرُودَ لَمَّا قَالَ لَهُ مَا رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَذَكَرَ مَا قَصَّ اللَّهُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُمَا، فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِنْهُ فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَاشْتَاقَ إِلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِحُصُولِ مَا أَرَادَهُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْمُرَادُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَقْدِرْنِي عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَتَأَدَّبَ فِي السُّؤَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْحِصَارِ: إِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ الْمَوْتَى عَلَى يَدَيْهِ فَلِهَذَا قِيلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {قَلْبِي} رَجُلًا صَالِحًا كَانَ يَصْحَبُهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْقُلُوبَ، وَقِيلَ: أَرَادَ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ، وَقِيلَ: مَحَبَّةُ الْمُرَاجَعَةِ فِي السُّؤَالِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ نَحْنُ أَشَدُّ اشْتِيَاقًا إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا لَمْ نَشُكَّ نَحْنُ فَإِبْرَاهِيمُ أَوْلَى أَنْ لَا يَشُكَّ، أَيْ لَوْ كَانَ الشَّكُّ مُتَطَرِّقًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَكُنْتُ أَنَا أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَشُكَّ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ، أَوْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، قَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ نَبِيُّنَا فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ آخَرَ شَيْئًا قَالَ: مَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَقُولَهُ لِفُلَانٍ فَقُلْهُ لِي، وَمَقْصُودُهُ لَا تَقُلْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمَّتُهُ الَّذِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ وَإخْرَاجُهُ هُوَ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْعِصْمَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ شَكَّ أَنَا أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ إِنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِمَزِيدِ الْبَيَانِ.

وَحَكَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَفْعَلَ رُبَّمَا جَاءَتْ لِنَفْيِ الْمَعْنَى عَنِ الشَّيْئَيْنِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} أَيْ لَا خَيْرَ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَنَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: الشَّيْطَانُ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ لَا خَيْرَ فِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، لَا شَكَّ عِنْدَنَا جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَرْجَمَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: شَكَّ إِبْرَاهِيمُ فِي الْقُدْرَةِ. وَذَكَرَ أَثَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَحْمَلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدِي أَنَّهَا أَرْجَى آيَةٍ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ وَسُؤَالِ الْإحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَكْفِي فِيهِ الْإِجْمَالُ

ص: 412

وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَنْقِيرٍ وَبَحْثٍ. قَالَ: وَمَحْمَلُ قَوْلِ عَطَاءٍ دَخَلَ قَلْبَ إِبْرَاهِيمَ بَعْضُ مَا يَدْخُلُ قُلُوبَ النَّاسِ أَيْ مِنْ طَلَبِ الْمُعَايَنَةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى نَفْيِ الشَّكِّ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ فِيهِ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تَثْبُتُ، وَأَمَّا الشَّكُّ الْمُصْطَلَحُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنِ الْخَلِيلِ قَطْعًا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ وُقُوعُهُ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ. قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ السُّؤَالَ لَمَّا وَقَعَ بِكَيْفَ دَلَّ عَلَى حَالِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ مُقَرَّرٍ عِنْدَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ عِلْمُ فُلَانٍ؟ فَكَيْفَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ عَنْ هَيْئَةِ الْإِحْيَاءِ لَا عَنْ نَفْسِ الْإِحْيَاءِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مُقَرَّرٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا صَارَ أَحَقَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِمَا عَانَى مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِ وَتَعَجُّبِهِمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ أَسْأَلَ مَا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ لِعَظِيمِ مَا جَرَى لِي مَعَ قَوْمِي الْمُنْكِرِينَ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَلِمَعْرِفَتِي بِتَفْضِيلِ اللَّهِ لِي، وَلَكِنْ لَا أَسْأَلُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ طَلَبُ الْكَيْفِيَّةِ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّصْدِيقِ بِالْإِحْيَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أَيْ لِيَزِيدَ سُكُونًا بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ تَظَاهُرَ الْأَدِلَّةِ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا مُصَدِّقٌ، وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنًى. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَكِنْ أَرَادَ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ لِمُشَاهَدَةِ الْإِحْيَاءِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ بِوُقُوعِهِ، وَأَرَادَ الْعِلْمَ الثَّانِيَ بِكَيْفِيَّتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ زِيَادَةَ الْيَقِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَوَّلِ شَكٌّ لِأَنَّ الْعُلُومَ قَدْ تَتَفَاوَتُ فِي قُوَّتِهَا فَأَرَادَ التَّرَقِّيَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا إِلَخْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا فِي تَرْجَمَةِ لُوطٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) أَيْ لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ فِي الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَلَمَا قَدَّمْتُ طَلَبَ الْبَرَاءَةِ، فَوَصَفَهُ بِشِدَّةِ الصَّبْرِ حَيْثُ لَمْ يُبَادِرْ بِالْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم تَوَاضُعًا، وَالتَّوَاضُعُ لَا يَحُطُّ مَرْتَبَةَ الْكَبِيرِ بَلْ يَزِيدُهُ رِفْعَةً وَجَلَالًا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمِيعِ، وَسَيَأْتِي تَكْمِلَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ.

‌12 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}

3373 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الشَّهَادَاتِ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ صَادِقَ الْوَعْدِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَاحْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا مَعَ ابْنِ فُلَانٍ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ وَكَذَا هُوَ فِي الْجِهَادِ، قِيلَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَسْمِيَةُ

ص: 413

ابْنِ الْأَدْرَعِ فِي الْجِهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ إِسْمَاعِيلَ فِيمَا مَضَى قَرِيبًا.

‌13 - بَاب قِصَّةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام،

فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (قِصَّةُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا حَمَلَتْ بِإِسْمَاعِيلَ غَارَتْ سَارَةُ فَحَمَلَتْ بِإِسْحَاقَ فَوَضَعَتَا مَعًا فَشَبَّ الْغُلَامَانِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ خِلَافُ ذَلِكَ وَأَنَّ بَيْنَ مَوْلِدِهِمَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى مَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَمْ يَقِفِ الْبُخَارِيُّ عَلَى سَنَدِهِ فَأَرْسَلَهُ، وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَقَاصِدَ الْبُخَارِيِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَثْبَتَ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا لَا يَعْرِفُ لَهُ سَنَدًا وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَلَمْ تَجْرِ لِلْبُخَارِيِّ بِذَلِكَ عَادَةٌ حَتَّى يَحْمِلَ هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَيْهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: قَوْلُهُ فِيهِ - أَيِ الْبَابِ - حَدِيثٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَيْهِ إِجْمَالًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطِهِ اهـ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنْتُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌14 - بَاب: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} - إلى قوله - ونحن له مسلمون.

3374 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: أَفَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} الآية) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، الْحَدِيثَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، الْآيَةَ فِي سِيَاقِ نَسَبِ يُوسُفَ عليه السلام، فَإِنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ أَنَّ يَعْقُوبَ خَاطَبَ أَوْلَادَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لَهُ أَوْلَادُهُ: إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إِلَهَهُ وَإِلَهَ آبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ يُوسُفُ عليهم السلام، فَنَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى نَسَبِ يُوسُفَ وَأَنَّهُ ابْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ أَنْبِيَاءُ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ) أَيْ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ وَهُمْ يَحْذِفُونَ أَنَّهُ خَطًّا كَمَا يَحْذِفُونَ قَالَ: خَطًّا وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِمَا لَفْظًا. وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ) هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

قَوْلُهُ: (قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ) الْجَوَابُ الْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشَّرَفِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرَفِ بِالنَّسَبِ الصَّالِحِ.

قَوْلُهُ: (أَفَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ) أَيْ أُصُولِهِمُ الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَاخَرُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ مَعَادِنَ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْمُتَفَاوِتِ، أَوْ شَبَّهَهُمْ بِالْمَعَادِنِ لِكَوْنِهِمْ أَوْعِيَةَ الشَّرَفِ كَمَا أَنَّ الْمَعَادِنَ أَوْعِيَةٌ لِلْجَوَاهِرِ.

قَوْلُهُ:

ص: 414

(فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ خِيَارُكُمْ جَمْعُ خَيِّرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، تَقُولُ فِي الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَأَخْيَرُ ثُمَّ الْقِسْمَةُ رُبَاعِيَّةٌ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّرَفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالشَّرَفِ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ شَرَفُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ جِهَةِ مُلَاءَمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ خُصُوصًا بالِانْتِسَابِ إِلَى الْآبَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ، ثُمَّ الشَّرَفُ فِي الْإِسْلَامِ بِالْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا، ثُمَّ أَرْفَعُهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ التَّفَقُهَ فِي الدِّينِ، وَمُقَابِلُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَشْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ مَشْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا أَدْنَى الْمَرَاتِبِ ; وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَنْ شَرُفَ في الْإِسْلَامِ وَفَقِهَ وَلَمْ يَكُنْ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَدُونُهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ صَارَ مَشْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنْ تَفَقَّهَ فَهُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الشَّرِيفِ الْجَاهِلِ.

‌15 - بَاب: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ

* أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ}

3375 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} يُقَالُ: إِنَّهُ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ تَارِخَ وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وَالصَّافَّاتِ وَغَيْرِهَا، وَحَاصِلُهَا أَنَّهُمِ ابْتَدَعُوا وَطْءَ الذُّكُورِ فَدَعَاهُمْ لُوطٌ إِلَى التَّوْحِيدِ وإِلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الْفَاحِشَةِ فَأَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنْ يُسَاعِدَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَانَتْ مَدَائِنُهُمْ تُسَمَّى سَدُومَ وَهِيَ بِغَوْرِ زَغْرٍ مِنَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ بَعَثَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَاسْتَضَافُوهُ فَكَانَ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَوَجَّهُوا إِلَى لُوطٍ فَاسْتَضَافُوهُ فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ خَبَرَهُمْ فَنَمَّتْ عَلَيْهِمُ امْرَأَتُهُ فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَعَاتَبُوهُ عَلَى كِتْمَانِهِ أَمْرَهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ فَقَلَبَ مَدَائِنَهُمْ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ لُوطٌ بِأَهْلِ بَيْتِهِ، إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا تَأَخَّرَتْ مَعَ قَوْمِهَا أَوْ خَرَجَتْ مَعَ لُوطٍ فَأَدْرَكَهَا الْعَذَابُ، فَقَلَبَ جِبْرِيلُ الْمَدَائِنَ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَصَارَ عَالِيهَا سَافِلَهَا وَصَارَ مَكَانُهَا بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً لَا يُنْتَفَعُ بِمَائِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهَا.

قَوْلُهُ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أَيْ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، يُشِيرُ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَيُقَالُ: إِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ سَدُومَ وَهِيَ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ أَصْلُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ مِنَ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ هَاجَرَ مَعَهُ لُوطٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مَنَعَةً وَأَقَارِبَ وَعَشِيرَةً لَكُنْتُ أَسْتَنْصِرُ بِهِمْ عَلَيْكُمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ ضِيفَانِي، وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ لُوطٌ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} قَالَ: فَإِنَّهُ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَكِنَّهُ عَنَى عَشِيرَتَهُ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا

ص: 415

فِي ذِرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، زَادَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ:{وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أَيْ إِلَى عَشِيرَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْوِ إِلَيْهِمْ وَأَوَى إِلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ أَنَّهُ لَمَّا انْدَهَشَ بِحَالِ الْأَضْيَافِ قَالَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ فِي بَاطِنِهِ وَأَظْهَرَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَضْيَافِ اعْتِذَارًا، وَسَمَّى الْعَشِيرَةَ رُكْنًا لِأَنَّ الرُّكْنَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ وَيُمْتَنَعُ بِهِ فَشَبَّهَهُمْ بِالرُّكْنِ مِنَ الْجَبَلِ لِشِدَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ تَفْسِيرُ الرُّكْنِ بِلَفْظٍ آخَرَ.

‌16 - بَاب: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ،

{بِرُكْنِهِ} بِمَنْ مَعَهُ لِأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ، {تَرْكَنُوا} تَمِيلُوا، فَأَنْكَرَهُمْ ونَكِرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ، {يُهْرَعُونَ} يُسْرِعُونَ، دَابِرٌ: آخِرٌ، صَيْحَةٌ: هَلَكَةٌ، {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ، {لَبِسَبِيلٍ} لَبِطَرِيقٍ

3376 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

قَوْلُهُ: (بَابُ: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَيْ أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ.

قَوْلُهُ: {بِرُكْنِهِ} بِمَنْ مَعَهُ لِأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ) هُوَ تَفْسِيرُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} وَبِجَانِبِهِ سَوَاءٌ، إِنَّمَا يَعْنِي نَاحِيَتَهُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أَيْ ع شِيرَةٍ عَزِيزَةٍ مَنِيعَةٍ. كَذَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي قِصَّةِ لُوطٍ، وَهُوَ وَهْمٌ فَإِنَّهَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ تِلْوَ قِصَّةِ لُوطٍ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ قِصَّةِ لُوطٍ:{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أَوْ ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا لِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}

قَوْلُهُ: {تَرْكَنُوا} تَمِيلُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لَا تَعْدِلُوا إِلَيْهِمْ وَلَا تَمِيلُوا، تَقُولُ: رَكَنْتُ إِلَى قَوْلِكَ أَيْ أَحْبَبْتُهُ وَقَبِلْتُهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ لُوطٍ أَصْلًا. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ أَجْلِ مَادَّةِ رَكَنَ بِدَلِيلِ إِيرَادِهِ الْكَلِمَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ وَلَا تَرْكَنُوا.

قَوْلُهُ: (فَأَنْكَرَهُمْ وَنَكِرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَكِرَهُمْ وَأَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُمْ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ الْإِنْكَارِ مِنْ لُوطٍ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَنْكَرَهُمْ لَمَّا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامِهِ، وَأَمَّا لُوطٌ فَأَنْكَرَهُمْ لَمَّا لَمْ يُبَالُوا بِمَجِيءِ قَوْمِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَهَا تَعَلُّقٌ مَعَ كَوْنِهَا لِإِبْرَاهِيمَ بِقِصَّةِ لُوطٍ.

قَوْلُهُ: (يُهْرَعُونَ يُسْرِعُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أَيْ يَسْتَحِثُّونَ إِلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

بِمُعَجَّلَاتٍ نَحْوَهُمْ نُهَارِعُ،

أَيْ نُسَارِعُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُزْعِجُونَ مَعَ الْإِسْرَاعِ.

قَوْلُهُ: (دَابِرَ آخِرَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ} أَيْ آخِرَهُمْ.

قَوْلُهُ: {صَيْحَةً} هَلَكَةً) هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وَلَمْ أَعْرِفْ وَجْهَ دُخُولِهِ هُنَا، لَكِنْ لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْمِ لُوطٍ.

قَوْلُهُ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَيْ لِلْمُتَفَكِّرِينَ، وَيُقَالُ: لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَفَرِّسِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيِ الْمُتَبَصِّرِينَ الْمُتَثَبِّتِينَ.

قَوْلُهُ: {لَبِسَبِيلٍ} لَبِطَرِيقٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ ; وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {وَإِنَّهَا} يَعُودُ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْآيَاتِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يَعْنِي بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْقَمَرِ.

(تَنْبِيهَانِ):

أَحَدُهُمَا: هَذِهِ التَّفَاسِيرُ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ.

(ثَانِيهِمَا): أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذَا قِصَّةَ ثَمُودَ وَصَالِحٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُهَا فِي مَكَانِهَا عَقِبَ قِصَّةِ عَادٍ وَهُودٍ، وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي إِيرَادِهَا هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَوْرَدَ التَّفَاسِيرَ مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ كَانَ آخِرُهَا قَوْلَهُ:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} ، {إِنَّ

ص: 416

فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} إِلَخْ، فَجَاءَتْ قِصَّةُ ثَمُودٍ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحِجْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَالِيَةً لِقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ مُخْتَصَرَةً فَأَوْرَدَهَا مَنْ أَوْرَدَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الِاعْتِذَارَ عَنْ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى.

‌18 - باب: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت.

3382 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام.

[الحديث 3382 - طرفاه في: 3390، 4688]

قَوْلُهُ: (بَابُ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) كَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ هُنَا وَهِيَ مُكَرَّرَةٌ كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا، وَالصَّوَابُ أَنَّ حَدِيثَهَا تِلْوَ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهَا وَهِيَ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ عليه السلام، وَقَوْلُهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ.

قَوْلُهُ: (يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنِ السَّيِّدُ؟ قَالَ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ، قَالُوا: فَمَا فِي أُمَّتِكَ سَيِّدٌ؟ قَالَ: رَجُلٌ أُعْطِيَ مَالًا حَلَالًا وَرُزِقَ سَمَاحَةً. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

‌19 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}

3383 -

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا.

أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَني عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

3384 -

حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: مُرِي أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَتْ: إِنَّهُ رَجُلٌ أَسِيفٌ، مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ رَقَّ فَعَادَ، فَعَادَتْ، قَالَ شُعْبَةُ: فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ - أَوْ الرَّابِعَةِ -: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ. . .

3385 -

حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي

ص: 417

مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ كَذَا - فَقَالَ مِثْلَهُ، فَقَالَتْ مِثْلَهُ - فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، فَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ: رَجُلٌ رَقِيقٌ.

3386 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.

3387 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ ابْنُ أَخِي جُوَيْرِيَةَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَأَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ.

3388 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ رُومَانَ وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ لمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ، قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ عَائِشَةَ جَالِسَتَانِ، إِذْ وَلَجَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهِيَ تَقُولُ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلَانٍ وَفَعَلَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ نَمَى ذِكْرَ الْحَدِيثِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَيُّ حَدِيثٍ؟ فَأَخْبَرَتْهَا، قَالَتْ: فَسَمِعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا لِهَذِهِ؟ قُلْتُ: حُمَّى أَخَذَتْهَا مِنْ أَجْلِ حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ، فَقَعَدَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تُصَدِّقُوننِي، وَلَئِنْ اعْتَذَرْتُ لَا تَعْذِرُوننِي، فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، واللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ، فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِ أَحَدٍ.

[الحديث 3388 - أطرافه في: 4143، 4691، 4751]

3389 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتِ قَوْلَ الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أَوْ كُذِبُوا؟ قَالَتْ: بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ، فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ، لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا: أَوْ كُذِبُوا، قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ

ص: 418

النَّصْرُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:{اسْتَيْأَسُوا} اسْتَفْعَلُوا مِنْ يَئِسْتُ، {مِنْهُ} مِنْ يُوسُفَ:{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ من الرَّجَاءُ.

[الحديث 3389 - أطرافه في: 4525، 4695، 4696]

3390 -

أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام".

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} اسْمُ إِخْوَةِ يُوسُفَ: رُوبِيلُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ، وَشَمْعُونُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَدَانِي، وَنَفْتَالِي بِفَاءٍ وَمُثَنَّاةٍ، وَكَادُ، وَأُشِيرُ، وَأَيْسَاجِرُ، وَرَايْلُونُ، وَبِنْيَامِينُ، وَهُمُ الْأَسْبَاطُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فَقِيلَ: كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَيُقَالُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْأَسْبَاطِ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَدَدٌ كَثِيرٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَكْرَمِ النَّاسِ أَيْ أَصْلًا، ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

ثَانِيهَا: قَالَ فِيهِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ. وَوَقَعَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.

الحديث الثَّانِي حَدَيثُ عَائِشَةَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ.

وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْبَصْرِيِّ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ تَصْحِيفٌ مِنَ الْبَصْرِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُنَاسَبَتِهِ هُنَاكَ، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ يُوسُفَ مُطَوَّلَةً فِي سُورَةٍ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قِصَّةً لِغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ، لَوْلَا الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا - {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} - مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ.

الثالث: حديث أبي موسى في المعنى وقد تقدم أيضا.

الرَّابِعُ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، الْمُرَادُ بِسِنِي يُوسُفَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ فِي زَمَانِهِ، وَيُقَالُ: اسْمُ الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى الرُّؤْيَا الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ ذُرِّيَّةِ لَاوِذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.

الْخَامِسُ: حَدِيثُهُ فِي ذِكْرِ لُوطٍ وَيُوسُفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ.

السَّادِسُ حَدِيثُ أُمِّ رُومَانَ وَالِدَةِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، أَوْرَدَهُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِيهِ: فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ النُّورِ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقُلْتُ: مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا قِيلَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِانْقِطَاعِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

السَّابِعُ: حَدَيثُ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ.

قَوْلُهُ: {اسْتَيْأَسُوا} اسْتَفْعَلُوا مِنْ يَئِسْتُ، مِنْهُ مِنْ يُوسُفَ) وَقَعَ فِي

ص: 419

كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ افْتَعَلُوا وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا} أَيْ: لَمَّا حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ يُوسُفَ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ مِنَ الرَّجَاءِ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

(تَنْبِيهٌ):

مُطَابَقَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وُقُوعُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ وَدُخُولُهُ هُوَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} وَكَانَ مُقَامُهُ فِي السِّجْنِ تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إِلَى أَنْ جَاءَهُ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْيَأْسِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ الْفَتَى الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ أَنْ يَذْكُرَ قِصَّتَهُ وَأَنَّهُ حُبِسَ ظُلْمًا، فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ فِي الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلَ هَذَا. وَعَبْدَةُ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ.

‌20 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ،

{ارْكُضْ} اضْرِبْ، {يَرْكُضُونَ} يَعْدُونَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} الْآيَةَ) يُقَالُ: هُوَ أَيُّوبُ بْنُ سَارِي بْنُ رِغْوَالَ بْنِ عِيصُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: اسْمُ أَبِيهِ مَوْصُ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَوْصُ بْنُ رُزَاحَ بْنِ عِيصَ، وَقِيلَ: أَيُّوبُ بْنُ رُزَاحَ بْنِ مَوْصَ بْنِ عِيصُو، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ بَيْنَ مَوْصَ، وَعِيصَ لِيَقْرَنَ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ رُومِ بْنِ عِيصَ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ، وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ عليه السلام وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعَلَى هَذَا فَكَانَ قَبْلَ مُوسَى. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَصِحَّ فِي نَسَبِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ امْصُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: كَانَ بَعْدَ شُعَيْبٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: كَانَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ عِيصُو تَزَوَّجَ بشمت بِنْتَ عَمِّهِ إِسْمَاعِيلَ فَرُزِقَ مِنْهَا رِغْوَالُ وَهُوَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: {ارْكُضْ} اضْرِبْ، يَرْكُضُونَ: يَعْدُونَ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} قَالَ: ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَإِذَا عَيْنَانِ تَنْبُعَانِ فَشَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أَيْ يَهْرُبُونَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لا تَرْكُضُوا} أَيْ لَا تَفِرُّوا.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا أَيُّوبُ) أَصْلُ بَيْنَا بَيْنَ أُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ، وَيَغْتَسِلُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَيْهِ وَالْعَامِلُ خَرَّ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ مُقَدَّرٌ وَخَرَّ مُفَسِّرٌ لَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ.

قَوْلُهُ: (عُرْيَانًا) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (خَرَّ عَلَيْهِ) أَيْ سَقَطَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:(رِجْلُ جَرَادٍ) أَيْ جَمَاعَةُ جَرَادٍ، وَالْجَرَادُ اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ، وَحَكَى ابْنُ سِيدَهْ أَنَّهُ يُقَالُ لِلذَّكَرِ جَرَادٌ وَلِلْأُنْثَى جَرَادَةٌ.

قَوْلُهُ: (يَحْثِي) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَأْخُذُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ يَلْتَقِطُ.

قَوْلُهُ: (فِي ثَوْبِهِ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي

ص: 420

حَاتِمٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَنْشُرُ طَرَفَ ثَوْبِهِ فَيَأْخُذُ الْجَرَادَ فَيَجْعَلُهُ فِيهِ فَكُلَّمَا امْتَلَأَتْ نَاحِيَةٌ نَشَرَ نَاحِيَةً.

قَوْلُهُ: (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ بَلَى) أَيْ أَغْنَيْتَنِي.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي) بِالْقَصْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَخَبَرُ لَا قَوْلُهُ لِي أَوْ قَوْلُهُ عَنْ بَرَكَتِكَ، وَفِي رِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ فَقَالَ: وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ أَوْ قَالَ: مِنْ فَضْلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَلَالِ فِي حَقِّ مَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَرَكَةً، وَفِيهِ فَضْلُ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْأَخِيرَةِ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْخَطَّابِيُّ جَوَازَ أَخْذِ النُّثَارِ فِي الْأَمْلَاكِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ، وَهُوَ بِخِلَافِ النُّثَارِ فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّ فَيُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّرَفِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ، وَيُسْتَأْنَسُ فِيهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ شَيْءٌ، فَاكْتَفَى بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي عَلَى شَرْطِهِ. وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي قِصَّتِهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام ابْتُلِيَ فَلَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ فَكَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا عَظِيمًا وَإِلَّا لَكُشِفَ عَنْهُ هَذَا الْبَلَاءُ، فَذَكَرَهُ الْآخَرُ لِأَيُّوبَ، يَعْنِي فَحَزِنَ وَدَعَا اللَّهَ حِينَئِذٍ فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ وَأَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا فَرَغَ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا فَرَجَعَ صَحِيحًا، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَيُّوبَ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا هُوَ، وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلْقَمْحِ، وَالْآخَرُ: لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ سَحَابَةً فَأَفْرَغَتْ فِي أَنْدَرِ الْقَمْحِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَفِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْفِضَّةَ حَتَّى فَاضَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: فَكَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ أَبْصَرْتَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هُنَا، فَلَعَلَّ الذِّئَابَ ذَهَبَتْ بِهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا هُوَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ فَسَجَدَ وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَكَشَفَ عَنْهُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ عَلَى امْرَأَتِهِ شَبَابَهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا. وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ قِصَّةً مُطَوَّلَةً جِدًّا وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ يحُورَانَ، وَكَانَ لَهُ الْبَثْنِيَّةُ سَهْلُهَا وَجَبَلُهَا، وَلَهُ أَهْلٌ وَمَالٌ كَثِيرٌ وَوَلَدٌ، فَسُلِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، ثُمَّ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَاءِ حَتَّى أُلْقِيَ خَارِجًا مِنَ الْبَلَدِ، فَرَفَضَهُ النَّاسُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، فَبَلَغَ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُ بِالْأُجْرَةِ وَتُطْعِمُهُ إِلَى أَنْ تَجَنَّبَهَا النَّاسُ خَشْيَةَ الْعَدْوَى فَبَاعَتْ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، وَكَانَتْ طَوِيلَةً حَسَنَةً، فَاشْتَرَتْ لَهُ بِهِ طَعَامًا طَيِّبًا، فَلَمَّا أَحْضَرَتْهُ لَهُ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ لَهَا ذَلِكَ، فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا، فَاشْتَدَّ حُزْنُهُ وَقَالَ حِينَئِذٍ:{رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فَعَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ.

وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَكَلَ أَيُّوبُ وَلَمْ يُسَمِّ عُوفِيَ، فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَى أَيُّوبَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةً، فَلَمَّا عُوفِيَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ عُرْجُونًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَيضَرِبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: بَلْ قَعَدَ إِبْلِيسُ عَلَى الطَّرِيقِ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَاوَيْتُهُ فَقَالَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي قَنَعْتُ بِذَلِكَ، فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَغَضِبَ وَكَانَ مَا كَانَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ اسْمَهَا لِيَا بِنْتُ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ: رَحْمَةُ

ص: 421

بِنْتُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ: بِنْتُ إِفْرَائِيمَ أَوْ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ، وَأَفَادَ ابْنُ خَالَوَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهَا أُمُّ زَيْدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ بَلَائِهِ فَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ ثَلَاثُ سِنِينَ وَهَذَا قَوْلُ وَهْبٍ، وَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ وَهُوَ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لَهُ: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لِيُعَافِيَكَ فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ صَحِيحًا سَبْعِينَ سَنَةً أَفَلَا أَصْبِرُ سَبْعَ سِنِينَ؟ وَالصَّحِيحُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِهِ كَانَتْ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، فَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ عَاشَ بَعْدَ أَنْ عُوفِيَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌21 - بَاب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}

كَلَّمَهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَللْاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ نَجِيٌّ وَيُقَالُ خَلَصُوا نَجِيًّا: اعْتَزَلُوا نَجِيًّا، وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إلى {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [28 غافر]

3392 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَ: "قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ رَجُلًا تَنَصَّرَ يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ وَرَقَةُ مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى وَإِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا".

النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} - إِلَى قَوْلِهِ - نَجِيًّا) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَوْلُ اللَّهِ: وَاذْكُرْ، إِلَخْ وَلَيْسَ فِيهِ بَابٌ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} .

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: وَالْجَمْعُ نَجِيٌّ (وَيُقَالُ: خَلَصُوا اعْتَزَلُوا، نَجِيًّا وَالْجَمْعُ أَنْجِيَةٌ، يَتَنَاجَوْنَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَصُوا نَجِيًّا} أَيِ اعْتَزَلُوا نَجِيًّا يَتَنَاجَوْنَ، وَالنَّجِيُّ يَقَعُ لَفْظُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ أَيْضًا. وَقَدْ يُجْمَعُ فَيُقَالُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ، قَالَ لَبِيدٌ:

وَشَهِدَتْ أَنْجِيَةَ الْإِفَاقَةِ عَالِيًا

كَعْبِي، وَأَرْدَافُ الْمُلُوكِ شُهُودُ

وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَانَ بْنِ لَاهِبِ بْنِ عَازِرِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عليه السلام لَا اخْتِلَافَ فِي نَسَبِهِ، ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ بَدْءَ أَمْرِ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى كَأَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَقَتْ دُورَ مِصْرَ وَجَمِيعَ الْقِبْطِ إِلَّا دُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَمَعَ الْكَهَنَةَ وَالسَّحَرَةَ فَقَالُوا: هَذَا غُلَامٌ يُولَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ خَرَابُ مِصْرَ عَلَى يَدِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ، فَلَمَّا وُلِدَ مُوسَى أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، قَالُوا: فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَإِذَا خَافَتْ عَلَيْهِ جَعَلَتْهُ فِي تَابُوتٍ وَأَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَجَعَلَتِ الْحَبْلَ عِنْدَهَا، فَنَسِيَتِ الْحَبْلَ يَوْمًا فَجَرَى بِهِ النِّيلُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ فِرْعَوْنَ، فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، فَفَتَحَتِ التَّابُوتَ فَرَأَتْهُ

ص: 422

فَأَعْجَبَهَا، فَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْ فِرْعَوْنَ فَوَهَبَهُ لَهَا، فَرَبَّتْهُ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.

قَوْلُهُ: (تَلْقَفُ: تَلْقَمُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى.

قَوْلُهُ: (النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ) هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ خَصَّهُ بِسِرِّ الْخَبرِ.

‌22 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ،

{آنَسْتُ} أَبْصَرْتُ، {نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُقَدَّسُ: الْمُبَارَكُ، {طُوًى} اسْمُ الْوَادِي، {سِيرَتَهَا} حَالَتَهَا، وَ:{النُّهَى} التُّقَى، {بِمَلْكِنَا} بِأَمْرِنَا، {هَوَى} شَقِيَ، {فَارِغًا} إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، {رِدْءًا} كَيْ يُصَدِّقَنِي، وَيُقَالُ: مُغِيثًا أَوْ مُعِينًا، يَبْطُشُ ويَبْطِشُ، {يَأْتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ، وَالْجِذْوَةُ: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ، {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ، أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ عُقْدَةٌ، {أَزْرِي} ظَهْرِي، {فَيُسْحِتَكُمْ} فَيُهْلِكَكُمْ، {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ، يَقُولُ: بِدِينِكُمْ، يُقَالُ: خُذْ الْمُثْلَى خُذْ الْأَمْثَلَ، {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ: هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ؟ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ، {فَأَوْجَسَ} أَضْمَرَ خَوْفًا، فَذَهَبَتْ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} عَلَى جُذُوعِ، {خَطْبُكَ} بَالُكَ، {مِسَاسَ} مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا، {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنُذْرِيَنَّهُ، الضَّحَاءُ: الْحَرُّ، {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ تَقُصَّ الْكَلَامَ:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} ، {عَنْ جُنُبٍ} عَنْ بُعْدٍ، وَعَنْ جَنَابَةٍ وَعَنْ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ:{عَلَى قَدَرٍ} مَوْعِدٌ، {وَلا تَنِيَا}: لَا تَضْعُفَا، {يَبَسًا} يَابِسَا، {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} الْحُلِيِّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَذَفْتُهَا: أَلْقَيْتَهَا، {أَلْقَى} صَنَعَ، {فَنَسِيَ} مُوسَى: هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبَّ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قَوْلًا

فِي الْعِجْلِ.

3393 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. تَابَعَهُ ثَابِتٌ وَعَبَّادُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قوله (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} سَقَطَ لَفْظُ بَابُ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ.

قَوْلُهُ: {آنَسْتُ} أَبْصَرْتُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ

ص: 423

نَارًا} أَيْ أَبْصَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ، {طُوًى} اسْمُ الْوَادِي) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا التَّفْسِيرُ وَمَا بَعْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ خَاصَّةً وَلَمْ يَذْكُرْهُ جَمِيعُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ هُنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا بَعْضَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طه، وَهَا أَنَا أَشْرَحُهُ هُنَا وَأُبَيِّنُ إِذَا أُعِيدَ فِي تَفْسِيرِ طه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سَبَقَ مِنْهُ هُنَا. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَرَوَى هُوَ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُمِّيَ طُوًى لِأَنَّ مُوسَى طَوَاهُ لَيْلًا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طَوَيْتُهُ وَهُوَ مَصْدَرٌ أُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَوَيْتُ الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ طُوًى. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ طُوًى أَيْ طَأ الْأَرْضَ حَافِيًا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْ طَأِ بالْوَادِيَ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: قِيلَ لَهُ طُوًى لِأَنَّهُ قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَالَ آخَرُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ طُوًى أَيْ ثُنًى، أَيْ نَادَاهُ رَبُّهُ مَرَّتَيْنِ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ، وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ شَاهِدًا قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:

أَعَاذِلُ إِنَّ اللَّوْمَ فِي غَيْرِ حِينِهِ

عَلَيَّ طُوًى مِنْ غَيِّكَ الْمُتَرَدّ دِ

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طِوًى بكْسَرُ أَوَّلَهُ قَوْمٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدَى آخِرِ الدَّهْرِ،

قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ طُوًى اسْمَ أَرْضٍ لَمْ يُنَوِّنْهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمَ الْوَادِي صَرَفَهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى نُودِيَ مَرَّتَيْنِ صَرَفَهُ، تَقُولُ: نَادَيْتُهُ ثُنًى وَطُوًى أَيْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ.

قَوْلُهُ: {سِيرَتَهَا} حَالَتَهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} يَقُولُ حَالَتَهَا الْأُولَى، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ سِيرَتَهَا هَيْئَتَهَا.

قَوْلُهُ: (وَ {النُّهَى} التُّقَى) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} قَالَ: لِأُولِي التُّقَى. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ لِأُولِي النُّهَى: لِأُولِي الْوَرَعِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: خَصَّ أُولِي النُّهَى لِأَنَّهُمْ أَهْلُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ.

قَوْلُهُ: {بِمَلْكِنَا} بِأَمْرِنَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يَقُولُ: بِأَمْرِنَا، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ {بِمَلْكِنَا} أَيْ بِطَاقَتِنَا وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ ; وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَيْدٍ بِهَوَانَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِرَاءَةِ فِي مِيمِ مَلْكِنَا فَقَرَءُوا بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ.

قَوْلُهُ: {هَوَى} شَقِيَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} قَالَ: يَعْنِي شَقِيَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.

قَوْلُهُ: {فَارِغًا} إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} قَالَ: مِنْ كُلٍّ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَارِغًا لَا تَذْكُرُ إِلَّا مُوسَى وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ نَحْوَهُ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَصْبَحَ فَارِغًا مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهَا أَنَّهُ سَيَرُدُّ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {فَارِغًا} أَيْ مِنَ الْحُزْنِ لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ. وَرَدَّ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَأُمُّ مُوسَى اسْمُهَا بَادُونَا وَقِيلَ: أباذخت وَيُقَالُ يوحاند.

قَوْلُهُ: (رِدْءًا كَيْ يُصَدِّقَنِي) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ،

ص: 424

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيُّ قَالَ: كَيْمَا يُصَدِّقَنِي، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ {رِدْءًا} أَيْ عَوْنًا.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ مُغِيثًا أَوْ مُعِينًا) يَعْنِي بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ ; قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} أَيْ مُعِينًا، يُقَالُ فِيهِ أَرْدَأْتُ فُلَانًا عَلَى عَدُوِّهِ أَيْ أَكْنَفْتُهُ وَأَعَنْتُهُ، أَيْ صِرْتُ لَهُ كَنَفًا.

قَوْلُهُ: (يَبْطِشُ وَيَبْطُشُ) يَعْنِي بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِضَمِّهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} بِالطَّاءِ مَكْسُورَةً وَمَضْمُومَةً لُغَتَانِ. قُلْتُ: الْكَسْرُ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} وَالضَّمُّ قِرَاءَةُ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: {يَأْتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أَيْ يَهُمُّونَ بِكَ وَيَتَآمَرُونَ وَيَتَشَاوَرُونَ انْتَهَى. وَهِيَ بِمَعْنَى يَتَآمَرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً

وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرُ

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}

قَوْلُهُ: (وَالْجَذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الْخَشَبِ لَيْسَ لَهَا لَهَبٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أَيْ قِطْعَةٍ غَلِيظَةٍ مِنَ الْحَطَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا

جَزْلَ الْجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلَا دَعِرِ

وَالْجَذْوَةُ مُثَلَّثَةُ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أَيْ سَنُقَوِّيكَ بِهِ وَنُعِينُكَ، تَقُولُ شَدَّ فُلَانٌ عَضُدَ فُلَانٍ إِذَا أَعَانَهُ، وَهُوَ مِنْ عَاضَدْتُهُ عَلَى أَمْرِهِ أَيْ عَاوَنْتُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ عُقْدَةٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} : الْعُقْدَةُ فِي اللِّسَانِ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ كَانَتْ فِيهِ مُسْكَةٌ مِنْ تَمْتَمَةٍ أَوْ فَأْفَأَةٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا تَحَرَّكَ مُوسَى أَخَذَتْهُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُرْقِصُهُ ثُمَّ نَاوَلَتْهُ لِفِرْعَوْنَ، فَأَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، فَاسْتَدْعَى فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ، فَقَالَتْ آسِيَةُ إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ، فَوَضَعَتْ لَهُ جَمْرًا وَيَاقُوتًا وَقَالَتْ: إِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَ فَاذْبَحْهُ وَإِنْ أَخَذَ الْجَمْرَةَ فَاعْرِفْ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَطَرَحَ فِي يَدِهِ جَمْرَةً فَطَرَحَهَا فِي فِيهِ فَاحْتَرَقَ لِسَانُهُ فَصَارَتْ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، والتَّمْتَمَةُ هِيَ التَّرَدُّدُ فِي النُّطْقِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْفَأْفَأَةُ بِالْهَمْزَةِ التَّرَدُّدُ فِي النُّطْقِ بِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: {أَزْرِي} ظَهْرِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أَيْ ظَهْرِي، وَيُقَالُ: قَدْ أَزَرَنِي أَيْ كَانَ لِي ظَهْرًا وَمُعِينًا. وَأَوْرَدَ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَالَ: ظَهْرِي.

قَوْلُهُ: {فَيُسْحِتَكُمْ} فَيُهْلِكَكُمْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ منْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَتَقُولُ سَحَتَهُ وَأَسْحَتَهُ بِمَعْنًى، قَالَ الطَّبَرِيُّ: سَحَتَ أَكْثَرُ مِنْ أَسْحَتَ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَيُسْحِتَكُمْ، أَيْ يَسْتَأْصِلَكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلسَّحَرَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَ رُؤَسَائِهِمْ غادون، وساتور، وخطخط، والمصفا.

قَوْلُهُ: {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ يَقُولُ بِدِينِكُمْ. يُقَالُ خُذِ الْمُثْلَى خُذِ الْأَمْثَلَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {بِطَرِيقَتِكُمُ} أَيْ بِسُنَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَالْمُثْلَى تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ، تقول خُذِ الْمُثْلَى مِنْهُمَا لِلْأُنْثَيَيْنِ، وَخُذِ الْأَمْثَلَ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ ذَكَرًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُثْلَى الْفُضْلَى.

قَوْلُهُ: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}

ص: 425

أَيْ صُفُوفًا، وَلَهُ مَعْنًى آخَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ؟ أَيِ الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ.

قَوْلُهُ: {فَأَوْجَسَ} أَضْمَرَ خَوْفًا فَذَهَبَتِ الْوَاوُ مِنْ خفيةٍ لِكَسْرَةِ الْخَاءِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أَيْ فَأَضْمَرَ مِنْهُمْ خِيفَةً أَيْ خَوْفًا، فَذَهَبَتِ الْوَاوُ فَصَارَتْ يَاءً مِنْ أَجْلِ كَسْرَةِ الْخَاءِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ بِجَلَالَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَأَى فِيهِ مَا يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّصْرِيفِ فَقَالَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا فِي مِثْلِ هَذَا أَصْلُ خِيفَةٍ خَوْفَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَوْنِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ، وَمَا عُرِفَ أَنَّهُ كَلَامُ أَحَدِ الرُّءُوسِ الْعُلَمَاءِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} عَلَى جُذُوعِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

هُمْ صَلَبُوا الْعَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ،

وَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَ عَلَى مَوْضِعٍ فِي إِشَارَةٍ لِبَيَانِ شِدَّةِ التَّمَكُّنِ فِي الظَّرْفِيَّةِ.

قَوْلُهُ: {خَطْبُكَ} بَالُكَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} أَيْ مَا بَالُكَ وَشَأْنُكَ؟ قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا عَجَبًا مَا خَطْبُهُ وَخَطْبِي،

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} قَالَ: مَا لَكَ يَا سَامِرِيُّ، وَاسْمُ السَّامِرِيِّ الْمَذْكُورِ يَأْتِي.

قَوْلُهُ: {مِسَاسَ} مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا) قَالَ الْفَرَّاءُ.

قَوْلُهُ: {لا مِسَاسَ} أَيْ لَا أَمَسُّ وَلَا أُمَسُّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُؤَاكِلُوهُ وَلَا يُخَالِطُوهُ، وَقُرِئَ لَا مَسَاسَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَاسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنُ طفر وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا مِسَاسَ} إِذَا كَسَرْتَ الْمِيمَ جَازَ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ وَالْجَرُّ بِالتَّنْوِينِ، وَجَاءَتْ هُنَا مَنْفِيَّةً فَفُتِحَتْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:

فَأَصْبَحَ مِنْ ذَاكَ كَالسَّامِرِيِّ

إِذْ قَالَ مُوسَى لَهُ لَا مِسَاسَا

قَالَ: وَالْمُمَاسَّةُ وَالْمُخَالَطَةُ وَاحِدٌ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْمًا فَكَسَرَ آخِرَهَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ

أَلَا لَا مُرِيدَ السَّامِرِيِّ مِسَاسِ

أَجْرَاهَا مَجْرَى قِطَامٍ وَحِزَامِ.

قَوْلُهُ: {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنُذْرِيَنَّهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} يَقُولُ لَنُذْرِيَنَّهُ فِي الْبَحْرِ.

قَوْلُهُ: (الضَّحَاءُ الْحَرُّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أَيْ لَا تَعْطَشُ وَلَا تَضْحَى لِلشَّمْسِ فَتَجِدَ الْحَرَّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُصِيبُكَ فِيهَا عَطَشٌ وَلَا حَرٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ وَقَعَ اسْتِطْرَادًا، وَإِلَّا فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقِصَّةِ مُوسَى عليه السلام.

قَوْلُهُ: {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلَامَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ تَقُولُ: قَصَصْتُ آثَارَ الْقَوْمِ، وَأَمَّا الثَّانِي فهُوَ مِنْ قِبَلِ الْمُصَنِّفِ. وَأُخْتُ مُوسَى اسْمُهَا مَرْيَمُ وَافَقَتْهَا فِي ذَلِكَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَالِدَةُ عِيسَى عليه السلام.

قَوْلُهُ: {عَنْ جُنُبٍ} عَنْ بُعْدٍ، وَعَنْ جَنَابَةٍ وَعَنِ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{عَنْ جُنُبٍ} قَالَ: عَنْ بُعْدٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أَيْ عَنْ بُعْدٍ وَتَجَنُّبٍ، وَيُقَالُ مَا تَأْتِينَا إِلَّا عَنْ جَنَابَةٍ وَعَنْ جُنُبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ

فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ وَفِي حَدِيثِ الْقُنُوتِ الطَّوِيلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجُنُبُ أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ لَمْ

ص: 426

يَشْعُرْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: {عَلَى قَدَرٍ} مَوْعِدٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، ورَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أَيْ عَلَى مِيقَاتٍ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَنِيَا} لَا تَضْعُفَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قَالَ: لَا تُبْطِئَا.

قَوْلُهُ: {مَكَانًا سُوًى} مُنْصِفٌ بَيْنَهُمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرِهِ كَعِدًى وَعُدًى، وَالْمَعْنَى النِّصْفُ وَالْوَسَطُ.

قَوْلُهُ: {يَبَسًا} يَابِسًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أَيْ يَابِسًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} مُتَحَرِّكُ الْحُرُوفِ وَبَعْضُهُمْ يُسَكِّنُ الْبَاءَ، وَتَقُولُ شَاةٌ يَبَسٌ بِالتَّحْرِيكِ أَيْ يَابِسَةٌ لَيْسَ لَهَا لَبَنٌ.

قَوْلُهُ: {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أَيِ الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ الْأَثْقَالُ أَيِ الْأَوْزَارُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الْأَوْزَارُ الْأَثْقَالُ وَهِيَ الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الذُّنُوبُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَقَّتَ لِمُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُونَ قَالَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا أَصَابَكُمُ الَّذِي أَصَابَكُمْ عُقُوبَةً بِالْحُلِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَكُمْ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوا ذَلِكَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَسَارُوا وَهِيَ مَعَهُمْ فَقَذَفُوهَا إِلَى السَّامِرِيِّ فَصَوَّرَهَا صُورَةَ بَقَرَةٍ، وَكَانَ قَدْ صَرَّ فِي ثَوْبِهِ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ فَقَذَفَهَا مَعَ الْحُلِيِّ فِي النَّارِ فَأَخْرَجَ عِجْلًا يَخُورُ.

قَوْلُهُ: (فَقَذَفْتُهَا: أَلْقَيْتُهَا، أَلْقَى صَنَعَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ {فَقَذَفْنَاهَا} وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} ، {فَقَذَفْنَاهَا} قَالَ: أَلْقَيْنَاهَا، وَفِي قَوْلِهِ:{أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أَيْ صَنَعَ، وَفِي قَوْلِهِ:{فَنَبَذْتُهَا} أَيْ أَلْقَيْتُهَا.

قَوْلُهُ: (فَنَسِيَ مُوسَى، هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبُّ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْعِجْلُ فَخَارَ قَالَ لَهُمْ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَنَسِيَ أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى وَضَلَّ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ قَالَ: نَسِيَ مُوسَى رَبَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَنَسِيَ} أَيْ السَّامِرِيُّ نَسِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: {يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} فِي الْعِجْلِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقْدِيرُ الْقِرَاءَةِ بِالضَّمِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، وَمَنْ لَمْ يَضُمَّ الْعَيْنَ نَصَبَ بِأَنْ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ التَّفَاسِيرِ لِمَا جَرَى لِمُوسَى فِي خُرُوجِهِ إِلَى مَدْيَنَ، ثُمَّ فِي رُجُوعِهِ إِلَى مِصْرَ، ثُمَّ فِي أَخْبَارِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ فِي غَرَقِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الطُّورِ، ثُمَّ فِي عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ مَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْقُنُوتِ الطَّوِيلِ فِي قَدْرِ ثَلَاثِ وَرَقَاتٍ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ طه عِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ مَرْدُوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَرَّجَ التَّفْسِيرَ الْمُسْنَدَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ مِنْهُ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَإِذَا هَارُونُ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ ثَابِتٌ، وَعَبَّادُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَيْنِ تَابَعَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ هَارُونَ فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ لَا فِي جَمِيعِ الْحَدِيثِ، بَلْ وَلَا فِي الْإِسْنَادِ، فَإِنَّ روايَةَ ثَابِتٍ مَوْصُولَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْهُ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، نَعَمْ فِيهَا ذِكْرُ هَارُونَ فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيْسَ

ص: 427

لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَافَقَ ثَابِتًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِأَنَسٍ فِيهِ شَيْخًا، وَقَدْ وَافَقَهُمَا شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ وَفِي كَوْنِ هَارُونَ فِي الْخَامِسَةِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ فِي أَثْنَاءِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَأَمَّا قَتَادَةَ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ كَمَا مَضَى فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ هَارُونَ أَصْلًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُتَابَعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌23 - بَاب: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}

- إِلَى قَوْلِهِ - {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إِلَى قَوْلِهِ - {هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} كَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَلَعَلَّهُ أَخْلَى بَيَاضًا فِي الْأَصْلِ فَوُصِلَ كَنَظَائِرِهِ، وَوَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ مَضْمُونا إِلَى مَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ مُتَّجَهٌ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ فَقِيلَ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ التِّينِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ يُوشَعَ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ يُوسُفَ عليه السلام وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ:{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} مُتَعَلِّقٌ بيَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُصْغِ فِرْعَوْنُ إِلَى كَلَامِهِ وَلَمْ يَسْتَمِعْ مِنْهُ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُ ابْنُ ابْنِ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ شَمْعَانُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ: لَا يُعْرَفُ شَمْعَانُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ إِلَّا هَذَا وَصَحَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَعَنِ الطَّبَريِّ اسْمُهُ حيزور وَقِيلَ حزقيل برحايا وَقِيلَ: حربيال، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَقِيلَ: حَابُوتُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْمُهُ حَبِيبٌ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقِيلَ: هُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ وَهُوَ غَلَطٌ، وَذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيُّ فِي أَدَبِ الْخَوَاصِّ: إِنَّ اسْمَ صَاحِبِ فِرْعَوْنَ، حَوْتَكَةُ بْنُ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَعَزَاهُ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

‌24 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

3394 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم بِهِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ فَقَالَ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ: أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.

[الحديث 3394 - أطرافه في: 3437، 4709، 5576، 5603]

3395 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ".

[الحديث 3395 - أطرافه في: 3413، 4630، 7539]

ص: 428

3396 -

وَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ: مُوسَى آدَمُ طُوَالٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَقَالَ: عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ، وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ.

3397 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ ابْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ إلى الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا - يَعْنِي يوم عَاشُورَاءَ - فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ ذِكْرُ يُونُسَ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُهُ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ، وقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ مُوسَى وإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ، بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ نَحِيفٌ.

قَوْلُهُ: (رَجِلٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ دَهِينُ الشَّعْرِ مُسْتَرْسِلُهُ ; وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: شَعْرٌ رَجِلٌ أَيْ غَيْرُ جَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ: حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ يُنْسَبُونَ إِلَى شَنُوءَةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَلَقَبُ شَنُوءَةَ لِشَنَآنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ شَنُوئِيٌّ بِالْهَمْزِ بَعْدَ الْوَاوِ وَبِالْهَمْزِ بِغَيْرِ وَاوٍ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِكَ رَجُلٌ فِيهِ شَنُوءَةٌ أَيْ وَالتَّقَزُّزُ بِقَافٍ وَزَايَيْنِ التَّبَاعُدُ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ رِجَالُ الْأَزْدِ مَعْرُوفُونَ بِالطُّولِ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بَعْدُ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالطُّولِ وَالْأُدْمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَيْتُ عِيسَى) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ) أَيِ الْخَلِيلِ عليه السلام، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ بِالْفَاءِ مُصَغَّرٌ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ آخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَهُوَ الْبَرَّاءُ بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَةً إِلَى بَرْيِ السِّهَامِ، وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَحَدِيثُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبَقَ فِي تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ يُونُسَ عليه السلام.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى الْحِكَايَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ أَفْرَدَهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ فَجَعَلُوهُ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِيُونُسَ عليه السلام.

وَالثَّانِي حَدِيثٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: فَقَالَ: مُوسَى آدَمُ طُوَالٌ زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا آدَمُ جَسِيمٌ طُوَالٌ وَلَمْ أَرَ لَفْظَ جَسِيمٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَوْلُهُ آدَمُ بِالْمَدِّ أَيْ أَسْمَرُ، وَطُوَالٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ.

وَأَمَّا حَدَيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ فسَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

‌25 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا

ص: 429

وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يُقَالُ دَكَّهُ: زَلْزَلَهُ {فَدُكَّتَا} فَدُكِكْنَ جَعَلَ الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} وَلَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقًا: مُلْتَصِقَتَيْنِ، {وَأُشْرِبُوا} ثَوْبٌ مُشَرَّبٌ مَصْبُوغٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{فَانْبَجَسَتْ} انْفَجَرَتْ، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا.

3398 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ.

3399 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: صَعِقًا، أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ دَكَّهُ زَلْزَلَهُ) هَذَا ذَكَرَهُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ مُسْتَوِيًا مَعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ جُعِلَ صِفَةً، وَيُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءُ أَيْ ذَاهِبَةُ السَّنَامِ مُسْتَوٍ ظَهْرُهَا. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدُوَيْهِ مَرْفُوعًا: أنَّ الْجَبَلَ سَاخَ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَهْوِي فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَنَدُهُ وَاهٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ رَفَعَهُ: لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ طَارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ: حِرَى وَثَوْرٌ وَثَبِيرٌ، وَثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ: أُحُدٌ وَرَضْوَى وَوَرْقَانُ، وَهَذَا غَرِيبٌ مَعَ إِرْسَالِهِ.

قَوْلُهُ: {فَدُكَّتَا} فَدُكِكْنَ جَعَلَ الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} وَلَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقًا) ذَكَرَ هَذَا اسْتِطْرَادًا إِذْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقِصَّةِ مُوسَى، وَكَذَا قَوْلُهُ: رَتْقًا مُلْتَصِقَتَيْنِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّتْقُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثُقْبٌ، ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ وَفَتَقَ الْأَرْضَ بِالشَّجَرِ.

قَوْلُهُ: {وَأُشْرِبُوا} ثَوْبٌ مُشْرَبٌ مَصْبُوغٌ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشُّرْبِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أَيْ سُقُوهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحذْفِ أَيْ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّ الْعِجْلِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْعِجْلَ أُحْرِقَ ثُمَّ ذُرِّيَ فِي الْمَاءِ فَشَرِبُوهُ فَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا لَا تَقُولُ فِي الْمَاءِ: أُشْرِبَ فُلَانٌ فِي قَلْبِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَانْبَجَسَتْ} انْفَجَرَتْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ

(1)

وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا.

ثَانِيهَا: حَدَيثُهُ لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَسَبَقَ شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ آدَمَ.

(1)

حديث الصعق إنما هو عن أبي سعيد

ص: 430

‌26 - بَاب طُوفَانٍ مِنْ السَّيْلِ، ويُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ طُوفَانٌ، الْقُمَّلُ: الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ، حَقِيقٌ حَقٌّ، سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَسَقَطَ جَمِيعُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.

قَوْلُهُ: (طُوفَانٍ مِنَ السَّيْلِ، وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ طُوفَانٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطُّوفَانُ مَجَازٌ مِنَ السَّيْلِ، وَهُوَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُتَتَابِعِ الذَّرِيعِ.

قَوْلُهُ: (الْقُمَّلُ: الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقُمَّلُ عِنْدَ الْعَرَبِ هِيَ الْحُمْنَانُ، قَالَ الْأَثْرَمُ الرَّاوِي عَنْهُ: وَالْحُمْنَانُ يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ ضَرْبٌ مِنَ الْقُرْدَانِ، وَقِيلَ: هِيَ أَصْغَرُ، وَقِيلَ: أَكْبَرُ، وَقِيلَ: الدَّبَا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ.

قَوْلُهُ: (حَقِيقٌ حَقٌّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلَيَّ، مَجَازُهُ حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ حَقِيقٌ عَلَيَّ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا (عَلَى) فَإِنَّهُ يَقُولُ مَعْنَاهُ حَرِيصٌ أَوْ مُحِقٌّ.

قَوْلُهُ: {سُقِطَ} كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَدِمَ وَعَجَزَ عَنْ شَيْءٍ سُقِطَ فِي يَدِهِ.

‌27 - بَاب حَدِيثِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عليهما السلام

3400 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَأ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجُعِلَ لَهُ الْحُوتُ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ يَتْبَعُ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فَقَالَ مُوسَى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

3401 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: بَلَى، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ

ص: 431

الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ وَمَنْ لِي بِهِ؟ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: أَيْ رَبِّ وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ - قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، وَرُبَّمَا قَالَ فَهُوَ ثَمَّهْ، وَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُؤوسَهُمَا، فَرَقَدَ مُوسَى، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فَخَرَجَ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ - فَقَالَ هَكَذَا مِثْلُ الطَّاقِ - فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلَهُمَا عَجَبًا، قَالَ لَهُ مُوسَى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ

فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا - حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ، قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ، قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ؟ {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِمْرًا} فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ كَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ، إِذْ أَخَذَ الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا، قَالَ: فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلَّا وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مَا صَنَعْتَ؟ قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} ، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ

شَيْئًا - فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} مَائِلًا - أَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ سُفْيَانُ كَأَنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئًا إِلَى فَوْقُ، فَلَمْ أَسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ مَائِلًا إِلَّا مَرَّةً - قَالَ: قَوْمٌ

ص: 432

أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا عَمَدْتَ إِلَى حَائِطِهِمْ، {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوْ كَانَ صَبَرَ يقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لِي سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ، قِيلَ لِسُفْيَانَ: حَفِظْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرٍو أَوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إِنْسَانٍ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَتَحَفَّظُهُ، وَرَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ عَمْرٍو غَيْرِي؟ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَدِيثِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عليهما السلام ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي أَوَّلُهُمَا بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَنَسْتَوْفِي شَرْحَهُ هُنَاكَ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي خَاصَّةً عَنِ الْفَرَبْرِيِّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

3402 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبِهَانِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ.

قال الحموي: قال محمد بن يوسف بن مطر الفربري: حدثنا علي بن خشرم عن سفيان بطوله.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدَيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْبَابِ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الْخَضِرِ فِيهِ، وَقَدْ زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: الْفَرْوُ الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ: أَظُنُّ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، انْتَهَى. وَجَزَمَ بِذَلِكَ عِيَاضٌ. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: الْفَرْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ قِطْعَةٌ يَابِسَةٌ مِنْ حَشِيشٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْفَرْوَةُ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ.

وَالْخَضِرُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي اسْمِ أَبِيهِ وَفِي نَسَبِهِ وَفِي نُبُوَّتِهِ وَفِي تَعْمِيرِهِ، فَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُوَ بَلْيَا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَوُجِدَ بِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ فِي أَوَّلِ الِاسْمِ بِنُقْطَتَيْنِ، وَقِيلَ: كَالْأَوَّلِ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الْبَاءِ، وَقِيلَ اسْمُهُ إِلْيَاسُ، وَقِيلَ الْيَسَعُ، وَقِيلَ عَامِرٌ، وَقِيلَ خَضِرُونُ - وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ - ابْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالِغَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَشْخَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، فَعَلَى هَذَا فَمَوْلِدُهُ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ابْنَ عَمِّ جَدِّ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ حَكَى الثَّعْلَبِيُّ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْخَلِيلِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ وَهْبٌ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ، وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتانِيُّ فِي الْمُعَمَّرِينَ أَنَّهُ ابْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: اسْمُهُ أرْمِيَا بْنُ طَيْفَاءَ حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبٍ، وَأرْمِيَا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَقِيلَ بِضَمِّهِ وَأَشْبَعَهَا بَعْضُهُمْ وَاوًا، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهِ فَقِيلَ مَلْكَانُ وَقِيلَ كَلْمَانُ وَقِيلَ عَامِيلُ وَقِيلَ قَابِلُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيسٍ: هُوَ الْمَعْمَرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

ص: 433

نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَعَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ كَانَ ابْنَ فِرْعَوْنَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ ابْنُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ خَضِرُونُ بْنُ عَايِيلَ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عِيصُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ

إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ فَارِسِيًّا، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ، وَحَكَى ابْنُ ظَفَرٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فَلَا يَمُوتُ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ: مُدَّ لِلْخَضِرِ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يُحْيِيهِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ الْخَضِرُ. وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ آدَمَ أَخْبَرَ بَنِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِأَمْرِ الطُّوفَانِ، وَدَعَا لِمَنْ يَحْفَظُ جَسَدَهُ بِالتَّعْمِيرِ حَتَّى يَدْفِنَهُ، فَجَمَعَ نُوحٌ بَنِيهِ لَمَّا وَقَعَ الطُّوفَانُ وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ فَحَفِظُوهُ، حَتَّى كَانَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ الْخَضِرُ. وَرَوَى خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى شَيْءٍ يُطَوِّلُ بِهِ عُمُرَهُ، فَدَلَّهُ عَلَى عَيْنِ الْحَيَاةِ وَهِيَ دَاخِلُ الظُّلْمَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَالْخَضِرُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فَظَفِرَ بِهَا الْخَضِرُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَحْيَاءٌ أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ: اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ، وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ إِدْرِيسُ وَعِيسَى.

وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَبِيٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ رَسُولٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْقُشَيرِيُّ هُوَ وَلِيٌّ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ: كَانَ الْخَضِرُ فِي أَيَّامِ أَفْرِيدُونَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ. وَأَخْرَجَ النَّقَّاشُ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ لَا تَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا لَكَانَ لَهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ظُهُورٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ مُعَمِّرٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، مَحْجُوبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يُرْفَعُ الْقُرْآنُ. وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ نَبِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْآيَةُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَعَلَّمُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْبَاطِنِ لَا يَطِّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: هُوَ حَيٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا شَذَّ بِإِنْكَارِهِ بَعْضَ الْمُحَدِّثِينَ. وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَزَادَ أَنَّ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَحِكَايَاتُهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ انْتَهَى.

وَالَّذِي جَزَمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ الْآنَ الْبُخَارِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُنَادَى، وَأَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْعَبَّادِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَطَائِفَةٌ، وَعُمْدَتُهُمُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرَادَ بِذَلِكَ انْخِرَامُ قَرْنِهِ. وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَ حَيَاتَهُ بِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ، أَوْ هُوَ مَخْصُوصٌ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا خُصَّ مِنْهُ إِبْلِيسُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْ حُجَجِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ مَوْجُودًا لَمْ يَصِحَّ هَذَا النَّفْيُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ مَوْجُودًا لَمَا حَسُنَ هَذَا التَّمَنِّي وَلَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَرَاهُ الْعَجَائِبَ وَكَانَ أَدْعَى لِإِيمَانِ الْكَفَرَةِ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْكِتَابِ.

وَجَاءَ فِي اجْتِمَاعِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ

ص: 434

أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ كَلَامًا فَقَالَ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ إِلَى هَذَا الْقَائِلِ فَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قُلْ لَهُ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ رَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ. قَالَ: فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَإِذَا هُوَ الْخَضِرُ. إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ أَوْهَى مِنْهُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: يَجْتَمِعُ الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، الْحَدِيثَ، فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدٍ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَيَشْرَبَانِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهِمَا إِلَى قَابِلٍ، وَهَذَا مُعْضَلٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ وَزَادَ أَنَّهُمَا: يَصُومَانِ رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ نَحْوَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ دَخَلَ الطَّوَافَ فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ الْحَدِيثَ، فَإ ذَا هُوَ الْخَضِرُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفٌ، وَهُوَ فِي الْمُجَالَسَةِ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي. وَجَاءَ فِي اجْتِمَاعِهِ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَخْبَارٌ أَكْثَرُهَا وَاهِي الْإِسْنَادِ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ رَجُلٌ فَتَخَطَّاهُمْ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي التَّعْزِيَةِ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ: هَذَا الْخَضِرُ فِي إِسْنَادِهِ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَهُوَ وَاهٍ. وَرَوَى سَيْفٌ فِي الرِّدَّةِ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ مَجْهُولٍ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: لَا تَسْبِقْنَا - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ - وَفِيهَا: أَنَّهُ دَعَا لِلْمَيِّتِ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا الرَّجُلَ، فَتَوَارَى عَنْهُمْ، فَإِذَا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ الْخَضِرُ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ بِمِصْرَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَهْمُومًا إِذْ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِاهْتِمَامِهِ بِمَا فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْفِتَنِ، فَقَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي، قَالَ فَقَالَهَا فَسَلِمَ. قَالَ مِسْعَرٌ: يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو عَرُوبَةَ مِنْ طَرِيقِ رِيَاحٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ ابْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يُمَاشِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ لَهُ مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ أَحْسَبُكَ رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ بَشَّرَنِي أَنِّي سَأُوَلَّى وَأَعْدِلُ. لَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ. وَلَمْ يَقَعْ لِي إِلَى الْآنَ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ غَيْرُهُ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي مِائَةِ سَنَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْمِائَةِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ كُرْزِ بْنِ وَبَرَةَ قَالَ: أَتَانِي أَخٌ لِي مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: اقْبَلْ مِنِّي هَذِهِ الْهَدِيَّةَ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ حَدَّثَنِي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَذْكُرُ اللَّهَ، فَجَاءَنِي رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ; فَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ وَلَا أَطْيَبَ رِيحًا، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَخُوكَ الْخَضِرُ. قَالَ: فَعَلَّمَهُ شَيْئًا إِذَا فَعَلَهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ وَضَعِيفٌ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ رَأَى وَهُوَ شَابٌّ رَجُلًا نَهَاهُ عَنْ غِشْيَانِ أَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا عَلَى حَالَتِهِ الْأُولَى فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: فَالْتَفَتُّ لِأُكَلِّمَهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُ الْخَضِرُ. وَرَوَى عُمَرُ الْجُمَحِيُّ فِي فَرَائِدِهِ وَالْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَأَى شَيْخًا كَبِيرًا يُحَدِّثُ أَبَاهُ ثُمَّ ذَهَبَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ رُدَّهُ عَلَيَّ، قَالَ فَتَطَلَّبْتُهُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ

ص: 435

لِي أَبِي: ذَاكَ الْخَضِرُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ قرَافِصَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا يَتَبَايَعَانِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ فَنَهَاهُمَا عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ وَوَعَظَهُمْ بِمَوْعِظَةٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِأَحَدِهِمَا: اكْتُبْهَا مِنْهُ، فَاسْتَعَادَهُ حَتَّى حَفِظَهَا ثُمَّ تَطَلَّبَهُ فَلَمْ يَرَهُ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ.

‌28 - باب

3403 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَبَدَّلُوا ودَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ.

[الحديث 3403 - طرفاه في: 4476، 4641]

3404 -

حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ [69 الأحزاب]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} .

3405 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ".

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَأَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَعْرَافِ.

ثَانِيهَا: حَدَيثُهُ أنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا أُخْرَى مُثَقَّلَةٌ بِوَزْنِ فَعِيلٍ مِنَ الْحَيَاءِ، وَقَوْلُهُ: سَتِّيرًا بِوَزْنِهِ مِنَ السِّتْرِ، وَيُقَالُ سِتِّيرًا بِالتَّشْدِيدِ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (حَدَّثَنَا عَوْفٌ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، وَخِلَاسٍ) أَمَّا الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَسَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَابِتٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَوْحٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَمَّا خِلَاسُ فَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ

ص: 436

وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بَصْرِيٌّ، يُقَالُ أنَّهُ كَانَ عَلَى شُرْطَةِ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَجَزَمَ يَحْيَى القَطَّانُ بِأَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ مِنْ صَحِيفَتِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ يَسْمَعْ خِلَاسٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ كَانَ يَحْيَى القَطَّانُ يَقُولُ: رِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ كِتَابٍ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ عَمَّارٍ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: إِذَا ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ عَمَّارٍ وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ عَلِيٍّ كَيْفَ يَمْتَنِعُ سَمَاعُهُ مِنْ عَلِيٍّ؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُقَالُ وَقَعَتْ عِنْدَهُ صَحِيفَةٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، يَعْنِي فِي عَلِيٍّ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: كَانَ يَحْيَى القَطَّانُ يَتَوَقَّى أَنْ يُحَدِّثَ عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ خَاصَّةً. وَأَطْلَقَ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ تَوْثِيقَهُ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ لَهُ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَأَعَادَهُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ. وَلَهُ عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَقْرُونًا أَيْضًا بِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَهِمَ الْمِزِّيُّ فَنَسَبَهُ إِلَى الصَّوْمِ.

وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِوَهْمِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سِوَى هَذَا مَقْرُونًا. وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مَقْرُونًا بِابْنِ سِيرِينَ، وَثَالِثٌ ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ فِي الْأيمَانِ مَقْرُونًا بِابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اغْتِسَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عُرَاةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِمْ. وَإِنَّمَا اغْتَسَلَ مُوسَى وَحْدَهُ اسْتِحْيَاءً.

قَوْلُهُ: (وَإِمَّا أُدْرَةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ عَوْفٍ الْجَزْمُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ آدَرُ.

قَوْلُهُ: (فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثِيَابًا أَيْ ثِيَابًا لَهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَاءَ عُرْيَانًا. وَعَلَيْهِ بَوَّبَ الْمُصَنِّفُ فِي الْغُسْلِ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْجِيهَهُ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ مُوسَى نَزَلَ إِلَى الْمَاءِ مُؤْتَزِرًا، فَلَمَّا خَرَجَ تَتَبَّعَ الْحَجَرَ وَالْمِئْزَرُ مُبْتَلٌّ بِالْمَاءِ عَلِمُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ آدَرٍ، لِأَنَّ الْأُدْرَةَ تَبِينُ تَحْتَ الثَّوْبِ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ، انْتَهَى. وهَذَا إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَالَهُ احْتِمَالًا فَيُحْتَمَلُ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ لَمْ يُلْقِ ثَوْبَهُ حَتَّى يُوَارِيَ عَوْرَتَهُ فِي الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (عَدَا بِثَوْبِهِ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَضَى مُسْرِعًا.

قَوْلُهُ: (ثَوْبِيَ حَجَرُ، ثَوْبِيَ حَجَرُ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ مِنْ ثَوْبِي أَيْ أَعْطِنِي ثَوْبِي، أَوْ رُدَّ ثَوْبِي، وَحَجَرُ بِالضَّمِّ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ بِلَفْظِ ثَوْبِي يَا حَجَرُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ) فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَعْدَلَهُ صُورَةً، وَفِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَاتَلَ اللَّهُ الْأَفَّاكِينَ، وَكَانَتْ بَرَاءَتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورَةِ فَرَأَوْهُ كَأَحْسَنِ الرِّجَالِ خَلْقًا، فَبَرَّأَهُ مِمَّا قَالُوا.

قَوْلُهُ: (وَقَامَ حَجَرٌ فَأَخَذَ بِثَوْبِهِ) قُلْتُ كَذَا فِيهِ، وَفِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَقَامَ الْحَجَرُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنُدَبًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ فِي الْغُسْلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمَذْكُورِ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْجَزْمُ بِسِتِّ ضَرَبَاتٍ.

قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

ص: 437

آذَوْا مُوسَى} الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ أنَّ مُوسَى آدَرُ، فَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى النَّهَرِ يَغْتَسِلُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْمَذْكُورَةِ قَرِيبًا فِي آخِرِهِ فَرَأَوْهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا ; فَأَنْزَلَ تَعَالَى:{لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمَشْيِ عُرْيَانًا لِلضَّرُورَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَ مُوسَى فِي خَلْوَةٍ وَخَرَجَ مِنَ الْمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ ثَوْبَهُ تَبِعَ الْحَجَرَ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا يُصَادِفَ أَحَدًا وَهُوَ عُرْيَانُ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ قَوْمٌ فَاجْتَازَوا بِهِمْ، كَمَا أَنَّ جَوَانِبَ الْأَنْهَارِ وَإِنْ خَلَتْ غَالِبًا لَا يُؤْمَنُ وُجُودُ قَوْمٍ قَرِيب مِنْهَا، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أُحُدٌ لِأَجْلِ خَلَاءِ الْمَكَانِ، فَاتَّفَقَ رُؤْيَةُ مَنْ رَآهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ يَتْبَعُ الْحَجَرَ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ الْفَائِدَةُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ عَلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ. وَفِيهِ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ لِذَلِكَ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ بَرَاءَةٍ مِنْ عَيْبٍ، كَمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْبَرَصَ لِيَفْسَخَ النِّكَاحَ فَأَنْكَرَ.

وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي خَلْقِهِمْ وَخُلُقِهِمْ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ، وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى نَقْصٍ فِي خِلْقَتِهِ فَقَدْ آذَاهُ وَيُخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ الْكُفْرُ. وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمُوسَى عليه السلام، وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ طِبَاعُ الْبَشَرِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلِمَ أَنَّ الْحَجَرَ مَا سَارَ بِثَوْبِهِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ حَتَّى ضَرَبَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ مُعْجِزَةٍ أُخْرَى لِقَوْمِهِ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فِي الْحَجَرِ. وَفِيهِ مَا كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْجُهَّالِ وَاحْتِمَالِ أَذَاهُمْ، وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَاقِبَةَ لَهُمْ عَلَى مَنْ آذَاهُمْ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي طَعْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ هَارُونَ لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ مَعَهُ إِلَى زِيَارَةٍ فَمَاتَ هَارُونُ فَدَفَنَهُ مُوسَى، فَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ رَفَعَ لَهُمْ جَسَدَ هَارُونَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَخَاطَبَهُمْ بِأَنَّهُ مَاتَ. وَفِي الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ. وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا لِصِدْقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آذَى مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مُوسَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ فَرْضِ الْخُمُسِ مِنَ الْجِهَادِ فِي بَابِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وُعُيِّنَ هُنَاكَ مَوْضِعُ شَرْحِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌29 - بَاب {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ * مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ، {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا، {مَا عَلَوْا} مَا غَلَبُوا

3406 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَجْنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ، قَالُوا:

أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا؟

[الحديث 3406 - طرفه في: 5453]

قَوْلُهُ: (بَابُ {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ * مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ، {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا، {مَا عَلَوْا} مَا غَلَبُوا) ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ جَابِرٍ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَجْنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ، قَالُوا:

ص: 438

أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا، وَالْكَبَاثُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ هُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلنَّضِيجِ مِنْهُ، كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ إِذَا يَبِسَ وَلَيْسَ لَهُ عَجَمٌ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ الْغَضُّ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَمْيِيزِهِ بَيْنَ أَنْوَاعِهِ، وَالَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ أَنْوَاعِ ثَمَرِ الْأَرَاكِ غَالِبًا مَنْ يُلَازِمُ رَعْيَ الْغَنَمِ عَلَى مَا أَلِفُوهُ.

وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: بَابُ {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أَيْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وَلَمْ يُفَسِّرِ الْمُؤَلِّفُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِيهَا: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ} فَقَالَ: إِنَّ تَفْسِيرَ مُتَبَّرٌ خُسْرَانٌ، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} ، قَالَ: خُسْرَانٌ، وَالْخُسْرَانُ تَفْسِيرُ التَّتْبِيرِ الَّذِي اشْتُقَّ مِنْهُ الْمُتَبَّرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَلِيُتَبِّرُوا} لِيُدَمِّرُوا، فَذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} قَالَ: لِيُدَمِّرُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ تَدْمِيرًا. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ فَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. وَقَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ: قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا لَا مُنَاسَبَةَ، قَالَ شَيْخُنَا: بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ لِدُخُولِ عِيسَى فِيمَنْ رَعَى الْغَنَمَ، كَذَا رَأَيْتُ فِي النُّسْخَةِ، وَكَأَنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى لَا عِيسَى، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ الْمَتْنِ فِي أَخْبَارِ مُوسَى، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِلْحَدِيثِ فَلَا، وَالَّذِي يَهْجِسُ فِي خَاطِرِي أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ بَيَاضٌ أُخْلِيَ لِحَدِيثٍ يَدْخُلُ فِي التَّرْجَمَةِ وَلِتَرْجَمَةٍ تَصْلُحُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ وُصِلَ ذَلِكَ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ.

وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ جَابِرٍ لِقَصَصِ مُوسَى مِنْ جِهَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا، فَدَخَلَ فِيهِ مُوسَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا، بَلْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَلَقَدْ بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ يَرْعَى الْغَنَمَ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ حَزَنٍ قَالَ: افْتَخَرَ أَهْلُ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، الْحَدِيثَ. وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي قُلْتُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ حَذَفَ الْبَابَ الَّذِي فِيهِ التَّفَاسِيرُ الْمَوْقُوفَةُ كَمَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ عَادَتِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ - وَهُوَ الْكِرْمَانِيُّ - فَقَالَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا جُهَّالًا مُسْتَضْعَفِينَ فَفَضَّلَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ - أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ - فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا أَوَّلًا مُسْتَضْعَفِينَ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْعَوْنَ الْغَنَمَ، انْتَهَى.

وَالَّذِي قَالَهُ الْأَئِمَّةُ أنَّ الْحِكْمَةَ فِي رِعَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِلْغَنَمِ لِيَأْخُذُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَاضُعِ، وَتَعْتَادَ قُلُوبُهُمْ بِالْخَلْوَةِ، وَيَتَرَقَّوْا مِنْ سِيَاسَتِهَا إِلَى سِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا فِي أَوَائِلِ الْإِجَارَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ مِنَ الْآيَاتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَّا قَوْلَهُ:{مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} إِنَّمَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرْتُهُ. وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ، عَنِ الْخَطَّابِيِّ قَالَ: أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعِ النُّبُوَّةَ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَالْمُتْرَفِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا فِي أَهْلِ التَّوَاضُعِ كَرُعَاةِ الشَّاة وَأَصْحَابِ الْحِرَفِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِلْمَتْنِ لَا لِخُصُوصِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ هَذَا عَنِ الْخَطَّابِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَيُنْظَرُ فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.

‌30 - بَاب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَةَ

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعَوَانُ: النَّصَفُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ، {فَاقِعٌ} صَافٍ، {لا ذَلُولٌ} لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ،

ص: 439

{تُثِيرُ الأَرْضَ} لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ، {مُسَلَّمَةٌ} مِنْ الْعُيُوبِ، {لا شِيَةَ} بَيَاضٌ، {صَفْرَاءُ} إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ وَيُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ:{جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ، {فَادَّارَأْتُمْ} اخْتَلَفْتُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَةَ) لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سِوَى شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقِصَّةُ الْبَقَرَةِ أَوْرَدَهَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَنِيًّا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَكَانَ لَهُ قَرِيبٌ وَارِثٌ فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى مَجْمَعِ الطَّرِيقِ، وَأَتَى مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ قَرِيبِي قُتِلَ وَأَتَى إِلَيَّ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا يُبَيِّنُ لِي قَاتِلَهُ غَيْرَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَنَادَى مُوسَى فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ هَذَا فَلْيُبَيِّنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ فَلْيَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَعَجِبُوا وَقَالُوا: كَيْفَ نَطْلُبُ مَعْرِفَةَ مَنْ قَتَلَ هَذَا الْقَتِيلَ فَنُؤْمَرُ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ؟ وَكَانَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ:{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} يَعْنِي: لَا هَرِمَةٌ وَلَا صَغِيرَةٌ، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أَيْ نَصَفٌ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أَيْ صَافٍ، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أَيْ تُعْجِبُهُمْ، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} الْآيَةَ، {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} - أَيْ لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ - {تُثِيرُ الأَرْضَ} يَعْنِي لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ، {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} يَقُولُ: وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ، مُسَلَّمَةٌ، أَيْ مِنَ الْعُيُوبِ، {لا

شِيَةَ فِيهَا} - أَيْ لَا بَيَاضَ - {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قَالَ: وَلَوْ أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ اسْتَرْضَوْا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُمِ اسْتَثْنَوْا فَقَالُوا:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لَمَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا أَبَدًا. فَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهَا إِلَّا عِنْدَ عَجُوزٍ، فَأَغْلَتْ عَلَيْهِمْ فِي الثَّمَنِ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَنْتُمْ شَدَّدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَأَعْطُوهَا مَا سَأَلَتْ، فَذَبَحُوهَا، فَأَخَذُوا عَظْمًا مِنْهَا فَضَرَبُوا بِهِ الْقَتِيلَ فَعَاشَ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ، ثُمَّ مَاتَ مَكَانَهُ فَأُخِذَ قَاتِلُهُ، وَهُوَ قَرِيبُهُ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَرِثَهُ فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْوَأ عَمَلِهِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَهَا هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيِّ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَفْرَاءُ إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ وَيُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ {جِمَالَتٌ صُفْرٌ} فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} إِنْ شِئْتَ صَفْرَاءُ وَإِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ كَقَوْلِهِ {جِمَالَتٌ صُفْرٌ} أَيْ سُودٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصُّفْرَةَ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْمَشْهُورِ وَعَلَى مَعْنَى السَّوَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جِمَالَةٌ صُفْرٌ فَإِنَّهَا فُسِّرَتْ بِأَنَّهَا صُفْرٌ تَضْرِبُ إِلَى سَوَادٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَخَذَ أَنَّهَا سَوْدَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} وَقَوْلُهُ: {فَادَّارَأْتُمْ} اخْتَلَفْتُمْ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قال: وَهُوَ مِنَ التَّدَارُؤ وَهُوَ التَّدَافُعُ.

‌31 - بَاب وَفَاةِ مُوسَى، وَذِكْرِهِ بَعْدُ

3407 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليهما السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ

ص: 440

شَعَرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.

3408 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ".

3409 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ".

[الحديث 3409 - أطرافه في: 4736، 4738، 6614، 7515]

3410 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ".

[الحديث 3410 - أطرافه في: 5705، 5752، 6472، 6541]

قَوْلُهُ: (وَفَاةُ مُوسَى وَذَكَرَهُ بَعْدُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِإِسْقَاطِ بَابٍ وَلِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: (وَذَكَرَهُ بَعْدُ) بِضَمِّ دَالِ بَعْدُ عَلَى الْبِنَاءِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ. أَوْرَدَهُ مَوْقُوفًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهُ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ رَفَعَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْهُ رِوَايَةَ طَاوُسٍ أَيْضًا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

قَوْلُهُ: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليهما السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ) أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ: جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرِيِّ: كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا، فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ) زَادَ هَمَّامٌ: وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي،

ص: 441

فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارٍ: فَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يُونُسَ: فَقُلْ لَهُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى مَتْنِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ هُوَ الظَّهْرُ، وَقِيلَ: مُكْتَنَفُ الصُّلْبِ بَيْنَ الْعَصَبِ وَاللَّحْمِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارٍ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَهُ بِمَا غَطَّى يَدَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ الْمَوْتُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يُونُسَ قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ مِنْ قَرِيبٍ وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، وَالْآنَ ظَرْفُ زَمَانٍ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِزَمَانِ الْحَالِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ فِي الْجَنَائِزِ.

قَوْلُهُ: (فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ جَانِبِ الطَّرِيقِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ وَهِيَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ.

قَوْلُهُ: (تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) فِي رِوَايَتِهِا عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهِيَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ أَيْضًا، وَالْكَثِيبُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ وَزْنُ عَظِيمٍ: الرَّمْلُ الْمُجْتَمِعُ، وَزَعَمَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ قَبْرَ مُوسَى بِمَدْيَنَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَعَقَّبَهُ الضِّيَاءُ بِأَنَّ أَرْضَ مَدْيَنَ لَيْسَتْ قَرِيبَةً مِنَ الْمَدِينَةِ وَلَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْ قَبْرٍ بِأَرِيحَاءَ عِنْدَهُ كَثِيبٌ أَحْمَرُ أَنَّهُ قَبْرُ مُوسَى، وَأَرِيحَاءُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَزَادَ عَمَّارٌ فِي رِوَايَتِهِ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ، وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً يَعْنِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَتَاهُ بِتُفَّاحَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَشَمَّهَا فَمَاتَ. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا دَنَتْ وَفَاتُهُ مَشَى هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَجَاءَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَظَنَّ يُوشَعُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَالْتَزَمَ مُوسَى، فَانْسَلَّ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ، فَأَقْبَلَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَوَلَّوْا دَفْنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُعَلَّقٌ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: نَحْوَهُ أَيْ إِنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ بِمَعْنَى رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ لَا بِلَفْظِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالُوا إِنْ كَانَ مُوسَى عَرَفَهُ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ فَكَيْفَ لَمْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْ فَقْءِ عَيْنِهِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ مَلَكَ الْمَوْتِ لِمُوسَى وَهُوَ يُرِيدُ قَبْضَ رُوحِهِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا بَعَثَهُ إِلَيْهِ اخْتِبَارًا، وَإِنَّمَا لَطَمَ مُوسَى مَلَكَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ رَأَى آدَمِيًّا دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ فَقْء عَيْنِ النَّاظِرِ فِي دَارِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقَدْ جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِلَى لُوطٍ فِي صُورَةِ آدَمِيِّينَ فَلَمْ يَعْرِفَاهُمِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ عَرَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَا قَدَّمَ لَهُمُ الْمَأْكُولَ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ لُوطٌ لَمَا خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَرَفَهُ فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا الْمُبْتَدِعِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ؟ ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ طَلَبَ الْقِصَاصَ مِنْ مُوسَى فَلَمْ يُقْتَصَّ لَهُ؟ وَلَخَّصَ الْخَطَّابِيُّ كَلَامَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَزَادَ فِيهِ أَنَّ مُوسَى دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا رُكِّبَ فِيهِ مِنَ الْحِدَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلِهَذَا

اسْتَسْلَمَ حِينَئِذٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ امْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا لَطَمَهُ لِأَنَّهُ جَاءَ لِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخَيِّرَهُ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ، فَلِهَذَا لَمَّا خَيَّرَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَذْعَنَ، قِيلَ: وَهَذَا أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَعُودُ أَصْلُ السُّؤَالِ فَيُقَالُ: لِمَ أَقْدَمَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَى قَبْضِ نَبِيِّ اللَّهِ وَأَخَلَّ بِالشَّرْطِ؟ فَيَعُودُ الْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ امْتِحَانًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَأَ عَيْنَهُ أَيْ أَبْطَلَ حُجَّتَهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَبِقَوْلِهِ: لَطَمَهُ

ص: 442

وَصَكَّهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ السِّيَاقِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ وَلَيْسَتْ عَيْنًا حَقِيقَةً، وَمَعْنَى رَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَعَادَهُ إِلَى خِلْقَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عَيْنَهُ الْبَشَرِيَّةَ لِيَرْجِعَ إِلَى مُوسَى عَلَى كَمَالِ الصُّورَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أُذِنَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأُمِرَ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أُمِرَ مُوسَى بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَصْنَعُ الْخَضِرُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ يَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. وَفِيهِ فَضْلُ الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْجَنَائِزِ.

وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا كَثِيرٌ جِدًّا لِأَنَّ عَدَدَ الشَّعْرِ الَّذِي تُوَارِيهِ الْيَدُ قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسَى وَبَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عُمُرِهِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَيْنِ، أَيْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ آخَرَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ عِنْدِي ثَوْبٌ وَنِصْفُهُ أَيْ وَنِصْفُ ثَوْبٍ آخَرَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أَيْ وَمَا يَذْهَبُ مِنْ عُمُرِهِ، فَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ مُوسَى أَنَّ أَجَلَهُ قَدْ كَانَ قَرُبَ حُضُورُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا مِقْدَارُ مَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنَ الْمُرَاجَعَتَيْنِ، فَأُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ أَوَّلًا مَعَ سَبْقِ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الحَدَيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) كَذَا قَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَعْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِلزُّهْرِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي التَّوْحِيدِ إِشَارَةً إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ، وَرَوَاهُ - مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَبُو سَعِيدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِشْخَاصِ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ سَبَبُ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ حَدِيثِهِ بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَةً أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْيَهُودِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ فِنْحَاصُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَمُهْمَلَتَيْنِ وَعَزَاهُ لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لِفِنْحَاصَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي لَطْمِهِ إِيَّاهُ قِصَّةٌ أُخْرَى فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الْآيَةَ. وَأَمَّا كَوْنُ اللَّاطِمِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الصِّدِّيقَ فَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ كَلَامٌ فِي شَيْءٍ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَلَطَمَهُ الْمُسْلِمُ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ) أَيْ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوْلَ الْيَهُودِيِّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِمَا فَهِمَهُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ الْعَالَمِينَ فَدَخَلَ فِيهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الضَّارِبَ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: أَيْ خَبِيثُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَطَمَ الْيَهُودِيَّ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ عِنْدَهُ.

ص: 443

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَلَطَمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ: فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ: أَتَقُولُ هَذَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟! وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الَّذِي ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَنْصَارِ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه مِنْ أَنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطْعًا، بَلْ هُوَ رَأْسُ مَنْ نَصَرَهُ وَمُقَدَّمُهُمْ وَسَابِقُهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْفَضْلِ فَقَالَ - أَيِ الْيَهُودِيُّ - يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي؟ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ - فَذَكَرَهُ - فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رُؤيَ فِي وَجْهِهِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: ادْعُوهُ لِي، فَجَاءَ فَقَالَ: أَضَرَبْتَهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

قَوْلُهُ: (لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْفَضْلِ فَقَالَ: لَا تُفَضِّلُ ابَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأُصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، لَمْ يُبَيِّنْ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مَحَلَّ الْإِفَاقَةِ مِنْ أَيِّ الصَّعْقَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ: فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّعْقِ غَشْيٌ يَلْحَقُ مَنْ سَمِعَ صَوْتًا أَوْ رَأَى شَيْئًا يُفْزَعُ مِنْهُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْإِفَاقَةَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِ الزُّمَرِ بِلَفْظِ: إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، كَذَا وَقَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الْإِشْخَاصِ، وَوَقَعَ فِي غَيْرِهَا: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ، وَجَزَمَ الْمِزِّيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَهْمٌ مِنْ رَاوِيهِ وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ مُوسَى، انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ النَّفْخَةَ الْأُولَى يَعْقُبُهَا الصَّعْقُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ، وَهُوَ الْفَزَعُ كَمَا وَقَعَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} ثُمَّ يَعْقُبُ ذَلِكَ الْفَزَعُ لِلْمَوْتَى زِيَادَةً فِيمَا هُمْ فِيهِ وَلِلْأَحْيَاءِ مَوْتًا، ثُمَّ يُنْفَخُ الثَّانِيَةَ لِلْبَعْثِ فَيُفِيقُونَ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ كَانَ مَقْبُورًا انْشَقَّتْ عَنْهُ الْأَرْضُ فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ، وَمَنْ لَيْسَ بِمَقْبُورٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُوسَى مِمَّنْ قُبِرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، أَخْرَجَهُ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا قَرَّرْتُهُ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ جَمِيعِ الْخَلْقِ يُصْعَقُونَ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَى لَا إِحْسَاسَ لَهُمْ، فَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ هُمُ الْأَحْيَاءُ، وَأَمَّا الْمَوْتَى فَهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أَيْ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصْعَقُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا فِي صُورَةِ الْأَمْوَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِلشُّهَدَاءِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الشُّهَدَاءَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَعْقَةَ فَزَعٍ بَعْدَ الْبَعْثِ حِينَ

ص: 444

تَنْشَقُّ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ يَلْقَى مُوسَى وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَرْشِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ نَفْخَةِ الْبَعْثِ، انْتَهَى. وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَرِيحًا كَمَا تَقَدَّمَ: إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ فَأُصْعَقُ مَعَهُمْ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: أَفَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ أَفَاقَ مِنَ الْغَشْيِ وَبُعِثَ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَذَا عَبَّرَ عَنْ صَعْقَةِ الطُّورِ بِالْإِفَاقَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْتًا بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ ظَهَرَ صِحَّةُ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا غَشْيَةٌ تَحْصُلُ لِلنَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ وَتَعَقُّبِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي إِطْلَاقِ الْأَوَّلِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَعُرِفَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْأَوَّلِيَّةِ فِي غَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَيْهَا، وَسَبَبُهُ التَّرَدُّدُ فِي مُوسَى عليه السلام كَمَا سَيَأْتِي، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ سَائِرُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ رَفَعَهُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ) أَيْ آخِذٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَرْشِ بِقُوَّةٍ، وَالْبَطْشُ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْفَضْلِ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) أَيْ فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ صُعِقَ، أَيْ فَإِنْ كَانَ أَفَاقَ قَبْلِي فَهِيَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ فَلَمْ يُصْعَقْ فَهِيَ فَضِيلَةٌ أَيْضًا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَلَا أَدْرِي كَانَ فِيمَنْ صُعِقَ - أَيْ فَأَفَاقَ قَبْلِي - أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ الْأُولَى أَيِ الَّتِي صُعِقَهَا لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ الْفَضْلِ فِي رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْفَضْلِ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَيَانَ السَّبَبِ فِي اسْتِثْنَائِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ حُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ فَلَمْ يُكَلَّفْ بِصَعْقَةٍ أُخْرَى. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْلُهُ: {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: اسْتَثْنَى اللَّهُ أَيْ جَعَلَهُ ثَانِيًا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ غَلَطٌ شَنِيعٌ. وَقَدْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ أَنْ لَا تُصِيبَهُ النَّفْخَةُ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي.

وَزَعَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَكَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالْمَحْفُوظُ أَوْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ قَالَ: لِأَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ قَدْ مَاتُوا مِنْ صَعْقَةِ النَّفْخَةِ لَا مِنَ الصَّعْقَةِ الْأُخْرَى، فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ هَذِهِ صَعْقَةُ النَّفْخَةِ وَأَنَّ مُوسَى دَاخِلٌ فِيمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَلْتَئِمُ عَلَى سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ حِينَئِذٍ هِيَ إِفَاقَةُ الْبَعْثِ فَلَا يَحْسُنُ التَّرَدُّدُ فِيهَا، وَأَمَّا الصَّعْقَةُ الْعَامَّةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ إِذَا جَمَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُصْعَقُ الْخَلْقُ حِينَئِذٍ جَمِيعًا إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي مُوسَى عليه السلام. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ صُعِقَ، وَتَرَدَّدَ فِي مُوسَى هَلْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلَهُ أَمْ لَمْ يُصْعَقْ؟ قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الصَّعْقَةَ الْأُولَى لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَزَمَ بِأَنَّهُ مَاتَ، وَتَرَدَّدَ فِي مُوسَى هَلْ مَاتَ أَمْ لَا؟ وَالْوَاقِعُ أَنَّ مُوسَى قَدْ كَانَ مَاتَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا صَعْقَةُ فَزَعٍ لَا صَعْقَةُ مَوْتٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِي، فَآتِي قَائِمَةَ الْعَرْشِ فَأَجِدُ مُوسَى قَائِمًا عِنْدَهَا فَلَا أَدْرِي، أَنَفَضَ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَفَضَ التُّرَابَ قَبْلِي تَجْوِيزَ الْمَعِيَّةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْقَبْرِ، أَوْ هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَبْرِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِمُوسَى

ص: 445

كَمَا تَقَدَّمَ.

(تَكْمِيلٌ):

زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ النَّفَخَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرْبَعٌ:

الْأُولَى: نَفْخَةُ إِمَاتَةٍ يَمُوتُ فِيهَا مَنْ بَقِيَ حَيًّا فِي الْأَرْضِ.

وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ إِحْيَاءٍ يَقُومُ بِهَا كُلُّ مَيِّتٍ وَيُنْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ وَيُجْمَعُونَ لِلْحِسَابِ.

وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ فَزَعٍ وَصَعْقٍ يُفِيقُونَ مِنْهَا كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ لَا يَمُوتُ مِنْهَا أَحَدٌ.

وَالرَّابِعَةُ: نَفْخَةُ إِفَاقَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْغَشْيِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الثِّنْتَيْنِ أَرْبَعًا لَيْسَ بِوَاضِحٍ، بَلْ هُمَا نَفْخَتَانِ فَقَطْ، وَوَقَعَ التَّغَايُرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ مَنْ يَسْتَمِعُهُمَا.

فَالْأُولَى: يَمُوتُ بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيُغْشَى عَلَى مَنْ لَمْ يَمُتْ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ.

وَالثَّانِيَةُ: يَعِيشُ بِهَا مَنْ مَاتَ وَيُفِيقُ بِهَا مَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ بِرَأْيِهِ لَا مَنْ يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ، أَوْ مَنْ يَقُولُهُ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالتَّنَازُعِ، أَوِ الْمُرَادُ لَا تُفَضِّلُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ لِلْمَفْضُولِ فَضِيلَةٌ، فَالْإِمَامُ مَثَلًا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤَذِّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَانِ، وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنِ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ نَفْسِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وَلَمْ يَنْهَ عَنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الذَّوَاتِ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا هِيَ فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِالْمُخَايَرَةِ، لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَ أَهْلِ دِينَيْنِ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا إِلَى ازْدِرَاءٍ بِالْآخَرِ فَيُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّخْيِيرُ مُسْتَنِدًا إِلَى مُقَابَلَةِ الْفَضَائِلِ لِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى. سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ شَهَادَةُ آدَمَ لِمُوسَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ.

(تَنْبِيهٌ):

: قَوْلُهُ: ثُمَّ تَلُومُنِي كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدَيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَرْضِ الْأُمَمِ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَعَ شَرْحِهِ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ أَنَّ أُمَّةَ مُوسَى أَكْثَرُ الْأُمَمِ بَعْدَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

‌32 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}

3411 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.

[الحديث 3411 - أطرافه في: 3433، 3769، 5418]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ ذِكْرُ آسِيَةَ وَهِيَ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، قِيلَ إِنَّهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنَّهَا عَمَّةُ مُوسَى، وَقِيلَ إِنَّهَا مِنَ الْعَمَالِيقِ، وَقِيلَ: ابْنَةُ عَمِّ فِرْعَوْنَ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا مُفْرَدًا بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ) مُرَّةُ وَالِدُ عَمْرٍو غَيْرُ مُرَّةَ شَيْخِهِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَارِقٍ الْجَمَلِيُّ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ - الْمُرَادِيُّ، ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنْ صِغَارِ

ص: 446

التَّابِعِينَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَطْعِمَةِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجَمَلِيُّ، وَأَمَّا شَيْخُهُ مُرَّةُ فَهُوَ ابْنُ شَرَاحِيلَ، مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ عَابِدٌ أَيْضًا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، يُقَالُ لَهُ مُرَّةُ الطَّيِّبُ وَمُرَّةُ الْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: (كَمُلَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ) اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَصْرِ عَلَى أَنَّهُمَا نَبِيَّتَانِ لِأَنَّ أَكْمَلَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، فَلَوْ كَانَتَا غَيْرَ نَبِيَّتَيْنِ لَلَزِمَ أَلَّا يَكُونَ فِي النِّسَاءِ وَلِيَّةٌ وَلَا صِدِّيقَةٌ وَلَا شَهِيدَةٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُنَّ مَوْجُودَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَمْ يُنَبَّأْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا فُلَانَةٌ وَفُلَانَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ أَوِ الْوِلَايَةِ أَوِ الشَّهَادَةِ إِلَّا لِفُلَانَةٍ وَفُلَانَةٍ لَمْ يَصِحَّ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِنَّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ كَمَالَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهِ إِلَّا لِعَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَفْضَلِيَّةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ فَضْلَ الثَّرِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الطَّعَامِ إِنَّمَا هُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَيْسِيرِ الْمُؤْنَةِ وَسُهُولَةِ الْإِسَاغَةِ، وَكَانَ أَجَلَّ أَطْعِمَتِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْخِصَالِ لَا تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأَفْضَلِيَّةِ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَقَدْ يَكُونُ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى.

وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَحَدِ رُوَاتِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّةَ خَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا وَذَلِكَ فِيمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى مَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّةَ خَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ، وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَلِأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَإِنْ ثَبَتَ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ آسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنٍ لَيْسَتْ نَبِيَّةً، وَسَيَأْتِي فِي مَنَاقِبِ فَاطِمَةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا إِنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ مَزِيدِ بَسْطٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَةِ زِيَادَةٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّرِيدِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَّا آسِيَةُ فَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الْكَمَالِ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهَا لِأَنَّهُ يُطْلَقُ لِتَمَامِ الشَّيْءِ وَتَنَاهِيهِ فِي بَابِهِ، فَالْمُرَادُ بُلُوغُهَا النِّهَايَةَ فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ الَّتِي لِلنِّسَاءِ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ النِّسَاءِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ نُبِّئَ وَهُنَّ سِتٌّ: حَوَّاءُ وَسَارَةُ وَأُمُّ مُوسَى وَهَاجَرُ وَآسِيَةُ وَمَرْيَمُ، وَالضَّابِطُ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ جَاءَهُ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ بِحُكْمٍ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ بِإِعْلَامٍ مِمَّا سَيَأْتِي فَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَدْ ثَبَتَ مَجِيءُ الْمَلَكِ لِهَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ شَتَّى مِنْ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْإِيحَاءِ لِبَعْضِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ.

وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَحْدُثِ التَّنَازُعُ فِيهَا إِلَّا فِي عَصْرِهِ بِقُرْطُبَةَ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَقْوَالًا ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، قَالَ: وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا} قَالَ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَدَّعِ فِيهِنَّ الرِّسَالَةَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النُّبُوَّةِ فَقَطْ. قَالَ: وَأَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ مَرْيَمَ، وَفِي قِصَّةِ أُمِّ مُوسَى مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ لَهَا مِنْ مُبَادَرَتِهَا

ص: 447

بِإِلْقَاءِ وَلَدِهَا فِي الْبَحْرِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ فَضَائِلِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ أَنَّهَا اخْتَارَتِ الْقَتْلَ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا عَلَى النَّعِيمِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَتْ فِرَاسَتُهَا فِي مُوسَى عليه السلام صَادِقَةً حِينَ قَالَتْ:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي}

‌33 - بَاب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} الْآيَةَ

{لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ} لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ، يُقَالُ:{الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلُ:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} الْآيَةَ) هُوَ قَارُونُ بْنُ يصفد بْنِ يصهر ابْنِ عَمِّ مُوسَى، وَقِيلَ: كَانَ عَمَّ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى قَالَ: وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، النَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ بَغْيِ قَارُونَ فَقِيلَ: الْحَسَدُ، لِأَنَّهُ قَالَ: ذَهَبَ مُوسَى وَهَارُونُ بِالْأَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ. وَقِيلَ إنَّهُ وَاطَأَ امْرَأَةً مِنَ الْبَغَايَا أَنْ تَقْذِفَ مُوسَى بِنَفْسِهَا فَأَلْهَمَهَا اللَّهُ أَنِ اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ الْكِبْرُ لِأَنَّهُ طَغَى بِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَطَالَ ثِيَابَهُ حَتَّى زَادَتْ عَلَى قَامَتِهِ شِبْرًا.

قَوْلُهُ: {لَتَنُوءُ} لَتَثْقُلَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} يَقُولُ تَثْقُلُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولِي الْقُوَّةِ لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ) وَاخْتُلِفَ فِي الْعُصْبَةِ فَقِيلَ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: {الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أَيِ الْمَرِحِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْطَرُونَ فَلَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ.

قَوْلُهُ: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ، مِثْلُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَيْكَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْبَبْ

وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرّ

وَذَهَبَ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّ وَيْ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ وَكَأَنَّ حَرْفُ تَشْبِيهٍ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ هِيَ كَلِمَةٌ مَوْصُولَةٌ.

قَوْلُهُ: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} يُوَسِّعُ وَيُكْثِرُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقْدِرُ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَيْ ضَاقَ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي قِصَّةِ قَارُونَ إِلَّا هَذِهِ الْآثَارَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَطْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مُوسَى يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قَارُونَ فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ مُوسَى يَقُولُ: مَنْ زَنَى رُجِمَ، فَتَعَالَوْا نَجْعَلُ لِبَغِيٍّ شَيْئًا حَتَّى تَقُولَ إِنَّ مُوسَى فَعَلَ بِهَا فَيُرْجَمُ فَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا خَطَبَهُمْ مُوسَى قَالُوا لَهُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا. فَقَالُوا: فَقَدْ زَنَيْتَ، فجزع، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَرْأَةِ فَلَمَّا جَاءَتْ عَظُمَ عَلَيْهَا مُوسَى، وَسَأَلَهَا بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا صَدَقَتْ، فَأَقَرَّتْ بِالْحَقِّ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ

ص: 448

فَأْمُرْهَا بِمَا شِئْتَ، فَأَمَرَهَا فَخَسَفَتْ بِقَارُونَ وَمَنْ مَعَهُ.

وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ قَارُونَ أَنَّهُ حَصَّلَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا حَتَّى قِيلَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ كَانَتْ مِنْ جُلُودٍ تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا وَكَانَ يَسْكُنُ تِنِّيسَ، فَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزَ الْحَرُورِيَّ ظَفِرَ بِبَعْضِ كُنُوزِ قَارُونَ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى تِنِّيسَ، فَلَمَّا مَاتَ تَأَمَّرَ ابْنُهُ عَلِيٌّ مَكَانَهُ وَتَوَرَّعَ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ذَلِكَ فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْحَسَنِ إِنِّي اسْتَطَيبْتُ لَكَ مِنْ مَالِ أَبِيكَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ فَخُذْهَا فَقَالَ: أَنَا تَرَكْتُ الْكَثِيرَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطِبْ لِي فَكَيْفَ آخُذُ هَذَا الْقَلِيلَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الصَّحِيحِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا.

‌34 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}

إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ؛ لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ، وَمِثْلُهُ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَاسْأَلْ الْعِيرَ، يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَأَهْلَ الْعِيرِ. {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ. يُقَالُ: إِذَا لَمْ تقْضِ حَاجَتَهُ: ظَهَرْتَ حَاجَتِي، وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا. قَالَ: الظِّهْرِيُّ: أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ. مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ. يَغْنَوْا يَعِيشُوا. يأْيسَ: يحْزَنْ، {آسَى} أَحْزَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:{إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ: الْأَيْكَةُ. {يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلَالُ الْغَمَامِ: الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} هُوَ شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بْنِ يشجر بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا يَثْبُتُ. وَقِيلَ: يشجر بْنُ عنقا بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ صفور بْنِ عنقا بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ. وَكَانَ مَدْيَنُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُحْرِقَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَنِي عَنَزَةَ بْنِ أَسَدٍ، فَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ فَقَالَ: نِعْمَ الْحَيُّ عَنَزَةُ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِمْ مَنْصُورُونَ رَهْطُ شُعَيْبٍ وَأَخْتَانُ مُوسَى. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَجَاهِيلُ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} - وَاسْأَلِ الْعِيرَ) يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ.

قَوْلُهُ: {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَيُقَالُ إِذَا لَمْ تُقْضَ حَاجَتُهُ ظَهَرْتَ حَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا قَالَ: الظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أَيْ أَلْقَيْتُمُوهُ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ فَلَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَتَقُولُ لِلَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا: ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي وَجَعَلْتَهَا ظِهْرِيَّةً، أَيْ خَلْفَ ظَهْرِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَجَدْنَا بَنِي الْبَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ

أَيْ مِنَ الَّذِينَ يُظَهِّرُونَ بِهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ) هَكَذَا وَقَعَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مَكَانَتِكُمْ فِي قَوْلِهِ:{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} ثُمَّ هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يس فِي قَوْلِهِ: مَكَانَتِهِمْ الْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَيْ لَمْ يَنْزِلُوا فِيهَا وَلَمْ يَعِيشُوا فِيهَا، قَالَ: وَالْمَغْنَى الدَّارُ، الْجَمْعُ مَغَانِي، يَغنِي بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: {تَأْسَ} تَحْزَنْ، {آسَى} أَحْزَنُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ آسَى أَيْ أَحْزَنُ وَأَنْدَمُ وَأَتَوَجَّعُ الْأَسَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{تَأْسَ} يحْزَنْ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}

ص: 449

وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا اسْتِطْرَادًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِهَذَا، وَأَرَادَ الْحَسَنُ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ وَمُرَادُهُمْ عَكْسُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ الْأَيْكَةُ، {يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ) كَذَا قَرَأَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلِهِ:{عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قَالَ: إِظْلَالُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ سِوَى هَذِهِ الْآثَارِ، وَهِيَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي فَقَطْ. قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُ فِي الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَغَيْرِهَا، وَجَاءَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّتَيْنِ: أَصْحَابِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَرَجَّحَ بِأَنَّهُ وُصِفَ فِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَقَالَ فِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - وَالصَّيْحَةُ) وَفِي أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ مَدْيَنَ هُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ، وَأَجَابُوا عَنْ تَرْكِ ذِكْرِ الْأُخُوَّةِ فِي أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَيْكَةَ وَوَقَعَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ نَاسَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْأُخُوَّةَ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْمُعَذَّبِينَ فَلْيَكُنِ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِالرَّجْفَةِ غَيْرَ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِالصَّيْحَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِمْ وَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْأَيْكَةِ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَهُوَ مُلِيمٌ}

قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ. الْمَشْحُونُ: الْمُوقَرُ. {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الْآيَةَ. {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} بِوَجْهِ الْأَرْضِ. {وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ: الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهِ. {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، {كَظِيمٌ} وَهُوَ مَغْمُومٌ.

3412 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ ح.

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ. زَادَ مُسَدَّدٌ: يُونُسَ بْنِ مَتَّى.

[الحديث 3412 - طرفاه في: 4603، 4804]

3413 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.

3414 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: تَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا، فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي؟ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ فَذَكَرَهُ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ

ص: 450

أولياء اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي.

3415 -

وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.

[الحديث 3415 - أطرافه في: 3416، 4604، 4631، 4805]

3416 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَهُوَ مُلِيمٌ} هُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ مَقْصُورٌ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ اسْمُ أُمِّهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ فَهَذَا أَصَحُّ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى اتِّصَالِ نَسَبِهِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ مِنَ الْفُرْسِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ) يَعْنِي تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مُلِيمٌ} وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} مِنْ أَلَامَ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمُلِيمُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ اللَّوْمَ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمَشْحُونُ الْمَمْلُوءُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ.

قَوْلُهُ: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} - الْآيَةَ - {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} بِوَجْهِ الْأَرْضِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} أَيْ بِوَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ نَبَذْتُهُ بِالْعَرَاءِ أَيْ بِالْأَرْضِ الْفَضَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي وَالْعَرَاءُ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ يُوَارِي مِنْ شَجَرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَاءُ الْمَكَانُ الْخَالِي.

قَوْلُهُ: (مِنْ يَقْطِينٍ: مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ، الدُّبَّاءُ وَنَحْوُهُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَزَادَ: لَيْسَ لَهَا سَاقٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَقُومُ عَلَى سَاقٍ فَهِيَ يَقْطِينٌ نَحْوُ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْظَلِ وَالْبِطِّيخِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْقَرْعُ، وَقِيلَ التِّينُ وَقِيلَ الْمَوْزُ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي الْقَرْعِ هِيَ شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} . كَظِيمٌ: مَغْمُومٌ) كَذَا فِيهِ، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أَيْ مِنَ الْغَمِّ مِثْلُ كَظِيمٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَهُوَ مَكْظُومٌ} يَقُولُ: مَغْمُومٌ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَ الْيَهُودِيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي أَوَاخِرِ قِصَّةِ مُوسَى، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. وَحَدِيثَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا مُقْتَصِرًا عَلَى مِثْلِ لَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقُولَ. . . إِلَخْ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ سَبَّحَ اللَّهَ فِي الظُّلُمَاتِ فَأَشَارَ إِلَى جِهَةِ الْخَيْرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ

ص: 451

عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَتَّى اسْمُ أُمِّهِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي الْمُبْتَدَا، وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ.

وَقِيلَ: سَبَبُ قَوْلِهِ: وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ يُونُسُ ابْنُ فُلَانٍ فَنَسِيَ الرَّاوِي اسْمَ الْأَبِ وَكَنَّى عَنْهُ بِفُلَانٍ، وَقِيلَ: إِنْ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ الَّذِي نَسِيَ اسْمَ أَبِيهِ يُونُسُ بْنُ مَتَّى وَهُوَ أُمُّهُ ثُمَّ اعْتَذَرَ فَقَالَ وَنَسَبَهُ - أَيْ شَيْخُهُ - إِلَى أَبِيهِ أَيْ سَمَّاهُ فَنَسَبَهُ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا التَّأْوِيلِ وَتَكَلُّفُهُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ تَوَاضُعًا إِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ أُعْلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ، وَقِيلَ: خَصَّ يُونُسَ بِالذِّكْرِ لِمَا يَخْشَى عَلَى مَنْ سَمِعَ قِصَّتَهُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَنْقِيصٌ لَهُ فَبَالَغَ فِي ذِكْرِ فَضْلِهِ لِسَدِّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ.

وَقَدْ رَوَى قِصَّتَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَذَّبُوهُ، فَوَعَدَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَخَرَجَ عَنْهُمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا آثَارَ ذَلِكَ خَضَعُوا وَتَضَرَّعُوا وَآمَنُوا، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَذَهَبَ يُونُسُ فَرَكِبَ سَفِينَةً فَلَجَّجَتْ بِهِ، فَاقْتَرَعُوا فِيمَنْ يَطْرَحُونَهُ مِنْهُمْ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَفِيهِ: وَأَصْبَحَ يُونُسُ فَأَشْرَفَ عَلَى الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ الْعَذَابَ وَقَعَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ، فَانْطَلَقَ مُغَاضِبًا حَتَّى رَكِبَ سَفِينَةً - وَقَالَ فِيهِ - فَقَالَ لَهُمْ يُونُسُ إِنَّ مَعَهُمْ عَبْدًا آبِقًا مِنْ رَبِّهِ وَإِنَّهَا لَا تَسِيرُ حَتَّى تُلْقُوهُ، فَقَالُوا: لَا نُلْقِيكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبَدًا، قَالَ فَاقْتَرَعُوا فَخَرَجَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَلْقَوْهُ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَبَلَغَ بِهِ قَرَارَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} الْآيَةَ. وَرَوَى الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ أَنْ لَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا وَلَا يَخْدِشَ لَهُ لَحْمًا، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى قَعْرِ الْبَحْرِ سَبَّحَ اللَّهَ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ.

قَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسَ، فَشَفَعُوا لَهُ، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ - قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ قَالَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ثَلَاثًا، وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْتَقَمَهُ ضُحًى، وَلَفَظَهُ عَشِيَّةً.

‌36 - بَاب

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ: يُجَاوِزُونَ فِي السَّبْتِ

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} - شَوَارِعَ، إِلَى قَوْلِهِ - {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الْجُمْهُورُ أَنَّ الْقَرْيَةَ الْمَذْكُورَةَ أَيْلَةُ وَهِيَ الَّتِي عَلَى طَرِيقِ الْحَاجِّ الذَّاهِبِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مِصْرَ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا طَبَرِيَةُ.

قَوْلُهُ: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ، يَتَجَاوَزُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أَيْ يَتَعَدَّوْنَ فِيهِ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَيَتَجَاوَزُونَ.

قَوْلُهُ: {شُرَّعًا} شَوَارِعَ - إِلَى قَوْلِهِ - {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ: أَيْ شَدِيدٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، قَالَ الشَّاعِرُ:

حَنِقًا عَلَيَّ وَمَا تَرَى

لِي فِيهِمْ أَمْرًا بَئِيسًا

ص: 452

وهَذَا عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى بِوَزْنِ حَذِرٍ، وَقُرِئَ شَاذًّا بِوَزْنِ هَيِّنٍ وَهَيْنٍ مُذَكَّرَيْنِ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ فِيهِ مُبْهَمٌ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ مُعْضَلًا، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ أَصْحَابَ السَّبْتِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ وَأَنَّهُمْ لَمَّا تَحَيَّلُوا عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ بِأَنْ نَصَبُوا الشِّبَاكَ يَوْمَ السَّبْتِ ثُمَّ صَادُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ وَنَهَوْهُمْ فَأَغْلَظُوا لَهُمْ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى دَعُوهُمْ وَاعْتَزِلُوا بِنَا عَنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا يَوْمًا فَلَمْ يَرَوُا الَّذِينَ اعْتَدَوْا فَتَحُوا أَبْوَابَهُمْ فَأَمَرُوا رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سُلَّمٍ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَرَآهُمْ قَدْ صَارُوا قِرَدَةً، فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِمْ، فَيَقُولُ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ: أَلَمْ نَقُلْ لَكُمْ، أَلَمْ نَنْهَكُمْ فَيُشِيرُونَ بِرُءُوسِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا قَلِيلًا وَهَلَكُوا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَارَ شَبَابُهُمْ قِرَدَةً وَشُيُوخُهُمْ خَنَازِيرَ.

‌37 - بَاب قَوْلِه تَعَالَى {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}

الزُّبُرُ: الْكُتُبُ، وَاحِدُهَا زَبُورٌ، زَبَرْتُ كَتَبْتُ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ. {وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} الدُّرُوعَ. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ، وَلَا يُرقَّ الْمِسْمَارَ فَيَسَلْسَ، وَلَا يُعَظِّمْ فَيَنفْصِمَ. أفرغ: أنزل. بسطة: زيادة وفضلا. {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

3417 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3418 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ وَاللَّهِ لَاصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَاقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهِ لَاصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَاقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ قُلْتُ قَدْ قُلْتُهُ قَالَ إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قَالَ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا

ص: 453

أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ".

3419 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ الْعَيْنُ، وَنَفِهَتْ النَّفْسُ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، أَوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ بِي، قَالَ مِسْعَرٌ: يَعْنِي قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} هُوَ دَاوُدَ بْنُ إِيشَا بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ابْنِ عَوْبَدٍ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ ابْنِ بَاعِرَ بِمُوَحَّدَةِ وَمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ابْنِ سَلَمُونَ بْنِ يَارِبَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ ابْنِ رَامَ بْنِ حَضْرُونَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ابْنِ فَارِصَ بِفَاءٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ ابْنِ يَهُوذَا، بْنِ يَعْقُوبَ.

قَوْلُهُ: (الزُّبُرُ الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ، زَبَرْتُ: كَتَبْتُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أَيْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَاحِدُهَا زَبُورٌ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: زَبُورٌ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، تَقُولُ زَبَرْتُهُ فَهُوَ مَزْبُورٌ مِثْلُ كَتَبْتُهُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ، وَقُرِئَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَهُوَ جَمْعُ زُبُرٍ. قُلْتُ: الضَّمُّ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ.

قَوْلُهُ: {أَوِّبِي مَعَهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَعَنِ الضَّحَاكِ هُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ قَتَادَةَ: مَعْنَى أَوِّبِي سِيرِي.

قَوْلُهُ: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} الدُّرُوعُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أَيْ دُرُوعًا وَاسِعَةً طَوِيلَةً.

قَوْلُهُ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} الْمَسَامِيرَ وَالْحِلَقَ، وَلَا تُرِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَسْلَسَ، وَلَا تُعَظِّمْ فَيَنْفَصِمَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ لَا تَدُقَّ بِالدَّالِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَعِنْدَهُمْ فَيَتَسَلْسَلَ وَفِي آخِرِهِ فَيَفْصِمَ بِغَيْرِ نُونٍ، وَوَافَقَهُ الْأَصِيلِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْلَسَ وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَمَعْنَاهُا فَيَخْرُجَ مِنَ الثَّقْبِ بِرِفْقٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَحَرِّكًا فَيَلِينُ عِنْدَ الْخُرُوجِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَيَتَسَلْسَلُ أَيْ يَصِيرُ كَالسِّلْسِلَةِ فِي اللِّينِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَالْفَصْمُ بِالْفَاءِ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أَيْ قَدِّرِ الْمَسَامِيرَ وَالْحِلَقَ، وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} لَا تُرِقَّ الْمَسَامِيرَ فَيَسْلَسَ، وَلَا تُغَلِّظْهُ فَيَفْصِمَهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ دِرْعٌ مُسَرَّدَةٌ أَيْ مُسْتَدِيرَةُ الْحِلَقِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا

دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ

وَهُوَ مِثْلُ مِسْمَارِ السَّفِينَةِ.

قَوْلُهُ: (أُفْرِغَ أُنْزِلَ) لَمْ أَعْرِفِ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا، وَاسْتَقْرَيْتُ قِصَّةَ دَاوُدَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا فَلَمْ أَجِدْهَا، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ: (بَسْطَةً: زِيَادَةً وَفَضْلًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أَيْ زِيَادَةً وَفَضْلًا وَكَثْرَةً، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي قِصَّةِ طَالُوتَ وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهَا لَمَّا كَانَ آخِرُهَا مُتَعَلِّقًا بِدَاوُدَ فَلَمَّحَ بِشَيْءٍ مِنْ قِصَّةِ طَالُوتَ، وَقَدْ قَصَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدَيثُ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ. وفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْقِرَاءَةُ

ص: 454

قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْجَمْعُ وَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتَهُ فَقَدْ قَرَأْتَهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ الزَّبُورُ، وَقِيلَ التَّوْرَاةُ، وَقِرَاءَةُ كُلِّ نَبِيٍّ تُطْلَقُ عَلَى كِتَابِهِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ قُرْآنًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُقُوعِ الْمُعْجِزَةِ بِهِ كَوُقُوعِ الْمُعْجِزَةِ بِالْقُرْآنِ أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدُوا بَيْنَ الزَّبُورِ وَالتَّوْرَاةِ لِأَنَّ الزَّبُورَ كُلَّهُ مَوَاعِظُ، وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَحْكَامَ مِنَ التَّوْرَاةِ. قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الزَّبُورَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سُورَةً كُلُّهَا مَوَاعِظُ وَثَنَاءٌ، لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَلَا فَرَائِضُ وَلَا حُدُودٌ، بَلْ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى التَّوْرَاةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْبَرَكَةَ قَدْ تَقَعُ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ مَا بَلَغَنَا مِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ أَرْبَعَ خَتَمَاتٍ بِاللَّيْلِ وَأَرْبَعًا بِالنَّهَارِ، وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَادَّعَى شَيْئًا مُفْرِطًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بِدَوَابِّهِ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الْآتِيَةِ بِدَابَّتِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا هُوَ فِي التَّفْسِيرِ، وَيُحْمَلُ الْإِفْرَادُ عَلَى الْجِنْسِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا مَا يَخْتَصُّ بِرُكُوبِهِ، وَبِالْجَمْعِ مَا يُضَافُ إِلَيْهَا مِمَّا يَرْكَبُهُ أَتْبَاعُهُ.

قَوْلُهُ: (فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى فَلَا تُسْرَجُ حَتَّى يَقْرَأَ الْقُرْآنَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ وَأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَكَاسِبِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَمَلَ الْيَدِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِلنَّفْسِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ دَاوُدُ بِيَدِهِ هُوَ نَسْجُ الدُّرُوعِ، وَأَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ، فَكَانَ يَنْسِجُ الدُّرُوعَ وَيَبِيعُهَا وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُلُوكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَعَ سَعَتِهِ بِحَيْثُ إنَّهُ كَانَ لَهُ دَوَابٌّ تُسْرَجُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهَا غَيْرُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَوَرَّعُ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِمَّا يَعْمَلُ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ - وَهُوَ حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.

3418 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ؟ قُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ، قَالَ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ حَدَيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي مُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: صِيَامُ دَاوُدَ.

‌38 - بَاب أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ

كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا

قَالَ عَلِيٌّ: وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا

3420 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَذَكَرَ الطَّرِيقَ الثَّالِثَةَ مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهُ دُونَ الْبَابِ وَدُونَ قَوْلِ عَلِيٍّ، وَلَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا، وَأَظُنُّهُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ،

ص: 455

وَأَرَادَ بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَيَنَامُ سُدُسَهُ أَيِ السُّدُسَ الْأَخِيرَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يُوَافِقُ ذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَا أَلْفَاهُ بِالْفَاءِ أَيْ وَجَدَهُ وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالسَّحَرُ الْفَاعِلُ، أَيْ لَمْ يَجِئِ السَّحَرُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدِي إِلَّا وَجَدَهُ نَائِمًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.

‌39 - بَاب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}

قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ. {وَلا تُشْطِطْ} لَا تُسْرِفْ. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} - يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ - {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} - مِثْلُ وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ ضَمَّهَا - {وَعَزَّنِي} غَلَبَنِي، صَارَ أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ: جَعَلْتُهُ عَزِيزًا. {فِي الْخِطَابِ} يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ. {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ: فَتَّنَّاهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}

3421 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَوَّامَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَسْجُدُ فِي ص؟ فَقَرَأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} - حَتَّى أَتَى - {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.

[الحديث 3421 - أطرافه في: 4632، 4806، 4807]

3422 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَيْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} الْأَيْدُ الْقُوَّةُ، وَكَانَ دَاوُدَ مَوْصُوفًا بِفَرْطِ الشَّجَاعَةِ، وَالْأَوَّابُ يَأْتِي تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ) أَيِ الْمُرَادُ بِفَصْلِ الْخِطَابِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْحِكْمَةُ الصَّوَابُ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: فَصْلُ الْخِطَابِ إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَصْلُ الْخِطَابِ الْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ وَمَا قَالَ مِنْ شَيْءٍ أَنْفَذَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَصْلُ الْخِطَابِ قَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ، وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ أَمَّا بَعْدُ دَاوُدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَذَكَرَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحٍ قَالَ: فَصْلُ الْخِطَابِ الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: {وَلا تُشْطِطْ} لَا تُسْرِفْ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ لَا تَجُرْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تُشْطِطْ} أَيْ لَا تَمِلْ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ لَا تَخَفْ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أَيِ امْرَأَةٌ، قَالَ الْأَعْشَى:

فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ

فَأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبِهَا وَطِحَالَهَا

قَوْلُهُ: (فَقَالَ {أَكْفِلْنِيهَا} مِثْلُ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ضَمَّهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}

ص: 456

هُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا أَيْ ضَمَّهَا إِلَيْهِ، وَتَقُولُ كَفَلْتُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ ضَمِنْتُهُ.

قَوْلُهُ: {وَعَزَّنِي} غَلَبَنِي) صَارَ أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزًا، فِي الْخِطَابِ يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} : أَيْ صَارَ أَعَزَّ مِنِّي فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنْ دَعَا وَدَعَوْتُ كَانَ أَكْثَرَ مِنِّي، وَإِنْ بَطَشْتُ وَبَطَشَ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: مَعْنَاهُ قَهَرَنِي وَظَلَمَنِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ فَمُرَادُهُ تَفْسِيرُ الْخِطَابِ بِالْمُحَاوَرَةِ، وَهِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}

قَوْلُهُ: {الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءُ) حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَتَنَّاهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ، وَقَرَأَ عُمَرُ فَتَّنَّاهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ) أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ عُمَرَ فَمَذْكُورَةٌ فِي الشَّوَاذِّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَنُقِلَ التَّشْدِيدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدَيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّجُودِ فِي ص أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَالْعَوَّامُ هُوَ ابْنُ حَوْشَبٍ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَسْجَدُ) بِنُونٍ، وَلِلكُشمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي أَأَسْجَدُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌40 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}

الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ. وَقَوْلِهِ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} - أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ - {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مِنْ مَحَارِيبَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ. {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} كَالْحِيَاضِ لِلْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنْ الْأَرْضِ. {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} - إلى قوله - {الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ} - الْأَرَضَةُ - {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ {فَلَمَّا خَرَّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {الْمُهِينِ} ، {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي * فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا. الْأَصْفَادُ: الْوَثَاقُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ. {الْجِيَادُ} السِّرَاعُ. {جَسَدًا} شَيْطَانًا. {رُخَاءً} طَيِّبَةً. {حَيْثُ أَصَابَ} حَيْثُ شَاءَ. {فَامْنُنْ} أَعْطِ. {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِغَيْرِ حَرَجٍ.

3423 -

حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي

ص: 457

مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا. عِفْرِيتٌ: مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ، مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ.

3424 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَاطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ.

3425 -

حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ".

3426 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ".

3427 -

"وَقَالَ: كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةُ".

[الحديث 3427 - طرفه في: 6769]

قَوْلُهُ: (قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ) هُوَ تَفْسِيرُ الْأَوَّابِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ عَنِ الذُّنُوبِ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الْمُطِيعُ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ الْمُسَبِّحُ.

قَوْلُهُ: {مِنْ مَحَارِيبَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ كَذَلِكَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمَحَارِيبُ جَمْعُ مِحْرَابٍ وَهُوَ مُقَدَّمُ كُلِّ بَيْتٍ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَسْجِدُ وَالْمُصَلَّى.

قَوْلُهُ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} كَالْحِيَاضِ لِلْإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ) أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهُوَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الْمَاءُ.

قَوْلُهُ: (دَابَّةُ الْأَرْضِ) الْأَرَضَةُ.

قَوْلُهُ: {مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمِنْسَأَةُ الْعَصَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَصْرِيفَهَا وَهِيَ مِفْعَلَةٌ مِنْ نَسَأْتُ إِذَا

ص: 458

زَجَرْتُ الْإِبِلَ أَيْ ضَرَبْتُهَا بِالْمِنْسَأَةِ.

قَوْلُهُ: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ حُبًّا لَهَا، وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: كَشَفَ عَرَاقِيبَهَا وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا، وَقَالَ: لَا تَشْغَلُنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ مَسَحَ عِلَاوَتَهُ إِذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (الْأَصْفَادُ الْوَثَاقُ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أَيْ يَجْمَعُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْعُنُقِ بِالْأَغْلَالِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَصْفَادُ الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا صَفَدٌ، وَيُقَالُ لِلْغِطَاءِ أَيْضًا صَفَدٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّافِنَاتُ، صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: صَفَنَ الْفَرَسُ إِلَخْ، لَكِنْ قَالَ يَدَيْهِ وَوَقَعَ فِي أَصْلِ الْبُخَارِيِّ رِجْلَيْهِ وَصَوَّبَ عِيَاضٌ مَا عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّافِنُ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَثْنِي مُقَدَّمَ حَافِرِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (الْجِيَادُ السِّرَاعُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا ذَوَاتَ أَجْنِحَةٍ.

قَوْلُهُ: (جَسَدًا شَيْطَانًا) قَالَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ آصِفُ، قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ كَيْفَ تَفْتِنُ النَّاسَ؟ قَالَ أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ، فَأَعْطَاهُ، فَنَبَذَهُ آصِفُ فِي الْبَحْرِ فَسَاخَ، فَذَهَبَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ وَقَعَدَ آصِفُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَقْرَبْهُنَّ، فَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَطْعِمُ وَيُعَرِّفُهُمْ بِنَفْسِهِ فَيُكَذِّبُونَهُ حَتَّى أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ حُوتًا فَطَيَّبَ بَطْنَهُ فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِهِ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَفَرَّ آصِفُ فَدَخَلَ الْبَحْرَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ اسْمَهُ آصِرُ آخِرُهُ رَاءٌ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْجِنِّيِّ صَخْرٌ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِهِ مُطَوَّلَةً، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ آصِفَ اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (رُخَاءً طَيِّبَةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ طَيِّبًا رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: رُخَاءً قَالَ طَيِّبَةً.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ أَصَابَ حَيْثُ شَاءَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَامْنُنْ أَعْطِ، بِغَيْرِ حِسَابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ أَيْ بِغَيْرِ ثَوَابٍ وَلَا جَزَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ مِنَّةٍ وَلَا قِلَّةٍ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفَلُّتِ الْعِفْرِيتِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (تَفَلَّتَ عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَعَرَّضَ لِي فَلْتَةً أَيْ بَغْتَةً.

قَوْلُهُ: (الْبَارِحَةَ) أَيِ اللَّيْلَةَ الْخَالِيَةَ الزَّائِلَةَ، وَالْبَارِحُ الزَّائِلُ، وَيُقَالُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ الْبَارِحَةُ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ) أَيْ قَوْلَهُ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وَفِي هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ رِعَايَةً لِسُلَيْمَانَ عليه السلام، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خُصُوصِيَّةُ سُلَيْمَانَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ فِي جَمِيعِ مَا يُرِيدُهُ لَا فِي هَذَا الْقَدْرِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ كَانُوا يَرَوْنَ الْجِنَّ فِي أَشْكَالِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ حَالَ تَصَرُّفِهِمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَفْيَ رُؤْيَةِ الْإِنْسِ لِلْجِنِّ عَلَى هَيْئَتِهِمْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِنَ الْآيَةِ بَلْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ مُمْكِنٌ، فَإِنَّ نَفْيَ رُؤْيَتِنَا إِيَّاهُمْ مُقَيَّدٌ بِحَالِ رُؤْيَتِهِمْ لَنَا وَلَا يَنْفِي إِمْكَانَ رُؤْيَتِنَا لَهُمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ. وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهُ زَبَانِيَةٌ) الزَّبَانِيَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ أَصْحَابِ الشُّرْطَةِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْنِ وَهُوَ الدَّفْعُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ،

ص: 459

وَوَاحِدُ الزَّبَانِيَةِ زِبْنِيَةٌ وَقِيلَ: زَبْنِيٌّ وَقِيلَ: زَابِنٌ وَقِيلَ: زَبَانِيٌّ وَقَالَ قَوْمٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَقِيلَ وَاحِدُهُ زِبْنِيتٌ وَزْنُ عِفْرِيتٍ، وَيُقَالُ عِفْرِيَةٌ لُغَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عِفْرِيتٍ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ زِبْنِيَةٍ أَيْ أَنَّهُ قِيلَ فِي عِفْرِيتٍ عِفْرِيَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ رُوِيَتْ فِي الشَّوَاذِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، وَأَبِي السِّمَالِ بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ، وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي أثْرِ عِفْرِيَةٍ

مُصَوِّبٌ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ بَيَانِ أَحْوَالِ الْجِنِّ فِي بَابِ صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجِنُّ عَلَى مَرَاتِبٌ، فَالْأَصْلُ جِنِّيٌّ، فَإِنْ خَالَطَ الْإِنْسَ قِيلَ: عَامِرٌ، وَمَنْ تَعَرَّضَ مِنْهُمْ لِلصِّبْيَانِ قِيلَ: أَرْوَاحٌ، وَمَنْ زَادَ فِي الْخُبْثِ قِيلَ شَيْطَانٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: مَارِدٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: عِفْرِيتٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعِفْرِيتُ مِنَ الْجِنِّ هُوَ الْعَارِمُ الْخَبِيثُ، وَإِذَا بُولِغَ فِيهِ قِيلَ عِفْرِيتٌ نِفْرِيتٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعِفْرِيتُ الْمُوثَقُ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَفَرِ وَهُوَ التُّرَابُ، وَرَجُلٌ عِفِرٌّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَثْقِيلِ ثَالِثِهِ إِذَا بُولِغَ فِيهِ قيلَ عِفْرِيتٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَثْقِيلِ ثَالِثِهِ إِذ ابُولِغَ فِيهِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْحِزَامِيُّ وَلَيْسَ بِالْمَخْزُومِيِّ، وَاسْمُ جَدِّ الْحِزَامِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ حِزَامٍ، وَاسْمُ جَدِّ الْمَخْزُومِيِّ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطَّوَّفَنَّ اللَّيْلَةَ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي لَأُطِيفَنَّ وَهُمَا لُغَتَانِ. طَافَ بِالشَّيْءِ وَأَطَافَ بِهِ إِذَا دَارَ حَوْلَهُ وَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَاللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَاللَّهِ لَأَطَّوَّفَنَّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قَسَمٍ، وَالْقَسَمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقْسَمٍ بِهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً) كَذَا هُنَا مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ فَقَالَ تِسْعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ وَرَجَّحَ تِسْعِينَ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى سَبْعِينَ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ رَوَاهُ كَذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ: سَبْعِينَ وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ مِنْ طَرِيقِهِ.

وَلَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ: سَبْعِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: مِائَةِ امْرَأَةٍ وَكَذَا قَالَ طَاوُسٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ تِسْعِينَ وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَقَالَ: سَبْعِينَ، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ لِسُلَيْمَانَ سِتُّونَ امْرَأَةً وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: مِائَةُ امْرَأَةٍ وَكَذَا قَالَ عِمْرَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ فَقَالَ: مِائَةُ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ عَلَى الشَّكِّ، فَمُحَصَّلُ الرِّوَايَاتِ سِتُّونَ وَسَبْعُونَ وَتِسْعُونَ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَمِائَةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا أَنَّ السِّتِّينَ كُنَّ حَرَائِرَ وَمَا زَادَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ سِرَارِيَ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَأَمَّا السَّبْعُونَ فَلِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا التِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ فَكُنَّ دُونَ الْمِائَةِ وَفَوْقَ التِّسْعِينَ فَمَنْ قَالَ تِسْعُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ مِائَةً جَبَرَهُ وَمَنْ ثَمَّ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْقَلِيلِ نَفْيُ الْكَثِيرِ وَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ

وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَيْسَ بِكَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي الْمُبْتَدَا أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ مَهِيرَةٌ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٌ،

ص: 460

وَنَحْوُهُ مِمَّا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفُ بَيْتٍ مِنْ قَوَارِيرَ عَلَى الْخَشَبِ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ صَرْبَحَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ.

قَوْلُهُ: (تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هَذَا قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَنِّي لِلْخَيْرِ، وَإِنَّمَا جَزَمَ بِهِ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، لِكَوْنِهِ قَصَدَ بِهِ الْخَيْرَ وَأَمْرَ الْآخِرَةِ لَا لِغَرَضِ الدُّنْيَا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى آفَةِ التَّمَنِّي وَالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّفْوِيضِ، قَالَ: وَلِذَلِكَ نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ لِيَمْضِيَ فِيهِ الْقَدْرُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْآتِيَةِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي الْمَلَكَ وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ تَفْسِيرَ صَاحِبِهِ بِالْمَلَكِ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ بِالشَّكِّ، وَمِثْلُهَا لِمُسْلِمٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ فَسَّرَ صَاحِبَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ آصِفُ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ابْنُ بَرْخِيَا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ أَوِ الْمَلَكُ إِنْ كَانَ صَاحِبُهُ فَيَعْنِي بِهِ وَزِيرَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَلَكُ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ، وَقَالَ: وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ خَاطِرُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ: الْمُرَادُ بِصَاحِبِهِ الْمَلَكُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ: الْقَرِينُ، وَقِيلَ: صَاحِبٌ لَهُ آدَمِيٌّ. قُلْتُ: لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ صَاحِبُهُ وَالْمَلَكُ مُنَافَاةٌ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَةَ صَاحِبُهُ أَعَمُّ، فَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ لَهُمْ الِاحْتِمَالُ، وَلَكِنَّ الشَّكَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَزْمِ، فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ الْمَلَكُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْزِمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَقُلْ) قَالَ عِيَاضٌ: بُيِّنَ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ: فَنَسِيَ. قُلْتُ: هِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ شَيْخِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمْ يَقُلْ أَيْ بِلِسَانِهِ لَا أَنَّهُ أَبَى أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذَلِكَ أَوَّلًا وَنَسِيَ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى لِسَانِهِ لَمَّا قِيلَ لَهُ لِشَيْءٍ عَرَضَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَطَافَ بِهِنَّ)

(1)

فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْهُ نِصْفَ إِنْسَانٍ وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، حَكَى النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الشِّقَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أنَّ الْمُرَادَ بِالْجَسَدِ الْمَذْكُورِ شَيْطَانٌ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالنَّقَّاشُ صَاحِبُ مَنَاكِيرَ.

قَوْلُهُ: (لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ لَوِ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ كَذَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ وَقَوْلُهُ: دَرَكًا بِفَتْحَتَيْنِ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَخَافُ دَرَكًا} أَيْ لَحَاقًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ مَا طَلَبَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنِ اسْتَثْنَى فِي أُمْنِيَّتِهِ، بَلْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوُّ الْوُقُوعِ وَفِي تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ خَشْيَةُ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} مَعَ قَوْلِ الْخَضِرِ لَهُ آخِرًا {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَعَاطِي أَسْبَابِهِ، وَأَنْ كَثِيرًا

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: هذه اللفظة لم توجد بالصحيح الذي بأيدينا، ولعلها رواية للشارح.

ص: 461

مِنَ الْمُبَاحِ وَالْمَلَاذِّ يَصِيرُ مُسْتَحَبًّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَنْ قَالَ سَأَفْعَلُ كَذَا، وَأَنَّ إِتْبَاعَ الْمَشِيئَةِ الْيَمِينَ يَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الِاتِّصَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَعَ بَسْطٍ فِيهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا عَقَبَ الْيَمِينَ، وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ يَسِيرٌ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَقِبَ قَوْلِ الْمَلَكِ لَهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَفَادَ مَعَ التَّخَلُّلِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ بِمِقْدَارِ كَلَامِ الْمَلَكِ، وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يكُونَ الْمَلَكُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ احْتِمَالٌ مُمْكِنٌ يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ. وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ. وَهُوَ اتِّفَاقٌ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِيهِ مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ الدَّالِّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ وَكَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُلُومِ. وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ الْمُعْجِزَةِ لِأَنَّهُ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَعُلُومِهِ وَمُعَالَجَةِ الْخَلْقِ كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ عَلَى كَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ، وَيُقَالُ إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فَشَهْوَتُهُ أَشَدُّ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَّقِي يَتَفَرَّجُ بِالنَّظَرِ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الشَّيْءِ وَوُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام جَزَمَ بِمَا قَالَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ وَإِلَّا لَوَقَعَ، كَذَا قِيلَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُظَنُّ بِسُلَيْمَانَ عليه السلام أَنَّهُ قَطَعَ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ إِلَّا مَنْ جَهِلَ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَدَبَهُمْ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ لِسُلَيْمَانَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَائِهِ هَذَا الْعَدَدُ فِي لَيْلَةٍ؟! لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لِلَّهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَالْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَاللَّهِ لَا يُكْسَرُ سِنُّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ فَجَزَمَ بِهِ. وَأَقْرَبُ الِاحْتِمَالَاتِ مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ فَنَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ، وَمِنْ ثَمَّ سَاغَ لَهُ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِفَ. وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ. وَفِيهِ جَوَازُ السَّهْوِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الشَّيْءِ أَنَّهُ سَيَقَعُ وَمُسْتَنَدُ الْمُخْبِرِ الظَّنُّ مَعَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ الْقَوِيَّةِ لِذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ إِضْمَارِ الْمُقْسَمِ بِهِ فِي الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ: لَأَطَّوَّفَنَّ مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام: لَمْ يَحْنَثْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِيهِ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا وَرَدَ تَقْرِيرُهُ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ كَأَنْ يُقَالَ لَعَلَّ التَّلَفُّظَ بِاسْمِ اللَّهِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْحِكَايَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَطَّوَّفَنَّ يَصْدُقُ أَنَّهُ قَالَ لَأَطَّوَّفَنَّ فَإِنَّ اللَّافِظَ بِالْمُرَكَّبِ لَافِظٌ بِالْمُفْرَدِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِمُقْسَمٍ بِهِ مُعَيَّنٍ، فَمَنْ قَالَ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ يَمِينٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالنِّيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَوْ وَلَوْلَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ عَقَدَهُ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ.

وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ لَأَطَّوَّفَنَّ بَدَلَ قَوْلِهِ لَأُجَامِعَنَّ.

الْحَدِيثُ الثالث.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ يَزِيدُ بْنُ شَرِيكٍ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَقَوْلُهُ: أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ أَيْ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيَتَضَمَّنُ

ص: 462

ذَلِكَ النَّدْبَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْأَفْضَلَ لِلْعِبَادَةِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَا يُتْرَكُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِفَوَاتِهِ بَلْ يُفْعَلُ الْمَأْمُورُ فِي الْمَفْضُولِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ فَهِمَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مِنْ تَخْصِيصِهِ السُّؤَالَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَخْصِيصَ صَلَاتِهِ فِيهِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَكَانِ الْأَفْضَلِ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ. وَفِيهِ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّؤَالِ فِي الْجَوَابِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلسَّائِلِ فِي ذَلِكَ مَزِيدُ فَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْأَعْرَجُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ، وَقَالَ كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا) هَكَذَا أَوْرَدَهُ، وَمُرَادُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا قَبْلَهُ - وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ - لِكَوْنِهِ سَمِعَ نُسْخَةَ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ، وَسَمِعَ الْإِسْنَادَ فِي السَّابِقِ دُونَ الَّذِي يَلِيهِ فَاحْتَاجَ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ لِلْمُصَنِّفِ مِثْلُ هَذَا الصَّنِيعِ فَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ النُّسْخَةِ بِعَيْنِهَا حَدِيثَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْجُمُعَةِ حَدِيثَ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ لَمْ يَضُمَّ مَعَهُ شَيْئًا، وَذَكَرَ فِي الْجِهَادِ حَدِيثَ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْحَدِيثَ فَقَالَ قَبْلَهُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي الدِّيَاتِ حَدِيثَ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْكَ رَجُلٌ وَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَهُ أَيْضًا، لَكِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْفَرَائِضِ وَلَمْ يَضُمَّ مَعَهُ فِي أَوَّلِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ النُّسْخَةِ فَلَمْ يَطَّرِدْ لِلْمُصَنِّفِ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ، وَكَأَنَّهُ حَيْثُ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا أَرَادَ الِاحْتِيَاطَ، وَحَيْثُ لَمْ يَضُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الْإِسْنَادَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَسُوقُ الْإِسْنَادَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ: فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا. وَصَنِيعُهُ فِي ذَلِكَ حَسَنٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ أَرَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ تَامًّا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ هَذِهِ وَسَاقَ الْمَتْنَ بِتَمَامِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، وَسُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَلِكَ أَطْلَقَ الْمِزِّيُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ كَانَ عَنَى هَذَا الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنَى مَوْضِعًا آخَرَ فَلَمْ أَرَهُ فِيهِ. ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي بَابِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (مَثَلِي) أَيْ فِي دُعَائِيَ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْمُنْقِذِ لَهُمْ مِنَ النَّارِ وَمَثَلُ مَا تُزَيِّنُ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنَ التَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ (كَمَثَلِ رَجُلٍ إِلَخْ) وَالْمُرَادُ تَمْثِيلُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ لَا تَمْثِيلَ فَرْدٍ بِفَرْدٍ.

قَوْلُهُ: (اسْتَوْقَدَ) أَيْ أَوْقَدَ، وَزِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ عَالَجَ إِيقَادَهَا وَسَعَى فِي تَحْصِيلِ آلَاتِهَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا زَادَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ الْفَرَاشُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَعْرُوفٌ وَيُطْلَقُ الْفَرَاشُ أَيْضًا عَلَى غَوْغَاءِ الْجَرَادِ الَّذِي يَكْثُرُ وَيَتَرَاكَمُ. وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْفَرَاشُ دَوَابٌّ مِثْلُ الْبَعُوضِ وَاحِدَتُهَا فَرَاشَةٌ، وَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الْمَحْشَرِ بِالْفِرَاشِ الْمَبْثُوثِ أَيْ فِي الْكَثْرَةِ وَالِانْتِشَارِ وَالْإِسْرَاعِ إِلَى الدَّاعِي.

قَوْلُهُ: (وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ) قُلْتُ: مِنْهَا الْبَرْغَشُ وَالْبَعُوضُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَجَعَلَ الْجَنَابِذُ وَالْفَرَاشُ وَالْجَنَابِذُ جَمْعُ جُنْبُذٍ وَهُوَ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْمَعْرُوفُ الْجَنَادِبُ جَمْعُ جُنْدُبٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا وَالْجِيمُ مَضْمُومَةٌ

ص: 463

وَقَدْ تُكْسَرُ، وَهُوَ عَلَى خِلْقَةِ الْجَرَادَةِ يَصِرُّ فِي اللَّيْلِ صَرَّا شَدِيدًا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَكَرَ الْجَرَادِ يُسَمَّى أَيْضًا الْجُنْدُبَ.

قَوْلُهُ: (تَقَعُ فِي النَّارِ) كَذَا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبٍ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعْنَ فِي النَّارِ تَقَعْنَ فِيهَا قَالَ النَّوَوِيُّ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ بِالْفَرَاشِ وَتَسَاقُطَهُمْ فِي نَارِ الْآخِرَةِ بِتَسَاقُطِ الْفِرَاشِ فِي نَارِ الدُّنْيَا مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ وَمَنْعِهِ إِيَّاهُمْ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى وَضَعْفُ التَّمْيِيزِ وَحِرْصُ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مَثَلٌ كَثِيرُ الْمَعَانِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَأْتُونَ مَا يَجُرُّهُمْ إِلَى النَّارِ عَلَى قَصْدِ الْهَلَكَةِ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَهُ عَلَى قَصْدِ الْمَنْفَعَةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْفَرَاشَ يَقْتَحِمُ النَّارَ لَا لِيَهْلِكَ فِيهَا بَلْ لِمَا يُعْجِبُهُ مِنَ الضِّيَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُبْصِرُ بِحَالٍ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ فِي ظُلْمَةٍ فَإِذَا رَأَتِ الضِّيَاءَ اعْتَقَدَتْ أَنَّهَا كُوَّةٌ يَظْهَرُ مِنْهَا النُّورُ فَتَقْصِدُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَتَحْتَرِقُ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِ بَصَرِهَا فَتَظُنُّ أَنَّهَا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَأَنَّ السِّرَاجَ مَثَلًا كُوَّةٌ فَتَرْمِي بِنَفْسِهَا إِلَيْهِ وَهِيَ مِنْ شِدَّةِ طَيَرَانِهَا تُجَاوِزُهُ فَتَقَعُ فِي الظُّلْمَةِ فَتَرْجِعُ إِلَى أَنْ تَحْتَرِقَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِشِدَّةِ النُّورِ فَتَقْصِدُ إِطْفَاءَهُ فَلِشِدَّةِ جَهْلِهَا تُوَرِّطُ نَفْسَهَا فِيمَا لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَيْهِ، ذَكَرَ مُغَلْطَايْ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ مَشَايِخِ الطِّبِّ يَقُولُهُ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّمْثِيلُ وَقَعَ عَلَى صُورَةِ الْإِكْبَابِ عَلَى الشَّهَوَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ بِإِكْبَابِ الْفَرَاشِ عَلَى التَّهَافُتِ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ جَهْلَ الْآدَمِيِّ أَشَدُّ مِنْ جَهْلِ الْفَرَاشِ ; لِأَنَّهَا بِاغْتِرَارِهَا بِظَوَاهِرِ الضَّوْءِ إِذَا احْتَرَقَتِ انْتَهَى عَذَابُهَا فِي الْحَالِ، وَالْآدَمِيُّ يَبْقَى فِي النَّارِ مُدَّةً طَوِيلَةً أَوْ أَبْدًا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كَانَتِ امْرَأَتَانِ) لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ تَصْرِيحٌ بِرَفْعِهِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ أَوْرَدَهُ هُنَاكَ، وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَا عَلَى اسْمِ وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيْهِمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ.

قَوْلُهُ: (فَتَحَاكَمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَتَحَاكَمَتَا وَفِي نُسْخَةِ شُعَيْبٍ فَاخْتَصَمَا.

قَوْلُهُ: (فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى إِلَخْ) قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفُتْيَا مِنْهُمَا لَا الْحُكْمِ، وَلِذَلِكَ سَاغَ لِسُلَيْمَانَ أَنْ يَنْقُضَهُ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَضَى بِأَنَّهُمَا تَحَاكَمَا، وَبِأَنَّ فُتْيَا النَّبِيِّ وَحُكْمَهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ تَنْفِيذِ ذَلِكَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاوَرَةِ فَوَضَحَ لِدَاوُدَ صِحَّةُ رَأْيِ سُلَيْمَانَ فَأَمْضَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اسْتَوَيَا عِنْدَ دَاوُدَ فِي الْيَدِ، فَقَدَّمَ الْكُبْرَى لِلسِّنِّ. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَحَكَى أَنَّهُ قِيلَ: كَانَ مِنْ شَرْعِ دَاوُدَ أَنْ يَحْكُمَ لِلْكُبْرَى قَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْكِبَرَ وَالصِّغَرَ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَلَا أَثَرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَكَادُ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ.

قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِسَبَبٍ اقْتَضَى بِهِ عِنْدَهُ تَرْجِيحَ قَوْلِهَا، إِذْ لَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَكَوْنُهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارًا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ الْبَاقِيَ كَانَ فِي يَدِ الْكُبْرَى وَعَجَزَتِ الْأُخْرَى عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَأْبَاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ سَاغَ لِسُلَيْمَانَ نَقْضُ حُكْمِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَدْ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا احْتَالَ بِحِيلَةٍ لَطِيفَةٍ أَظْهَرَتْ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمَّا أَخْبَرَتَا سُلَيْمَانَ بِالْقِصَّةِ فَدَعَا بِالسِّكِّينِ لِيَشُقَّهُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اسْتِكْشَافَ الْأَمْرِ، فَحَصَلَ مَقْصُودُهُ لِذَلِكَ لِجَزَعِ الصُّغْرَى الدَّالِّ عَلَى عَظِيمِ الشَّفَقَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى إِقْرَارِهَا بِقَوْلِهَا هُوَ ابْنُ الْكُبْرَى لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا

ص: 464

آثَرَتْ حَيَاتَهُ، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرِينَةِ شَفَقَةِ الصُّغْرَى وَعَدَمِهَا فِي الْكُبْرَى - مَعَ مَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهَا - مَا هَجَمَ بِهِ عَلَى الْحُكْمِ لِلصُّغْرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ عليه السلام مِمَّنْ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، أَوْ تَكُونَ الْكُبْرَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ اعْتَرَفَتْ بِالْحَقِّ لَمَّا رَأَتْ مِنْ سُلَيْمَانَ الْجِدَّ وَالْعَزْمَ فِي ذَلِكَ.

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ عَلَى مُدَّعٍ مُنْكِرٍ بِيَمِينٍ، فَلَمَّا مَضَى لِيُحَلِّفَهُ مَنِ اسْتَخْرَجَ مِنَ الْمُنْكِرِ مَا اقْتَضَى إِقْرَارَهُ بِمَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى جَحْدِهِ، فَإِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَمِينِ أَوْ بَعْدَهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ مِنْ بَابِ تَبَدُّلِ الْأَحْكَامِ بِتَبَدُّلِ الْأَسْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اسْتَنْبَطَ سُلَيْمَانُ لَمَّا رَأَى الْأَمْرَ مُحْتَمَلًا فَأَجَادَ، وَكِلَاهُمَا حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَاوُدُ حَكَمَ بِالنَّصِّ لَمَا سَاغَ لِسُلَيْمَانَ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِهِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ الْفِطْنَةَ وَالْفَهْمَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِكِبَرِ سِنٍّ وَلَا صِغَرِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسُوغُ لَهُمُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ النَّصِّ مُمْكِنًا لَدَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، لَكِنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي أُجُورِهِمْ، وَلِعِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَإِ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا يُقِرُّونَ لِعِصْمَتِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ سُلَيْمَانَ فَعَلَ ذَلِكَ تَحَيُّلًا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ، فَكَانَ كَمَا لَوِ اعْتَرَفَ الْمَحْكُومُ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنَّ الْحَقَّ لِخَصْمِهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ فِي الْأَحْكَامِ لِاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِمَزِيدِ الْفِطْنَةِ وَمُمَارَسَةِ الْأَحْوَالِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ لَا، يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ يَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقِفَ قَلِيلًا بَعْدَ لَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلسَّامِعِ أَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا وَصَلَهُ بِمَا بَعْدَهُ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ لَهُ، وَيَزُولُ الْإِيهَامُ فِي مِثْلِ هَذَا بِزِيَادَةِ وَاوٍ كَأَنْ يَقُولَ: لَا وَيَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأُمَّ تُسْتَحْلَفُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ تَعْلِيقًا، وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَالْمُدْيَةُ مُثَلَّثَةٌ الْمِيمُ قِيلَ: لِلسِّكِّينِ، ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ مَدَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَالسِّكِّينُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهَا تُسَكِّنُ حَرَكَةَ الْحَيَوَانِ.

‌41 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَلا تُصَعِّرْ} الْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ.

3428 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَنَزَلَتْ: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}

ص: 465

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَظِيمٌ} اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ فَقِيلَ كَانَ حَبَشِيًّا، وَقِيلَ كَانَ نُوبِيًّا. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ نَبِيًّا؟ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ، وَاسْمُ أَبِيهِ عنقا بْنُ شيرون. وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ ابْنُ بَاعُورَ بْنِ نَاحِرَ بْنِ آزَرَ فَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ وَهْبٌ فِي الْمُبْتَدَأ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ، وَقِيلَ: ابْنُ خَالَتِهِ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ ثَابِتٍ الرَّبَعِيِّ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِثْلُهُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي شَرْحِ الْأَمَالِي أَنَّهُ كَانَ مَوْلًى لِقَوْمٍ مِنَ الْأَزْدِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ذُو مَشَافِرَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ.

وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عِنْدَ دَاوُدَ وَهُوَ يَسْرُدُ الدِّرْعَ، فَجَعَلَ لُقْمَانُ يَتَعَجَّبُ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ فَائِدَتِهِ فَتَمْنَعُهُ حِكْمَتُهُ أَنْ يَسْأَلَ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَاصَرَ دَاوُدَ عليه السلام. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ زَمَنَ دَاوُدَ عليه السلام، وَقِيلَ إِنَّهُ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ، وَكَأَنَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ بِلُقْمَانَ بْنِ عَادٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُفْتِي قَبْلَ بَعْثِ دَاوُدَ، وَأَغْرَبَ الْوَاقِدِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَشُبْهَتُهُ مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ الْبَكْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لِبَنِي الْحِسْحَاسِ بْنِ الْأَزْدِ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ كَانَ صَالِحًا.

قَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ. قُلْتُ: وَجَابِرٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ ضَعِيفٌ، وَيُقَالُ إِنَّ عِكْرِمَةَ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ كَانَ نَبِيًّا، وَقِيلَ كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَعْتَقَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ لُقْمَانَ خُيِّرَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ. وَفِي سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قَالَ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالْحِكْمَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَقِيلَ كَانَ خَيَّاطًا وَقِيلَ نَجَّارًا. وَقَوْلُهُ:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} قَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُ ابْنِهِ بَارَانُ بِمُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ فِيهِ بِالدَّالِ فِي أَوَّلِهِ، وَقِيلَ اسْمُهُ أَنْعَمُ، وَقِيلَ شَكُورٌ وَقِيلَ بَابِلِيٌّ.

قَوْلُهُ: {وَلا تُصَعِّرْ} الْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} وَهُوَ تَفْسِيرُ عِكْرِمَةَ أَوْرَدَهُ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لَا تَتَكَبَّرْ عَلَيْهِمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَصْلُ الصَّعَرِ - يَعْنِي بِالْمُهْمَلَتَيْنِ - دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا حَتَّى تَلْفِتَ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُءُوسِهَا، فَيُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ الْمُعْرِضُ عَنِ النَّاسِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: تُصَعِّرْ هِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْقِرَاءَاتِ لَهُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ تُصَاعِرْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَوَّلُ أَحَبُّ إِلَيَّ لِمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ مِنَ اثْنَيْنِ، وَتَكُونُ الْأُولَى أَشْمَلُ فِي اجْتِنَابِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَإِسْحَاقُ شَيْخُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

ص: 466

‌42 - بَاب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الْآيَةَ. {فَعَزَّزْنَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدَّدْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الْآيَةَ: فَعَزَّزْنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدَّدْنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَائِرُكُمْ: مَصَائِبُكُمْ) أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ بِهَذَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِهِ. وَالْقَرْيَةُ الْمُرَادُ بِهَا أَنْطَاكِيَّةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَوَهْبٌ فِي الْمُبْتَدَأ وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مَدِينَةً بِالْقُرْبِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْجُودَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ أَهْلَهَا. وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا السُّبُقُ ثَلَاثَةٌ يُوشَعُ إِلَى مُوسَى، وَصَاحِبُ يس إِلَى عِيسَى، وَعَلِيٌّ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ حُسَيْنٍ الْأَشْقَرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنْ ثَبَتَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى أَوْ بَعْدَهُ، وَصَنِيعُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهَا قَبْلَ عِيسَى. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ اسْمَ صَاحِبِ يس حَبِيبٌ النَّجَّارُ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانَ اسْمُهُ حَبِيبَ بْنَ بَرِّيٍّ، وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ كَانَ قَصَّارًا، وَقِيلَ كَانَ إِسْكَافًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاسْمُ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ صَادِقٌ، وَصَدُوقٌ، وَشَلُومُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَئِيِّ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْزِ بِلَا مَدٍّ: كَانَ اسْمُ الرَّسُولَيْنِ شَمْعُونَ، وَيُوحَنَّا، وَاسْمُ الثَّالِثِ بُولِصْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: كَانُوا رُسُلًا مِنْ قِبَلِ الْمَسِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌43 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا

* قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلًا، يُقَالُ: رَضِيًّا مَرْضِيًّا، عُتِيًّا عَصِيًّا، عَتَا يَعْتُو. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} - إِلَى قَوْلِهِ - {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَيُقَالُ: صَحِيحًا. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فَأَوْحَى: فَأَشَارَ. {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} ، {حَفِيًّا} لَطِيفًا. {عَاقِرًا} الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ.

3430 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ص: 467

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} فِي زَكَرِيَّا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَحَذْفُ الْأَلْفِ مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ وَفِيهِ تَشْدِيدُهَا أَيْضًا وَحَذْفُهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَا يُصْرَفُ مَعَ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يَقُولُ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ مِثْلًا أَوْ شَبَهًا، وَمِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قَالَ: لَمْ يُسَمَّ يَحْيَى قَبْلَهُ غَيْرَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ رَضِيًّا: مَرْضِيًّا) حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: مَرْضِيًّا تَرْضَاهُ أَنْتَ وَعِبَادُكَ.

قَوْلُهُ: (عِتِيًّا عِصِيًّا، عَتَا يَعْتُو) كَذَا فِيهِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّوَابُ بِالسِّينِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عِتِيًّا أَوْ عِسِيًّا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} : كُلُّ مُبَالِغٍ مِنْ كِبْرٍ أَوْ كُفْرٍ أَوْ فَسَادٍ فَقَدْ عَتَا يَعْتُو عِتِيًّا.

قَوْلُهُ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَيُقَالُ صَحِيحًا) هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَأَنْتَ صَحِيحٌ، فَحُبِسَ لِسَانُهُ فَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَوْحَى: فَأَشَارَ) هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (حَفِيًّا: لَطِيفًا) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أَيْ مُحْتَفِيَا، يُقَالُ تَحَفَّيْتُ بِفُلَانٍ.

قَوْلُهُ: (عَاقِرًا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْعَاقِرُ الَّتِي لَا تَلِدُ، وَالْعَاقِرُ الَّذِي لَا يَلِدُ، قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:

لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كَانَ أَعْوَرَ عَاقِرًا

جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ

وَقَالَ أَيْضًا: لَفْظُ الذَّكَرِ فِيهِ مِثْلُ لَفْظِ الْأُنْثَى. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وُلِدَ يَحْيَى وَعَمَّرَ زَكَرِيَّا مِائَةً وَعِشْرينَ سَنَةً وَقِيلَ تِسْعِينَ وَقِيلَ اثْنَتيْنِ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ مِائَةً إِلَّا سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ إِلَّا سَنَةً.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَقَالَ فِيهِ وَفِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِنَّهُمَا ابْنَا خَالَةٍ وَزَكَرِيَّا هُوَ ابْنُ أدن وَيُقَالُ ابْنُ شَبْوِي وَيُقَالُ ابْنُ بَارْخِيَا وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي ابْنِ بَارْخِيَا، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ نَاشِي، وَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام، وَاسْمُ أُمِّ مَرْيَمَ حِنَةُ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ بِنْتُ فَاقُودَ وَاسْمُ أُخْتِهَا وَالِدَةُ يَحْيَى إِيشَاعُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ كَانَتْ حِنَا عِنْدَ عِمْرَانَ وَأُخْتُهَا عِنْدَ زَكَرِيَّا وَكَانَتْ حِنَةُ أَمْسَكَ عَنْهَا الْوَلَدُ ثُمَّ حَمَلَتْ بِمَرْيَمَ فَمَاتَ عِمْرَانُ وَهِيَ حَامِلٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنِ أَنَسٍ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمٍ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَاهُ لِفَضْلِ عِيسَى عَلَى يَحْيَى. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وُلِدَ يَحْيَى قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} فَقِيلَ نُبِّئَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ وَقِيلَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ زَكَرِيَّا وَابْنُهُ آخِرَ مَنْ بُعِثَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ عِيسَى، وَقَالَ أَيْضًا: أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَتْلَ زَكَرِيَّا فَفَرَّ مِنْهُمْ، فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا فَالْتَأَمَتْ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ بِهُدْبَةِ ثَوْبِهِ فَرَأَوْهَا فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ عَلَى الشَّجَرَةِ فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهُ مِنْ وَسَطِهِ فِي جَوْفِهَا. وَأَمَّا يَحْيَى فَقُتِلَ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ أَرَادَ مَلِكُهُمْ

ص: 468

أَنْ يَتَزَوَّجهَا، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ بِنْتَ امْرَأَتِهِ، فَتَوَسَّلَتْ إِلَى الْمَلِكِ حَتَّى قَتَلَ يَحْيَى، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ عِيسَى. وَرَوَى أَصْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ دَمَ يَحْيَى كَانَ يَفُورُ حَتَّى قَتَلَ عَلَيْهِ بُخْتَنَصَّرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ.

‌44 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} ،

{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ} ، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَآلُ عِمْرَانَ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَآلِ يَاسِينَ، وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. يَقُولُ:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُقَالُ: آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ، فَإِذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الْأَصْلِ قَالُوا أُهَيْلٌ

3431 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِأَخْبَارِ مَرْيَمَ عليها السلام، وَقَدْ قَدَّمْتُ شَيْئًا مِنْ شَأْنِهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَرْيَمُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ الْخَادِمُ، وَسُمِّيتْ بِهِ وَالِدَةُ عِيسَى فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَيُقَالُ إِنَّ مَرْيَمَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ مَنْ تُكْثِرُ مِنْ زِيَارَةِ الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ كَالزِّيرِ وَهُوَ مَنْ يُكْثِرُ زِيَارَةَ النِّسَاءِ، وَاسْتَشْهَدَ مَنْ زَعَمَ هَذَا بِقَوْلِ رُؤْبَةَ

قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ.

حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاصْطِفَاءِ بَعْضُ آلِ عِمْرَانَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ آلُ يَعْقُوبَ أَهْلُ يَعْقُوبَ، إِذَا صَغَّرُوا آلَ رَدُّوهُ إِلَى الْأَصْلِ قَالُوا أُهَيْلُ) اخْتُلِفَ فِي آلَ فَقِيلَ أَصْلُهُ أَهْلُ فَقُلِبَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً بِدَلِيلِ ظُهُورِ ذَلِكَ فِي التَّصْغِيرِ وَهُوَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أَصْلِهَا، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ أَوْلُ مِنْ آلَ يَئُولُ إِذَا رَجَعَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَتَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَتَصْغِيرُهُ عَلَى أُوَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ) فِي

ص: 469

رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ صِفَةِ إِبْلِيسَ بَيَانُ الْمَسِّ الْمَذْكُورِ لَفْظُهُ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِأصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ أَيْ فِي الْمَشِيمَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَلَدُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الطَّعْنُ مِنَ الشَّيْطَانِ هُوَ ابْتِدَاءُ التَّسْلِيطِ، فَحَفِظَ اللَّهُ مَرْيَمَ وَابْنَهَا مِنْهُ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ أُمِّهَا حَيْثُ قَالَتْ:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وَلَمْ يَكُنْ لِمَرْيَمَ ذُرِّيَّةٌ غَيْرُ عِيسَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ بِنُونٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمَذْكُورَةِ مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ أَيْ سَبَبُ صُرَاخِ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ الْأَلَمُ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، وَالِاسْتِهْلَالُ الصِّيَاحُ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا) تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِبْلِيسَ بِذِكْرِ عِيسَى خَاصَّةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِّ وَذَاكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْجَنْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ قَبْلَ الْإِعْلَامِ بِمَا زَادَ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَوَاهُ خِلَاسٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ كُلُّ بَنِي آدَمَ قَدْ طَعَنَ الشَّيْطَانُ فِيهِ حِينَ وُلِدَ غَيْرَ عِيسَى وَأُمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ دُونَ الطَّعْنَةِ حِجَابًا فَأَصَابَ الْحِجَابَ وَلَمْ يُصِبْهُمَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ وَالْمَقْصُودُ الِابْنُ كَقَوْلِكَ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ، وَكَرَمُهُ فَهُوَ تَعَسُّفٌ شَدِيدٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ إِلَخْ) فِيهِ بَيَانٌ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِدْرَاجًا وَأَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.

‌45 - بَاب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يُقَالُ: يَكْفُلُ يَضُمُّ. كَفَلَهَا: ضَمَّهَا مُخَفَّفَةً. لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.

3432 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ.

[الحديث 3432 - طرفه في: 3815]

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} - الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ - {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} يُقَالُ يَكْفُلُ يَضُمُّ كَفَلَهَا ضَمَّهَا مُخَفَّفَةً، لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشَبَهِهَا) أَشَارَ بِقَوْلِهِ: مُخَفَّفَةً إِلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهَا الْكُوفِيُّونَ كَفَّلَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَيْ كَفَّلَهَا اللَّهُ زَكَرِيَّا، وَفِي قِرَاءَتِهِمْ زَكَرِيَّا بِالْقَصْرِ إِلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ قَرَأَهُ بِالْمَدِّ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقْرَأَ زَكَرِيَّاءَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} يُقَالُ كَفَلَهَا بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ ضَمَّهَا، وَفِي قَوْلِهِ:{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أَيْ يَضُمُّ انْتَهَى. وَكَسْرُ الْفَاءِ هُوَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ التَّابِعِينَ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي ذَلِكَ، وَأُيِّدَ بِذِكْرِهَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي

ص: 470

سُورَةِ مَرْيَمَ، وَلَا يَمْنَعُ وَصْفَهَا بِأَنَّهَا صِدِّيقَةٌ فَقَدْ وُصِفَ يُوسُفُ بِذَلِكَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ فِي النِّسَاءِ عِدَّةَ نَبِيَّاتٍ، وَحَصَرَهُنَّ ابْنُ حَزْمٍ فِي سِتٍّ، حَوَّاءَ وَسَارَةَ وَهَاجَرَ وَأُمِّ مُوسَى وَآسِيَةَ وَمَرْيَمَ. وَأَسْقَطَ الْقُرْطُبِيُّ سَارَةَ وَهَاجَرَ، وَنَقَلَهُ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ. وَقَالَ عِيَاضٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ أَنَّ الْإِمَامَ

(1)

نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ لَيْسَتْ نَبِيَّةً. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ وَلَا فِي الْجِنِّ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ، وَنَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي آخِرِ الرَّوْضِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ أَصْحَابُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْهُ هَكَذَا ; وَخَالَفَهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فَرَوَيَاهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ زَادَ فِي الْإِسْنَادِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَالصَّوَابُ إِسْقَاطُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ) أَيْ نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي زَمَانِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَرْيَمَ خَيْرُ نِسَائِهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَقَوْلِهِمْ زَيْدٌ أَفْضَلُ إِخْوَانِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِمَنْعِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ فُلَانٌ أَفْضَلُ الدُّنْيَا. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى خَيْرُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ، وَفِي رِوَايَةٍ خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ وَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ فَيَحْمِلُهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهَا، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ ; وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نِسَاءُ تِلْكَ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ فِيهِ مُضْمَرَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ النِّسَاءِ الْفَاضِلَاتِ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُهَا وَغَيْرُ آسِيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ) أَيْ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: خَدِيجَةُ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخَرِ قِصَّةِ مُوسَى حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي ذِكْرِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَهُوَ يَقْتَضِي فَضْلَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ آسِيَةَ وَأَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِنِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ مِنْ نِسَاءِ الْأُمَّم الْمَاضِيَةِ، إِلَّا أنْ حَمَلْنَا الْكَمَالَ عَلَى النُّبُوَّةِ فَيَكُونُ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ وَمَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَذَكَرَهُنَّ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ مَلَكٌ فَبَشَّرَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ خَدِيجَةَ مِنْ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ.

‌46 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

يُبَشِّرُكِ وَيَبْشُرُكِ وَاحِدٌ. وَجِيهًا شَرِيفًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: المَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ. وَالْأَكْمَهُ: مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ يُولَدُ أَعْمَى.

3433 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى

(1)

يعني إمام الحرمين كما يأتي بعد صحيفتين

ص: 471

الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.

3434 -

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ". يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ". تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

[الحديث 3434 - طرفاه في: 5082، 5365]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْوَاوُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا هَذِهِ فَبِغَيْرِ وَاوٍ.

قَوْلُهُ: (يَبْشُرُكِ وَيُبَشِّرُكِ وَاحِدٌ) يَعْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْأُولَى وَهِيَ بِالتَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْبَشِيرُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ الْمَرْءَ بِمَا يَسُرُّهُ مِنْ خَيْرٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الشَّرِّ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: وَجِيهًا أَيْ (شَرِيفًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَجِيهُ الَّذِي يَشْرُفُ وَتُوَجِّهُهُ الْمُلُوكُ أَيْ تُشَرِّفُهُ، وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: وَجِيهًا عَلَى الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ) وَصَلَهُ سُفْيَان الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ رِوَايَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ قَالَ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مُرَادُ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَسَحَهُ فَطَهَّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قُلْتُ: وَهَذَا بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الدَّجَّالِ الْمَسِيحَ فَإِنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُقَالُ إِنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَمْسَحُ الْأَرْضَ وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ فَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، قِيلَ فِي الْمَسِيحِ عِيسَى أَيْضًا إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَسْحِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِرُّ فِي مَكَانٍ، وَيُقَالُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِدُهْنِ الْبَرَكَةِ مَسَحَهُ زَكَرِيَّا وَقِيلَ: يَحْيَى، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْأَخْمَصَيْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ جَمِيلًا. يُقَالُ: مَسَحَهُ اللَّهُ أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ بِهِ مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْمُسُوحَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} قَال: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ انْتَهَى، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: إِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْكَهْلُ عِنْدَهُمْ مَنْ نَاهَزَ الْأَرْبَعِينَ أَوْ قَارَبَهَا، وَقِيلَ: مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ وَقِيلَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُجَاهِدًا فَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْكَهْلَ غَالِبًا يَكُونُ فِيهِ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا هَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجِيهًا أَوْ هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُكَلِّمُ أَيْ يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَهْلًا؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَّجِهُ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ: (الْأَكْمَهُ مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أَعْمَى) أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ تَفَرَّدَ بِهِ مُجَاهِدٌ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَعْشَى. وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ فَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَخْرَجَهُ

ص: 472

الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْأَكْمَهَ الَّذِي يُولَدُ وَهُوَ مَضْمُومُ الْعَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: الْأَكْمَهُ الْأَعْمَى. وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهِمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْأَشْبَهُ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُ قَتَادَةَ، لِأَنَّ عِلَاجَ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ، وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ مُعْجِزَةِ عِيسَى عليه السلام، فَالْأَشْبَهُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ عَلَيْهَا وَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِثْبَاتِ الْمُعْجِزَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدَيْثَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدَيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي فَضْلِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي آخَرِ قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام.

تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ.

ثَانِيهمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي فَضْلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ فِي النِّكَاحِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا تَفْضِيلٌ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى نِسَاءِ الْعَرَبِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْإِبِلِ غَالِبًا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَحْنَاهُ) أَشْفَقُهُ، حَنَى يَحْنُو وَيَحْنِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَأَحْنَى يُحْنِي مِنَ الرُّبَاعِيِّ: أَشْفَقَ عَلَيْهِ وَعَطَفَ، وَالْحَانِيَةُ الَّتِي تَقُومُ بِوَلَدِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، قَالَ: وَحَنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى وَلَدِهَا إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ فِي الْحَانِيَةِ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ وَلَا تَتَزَوَّجُ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: أَحَنًّى بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَالتَّنْوِينِ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: لَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَنَانِ بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَحَنَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى وَلَدِهَا وَإِلَى زَوْجِهَا سَوَاءٌ كَانَ بِصَوْتٍ أَمْ لَا، وَمِنَ الَّذِي بِالصَّوْتِ حَنِينُ الْجِذْعِ وَأَصْلُهُ تَرْجِيعُ صَوْتِ النَّاقَةِ عَلَى أَثَرِ وَلَدِهَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَحْنَاهُنَّ لَكِنْ جَرَى لِسَانُ الْعَرَبِ بِالْإِفْرَادِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَدْخُلْ فِي هَذَا التَّفْضِيلِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ يَرْكَبُ الْإِبِلَ، وَالْفَضْلُ الْوَارِدُ فِي خَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَّا مَنْ قِيلِ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ امْرَأَةٍ أَنَّهَا نَبِيَّةٌ فَهِيَ خَارِجَةٌ بِالشَّرْعِ لِأَنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ لَا شَيْءَ بَعْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَيَحْتَاجُ مَنْ يُخْرِجُهُنَّ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِكُلٍّ مِنْهُنَّ، فَأَشَارَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَدْخُلْ فِي هَذَا الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ قَيَّدَ أَصْلَ الْفَضْلِ بِمَنْ يَرْكَبُ الْإِبِلَ وَمَرْيَمُ لَمْ تَرْكَبْ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: كَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ظَنَّ أَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَلْ يُطْلَقُ الْبَعِيرُ عَلَى الْحِمَارِ.

وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَمْ تَكُنْ إِخْوَةُ يُوسُفَ رُكْبَانًا إِلَّا عَلَى أَحْمِرَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِبِلٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَحْمِلُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ وَغَيْرِهَا الْأَحْمِرَةُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ هُنَا:: الْبَعِيرُ الْحِمَارُ، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا الْكُوَاشِيُّ

(1)

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً، وَيُؤَيِّدُ ذِكْرَهَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ وَصْفَهَا بِأَنَّهَا صِدِّيقَةٌ فَإِنَّ يُوسُفَ وُصِفَ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّاتٍ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِسِتٍّ: حَوَّاءَ وَسَارَةَ وَهَاجَرَ وَأُمِّ مُوسَى وَآسِيَةَ وَمَرْيَمَ، وَلَم يَذْكُرِ الْقُرْطُبِيُّ سَارَةَ وَلَا هَاجَرَ، وَنَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي آخِرِ الرَّوْضِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ لَيْسَتْ نَبِيَّةً، وَنَسَبَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِجَمَاعَةٍ، وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ

(1)

ما بعد هذا تقدم في أول الباب الذي قبل هذا. قال مصحح طبعة بولاق: والنسخ التي بأيدينا متفقة على إثباته في المحلين مع تفاوت يسير جدا، وإنما أعادها هنا لمناسبة المقام لها.

ص: 473

وَلَا فِي الْجِنِّ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ) فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَرْكَبْ بَعِيرًا قَطُّ أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تَدْخُلْ فِي النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ بِالْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّهُ قَيَّدَهُنَّ بِرُكُوبِ الْإِبِلِ وَمَرْيَمُ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْكَبُ الْإِبِلَ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهَا أَفْضَلُ النِّسَاءِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ فَوَصَلَهَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ إِسْحَاقَ الْكَلْبِيِّ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ.

‌47 - بَاب قَوْلُهُ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَلِمَتُهُ: كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا. {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ}

3435 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ.

قَالَ الْوَلِيدُ: وحَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنَادَةَ، وَزَادَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} - إِلَى - {وَكِيلا} قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلِغَيْرِهِ بِحَذْفِ قُلْ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ قُلْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} الْآيَةَ، وَلَكِنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ بِدَلِيلِ إِيرَادِهِ لِتَفْسِيرِ بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهَا فَالِاعْتِرَاضُ مُتَّجَهٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَلِمَتُهُ كُنْ فَكَانَ) هَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَوَقَعَ نَظِيرُهُ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} قَوْلُهُ كُنْ فَكَانَ، وَرُوحٌ مِنْهُ اللَّهُ تبارك وتعالى أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا. {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أَيْ لَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} هُوَ بَقِيَّةُ الْآيَةِ الَّتِي فَسَّرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَادَةَ) هُوَ ابْنُ الصَّامِتِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ الْمَذْكُورَةِ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ جُنَادَةَ حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) زَادَ

ص: 474

ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي رِوَايَتِهِ وَابْنُ أَمَتِهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَقْصُودُ هَذَا الْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ لِلنَّصَارَى مِنَ الضَّلَالِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا يُلَقَّنُهُ النَّصْرَانِيُّ إِذَا أَسْلَمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمُ الْمَوْقِعِ، وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ ; فَإِنَّهُ جُمِعَ فِيهِ مَا يَخْرُجُ عَنْهُ جَمِيعُ مِلَلِ الْكُفْرِ عَلَى اخْتِلَافِ عَقَائِدِهِمْ وَتَبَاعُدِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي ذِكْرِ عِيسَى تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى وَإِيذَانٌ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ شِرْكٌ مَحْضٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: عَبْدُهُ وَفِي ذِكْرِ رَسُولُهُ تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ فِي إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ وَقَذْفِهِ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَكَذَا أُمُّهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَابْنُ أَمَتِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ، وَكَذَا تَسْمِيَتُهُ بِالرُّوحِ وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَائِنَةً مِنْهُ، أَيْ أَنَّهُ مُكَوِّنُ كُلِّ ذَلِكَ وَمُوجِدُهُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَلِمَتُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَبْدَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأَنْطَقَهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ وَأَحْيَا الْمَوْتَى عَلَى يَدِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ بِقَوْلِهِ كُنْ، فَلَمَّا كَانَ بِكَلَامِهِ سُمِّيَ بِهِ كَمَا يُقَالُ سَيْفُ اللَّهِ وَأَسَدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِمَا قَالَ فِي صِغَرِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِالرُّوحِ فَلِمَا كَانَ أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقِيلَ لِكَوْنِهِ ذَا رُوحٍ وُجِدَ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ. وَقَوْلُهُ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَيْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ

(1)

يَقْتَضِي دُخُولَهُ الْجَنَّةَ وَتَخْيِيرَهُ فِي الدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَهُوَ بِخِلَافِ ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلِّ دَاخِلٍ الْجَنَّةَ بَابًا مُعَيَّنًا يَدْخُلُ مِنْهُ، قَالَ: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخَيَّرٌ، لَكِنَّهُ يَرَى أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ فَيَخْتَارُهُ فَيَدْخُلُهُ مُخْتَارًا لَا مَجْبُورًا وَلَا مَمْنُوعًا مِنَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ شَاءَ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ يُدْخِلُهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْبَابِ الْمُعَدِّ لِعَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْوَلِيدُ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ وَحَدَّهُ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْزَاعِيَّ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جُنَادَةَ وَزَادَ) أَيْ عَنْ جُنَادَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالزِّيَادَةِ وَلَفْظُهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ الْجَنَّةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ أَيْ مِنْ صَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ، لَكِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ أَيْ يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ وَحْدَهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَابِرٍ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيِّهَا شَاءَ. وَبَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قِطْعَةً مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي الرِّقَاقِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ يَخْتَصِرُ الْحَدِيثَ، وَأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ عَلَى مَنْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحَادِيثِ أَنْ يَجْمَعَ طُرُقَهَا ثُمَّ يَجْمَعَ أَلْفَاظَ الْمُتُونِ إِذَا صَحَّتِ الطُّرُقُ وَيَشْرَحَهَا عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِالْحَدِيثِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْعَاصِيَ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: هذه الجملة ليست في الصحيح التي بأيدينا.

ص: 475

يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ يَجِبُ دُخُولُهُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ غَيْرُ حَاصِلٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ إِلَّا إِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ مِنْ لَازِمِ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ بَعْضَ الْعُصَاةِ يُعَذَّبُ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُخَصُّ بِهِ هَذَا الْعُمُومُ، وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ تَحْتَ الرَّجَاءِ، كَمَا أَنَّهُمْ تَحْتَ الْخَوْفِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهُمْ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ.

‌48 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}

نَبَذْنَاهُ: أَلْقَيْنَاهُ. اعْتَزَلَتْ {شَرْقِيًّا} مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ. {فَأَجَاءَهَا} أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ، وَيُقَالُ: أَلْجَأَهَا: اضْطَرَّهَا. {تُسَاقِطْ} تَسْقُطْ. {قَصِيًّا} قَاصِيًا. {فَرِيًّا} عَظِيمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نَسْيًا} لَمْ أَكُنْ شَيْئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ: الْحَقِيرُ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} قَالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ:{سَرِيًّا} نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.

3436 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى. وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، فجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ، ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ.

3437 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ

ص: 476

وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ قَالَ وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".

3438 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ".

3439 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيْ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ".

3440 -

وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ".

تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ

[الحديث 3440 - أطرافه في: 3441، 5902، 6999، 7026، 7128]

3441 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعِيسَى أَحْمَرُ وَلَكِنْ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ".

3442 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَاتٍ

ص: 477

لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ".

[الحديث 3442 - طرفه في: 3443]

3443 -

حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح بن سليمان حدثنا هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3444 -

وحَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ كَلَا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي".

3445 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".

3446 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ".

3447 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ".

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه".

ص: 478

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} هَذَا الْبَابُ مَعْقُودٌ لِأَخْبَارِ عِيسَى عليه السلام، وَالْأَبْوَابُ الَّتِي قَبْلَهُ لِأَخْبَارِ أُمِّهِ مَرْيَمَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَصَابَ مَرْيَمَ حَيْضٌ فَخَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَقَامَتْ شَرْقِيَّ الْمِحْرَابِ.

قَوْلُهُ: (فَنَبَذْنَاهُ: أَلْقَيْنَاهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَنَبَذْنَاهُ} قَالَ: أَلْقَيْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِذِ انْتَبَذَتْ} أَيِ اعْتَزَلَتْ وَتَنَحَّتْ.

قَوْلُهُ: (اعْتَزَلَتْ شَرْقِيًّا مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ خَيْرٌ مِنَ الْغَرْبِيِّ الَّذِي يَلِي الْغَرْبَ.

قَوْلُهُ: (فَأَجَاءَهَا: أَفَعَلْتُ مِنْ جِئْتُ وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} مَجَازُهُ أَفْعَلَهَا مِنْ جَاءَتْ، وَأَجَاءَهَا غَيْرُهَا إِلَيْهِ، يَعْنِي فَهُوَ مِنْ مَزِيدِ جَاءَ، قَالَ زُهَيْرٌ:

وَجَاءَ وَسَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْكُمْ

أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ

وَالْمَعْنَى أَلْجَأَتْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ أَجَاءَ مَنْقُولٌ مِنْ جَاءَ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ تَغَيَّرَ بَعْدَ النَّقْلِ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ.

قَوْلُهُ: {تُسَاقِطْ} تُسْقِطُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَضُبِطَ تُسْقِطُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَالْفَاعِلُ النَّخْلَةُ عِنْدَ مَنْ قَرَأَهَا بِالْمُثَنَّاةِ، أَوِ الْجِذْعُ عِنْدَ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّحْتَانِيَّةِ.

قَوْلُهُ: {قَصِيًّا} قَاصِيًا) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{مَكَانًا قَصِيًّا} أَيْ بَعِيدًا.

قَوْلُهُ: {فَرِيًّا} عَظِيمًا) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ كَذَلِكَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أَيْ عَجَبًا فَائِقًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسْيًا لَمْ أَكُنْ شَيْئًا) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أَيْ لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَكُنْ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ النَّسْيُ الْحَقِيرُ) هُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ هُوَ مَا سَقَطَ فِي مَنَازِلِ الْمُرْتَحِلِينَ مِنْ رُذَالَةِ أَمْتِعَتِهِمْ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَكُنْتُ نَسْيًا} أَيْ شَيْئًا لَا يُذْكَرُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ قَالَ: قَرَأَ أَبُو وَائِلٍ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} قَالَ: لَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، وَقَوْلُهُ نُهْيَةٍ: بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ ذُو عَقْلٍ وَانْتِهَاءٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ تَقِيٌّ كَانَ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ إِلَخْ) ذَكَرَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَصَلَهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ وَكِيعٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ، فَلَعَلَّهُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (سَرِيًّا: نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ) كَذَا ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مُعَلَّقًا، وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَ الْبَرَاءُ: السَّرِيُّ الْجَدْوَلُ وَهُوَ النَّهَرُ الصَّغِيرُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ السَّرِيَّ النَّهَرُ الصَّغِيرُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا وَأَنْشَدَ لِلَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:

فَرَمَى بِهَا عُرْضَ السَّرِيِّ فَغَادَرَا

مَسْجُورَةً مُتَجَاوِزٌ أَقْلَامُهَا

وَالْعُرْضُ بِالضَّمِّ النَّاحِيَةُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: السَّرِيُّ الْجَدْوَلُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: السَّرِيُّ هُوَ عِيسَى، وَهَذَا شَاذٌّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ

ص: 479

مَرْفُوعًا السَّرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهَرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِمَرْيَمَ لِتَشْرَبَ مِنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ، وَأَوْرَدَهُ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى لِأَنَّهُ أَوَّلُهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَصْرِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ مُقَيَّدًا بِالْمَهْدِ وَكَلَامُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَطْفَالِ بِغَيْرِ مَهْدٍ، لَكِنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي طَرَحَتْهُ أُمُّهُ فِي الْأُخْدُودِ كَانَ ابْنَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَصُرِّحَ بِالْمَهْدِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى النَّوَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ صَاحِبَ الْأُخْدُودِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ، وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِهِ هَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ الَّذِي هُنَا وَذَكَرَ شَاهِدَ يُوسُفَ وَالصَّبِيَّ الرَّضِيعَ الَّذِي قَالَ لِأُمِّهِ وَهِيَ مَاشِطَةُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَرَادَ فِرْعَوْنُ إِلْقَاءَ أُمِّهِ فِي النَّارِ اصْبِرِي يَا أُمَّهْ فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذَا خَمْسَةٌ. وَوَقَعَ ذِكْرُ شَاهِدِ يُوسُفَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ هِلَالِ بْنِ يَسَافَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ الْمَاشِطَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بِهَا لَتُلْقَى فِي النَّارِ أَوْ لِتَكْفُرَ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ، فَتَقَاعَسَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ.

وَزَعَمَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ يَحْيَى تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ. فَإِنْ ثَبَتَ صَارُوا سَبْعَةً. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ. وَفِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ أَوَائِلَ مَا وُلِدَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُبَارَكُ الْيَمَامَةِ وَقِصَّتُهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعْرِضٍ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي شَاهِدِ يُوسُفَ: فَقِيلَ كَانَ صَغِيرًا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ ذَا لِحْيَةٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ أَيْضًا كَانَ حَكِيمًا مِنْ أَهْلِهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَمَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ مِنْ طَرِيقِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَالْأَعْرَجُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَأَبُو رَافِعٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبُو سَلَمَةَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ. وَأَوَّلُ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَاجِرًا، وَكَانَ يَنْقُصُ مَرَّةً وَيَزِيدُ أُخْرَى. فَقَالَ: مَا فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ خَيْرٌ، لَأَلْتَمِسَنَّ تِجَارَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ، فَبَنَى صَوْمَعَةً وَتَرَهَّبَ فِيهَا، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا التَّرَهُّبَ وَحَبْسَ النَّفْسِ فِي الصَّوَامِعِ. وَالصَّوْمَعَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ هِيَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُحَدَّدُ أَعْلَاهُ، وَوَزْنُهَا فَوْعَلَةٌ مِنْ صَمَعْتُ إِذَا دَقَقْتُ لِأَنَّهَا دَقِيقَةُ الرَّأْسِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَتْه أُمُّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى اسْمِهَا. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ تَأْتِيهِ فَتُنَادِيهِ فَيُشْرِفُ عَلَيْهَا فَيُكَلِّمُهَا، فَأَتَتْهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فَأَتَتْهُ أُمُّهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَتْهُ قَالَتْ: أَيْ جُرَيْجُ أَشْرِفْ عَلَيَّ أُكَلِّمْكَ، أَنَا أُمُّكَ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَظَالِمِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُمِّي وَصَلَاتِي أَيِ اجْتَمَعَ عَلَيَّ إِجَابَةُ أُمِّي وَإِتْمَامُ صَلَاتِي فَوَفِّقْنِي لِأَفْضَلِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ فَصَادَفَتْهُ

ص: 480

يُصَلِّي، فَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى حَاجِبِهَا فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ. ثُمَّ أَتَتْهُ فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، فَقَالَ مِثْلَهُ فَذَكَرَهُ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهَا جَاءَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تُنَادِيهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ أُمِّي وَصَلَاتِي لِرَبِّي، أُوثِرُ صَلَاتِي عَلَى أُمِّي، ذَكَرَهُ ثَلَاثًا وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ لَا أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَطَقَ بِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ ذِكْرَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ عَالِمًا لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: فَغَضِبَتْ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يَمُوتَنَّ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ وَالْمُومِسَاتُ جَمْعُ مُومِسَةٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَهِيَ الزَّانِيَةُ وَتُجْمَعُ عَلَى مَوَامِيسَ بِالْوَاوِ، وَجُمِعَ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ أَيْضًا وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فِيهِ الْهَمْزَةَ بَدَلَ الْيَاءِ بَلْ أَثْبَتَهَا رِوَايَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فَقَالَتْ أَبَيْتَ أَنْ تُطْلِعَ إِلَيَّ وَجْهَكَ، لَا أَمَاتَكَ اللَّهُ حَتَّى تَنْظُرَ فِي وَجْهِكَ زَوَانِي الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا) فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِبَادَةَ جُرَيْجٍ، فَقَالَتْ بَغِيٌّ مِنْهُمْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ، قَالُوا: قَدْ شِئْنَا. فَأَتَتْهُ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَاعٍ كَانَ يُؤوِي غَنَمَهُ إِلَى أَصْلِ صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ مَلِكِ الْقَرْيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ وَكَانَ عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ رَاعِي ضَأْنٍ وَرَاعِيَةُ مِعْزَى. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ دَارِ أَبِيهَا بِغَيْرِ عِلْمِ أَهْلِهَا مُتَنَكِّرَةً، وَكَانَتْ تَعْمَلُ الْفَسَادَ إِلَى أَنِ ادَّعَتْ أَنَّهَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْتِنَ جُرَيْجًا، فَاحْتَالَتْ بِأَنْ خَرَجَتْ فِي صُورَةِ رَاعِيَةٍ لِيُمْكِنَهَا أَنْ تَأوِيَ إِلَى ظِلِّ صَوْمَعَتِهِ لِتَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى فِتْنَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَوَلَدَتْ غُلَامًا) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَحَمَلَتْ حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُهَا فَوَلَدَتْ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَسُئِلَتْ مِمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ فَقِيلَ لَهَا مِمَّنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْرِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فَأُخِذَتْ، وَكَانَ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ قُتِلَ فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ صَاحِبِ الصَّوْمَعَةِ. زَادَ الْأَعْرَجُ نَزَلَ إِلَيَّ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فَقِيلَ لَهَا مَنْ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: جُرَيْجٌ الرَّاهِبُ، نَزَلَ إِلَيَّ فَأَصَابَنِي زَادَ أَبُو سَلَمَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَذَهَبُوا إِلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرُوهُ، قَالَ: أَدْرِكُوهُ فَأْتُونِي بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ)، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ: فَأَقْبَلُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ إِلَى الدَّيْرِ فَنَادَوْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَأَقْبَلُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: فَمَا شَعَرَ حَتَّى سَمِعَ بِالْفُئُوسِ فِي أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ فَجَعَلَ يَسْأَلُهُمْ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخَذَ الْحَبْلَ فَتَدَلَّى.

قَوْلُهُ: (وَسَبُّوهُ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ: وَضَرَبُوهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّكَ زَنَيْتَ بِهَذِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَهُ فَقَالُوا: أَيْ جُرَيْجُ انْزِلْ، فَأَبَى يُقْبِلُ عَلَى صَلَاتِهِ، فَأَخَذُوا فِي هَدْمِ صَوْمَعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ وَعُنُقِهَا حَبْلًا وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَيْحَكَ يَا جُرَيْجُ، كُنَّا نَرَاكَ

ص: 481

خَيْرَ النَّاسِ فَأَحْبَلْتَ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهِ فَاصْلُبُوهُ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَقُولُونَ: مُرَاءٍ تُخَادِعُ النَّاسَ بِعَمَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: فَلَمَّا مَرُّوا بِهِ نَحْوَ بَيْتِ الزَّوَانِي خَرَجْنَ يَنْظُرْنَ فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لِمَ يَضْحَكُ؟ حَتَّى مَرَّ بِالزَّوَانِي.

قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى) وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَقَامَ وَصَلَّى وَدَعَا وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ قَالَ فَتَوَلَّوْا عَنِّي، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: الرَّاعِي) زَادَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَطَعَنَهُ بِأُصْبَعِهِ فَقَالَ: بِاللَّهِ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الرَّاعِي. وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْبِرِّ وَالصِّلَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يُنْظِرُوهُ فَأَنْظَرُوهُ، فَرَأَى فِي الْمَنَامِ مَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا السَّخْلَةُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَفَعَلَ، فَقَالَ: رَاعِي الْغَنَمِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ رَاعِي الضَّأْنِ. وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَوَضَعَ أُصْبَعَهُ عَلَى بَطْنِهَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ فَأُتِيَ بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَفَمُهُ فِي ثَدْيِهَا، فَقَالَ لَهُ جُرَيْجٌ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَنَزَعَ الْغُلَامُ فَاهُ مِنَ الثَّدْيِ وَقَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَى مَلِكِهِمْ قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ الصَّبِيُّ الَّذِي وَلَدَتْهُ فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ، سَمَّى أَبَاهُ.

قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّاعِي، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ صُهَيْبٌ، وَأَمَّا الِابْنُ فَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ بِلَفْظٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَوْسٍ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَوَاخِرَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ اسْمُهُ كَمَا زَعَمَ الدَّاوُدِيُّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الصَّغِيرُ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: ثُمَّ انْتَهَى إِلَى شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ فَضَرَبَهُ بِذَلِكَ الْغُصْنِ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ وَوَقَعَ فِي التَّنْبِيهِ لِأَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: أَيْنَ أَصَبْتُكِ؟ قَالَتْ: تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَأَتَى تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَقَالَ: يَا شَجَرَةُ أَسْأَلُكِ بِالَّذِي خَلَقَكِ مَنْ زَنَى بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ كُلُّ غُصْنِ مِنْهَا: رَاعِي الْغَنَمِ وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِوُقُوعِ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ، وَوَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى بَطْنِ أُمِّهِ، وَطَعَنَهُ بِأصْبَعِهِ، وَضَرَبَهُ بِطَرَفِ الْعَصَا الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ. وَأَبْعَدَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهَا بِتَعَدُّدِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهُ اسْتَنْطَقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تَلِدَ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُ بَعْدَ أَنْ وُلِدَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَوَثَبُوا إِلَى جُرَيْجٍ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ وَزَادَ الْأَعْرَجُ فِي رِوَايَتِهِ فَأَبْرَأَ اللَّهُ جُرَيْجًا وَأَعْظَمَ النَّاسُ أَمْرَ جُرَيْجٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ فَسَبَّحَ النَّاسُ وَعَجِبُوا.

قَوْلُهُ: (قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ) وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ: ابْنُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ: فَقَالُوا نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا وَفِي نَقْلِ أَبِي اللَّيْثِ: فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ نَبْنِيهَا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا. قَالَ مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: فَرَدُّوهَا فَرَجَعَ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالُوا لَهُ: بِاللَّهِ مِمَّ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ: مَا ضَحِكْتُ إِلَّا مِنْ دَعْوَةٍ دَعَتْهَا عَلَيَّ أُمِّي وَفِي الْحَدِيثِ إِيثَارُ إِجَابَةِ الْأُمِّ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ فِيهَا نَافِلَةٌ وَإِجَابَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا دَعَتْ عَلَيْهِ فَأُجِيبَتْ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ وَيُجِيبَهَا، لَكِنْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ تَدْعُوَهُ إِلَى مُفَارَقَةِ صَوْمَعَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَتَعَلُّقَاتِهَا، كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِ فَيُكَلِّمُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ فَتَزُورُهُ وَتَقْتَنِعُ بِرُؤْيَتِهِ وَتَكْلِيمِهِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُخَفِّفْ ثُمَّ يُجِيبُهَا لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَنْقَطِعَ خُشُوعُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ فَقِيهًا لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَوْلَى مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ. أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَهَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى إِطْلَاقِهِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ جَوَازُ قَطْعِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا لِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْأُمِّ نَفْلًا كَانَتْ أَوْ فَرْضًا، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى

ص: 482

أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ قَدَّمْتُهُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَتْ نَفْلًا وَعُلِمَ تَأَذِّي الْوَالِدِ بِالتَّرْكِ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا وَضَاقَ الْوَقْتُ لَمْ تَجِبِ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَضِقْ وَجَبَ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.

وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ إِجَابَةَ الْوَالَدِ فِي النَّافِلَةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَادِي فِيهَا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأُمِّ دُونَ الْأَبِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَقَالَ بِهِ مَكْحُولٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنَ السَّلَفِ غَيْرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا عِظَمُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَإِجَابَةُ دُعَائِهِمَا وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ مَعْذُورًا ; لَكِنْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ. وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالتَّابِعِ إِذَا جَرَى مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ لِأَنَّ أُمَّ جُرَيْجٍ مَعَ غَضَبِهَا مِنْهُ لَمْ تَدْعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا دَعَتْ بِهِ خَاصَّةً، وَلَوْلَا طَلَبُهَا الرِّفْقَ بِهِ لَدَعَتْ عَلَيْهِ بِوُقُوعِ الْفَاحِشَةِ أَوِ الْقَتْلِ. وَفِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ لَا تَضُرُّهُ الْفِتَنُ. وَفِيهِ قُوَّةُ يَقِينِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورِ وَصِحَّةُ رَجَائِهِ، لِأَنَّهُ اسْتَنْطَقَ الْمَوْلُودَ مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ ; وَلَوْلَا صِحَّةُ رَجَائِهِ بِنُطْقِهِ مَا اسْتَنْطَقَهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِأَهَمِّهِمَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِأَوْلِيَائِهِ عِنْدَ ابْتِلَائِهِمْ مَخَارِجَ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَهْذِيبًا وَزِيَادَةً لَهُمْ فِي الثَّوَابِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَوُقُوعُ الْكَرَامَةِ لَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُرَيْجٌ كَانَ نَبِيًّا فَتَكُونُ مُعْجِزَةٌ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَتَأَتَّى فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَلَّمَهَا وَلَدُهَا الْمُرْضَعُ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْأَشَدِّ فِي الْعِبَادَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مِنْ شَرْعِهِمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْدُقُ فِيمَا تَدَّعِيهِ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْوَطْءِ وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ جَحْدُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ تَدْفَعُ قَوْلَهَا. وَفِيهِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْفَاحِشَةَ لَا تَبْقَى لَهُ حُرْمَةٌ، وَأَنَّ الْمَفْزَعَ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ إِلَى اللَّهِ يَكُونُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِ جُرَيْجٍ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ بِأَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ بِنْتًا لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلِابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ جُرَيْجًا نَسَبَ ابْنَ الزِّنَا لِلزَّانِي وَصَدَّقَ اللَّهُ نِسْبَتَهُ بِمَا خَرَقَ لَهُ مِنَ الْعَادَةِ فِي نُطْقِ الْمَوْلُودِ بِشَهَادَتِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَبِي فُلَانٌ الرَّاعِي، فَكَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ صَحِيحَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا أَحْكَامُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، خَرَجَ التَّوَارُثُ وَالْوَلَاءُ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى حُكْمِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا مِثْلُ ذَلِكَ فِي خَبَرِ سَارَةَ مَعَ الْجَبَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتِ امْرَأَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا وَلَا عَلَى اسْمِ ابْنِهَا وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ) وَفِي رِوَايَةِ خِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَارِسٌ مُتَكَبِّرٌ.

قَوْلُهُ: (ذُو شَارَةٍ) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ صَاحِبُ حُسْنٍ وَقِيلَ: صَاحِبُ هَيْئَةٍ وَمَنْظَرٍ وَمَلْبَسٍ حَسَنٍ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَيُشَارُ إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ خِلَاسٍ: ذُو شَارَةٍ حَسَنَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِيضَاحِ الْخَبَرِ بِتَمْثِيلِهِ بِالْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ مُرَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (بِأَمَةٍ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ تُضْرَبُ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا وَهِيَ بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا رَاءٌ ثَقِيلَةٌ ثُمَّ رَاءٌ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ سَأَلَتِ الْأُمُّ ابْنَهَا عَنْ سَبَبِ كَلَامِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: فَقَالَ يَا أُمَّتَاهْ، أَمَّا الرَّاكِبُ ذُو الشَّارَةِ فَجَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ فِيهِمَا عَلَى الْمُخَاطَبَةِ وَبِسُكُونِهَا عَلَى الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَفْعَلْ) فِي رِوَايَةِ

ص: 483

أَحْمَدَ: يَقُولُونَ سَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ، زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ لَهَا تَسْرِقُ وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خِلَاسٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ حَبَشِيَّةً أَوْ زِنْجِيَّةً، وَأَنَّهَا مَاتَتْ فَجَرُّوهَا حَتَّى أَلْقَوْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ تُجَرَّرُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ نُفُوسَ أَهْلِ الدُّنْيَا تَقِفُ مَعَ الْخَيَالِ الظَّاهِرِ فَتَخَافُ سُوءَ الْحَالِ، بِخِلَافِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ فَوُقُوفُهُمْ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ فَلَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ مَعَ حُسْنِ السَّرِيرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَصْحَابِ قَارُونَ حَيْثُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ:{يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} وَفِيهِ أَنَّ الْبَشَرَ طُبِعُوا عَلَى إِيثَارِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَنْفُسِ بِالْخَيْرِ لِطَلَبِ الْمَرْأَةِ الْخَيْرَ لِابْنِهَا وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ وَلَمْ تَذْكُرْ نَفْسَهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ مُوسَى وَعِيسَى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ زَادَ هُنَا إِسْنَادًا آخَرَ فَقَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ وَهُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ، وَكَانَ سَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ الْقَائِلُ حَسِبْتُهُ هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْمُضْطَرِبُ الطَّوِيلُ غَيْرُ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ الْخَفِيفُ اللَّحْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بِلَفْظِ ضَرْبٌ وَفُسِّرَ بِالنَّحِيفِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا الْوَصْفُ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا أنَّهُ جَسِيمٌ يَعْنِي فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَقَالَ: وَالَّذِي وَقَعَ نَعْتُهُ بِأَنَّهُ جَسِيمٌ إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّالُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: رِوَايَةُ مَنْ قَالَ ضَرْبٌ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ مُضْطَرِبٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَسِيمٌ وَهُوَ ضِدُّ الضَّرْبِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْجَسِيمِ الزِّيَادَةُ فِي الطُّولِ، وَقَالَ التَّيْمِيُّ: لَعَلَّ بَعْضَ لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ دَخَلَ فِي بَعْضٍ، لِأَنَّ الْجَسِيمَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ لَا فِي صِفَةِ مُوسَى انْتَهَى.

وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا جَوَّزَهُ عِيَاضٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَسِيمِ فِي صِفَةِ مُوسَى الزِّيَادَةُ فِي الطُّولِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ وَهُمْ طِوَالٌ غَيْرُ غِلَاظٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ رَأَيْتُ مُوسَى جَعْدًا طُوَالًا وَاسْتَنْكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا لِأَنَّ الطَّوِيلَ لَا يُوصَفُ بِالْجَعْدِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُعُودَةُ فِي صِفَةِ مُوسَى جُعُودَةُ الْجِسْمِ وَهُوَ اكْتِنَازُهُ وَاجْتِمَاعُهُ لَا جُعُودَةُ الشَّعْرِ لِأَنَّهُ جَاءَ أَنَّهُ كَانَ رَجِلَ الشَّعْرِ.

قَوْلُهُ فِي صِفَةِ عِيسَى: (رَبْعَةٌ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَهُوَ الْمَرْبُوعُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَوِيلٍ جِدًّا وَلَا قَصِيرٍ جِدًّا بَلْ وَسَطٌ، وَقَوْلُهُ: مِنْ دِيمَاسٍ هُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي الْحَمَّامَ) هُوَ تَفْسِيرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، وَالدِّيمَاسُ فِي اللُّغَةِ السِّرْبُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكِنِّ، وَالْحَمَّامُ مِنْ جُمْلَةِ الْكِنِّ. والْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ بِصَفَاءِ اللَّوْنِ وَنَضَارَةِ الْجِسْمِ وَكَثْرَةِ مَاءِ الْوَجْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ كِنٍّ فَخَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ عَرْقَانُ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ بَعْدَ هَذَا: يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّهُ عَرِقَ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ مِنْ رَأْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَزِيدِ نَضَارَةِ وَجْهِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ: يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ.

قَوْلُهُ: (وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ عَلَى الْإِسْرَاءِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي زُرْعَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الْمَسْمُوعَةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: وَلَا

ص: 484

أَدْرِي أَهَكَذَا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَوْ غَلِطَ فِيهِ الْفَرَبْرِيُّ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: وَتَابَعَهُ نَصْرُ بْنُ، أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ فَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الضُّرَيْسِ، وَمُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّنْدَانِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالصَّوَابُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ إِنَّمَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ فَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي سَائِرِ النُّسَخِ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ غَلَطٌ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ أَصْحَابُ إِسْرَائِيلَ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى.

وَرِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ تَقَدَّمَتْ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلَكِنْ لَا ذِكْرَ لِعِيسَى عليه السلام فِيهَا. وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا لِعِيسَى ذِكْرٌ إِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى حَسْبُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ: وَيَقَعُ فِي خَاطِرِي أَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ وَقَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَوْ كَانَ وَقَعَ له كَذَلِكَ لَنَبَّهَ عَلَيْهِ كَعَادَتِهِ، وَالَّذِي يُرَجِّحُ أَنَّ الْحَدِيثَ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَا لِابْنِ عُمَرَ مَا سَيَأْتِي مِنْ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ عِيسَى أَحْمَرُ وَحَلَّفَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ هَذِهِ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ فَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْحَدِيثَ لِمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (سَبِطٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَيْسَ بِجَعْدٍ، وَهَذَا نَعْتٌ لِشَعْرِ رَأْسِهِ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ) بِضَمِّ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ جِنْسٌ مِنَ السُّودَانِ، وَقِيلَ: هُمْ نَوْعٌ مِنَ الْهُنُودِ وَهُمْ طِوَالُ الْأَجْسَامِ مَعَ نَحَافَةٍ فِيهَا، وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ مُوسَى جَسِيمٌ، مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي تَرْجَمَتِهِ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ أَيْ خَفِيفُ اللَّحْمِ، قَالَ: فَلَعَلَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ دَخَلَ لَهُ بَعْضُ لَفْظِهِ فِي بَعْضٍ، لِأَنَّ الْجَسِيمَ وَرَدَ فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ خَفِيفَ اللَّحْمِ جَسِيمًا بِالنِّسْبَةِ لِطُولِهِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ طَوِيلٍ لَاجْتَمَعَ لَحْمُهُ وَكَانَ جَسِيمًا.

تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدَيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذِكْرِ عِيسَى وَالدَّجَّالِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مَوْصُولَةٍ وَمُعَلَّقَةٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ ظَهْرَانَيْ) بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ أَيْ جَالِسًا فِي وَسَطِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَلَسَ بَيْنَهُمْ مُسْتَظْهِرًا لَا مُسْتَخْفِيًا، وَزِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ تَأْكِيدًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ ظَهْرًا مِنْهُ قُدَّامَهُ وَظَهْرًا خَلْفَهُ وَكَأَنَّهُمْ حَفُّوا بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ فَهَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ قَوْمٍ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَفْظَةَ ظَهْرَانَيْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) أَيْ بَارِزَةٌ، وَهُوَ مِنْ طَفَا الشَّيْءُ يَطْفُو بِغَيْرِ هَمْزٍ إِذَا عَلَا عَلَى غَيْرِهِ، وَشَبَّهَهَا بِالْعِنَبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعُنْقُودِ بَارِزَةً عَنْ نَظَائِرِهَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (وَأَرَانِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (آدَمُ) بِالْمَدِّ أَيْ

ص: 485

أَسْمَرُ.

قَوْلُهُ: (كَأَحْسَنَ مَا يُرَى) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ الْآتِيَةِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ كَأَحْسَنَ مَا أَنْتَ رَاءٍ.

قَوْلُهُ: (تَضْرِبُ لِمَّتُهُ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَيُقَالُ لَهُ إِذَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنَيْنِ وَأَلَمَّ بِالْمَنْكِبَيْنِ لِمَّةٌ، وَإِذَا جَاوَزَتِ الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جُمَّةٌ وَإِذَا قَصُرَتْ عَنْهُمَا فَهِيَ وَفْرَةٌ.

قَوْلُهُ: (رَجِلَ الشَّعْرِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ قَدْ سَرَّحَهُ وَدَهَنَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: لَهُ لِمَّةٌ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا تَقْطُرُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي سَرَّحَهَا بِهِ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِنَارَةُ وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنْ مَزِيدِ النَّظَافَةِ وَالنَّضَارَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ الْآتِيَةِ فِي نَعْتِ عِيسَى أَنَّهُ آدَمُ سَبِطُ الشَّعْرِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي نَعْتِ عِيسَى إنَّهُ جَعْدٌ وَالْجَعْدُ ضِدُّ السَّبِطِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ سَبِطُ الشَّعْرِ وَوَصْفَهُ لِجُعُودَةٍ فِي جِسْمِهِ لَا شَعْرِهِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اجْتِمَاعُهُ وَاكْتِنَازُهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهِ آدَمَ أَوْ أَحْمَرَ، وَالْأَحْمَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ مَعَ الْحُمْرَةِ، وَالْآدَمُ الْأَسْمَرُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَنَّهُ احْمَرَّ لَوْنُهُ بِسَبَبٍ كَالتَّعَبِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَسْمَرُ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى أَحْمَرُ فَظَهَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ شَيْئًا حَفِظَهُ غَيْرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ: إنَّ رِوَايَةَ مَنْ قَالَ آدَمُ أَثْبَتُ فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مُخَالَفَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَعْتِ عِيسَى إنَّهُ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مُتَّكِئًا عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ، وَالْعَوَاتِقُ جَمْعُ عَاتِقٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ.

قَوْلُهُ: (قَطَطًا) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مِثْلُهَا هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ تُكْسَرُ الطَّاءُ الْأُولَى، وَالْمُرَادُ بِهِ شِدَّةُ جُعُودَةِ الشَّعْرِ، وَيُطْلَقُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ وَيُرَادُ بِهِ الذَّمُّ يُقَالُ جَعْدُ الْيَدَيْنِ وَجَعْدُ الْأَصَابِعِ أَيْ بَخِيلٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَصِيرِ أَيْضًا، وَأَمَّا إِذَا أُطْلِقَ فِي الشَّعْرِ فَيَحْتَمِلُ الذَّمَّ وَالْمَدْحَ.

قَوْلُهُ: (كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ يَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ الْعُمَرِيَّ (عَنْ نَافِعٍ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرِوَايَتُهُ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَقَطْ إِلَى قَوْلِهِ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُطْلِقُ الْمُتَابَعَةَ وَيُرِيدُ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَا جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ) هُوَ الْأَزْرَقِيُّ وَاسْمُ جَدِّهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْقَوَّاسُ وَاسْمُ جَدِّ الْقَوَّاسِ، عَوْنٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (لَا وَاللَّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعِيسَى أَحْمَرَ) اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِعِيسَى بِمَعْنَى عَنْ وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا أَنْكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَثْبَتَهُ غَيْرُهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ ظَنَّ أَنَّ الْوَصْفَ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي، وَأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِكَوْنِهِ أَحْمَرَ إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّالُ لَا عِيسَى، وَقُرْبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ وَهِيَ صِفَةُ مَدْحٍ لِعِيسَى وَصِفَةُ ذَمٍّ لِلدَّجَّالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ سَمِعَ سَمَاعًا جَزْمًا فِي وَصْفِ عِيسَى أَنَّهُ آدَمُ فَسَاغَ لَهُ الْحَلِفُ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَحْمَرُ وَاهِمٌ. (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ غَيْرُ الْمَرَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ فِي الْإِسْرَاءِ إِنَّ جَمِيعَهُ مَنَامٌ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ، وَقِيلَ: كَانَ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ، وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي وَضَعْتُ قَدَمِي حَيْثُ يَضَعُ الْأَنْبِيَاءُ أَقْدَامَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعُرِضَ عَلَيَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْحَدِيثَ، قَالَ عِيَاضٌ: رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ

ص: 486

الْأَحَادِيثِ إِنْ كَانَ مَنَامًا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْيَقِظَةِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ وَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ الْإِشْكَالَ. وَقَدْ قِيلَ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُصَلُّوا وَيَحُجُّوا وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَاعُوا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا وَهِيَ دَارُ تَكْلِيفٍ بَاقِيَةٌ.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ حَالَهُمُ الَّتِي كَانُوا فِي حِيَاتِهِمْ عَلَيْهَا فَمَثَلُوا لَهُ كَيْفَ كَانُوا وَكَيْفَ كَانَ حَجُّهُمْ وَتَلْبِيَتُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ.

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ. فَلِهَذَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّشْبِيهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَحَيْثُ أَطْلَقَهَا فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ كِتَابًا لَطِيفًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ. أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ عَنِ الْمُسْتَلِمِ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ الْأَسْوَدِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مُعِينٍ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ وَهُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ الْحَجَّاجُ الْأَسْوَدُ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْمُسْتَلِمِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَسَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَحَدِ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ عَنْ ثَابِتٍ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ وَمُحَمَّدٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الرَّافِعِيُّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ وَلَا أُصَلِّي لَهُ إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هَذِهِ وَلَيْسَ الْأَخْذُ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ يُصَلُّونَ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ ثُمَّ يَكُونُونَ مُصَلِّينَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَشَاهِدُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَرَرْتُ بِمُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا خَاصٌّ بِمُوسَى قُلْنَا قَدْ وَجَدْنَا لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جعد كَأَنَّهُ وَفِيهِ: وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَقِيَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَّهُمْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ لَقِيَهُمْ بِالسَّمَوَاتِ، وَطُرُقُ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ هُوَ وَمِنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى السَّمَوَاتِ فَلَقِيَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَّهُمْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَصَلَاتُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ

ص: 487

وَفِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ النَّقْلُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِمْ. قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ كَوْنُ الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَمِنْ شَوَاهِدِ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَقَالَ فِيهِ: وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ. سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ بِلَفْظِ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَفَعَهُ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَّمْتَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَمِمَّا يُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ يَقْتَضِي انْفِصَالَهَا عَنْهُ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدِهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي أَنَّ رَدَّ رُوحِهِ كَانَتْ سَابِقَةً عَقِبَ دَفْنِهِ لَا أَنَّهَا تُعَادُ ثُمَّ تُنْزَعُ ثُمَّ تُعَادُ.

الثَّانِي: سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ نَزْعَ مَوْتٍ بَلْ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ.

الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ النُّطْقُ فَتَجُوزُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ خِطَابِنَا بِمَا نَفْهَمُهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي أُمُورِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى، فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهْمُهُ لِيُجِيبَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ الزَّمَانِ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ لِاتِّصَالِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِمَّنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَأَحْوَالُ الْبَرْزَخِ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (سَبِطَ الشَّعْرِ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (يُهَادَى) أَيْ يَمْشِي مُتَمَايِلًا بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (يَنْطِفُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَقْطُرُ وَمِنْهُ النُّطْفَةُ ; كَذَا قَالَ الدَّاودِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: النُّطْفَةُ: الْمَاءُ الصَّافِي. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُهَرَاقُ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى) كَذَا هُوَ بِالْإِضَافَةِ وَعَيْنِهِ بِالْجَرِّ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَيْنُ صَفْحَةِ وَجْهِهِ الْيُمْنَى، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ عَيْنُهُ بِالرَّفْعِ كَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى وَصْفِهِ إنَّهُ أَعْوَرُ وَابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ صِفَةِ عَيْنِهِ فَقَالَ: عَيْنُهُ كَأَنَّهَا كَذَا وَأَبْرَزَ الضَّمِيرَ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَيْنُهُ كَأَنَّ عَيْنَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَعْوَرَ الرَّاجِعِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالصِّفَةِ كَمَا تُرْفَعُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ أَعْوَرَ لَا يَكُونُ نَعْتًا إِلَّا لِمُذَكَّرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَيْنُهُ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، وَقَوْلُهُ: كَأَنَّ عِنَبَةً طَافِيَةً بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ كَأَنَّ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنَّ فِي وَجْهِهِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ

إِنْ مَحِلًّا وَإِنْ مُرْتَحَلًا

أَيْ إِنَّ لَنَا مَحِلًّا وَإِنَّ لَنَا مُرْتَحَلًا.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِغَيْرِهِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ قَبْلُ.

قَوْلُهُ: (وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (رَجُلٌ) أَيِ ابْنُ قَطَنٍ (مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ). قُلْتُ: اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ قَطَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُنْدُبِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَائِد بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، وَأُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أَفَادَهُ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ: وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَكْثَمَ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ قَالَ: لَا، أَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ كَافِرٌ. حَكَاهُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الَّذِي شَبَّهَ بِهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ جَدُّ خُزَاعَةَ لَا الدَّجَّالُ ; كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم

ص: 488

إِنَّ الدَّجَّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ أَيْ فِي زَمَنِ خُرُوجِهِ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ نَفْيُ دُخُولِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أَوْرَدَهُ مِنْ ثَلَاث طُرُقٍ: طَرِيقَيْنِ مَوْصُولَيْنِ وَطَرِيقَةٌ مُعَلَّقَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَيْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَشَّرَ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} أنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم مَتْبُوعًا وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي كَوْنِهِ تَابِعًا، كَذَا قَالَ. وَمَسَاقُ الْحَدِيثِ كَمَسَاقِ الْآيَةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ لِيُحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ، فَكَمَا أَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، ذَاكَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَهَذَا مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ قُرْبِ الْعَهْدِ بِهِ

قَوْلُهُ: (وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ وَالْعَلَّاتُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الضَّرَائِرُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى كَأَنَّهُ عَلَّ مِنْهَا، وَالْعَلَلُ الشُّرْبُ بَعْدَ الشُّرْبِ، وَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأَبِ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فُرُوعُ الشَّرَائِعِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ أَزْمِنَتَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ) هَذَا أَوْرَدَهُ كَالشَّاهِدِ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدَ عِيسَى أَحَدٌ إِلَّا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ الرُّسُلَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ يس كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ عِيسَى، وَأَنَّ جرجيس وَخَالِدَ بْنَ سِنَانٍ كَانَا نَبِيَّيْنِ وَكَانَا بَعْدَ عِيسَى، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُضَعِّفُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا تَرَدُّدٍ وَفِي غَيْرِهِ مَقَالٌ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْدَ عِيسَى نَبِيٌّ بِشَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَإِنَّمَا بُعِثَ بَعْدَهُ مَنْ بُعِثَ بِتَقْرِيرِ شَرِيعَةِ عِيسَى، وَقِصَّةِ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَهَا طُرُقٌ جَمَعْتُهَا فِي تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ. الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَوْصُولَةٍ وَمُعَلَّقَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ إِلَخْ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا هُوَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ طَهْمَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَقَالَ لَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي كَذَبَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَعَيْنِي بِالْإِفْرَادِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، ووَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَذَّبْتُ نَفْسِي وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ طَهْمَانَ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ عِيسَى ذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَصْدِيقِ الْحَالِفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي فَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّكْذِيبِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَّبْتُ عَيْنِي فِي غَيْرِ هَذَا، قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرَ الْحُكْمِ لَا بَاطِنَ الْأَمْرِ وَإِلَّا فَالْمُشَاهَدَةُ أَعْلَى الْيَقِينِ فَكَيْفَ يُكَذِّبُ عَيْنَهُ وَيُصَدِّقُ قَوْلَ الْمُدَّعِي؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى الشَّيْءِ فَظَنَّ أَنَّهُ تَنَاوَلَهُ، فَلَمَّا حَلَفَ لَهُ رَجَعَ عَنْ ظَنِّهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ قَوْلِ عِيسَى لِلرَّجُلِ سَرَقْتَ أَنَّهُ خَبَرٌ جَازِمٌ عَمَّا فَعَلَ الرَّجُلُ مِنَ السَّرِقَةِ لِكَوْنِهِ رَآهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ فِي خُفْيَةٍ. وَقَوْلُ الرَّجُلِ كَلَّا نَفْيٌ لِذَلِكَ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ، وَقَوْلُ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ أَيْ صَدَّقْتُ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ مَا ظَهَرَ لِي مِنْ كَوْنِ الْأَخْذِ الْمَذْكُورِ سَرِقَةً

ص: 489

فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَخَذَ مَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ، أَوْ مَا أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي أَخْذِهِ، أَوْ أَخَذَهُ لِيُقَلِّبَهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ وَلَمْ يَقْصِدَ الْغَصْبَ وَالِاسْتِيلَاءَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِيسَى كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اسْتِفْهَامَهُ بِقَوْلِهِ سَرَقْتَ؟ وَتَكُونُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةً وَهُوَ سَائِغٌ كَثِيرٌ انْتَهَى.

وَاحْتِمَالُ الِاسْتِفْهَامِ بَعِيدٌ مَعَ جَزْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ عِيسَى رَأَى رَجُلًا يَسْرِقُ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ بَعِيدٌ أَيْضًا بِهَذَا الْجَزْمِ بِعَيْنِهِ، وَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ فَقَالَ: هَذَا تَأْوِيلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ كَاذِبًا، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ تُهْمَةِ الْحَالِفِ وَتُهْمَةِ بَصَرِهِ فَرَدَّ التُّهْمَةَ إِلَى بَصَرِهِ، كَمَا ظَنَّ آدَمُ صِدْقَ إِبْلِيسَ لَمَّا حَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ. قُلْتُ: وَلَيْسَ بِدُونِ تَأْوِيلِ الْقَاضِي فِي التَّكَلُّفِ، وَالتَّشْبِيهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى دَرْءِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ، وَعَلَى مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْعُهُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدَيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ عَنِ الصَّحَابِيِّ.

قَوْلُهُ: (لَا تُطْرُونِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْإِطْرَاءُ الْمَدْحُ بِالْبَاطِلِ تَقُولُ: أَطْرَيْتُ فُلَانًا مَدَحْتُهُ فَأَفْرَطْتُ فِي مَدْحِهِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ) أَيْ فِي دَعْوَاهُمْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ السَّقِيفَةِ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ، وَذَكَرَ مِنْهُ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً فِيمَا مَضَى وَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي مَكَانِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ) حَذَفَ السُّؤَالَ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: إِنَّا نَقُولُ عِنْدَنَا إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ فَذَكَرَهُ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا آمَنَ الرَّجُلُ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ) تَقَدَّمَ مَبَاحِثُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مُسْتَوْفَاةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ إِلَخْ) تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ: ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدَيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً

(1)

. الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} .

قَوْلُهُ: (قَالَ الْفَرَبْرِيُّ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْبُخَارِيُّ (عَنْ قَبِيصَةَ) هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، أَيْ إِنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ: مِنْ أَصْحَابِي أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ الرِّدَّةِ لَا أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ سُلِبَ اسْمَ الصُّحْبَةِ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ شَرِيفَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ أَنِ اتَّصَفَ بِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ قَبِيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ.

‌49 - بَاب نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام

3448 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ

(1)

لفظ الحديث المشروح هنا "إنكم تحشرون حفاة".

ص: 490

فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الحرب، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ. حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} .

3449 -

حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ". تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالأَوْزَاعِيُّ.

قَوْلُهُ: (نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) يَعْنِي فِي أَوَاخِرِ الزَّمَانِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِغَيْرِ بَابٍ وَأَثْبَتَهُ غَيْرُهُ.

وَذَكَرَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا حَدَيثُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَإِنَّمَا جَزَمْتُ بِذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِ أَبِي عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوْ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ لِتَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ يَعْتَمِدُهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا أَخْبَرَنَا وَلَا يَقُولُ حَدَّثَنَا وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ الْحَلِفُ فِي الْخَبَرِ مُبَالَغَةٌ فِي تَأْكِيدِهِ.

قَوْلُهُ: (لَيُوشِكَنَّ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ لَيَقْرَبَنَّ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ سَرِيعًا.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِبَعْضِ الْأُمَّةِ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ نُزُولَهُ.

قَوْلُهُ: (حَكَمًا) أَيْ حَاكِمًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْزِلُ حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ بَاقِيَةٌ لَا تُنْسَخُ، بَلْ يَكُونُ عِيسَى حَاكِمًا مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَكَمًا مُقْسِطًا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِمَامًا مُقْسِطًا وَالْمُقْسِطُ الْعَادِلُ بِخِلَافِ الْقَاسِطِ فَهُوَ الْجَائِرُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَقْرِئُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَيَمْكُثُ عِيسَى فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدِ عَلَى مِلَّتِهِ

قَوْلُهُ: (فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ) أَيْ يُبْطِلُ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ بِأَنْ يَكْسِرَ الصَّلِيبَ حَقِيقَةً وَيُبْطِلُ مَا تَزْعُمُهُ النَّصَارَى مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ وَتَحْرِيمُ أَكْلِهِ وَأَنَّهُ نَجِسٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ لَا يُشْرَعُ إِتْلَافُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ. وَوَقَعَ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَالْقِرْدَ. زَادَ فِيهِ الْقِرْدَ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْقِرْدَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ اتِّفَاقًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرَاتِ وَكَسْرُ آلَةِ الْبَاطِلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ.

قَوْلُهُ: (وَيَضَعُ الْحَرْبَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْجِزْيَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الدِّينَ يَصِيرُ وَاحِدًا فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَالَ يَكْثُرُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُمْكِنُ صَرْفُ مَالِ الْجِزْيَةِ لَهُ فَتُتْرَكُ الْجِزْيَةُ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ تَقْرِيرُهَا عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ، وَيَكُونُ كَثْرَةُ الْمَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

ص: 491

وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ عِيسَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَكُونُ الدَّعْوَى وَاحِدَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى وَضْعِ عِيسَى الْجِزْيَةَ مَعَ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِنُزُولِ عِيسَى لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ، وَلَيْسَ عِيسَى بِنَاسِخٍ لِحُكْمِ الْجِزْيَةِ بَلْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّسْخِ بِقَوْلِهِ هَذَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا قَبِلْنَاهَا قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى لِلْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ بِخِلَافِ زَمَنِ عِيسَى فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْمَالِ فَإِنَّ الْمَالَ فِي زَمَنِهِ يَكْثُرُ حَتَّى لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ قَبُولِهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ شُبْهَةِ الْكِتَابِ وَتَعَلُّقِهِمْ بِشَرْعٍ قَدِيمٍ بِزَعْمِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِحُصُولِ مُعَايَنَتِهِ فَيَصِيرُونَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي انْقِطَاعِ حُجَّتِهِمْ وَانْكِشَافِ أَمْرِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَتَهُمْ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.

هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا احْتِمَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَيَفِيضُ الْمَالُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَكْثُرُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ الْمَذْكُورةِ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ. وَسَبَبُ كَثْرَتِهِ نُزُولُ الْبَرَكَاتِ وَتَوَالِي الْخَيْرَاتِ بِسَبَبِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، وَحِينَئِذٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ كُنُوزَهَا وَتَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِي اقْتِنَاءِ الْمَالِ لِعِلْمِهِمْ بِقُرْبِ السَّاعَةِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) أَيْ أنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ، لَا بِالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ وَاحِدَةٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الْآيَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُنَاسَبَتِهَا لِقَوْلِهِ: حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ النَّاسِ وَشِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يُؤْثِرُونَ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عَلَى جَمِيعِ الدُّنْيَا. وَالسَّجْدَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ لِكَثْرَةِ الْمَالِ إِذْ ذَاكَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ. وقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَإِنْ) بِمَعْنَى مَا، أَيْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا نَزَلَ عِيسَى إِلَّا آمَنَ بِهِ، وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{قَبْلَ مَوْتِهِ} يَعُودُ عَلَى عِيسَى، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنَ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى: وَاللَّهِ إِنَّهُ الْآنَ لَحَيٌّ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمِنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا أُخَرَ وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ يَعُودُ لِلَّهِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ، وَفِي مَوْتِهِ يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ عَلَى عِيسَى.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ بَيْتٍ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ؟ قَالَ: لَا يَمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى وَفِي إِسْنَادِهِ خُصَيْفٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ هَذَا الْمَذْهَبَ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَيْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ إِلَّا آمَنَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ بِعِيسَى وَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْإِيمَانُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قَالَ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ

ص: 492

أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَخُصُّ الْكِتَابِيَّ الَّذِي يُدْرِكُ نُزُولَ عِيسَى، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ عُمُومُهُ فِي كُلِّ كِتَابِيٍّ فِي زَمَنِ نُزُولِ عِيسَى وَقَبْلَهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ عِيسَى دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ وَأَنَّهُ الَّذِي يَقْتُلُهُمْ، أَوْ نُزُولُهُ لِدُنُوِّ أَجَلِهِ لِيُدْفَنَ فِي الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ مِنَ التُّرَابِ أَنْ يَمُوتَ فِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَعَا اللَّهَ لَمَّا رَأَى صِفَةَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهُمْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَأَبْقَاهُ حَتَّى يَنْزِلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مُجَدِّدًا لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ، فَيُوَافِقُ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، فَيَقْتُلُهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُدَّةِ إِقَامَةِ عِيسَى بِالْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ أَنَّهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَرَوَى نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى إِذْ ذَاكَ يَتَزَوَّجُ فِي الْأَرْضِ وَيُقِيمُ بِهَا تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِإِسْنَادٍ فِيهِ مُبْهَمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُقِيمُ بِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُودُ مَعَ الْإِبِلِ وَتَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ - وَقَالَ فِي آخِرِهِ - ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ بْنَ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: يَنْزِلُ عِيسَى فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيُمْحِي الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلَاةُ وَيُعْطِي الْمَالَ حَتَّى لَا يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ، وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا، وَتَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} الْآيَةَ. قَالَ حَنْظَلَةُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَوْتِ عِيسَى عليه السلام قَبْلَ رَفْعِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} فَقِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ وَمَضَتِ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ لَهُ يَمُوتُ ثَانِيًا. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (مُتَوَفِّيكَ) مِنَ الْأَرْضِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَاخْتُلِفَ فِي عُمُرِهِ حِينَ رُفِعَ فَقِيلَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ) هُوَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَيَّاشٍ الْأَقْرَعُ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: هُوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنْ غِفَارٍ وَقِيلَ لَهُ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ لِمُلَازَمَتِهِ لَهُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ) سَقَطَ قَوْلُهُ: فِيكُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُقَيْلٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ) يَعْنِي تَابَعَا يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ عُقَيْلٍ فَوَصَلَهَا ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ مِثْلُ سِيَاقِ أَبِي ذَرٍّ سَوَاءٌ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ الْأَوْزَاعِيِّ فَوَصَلَهَا ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ مِثْلُ رِوَايَةِ يُونُسَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ وَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ، قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: إِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: أَتَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ بِلَفْظِ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى وَإِذَا هُمْ بِعِيسَى، فَيُقَالُ تَقَدَّمَ يَا رُوحَ اللَّهِ، فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ. وَلِابْنِ مَاجَهْ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الطَّوِيلِ فِي الدَّجَّالِ قَالَ: وَكُلُّهُمْ، أَيِ الْمُسْلِمُونَ، بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ قَدْ تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ، إِذْ نَزَلَ عِيسَى فَرَجَعَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى، فَيَقِفُ عِيسَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: تَقَدَّمْ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَسْعِيُّ الْأبِدِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ: تَوَاتَرَتِ

ص: 493

الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ عِيسَى يُصَلِّي خَلْفَهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ رَدًّا لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ وَفِيهِ: وَلَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ: حَدَّثَنَا الْجَوْزَقِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْقُرْآنِ لَا بِالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ مُتَّصِلَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ فِي كُلِّ قَرْنٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يُبَيِّنُ كَوْنَ عِيسَى إِذَا نَزَلَ يَكُونُ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عِيسَى إِمَامًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى يَؤُمُّكُمْ عِيسَى حَالَ كَوْنِهِ فِي دِينِكُمْ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنْ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَوْ تَقَدَّمَ عِيسَى إِمَامًا لَوَقَعَ فِي النَّفْسِ إِشْكَالٌ وَلَقِيلَ: أَتُرَاهُ تَقَدَّمَ نَائِبًا أَوْ مُبْتَدِئًا شَرْعًا، فَصَلَّى مَأْمُومًا لِئَلَّا يَتَدَنَّسَ بِغُبَارِ الشُّبْهَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ: لَا نَبِيَّ بَعْدِي. وَفِي صَلَاةِ عِيسَى خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ كَوْنِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ دَلَالَةٌ لِلصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو عَنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌50 - باب مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ

3450 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، لِحُذَيْفَةَ: أَلَا تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ فَمَاءٌ بَارِدٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ. فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ، فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ.

[الحديث 3450 - طرفه في: 7130]

3451 -

قَالَ حُذَيْفَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ قِيلَ لَهُ انْظُرْ قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ".

3452 -

فَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَاكَ وَكَانَ نَبَّاشًا".

[الحديث 3454 - طرفاه في: 3479، 6480]

3453، 3454 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ

ص: 494

خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

3455 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ الفزَّار، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ.

3456 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟.

[الحديث 4356 - طرفه في: 7320]

3457 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ.

3458 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ المصلي يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ.

3459 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَجَلُكُمْ، فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنْ الْأُمَمِ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ. وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ أَلَا فَأَنْتُمْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا لَكُمْ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً،

ص: 495

قَالَ اللَّهُ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ".

3460 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: "قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا". تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3461 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".

3462 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ".

[الحديث 3462 - طرفه في: 5899]

3463 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْرَائِيلُ لَقَبُ يَعْقُوبَ، أَيْ مِنَ الْأَعَاجِيبِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَانِهِمْ. ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلِبَعْضِهِمْ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ بَدَلَ مُوسَى وَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ مُسَدَّدٍ سَتَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ مَوْصُولَةً، وَرِوَايَةُ مُوسَى مُعَلَّقَةٌ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ اخْتَلَفَا فِيهَا عَلَى أَبِي عَوَانَةَ، وَكَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو) هُوَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَدْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءٌ) الْحَدِيثُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا إِيرَادُ مَا يَلِيهِ وَهُوَ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَقِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي أَوْصَى بَنِيهِ أَنْ يُحَرِّقُوهُ. فَأَمَّا قِصَّةُ الَّذِي كَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ فَقَدْ أَوْرَدَهَا أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ، أَيْ أُقَاضِيهِمْ، وَالْمُجَازَاةُ الْمُقَاضَاةُ، أَيْ آخُذُ مِنْهُمْ وَأُعْطِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأُجَازِفُهُمْ

ص: 496

بِالْجِيمِ وَالزَّايِ وَالْفَاءِ. وَفِي أُخْرَى بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ، وَكِلَاهُمَا تَصْحِيفٌ لَا يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قِصَّةُ الَّذِي أَوْصَى بَنِيهِ أَنْ يُحَرِّقُوهُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مُفْرَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَامْتُحِشَتْ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيِ احْتَرَقَتْ، وَلِبَعْضِهِمْ بِوَزْنِ احْتَرَقَتْ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَقَوْلُهُ:(ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا) أَيْ شَدِيدَ الرِّيحِ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَنَا سَمِعْتُهُ) يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ ذَاكَ، وَكَانَ نَبَّاشًا) ظَاهِرُهُ أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ أَبُو مَسْعُودٍ هُوَ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَقَطْ، لَكِنْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْجَمِيعَ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي الْفِتَنِ قِصَّةَ الَّذِي كَانَ يُبَايِعُ النَّاسَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَأَنَا سَمِعْتُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَدِيثِ الَّذِي أَوْصَى بَنِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ نَبَّاشًا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ زِيَادَةِ أَبِي مَسْعُودٍ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ كَانَ نَبَّاشًا، فَقَالَ لِوَلَدِهِ: أَحْرِقُونِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ نَبَّاشًا مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي مَسْعُودٍ مَعًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ بَيْنَمَا حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ جَالِسَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَنْبُشُ الْقُبُورَ فَذَكَرَهُ، وَعَرَفَ مِنْهَا وَجْهَ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.

الحديث الثاني.

قَوْلُهُ: (لَمَّا نُزِلَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحَتَيْنِ (بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي الْمَوْتَ أَوْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ فِي مُسْلِمٍ لِلْأَكْثَرِ بِالضَّمِّ، فِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ يَعْنِي الْمَنِيَّةَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي الصَّلَاةِ. وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذَمُّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي اتِّخَاذِهِمْ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الَّذِي فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ) بِقَافٍ وَزَايَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ فُرَاتُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ آخِرُهُ مُثَنَّاةٌ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ) أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَادٌ بَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ نَبِيًّا يُقِيمُ لهم أَمْرَهُمْ وَيُزِيلُ مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِمٍ بِأُمُورِهَا يَحْمِلُهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْحَسَنَةِ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) أَيْ فَيَفْعَلُ مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ.

قَوْلُهُ: (وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ) أَيْ بَعْدِي، وَقَوْلُهُ:(فَيَكْثُرُونَ) بِالْمُثَلَّثَةِ وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِكْبَارُ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فُوا) فِعْلُ أَمْرٍ بِالْوَفَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بُويِعَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ خَلِيفَةٍ فَبَيْعَةُ الْأَوَّلِ صَحِيحَةٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَبَيْعَةُ الثَّانِي بَاطِلَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: سَوَاءٌ عَقَدُوا لِلثَّانِي عَالِمِينَ بِعَقْدِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ كَانُوا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ. سَوَاءٌ كَانُوا فِي بَلَدِ الْإِمَامِ الْمُنْفَصِلِ أَمْ لَا. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: تَكُونُ لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَهُمَا قَوْلَانِ فَاسِدَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُكْمُ بَيْعَةِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَسَكَتَ عَنْ بَيْعَةِ الثَّانِي. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَرْفَجَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ: فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ) أَيْ أَطِيعُوهُمْ وَعَاشِرُوهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ بِكُمْ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) هُوَ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ أَمْرِ الدِّينِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَوْفِيَةِ حَقِّ السُّلْطَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ وَكَفِّ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ ; وَتَأْخِيرِ أَمْرِ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِ لَا يُسْقِطُهُ، وَقَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُخْلِصُهُ وَيُوَفِّيهِ إِيَّاهُ وَلَوْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

الْحَدِيثُ

ص: 497

الرَّابِعُ حَدَيثُ أَبِي سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (لَتَتَّبِعُنَّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ (سَنَنَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ طَرِيقَ (مَنْ قَبْلَكُمْ) أَيِ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.

قَوْلُهُ: (جُحْرَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ (ضَبٍّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ دُوَيْبَةٌ مَعْرُوفَةٌ يُقَالُ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الضَّبَّ يُقَالُ لَهُ قَاضِي الْبَهَائِمِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّخْصِيصَ إِنَّمَا وَقَعَ لِجُحْرِ الضَّبِّ لِشِدَّةِ ضِيقِهِ وَرَدَاءَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لِاقْتِفَائِهِمْ آثَارَهُمْ وَاتِّبَاعِهِمْ طَرَائِقَهُمْ لَوْ دَخَلُوا فِي مِثْلِ هَذَا الضَّيِّقِ الرَّدِيءِ لَتَبِعُوهُمْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ؟) هُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَيْسَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمْ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدَيثُ أَنَسٍ ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ تَامًّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.

تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدَيثُ عَائِشَةَ كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُصَلِّي يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ إِنَّهَا كَرِهَتْ الِاخْتِصَارَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، يَعْنِي وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي، أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا. الْحَدِيثَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.

تَابَعَهُ جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدَيثُ عُمَرَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَامًّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي أَوَاخِرِهِ مَعَ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي تَحْرِيمِ شُحُومِ الْمَيْتَةِ دُونَ الْقِصَّةِ، فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) قَالَ الْمُعَافَى النَّهْرَوَانِيُّ فِي كِتَابِ الْجَلِيسِ لَهُ: الْآيَةُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الْعَلَامَةُ الْفَاصِلَةُ، وَالْأُعْجُوبَةُ الْحَاصِلَةُ، وَالْبَلِيَّةُ النَّازِلَةُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} وَمِنَ الثَّانِي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} وَمِنَ الثَّالِثِ: جَعَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا الْيَوْمَ آيَةً. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهَا آيَةٌ لِدَلَالَتِهَا وَفَصْلِهَا وَإِبَانَتِهَا. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ آيَةً أَيْ وَاحِدَةً لِيُسَارِعَ كُلُّ سَامِعٍ إِلَى تَبْلِيغِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْآيِ وَلَوْ قَلَّ لِيَتَّصِلَ بِذَلِكَ نَقْلُ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم. اهـ كَلَامُهُ.

قَوْلُهُ: (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) أَيْ لَا ضِيقَ عَلَيْكُمْ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الزَّجْرُ عَنِ الْأَخْذِ عَنْهُمْ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ، ثُمَّ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِي ذَلِكَ، وَكَأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ لَمَّا زَالَ الْمَحْذُورُ وَقَعَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَانِهِمْ مِنْ الِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَا حَرَجَ: لَا تَضِيقُ صُدُورُكُمْ بِمَا تَسْمَعُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعَاجِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ كَثِيرًا، وَقِيلَ: لَا حَرَجَ فِي أَنَّ لَا تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا: حَدِّثُوا صِيغَةُ أَمْرٍ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَأَشَارَ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا حَرَجَ أَيْ فِي تَرْكِ التَّحْدِيثِ عَنْهُمْ. قِيلَ: الْمُرَادُ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ حَاكِي ذَلِكَ لِمَا فِي أَخْبَارِهِمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّنِيعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمِ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا. وَقَوْلُهُمْ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْلَادُ إِسْرَائِيلَ نَفْسِهِ وَهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَالْمُرَادُ حَدِّثُوا عَنْهُمْ بِقِصَّتِهِمْ مَعَ أَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْأَوْجُهِ.

وَقَالَ مَالِكٌ الْمُرَادُ جَوَازُ التَّحَدُّثِ

ص: 498

عَنْهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ حَسَنٍ، أَمَّا مَا عُلِمَ كَذِبُهُ فَلَا. وَقِيلَ الْمَعْنَى حَدِّثُوا عَنْهُمْ بِمِثْلِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ جَوَازُ التَّحَدُّثِ عَنْهُمْ بِأَيِّ صُورَةٍ وَقَعَتْ مِنَ انْقِطَاعٍ أَوْ بَلَاغٍ لِتَعَذُّرِ الِاتِّصَالِ فِي التَّحَدُّثِ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي التَّحَدُّثِ بِهَا الِاتِّصَالُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ لِقُرْبِ الْعَهْدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُجِيزُ التَّحَدُّثَ بِالْكَذِبِ، فَالْمَعْنَى حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا تَعْلَمُونَ كَذِبَهُ، وَأَمَّا مَا تُجَوِّزُونَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي التَّحَدُّثِ بِهِ عَنْهُمْ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ. وَلَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ وَلَا الْمَنْعُ مِنَ التَّحَدُّثِ بِمَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَذَكَرْتُ عَدَدَ مَنْ رَوَاهُ وَصِفَةَ مَخَارِجِهِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَغْلِيظِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، حَتَّى بَالَغَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فَحَكَمَ بِكُفْرِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَكَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ يَمِيلُ إِلَيْهِ. وَجَهِلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَزَهِّدَةِ: إِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْوِيَةِ أَمْرِ الدِّينِ وَطَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْوَعِيدَ وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ لَا فِي الْكَذِبِ لَهُ، وَهُوَ اعْتِلَالٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعِيدِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْكَذِبَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَالدِّينُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَامِلٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْوِيَتِهِ بِالْكَذِبِ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ) يَقْتَضِي مَشْرُوعِيَّةُ الصَّبْغِ، وَالْمُرَادُ بِهِ صَبْغُ شَيْبِ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ إِزَالَةِ الشَّيْبِ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ لَا يَقْتَضِي الْإِزَالَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ السَّوَادِ، لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: غَيِّرُوهُ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُخَضِّبُونَ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ. وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَرْجِيحِ وَقْفِهِ فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَلِهَذَا اخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الصَّبْغَ بِالسَّوَادِ يُكْرَهُ كَرَاهِيَةَ تَحْرِيمٍ. وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الْكَرَاهَةَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لِأَجْلِ زَوْجِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ وَاسِعٌ، وَالصَّبْغُ بِغَيْرِ السَّوَادِ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمُجَاهِدُ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالصَّبْغِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَبْغَ الثِّيَابِ وَلَا خَضْبَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالْحِنَّاءِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ لِلرَّجُلِ وَبِتَحْرِيمِ خَضْبِ الرِّجَالِ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ إِلَّا لِلتَّدَاوِي، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مَعْمَرٍ، نَسَبَهُ ابْنُ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَقِيلَ هُوَ الذُّهْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ. وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ.، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) هُوَ مَسْجِدُ الْبَصْرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَحَقُّقِهِ لِمَا حَدَّثَ بِهِ وَقُرْبِ عَهْدِهِ بِهِ وَاسْتِمْرَارِ ذِكْرِهِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ، وَأَنَّ الْكَذِبَ مَأْمُونٌ مِنْ قِبَلِهِمْ وَلَا سِيَّمَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (بِهِ جُرْحٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ: بِهِ جِرَاحٌ وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إنَّ رَجُلًا خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: حَبَّةٌ تَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ بِهِ جُرْحٌ ثُمَّ صَارَ قَرْحَةً.

قَوْلُهُ: (فَجَزِعَ) أَيْ فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَلَمِ تِلْكَ الْقَرْحَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ) السِّكِّينُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقَوْلُهُ: حَزَّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ الْقَطْعُ

ص: 499

بِغَيْرِ إِبَانَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا وَهُوَ بِالنُّونِ وَالْهَمْزِ، أَيْ: نَخَسَ مَوْضِعَ الْجُرْحِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ فَجَّرَ الْجُرْحَ بِذُبَابَةِ السَّهْمِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ فَحَزَّ مَوْضِعَهُ بِالسِّكِّينِ، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُرْحَ كَانَ فِي يَدِهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَا رَقَأَ الدَّمُ) بِالْقَافِ وَالْهَمْزِ، أَيْ: لَمْ يَنْقَطِعْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ عز وجل: بَادَرَنِي عَبْدِي نفسه) هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْمَذْكُورِ الْمَوْتَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.

وقَوْلُهُ: حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ جَارٍ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ بِتَعَاطِي سَبَبِهِ مِنْ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ فَجَعَلَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارًا عَصَى اللَّهَ بِهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعَاقِبَهُ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَزَّهَا لِإِرَادَةِ الْمَوْتِ لَا لِقَصْدِ الْمُدَاوَاةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الِانْتِفَاعُ بِهَا. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ: بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ: حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْ قُتِلَ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ أَجَلِهِ لِمَا يُوهِمُهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَاشَ، لَكِنَّهُ بَادَرَ فَتَقَدَّمَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي تَخْلِيدَ الْمُوَحِّدِ فِي النَّارِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبِ فِي ذَلِكَ وَالْقَصْدِ لَهُ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةَ لِوُجُودِ صُورَتِهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمُعَاقَبَةَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى انْقِضَاءِ أَجَلِهِ فَاخْتَارَ هُوَ قَتْلَ نَفْسِهِ فَاسْتَحَقَّ الْمُعَاقَبَةَ لِعِصْيَانِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: قَضَاءُ اللَّهِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ، فَالْمُطْلَقُ يَمْضِي عَلَى الْوَجْهِ بِلَا صَارِفٍ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَدَّرَ لِوَاحِدٍ أَنَّ يَعِيشَ عِشْرِينَ سَنَةً إِنْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَثَلَاثِينَ سَنَةً إِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْلَمُ بِهِ الْمَخْلُوقُ كَمَلَكِ الْمَوْتِ مَثَلًا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا عَلِمَهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ وَالْعَبْدُ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الْخِصَالِ يَفْعَلُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَصَارَ كَافِرًا.

ثَانِيهَا: كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ وَعُوقِبَ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَا كَالْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ السَّابِقُونَ أَوِ الْوَقْتِ الَّذِي يُعَذَّبُ فِيهِ الْمُوَحِّدُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ.

رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ جَنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَالْفِرْدَوْسِ مَثَلًا.

خَامِسُهَا: أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ في سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْوِيفِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ.

سَادِسُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ إِنْ شِئْتَ اسْتِمْرَارَ ذَلِكَ.

سَابِعُهَا: قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْعُ مَنْ مَضَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَكْفُرُونَ بِفِعْلِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ سَوَاءٌ كَانَتْ نَفْسَ الْقَاتِلِ أَمْ غَيْرِهِ، وَقَتْلُ الْغَيْرِ يُؤْخَذُ تَحْرِيمُهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَفِيهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُقُوقِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ حَيْثُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ قَتْلَ نُفُوسِهِمْ وَأَنَّ الْأَنْفُسَ مِلْكُ اللَّهِ. وَفِيهِ التَّحْدِيثُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَفَضِيلَةُ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَتَرْكُ التَّضَجُّرِ مِنَ الْآلَامِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى أَشَدَّ مِنْهَا. وَفِيهِ تَحْرِيمُ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ السِّرَايَةِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْقَتْلِ. وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّحْدِيثِ وَكَيْفِيَّةُ الضَّبْطِ لَهُ وَالتَّحَفُّظُ فِيهِ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى ضَبْطِ الْمُحَدِّثِ وَتَوْثِيقِهِ لِمَنْ حَدَّثَهُ لِيَرْكَنَ السَّامِعُ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌51 - باب حَدِيث أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ

3464 -

حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. ح.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ،

ص: 500

أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عز وجل أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ، أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ، إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ هَذَا عني قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ.

فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الإبل، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الغَنَم، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِه فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ به فِي سَفَرِي. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ به الْحِبَالُ فِي سَفَرِه فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي. وقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ.

[الحديث 3464 - طرفه في: 6653]

قَوْلُهُ: (حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى) هَكَذَا تَرْجَمَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ السَّرْمَارِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَبَعْدَهَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ نِسْبَةٌ إِلَى سَرْمَارَةَ مِنْ قُرَى بُخَارَى، الزَّاهِدُ الْمُجَاهِدُ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

قَوْلُهُ فِي السَّنَدِ الثَّانِي: (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ) يُقَالُ: إِنْ مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ الذُّهْلِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ فِي اللُّقَطَةِ وَعِدَّةِ مَوَاضِعَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، لَكِنْ جَزَمَ أَبُو ذَرٍّ بِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ عَنْ مُحَمَّدٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، وَجَوَّزَ أَنَّهُ الذُّهْلِيُّ، وَسَاقَهُ عَنِ الْجَوْزَقِيِّ،

ص: 501

عَنْ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدَانَ، عَنِ الذُّهْلِيِّ بِطُولِهِ، وَكَذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَيْنِ السَّنَدَيْنِ سَوَاءٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، لِإِسْحَاقَ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ سِوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ صَرَّحَ بِهِ شَيْبَانُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (بَدَا لِلَّهِ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، أَيْ: سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَأَرَادَ إِظْهَارَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَافِيًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ هَمَّامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَلَعَلَّ التَّغْيِيرَ فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ، مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَظَرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا، وَالْمَعْنَى أَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَرَادَ قَضَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ ضَبَطْنَاهُ عَلَى مُتْقِنِي شُيُوخِنَا بِالْهَمْزِ، أَيِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، قَالَ: رَوَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الشُّيُوخِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، انْتَهَى. وَسَبَقَ إِلَى التَّخْطِئَةِ أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ مُوَجَّهٌ كَمَا تَرَى، وَأَوْلَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، وَأَمَّا الْبَدْءُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ تَغَيُّرُ الْأَمْرِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا.

قَوْلُهُ: (قَذِرَنِي النَّاسُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ اشْمَأَزُّوا مِنْ رُؤْيَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ قَذِرُونِي النَّاسُ وَهِيَ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ.

قَوْلُهُ: (فَمَسَحَهُ) أَيْ مَسَحَ عَلَى جِسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ وَأَيُّ الْمَالِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْوَاوِ.

قَوْلُهُ: (الْإِبِلُ، أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ، هُوَ شَكٌّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ هَمَّامٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الَّذِي شَكَّ فِي ذَلِكَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ) أَيِ الَّذِي تَمَنَّى الْإِبِلَ، وَالْعُشَرَاءُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَعَ الْمَدِّ هِيَ الْحَامِلُ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ طَرَقَهَا الْفَحْلُ، وَقِيلَ: يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَلِدَ وَبَعْدَمَا تَضَعُ، وَهِيَ مِنْ أَنْفَسِ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا) كَذَا وَقَعَ يُبَارَكُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ بَارَكَ اللَّهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِبْرَازِ الْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (فَمَسَحَهُ) أَيْ مَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ.

قَوْلُهُ: (شَاةً وَالِدًا) أَيْ ذَاتَ وَلَدٍ وَيُقَالُ حَامِلٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْتَجَ هَذَانِ) أَيْ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ (وَوَلَّدَ هَذَا) أَيْ صَاحِبُ الشَّاةِ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَأَنْتَجَ فِي مِثْلِ هَذَا شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ نُتِجَتِ النَّاقَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَنَتَجَ الرَّجُلُ النَّاقَةَ أَيْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْفَحْلَ، وَقَدْ سُمِعَ أَنْتَجَتِ الْفَرَسُ إِذَا وَلَدَتْ فَهِيَ نَتُوجٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ) أَيْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَبْرَصُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ مِسْكِينٌ) زَادَ شَيْبَانُ وَابْنُ سَبِيلٍ (تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبَالُ فِي سَفَرِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي وَالْحِبَالُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ جَمْعُ حَبْلٍ، أَيِ الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْطَعُهَا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَقِيلَ الْعَقَبَاتُ، وَقِيلَ الْحَبْلُ هُوَ الْمُسْتَطِيلُ مِنَ الرَّمْلِ. وَلِبَعْضِ روَاه مُسْلِمٍ الْحِيَالُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ حِيلَةٍ، أَيْ لَمْ يَبْقَ لِي حِيلَةٌ، وَلِبَعْضِ روَاه الْبُخَارِيِّ الْجِبَالُ وبِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُ الْمَلَكِ لَهُ رَجُلٌ مِسْكِينٌ إِلَخْ أَرَادَ أَنَّكَ كُنْتَ هَكَذَا، وَهُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ وَالْمُرَادُ بِهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِيَتَيَقَّظَ الْمُخَاطَبُ.

قَوْلُهُ: (أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَتَبَلَّغُ بِهِ وَأَتَبَلَّغُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْبُلْغَةِ، وَهِيَ الْكِفَايَةُ، وَالْمَعْنَى: أَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مُرَادِي.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، أَيْ كَبِيرٍ عَنْ كَبِيرٍ فِي الْعِزِّ وَالشَّرَفِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ

ص: 502

كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ) أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَخُذْ مَا شِئْتَ) زَادَ شَيْبَانُ وَدَعْ مَا شِئْتَ.

قَوْلُهُ: (لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ إِنَّ رُوَاةَ الْبُخَارِيِّ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَالْمَعْنَى لَا أَحْمَدُكَ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَيْسَ عَلَى طُولِ الْحَيَاةِ تَنَدُّمٌ

أَيْ فَوْتُ طُولِ الْحَيَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَكْثَرِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ لَا أُجْهِدُكَ بِالْجِيمِ وَالْهَاءِ، أَيْ لَا أَشُقُّ عَلَيْكَ فِي رَدِّ شَيْءٍ تَطْلُبُهُ مِنِّي أَوْ تَأْخُذُهُ، قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَتَّضِحْ هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ: لَعَلَّهُ لَا أَحُدُّكَ بِمُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ بِغَيْرِ مِيمٍ، أَيْ لَا أَمْنَعُكَ، قَالَ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُحَمِّدُكَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ الْحَمْدَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَتَحَمَّدُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ يَمْتَنُّ عَلَيْهِ، أَيْ لَا أَمْتَنُّ عَلَيْكَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ) أَيِ امْتُحِنْتُمْ.

قَوْلُهُ: (فَقَدْ رَضِيَ عَنْكَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فِي رَضِيَ وَسَخِطَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا مُحَصَّلُهُ: كَانَ مِزَاجُ الْأَعْمَى أَصَحُّ مِنْ مِزَاجِ رَفِيقَيْهِ، لِأَنَّ الْبَرَصَ مَرَضٌ يَحْصُلُ مِنْ فَسَادِ الْمِزَاجِ وَخَلَلِ الطَّبِيعَةِ وَكَذَلِكَ الْقَرَعُ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ، فَلِهَذَا حَسُنَتْ طِبَاعُ الْأَعْمَى وَسَاءَتْ طِبَاعُ الْآخَرَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ ذِكْرِ مَا اتَّفَقَ لِمَنْ مَضَى لِيَتَّعِظَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غِيبَةً فِيهِمْ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَرْكِ تَسْمِيَتِهِمْ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِمَا اتَّفَقَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمْ وَقَعَ كَمَا قَالَ الْمَلَكُ. وَفِيهِ التَّحْذِيرُ مِنْ كُفْرَانِ النِّعَمِ وَالتَّرْغِيبُ فِي شُكْرِهَا وَالِاعْتِرَافُ بِهَا وَحَمْدُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ فَضْلُ الصَّدَقَةِ وَالْحَثُّ عَلَى الرِّفْقِ بِالضُّعَفَاءِ، وَإِكْرَامُهُمْ وَتَبْلِيغُهُمْ مَآرِبَهُمْ، وَفِيهِ الزَّجْرُ عَنِ الْبُخْلِ، لِأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبَهُ عَلَى الْكَذِبِ، وَعَلَى جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

‌52 - بَاب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}

الْكَهْفُ: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ: الْكِتَابُ، {مَرْقُومٌ} مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا، {شَطَطًا} إِفْرَاطًا، الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ، {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ، آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ، {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ، {أَزْكَى} أَكْثَرُ رَيْعًا، فَضَرَبَ اللَّهُ {عَلَى آذَانِهِمْ} فَنَامُوا، {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ.

قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُمَا إِلَى آخِرِ التَّرْجَمَةِ، وَلِغَيْرِهِ فِي أَوَّلِهِ بَابُ وَلَمْ يُورِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا تَفَاسِيرَ مِمَّا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَسَقَطَ كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ.

قَوْلُهُ: (الْكَهْفُ الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ) هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَكَانِ الْكَهْفِ فَالَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِالْقُرْبِ مِنْ أَيْلَةَ، وَقِيلَ: بِالْقُرْبِ مِنْ طَرْسُوسَ، وَقِيلَ: بَيْنَ أَيْلَةَ وَفِلِسْطِينَ، وَقِيلَ: بِقُرْبِ زَيْزَاءَ، وَقِيلَ: بِغِرْنَاطَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَعْوَانُ الْمَهْدِيِّ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا بَلْ هُمْ فِي الْمَنَامِ

ص: 503

إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا لِإِعَانَةِ الْمَهْدِيِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِسَنَدٍ وَاهٍ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّقِيمُ الْكِتَابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، وَقَوْلُهُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَهُ تَفْسِير قَوْلِهِ:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} وَوَرَاءُ ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّقِيمُ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: هُوَ اسْمُ الْقَرْيَةِ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الرَّقِيمَ اسْمُ الْكَلْبِ، وَقِيلَ: الرَّقِيمُ هُوَ الْغَارُ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي حَدِيثِ الْغَارِ، وَقِيلَ: الرَّقِيمُ الصَّخْرَةُ الَّتِي أَطْبَقَتْ عَلَى الْوَادِي، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّقِيمَ لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَتْ فِيهِ أَسْمَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لَمَّا تَوَجَّهُوا عَنْ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ تَوَجَّهُوا، وَسَأُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا مُخْتَصَرًا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِي الرَّقِيمِ شَرْعُهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الرَّقِيمُ الدَّوَاةُ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ هُمْ أَصْحَابُ الرَّقِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ: أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (شَطَطًا: إِفْرَاطًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أَيْ جَوْرًا وَغُلُوًّا، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا يَا لَقَوْمِي قَدْ أَشَطَّتْ عَوَاذِلِي

وَيَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّي بَاطِلِي

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {شَطَطًا} قَالَ: كَذِبًا.

قَوْلُهُ: (الْوَصِيدُ الْفِنَاءُ) هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ، {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ آصَدُ الْبَابَ وَأُوصِدُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أَيْ عَلَى الْبَابِ وَبِفِنَاءِ الْبَابِ ; لِأَنَّ الْبَابَ يُؤْصَدُ، أَيْ يُغْلَقُ، وَالْجَمْعُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَقَالُوا الْوَصِيدُ عَتَبَةُ الْبَابِ أَيْضًا تَقُولُ: أَوْصِدْ بَابَكَ وَآصِدْهُ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ يَقُولُونَ الْوَصِيدُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ الْأَصِيدُ.

قَوْلُهُ: {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: نَارٌ مُؤْصَدَةٌ أَيْ مُطْبَقَةٌ تَقُولُ: أَوْصَدْتُ وَآصَدْتُ أَيْ أَطْبَقْتُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ اسْتِطْرَادًا.

قَوْلُهُ: {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: {أَزْكَى} أَكْثَرُ رِيعًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أَيْ أَكْثَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

قَبَائِلُنَا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ

وَلَلسَّبْعُ أَزْكَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَطْيَبُ

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَزْكَى طَعَامًا} قَالَ: خَيْرٌ طَعَامًا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَلَّ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَنَامُوا) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقِيلَ مَعْنَى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ، أَيْ سَدَّدْنَا عَنْ نُفُوذِ الْأَصْوَاتِ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ لَمْ يَسْتَبِنْ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: رَجْمًا بِالْغَيْبِ قَالَ: قَذْفًا بِالظَّنِّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: رَجْمًا بِالْغَيْبِ قَالَ: الرَّجْمُ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْهُ مِنَ الظَّنِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ

وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ

ص: 504

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَقْرِضُهُمْ تَتْرُكُهُمْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مُطَوَّلَةً غَيْرَ مَرْفُوعَةٍ، وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ الصَّائِفَةَ فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُمْ، فَمَنَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَصَمَّمَ وَبَعَثَ نَاسًا، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ، قَالَ: فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْهَا فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَأَخَذَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، فَجَاءَ أَهَالِيهِمْ يَطْلُبُونَهُمْ فَفَقَدُوهُمْ، فَأَخْبَرُوا الْمَلِكَ فَأَمَرَ بِكِتَابَةِ أَسْمَائِهِمْ فِي لَوْحٍ مِنْ رَصَاصٍ وَجَعَلَهُ فِي خِزَانَتِهِ، فَدَخَلَ الْفِتْيَةُ الْكَهْفَ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَنَامُوا. فَأَرْسَلَ اللَّهُ مَنْ يُقَلِّبُهُمْ وَحَوَّلَ الشَّمْسَ عَنْهُمْ فَلَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ.

ثُمَّ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَجَاءَ آخَرُ فَكَسَّرَ الْأَوْثَانَ وَعَبَدَ اللَّهَ وَعَدَلَ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ فَأَرْسَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَأْتِيهِمْ بِمَا يَأْكُلُونَ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ مُسْتَخْفِيًا فَرَأَى هَيْئَةً وَنَاسًا أَنْكَرَهُمْ لِطُولِ الْمُدَّةِ، فَدَفَعَ دِرْهَمًا إِلَى خَبَّازٍ فَاسْتَنْكَرَ ضَرْبَهُ وَهَمَّ بِأَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ أَتُخَوِّفُنِي بِالْمَلِكِ وَأَبِي دِهْقَانُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عَلَيَّ بِاللَّوْحِ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ بِهِ فَسَمَّى أَصْحَابَهُ فَعَرَفَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ، فَكَبَّرَ النَّاسُ وَانْطَلَقُوا إِلَى الْكَهْفِ وَسَبَقَ الْفَتَى لِئَلَّا يَخَافُوا مِنَ الْجَيْشِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّى اللَّهُ عَلَى الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ الْمَكَانَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يذَهَب الْفَتَى، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا فَجَعَلُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ.

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: كَانَ لِي صَاحِبٌ قَوِيُّ النَّفْسِ، فَمَرَّ بِالْكَهْفِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَنُهِيَ، فَأَبَى فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ وَتَغَيَّرَ شَعْرُهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ السَّبَبَ فِيمَا جَرَى لَهُمْ أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا هَلْ يَبْعَثُ اللَّهُ الرُّوحَ وَالْجَسَدَ أَوِ الرُّوحَ فَقَطْ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ فَنَامُوا الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ ثُمَّ بَعَثَهُمْ فَعَرَفُوا أَنَّ الْجَسَدَ يُبْعَثُ كَمَا تُبْعَثُ الرُّوحُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْمَلِكِ الْأَوَّلِ دِقْيَانُوسَ وَاسْمُ الْفِتْيَةِ: مَكْسِلِمْيَنَا، وَمَخْشِلِيشَا، وَتَمْلِيخَا، وَمَرْطُونَسُ، وَكَنْشُطُونَسُ، وَبِيرُونَسُ، وَدِينَمُوسُ، وَفِي النُّطْقِ بِهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، وَلَا يَقَعُ الْوُثُوقُ مِنْ ضَبْطِهَا بِشَيْءٍ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ اسْمَ كَلْبِهِمْ قَطْمِيرُوا، وَعَنِ الْحَسَنِ قَطْمِيرُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا لَوْنُهُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أَصْفَرَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ دَرَاهِمَهُمْ كَانَتْ كَخِفَافِ الْإِبِلِ، وَأَنَّ تَمْلِيخَا هُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولَهُمْ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ. وَقَدْ سَاقَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّتَهُمْ فِي الْمُبْتَدأ مُطَوَّلَةً، وَأَفَادَ أَنَّ اسْمَ الْمَلِكِ الصَّالِحِ الَّذِي عَاشُوا فِي زَمَنِهِ بتدرسيس وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ الْكَلْبَ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ كَلْبَ حَرْثٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ كَانَ الْكَلْبُ لِكَبِيرِهِمْ وَكَانَ كَلْبَ غَنَمٍ، وَقِيلَ: كَانَ إِنْسَانًا طَبَّاخًا تَبِعَهُمْ وَلَيْسَ بِكَلْبٍ حَقِيقَةً، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ.

‌53 - بَاب حَدِيثُ الْغَارِ

3465 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ

ص: 505

فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ؛ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا؛ فَانْسَاختْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ؛ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً، فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا، وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ، وكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاختْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ؛ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ

كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ الدينار، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ:

قَوْلُهُ: (حَدِيثُ الْغَارِ) عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِحَدِيثِ الْغَارِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الرَّقِيمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} هُوَ الْغَارُ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الثَّلَاثَةَ مَا أَصَابَهُمْ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الرَّقِيمَ قَالَ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةٌ فَكَانُوا فِي كَهْفٍ، فَوَقَعَ الْجَبَلُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ فَأُوصِدَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (يَمْشُونَ) فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَرْتَادُونَ لِأَهْلِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ) يَجُوزُ قَصْرُ أَلِفِ أَوَوْا وَمَدُّهَا. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ: فَدَخَلُوا غَارًا فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ حَجَرٌ مُتَجَافٍ حَتَّى مَا يَرَوْنَ مِنْهُ خُصَاصَةً وَفِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ: حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ كَذَا لِلْمُصَنِّفِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: حَتَّى أَوَاهُمُ الْمَبِيتُ وَهُوَ أَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمَبِيتُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ دُخُولَ الْغَارِ مِنْ فِعْلِهِمْ فَحَسُنَ أَنْ يُنْسَبَ الْإِيوَاءُ إِلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ) أَيْ بَابُ الْغَارِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْمُزَارَعَةِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ وَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ بِلَفْظِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ وَالتَّقْدِيرُ نَفْسُهَا أَوِ الْمَنْفَذُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ

ص: 506

عَلَيْهِمُ الْغَارَ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِذْ وَقَعَ حَجَرٌ مِنَ الْجَبَلِ مِمَّا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى سَدَّ فَمَ الْغَارِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورَةِ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَالِصَةً ادْعُوا اللَّهَ بِهَا وَمِنْ طَرِيقِهِ فِي الْبُيُوعِ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ جَمِيعًا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَفَا الْأَثَرُ وَوَقَعَ الْحَجَرُ وَلَا يَعْلَمُ بِمَكَانِكُمْ إِلَّا اللَّهُ، ادْعُوا اللَّهَ بِأَوْثَقِ أَعْمَالِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ تَفَكَّرُوا فِي أَحْسَنِ أَعْمَالِكُمْ فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجْ عَنْكُمْ. وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا شَيْئًا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ بِخَيْرِ عَمَلٍ عَمِلَهُ قَطُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ لَمْ يُذْكَرِ الْقَائِلُ، وَلِلْبَاقِينَ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ هَلْ لَهُ اعْتِبَارٌ عِنْدَ اللَّهِ أَمْ لَا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ عَمَلِي ذَلِكَ مَقْبُولًا فَأَجِبْ دُعَائِي، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ عَلَى بَابِهَا فِي النِّدَاءِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ الْجَوَابُ كَمَنْ يَسْأَلُ آخَرَ عَنْ شَيْءٍ كَأَنْ يَقُولَ: رَأَيْتَ زَيْدًا؟ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَقَدْ تَرِدُ أَيْضًا لِنُدْرَةِ الْمُسْتَثْنَى، كَأَنْ يَقُولَ شَيْئًا ثُمَّ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ كَانَ كَذَا.

قَوْلُهُ: (عَلَى فَرَقٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ وَقَدْ تُسَكَّنُ الرَّاءُ. وَهُوَ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصُعٍ لقوله: (مِنْ أُرْزٍ) فِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ: فَتْحُ الْأَلِفِ وَضَمُّهَا مَعَ ضَمِّ الرَّاءِ، وَبِضَمِّ الْأَلِفِ مَعَ سُكُونِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّهُ فَرَقُ ذُرَةٍ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ بِفَرَقِ ذُرَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِفَرَقِ أُرْزٍ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوُهُ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ: اسْتَأْجَرْتُ قَوْمًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَمِلْتُ عَمَلَ اثْنَيْنِ، وَاللَّهِ لَا آخُذُ إِلَّا دِرْهَمًا، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، فَبَذَرْتُ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ دِرْهَمٍ إِلَخْ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْفَرَقَ الْمَذْكُورَ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ وَفِي رِوَايَتِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ: فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَرَغِبَ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَعَمِلَ لِي نِصْفَ النَّهَارِ فَأَعْطَيْتُهُ أَجْرًا فَسَخِطَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بَيَانُ السَّبَبِ فِي تَرْكِ الرَّجُلِ أُجْرَتَهُ، وَلَفْظُهُ: كَانَ لِي أُجَرَاءُ يَعْمَلُونَ فَجَاءَنِي عُمَّالٌ فَاسْتَأْجَرْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ فَاسْتَأْجَرْتُهُ بِشَرْطِ أَصْحَابِهِ فَعَمِلَ فِي نِصْفِ نَهَارِهِ كَمَا عَمِلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِي نَهَارِهِ كُلِّهِ فَرَأَيْتُ عَلَيَّ فِي الذِّمَامِ أَنْ لَا أَنْقُصَهُ مِمَّا اسْتَأْجَرْتُ بِهِ أَصْحَابَهُ لِمَا جَهِدَ فِي عَمَلِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: تُعْطِي هَذَا مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَنِي، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَمْ أَبْخَسْكَ شَيْئًا مِنْ شَرْطِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالِي أَحْكُمُ فِيهِ بِمَا شِئْتُ، قَالَ: فَغَضِبَ وَذَهَبَ وَتَرَكَ أَجْرَهُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَأَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ وَأَنَا غَضْبَانُ فَزَبَرْتُهُ فَانْطَلَقَ وَتَرَكَ أَجْرَهُ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا حَسَدَ الَّذِي عَمِلَ نِصْفَ النَّهَارِ وَعَاتَبَ الْمُسْتَأْجِرَ غَضِبَ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ: لَمْ أَبْخَسْكَ شَيْئًا إِلَخْ وَزَبَرَهُ فَغَضِبَ الْأَجِيرُ وَذَهَبَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَتَرَكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَجْرَهُ وَزَعَمَ أَنَّ أَجْرَهُ أَكْثَرُ مِنْ أُجُورِ أَصْحَابِهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنِ اشْتَرَيْتُ (مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي

ص: 507

يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ: اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا) وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا وَفِيهِ فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ فَقُلْتُ: لَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فَأَخَذَهَا وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، وَفِيهِ: فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ مِنْ أَجْرِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْ أَجْلِكَ، وَفِيهِ: فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، وَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ اشْتَرَيْتُ بَقَرًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لأكثر الْأَغْلَبُ الْبَقَرُ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا فَجَمَعْتُهُ وَثَمَّرَتُهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ كُلُّ الْمَالِ وَقَالَ فِيهِ: فَأَعْطَيْتُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَمْ أُعْطِهِ إِلَّا الْأَجْرَ الْأَوَّلَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَبَذَرْتُهُ عَلَى حِدَةٍ فَأَضْعَفَ، ثُمَّ بَذَرْتُهُ فَأَضْعَفَ، حَتَّى كَثُرَ الطَّعَامُ، وَفِيهِ: فَقَالَ أَتَظْلِمُنِي وَتَسْخَرُ بِي، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ثُمَّ مَرَّتْ بِي بَقَرٌ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهَا فَصِيلَةً فَبَلَغَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ زَرَعَ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ بَعْضِهِ بَقَرَةً ثُمَّ نُتِجَتْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ) وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: مِنْ مَخَافَتِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ: رَجَاءَ رَحْمَتِكَ وَمَخَافَةَ عَذَابِكَ.

قَوْلُهُ: (فَفَرِّجْ عَنَّا) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَافْرُجْ بِوَصْلٍ وَضَمِّ الرَّاءِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِهَمْزَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ: فَأَفْرِجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ فَفُرِّجَ عَنْهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ: فَفَرَّجَ اللَّهُ فَرَأَوُا السَّمَاءَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَفَرَّجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.

قَوْلُهُ: (فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ) أَيِ انْشَقَّتْ، وَأَنْكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ لِأَنَّ مَعْنَى انْسَاخَ بِالْمُعْجَمَةِ غَابَ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ انْصَاخَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ، أَيِ انْشَقَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، قَالَ: وَالصَّوَابُ انْسَاحَتْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيِ اتَّسَعَتْ، وَمِنْهُ: سَاحَةُ الدَّارِ، قَالَ: وَانْصَاحَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ أَيْ تَصَدَّعَ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْبَرْقِ. قُلْتُ: الرِّوَايَةُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى انْشَقَّتْ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ بِالصَّادِ فَالصَّادُ قَدْ تُقْلَبُ سِينًا وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَالصَّخْرِ وَالسَّخْرِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَالِمٍ: فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: فَانْصَدَعَ الْجَبَلُ حَتَّى رَأَوُا الضَّوْءَ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: فَانْصَدَعَ الْجَبَلُ حَتَّى طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ: فَزَالَ ثُلُثُ الْحَجَرِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِحَذْفِ أَنَّهُ.

قَوْلُهُ: (أَبَوَانِ) هُوَ مِنَ التَّغْلِيبِ وَالْمُرَادُ الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَصُرِّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى.

قَوْلُهُ: (شَيْخَانِ كَبِيرَانِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ مُوسَى: وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ فَكُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَبَوَانِ ضَعِيفَانِ فَقِيرَانِ لَيْسَ لَهُمَا خَادِمٌ وَلَا رَاعٍ وَلَا وَلِيٌّ غَيْرِي فَكُنْتُ أَرْعَى لَهُمَا بِالنَّهَارِ وَآوِي إِلَيْهِمَا بِاللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (فَأَبْطَأْتُ عَنْهُمَا لَيْلَةً) وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَنَأَى بِي طَلَبُ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: نَأَى وَالشَّيْءُ لَمْ يُفَسَّرْ مَا هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ بُيِّنَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ضَمْرَةَ وَلَفْظُهُ: وَإِنِّي نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ اسْتَطْرَدَ مَعَ غَنَمِهِ فِي الرَّعْيِ إِلَى أَنْ بَعُدَ عَنْ مَكَانِهِ زِيَادَةً عَلَى الْعَادَةِ فَلِذَلِكَ أَبْطَأَ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَإِنَّ الْكَلَأَ تَنَاءَى عَلَيَّ أَيْ تَبَاعَدَ، وَالْكَلَأُ الْمَرْعَى.

قَوْلُهُ: (وَأَهْلِي وَعِيَالِي) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الزَّوْجَةَ وَالْأَوْلَادَ وَالرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا مَعْنَى لَهَا هُنَا. قُلْتُ: إِنَّمَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ ذَلِكَ فِي

ص: 508

رِوَايَةِ سَالِمٍ: وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا أَوْلَادَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا دَوَابَّهُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (يَتَضَاغَوْنَ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَالضُّغَاءُ بِالْمَدِّ الصِّيَاحُ بِبُكَاءٍ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجُوعِ أَيْ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَعَلَّ الصِّيَاحَ كَانَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْجُوعِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ.

قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا) أَمَّا كَرَاهَتُهُ لِإِيقَاظِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: ثُمَّ جَلَسْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا بِإِنَائِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أُؤرِّقَهُمَا أَوْ أُوذِيَهُمَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كَرَاهِيَةُ أَنْ أَرُدَّ وَسَنَهُمَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ أَنْ يَدَعَهُمَا فَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا أَيْ يَضْعُفَا لِأَنَّهُ عَشَاؤُهُمَا وَتَرْكُ الْعَشَاءِ يُهْرِمُ، وَقَوْلُهُ: يَسْتَكِنَّا مِنْ الِاسْتِكَانَةِ، وَقَوْلُهُ: لِشَرْبَتِهِمَا أَيْ لِعَدَمِ شَرْبَتِهِمَا فَيَصِيرَانِ ضَعِيفَيْنِ مِسْكِينَيْنِ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ) هُوَ مُقَيَّدٌ لِإِطْلَاقِ رِوَايَةِ سَالِمٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، وَالْكَافُ زَائِدَةٌ، أَوْ أَرَادَ تَشْبِيهَ مَحَبَّتِهِ بِأَشَدَّ الْمَحَبَّاتِ.

قَوْلُهُ: (رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا) أَيْ بِسَبَبِ نَفْسِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا أَيْ لِيَسْتَعْلِيَ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَبَتْ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَقَالَتْ لَا يَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ) وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ الْمِائَةَ فَزَادَهَا هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عِشْرِينَ، أَوْ أَلْغَى غَيْرُ سَالِمٍ الْكَسْرَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَأَبْهَمَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مَالًا ضَخْمًا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: وَجَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: فَلَمَّا كَشَفْتُهَا وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ سَبَبَ إِجَابَتِهَا بَعْدَ امْتِنَاعِهَا فَقَالَ: فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ - أَيْ سَنَةُ قَحْطٍ - فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ نَافِعٍ بِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ أَوَّلًا عِفَّةً وَدَافَعَتْ بِطَلَبِ الْمَالِ فَلَمَّا احْتَاجَتْ أَجَابَتْ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَفُضَّ) بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا تَكْسِرْ، وَالْخَاتَمُ كِنَايَةٌ عَنْ عُذْرَتِهَا، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا، وَكَنَّتْ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالْكَسْرِ، وَعَنِ الْفَرْجِ بِالْخَاتَمِ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِكْرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ خَاتَمِي، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ خَاتَمِي إِلَّا بِحَقِّهِ، وَقَوْلُهَا بِحَقِّهِ أَرَادَتْ بِهِ الْحَلَالَ، أَيْ لَا أَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْرَبَنِي إِلَّا بِتَزْوِيجٍ صَحِيحٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَرْكَبَ مِنِّي مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ.

قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ أَخَافَ رَبِّي، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: فَلَمَّا أَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا بَكَتْ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: فَعَلْتُ هَذَا مِنَ الْحَاجَةِ، فَقُلْتُ: انْطَلِقِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهَا تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرُوفِهِ وَيَأْبَى عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَأَجَابَتْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَتْ زَوْجَهَا فَأَذِنَ لَهَا وَقَالَ لَهَا: أَغْنِي عِيَالَكِ، قَالَ: فَرَجَعَتْ فَنَاشَدَتْنِي بِاللَّهِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهَا، فَأَسْلَمَتْ إِلَيَّ نَفْسَهَا، فَلَمَّا كَشَفْتُهَا ارْتَعَدَتْ مِنْ تَحْتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ قَالَتْ: أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقُلْتُ: خِفْتِيهِ فِي الشِّدَّةِ وَلَمْ أَخَفْهُ فِي الرَّخَاءِ، فَتَرَكْتُهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: فَلَمَّا جَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ اذَّكَّرْتُ النَّارَ فَقُمْتُ عَنْهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ فِي الْكَرْبِ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ

ص: 509

تَعَالَى بِذِكْرِ صَالِحِ الْعَمَلِ، وَاسْتِنْجَازُ وَعْدِهِ بِسُؤَالِهِ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: اسْتِحْبَابَ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَاسْتَشْكَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ لِمَا فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ، وَالِاحْتِقَارُ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مَقَامُ التَّضَرُّعِ، وَأَجَابَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَشْفِعُوا بِأَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا سَأَلُوا اللَّهَ إِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً وَقُبِلَتْ أَنْ يَجْعَلَ جَزَاءَهَا الْفَرَجُ عَنْهُمْ، فَتَضَمَّنَ جَوَابُهُ تَسْلِيمَ السُّؤَالِ لَكِنْ بِهَذَا الْقَيْدِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدْ تَعَرَّضَ النَّوَوِيُّ لِهَذَا فَقَالَ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بَابُ دُعَاءِ الْإِنْسَانِ وَتَوَسُّلِهِ بِصَالِحِ عَمَلِهِ إِلَى اللَّهِ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ تَرْكِ الِافْتِقَارِ الْمُطْلَقِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِمْ فَدَلَّ عَلَى تَصْوِيبِ فِعْلِهِمْ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: ظَهَرَ لِي أَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تُلْجِئُ إِلَى تَعْجِيلِ جَزَاءِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ هَذَا مِنْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ رُؤْيَةُ عَمَلٍ بِالْكُلِّيَّةِ لِقَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمْ: إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَلَمْ يَعْتَقِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي عَمَلِهِ الْإِخْلَاصَ بَلْ أَحَالَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ يَجْزِمُوا بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ أَحْسَنَ أَعْمَالِهِمْ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّخْصُ تَقْصِيرَهُ فِي نَفْسِهِ وَيُسِيءَ الظَّنَّ بِهَا وَيَبْحَثَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَمَلِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ أَخْلَصَ فِيهِ فَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَيُعَلِّقُ الدُّعَاءَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إِذَا دَعَا رَاجِيًا لِلْإِجَابَةِ خَائِفًا مِنَ الرَّدِّ فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ إِخْلَاصُهُ وَلَوْ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ فَلْيَقِفْ عِنْدَ حَدِّهِ، وَيَسْتَحي أَنْ يَسْأَلَ بِعَمَلٍ لَيْسَ بِخَالِصٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا: ادْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ عِنْدَ الدُّعَاءِ لَمْ يُطْلِقُوا ذَلِكَ وَلَا، وقَالَ أحد مِنْهُمْ: أَدْعُوكَ بِعَمَلِي، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ عَمَلَهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى كَلَامِ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَهُوَ السَّابِقُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ فَضْلُ الْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ، وَفَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَخِدْمَتِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا عَلَى الْوَلَدِ وَالْأَهْلِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِهِمَا. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ تَرْكُهُ أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ يَبْكُونَ مِنَ الْجُوعِ طُولَ لَيْلَتِهِمَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْكِينِ جُوعِهِمْ فَقِيلَ: كَانَ فِي شَرْعِهِمْ تَقْدِيمُ نَفَقَةِ الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ بُكَاءَهُمْ لَيْسَ عَنِ الْجُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَرُدُّهُ. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ زِيَادَةً عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ وَهَذَا أَوْلَى. وَفِيهِ فَضْلُ الْعِفَّةِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْحَرَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ يَمْحُو مُقَدِّمَاتِ طَلَبِهَا، وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا. وَفِيهِ جَوَازُ الْإِجَارَةِ بِالطَّعَامِ الْمَعْلُومِ بَيْنَ الْمُتَآجِرَيْنِ، وَفَضْلُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَإِثْبَاتُ الْكَرَامَةِ لِلصَّالِحِينَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبُيُوعِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إِذَا اتَّجَرَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ كَانَ الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ. قَالَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: خَالَفَهُ الْأَكْثَرُ فَقَالُوا: إِذَا تَرَتَّبَ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْوَدِيعِ وَكَذَا الْمُضَارِبُ كَأَنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فَيَلْزَمُ ذِمَّتَهُ أَنَّهُ إِنِ اتَّجَرَ فِيهِ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْغَرَامَةُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الرِّبْحُ فَهُوَ لَهُ لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نفد الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَالْعَقْدُ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْبُيُوعِ أَيْضًا.

وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَمَّا جَرَى لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ لِيَعْتَبِرَ السَّامِعُونَ بِأَعْمَالِهِمْ فَيُعْمَلُ بِحَسَنِهَا وَيُتْرَكُ قَبِيحُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يُخَرِّجِ الشَّيْخَانِ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَسَنٍ، وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ.

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حِسَانٍ أَحَدُهَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ وَكُلُّهَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ طُرُقَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي

ص: 510

صَحِيحِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ الْقِصَصَ الثَّلَاثَةَ فِي الْأَجِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَالْأَبَوَيْنِ إِلَّا حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَفِيهِ بَدَلَ الْأَجِيرِ أَنَّ الثَّالِثَ قَالَ: كُنْتُ فِي غَنَمٍ أَرْعَاهَا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقُمْتُ أُصَلِّي فَجَاءَ الذِّئْبُ فَدَخَلَ الْغَنَمُ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَ صَلَاتِي فَصَبَرْتُ حَتَّى فَرَغْتُ، فَلَوْ كَانَ إِسْنَادُهُ قَوِيًّا لَحُمِلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ تَقْدِيمُ الْأَجِيرِ ثُمَّ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ الْمَرْأَةِ، وَخَالَفَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَقَدَّمَ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ الْمَرْأَةَ ثُمَّ الْأَجِيرَ، وَوَافَقَتْهُ رِوَايَةُ سَالِمٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ الْأَجِيرَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ الْأَجِيرَ ثُمَّ الْمَرْأَةَ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ الْأَجِيرَ ثُمَّ الْمَرْأَةَ ثُمَّ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ أَبِي أَوْفَى مَعًا الْمَرْأَةَ ثُمَّ الْأَجِيرَ ثُمَّ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي اخْتِلَافِهِمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ سَائِغَةٌ شَائِعَةٌ، وَأَنْ لَا أَثَرَ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَرْجَحُهَا فِي نَظَرِي رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ لِمُوَافَقَةِ سَالِمٍ لَهَا فَهِيَ أَصَحُّ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ

وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيُنْظَرُ أَيُّ الثَّلَاثَةِ كَانَ أَنْفَعُ لِأَصْحَابِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الثَّالِثُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا بِدُعَائِهِ، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ أَفَادَ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَالثَّانِي أَفَادَ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ وَإِمْكَانَ التَّوَسُّلِ إِلَى الْخُرُوجِ بِأَنْ يَمُرَّ مَثَلًا هُنَاكَ مَنْ يُعَالِجُ لَهُمْ، وَالثَّالِثُ هُوَ الَّذِي تَهَيَّأَ لَهُمُ الْخُرُوجُ بِسَبَبِهِ فَهُوَ أَنْفَعُهُمْ لَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الثَّالِثِ أَكْثَرَ فَضْلًا مِنْ عَمَلِ الْآخَرَيْنِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الثَّلَاثَةِ: فَصَاحِبُ الْأَبَوَيْنِ فَضِيلَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِأَبَوَيْهِ، وَصَاحِبُ الْأَجِيرِ نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ وَأَفَادَ بِأَنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْأَمَانَةِ، وَصَاحِبُ الْمَرْأَةِ أَفْضَلُهُمْ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَشْيَةُ رَبِّهِ، وقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ الْجَنَّةَ حَيْثُ قَالَ:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وَقَدْ أَضَافَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى ذَلِكَ تَرْكَ الذَّهَبِ الَّذِي أَعْطَاهُ لِلْمَرْأَةِ فَأَضَافَ إِلَى النَّفْعِ الْقَاصِرِ النَّفْعَ الْمُتَعَدِّيَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ، فَتَكُونُ فِيهِ صِلَةُ رَحِمٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ قَحْطٍ فَتَكُونُ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ أَحْرَى، فَيَتَرَجَّحُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّةُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَخِيرَةً فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - باب

3466 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بَيْنَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ. وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا: تَزْنِي، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ.

3467 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ.

ص: 511

3468 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ".

[الحديث 3468 - أطرافه في: 3488، 5932، 5938]

3469 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ".

[الحديث 3469 - طرفه في: 3689]

3470 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ".

3471 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ! فَقَالَ فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! قَالَ فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ".

وحَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.

3472 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 512

عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا.

3473 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ أُسَامَةُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجْكُمْ إِلاَّ فِرَارًا مِنْهُ".

[الحديث 3473 - طرفاه في: 5728، 6974]

3474 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ".

[الحديث 3474 - طرفاه في: 5734، 6619]

3475 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".

3476 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلَالِيَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 513

فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا.

3477 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

[الحديث 3477 - طرفه في: 6929]

3478 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ. قَالَ فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عز وجل فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ". وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 3478 - طرفاه في: 6481، 7508]

3479 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ أَلَا تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَوْ رَاحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتَكَ. فَغَفَرَ لَهُ". قَالَ عُقْبَةُ وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ.

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: "فِي يَوْمٍ رَاحٍ".

3480 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ".

3481 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ:

ص: 514

إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ".

[الحديث 3481 - طرفه في: 7506]

3482 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ".

3483 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ".

[الحديث 3483 - طرفاه في: 3484، 6120]

3484 -

حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور قال سمعت ربعي بن حراش يحدث عن أبي مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت".

3485 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ

[الحديث 3485 - طرفه في: 5790]

3486 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ كُلِّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى".

3487 -

عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ.

3488 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ الزُّورَ. يَعْنِي الْوِصَالَ فِي الشَّعَرِ. تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ.

ص: 515

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا فَتَكَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ الْأَعْرَجُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدَيثُهُ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَقَتِ الْكَلْبَ.

قَوْلُهُ: (يُطِيفُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَطَافَ، يُقَالُ: أَطَفْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا أَدَمْتُ الْمُرُورَ حَوْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بِرَكِيَّةٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ: الْبِئْرُ مَطْوِيَّةً أَوْ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ، وَغَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ يُقَالُ لَهَا جُبٌّ وَقَلِيبٌ، وَلَا يُقَالُ لَهَا بِئْرٌ حَتَّى تُطْوَى، وَقِيلَ: الرَّكِيُّ الْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ تُطْوَى فَإِذَا طُوِيَتْ فَهِيَ الطَّوِيُّ.

قَوْلُهُ: (بَغِيٌّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ الزَّانِيَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْأَمَةِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (مُوقَهَا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا قَافٌ هُوَ الْخُفُّ، وَقِيلَ مَا يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ.

قَوْلُهُ: (فَغُفِرَ لَهَا) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، لَكِنْ وَقَعَ هُنَاكَ وَفِي الطَّهَارَةِ أَنَّ الَّذِي سَقَى الْكَلْبَ رَجُلٌ، وَأَنَّهُ سَقَاهُ فِي خُفِّهِ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، وَقَدَّمْتُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: حَدَيثُ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (عَامَ حَجَّ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْآتِيَةِ آخِرَ الْبَابِ: آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا قُلْتُ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا فِي خِلَافَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَتَنَاوَلَ قُصَّةً) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ شَعْرُ النَّاصِيَةِ، وَالْحَرَسِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَرَسِ وَهُوَ وَاحِدُ الْحُرَّاسِ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ إِذْ ذَاكَ فِيهِمْ كَانُوا قَدْ قَلُّوا، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ غَالِبَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَوْمَئِذٍ قَدْ مَاتُوا، وَكَأَنَّهُ رَأَى جُهَّالَ عَوَامِّهِمْ صَنَعُوا ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَ عُلَمَاءَهُمْ وَيُنَبِّهَهُمْ بِمَا تَرَكُوهُ مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إِذْ ذَاكَ الْإِنْكَارَ إِمَّا لِاعْتِقَادِ عَدَمِ التَّحْرِيمِ مِمَّنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَحَمَلَهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، أَوْ كَانَ يَخْشَى مِنْ سَطْوَةِ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَنْ يَسْتَبِدَّ بِالْإِنْكَارِ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ، أَوْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ أَصْلًا، أَوْ بَلَغَ بَعْضَهُمْ لَكِنْ لَمْ يَتَذَكَّرُوهُ حَتَّى ذَكَّرَهُمْ بِهِ مُعَاوِيَةُ، فَكُلُّ هَذِهِ أَعْذَارٌ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا إِذْ ذَاكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَنْ حَضَرَ خُطْبَةَ مُعَاوِيَةَ وَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَةِ غَيْرِ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنْ يَحْضُرَهُ إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْإِنْكَارِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ الْحُكْمَ وَأَقَرَّهُ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَنْهَى، وَفَاعِلُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَعَلُوهُ كَانَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ ارْتِكَابِهِمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْمَنَاهِي، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ إن كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: وَأنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) كَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّعِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ، وَقَدْ وَقَعَ بِحَمْدِ اللَّهِ مَا تَوَقَّعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمَرَ رضي الله عنه، وَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مَا لَا يُحْصَى ذِكْرُهُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: حَدَيثُ أَبِي سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الصِّدِّيقِ النَّاجِي، وَاسْمُ أَبِي الصِّدِّيقِ - وَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ

ص: 516

الْمَكْسُورَةِ - بَكْرٌ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَمْرٌو، وَقِيلَ قَيْسٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى رَاهِبًا) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام، لِأَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ إِنَّمَا ابْتَدَعَهَا أَتْبَاعُهُ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَهُ تَوْبَةٌ؟) بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّ حَقَّ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: لِيَ تَوْبَةٌ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وَزَادَ: ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، وَقَالَ فِيهِ: وَمِنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ الطَّرِيقِ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَوَقَعَتْ لِي تَسْمِيَةُ الْقَرْيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ قَالَ فِيهِ: إِنَّ اسْمَ الصَّالِحَةِ نَصْرَةُ، وَاسْمَ الْقَرْيَةِ الْأُخْرَى كَفْرَةُ.

قَوْلُهُ: (فَنَاءَ) بِنُونٍ وَمَدٍّ أَيْ بَعُدَ، أَوِ الْمَعْنَى مَالَ أَوْ نَهَضَ مَعَ تَثَاقُلٍ، فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: فَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي طَلَبَهَا، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ فَنَأَى بِغَيْرِ مَدٍّ قَبْلَ الْهَمْزِ، وَبِإِشْبَاعِهَا بِوَزْنِ سَعَى، تَقُولُ: نَأَى يَنْأَى نَأْيًا، أي بَعُدَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى فَبَعُدَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ إِدْرَاجٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ قَتَادَةَ: قَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَاءَ بِصَدْرِهِ.

قَوْلُهُ: (فَاخْتَصَمت فِيهِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ نائبا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي) أَيْ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا (وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي) أَيِ الْقَرْيَةَ الَّتِي قَصَدَهَا. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ.

قَوْلُهُ: (أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ حَتَّى مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَبِلَ تَوِبَةَ الْقَاتِلِ تَكَفَّلَ بِرِضَا خَصْمِهِ. وَفِيهِ: إنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُجِيبُ بِالْخَطَأ، وَغَفَلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَ الْأَخِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّأَوُّلِ لِكَوْنِهِ أَفْتَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحُكْمِ حَتَّى اسْتَمَرَّ يَسْتَفْتِي، وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُ اسْتَبْعَدَ أَنْ تَصِحَّ تَوْبَتَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ لمن ذَكَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ بِنَاءً عَلَى الْعَمَلِ بِفَتْوَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ اقْتَضَى عِنْدَهُ أَنْ لَا نَجَاةَ لَهُ فَيَئِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ تَدَارَكَهُ اللَّهُ فَنَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَرَجَعَ يَسْأَلُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ فِطْنَةِ الرَّاهِبِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّحَرُّزُ مِمَّنِ اجْتَرَأَ عَلَى الْقَتْلِ حَتَّى صَارَ لَهُ عَادَةٌ بِأَنْ لَا يُوَاجِهَهُ بِخِلَافِ مُرَادِهِ وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ الْمَعَارِيضَ مُدَارَاةً عَنْ نَفْسِهِ، هَذَا لَوْ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ فَضْلًا عَنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا مَظْنُونًا.

وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِبَنِي آدَمَ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي حَقِّهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَكْتُبُونَهُ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، وَأَنَّهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّحَوُّلِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُصِيبُ الْإِنْسَانُ فِيهَا الْمَعْصِيَةَ لِمَا يَغْلِبُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ إِمَّا لِتَذَكُّرِهِ لِأَفْعَالِهِ الصَّادِرَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْفِتْنَةِ بِهَا وَإِمَّا لِوُجُودِ مَنْ كَانَ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ الْأَخِيرُ: وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التائب يَنْبَغِي لَهُ مُفَارَقَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي اعْتَادَهَا فِي زَمَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالتَّحَوُّلُ مِنْهَا كُلِّهَا

ص: 517

وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهَا، وَفِيهِ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لِأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ فَاسْتَعْظَمَ وُقُوعَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاتِلِ مِنَ اسْتِجْرَائِهِ عَلَى قَتْلِ هَذَا الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَأَفْتَاهُ بِالصَّوَابِ وَدَلَّهُ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْفَعُ مِنَ الْقَتْلِ كَمَا تَنْفَعُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا تَقْرِيرُهُ وَمُوَافَقَتُهُ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَمِنَ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ تَخْفِيفِ الْآصَارِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِذَا شُرِعَ لَهُمْ قَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ فَمَشْرُوعِيَّتُهَا لَنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا تَنَازَعُوا، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ التَّحْكِيمَ، وَأَنَّ مَنْ رَضِيَ الْفَرِيقَانِ بِتَحْكِيمِهِ فَحُكْمُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِي مَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَحْوَالُ وَتَعَدَّدَتِ الْبَيِّنَاتُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى التَّرْجِيحِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ:

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَيَأْتِي مَعَ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَنَاقِبِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الدَّوَابَّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا: إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُعْظَمِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَلَمْ تُرِدِ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا خُلِقَتْ لَهُ أَنَّهَا تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي أُؤْمِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ فَصَدَّقَاهُ، أَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمَا يُصَدِّقَانِ بِذَلِكَ إِذَا سَمِعَاهُ وَلَا يَتَرَدَّدَانِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا هُمَا ثَمَّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ لَيْسَا حَاضِرَيْنِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ.

قَوْلُهُ: (وَبَيْنَا رَجُلٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (إِذْ عَدَا الذِّئْبُ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعُدْوَانِ.

قَوْلُهُ: (هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ اسْتَنْقَذَهَا بِإِبْهَامِ الْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ مُفَرَّقًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِسُفْيَانَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَالْآخَرُ: مِسْعَرٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ رِوَايَةُ الْقَرِينِ عَنْ قَرِينِهِ، لِأَنَّ الْأَعْرَجَ قَرِينُ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ وَلَا سِيَّمَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ أَبُو سَلَمَةَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنَ الْأَعْرَجِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَرِينَ مِسْعَرٍ، لِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ لَا سِيَّمَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ مِسْعَرٌ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ سُفْيَانَ.

الحديث العشرون: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، لَكِنْ فِي الْمُبْتَدَأ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ هُوَ دَاوُدُ النَّبِيُّ عليه السلام ; وَفِي الْمُبْتَدَأ لِإِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ بَعْضِ قُضَاتِهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَا وَقَعَ عِنْدَ وَهْبٍ لِكَوْنِهِ أَوْرَدَهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (عَقَارًا) الْعَقَارُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْزِلُ وَالضَّيْعَةُ وَخَصَّهُ

ص: 518

بَعْضُهُمْ بِالنَّخْلِ، وَيُقَالُ لِلْمَتَاعِ النَّفِيسِ الَّذِي لِلْمَنْزِلِ عَقَارٌ أَيْضًا، وَأَمَّا عِيَاضٌ فَقَالَ: الْعَقَارُ الْأَصْلُ مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ الْمَنْزِلُ وَالضَّيْعَةُ، وَقِيلَ: مَتَاعُ الْبَيْتِ، فَجَعَلَهُ خِلَافًا. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدَّارُ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ.

قَوْلُهُ: (فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ: خُذْ ذَهَبَكَ فَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعِ الذَّهَبَ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ خَاصَّةً، فَاعْتَقَدَ الْبَائِعُ دُخُولَ مَا فِيهَا ضِمْنًا، وَاعْتَقَدَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ. وَأَمَّا صُورَةُ الدَّعْوَى بَيْنَهُمَا فَوَقَعَتْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي صُورَةِ الْعَقْدِ الَّتِي وَقَعَتْ، وَالْحُكْمُ فِي شَرْعِنَا عَلَى هَذَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَأَنَّ الذَّهَبَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صُورَةِ الْعَقْدِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لَمْ يَقَعْ تَصْرِيحٌ بِبَيْعِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا بَلْ بِبَيْعِ الْأَرْضِ خَاصَّةً، وَالْبَائِعُ يَقُولُ: وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَتَحَالَفَا وَيَسْتَرِدَّا الْمَبِيعَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَالَ: إِنَّهُ اشْتَرَى دَارًا فَعَمَّرَهَا فَوَجَدَ فِيهَا كَنْزًا، وَأَنَّ الْبَائِعَ قَالَ لَهُ لَمَّا دَعَاهُ إِلَى أَخْذِهِ: مَا دَفَنْتُ وَلَا عَلِمْتُ، وَأَنَّهُمَا قَالَا لِلْقَاضِي: ابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ وَتَضَعْهُ حَيْثُ رَأَيْتَ، فَامْتَنَعَ، وَعَلَى هَذَا فَحُكْمُ هَذَا الْمَالِ حُكْمُ الرِّكَازِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، إِنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ دَفِينِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَإِنْ جُهِلَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَالِ الضَّائِعِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ فَلِهَذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَا حَكَمَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ) أَيِ الَّذِي كَانَتْ لَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ الَّذِي بَاعَ الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ مُسْلِمٍ اخْتِلَافٌ، فَالْأَكْثَرُ رَوَوْهُ بِلَفْظِ: فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ، وَالْمُرَادُ بَاعَ الْأَرْضَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ، وَلِبَعْضِهِمْ: فَقَالَ الَّذِي اشْتَرَى الْأَرْضَ وَوَهَّمَهَا الْقُرْطُبِيُّ قَالَ: إِلَّا إِنْ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ اشْتَرَى مِنَ الْأَضْدَادِ كَشَرَى فَلَا وَهْمَ، وَقَوْلُهُ فَتَحَاكَمَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا مَنْصُوبًا لِلنَّاسِ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ جَوَّزَ لِلْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ يُحَكِّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا: فَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْحُكْمِ، وَأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ سَوَاءٌ وَافَقَ ذَلِكَ رَأْيَ قَاضِي الْبَلَدِ أَمْ لَا، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ الْحُدُودَ، وَشَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ لَا يُخَالِفَ ذَلِكَ رَأْيَ قَاضِي الْبَلَدِ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ حُكْمٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا لِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ حُكْمَ الْمَالِ الْمَذْكُورِ حُكْمُ الْمَالِ الضَّائِعِ، فَرَأَى أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَرَعِهِمَا وَحُسْنِ حَالِهِمَا وَارْتَجَى مِنْ طِيبِ نَسْلِهِمَا وَصَلَاحِ ذُرِّيَّتِهِمَا، وَيَرُدُّهُ مَا جَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي نَصِيحَةِ الْمُلُوكِ أَنَّهُمَا تَحَاكَمَا إِلَى كِسْرَى، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا ارْتَفَعَتِ الْمَبَاحِثُ الْمَاضِيَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّحْكِيمِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا حُجَّةَ فِيمَا

يَحْكُمُ بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَكْثُرُ تَمَارِينَا وَمُنَازَعَتُنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَمَانَةً.

قَوْلُهُ: (أَلَكُمَا وَلَدٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ للرجلين جَمِيعًا وَلَدٌ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى: أَلِكُلٍّ مِنْكُمَا وَلَدٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلَكُمَا وُلْدٌ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ أَيْ أَوْلَادٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُ الْوَاوِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَحَدُهُمْ لِي غُلَامٌ) بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ أَنَّ الَّذِي قَالَ لِي غُلَامٌ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ.

قَوْلُهُ: (أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) هَكَذَا وَقَعَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْإِنْكَاحِ وَالْإِنْفَاقِ وَبِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي النَّفْسَيْنِ وَفِي التَّصَدُّقِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ كَانَا مَحْجُورَيْنِ

ص: 519

وَإِنْكَاحُهُمَا لَا بُدَّ فيه مَعَ وَلِيِّيهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا كَالشَّاهِدَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْمُعَيَّنِ كَالْوَكِيلِ، وَأَمَّا تَثْنِيَةُ النَّفْسَيْنِ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِصَاصِ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ: اذْهَبَا فَزَوِّجِ ابْنَتَكَ مِنِ ابْنِ هَذَا وَجَهِّزُوهُمَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَادْفَعَا إِلَيْهِمَا مَا بَقِيَ يَعِيشَانِ بِهِ، وَأَمَّا تَثْنِيَةُ التَّصدق فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنْ يُبَاشِرَاهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَأَيْضًا فَهِيَ تَبَرُّعٌ لَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الرَّشِيدِ وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَنْفِقَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: حَدَيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي الطَّاعُونِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الطِّبِّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَقَعَ هُنَا رِجْسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الزَّايِ وَالْمَحْفُوظُ بِالزَّايِ، وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ الرِّجْسَ يَقَعُ عَلَى الْعُقُوبَةِ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ الْفَارَابِيُّ، وَالْجَوْهَرِيُّ: الرِّجْسُ الْعَذَابُ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا يُخْرِجْكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ) يُرِيدُ أَنَّ الْأُولَى رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَالثَّانِيَةُ رِوَايَةُ أَبِي النَّضْرِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي النَّضْرِ فَرِوَايَتُهَا بِالنَّصْبِ كَالَّذِي هُنَا مُشْكِلَةٌ، وَرَوَاهَا جَمَاعَةٌ بِالرَّفْعِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، قَالَ عِيَاضٌ فِي الشَّرْحِ: وَقَعَ لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأ بِالرَّفْعِ وَهُوَ بَيِّنٌ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُخْرِجُكُمُ الْفِرَارُ وَمُجَرَّدُ قَصْدِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْأَسْفَارِ وَالْحَوَائِجِ مُبَاحٌ، وَيُطَابِقُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى: فَلَا يخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَاءَ بِالْوَجْهَيْنِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كانَ مِنْ مَالِكٍ، وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ دُخُولُ إِلَّا هُنَا بَعْدَ النَّفْيِ لِإِيجَابِ بَعْضِ مَا نُفِيَ قَبْلُ مِنَ الْخُرُوجِ، فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا لِلْفِرَارِ خَاصَّةً، وَهُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ لِلْفِرَارِ خَاصَّةً لَا لِغَيْرِهِ، قَالَ: وَجَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ قَوْلَهُ إِلَّا حَالًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا تَخْرُجُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُكُمْ إِلَّا لِلْفِرَارِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ: لَا يُخْرِجْكُمُ الْإِفْرَارُ، بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ وَبَعْدَهَا إِفْرَارٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ وَهْمٌ وَلَحْنٌ.

وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ مَا حَاصِلُهُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: أَفَرَّهُ كَذَا مِنْ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: إِنْ كَانَ لَا يُفِرُّكَ مِنْ هَذَا إِلَّا مَا تَرَى، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُخْرِجْكُمْ إِفْرَارُهُ إِيَّاكُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ أَفَرَّ وَإِنَّمَا يُقَالُ فَرَّرَ، قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِدْخَالُ إِلَّا فِيهِ غَلَطٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ وَتَجُوزُ زِيَادَتُهُ كَمَا تُزَادُ لَا، وَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لِلْإِيجَابِ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا مَضَى، قَالَ: وَالْأَقْرَبُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَبَيْنَ قَوْلِ أَبِي النَّضْرِ: لَا يُخْرِجْكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ مُشْكِلٌ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ التَّنَاقُضُ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدِهَا أَنَّ غَرَضَ الرَّاوِي أَنَّ أَبَا النَّضْرِ فَسَّرَ لَا تَخْرُجُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحَصْرُ يَعْنِي الْخُرُوجَ الْمَنْهِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِمُجَرَّدِ الْفِرَارِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمُعَلَّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا لِلنَّهْيِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ كَلَامِ أَبِي النَّضْرِ زَادَهُ بَعْدَ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ رِوَايَةً، وَالْمُتَبَادَرُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةُ مَرْفُوعَةٌ أَيْضًا فَيَكُونُ رَوَى اللَّفْظَيْنِ وَيَكُونُ التَّفْسِيرُ مَرْفُوعًا أَيْضًا. الثَّالِثُ إِلَّا زَائِدَةٌ بِشَرْطِ أَنْ تَثْبُتَ زِيَادَتُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدَيثُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الطِّبِّ أَيْضًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا بِلَفْظِ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنَّ

ص: 520

بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدَيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي النَّهْيِ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: حَدَيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا النَّبِيِّ صَرِيحًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ نُوحٌ عليه السلام، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ الشُّعَرَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا يَبْطِشُونَ بِهِ فَيَخْنُقُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قُلْتُ: وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ لَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ قَالَ:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ تَخْرِيجِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيُّ كمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي جَرَى لَهُ مَا حَكَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ جَرَى لِنَبِيِّنَا نَحْوُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ) يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ أَنَّهُ وَقَعَ لِنَبِيٍّ آخَرَ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ وَجَرَى الدَّمُ مِنْهُ. فَاسْتَحْضَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قِصَّةَ ذَلِكَ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ لِأَصْحَابِهِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ. وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحَاكِي وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ النَّبِيَّ، فَلَمَّا وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّرْجَمَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: إن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ، أَيِ: اغْفِرْ لَهُمْ ذَنْبَهُمْ فِي شَجِّ وَجْهِي، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ مُطْلَقًا، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأُجِيبَ وَلَوْ أُجِيبَ لَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْضُ دُعَائِهِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ عَنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِ: أَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ مَا يَمْنَعُ تَأْوِيلَ الْقُرْطُبِيِّ، وَيُعَيِّنُ الْغَزْوَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِالْجِعِرَّانَةِ، قَالَ: فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَكَذَّبُوهُ وَشَجُّوهُ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ جَبْهَتَهُ يَحْكِي الرَّجُلَ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَيْضًا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَكَى صِفَةَ مَسْحِ جَبْهَتِهِ خَاصَّةً كَمَا مَسَحَهَا ذَلِكَ النَّبِيُّ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ فَسَادُ مَا زَعَمَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ، وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ، وَالثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَحَادِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي أَوْصَى بِأَنْ يُحْرَقَ إِذَا مَاتَ، أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَسَأَذْكُرُ جَمِيعَ فَوَائِدِهِ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ تِلْوَ هَذِهِ سَمَاعَ قَتَادَةَ مِنْ عُقْبَةَ، وَعُقْبَةُ الْمَذْكُورُ أَزْدِيٌّ بَصْرِيٌّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ. وَطَرِيقُ مُعَاذٍ هَذِهِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (رَغَسَهُ اللَّهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، أَيْ كَثَّرَ مَالَهُ، وَقِيلَ رَغْسُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ لَهُ أَصْلًا مِنْ مَالٍ. وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ

ص: 521

رَأَسَهُ اللَّهُ بِهَمْزٍ بَدَلَ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنْ صَحَّ - أَيْ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ - فَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ رَاشَهُ يَعْنِي بِأَلِفٍ سَاكِنَةٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَالرِّيشُ وَالرِّيَاشُ الْمَالُ، انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ فِي تَوْجِيهِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى رَأَّسَهُ جَعَلَهُ رَأْسًا وَيَكُونُ بِتَشْدِيدِ الْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ مَالًا، أَيْ بِسَبَبِ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُقْبَةُ، لِحُذَيْفَةَ) هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عُمَرَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَصَوَّبَ أَبُو ذَرٍّ رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ أَنَّهُ عَنْ مُوسَى ; وَمُوسَى، وَمُسَدَّدٌ جَمِيعًا قَدْ سَمِعَا مِنْ أَبِي عَوَانَةَ، لَكِنَّ الصَّوَابَ هُنَا مُوسَى لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَاقَ الْحَدِيثَ عَنْ مُسَدَّدٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُوسَى خَالَفَهُ فِي لَفْظَةٍ مِنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فِي يَوْمِ رَاحٍ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ يَوْمٌ حَارٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاقُ مُوسَى فِي أَوَّلِ بَابِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ فِيهِ: انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا وَقَوْلُهُ: رَاحًا أَيْ كَثِيرَ الرِّيحِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَخْتَرِقُهُ الرِّيَاحُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يَوْمٌ رَاحٌ، أَيْ شَدِيدُ الرِّيحِ، وَإِذَا كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ يُقَالُ الرَّيِّحُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَوْمٌ رَاحٌ أَيْ ذُو رِيحٍ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ مَالٌ أَيْ ذُو مَالٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبَابِ فَقَوْلُهُ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَهُوَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَوَرُ رِيحٌ تَحِنُّ كَحَنِينِ الْإِبِلِ، وَقَدْ نَبَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا رِوَايَتُهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّ مُرَادَ الْجَيَّانِيِّ مَا وَقَعَ هُنَا، وَهُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ رَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ ; وَهَذَا يَقْتَضِي خَطَأَ مَنْ أَوْرَدَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِلَفْظِ رَاحٍ وَهِيَ رِوَايَةُ السَّرَخْسِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، فَقَالَ فِيهِ: فِي رِيحٍ عَاصِفٍ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ نَبَّاشًا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الرِّقَاقِ أَنَّهُ كَانَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ خَيْرًا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي تَحْرِيرِهَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إن رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ.

قَوْلُهُ: (أَوْرُوا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَضَمِّ الرَّاءِ، أَيِ اقْدَحُوا وَأَشْعِلُوا.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ - أَيُّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُ أَبٍ، قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُونِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ أَذْرُونِي بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، فَالْأُولَى بِمَعْنَى دَعُونِي أَيِ اتْرُكُونِي، وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ أَذْرَتِ الرِّيحُ الشَّيْءَ إِذَا فَرَّقَتْهُ بِهُبُوبِهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (فِي الرِّيحِ) تَقَدَّمَ مَا فِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ أَيْ عَاصِفٌ رِيحُهُ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي وَامْتُحِشْتُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ، أَيْ وَصَلَ الْحَرْقُ الْعِظَامَ، وَالْمَحْشُ إِحْرَاقُ النَّارِ الْجِلْدَ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يُسْتَشْكَلُ هَذَا فَيُقَالُ: كَيْفَ يُغْفَرُ لَهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْبَعْثِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرِ الْبَعْثَ وَإِنَّمَا جَهِلَ فَظَنَّ أَنَّهُ إِذَا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ لَا يُعَادُ فَلَا يُعَذَّبُ، وَقَدْ ظَهَرَ إِيمَانُهُ بِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ

ص: 522

قُتَيْبَةَ: قَدْ يَغْلَطُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ ; وَرَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ: جَحْدُهُ صِفَةَ الْقُدْرَةِ كُفْرٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ أَيْ ضَيَّقَ، وَهِيَ كقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أَيْ ضُيِّقَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ فَمَعْنَاهُ: لَعَلِّي أَفُوتَهُ، يُقَالُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا فَاتَ وَذَهَبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:{لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ جَزَعِهِ وَخَوْفِهِ كَمَا غَلِطَ ذَلِكَ الْآخَرُ فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ: قَدَّرَ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي لَيُعَذِّبَنِي، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُثْبِتًا لِلصَّانِعِ وَكَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَلَمْ تَبْلَغْهُ شَرَائِطُ الْإِيمَانِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ دَهْشَتِهِ وَغَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهِ حَتَّى ذُهِبَ بِعَقْلِهِ لِمَا يَقُولُ، وَلَمْ يَقُلْهُ قَاصِدًا لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ بَلْ فِي حَالَةٍ كَانَ فِيهَا كَالْغَافِلِ وَالذَّاهِلِ وَالنَّاسِي الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَأَبْعَدُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ جَوَازُ الْمَغْفِرَةِ لِلْكَافِرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ) وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ كَأَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ، وَهَذَا جَمِيعُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُقَيْلٍ إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَقَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاطَبَ رُوحَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: فَجَمَعَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ التَّحْرِيقَ وَالتَّفْرِيقَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْجَسَدِ وَهُوَ الَّذِي يُجْمَعُ وَيُعَادُ عِنْدَ الْبَعْثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ خَشْيَتُكَ) الْغَيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، كَذَا رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ بِلَفْظِ خَشْيَتُكَ بَدَلَ مَخَافَتُكَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهَذَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبَى سَعِيدٍ مَخَافَتُكَ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ خَشْيَتُكَ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ (فَتَلْقَاهُ رَحْمَتُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَتَلَافَاهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَمَّا تَلَقَّاهُ بِالْقَافِ فَوَاضِحٌ. لَكِنَّ الْمَشْهُورَ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ وَقَدْ جَاءَ هُنَا بِغَيْرِ تَعْدِيَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالرَّحْمَةُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَهِيَ عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ، قَالَ: وَأَمَّا تَلَافَاهُ بِالْفَاءِ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ فَتَلَفَّفَهُ أَيْ غَشَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ فَاءَاتٍ أُبْدِلَتِ الْأَخِيرَةُ أَلِفًا مِثْلُ دَسَّاهَا كَذَا قَالَ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي التَّلَقِّي. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ مِمَّا تَلَافَاهُ عِنْدَهَا أَنْ غُفِرَ لَهُ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي كَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَيْضًا، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قُلْتُ: رِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ رِبْعِيٌّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَمِنْ حُذَيْفَةَ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (إِنْ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ) النَّاسُ بِالرَّفْعِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ، أَيْ: مِمَّا بَلَغَ النَّاسَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ أَيْ: مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، أَيْ: إِنَّهُ مِمَّا نَدَبَ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِيمَا نُسِخَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا النُّبُوَّةُ الْأُولَى أَيِ الَّتِي قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَوْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ، أَيِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ، أَوْ مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يستحى مِنْهُ فَافْعَلْهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يستحى مِنْهُ فَدَعْهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ لَا تَسْتَحْيِيَ مِنْهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَافْعَلْهُ وَلَا تُبَالِ بِالْخَلْقِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى الْحَيَاءِ وَالتَّنْوِيهُ بِفَضْلِهِ، أَيْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ صُنْعُ جَمِيعِ مَا شِئْتَ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الِاسْتِحْيَاءِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ:

ص: 523

حَدَيثُ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ) أَيِ ابْنُ مُسَافِرٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَطَرِيقُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْوَصْلِ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَكَانِ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ (تَابَعَهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ - بِهِ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ وَتِسْعَةِ أَحَادِيثَ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ طَرِيقًا وَسَائِرُهَا مَوْصُولٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ وَحَدِيثِ قَالَ رَجُلٌ رَأَيْتُ السَّدَّ، وَهَذَانَ مُعَلَّقَانِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ زَمْزَمَ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ بِطُولِهِ، وَحَدِيثِهِ فِي تَعْوِيذِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَحَدِيثِ سَبْرَةَ ابْنِ مَعْبَدٍ، وَحَدِيثِ أَبِي الشُّمُوسِ، وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مُعَلَّقَاتٌ، وَحَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي يُونُسَ عليه السلام، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ وَحَدِيثِ عُمْرَ لَا تُطْرُونِي، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كَرَاهِيَةِ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بَلِّغُوا عَنِّي وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْبُغُونَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الطَّاعُونِ، وَحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ فِي الْحَيَاءِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ أَثَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ وَسَلَّمَ.

ص: 524

‌61 - كِتَاب الْمَنَاقِبِ

‌1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}

وَمَا يُنْهَى عَنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. الشُّعُوبُ: النَّسَبُ الْبَعِيدُ. وَالْقَبَائِلُ: دُونَ ذَلِكَ.

3489 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} قَالَ: الشُّعُوبُ الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ. وَالْقَبَائِلُ: الْبُطُونُ.

3490 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ. قَالَ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ".

3491 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "قُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَانَ مِنْ مُضَرَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلاَّ مِنْ مُضَرَ؟ مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ".

[الحديث 3491 - طرفه في: 3492]

3492 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا كُلَيْبٌ حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ قَالَتْ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ كَانَ؟ مِنْ مُضَرَ كَانَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلاَّ مِنْ مُضَرَ؟ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ".

3493 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً".

[الحديث 3493 - طرفاه في: 3496، 3588]

ص: 525

3494 -

"وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ".

[الحديث 3494 - طرفاه في: 6058، 7179]

3495 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".

3496 -

"وَالنَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ".

3497 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "قُرْبَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ فيه، إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".

[الحديث 3497 - طرفه في: 4818]

3498 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْ هَا هُنَا جَاءَتْ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ".

3499 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ وَالإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سُمِّيَتْ الْيَمَنَ لِأَنَّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالشَّأْمَ لِأَنَّهَا عَنْ يَسَارِ الْكَعْبَةِ وَالْمَشْأَمَةُ الْمَيْسَرَةُ وَالْيَدُ الْيُسْرَى الشُّؤْمَى وَالْجَانِبُ الأَيْسَرُ الأَشْأَمُ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. بَابُ الْمَنَاقِبِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَطْرَافِ وَكَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ قَالَ كِتَابُ الْمَنَاقِبِ فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ كِتَابٌ مُسْتَقِلٌّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ سِيَاقَ التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَنْ يَجْمَعَ فِيهِ أُمُورَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَبْدَأ إِلَى الْمُنْتَهَى، فَبَدَأَ بِمُقَدِّمَاتِهَا مِنْ ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ الشَّرِيفِ فَذَكَرَ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَنْسَابِ وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ أُمُورًا تَتَعَلَّقُ بِالْقَبَائِلِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ مُعْظَمَ فَخْرِهِمْ كَانَ بِالْأَنْسَابِ ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَمَائِلَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْهَا لِفَضَائِلِ أَصْحَابَهِ ; ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأَحْوَالِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَمَا جَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ الْمَبْعَثَ، ثُمَّ إِسْلَامَ الصَّحَابَةِ وَهِجْرَةَ الْحَبَشَةِ وَالْمِعْرَاجَ وَوُفُودَ الْأَنْصَارِ وَالْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَاقَ الْمَغَازِيَ عَلَى تَرْتِيبِهَا عِنْدَهُ ثُمَّ الْوَفَاةَ، فَهَذَا آخِرُ هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ تَرَاجِمِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَتَمَهَا بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 526

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الْآيَةَ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْمَنَاقِبَ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ بِالتَّقْوَى بِأَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ وَيَكُفَّ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: فَفِي صَحِيحَيْ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ وَتَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا. يَا أَيُّهَا النَّاسُ، النَّاسُ رَجُلَانِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَرْدَوَيْهِ ذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُقْرِي رَاوِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَهِمَ فِي قَوْلِهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَابْنُ عُقْبَةَ ثِقَةٌ وَابْنُ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَارِثُ، وَابْنُ حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، خَيْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

قَوْلُهُ: {لِتَعَارَفُوا} أَيْ: لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالنَّسَبِ، يَقُولُ: فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ اتَّقُوا الْأَرْحَامَ وَصِلُوهَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، وَالْأَرْحَامُ جَمْعُ رَحِمٍ، وَذَوُو الرَّحِمِ الْأَقَارِبُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نَسَبٌ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَالْأَرْحَامَ نَصْبًا وَعَلَيْهَا جَاءَ تَفْسِيرٌ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَرْحَامِ بِالْجَرِّ، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِهِ فَقِيلَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمْعٍ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَقَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا قِيلَ بِالرَّفْعِ فَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّا يُتَّقَى أَوْ مِمَّا يُسْأَلُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّسَبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ ذَوُو الْأَرْحَامِ الْمَأْمُورُ بِصِلَتِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ النَّسَبِ لَهُ فَصْلًا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ النَّسَبِ عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ بِأَنَّ فِي عِلْمِ النَّسَبِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ.

قَالَ: فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، فَمِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَاشِمِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَنْ يَلْقَاهُ بِنَسَبٍ فِي رَحِمٍ مُحَرَّمَةٍ لِيَجْتَنِبَ تَزْوِيجَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِمَّنْ يَرِثُهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِرُّهُ مِنْ صِلَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ مُعَاوَنَةٍ وَأَنْ يَعْرِفَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ نِكَاحَهُنَّ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَعْرِفَ الصَّحَابَةَ وَأَنَّ حُبَّهُمْ مَطْلُوبٌ، وَأَنْ يَعْرِفَ الْأَنْصَارَ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ لِثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ وَلِأَنَّ حُبَّهُمْ إِيمَانٌ وَبُغْضَهُمْ نِفَاقٌ، قَالَ: وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُفَرِّقُ فِي الْجِزْيَةِ وَفِي الِاسْتِرْقَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَحَاجَتُهُ إِلَى عِلْمِ النَّسَبِ آكَدُ، وَكَذَا مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجِزْيَةِ وَتَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ. قَالَ: وَمَا فَرَضَ عُمَرُ رضي الله عنه الدِّيوَانَ إِلَّا عَلَى الْقَبَائِلِ، وَلَوْلَا عِلْمُ النَّسَبِ مَا تَخَلَّصَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ النَّسَبُ: وَلَعَمْرِي لَمْ يُنْصِفْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ النَّسَبِ عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ، انْتَهَى.

وَهَذَا كَلَامٌ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَثْبُتُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا وَلَا يَثْبُتُ بَلْ وَرَدَ فِي الْمَرْفُوعِ حَدِيثُ تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ وَلَهُ طُرُقٌ أَقْوَاهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ خَارِجَةَ، وَجَاءَ هَذَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ سَاقَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّهِ عَلَى التَّعَمُّقِ فِيهِ حَتَّى يَشْتَغِلَ عَمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، وَحَمْلَ

ص: 527

مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْسَانِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي أَوْرَدَهَا ابْنُ حَزْمٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِ النَّسَبِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يَنْهَى عَنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ قَلَائِلَ.

قَوْلُهُ: (الشُّعُوبُ النَّسَبُ الْبَعِيدُ، وَالْقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ) هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثَالُ الشَّعْبِ مُضَرُ وَرَبِيعَةُ، وَمِثَالُ الْقَبِيلَةِ مَنْ دُونَ ذَلِكَ، وَأَنْشَدَ لِعَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ:

مِنْ شِعْبِ هَمْدَانَ أَوْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ أَوْ

خَوْلَانَ أَوْ مَذْحِجٍ هَاجُوا لَهُ طَرَبًا

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ الْكُوفِيُّ وَكَذَا سَائِرُ الْإِسْنَادِ، وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ.

قَوْلُهُ: (الشُّعُوبُ: الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ، وَالْقَبَائِلُ الْبُطُونُ) أَيْ: إنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْقَبَائِلِ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ النَّسَبِ الْبُطُونُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَلَّادِ بْنِ أَسْلَمَ، وَأَبِي كُرَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَكِنْ قَالَ فِي الْمَتْنِ: الشُّعُوبُ الْجِمَاعُ، أَيِ الَّذِي يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَاتِ الْبُطُونِ، قَالَ خَلَّادٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَبَائِلُ مِثْلُ بَنِي تَمِيمٍ، وَدُونُهَا الْأَفْخَاذُ، انْتَهَى. وَقَدْ قَسَّمَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ إِلَى شِعْبٍ ثُمَّ قَبِيلَةٍ ثُمَّ عِمَارَةٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ثُمَّ بَطْنٍ ثُمَّ فَخِذٍ ثُمَّ فَصِيلَةٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ قَبْلَ الشِّعْبِ الْجَذْمَ وَبَعْدَ الْفَصِيلَةِ الْعَشِيرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ بَعْدَ الْعَشِيرَةِ الْأُسْرَةَ ثُمَّ الْعِتْرَةَ، فَمِثَالُ الْجَذْمِ عَدْنَانُ، وَمِثَالُ الشِّعْبِ مُضَرُ، وَمِثَالُ الْقَبِيلَةِ كِنَانَةُ، وَمِثَالُ الْعِمَارَةِ قُرَيْشٌ، وَأَمْثِلَةُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا تَخْفَى. وَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ أَشْيَاءُ مُرَادِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ كَقَوْلِهِمْ: حَيٌّ وَبَيْتٌ وَعَقِيلَةٌ وَأَرُومَةٌ وَجُرْثُومَةٌ، وَرَهْطٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَرَتَّبَهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ النَّسَّابَةُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَرَّانِيِّ جَمِيعَهَا وَأَرْدَفَهَا فَقَالَ: جَذْمٌ ثُمَّ جُمْهُورٌ ثُمَّ شِعْبٌ ثُمَّ قَبِيلَةٌ ثُمَّ عِمَارَةٌ ثُمَّ بَطْنٌ ثُمَّ فَخِذٌ ثُمَّ عَشِيرَةٌ ثُمَّ فَصِيلَةٌ ثُمَّ رَهْطٌ ثُمَّ أُسْرَةٌ ثُمَّ عِتْرَةٌ، ثُمَّ ذُرِّيَّةٌ. وَزَادَ غَيْرُهُ فِي أَثْنَائِهَا ثَلَاثَةً وَهِيَ بَيْتٌ وَحَيٌّ وَجِمَاعٌ فَزَادَتْ عَلَى مَا ذَكَرَ الزُّبَيْرُ عَشَرَةً.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْقَبَائِلُ لِلْعَرَبِ كَالْأَسْبَاطِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى الْقَبِيلَةِ الْجَمَاعَةُ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا جُمِعَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ قَبِيلَةٌ أَخْذًا مِنْ قَبَائِلِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ غُصُونُهَا أَوْ مِنْ قَبَائِلِ الرَّأْسِ وَهُوَ أَعْضَاؤُهُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِهَا. وَيُقَالُ: الْمُرَادُ بِالشُّعُوبِ فِي الْآيَةِ بُطُونُ الْعَجَمِ وَبِالْقَبَائِلِ بُطُونُ الْعَرَبِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ. الْحَدِيثَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ مَضَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَى يُوسُفَ أَكْرَمَ النَّاسِ لِكَوْنِهِ رَابِعَ نَبِيٍّ فِي نَسَقٍ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ الشَّرَفُ فِي نَسَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَرَوَاهُ عَفَّانُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَالَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ عَفَّانَ، وَكُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ تَابِعِيٌّ وَسَطٌ كُوفِيٌّ أَصْلُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ أَبَا زُرْعَةَ ضَعَّفَهُ بِغَيْرِ قَادِحٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ مِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَمِمَّنْ كَانَ بِزِيَادَةِ فَاءٍ فِي الْجَوَابِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ مُضَرَ.

قَوْلُهُ: (مُضَرُ) هُوَ ابْنُ نِزَارِ ابْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَالنَّسَبُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَدْنَانَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ قَالَ عَلَّمَنِي أَبِي وَأَنَا غُلَامٌ نَسَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ شَيْبَةُ الْحَمْدِ بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَإِلَيْهِ جِمَاعُ قُرَيْشٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ فِهْرٍ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ بَلْ هُوَ

ص: 528

كِنَانِيٌّ، ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَقَامَ نَسَبُ النَّاسِ إِلَى مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَمُضَرُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ يُقَالُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِشُرْبِ اللَّبَنِ الْمَاضِرِ وَهُوَ الْحَامِضُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، نَعَمْ يمكن أَنْ يَكُونَ هَذَا اشْتِقَاقَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِهِ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَدَا الْإِبِلَ. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ عَدْنَانُ وَأَبُوهُ وَابْنُهُ مَعَدٌّ، وَرَبِيعَةُ، وَمُضَرُ، وَقَيْسٌ، وَتَمِيمٌ، وَأَسَدٌ، وَضَبَّةُ عَلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَسُبُّوا مُضَرَ وَلَا رَبِيعَةَ فَإِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ رَفَعَهُ: لَا تَسُبُّوا مُضَرَ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ) أَيِ الْمَذْكُورِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا - يَعْنِي مِنَ الْيَمَنِ - فَقَالَ: نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ مَرْفُوعًا: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَانْتَسَبَ حَتَّى بَلَغَ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: فَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ انْتَهَى. وَإِلَى النَّضْرِ تَنْتَهِي أَنْسَابُ قُرَيْشٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِلَى كِنَانَةَ تَنْتَهِي أَنْسَابُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ) كَأَنَّ قَائِلَهُ مُوسَى، لِأَنَّ قَيْسَ بْنَ حَفْصٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ جَزَمَ بِأَنَّهَا زَيْنَبُ، وَشَيْخُهُمَا وَاحِدٌ. لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُهَا إِلَّا زَيْنَبَ، فَكَأَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ شَيْخِهِمْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، كَانَ يَجْزِمُ بِهَا تَارَةً وَيَشُكُّ فِيهَا أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاءِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِكَوْنِهِ سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنْهُ فَلَمْ يَرَ حَذْفَهُ مِنَ السِّيَاقِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ: فَإِنَّهُ تَارَةً يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا صَنَعَ هُنَا، وَتَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُقَيَّرُ وَالْمُزَفَّتُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِالْمِيمِ وَالْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: هُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ النَّقِيرُ يَعْنِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ وَاضِحٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْهُ التَّكْرَارُ إِذَا ذُكِرَ الْمُزَفَّتُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ:

أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ.

قَوْلُهُ: (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ) أَيْ أُصُولًا مُخْتَلِفَةً، وَالْمَعَادِنُ جَمْعُ مَعْدِنٍ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً يَكُونُ نَفِيسًا وَتَارَةً يَكُونُ خَسِيسًا، وَكَذَلِكَ النَّاسُ.

قَوْلُهُ: (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ) وَجْهُ التَّشْبِيهِ: إن الْمَعْدِنَ لَمَّا كَانَ إِذَا اسْتُخْرِجَ ظَهَرَ مَا اخْتَفَى مِنْهُ وَلَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ فَكَذَلِكَ صِفَةُ الشَّرَفِ لَا تَتَغَيَّرُ فِي ذَاتِهَا بَلْ مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ رَأْسٌ فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّ شَرَفُهُ وَكَانَ أَشْرَفَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَشْرُوفِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا فَقِهُوا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّرَفَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هَذَا فَتَنْقَسِمُ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا:

الْأَوَّلُ: شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ، وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ.

الثَّانِي: شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ، وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَتَفَقَّهَ.

الثَّالِثُ: شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ، وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ ثُمَّ تَفَقَّهَ.

الرَّابِعُ:

ص: 529

شَرِيفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يُسْلِمْ وَتَفَقَّهَ، وَيُقَابِلُهُ مَشْرُوفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ.

فَأَرْفَعُ الْأَقْسَامِ: مَنْ شَرُفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ مَشْرُوفًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَتَفَقَّهَ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ، وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ مَشْرُوفًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ شَرِيفًا أَوْ مَشْرُوفًا، سَوَاءٌ تَفَقَّهَ أَوْ لَمْ يَتَفَقَّهْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ وَالشَّرَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، كَالْكَرَمِ وَالْعِفَّةِ وَالْحِلْمِ وَغَيْرِهَا، مُتَوَقِّيًا لِمَسَاوِيهَا كَالْبُخْلِ وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (إِذَا فَقِهُوا) بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا. ثَانِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَيَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ) أَيِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمْرَةِ، وَقَوْلُهُ: أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً أَيْ أَنَّ الدُّخُولَ فِي عُهْدَةِ الْإِمْرَةِ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَةِ تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ لَهُ مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ، لِمَا فِيهِ مِنْ صُعُوبَةِ الْعَمَلِ بِالْعَدْلِ وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى رَفْعِ الظُّلْمِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مُطَالَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْقَائِمِ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَا يَخْفَى خَيْرِيَّةُ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَيَّدَ الْإِطْلَاقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَعَرَفَ أَنَّ مَنْ فِيهِ مُرَادُهُ، وَأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ خَيْرَ النَّاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى يَقَعَ فِيهِ فَاخْتُلِفَ فِي مَفْهُومِهِ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَرِيصًا عَلَى الْإِمْرَةِ غَيْر رَاغِبٍ فِيهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ تَزُولُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ فِيهَا لِمَا يُرَى مِنْ إِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَيْهَا، فَيَأْمَنُ عَلَى دِينِهِ مِمَّنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ أَحَبَّ مَنْ أَحَبَّ اسْتِمْرَارَ الْوِلَايَةِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ حَتَّى قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ بَعْضُ مَنْ عُزِلَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ تَسُرَّهُ الْوِلَايَةُ بَلْ سَاءَهُ الْعَزْلُ.

وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَقَعَ فِيهِ أَيْ فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْرَهَهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ حَرَصَ عَلَى الشَّيْءِ وَرَغِبَ فِي طَلَبِهِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ وَقَلَّتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ يَحْصُلُ لَهُ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثَالِثُهَا:

قَوْلُهُ: (وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، فَقَدْ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُسْتَقِلًّا. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ اثْنَيْنِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: (النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ) قيل: هو خبر بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضُ النَّاسِ وَهُمْ سَائِرُ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ تَأْلِيفًا سَمَّيْتُهُ لَذَّةُ الْعَيْشِ، بِطُرُقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَأَذْكُرُ مَقَاصِدَهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مَعَ إِيضَاحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِمَامَةِ الشَّافِعِيِّ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْخُلَفَاءُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: صَحِبَتِ الْمُسْتَدِلَّ بِهَذَا غَفْلَةٌ مُقَارِنَةٌ لِصَمِيمِ التَّقْلِيدِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ الْقُرَشِيَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ التَّقَدُّمِ الْوَرَعَ مَثَلًا، فَالْمُسْتَوِيَانِ فِي خِصَالِ الْفَضْلِ إِذَا تَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا بِالْوَرَعِ مَثَلًا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى رَفِيقِهِ، فَكَذَلِكَ الْقُرَشِيَّةُ، فَثَبَتَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّافِعِيِّ وَمَزِيَّتُهُ عَلَى مَنْ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الصِّفَتَيْنِ وَتَمَيَّزه عَلَيْهِ بِالْقُرَشِيَّةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَلَعَلَّ الْغَفْلَةَ وَالْعَصَبِيَّةَ صَحِبَتِ الْقُرْطُبِيَّ فَلِلَّهِ الْأَمْرُ.

وَقَوْلُهُ: كَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ وَقَعَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ قُرَيْشًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسُكْنَاهَا الْحَرَمَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا إِلَى اللَّهِ تَوَقَّفَ غَالِبُ الْعَرَبِ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَقَالُوا نَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَأَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ تَبِعَتْهُمُ الْعَرَبُ وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَاسْتَمَرَّتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ فِي قُرَيْشٍ، فَصَدَقَ أَنَّ كَافِرَهُمْ كَانَ تَبَعًا لِكَافِرِهِمْ وَصَارَ مُسْلِمُهُمْ تَبَعًا لِمُسْلِمِهِمْ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ

ص: 530

ابْنُ مَيْسَرَةَ، وَقَعَ مَنْسُوبًا فِي تَفْسِيرِ: حم عسق، وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَدُخُولُهُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَاضِحٌ مِنْ جِهَةِ تَفْسِيرِ الْمَوَدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْآيَةِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَعْرِفَةَ النَّسَبِ الَّتِي تُحَقَّقُ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصِلُ الْأَرْحَامَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اللَّهِ خَالَفُوهُ وَقَاطَعُوهُ، فَأَمَرَهُمْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ:{الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فِي التَّفْسِيرِ وَقَوْلُهُ هُنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ كَذَا وَقَعَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى وَهُوَ القَطَّانُ، عَنْ شُعْبَةَ، وَوَقَعَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَاضِحَةٌ وَالْأُولَى مُشْكِلَةٌ لِأَنَّهَا تُوهِمُ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَنَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَشَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فَنُسِخَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعْنَى الْآيَةِ فَنُسِبَ إِلَى النُّزُولِ مَجَازًا، وَهُوَ كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:

وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا

يَقُولُ الْحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ

يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ بِالْمَعْنَى. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَنَزَلَتْ لِلْآيَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَتِي مِنْكُمْ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ فَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ بَعْضِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ خَفَاءُ مَعْنَاهَا عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَذَا صَرِيحٌ فِي رَفْعِهِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الصَّحَابِيَّ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (مِنْ هَاهُنَا) أَيِ الْمَشْرِقِ.

قَوْلُهُ: (جَاءَتِ الْفِتَنُ) ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ سَيَجِيءُ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَ الْمَشْرِقِ) أَيْ وَأَشَارَ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: إِشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هُمَا شَيْئَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وَالْبَثُّ هُوَ الْحُزْنُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْجَفَاءِ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَلِينُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَخْشَعُ لتذكره. وَالْمُرَادُ بِالْغِلَظِ أَنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْمُرَادَ وَلَا تَعْقِلُ الْمَعْنَى، وَقَدْ مَضَى فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ الْقَسْوَةِ بَدَلَ الْجَفَاءِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْفَدَّادِينَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي بَعْدَهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ ضَرُورَةِ أَنَّ النَّاسَ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ كَالْقَبَائِلِ، وَكَوْنُ الْأَتْقَى مِنْهُمْ هُوَ الْأَكْرَمُ انْتَهَى. وَلَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ يَرْجِعُ نَسَبُهُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُمْ كَانُوا أَجَلَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَقُرَيْشٌ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدُ فُرُوعِ مُضَرَ فَأَمَّا أَهْلُ الْيَمَنِ فَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَسَيَأْتِي لَهُمْ تَرْجَمَةٌ مِنْ نَسَبِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ) ظَاهِرُهُ نِسْبَةُ

ص: 531

الْإِيمَانِ إِلَى الْيَمَنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ يَمَانٍ يَمَنِيٌّ، فَحُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ وَعُوِّضَ بِالْأَلِفِ بَدَلَهَا، وَقَوْلُهُ يَمَانِيَةٌ هُوَ بِالتَّخْفِيفِ، وَحَكَى ابْنُ السَّيِّدِ فِي الِاقْتِضَابِ أَنَّ التَّشْدِيدَ لُغَةٌ. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْضًا عَنْ سِيبَوَيْهِ جَوَازَ التَّشْدِيدِ فِي يَمَانِيٍّ، وَأَنْشَدَ:

يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا

وَيَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظِ

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ نِسْبَةُ الْإِيمَانِ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ مَبْدَأَهُ مِنْهَا، وَمَكَّةُ يَمَانِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نِسْبَةُ الْإِيمَانِ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمَا يَمَانِيَّتَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حِينَئِذٍ بِتَبُوكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ وَنُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا الْأَصْلَ فِي نَصْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَكَى جَمِيعَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ إِذْعَانُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ مَشَقَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ وَقَوِيَ قِيَامُهُ بِهِ نُسِبَ إِلَيْهِ إِشْعَارًا بِكَمَالِ حَالِهِ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَفِي أَلْفَاظِهِ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ فَأَشَارَ إِلَى مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ لَا إِلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَرَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ إِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَمْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَوْجُودُ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ الْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَبْعَدَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ شَخْصٌ خَاصٌّ وَهُوَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ ذِكْرِ قَحْطَانَ زِيَادَةٌ فِي هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (سُمِّيَتْ الْيَمَنُ لِأَنَّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ الْوَاقِعَةِ، وَرَوَى عَنْ قُطْرُبٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْيَمَنُ يَمَنًا لِيُمْنِهِ، وَالشَّامُ شَأَمًا لِشُؤْمِهِ، وَقَالَ الْهَمْدَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ: لَمَّا ظَعَنَتِ الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ أَقْبَلَ بَنُو قَطَنِ بْنِ عَامِرٍ فَتَيَامَنُوا، فَقَالَتِ الْعَرَبُ: تَيَامَنَتْ بَنُو قَطَنٍ فَسُمُّوا الْيَمَنَ، وَتَشَاءَمَ الْآخَرُونَ فَسُمُّوا شَامًا. وَقِيلَ: إِنَّ النَّاسَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ حِينَ تَبَلْبَلَتْ بِبَابِلَ أَخَذَ بَعْضُهُمْ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ فَسُمُّوا يَمَنًا وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا فَسُمُّوا شَأمًا، وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ الْيَمَنُ بِيَمَنِ بْنِ قَحْطَانَ، وَسُمِّيَتِ الشَّامُ بِسَامِ بْنِ نُوحٍ، وَأَصْلُهُ شَامُ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ عُرِّبَ بِالْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَشْأَمَةُ الْمَيْسَرَةُ إِلَخْ) يُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أَيْ أَصْحَابُ الْمَيْسَرَةِ، وَيُقَالُ لِلْيَدِ الْيُسْرَى الشُّؤْمَى، قَالَ: وَيُقَالُ لِلْجَانِبِ الْأَيْسَرِ الْأَشْأَمُ انْتَهَى، وَيُقَالُ: الْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ أَصْحَابُ النَّارِ لِأَنَّهُمْ يُمَرُّ بِهِمْ إِلَيْهَا وَهِيَ عَلَى نَاحِيَةِ الشِّمَالِ، وَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَنَاوَلُونَ كُتُبَهُمْ بِالشِّمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ

3500 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ

ص: 532

أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".

[الحديث 3500 - طرفه في: 7139]

3501 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ".

[الحديث 3501 - طرفه في: 7140]

3502 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".

3503 -

وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ مُحَمَّدٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ إِلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ أَرَقَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".

[الحديث 3503 - طرفاه في: 3505، 6073]

3504 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَأَشْجَعُ وَغِفَارُ مَوَالِيَّ لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".

[الحديث 3504 - طرفه في: 3512]

3505 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَحَبَّ الْبَشَرِ إِلَى عَائِشَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِهَا وَكَانَتْ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلاَّ تَصَدَّقَتْ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهَا فَقَالَتْ أَيُؤْخَذُ عَلَى يَدَيَّ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبِأَخْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَامْتَنَعَتْ فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّونَ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ

ص: 533

إِذَا اسْتَأْذَنَّا فَاقْتَحِمْ الْحِجَابَ، فَفَعَلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ، فَأَعْتَقَتْهُمْ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُعْتِقُهُمْ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، فَقَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ - حِينَ حَلَفْتُ - عَمَلًا أَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ) هـ مْ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْجَهْمِ، وَرَوَى عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ: كَانَ سُكَّانُ مَكَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قُرَيْشٌ دُونَ سَائِرِ بَنِي النَّضْرِ حَتَّى رَحَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: مَنْ قُرَيْشٌ؟ قَالَ: ومِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا هُم وَلَدُ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَبِهِ جَزَمَ مُصْعَبٌ، قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ قُرَشِيًّا، وَقَدْ قَدَّمْتُ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ.

وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ نُسِبَ إِلَى قُرَيْشٍ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ: مَتَى سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ قَالَ: حِينَ اجْتَمَعَتْ إِلَى الْحَرَمِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا. فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ بِهَذَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ أَنَّ قُصَيًّا كَانَ يُقَالُ لَهُ الْقُرَشِيُّ، وَلَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قُرَيْشًا قَبْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَادِ: لَمَّا فَرَغَ قُصَيٌّ مِنْ نَفْيِ خُزَاعَةَ مِنَ الْحَرَمِ تَجَمَّعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَسُمِّيَتْ يَوْمَئِذٍ قُرَيْشًا لِحَالِ تَجَمُّعِهَا، وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ. وَقِيلَ: لِتَلَبُّسِهِمْ بِالتِّجَارَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْجَدَّ الْأَعْلَى جَاءَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَجَمِّعًا فِيهِ فَسُمِّيَ قُرَيْشًا، وَقِيلَ: مِنَ التَّقَرُّشِ وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا. وَقَدْ أَكْثَرَ ابْنُ دِحْيَةَ مِنْ نَقْلِ الْخِلَافِ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ قُرَيْشٍ قُرَيْشًا وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ تَسَمَّى بِهِ. وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَسَمَّى قُرَيْشًا قُرَيْشُ بْنُ بَدْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَ دَلِيلَ بَنِي كِنَانَةَ فِي حُرُوبِهِمْ، فَكَانَ يُقَالُ: قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ، فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ قُرَيْشًا، وَأَبُوهُ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ هِيَ سَيِّدَةُ الدَّوَابِّ الْبَحْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ سَادَةُ النَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ

ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَ

تْرُكُ فِيهِ لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا

هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ

يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا

وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ

يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: قُرَيْشٌ دَابَّةٌ فِي الْبَحْرِ لَا تَدَعُ دَابَّةً فِي الْبَحْرِ إِلَّا أَكَلَتْهَا، فَجَمِيعُ الدَّوَابِّ تَخَافُهَا. وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ. قُلْتُ: وَالَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ أَفْوَاهِ أَهْلِ الْبَحْرِ: الْقِرْشُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، لَكِنَّ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ شَاهِدٌ صَحِيحٌ، فَلَعَلَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الْأَخِيرَ مِنَ الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شِعْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ مُصَغَّرُ الْقِرْشِ الَّذِي بِكَسْرِ الْقَافِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُرَيْشٌ تَصْغِيرُ قِرْشٍ وَهِيَ دَابَّةٌ فِي الْبَحْرِ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَثٍّ وَلَا سَمِينٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، وَقِيلَ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرِشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ وَيَسُدُّهَا، وَالتَّقْرِيشُ هُوَ التَّفْتِيشُ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالطِّعَانِ، وَالتَّقْرِيشُ وَقْعُ الْأَسِنَّةِ، وَقِيلَ: التَّقَرُّشُ التَّنَزُّهُ عَنْ رَذَائِلِ الْأُمُورِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَقْرَشَتِ الشَّجَّةُ إِذَا صَدَّعَتِ الْعَظْمَ وَلَمْ تُهَشِّمْهُ، وَقِيلَ: أَقْرَشَ بِكَذَا إِذَا سَعَى فِيهِ فَوَقَعَ لَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الأول:

قَوْلُهُ: (كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ) سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْمَذْكُورِ وَأَذْكُرُ إِنْ شَاءَ

ص: 534

اللَّهُ شَرْحَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ قَحْطَانَ) هُوَ جِمَاعُ الْيَمَنِ، وَفِي إِنْكَارِ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مُقَيَّدٌ بِإِقَامَةِ الدِّينِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْقَحْطَانِيِّ إِذَا لَمْ تُقِمْ قُرَيْشٌ أَمْرَ الدِّينِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْخِلَافَةَ لَمْ تَزَلْ فِي قُرَيْشٍ وَالنَّاسُ فِي طَاعَتِهِمْ إِلَى أَنِ اسْتَخَفُّوا بِأَمْرِ الدِّينِ فَضَعُفَ أَمْرُهُمْ وَتَلَاشَى إِلَى أَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الْخِلَافَةِ سِوَى اسْمِهَا الْمُجَرَّدِ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ دُونَ أَكْثَرِهَا، وَسَيَأْتِي مِصْدَاقُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ بَيَّنَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ ذَكَرَ الْخُلَفَاءَ ثُمَّ قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ وَأَخْرَجَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِيهِ: وَرَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ كُلُّهُمْ صَالِحٌ وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ذِي مِخْمَرٍ الْحَبَشِيِّ مَرْفُوعًا: كَانَ الْمُلْكُ قَبْلَ قُرَيْشٍ فِي حِمْيَرَ وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنْكَارُ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ يَخْرُجُ الْقَحْطَانِيُّ فِي نَاحِيَةٍ لَا أَنَّ حُكْمَهُ يَشْمَلُ الْأَقْطَارَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْخَبَرِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ) هِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِلْحَمَوِيِّ سِيٌّ وَاحِدٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ بِالْمُعْجَمَةِ، وَأَنَّ فِيهَا أَحَدٌ بَدَلَ وَاحِدٍ، وَاسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ لَفْظَ أَحَدٍ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، تَقُولُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ جَاءَنِي وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدٌ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ إِلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ أَرَقَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا بَعْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ وَفِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ إِلَّا هَكَذَا مُعَلَّقًا، وَقَرَابَةُ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَقَارِبُ أُمِّهِ لِأَنَّهَا آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مُنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ إِخْوَةُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ وَهُوَ جَدُّ وَالِدِ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ زُهْرَةَ اسْمُ الرَّجُلِ، وَشَذَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَزَعَمَ أَنَّهُ اسْمُ امْرَأَتِهِ وَأَنَّ وَلَدَهَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّسَبُ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ إِمَامِ أَهْلِ النَّسَبِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ: إنَّ اسْمَ زُهْرَةَ، الْمُغِيرَةُ، فَإِنْ ثَبَتَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَالْمُغِيرَةُ اسْمُ الْأَبِ وَزُهْرَةُ اسْمُ امْرَأَتِهِ فَنُسِبَ أَوْلَادُهُمَا إِلَى أُمِّهِمْ ثُمَّ غَلَبَ ذَلِكَ حَتَّى ظُنَّ أَنَّ زُهْرَةَ اسْمُ الْأَبِ فَقِيلَ زُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ، وَزُهْرَةُ بِضَمِّ الزَّايِ بِلَا خِلَافٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ (ح قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ) أَمَّا طَرِيقُ أَبِي نُعَيْمٍ فَسَيَأْتِي بِهَذَا الْمَتْنِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا طَرِيقُ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: حَمَلَ الْبُخَارِيُّ مَتْنَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ عَلَى مَتْنِ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَيَعْقُوبُ إِنَّمَا قَالَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: غِفَارٌ وَأَسْلَمُ وَمُزَيْنَةُ وَمَنْ كَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وطئ، انْتَهَى. فَحَاصِلُهُ أَنَّ رِوَايَةَ يَعْقُوبَ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ الثَّوْرِيَّ يَرْوِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَيَعْقُوبُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ. قُلْتُ: وَلَمْ يُصِبْ أَبُو مَسْعُودٍ فِيمَا جَزَمَ بِهِ فَإِنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُتَغَايِرَانِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، وَرَوَى كُلًّا مِنْهُمَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ:

أَحَدُهُمَا: الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ عِنْدَهُ عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَالْآخَرُ: الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْأَعْرَجِ ; وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ لَاقْتَضَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي الْأَعْرَجُ وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ

ص: 535

صَالِحٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَنِسْبَةُ الْبُخَارِيِّ إِلَى الْوَهْمِ فِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِبَيَانٍ وَاضِحٍ قَاطِعٍ، وَمِنْ أَيْنَ يُوجَدُ وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ مُعَلَّقًا وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ هَذَا الْمَتْنِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ عَدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَتِ الْحُكُومَةُ فِي زَمَنِنَا لِقُرَيْشٍ فَكَيْفَ يُطَابِقُ الْحَدِيثَ؟ وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ خَلِيفَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَذَا فِي مِصْرَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْغَرْبِ هُوَ الْحَفْصِيُّ صَاحِبُ تُونُسَ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي حَفْصٍ رَقِيقِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ صَاحِبِ ابْنِ تُومَرْتَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ ادَّعَى أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ غَلَبَ أَتْبَاعُهُ عَلَى مُعْظَمِ الْغَرْبِ وَسُمُّوا بِالْخِلَافَةِ وَهُمْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ وَذُرِّيَّتُهُ، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى ذُرِّيَّةِ أَبِي حَفْصٍ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ قُرَيْشٍ ; وَقَدْ تَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ فَلَمْ يَكُنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ، وَإِنَّمَا ادَّعَاهُ بَعْضُ وَلَدِهِ لَمَّا غَلَبُوا عَلَى الْأَمْرِ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَيْسَ بِيَدِهِمُ الْآنَ إِلَّا الْمَغْرِبَ الْأَدْنَى، وَأَمَّا الْأَقْصَى فَمَعَ بَنِي الْأَحْمَرِ وَهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ، وَأَمَّا الْأَوْسَطُ فَمَعَ بَنِي مَرِينَ وَهُمْ مِنَ الْبَرْبَرِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَخَلِيفَةٌ مِنْ مِصْرَ فَصَحِيحٌ

(1)

وَلَكِنَّهُ لَا حَلَّ بِيَدِهِ وَلَا رَبْطَ وَإِنَّمَا لَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ الِاسْمُ فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَإِلَّا فَقَدْ خَرَجَ هَذَا الْأَمْرُ عَنْ قُرَيْشٍ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَيُحْتَمُلُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَى النَّظَرِ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ فِي مُعْظَمِ الْأَقْطَارِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ لَكِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ بِالْخِلَافَةِ لَا الِاسْتِقْلَالَ بِالْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَحَبَّ الْبَشَرِ إِلَى عَائِشَةَ) هُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ قَدْ تَوَلَّتْ تَرْبِيَتَهُ حَتَّى كَانَتْ تُكَنَّى بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا) أَيْ لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا مِمَّا يَأْتِيهَا مِنَ الْمَالِ. (يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهَا) أَيْ يُحْجَرَ عَلَيْهَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلًا أَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى انْعِقَادِ النَّذْرِ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِ عَائِشَةَ وَصَنِيعِهَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي وَأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْذَرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فَعَلَتْ ذَلِكَ تَوَرُّعًا لِتَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: تَمَنَّتْ أَنْ يَدُومَ لَهَا الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَتْهُ لِلْكَفَّارَةِ، أَيْ: تَصِيرُ تَعْتِقُ دَائِمًا، وَكَذَا مَنْ قَالَ: تَمَنَّتْ أَنَّهَا بَادَرَتْ إِلَى الْكَفَّارَةِ حِينَ حَلَفَتْ وَلَمْ تَكُنْ هَجَرَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَوَجْهُ بُعْدِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَهَا مِنَ الْعِتْقِ، فَكَيْفَ تَتَمَنَّى مَا لَا مَانِعَ لَهَا مِنْ إِيقَاعِهِ؟ ثُمَّ إنَّهُ يُقَيَّدُ بِاقْتِدَارِهَا عَلَيْهِ لَا إِلْزَامِهَا بِهِ مَعَ عَدَمِ الِاقْتِدَارِ، وَأَمَّا بُعْدُ الثَّانِي: فَلِقَوْلِهَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي: إِنَّهَا كَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا فَتَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ دَمْعُهَا خِمَارَهَا، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَظُنُّ أَنَّهَا مَا وَفَّتْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَفَّارَةِ. وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ التِّينِ وُقُوعَ

(1)

بل هو غير صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الطبعة الجديدة بالرياض من فتاويه (ج 4 ص 508): "وكانوا يقولون إنهم من أولاد فاطمة ويدعون الشرف، وأهل العلم بالنسب يقولون: ليس لهم نسب صحيح. ويقال: إن جدهم كان ربيب الشريف الحسيني، فادعوا الشرف لذلك". وانظر في مجلة الأزهر (25: 613) مقالة لنا عن اعتراف الإسماعيليين بأن عبيد الله المهدي من ذرية القداح، وأنهم يقولون بالتبني الروحي خصوصا في توارثهم إمامة دعوتهم - محب الدين.

ص: 536

الْحِنْثِ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ دُخُولِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا سَلَّمُوا عِنْدَ دُخُولِهِمْ رَدَّتْ عليهم السلام وَهُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَوَقَعَ الْحِنْثُ قَبْلَ أَنْ يَقْتَحِمَ الْحِجَابَ، انْتَهَى.

وَغَفَلَ عَمَّا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ وَفِيهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَعَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ التِّينِ لَوْ لَمْ يَرُدَّ هَذَا التَّصْرِيحَ لَكَانَ مُتَعَقَّبًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ إِذَا نَوَتْ إِخْرَاجَهُ وَلَا تَحْنَثُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ

3506 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ.

[الحديث 3506 - طرفاه في: 4984، 4987]

قَوْلُهُ: (بَابُ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ بِكِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا مَشْرُوحًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. ووَجْهُ دُخُولِهِ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ ظَاهِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌4 - بَاب نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ

مِنْهُمْ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ

3507 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّوقِ، فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ - لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ - فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ. فَقَالَ: مَا لَهُمْ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلَانٍ؟ قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ) أَيِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَنِسْبَةُ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْيَمَنُ فَجِمَاعُ نَسَبِهِمْ يَنْتَهِي إِلَى قَحْطَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ ابْنُ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَشْخَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ وَلَدِ هُودٍ عليه السلام، وَقِيلَ ابْنُ أَخِيهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ قَحْطَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ وَالِدُ الْعَرَبِ الْمُتَعَرِّبَةِ، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ وَالِدُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ فَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، كَعَادٍ وَثَمُودَ وَطَسْمَ وَجَدِيسَ وَعَمْلِيقَ وَغَيْرِهِمْ.

وَقِيلَ: إِنَّ قَحْطَانَ أَوَّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، وَعِمْ صَبَاحًا، وَزَعَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ إِلَى أَنَّ قَحْطَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّهُ قَحْطَانُ بْنُ الْهَمَيْسَعِ بْنِ تَيْمِ بْنِ نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي قِصَّةِ هَاجَرَ، حَيْثُ قَالَ وَهُوَ يُخَاطِبُ الْأَنْصَارَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ هَذَا

ص: 537

هُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي نَقْدِي، وَذَلِكَ أَنَّ عَدَدَ الْآبَاءِ بَيْنَ الْمَشْهُورِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ قَحْطَانَ مُتَقَارِبٌ مِنْ عَدَدِ الْآبَاءِ بَيْنَ الْمَشْهُورِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ عَدْنَانَ، فَلَوْ كَانَ قَحْطَانُ هُوَ هُودًا أَوِ ابْنَ أَخِيهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ عَصْرِهِ لَكَانَ فِي عِدَادِ عَاشِرِ جَدٍّ لِعَدْنَانَ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةَ آبَاءٍ أَوْ خَمْسَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ نَحْوَ أَرْبَعِينَ أَبًا فَذَاكَ أَبْعَدُ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مَعَ أَنَّهُ حَكَاهُ كَثِيرُونَ وَهُوَ أَرْجَحُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ فِي عَصْرِ بُخْتَنَصَّرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ وَاخْتِلَافٌ مُتَفَاوِتٌ حَتَّى أَعْرَضَ الْأَكْثَرُ عَنْ سِيَاقِ النَّسَبِ بَيْنَ عَدْنَانَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ جَمَعْتُ مِمَّا وَقَعَ لِي مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ، فَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ النَّسَبِ لِأَبِي رُؤْبَةَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ فَذَكَرَ فِيهِ فَصْلًا فِي نَسَبِ عَدْنَانَ فَقَالَ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ أَدِّ بْنِ أَدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ مُقَدَّمِ بْنِ هَمَيْسَعَ بْنِ نَبْتِ بْنَ قَيْدَارَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُ أَدَدِ بْنِ هَمَيْسَعَ بْنِ نَبْتِ بْنِ سَلَامَانَ

بْنِ حَمَلَ بْنِ نَبْتِ بْنِ قَيْدَارَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُ أَدَدِ بْنِ هَمَيْسَعَ الْمُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ يَسْرَحَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ مَالِكَ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ نَبْتِ بْنِ قَيْدَارَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ أُدِّ بْنِ أَدَدِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَرِيحِ بْنِ نُمَيْرِ بْنِ حَمِيلِ بْنِ مَنْحِيمَ بْنِ لَافِثَ بْنِ الصَّابُوحِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ نَابِتَ بْنِ قَيْدَارَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ أَرْبَعُونَ أَبًا قَالَ: وَاسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ رَخِيَا كَاتِبِ أَرْمِيَا النَّبِيِّ، وَكَانَ رَخِيَا قَدْ حَمَلَ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَيَالِيَ بُخْتَنَصَّرَ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ فَأَثْبَتَ نَسَبَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي كُتُبِهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَوَجَدْتُ طَائِفَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ قَدْ حَفِظَتْ لِمَعَدَّ أَرْبَعِينَ أَبًا بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، وَاحْتَجَّتْ فِي أَسْمَائِهِمْ بِأَشْعَارِ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ كَأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، قَالَ: فَقَابَلْتُهُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَوَجَدْتُ الْعَدَدَ مُتَّفِقًا وَاللَّفْظُ مُخْتَلِفًا. ثُمَّ سَاقَ أَسْمَاءَ أَرْبَعِينَ أَبًا بَيْنَهُمَا.

وَقَدْ وَجَدْتُ لِغَيْرِهِ حِكَايَةَ خِلَافٍ أَزْيَدَ مِمَّا حَكَاهُ، فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَدْنَانُ بْنُ أَدَدِ ابْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَنْدَرَ، وَعَنْهُ أَيْضًا عَدْنَانُ بْنُ أُدِّ بْنِ مُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ يَبْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ هُوَ عَدْنَانُ بْنُ أُدِّ بْنِ أَدَدِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَحَكَاهُ مُرَّةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَدَنِيِّ فَزَادَ فِيهِ بَيْنَ أَدَدٍ، وَالْهَمَيْسَعِ، زَيْدًا، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ، عَنْ دَغْفَلٍ النَّسَّابَةِ أَنَّهُ سَاقَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ أَبًا فَذَكَرَهَا وَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ فِي كِتَابِ النَّسَبِ لَهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ عَنْ أَبِي وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ أَنَّهُ سَاقَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ أَرْبَعِينَ أَبًا. قُلْتُ: فَذَكَرَهَا وَفِيهَا مُغَايَرَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، قَالَ هِشَامٌ: وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تَدْمُرَ يُكَنَّى أَبَا يَعْقُوبَ مِنْ مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَعُلَمَائِهِمْ أَنَّ رَخِيَا كَاتِبَ أَرْمِيَاءَ أَثْبَتَ نَسَبَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي عِنْدَهُ نَحْوُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَالْخِلَافُ مِنْ قِبَلِ اللُّغَةِ.

قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، كَذَا قَالَ، وَحَكَى الْهَمْدَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ ثُمَّ سَاقَ الْأَسْمَاءَ سِيَاقَةً أُخْرَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ بِاثْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَلَ وَلَا يُذْكَرَ وَلَا يُسْتَعْمَلَ بِمُخَالَفَتِهَا لِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ النَّاسِ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي تَرَجَّحَ فِي نَظَرِي أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْلَى، وَأَوْلَى مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: عَدْنَانُ هُوَ ابْنُ أُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ بَرِّيِّ بْنِ أَعْرَاقِ الثَّرَى، وَأَعْرَاقُ الثَّرَى هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْتُهُ آنِفًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ قَحْطَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَتَقَارَبُ عَدَدُ الْآبَاءِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ قَحْطَانَ، وَعَدْنَانَ وَبَيْنَ

ص: 538

إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي عَهْدِ مُوسَى عليه السلام لَا فِي عَهْدِ عِيسَى عليه السلام، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ عَدَدَ الْآبَاءِ بَيْنَ نَبِيِّنَا وَبَيْنَ عَدْنَانَ نَحْوُ الْعِشْرِينَ، فَيَبْعُدُ مَعَ كَوْنِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ نَبِيِّنَا وَبَيْنَ عِيسَى عليه السلام كَانَتْ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ طُولِ أَعْمَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَعَدٌّ فِي زَمَنِ عِيسَى، وَإِنَّمَا رَجَّحَ مَنْ رَجَّحَ كَوْنَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ الِاضْطِرَابِ فِيهِ اسْتِبْعَادُهُمْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَعَدٍّ وَهُوَ فِي عَصْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةُ آبَاءٍ أَوْ خَمْسَةٌ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَمَا فَرُّوا مِنْهُ وَقَعُوا فِي نَظِيرِهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، فَالْأَقْرَبُ مَا حَرَّرْتُهُ وَهُوَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ فِي زَمَنِ عِيسَى فَالْمُعْتَمَدُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الْآبَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ بَيْنَهُمَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مِنْهُمْ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَقْصُورًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيُّ أَفْعَى بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بَدَلَ الصَّادِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَوْلُهُ: ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ أَيِ ابْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَزْدِ، قَالَ الرَّشَاطِيُّ: الْأَزْدُ جُرْثُومَةٌ مِنْ جَرَاثِيمِ قَحْطَانَ، وَفِيهِمْ قَبَائِلُ، فَمِنْهُمْ الْأَنْصَارُ وَخُزَاعَةُ وَغَسَّانُ وَبَارِقُ وَغَامِدٌ وَالْعَتِيكُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْأَزْدُ بْنُ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ نَسَبَ حَارِثَةَ بْنَ عَمْرٍو مُتَّصِلٌ بِالْيَمَنِ، وَقَدْ خَاطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي أَسْلَمَ بِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ.

وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَنِي أَسْلَمَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى قَحْطَانَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي أَسْلَمَ مَا وَقَعَ فِي إِخْوَتِهِمْ خُزَاعَةَ مِنَ الْخِلَافِ هَلْ هُمْ مِنْ بَنِي قَحْطَانَ أَوْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْقَاعِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِنَاسٍ مِنْ أَسْلَمَ وَخُزَاعَةُ وَهُمْ يَتَنَاضَلُونَ فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا أَكْثَرَ، فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَأَجَابَ الْهَمْدَانِيُّ النَّسَّابَةُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ مِنْ جِهَةِ الْأُمَّهَاتِ، لِأَنَّ الْقَحْطَانِيَّةَ وَالْعَدْنَانِيَّةَ قَدِ اخْتَلَطُوا بالصهارة، فَالْقَحْطَانِيَّةُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ مِنْ جِهَةِ الْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ جَدِّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:

وَرِثْنَا مِنَ الْبُهْلُولِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ

وَحَارِثَةَ الْغِطْرِيفِ مَجْدًا مُؤَثَّلًا

مَآثِرَ مِنْ آلِ ابْنِ بِنْتِ ابْنِ مَالِكٍ

وَبِنْتِ ابْنِ إِسْمَاعِيلَ مَا أنْ تَحَوَّلَا

وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ كَمَا قَالَ الْهَمْدَانِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌5 - باب

3508 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إِلَّا كَفَرَ بالله، وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نسب فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.

[الحديث 3508 - طرفه في: 6045]

ص: 539

3509 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ".

3510 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ فَلَوْ أَمَرْتَنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنُبَلِّغُهُ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَى اللَّهِ خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ".

3511 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا هُوَ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الِادِّعَاءِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْيَمَنَ إِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى غَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِأَصْلِ الْبَابِ وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الْقَيْسِ لَيْسُوا مِنْ مُضَرَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ بِذِكْرِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ عَنِ الْحُسَيْنِ هُوَ ابْنُ وَاقِدٍ الْمُعَلِّمُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو ذَرٍّ وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ زَائِدَةَ، وَالتَّعْبِيرُ بِالرَّجُلِ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ حُكْمُهَا.

قَوْلُهُ: (ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ بِاللَّهِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَلَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَا الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ ثَبَتَ ذَاكَ فَالْمُرَادُ مَنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَالْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ غَيْرُ مُرَادٍ وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ لِفَاعِلِ ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِطْلَاقِ الْكُفْرِ أَنَّ فَاعِلَهُ فَعَلَ فِعْلًا شَبِيهًا بِفِعْلِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ نَسَبٌ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ دُونَ غَيْرِهِ وَمَعَ حَذْفِهَا يَبْقَى مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَحْذُوفًا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَلَفْظُ نَسَبٌ أَوْلَى مَا قُدِّرَ لِوُرُودِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَبَوَّأْ أَيْ لِيَتَّخِذْ مَنْزِلًا مِنَ النَّارِ، وَهُوَ إِمَّا دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ، وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ، وَقَدْ

ص: 540

يَتُوبُ فَيَسْقُطُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ

(1)

فِي حَدِيثِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاءِ مِنَ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ وَالِادِّعَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَيَّدَ فِي الْحَدِيثَ بِالْعِلْمِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْحَالَتَيْنِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا لِأَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا

يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ الْمُتَعَمِّدِ لَهُ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى الْمَعَاصِي لِقَصْدِ الزَّجْرِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَحْرِيمُ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ لَيْسَ هُوَ لِلْمُدَّعِي، فَيَدْخُلُ فِيهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ كُلُّهَا مَالًا وَعِلْمًا وَتَعَلُّمًا وَنَسَبًا وَحَالًا وَصَلَاحًا وَنِعْمَةً وَوَلَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيَزْدَادُ التَّحْرِيمُ بِزِيَادَةِ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَصْحِيحِهِمْ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ بِغَيْرِ مُسَخِّرٍ لِدُخُولِ الْمُسَخِّرِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُهُ أَيْضًا يَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْقَانُونُ مَنْصُوصًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى يُخَصَّ بِهِ عُمُومُ هَذَا الْوَعِيدِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إِيصَالُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ فَتَرْكُ مُرَاعَاةِ هَذَا الْقَدْرِ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ مِنْ إِيصَالِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ أَوْلَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ) بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَرِيزٌ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ زَايٌ، وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ عَوَالِي الْبُخَارِيِّ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ وَهُوَ دِمَشْقِيٌّ، وَاسْمُ جَدِّهِ كَعْبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَيُقَالُ: يسر بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، فَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ الْقَرِينِ عَنِ الْقَرِينِ، وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ الطَّائِفِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ لِيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَمَاتَ سَنَةَ بِضْعٍ وَمِائَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَلِقَاءً لِلْمَشَايِخِ. لَكِنَّهُ أَدْخَلَ بَيْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَوَاثِلَةَ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ بُخْتٍ رَأَيْتُهُ فِي مُسْتَخْرَجِ ابْنِ عَبْدَانَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، وَهِشَامٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَهَذَا عِنْدِي مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، أَوْ هُوَ مَقْلُوبٌ كَأَنَّهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَا) بِكَسْرِ الْفَاءِ مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ وَهُوَ جَمْعُ فِرْيَةٍ وَالْفِرْيَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتُ تَقُولُ فَرَى بِفَتْحِ الرَّاءِ فُلَانٌ كَذَا إِذَا اخْتَلَقَ يَفْرِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَافْتَرَى اخْتَلَقَ.

قَوْلُهُ: (أَوْ يُرِيَ) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ يَدَّعِي أَنَّ عَيْنَيْهِ رَأَتَا فِي الْمَنَامِ شَيْئًا مَا رَأَتَاهُ، وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وَاثِلَةَ: أَنْ يَفْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَيَقُولُ رَأَيْتُ وَلَمْ يَرَ فِي الْمَنَامِ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَقُولُ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ وَضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْقَافِ وَتَثْقِيلِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ تَشْدِيدُ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْخَبَرُ عَنِ الشَّيْءِ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ، وَالِادِّعَاءُ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ، وَالْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ فَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنَامِ فَيَأْتِي فِي التَّعْبِيرِ، وَأَمَّا الِادِّعَاءُ فَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِيمَا قَبْلَهُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي التَّشْدِيدِ فِيهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاضِحٌ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَقَدِ اشْتَدَّ النَّكِيرُ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} فَسَوَّى بَيْنَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، وَقَالَ:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(1)

صوابه "كتاب العلم".

ص: 541

وَجَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ وَأَمَّا الْمَنَامُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ جُزْءًا مِنَ الْوَحْيِ كَانَ الْمُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقَعْ كَالْمُخْبِرِ عَنِ اللَّهِ بِمَا له لَمْ يُلْقِهِ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ مَلَكَ الرُّؤْيَا فَيُرِيَ النَّائِمَ مَا شَاءَ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْكَذِبِ يَكُونُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى الْمَلَكِ، كَمَا أَنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْسُبُ إِلَيْهِ شَرْعًا لَمْ يَقُلْهُ، وَالشَّرْعُ غَالِبًا إِنَّمَا تَلَقَّاهُ

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ فَيَكُونُ الْكَاذِبُ فِي ذَلِكَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى الْمَلَكِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْرِبَةِ مِنْهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي جَمْرَةَ هُوَ بِالْجِيمِ، وَقَوْلُهُ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِأَرْبَعٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالشَّيْءُ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مُمَيِّزُهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ جُلَّ الْعَرَبِ هُمْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ، وَلَا خِلَافَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي أَنَّ الْفِتْنَةَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الْمَشْرِقِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، فَاثْنَانِ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الثَّالِثِ.

‌6 - بَاب ذِكْرِ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ

3512 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ وَأَشْجَعُ، مَوَالِيَّ، لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

3513 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَى الْمِنْبَرِ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".

3514 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا".

3515 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ جُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَقَالَ رَجُلٌ خَابُوا وَخَسِرُوا فَقَالَ هُمْ خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ".

[الحديث 3515 - طرفاه في: 3516، 6635]

3516 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ

ص: 542

الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةَ ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ شَكَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَأَحْسِبُهُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ".

3523 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ أَوْ قَالَ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَسَدٍ وَتَمِيمٍ وَهَوَازِنَ وَغَطَفَانَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ) هَذِهِ خَمْسُ قَبَائِلَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْمَكَانَةِ دُونَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَبَنِي تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَانُوا أَسْرَعَ دُخُولًا فِيهِ مِنْ أُولَئِكَ فَانْقَلَبَ الشَّرَفُ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نَسَبِهِمْ فِي الْبَابِ الْمَاضِي، وَأَمَّا غِفَارٌ فَبِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَهُمْ بَنُو غِفَارِ بْنِ مُلَيْلٍ بِمِيمٍ وَلَامَيْنِ مُصَغَّرٌ ابْنِ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَسَبَقَ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَأَخُوهُ أَنِيسٌ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ قَرِيبًا، وَرَجَعَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مُزَيْنَةُ فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ وَهُوَ اسْمُ امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ ابْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ، وَهِيَ مُزَيْنَةُ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ، وَهِيَ أُمُّ أَوْسٍ وَعُثْمَانَ ابْنَيْ عَمْرٍو، فَوَلَدُ هَذَيْنِ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُزَيْنَةَ وَالْمُزَنِيُّونَ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ عَبْدِ نُهْمٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَمُّهُ خُزَاعِيُّ بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ، وَإِيَاسُ بْنُ هِلَالٍ وَابْنُهُ قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ وَهَذَا جَدُّ الْقَاضِي إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَآخَرُونَ، وَأَمَّا جُهَيْنَةُ فَهُمْ بَنُو جُهَيْنَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ ابْنِ إِلْحَافٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَزْنُ إِلْيَاسَ بْنِ قُضَاعَةَ، مِنْ مَشْهُورِي الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاخْتُلِفَ فِي قُضَاعَةَ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ مِنْ حِمْيَرَ فَيَرْجِعُ نَسَبُهُمْ إِلَى قَحْطَانَ، وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. وَأَمَّا أَشْجَعُ فَبِالْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ وَزْنُ أَحْمَرَ وَهُمْ بَنُو أَشْجَعَ بْنِ رَيْثٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ ابْنِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ، مِنْ مَشْهُورِي الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفٍ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْقَبَائِلَ الْخَمْسَ مِنْ مُضَرَ، أَمَّا مُزَيْنَةُ وِغِفَارُ وَأَشْجَعُ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَسْلَمُ وَجُهَيْنَةُ فَعَلَى قَوْلٍ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي مقايلهم وَهُمْ تَمِيمٌ وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَهَوَازِنُ، جَمِيعُهُمْ مِنْ مُضَرَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ظَاهِرَ مَكَّةَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ فَقَتَلَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ مَرَارَةَ الْأَسَدِيُّ، هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ فَقَتَلَتْ خُزَاعَةُ فَضَالَةَ بِصَاحِبِهَا فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ فَبَرِحَتْ بَنُو أَسَدٍ عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَحَالَفُوا غَطَفَانَ فَصَارَ يُقَالُ لِلطَّائِفَتَيْنِ الْحَلِيفَانِ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، وَتَأَخَّرَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ آلُ جَحْشِ بْنِ رَيَّابٍ فَحَالَفُوا بَنِي أُمَيَّةَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ آلُ جَحْشٍ وَهَاجَرُوا احْتَوَى أَبُو سُفْيَانَ عَلَى دُورِهِمْ بِذَلِكَ الْحَلِفِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ قُرَيْشٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْأَنْصَارِ فِي

ص: 543

أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَوَالِيَّ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ إِضَافَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيْ أَنْصَارِي، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا وَإِنْ كَانَ لِلْمَوَالِي عِدَّةُ مَعَانٍ، وَيُرْوَى بِتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَوَالِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِهَؤُلَاءِ الْقَبَائِلِ، وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَالشَّرَفُ يَحْصُلُ لِلشَّيْءِ إِذَا حَصَلَ لِبَعْضِهِ، قِيلَ: إِنَّمَا خُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُسْبَوْا كَمَا سُبِيَ غَيْرُهُمْ، وَهَذَا إِذَا سُلِّمَ يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَبَرِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِرْقَاقِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ الرِّقِّ، وَهَذَا بَعِيدٌ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ) هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا) هُوَ لَفْظُ خَبَرٍ يُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَلَى بَابِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعُصَيَّةُ هُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُنْسَبُونَ إِلَى عُصَيَّةَ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ ابْنِ خُفَافٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَاءَيْنِ مُخَفَّفٌ ابْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بُهْثَةَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ ابْنِ سُلَيْمٍ، وَإِنَّمَا قَالَ فِيهِمْ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَاهَدُوهُ فَغَدَرُوا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ طُرُقٌ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ بَنِي غِفَارٍ كَانُوا يَسْرِقُونَ الْحَاجَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَدَعَا لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أَسْلَمُوا لِيُمْحَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَارُ، وَوَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ اسْتِعْمَالِ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ مَا يَلَذُّ عَلَى السَّمْعِ لِسُهُولَتِهِ وَانْسِجَامِهِ، وَهُوَ مِنْ الِاتِّفَاقَاتِ اللَّطِيفَةِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا بَابُ ابْنِ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَ أبي ذَرٍّ قَبْلَ بَابِ قِصَّةِ الْحَبَشِ وَسَيَأْتِي. وَوَقَعَ بَعْدَهُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ بَابُ قِصَّةِ زَمْزَمَ وَفِيهِ حَدِيثُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَ بَابِ قِصَّةِ خُزَاعَةَ وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فِي مَكَانِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ: قِيلَ: هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَقِيلَ: ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَهَذَا الثَّانِي وَهْمٌ فَإِنَّ الذُّهْلِيَّ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ حَوْشَبٍ فَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ {اقْتَرَبَتِ} وَفِي الْإِكْرَاهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَإِنَّهُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ) هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْمَنِيعِيِّ أَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَيُّوبَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ: قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى (أَرَأَيْتُمْ) الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.

قَوْلُهُ: (خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) أَيِ ابْنِ مُرٍّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ابْنِ أُدِّ بِضَمِّ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ ابْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ، وَفِيهِمْ بُطُونٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: (وَبَنِي أَسَدٍ) أَيِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا، وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ عَقِبَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَارْتَدَّ هَؤُلَاءِ مَعَ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَارْتَدَّ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ وَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ مَعَ سَجَاحٍ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْفَاءِ وَالتَّخْفِيفِ أَيِ ابْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ، وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ الْعُزَّى فَصَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ، وَبَنُوهُ يُعْرَفُونَ بِبَنِي الْمُحَوَّلَةِ، (وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ) أَيِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَسَيَأْتِي نَسَبُ

ص: 544

هَوَازِنَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ نَعَمْ

(1)

) هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ وَهُوَ بَصْرِيٌّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ، وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: (إنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَبَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ تَحْتَانِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْمُثَنَّاةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ شَكَّ) هُوَ مَقُولُ شُعْبَةَ وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ لَا أَثَرَ لِشَكِّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (لَأَخْيَرَ مِنْهُمْ) كَذَا فِيهِ بِوَزْنِ أَفْعَلَ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَالْمَشْهُورَةُ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَإِنَّمَا كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ فَاعِلِ قَالَ الثَّانِي، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِذَا قَالَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلًا وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبُ وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ فَقَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ.

قَوْلُهُ: (وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ) فِيهِ تَقْيِيدٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرُّ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

قَوْلُهُ: (وَهَوَازِنُ وَغَطَفَانُ) أَمَّا غَطَفَانُ فَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا هَوَازِنُ فَذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ بَنِي هَوَازِنَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَذِكْرُ هَوَازِنَ أَشْمَلُ مِنْ ذِكْرِ بَنِي عَامِرٍ، وَمِنْ قَبَائِلِ هَوَازِنَ غَيْرُ بَنِي عَامِرٍ: بَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَبَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَثَقِيفٌ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَالْجَمِيعُ يَجْمَعُهُمْ هَوَازِنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْفَاءِ وَالتَّخْفِيفِ - ابْنِ قَيْسٍ.

‌7 - باب ذِكْرِ قَحْطَانَ

3517 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ.

[الحديث 3517 - طرفه في: 7117]

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ قَحْطَانَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَهَلْ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ أَمْ لَا؟ وَإِلَى قَحْطَانَ تَنْتَهِي أَنْسَابُ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَكِنْدَةَ وَهَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ الدَّيْلِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَأَبُو الْغَيْثِ شَيْخُهُ اسْمُهُ سَالِمٌ.

قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَلَكِنْ جَوَّزَ الْقُرْطُبِيُّ أَنْ يَكُونَ جَهْجَاهُ الَّذِي وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ،

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: قوله: "نعم" ليس بالمتن الذي بأيدينا، ولعله زيادة من قلم الناسخ، أو نسخة وقعت للشارح

ص: 545

أَخْرَجَهُ عَقِبَ حَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ) هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ، شَبَّهَهُ بِالرَّاعِي وَشَبَّهَ النَّاسَ بِالْغَنَمِ، وَنُكْتَةُ التَّشْبِيهِ التَّصَرُّفُ الَّذِي يَمْلِكُهُ الرَّاعِي فِي الْغَنَمِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَقَدْ رَوَى نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ أَرَطْأَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ - أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - أَنَّ الْقَحْطَانِيَّ يَخْرُجُ بَعْدَ الْمَهْدِيِّ وَيَسِيرُ عَلَى سِيرَةِ الْمَهْدِيِّ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسِ بْنِ جَابِرٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: يَكُونُ بَعْدَ الْمَهْدِيِّ، الْقَحْطَانِيُّ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ دُونَهُ، وَهَذَا الثَّانِي مَعَ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَالْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا أَصْلَحُ إِسْنَادًا مِنْهُ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام إِذَا نَزَلَ يَجِدُ الْمَهْدِيَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْقَحْطَانِيَّ يَعِيشُ فِي الْمُلْكِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ فِي زَمَنِ عِيسَى يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ وَالْأَمْرُ إِنَّمَا هُوَ لِعِيسَى؟! وَيُجَابُ بِجَوَازِ أَنْ يُقِيمَهُ عِيسَى نَائِبًا عَنْهُ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ عَامَّةٍ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌8 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ دَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ

3518 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُهُمْ، فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا نَقْتُلُ يَا نبي اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.

[الحديث 3518 - طرفاه في: 4905، 4907]

3519 -

حَدَّثَنا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح وَعَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) يُنْهَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ الِاسْتِغَاثَةُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحَرْبِ. كَانُوا يَقُولُونَ: يَا آلَ فُلَانٍ، فَيَجْتَمِعُونَ فَيَنْصُرُونَ الْقَائِلَ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْفَوَائِدِ الْأَصْبَهَانِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَّرَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ

ص: 546

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: لَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ لَيْسَتْ حَرَامًا وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي الْوَصَايَا بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، فَعِنْدَ الْأَكْثَرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ.

قَوْلُهُ: (غَزَوْنَا) هَذِهِ الْغَزْوَةُ هِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ.

قَوْلُهُ: (ثَابَ مَعَهُ) بِمُثَلَّثَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ أَيِ اجْتَمَعَ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ لَعَّابٌ) أَيْ بَطَّالٌ، وَقِيلَ: كَانَ يَلْعَبُ بِالْحِرَابِ كَمَا تَصْنَعُ الْحَبَشَةُ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ جَهْجَاهُ بْنُ قَيْسٍ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ أَجِيرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْأَنْصَارِيُّ هُوَ سِنَانُ بْنُ وَبْرَةَ حَلِيفُ بَنِي سَالِمٍ الْخَزْرَجِيُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ.

قَوْلُهُ: (فَكَسَعَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَدَاعَوْا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِسُكُونِ الْوَاوِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ تَدَاعَوَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا تَدَاعَيَا بِالْيَاءِ عِوَضُ الْوَاوِ، وَكَأَنَّهُ بَقَّاهَا عَلَى أَصْلِهَا بِالْوَاوِ.

قَوْلُهُ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ) أَيْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ: الْكَسْعَةُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (أَلَا نَقْتُلُ) بِالنُّونِ وَبِالْمُثَنَّاةِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ) اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ عُمَرُ: يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُ هَذَا الْخَبِيثَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَهُوَ مَوْصُولٌ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ شَيْخِهِ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ مُفَرَّقًا فَحَدَّثَ بِهِ ; فَنُقِلَ عَنْهُ كَذَلِكَ.

‌9 - بَاب قِصَّةِ خُزَاعَةَ

3520 -

حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ، أَبُو خُزَاعَةَ.

3521 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ".

[الحديث 3521 - طرفه في: 4623]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَّةِ خُزَاعَةَ) اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِمْ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ بِاللَّامِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فِي أَسْلَمَ، وَأَسْلَمُ هُوَ عَمُّ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ لُحَيٍّ، رَبِيعَةُ، وَقَدْ صَحَّفَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ وَالصَّوَابُ

ص: 547

بِاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ آخِرَهُ مُصَغَّرٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: رَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ، وَفِيهِ تَغْيِيرٌ لَكِنْ أَفَادَ أَنَّ كُنْيَة عَمْرٍو أَبا ثُمَامَةَ، وَيُقَالُ لِخُزَاعَةَ بَنُو كَعْبٍ، نُسِبُوا إِلَى جَدِّهِمْ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ سَبَأ بِسَبَبِ سَيْلِ الْعَرِمِ نَزَلَ بَنُو مَازِنٍ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ غَسَّانَ، فَمَنْ أَقَامَ بِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ غَسَّانِيٌّ، وَانْخَزَعَتْ مِنْهُمْ بنو عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ عَنْ قَوْمِهِمْ فَنَزَلُوا مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَسُمُّوا خُزَاعَةَ، وَتَفَرَّقَتْ سَائِرُ الْأَزْدِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

وَلَمَّا نَزَلْنَا بَطْنَ مُرٍّ تَخَزَّعَتْ

خُزَاعَةُ مِنَّا فِي جُمُوعٍ كَرَاكِرِ

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ خُزَاعَةَ مِنْ مُضَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ خِنْدَفَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا فَاءٌ اسْمُ امْرَأَةِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَاسْمُهَا لَيْلَى بِنْتُ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، لُقِّبَتْ بِخِنْدَفَ لِمِشْيَتِهَا، وَالْخَنْدَفَةُ الْهَرْوَلَةُ، وَاشْتُهِرَ بَنُوهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا دُونَ أَبِيهِمْ لِأَنَّ إِلْيَاسَ لَمَّا مَاتَ حَزِنَتْ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا بِحَيْثُ هَجَرَتْ أَهْلَهَا وَدَارَهَا وَسَاحَتْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ، فَكَانَ مَنْ رَأَى أَوْلَادَهَا الصِّغَارَ يَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيُقَالُ: بَنُو خِنْدَفَ. إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا ضَيَّعَتْهُمْ، وَقَمَعَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ خَفِيفَةٌ، وَيُقَالُ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَعْنِي نِسْبَةَ خُزَاعَةَ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى مُضَرَ فَزَعَمَ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا مَاتَ قَمَعَةُ بْنُ خِنْدَفَ كَانَتِ امْرَأَتُهُ حَامِلًا بِلُحَيٍّ فَوَلَدَتْهُ وَهِيَ عِنْدَ حَارِثَةَ فَتَبَنَّاهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُضَرَ بِالْوِلَادَةِ وَمِنَ الْيَمَنِ بِالتَّبَنِّي.

وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ سَبَبَ قِيَامِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ بِأَمْرِ الْكَعْبَةِ وَمَكَّةَ أَنَّ أُمَّهُ فُهَيْرَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، وَكَانَ أَبُوهَا آخِرَ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ مَكَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ، فَقَامَ بِأَمْرِ الْبَيْتِ سِبْطُهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَصَارَ ذَلِكَ فِي خُزَاعَةَ بَعْدَ جُرْهُمٍ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ حُرُوبٌ إِلَى أَنِ انْجَلَتْ جُرْهُمٌ عَنْ مَكَّةَ، ثُمَّ تَوَلَّتْ خُزَاعَةُ أَمْرَ الْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُمْ يُدْعَى أَبَا غُبْشَانَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيْضًا وَاسْمُهُ الْمُحَرِّشُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ابْنُ حُلَيْلٍ بِمُهْمَلَةٍ وَلَامَيْنِ مُصَغَّرٌ ابْنُ حَبْشِيَّةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ثُمَّ يَاءٌ نَسَبُ ابْنِ سَلُولٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ابْنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَهُوَ خَالُ قُصَيِّ ابْنِ كِلَابٍ أَخُو أُمِّهِ حُبِّي بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ مَعَ الْإِمَالَةِ، وَكَانَ فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ فَخَدَعَهُ قُصَيٌّ فَاشْتَرَى مِنْهُ أَمْرَ الْبَيْتِ بِأَذْوَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَيُقَالُ بِزِقِّ خَمْرٍ، فَغَلَبَ قُصَيٌّ حِينَئِذٍ عَلَى أَمْرِ الْبَيْتِ، وَجَمَعَ بُطُونَ بَنِي فِهْرٍ وَحَارَبَ خُزَاعَةَ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ ; وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:

أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا

بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ

وَشَرَعَ قُصَيٌّ لِقُرَيْشٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، فَكَانَ يَصْنَعُ الطَّعَامَ أَيَّامَ مِنًى وَالْحِيَاضَ لِلْمَاءِ، فَيُطْعِمُ الْحَجِيجَ وَيَسْقِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ، فَإِذَا وَقَعَ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ اجْتَمَعُوا فِيهَا وَعَقَدُوهُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفَ أَبُو خُزَاعَةَ) أَيْ هُوَ أَبُو خُزَاعَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهَذَا السَّنَدِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ خُزَاعَةُ بْنُ قَمَعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خِنْدَفَ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ; وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَمْرٌو أَبُو خُزَاعَةَ بْنُ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفَ وَهَذَا يُوَافِقُ الْأَوَّلَ لَكِنْ بِحَذْفِ لُحَيٍّ، وَبِأَنْ يُعْرَبَ ابْنُ قَمَعَةَ إعْرَابَ عَمْرٍو لَا إِعْرَابَ أَبُو خُزَاعَةَ، وَأَصْوَبُهَا الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا رَوَى أَبُو حُصَيْنٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَتَمَّ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفَ يَجُرُّ

ص: 548

قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْكُبْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ.

وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوُهُ، وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّهُ قَالَ: عَمْرُو بْنُ قَمَعَةَ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفَ أَبُو خُزَاعَةَ وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ مُرْسَلًا، وَفِيهِ: فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ؟ قَالَ: أَبُو هَؤُلَاءِ الْحَيِّ مِنْ خُزَاعَةَ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ سَبَبَ عِبَادَةِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْأَصْنَامَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَاسْتَوْهَبَهُمْ وَاحِدًا مِنْهَا وَجَاءَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَنَصَبَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ هُبَلُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ جُرْهُمٍ قَدْ فَجَرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَسَافُ بِامْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا نَائِلَةُ فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا حَجَرَيْنِ، فَأَخَذَهُمَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَنَصَبَهُمَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَصَارَ مَنْ يَطُوفُ يَتَمَسَّحُ بِهِمَا، يَبْدَأُ بِأَسَافَ وَيَخْتِمُ بِنَائِلَةَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ كَانَ لَهُ تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ أَبُو ثُمَامَةَ فَأَتَاهُ لَيْلَةً، فَقَالَ: أَجِبْ أَبَا ثُمَامَةَ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ مِنْ تِهَامَةَ، فَقَالَ: ادْخُلْ بِلَا مَلَامَةَ، فَقَالَ: ايْتِ سَيْفَ جُدَّةَ، تَجِدْ آلِهَةً مُعَدَّةً، فَخُذْهَا وَلَا تَهَبْ، وَادْعُ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَبْ.

قَالَ: فَتَوَجَّهَ إِلَى جُدَّةَ فَوَجَدَ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَهِيَ وَدٌّ، وَسُوَاعٌ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرٌ، فَحَمَلَهَا إِلَى مَكَّةَ وَدَعَا إِلَى عِبَادَتِهَا فَانْتَشَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فِي الْعَرَبِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ شَرْحِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ إِنْ شَاءَ تَعَالَى.

قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ الْخُزَاعِيُّ) كَذَا وَقَعَ نَسَبُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَفْظُهُ: أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ أَبُو خُزَاعَةَ، وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِسْبَةِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ إِلَى مُضَرَ، فَإِنَّ عَامِرًا هُوَ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ بْنِ سَبَأ وَهُوَ جَدُّ جَدِّ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ عِنْدَ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُسِبَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّبَنِّي كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوَصِيلَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌10 - باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

‌11 - بَاب قِصَّةِ زَمْزَمَ

3522 -

حَدَّثَنَا زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَخْزَمَ، قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ:، حَدَّثَنِي مُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ الْقَصِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِإِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقُلْتُ لِأَخِي: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ. فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ. فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا. ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ

ص: 549

عَنْهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فَقَالَ: كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ وَلَا أُخْبِرُهُ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَسْأَلَ عَنْهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ. قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي. قَالَ: فَقَالَ: مَا أَمْرُكَ، وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ.

فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ، هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ، فَاتَّبِعْنِي، ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا أَخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي، وَامْضِ أَنْتَ. فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَعَرَضَهُ، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ، وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ. فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ؟! فَأَقْلَعُوا عَنِّي، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالْأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالْأَمْسِ، وَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالْأَمْسِ. قَالَ: فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رحمه الله.

[الحديث 3522 - طرفه في: 3861]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَّةِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَكَأَنَّهُ أَوْلَى لِأَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ سَتَأْتِي بَعْدَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَسَعْدٍ وَغَيْرِهِمَا.

وَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ هُنَا قِصَّةُ زَمْزَمَ وَوَجْهُ تَعَلُّقِهَا بِقِصَّةِ أَبِي ذَرٍّ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِمَاءِ زَمْزَمَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَامَ فِيهَا بِمَكَّةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌12 - بَاب قصة زمزم وجَهْلِ الْعَرَبِ

3523 -

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال: أسلم وغفار وشيء من مزينة وجهينة - أو قال: شيء من جهينة أو مزينة - خير عند الله، أو قال: يوم القيامة، من أسد وتميم وهوازن وغطفان.

ص: 550

3524 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ من سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَّةِ زَمْزَمَ وَجَهْلِ الْعَرَبِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بَابُ جَهْلِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَوْلَى إِذْ لَمْ يَجْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِزَمْزَمَ ذِكْرٌ، وَأَمَّا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَجَمَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُتَّجَهٌ.

قَوْلُهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} أَيْ بَنَاتِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْرِفَ جَهْلَ الْعَرَبِ.

‌13 - بَاب مَنْ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْجَاهِلِيَّةِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الْبَرَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

3525 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سليمان، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لبُطُونِ قُرَيْشٍ.

3526 -

وقَالَ لَنَا قَبِيصَةُ:، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ.

3527 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ، يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: جَوَازُ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُشَاجَرَةِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ رَفَعَهُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا أَوْ كَرَامَةً فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ حَدِيثُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَوْصُولًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسْبَةُ يُوسُفَ عليه السلام إِلَى آبَائِهِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فِي

ص: 551

غَيْرِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِرُكْنِ التَّرْجَمَةِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْتَسَبَ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَيَكُونُ مُطَابِقًا لِرُكْنِ التَّرْجَمَةِ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، بِبُطُونِ قُرَيْشٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِبُطُونِ بِاللَّامِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَنِدَاؤُهُ لِلْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ قَبْلَ عَشِيرَتِهِ الْأَدْنَيْنَ لِيُكَرِّرَ إِنْذَارَ عَشِيرَتِهِ ; وَلِدُخُولِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا فِي أَقَارِبِهِ ; وَلِأَنَّ إِنْذَارَ الْعَشِيرَةِ يَقَعُ بِالطَّبْعِ، وَإِنْذَارَ غَيْرِهِمْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا قَبِيصَةُ إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَبِيصَةَ.

قَوْلُهُ: (جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ) قَدْ فَسَّرَهُ الَّذِي قَبْلُهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي رُءُوسَ الْقَبَائِلِ، كَقَوْلِهِ: يَا بَنِي عَدِيٍّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ حَيْثُ نَادَاهُمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَإِلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ عليها السلام، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ إِنْ كَانَتْ وَقَعَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُدْرِكْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي نِدَاءِ فَاطِمَةَ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْقِصَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ صَغِيرَةً أَوْ مُرَاهِقَةً، وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَضَرَهَا فَلَا يُنَاسِبُ التَّرْجَمَةَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ لَهَا مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ دُخُولِهَا فِي مُبْتَدَأ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ كَانَ حَاضِرًا لِذَلِكَ وَهُوَ مَاتَ فِي أَيَّامِ بَدْرٍ. وَمَرَّةً بَعْدَ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ تُدْعَى فِيهَا فَاطِمَةُ عليها السلام أَوْ يَحْضُرُ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَوِ ابْنُ عَبَّاسٍ.

‌14 - بَاب ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ منهم وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ

3528 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، إِلَّا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ ابْنِ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ) أَيْ: فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ وَالتَّعَاوُنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاثِ فَفِيهِ نِزَاعٌ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا) هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ: إن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا لِقُرَيْشٍ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا لَا، إِلَّا ابْنُ أُخْتِنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ. فَقَالَ: ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَ: ادْخُلُوا عَلَيَّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ إِلَّا قُرَشِيٌّ. فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا: مَعَنَا ابْنُ الْأُخْتِ وَالْمَوْلَى. قَالَ: حَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَالطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ مَعَ ذِكْرِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ

ص: 552

حَدِيثٌ عَلَى شَرْطِهِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْلَى هُنَا الْمُعْتَقُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ أَوِ الْحَلِيفُ، وَأَمَّا الْمَوْلَى مِنْ أَعْلَى فَلَا يُرَادُ هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بَيَانُ سَبَبِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ مَضْمُونُ التَّرْجَمَةِ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا بِلَفْظِ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَحَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ.

‌15 - بَاب قِصَّةِ الْحَبَشِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا بَنِي أَرْفِدَةَ

3529 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُما أَيَّامُ عِيدٍ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى.

3530 -

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ عمر، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعْهُمْ، أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ. يَعْنِي مِنْ الْأَمْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِصَّةِ الْحَبَشِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ اسْمٌ لِجَدٍّ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَرْفِدَةَ الْأَمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْعِيدَيْنِ. وَالْحَبَشُ هُمُ الْحَبَشَةُ، يُقَالُ: إِنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ حَبَشِ ابْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُمْ مُجَاوِرُونَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يَقْطَعُ بَيْنَهُمُ الْبَحْرُ، وَقَدْ غَلَبُوا عَلَى الْيَمَنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمَلَكُوهَا، وَغَزَا أَبْرَهَةُ مِنْ مُلُوكِهِمُ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ الْفِيلُ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّتَهُ مُطَوَّلَةً، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُلَخَّصَةً، وَإِلَى هَذَا الْقَدْرِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِهِمْ فِي مُقَدِّمَةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ قَوْمٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ الرَّقْصِ وَسَمَاعِ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَطَعَنَ فِيهِ الْجُمْهُورُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصِدَيْنِ، فَإِنَّ لَعِبَ الْحَبَشَةِ بِحِرَابِهِمْ كَانَ لِلتَّمْرِينِ عَلَى الْحَرْبِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِلرَّقْصِ فِي اللَّهْوِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يُسَبَّ نَسَبُهُ

3531 -

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: كَيْفَ بِنَسَبِي؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ.

وَعَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: لَا تَسُبَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 3531 - طرفاه في: 4145، 6150]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يُسَبَّ نَسَبُهُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يُسَبَّ، وَالْمُرَادُ بِالنَّسَبِ الْأَصْلُ، وَبِالسَّبِّ الشَّتْمُ، وَالْمُرَادُ

ص: 553

أَنْ لَا يُشْتَمَ أَهْلُ نَسَبِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ) أَيِ: ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَسَبَبُ هَذَا الِاسْتِئْذَانِ مُبَيَّنٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اهْجُوا الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: اهْجُهُمْ، فَهَجَاهُمْ، فَلَمْ يَرْضَ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ، فَقَالَ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ. ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الْأَدِيمِ. قَالَ: لَا تَعْجَلْ.

وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اهْجُوا الْمُشْرِكِينَ بِالشِّعْرِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: لَمَّا هَجَانَا الْمُشْرِكُونَ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُولُوا لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ بِنَسَبِي فِيهِمْ) أَيْ: كَيْفَ تَهْجُو قُرَيْشًا مَعَ اجْتِمَاعِي مَعَهُمْ فِي نَسَبٍ وَاحِدٍ؟ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُعْظَمَ طُرُقِ الْهَجْوِ العض بِالْآبَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ) أَيْ: لَأُخَلِّصَنَّ نَسَبَكَ مِنْ نَسَبِهِمْ بِحَيْثُ يَخْتَصُّ الْهَجْوُ بِهِمْ دُونَكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ: فَقَالَ: ائْتِ أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا حَتَّى يُخَلِّصَ لَكَ نَسَبِي فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدْ مَحَّضَ لِي نَسَبَكَ.

قَوْلُهُ: (كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ) أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الشَّعْرَةَ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنَ الْعَجِينِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ لِنُعُومَتِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا سُلَّتْ مِنَ الْعَسَلِ مَثَلًا فَإِنَّهَا قَدْ يَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا سُلَّتْ مِنَ الْخُبْزِ فَإِنَّهَا قَدْ تَنْقَطِعُ قَبْلَ أَنْ تَخْلُصَ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِيهِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى عُرْوَةَ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ عَبْدَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَ فِيهِ: وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ الزِّيَادَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ

قَوْلُهُ: (كَانَ يُنَافِحُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَمَعْنَاهَا يُدَافِعُ أَوْ يُرَامِي، قَالَ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْهُ. نَفَحَتِ الدَّابَّةُ إِذَا رَمَحَتْ بِحَوَافِرِهَا، وَنَفَحَهُ بِالسَّيْفِ إِذَا تَنَاوَلَهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَصْلُ النَّفْحِ بِالْمُهْمَلَةِ الضَّرْبُ، وَقِيلَ لِلْعَطَاءِ نَفْحٌ كَأَنَّ الْمُعْطِيَ يَضْرِبُ السَّائِلَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَتْ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَأَشْفَى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الشِّعْرِ وَأَحْكَامِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌17 - بَاب مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}

3532 -

حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأنا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ.

[الحديث 3532 - طرفه في: 4896]

3533 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 554

عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ عز وجل:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} وَقَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ، وَأَشْهُرُهُمَا مُحَمَّدٌ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَذُكِرَ فِيهِ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ عِيسَى عليه السلام، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَمِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَمِنْ بَابِ التَّفْضِيلِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنْ صِفَةٍ وَهِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَمَعْنَاهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بِمَحَامِدَ لَمْ يُفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ حَمَّادُونَ وَهُوَ أَحْمَدُهُمْ، أَيْ أَكْثَرُهُمْ حَمْدًا أَوْ أَعْظَمُهُمْ فِي صِفَةِ الْحَمْدِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ صِفَةِ الْحَمْدِ أَيْضًا وَهُوَ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ:

وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وَالْمُحَمَّدُ الَّذِي حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَالْمُمَدَّحِ، قَالَ الْأَعْشَى:

إِلَيْكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كَانَ وَجِيفُهَا

إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرَمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

أَيِ الَّذِي حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، أَوِ الَّذِي تَكَامَلَتْ فِيهِ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ، قَالَ عِيَاضٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْمَدَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدًا كَمَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ أَحْمَدَ وَقَعَتْ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَتَسْمِيَتُهُ مُحَمَّدًا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَمِدَ رَبَّهُ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ فَيُشَفِّعَهُ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ. وَقَدْ خُصَّ بِسُورَةِ الْحَمْدِ وَبِلِوَاءِ الْحَمْدِ وَبِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَشُرِعَ لَهُ الْحَمْدُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَبَعْدَ الشُّرْبِ وَبَعْدَ الدُّعَاءِ وَبَعْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَسُمِّيَتْ أُمَّتُهُ الْحَمَّادِينَ، فَجُمِعَتْ لَهُ مَعَانِي الْحَمْدِ وَأَنْوَاعُهُ صلى الله عليه وسلم.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) كَذَا وَقَعَ مَوْصُولًا عِنْدَ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا، وَوَافَقَ مَعَنَا عَلَى وَصْلِهِ عَنْ مَالِكٍ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عِنْدَ أَبي عَوَانَةَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ عَنْ آخَرِينَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: إِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَرْسَلُوهُ.

قُلْتُ: وَهُوَ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ عَنْ غَيْرِ مَالِكٍ، وَصَلَهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَعُقَيْلٌ، وَمَعْمَرٌ وَحَدِيثُهُمْ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَشُعْبَةُ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَيْضًا وَلَدُهُ الْآخَرُ نَافِعٌ وَفِي حَدِيثِهِ زِيَادَةٌ، وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّارِيخِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّارِيخِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ، وَمِنْ مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ) فِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ يَعُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ سِتٌّ. فَذَكَرَ

ص: 555

الْخَمْسَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَادَ الْخَاتَمَ، لَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَأَنَا الْعَاقِبُ قَالَ: يَعْنِي الْخَاتَمَ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ وَالْحَاشِرُ وَالْمُقَفِّي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْحَاشِرَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى، وَفِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ أَخْتَصُّ بِهَا لَمْ يُسَمَّ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، أَوْ مُعَظَّمَةٌ أَوْ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَصْرَ فِيهَا.

قَالَ عِيَاضٌ: حَمَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ أَنْ يُسَمَّى بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا تَسَمَّى بَعْضُ الْعَرَبِ مُحَمَّدًا قُرْبَ مِيلَادِهِ لِمَا سَمِعُوا مِنَ الْكُهَّانِ وَالْأَحْبَارِ أَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسَمَّى مُحَمَّدًا فَرَجَوْا أَنْ يَكُونُوا هُمْ فَسَمَّوْا أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ: وَهُمْ سِتَّةٌ لَا سَابِعَ لَهُمْ، كَذَا قَالَ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ: لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَسَمَّى مُحَمَّدًا قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا ثَلَاثَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ بْنِ رَبِيعَةَ.

وَسَبَقَ السُّهَيْلِيَّ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ لَيْسَ وَهُوَ حَصْرٌ مَرْدُودٌ، وَقَدْ جَمَعْتُ أَسْمَاءَ مَنْ تَسَمَّى بِذَلِكَ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ فَبَلَغُوا نَحْوَ الْعِشْرِينَ لَكِنْ مَعَ تَكَرُّرٍ فِي بَعْضِهِمْ وَوَهْمٍ فِي بَعْضٍ، فَيَتَلَخَّصُ مِنْهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا، وَأَشْهَرُهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ سِوَاءَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ، رَوَى حَدِيثَهُ الْبَغَوِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ شَاهِينَ، وَابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سَوِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَوِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ خَلِيفَةَ بْنِ عَبْدَةَ الْمِنْقَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ كَيْفَ سَمَّاكَ أَبُوكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَمَّا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: خَرَجْتُ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَا أَحَدُهُمْ وَسُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْعَنْبَرِ نُرِيدُ ابْنَ جَفْنَةَ الْغَسَّانِيَّ بِالشَّامِ، فَنَزَلْنَا عَلَى غَدِيرٍ عِنْدَ دَيْرٍ، فَأَشْرَفَ عَلَيْنَا الدَّيْرَانِيُّ فَقَالَ لَنَا: إِنَّهُ يُبْعَثُ مِنْكُمْ وَشِيكًا نَبِيٌّ فَسَارِعُوا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. فَلَمَّا انْصَرَفْنَا وُلِدَ لِكُلٍّ مِنَّا وَلَدٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا لِذَلِكَ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ السَّكَنِ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي تَمِيمٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، قِيلَ لِأَبِيهِ: إِنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيٌّ فِي الْعَرَبِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَهُ صُحْبَةٌ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَدِيٍّ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ لَمَّا ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ: عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَذَكَرَ عَبْدَانُ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ أَوَّلُ مَنْ تَسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُحَمَّدًا، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّى ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ تُبَّعٍ لَمَّا حَاصَرَ الْمَدِينَةَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أُحَيْحَةُ الْمَذْكُورُ هُوَ وَالْحَبْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ بِيَثْرِبَ فَأَخْبَرَهُ الْحَبْرُ أَنَّ هَذَا بَلَدُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ يُسَمَّى مُحَمَّدًا فَسَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا.

وَذَكَرَ الْبِلَاذُرِيُّ مِنْهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ، فَلَا أَدْرِي أَهُمَا وَاحِدٌ نُسِبَ مَرَّةً إِلَى جَدِّهِ أَمْ هُمَا اثْنَانِ. وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْبَرَاءِ الْبَكْرِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَضَبَطَ الْبِلَاذُرِيُّ أَبَاهُ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ بَرٍّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ لَيْسَ بَعْدَهَا أَلِفٌ ابْنُ طَرِيفِ بْنِ عُتْوَارَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَلِهَذَا نَسَبُوهُ أَيْضًا الْعُتْوَارِيَّ.

وَغَفَلَ ابْنُ دِحْيَةَ فَعَدَّ فِيهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عُتْوَارَةَ وَهُوَ هُوَ نُسِبَ لِجَدِّهِ الْأَعْلَى. وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْيَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ، ذَكَرَهُ الْمُفَجَّعُ الْبَصْرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقْعَدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ خَوْلِيٍّ الْهَمْدَانِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ حِرْمَازَ بْنِ مَالِكٍ الْيَعْمُرِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي الذَّيْلِ. وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ بْنِ أَبِي حُمْرَانَ، وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعْفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالشُّوَيْعِرِ، ذَكَرَهُ الْمَرْزُبَانِيُّ فَقَالَ: هُوَ أَحَدُ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ امْرِئِ الْقَيْسِ.

وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيِّ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ حِرَابَةَ السُّلَمِيُّ مِنْ بَنِي ذَكْوَانَ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ،

ص: 556

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سُمِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ طَمَعًا فِي النُّبُوَّةِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَبْرَهَةَ الْحَبَشِيَّ تَوَجَّهَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ بَنِي كِنَانَةَ فَقَتَلُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ قِصَّةِ الْفِيلِ. وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ فِيمَنْ تَسَمَّى مُحَمَّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ لِأَخِيهِ قَيْسِ بْنِ خُزَاعِيٍّ يَذْكُرُهُ مِنْ أَبْيَاتٍ يَقُولُ فِيهَا:

فَذَلِكُمْ ذُو التَّاجِ مِنَّا مُحَمَّدٌ

وَرَايَتُهُ فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ تَخْفِقُ

وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُغْفِلٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، ثُمَّ لَامٍ وَهُوَ وَالِدُ هُبَيْبٍ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْمَذْكُورِينَ فَإِنَّ لِوَلَدِهِ صُحْبَةٌ وَمَاتَ هُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ حُدَيْجِ بْنِ حُوَيْصٍ، ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ وَذَكَرَ لَهُ قِصَّةً مَعَ عُمَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ أَحَدُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُحَمَّدًا.

وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ الْفُقَيْمِيُّ، وَمُحَمَّدُ الْأُسَيْدِيُّ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ سَعْدٍ وَلَمْ يَنْسِبْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَعُرِفَ بِهَذَا وَجْهُ الرَّدِّ عَلَى الْحَصْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهَ السُّهَيْلِيُّ، وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، عَجَبٌ مِنَ السُّهَيْلِيِّ كَيْفَ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ قَبْلَهُ، وَقَدْ تَحَرَّرَ لَنَا مِنْ أَسْمَائِهِمْ قَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَرَّتَيْنِ بَلْ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي السِّتَّةِ الَّذِينَ جَزَمَ بِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مِيلَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ فَفَضَلَ لَهُ خَمْسَةٌ وَقَدْ خَلَصَ لَنَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) قِيلَ: الْمُرَادُ إِزَالَةُ ذَلِكَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَمَعْمَرٍ يَمْحُو بِيَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةُ الْكُفْرِ بِإِزَالَةِ أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَا انْمَحَى مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْ أَنَّهُ يَنْمَحِي بِسَبَبِهِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ ; وَيُجَابُ بِجَوَازِ أَنْ يَرْتَدَّ بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى وَتُرْسَلَ الرِّيحُ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشِّرَارُ، وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَأَنَا الْمَاحِي فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ. وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي) أَيْ: عَلَى أَثَرِي أَيْ أَنَّهُ يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الزَّمَانَ أَيْ وَقْتَ قِيَامِي عَلَى قَدَمِي بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ وَلَا شَرِيعَةٌ.

وَاسْتُشْكِلَ التَّفْسِيرُ بِأَنَّهُ يَقْضِي بِأَنَّهُ مَحْشُورٌ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِهِ حَاشِرٌ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ إِضَافَةٌ وَالْإِضَافَةُ تَصِحُّ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلَمَّا كَانَ لَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ نُسِبَ الْحَشْرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَقِبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُحْشَرُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْقَدَمِ السَّبَبُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: عَلَى مُشَاهَدَتِي قَائِمًا لِلَّهِ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَمِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَنَا حَاشِرٌ بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ وَهُوَ يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ.

(تَنْبِيهٌ):

قَوْلُهُ: عَلَى عَقِبِي بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفًا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَفْتُوحَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا الْعَاقِبُ) زَادَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ إِلَخْ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ.

قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَظَاهِرُهُ الْإِدْرَاجُ أَيْضًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّهُ عَقِبُ الْأَنْبِيَاءِ ; وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلرَّفْعِ وَالْوَقْفِ. وَمِمَّا وَقَعَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالِاتِّفَاقِ الشَّاهِدُ الْمُبَشِّرُ النَّذِيرُ الْمُبِينُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ وَفِيهِ

ص: 557

أَيْضًا: الْمُذَكِّرُ وَالرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْهَادِي وَالشَّهِيدُ وَالْأَمِينُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُتَوَكِّلُ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمُخْتَارُ وَالْمُصْطَفَى وَالشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ مُفْرَدٌ فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَدَدُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، قَالَ: وَلَوْ بَحَثَ عَنْهَا بَاحِثٌ لَبَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةِ اسْمٍ، وَذَكَرَ فِي تَصْنِيفِهِ الْمَذْكُورِ أَمَاكِنَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَضَبَطَ أَلْفَاظَهَا، وَشَرَحَ مَعَانِيَهَا، وَاسْتَطْرَدَ كَعَادَتِهِ إِلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ، وَغَالِبُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا وُصِفَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرِدِ الْكَثِيرُ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّسْمِيَةِ، مِثْلُ عَدِّهِ اللَّبِنَةَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ النُّونِ فِي أَسْمَائِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ فِي الْقَصْرِ الَّذِي مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةُ كَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ وَلِرَسُولِهِ أَلْفَ اسْمٍ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهَا، مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَبَيْنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) فِي رِوَايَةٍ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا تَعْجَبُونَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّارِيخِ يَا عِبَادَ اللَّهِ انْظُرُوا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا) كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ شِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ الدَّالِّ عَلَى الْمَدْحِ فَيَعْدِلُونَ إِلَى ضِدِّهِ فَيَقُولُونَ مُذَمَّمٌ، وَإِذَا ذَكَرُوهُ بِسُوءٍ قَالُوا: فَعَلَ اللَّهُ بِمُذَمَّمٍ، وَمُذَمَّمٌ لَيْسَ هُوَ اسْمُهُ وَلَا يُعْرَفُ بِهِ فَكَانَ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَصْرُوفًا إِلَى غَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ أَسْقَطَ حَدَّ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَلِ الْوَاقِعُ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ النَّسَائِيُّ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُنَافٍ لِمَعْنَى الطَّلَاقِ وَمُطْلَقِ الْفُرْقَةِ وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، كَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ كُلِي وَقَصَدَ الطَّلَاقَ فَإِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الطَّلَاقُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا أَنَّ مُذَمَّمًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

‌18 - بَاب خَاتِمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم

3534 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ.

3535 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ.

ص: 558

قَوْلُهُ: (بَابُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ) أَيْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاتَمِ فِي أَسْمَائِهِ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَلَمَّحَ بِمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَفَعَهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ. الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَسِيَاقُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَتَمُّ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ: فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ.

قَوْلُهُ: (مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا) قِيلَ: الْمُشَبَّهُ بِهِ وَاحِدٌ وَالْمُشَبَّهُ جَمَاعَةٌ فَكَيْفَ صَحَّ التَّشْبِيهُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَنْبِيَاءَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ مَا أَرَادَ مِنَ التَّشْبِيهِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ الدَّارُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْبُنْيَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلُ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْمُشَبَّهِ وَيُشَبَّهُ بِمِثْلِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ الْأَنْبِيَاءَ وَمَا بُعِثُوا بِهِ مِنْ إِرْشَادِ النَّاسِ بِبَيْتٍ أُسِّسَتْ قَوَاعِدُهُ وَرُفِعَ بُنْيَانُهُ وَبَقِيَ مِنْهُ مَوْضِعٌ بِهِ يَتِمُّ صَلَاحُ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ اللَّبِنَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا كَانَتْ فِي أُسِّ الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهَا لَوْلَا وَضْعُهَا لَانْقَضَّتْ تِلْكَ الدَّارُ، قَالَ: وَبِهَذَا يَتِمُّ الْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى.

وَهَذَا إِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَهُوَ حَسَنٌ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ، نَعَمْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنْ تَكُونَ اللَّبِنَةُ فِي مَكَانٍ يَظْهَرُ عَدَمُ الْكَمَالِ فِي الدَّارِ بِفَقْدِهَا وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا. فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ مُحَسِّنَةٌ وَإِلَّا لَاسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِدُونِهَا كَانَ نَاقِصًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ شَرِيعَةَ كُلِّ نَبِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَامِلَةٌ، فَالْمُرَادُ هُنَا النَّظَرُ إِلَى الْأَكْمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مَعَ مَا مَضَى مِنَ الشَّرَائِعِ الْكَامِلَةِ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا نُونٌ وَبِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الطِّينِ تُعْجَنُ وَتُجْبَلُ وَتُعَدُّ لِلْبِنَاءِ، وَيُقَالُ لَهَا مَا لَمْ تُحْرَقْ لَبِنَةٌ، فَإِذَا أُحْرِقَتْ فَهِيَ آجُرَّةٌ. وَقَوْلُهُ:(مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ يُوهِمُ النَّقْصَ لَكَانَ بِنَاءُ الدَّارِ كَامِلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَوْلَا تَحْضِيضِيَّةٌ وَفِعْلُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْلَا أُكْمِلَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَلَا وَضَعْتَ هَهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُكَ. وَفِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلتَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ، وَفَضْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ، وَأَنَّ اللَّهَ خَتَمَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَكْمَلَ بِهِ شَرَائِعَ الدِّينِ.

‌19 - بَاب وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3536 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ.

[الحديث 3536 - طرفه في: 4466]

قَوْلُهُ: (بَابُ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِي ثُبُوتِهَا هُنَا نَظَرٌ فَإِنَّ مَحَلَّهَا فِي آخِرِ الْمَغَازِي كَمَا سَيَأْتِي، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ عَائِشَةَ هُنَا بَيَانَ مِقْدَارِ عُمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ لَا خُصُوصَ زَمَنِ وَفَاتِهِ، وَأَوْرَدَهُ فِي الْأَسْمَاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ مُدَّةَ عُمْرِهِ الْقَدْرُ الَّذِي عَاشَهُ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي مِقْدَارِهِ فِي آخِرِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 559

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) أَيْ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا مُفَرَّقًا وَهُوَ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدٌ أَيْضًا سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

‌20 - بَاب كُنْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3537 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي.

3538 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي.

3539 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي. ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ وَهُوَ لَطِيفٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِزَمَانِهِ، وَقِيلَ: بِمَنْ تَسَمَّى بِاسْمِهِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ كُنْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْكُنْيَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكِنَايَةِ تَقُولُ: كَنَّيْتُ عَنِ الْأَمْرِ بِكَذَا إِذَا ذَكَرْتُهُ بِغَيْرِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ صَرِيحًا.

وَقَدِ اشْتَهَرَتِ الْكُنَى لِلْعَرَبِ حَتَّى رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الْأَسْمَاءِ كَأَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ كُنْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَكْثَرُ، وَقَدْ يَشْتَهِرُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ جَمِيعًا، فَالِاسْمُ وَالْكُنْيَةُ وَاللَّقَبُ يَجْمَعُهَا الْعَلَمُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَتَتَغَايَرُ بِأَنَّ اللَّقَبَ مَا أَشْعَرَ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، وَالْكُنْيَةُ مَا صُدِّرَتْ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ اسْمٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ بِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ مَارِيَةَ، وَمَضَى شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْجَنَائِزِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ.

وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ مَضَى فِي الْبُيُوعِ بِأَتَمَّ مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ: لَمْ أَعْنِكَ، وَحِينَئِذٍ نَهَى عَنِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ، وَسَالِمٌ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ الْجَعْدِ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مُخْتَصَرًا وَقَدْ مَضَى فِي الْخُمُسِ بِأَتَمَّ مِنْهُ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ سُفْيَانُ بَدَلَ شُعْبَةَ، وَمَالَ الْجَيَّانِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَكْثَرِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ.

‌21 - بَابٌ

3540 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: رَأَيْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ ابْنَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ جَلْدًا مُعْتَدِلًا فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِّعْتُ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي

ص: 560

إِلَّا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ خَالَتِي ذَهَبَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي شَاكٍ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ: فَدَعَا لِي صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ كَأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي زَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ عَنْهُ وَكَرِيمَةَ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَضَمَّهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لَهُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا مِنَ الَّذِيَ قَبْلَهُ، بَلْ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، نَعَمْ وَجَّهَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ ذَا اسْمٍ وَكُنْيَةٍ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَادَى بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، بَلْ يُقَالُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا خَاطَبَتْهُ خَالَةُ السَّائِبِ لَمَّا أَتَتْ بِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

قَوْلُهُ: (جَلْدًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ قَوِيًّا صُلْبًا.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَآهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانُ سِنِينَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِهِ، فَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ الْوَاقِدِيِّ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَهُوَ أَشْبَهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ: بَلْ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ.

‌22 - بَاب خَاتِمِ النُّبُوَّةِ

3541 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، وَتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتِمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الْفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ: مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) أَيْ صِفَتُهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مِنْ عَلَامَاتِهِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَادَّعَى عِيَاضٌ هُنَا أَنَّ الْخَاتَمَ هُوَ أَثَرُ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ لِمَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشَّقَّ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدْرِهِ وَبَطْنِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَثَرُهُ إِنَّمَا كَانَ خَطًّا وَاضِحًا مِنْ صَدْرِهِ إِلَى مَرَاقِّ بَطْنِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.

قَالَ: وَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّهُ بَلَغَ بِالشَّقِّ حَتَّى نَفَذَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَلَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيلًا مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ إِلَى قُطْنَتِهِ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يُحَاذِي الصَّدْرَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى مَرَاقِّ بَطْنِهِ، قَالَ: فَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ نُسَّاخِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ عَلَيْهِ فِيمَا عَلِمْتُ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى مُسْتَنَدِ الْقَاضِي وَهُوَ حَدِيثُ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي ارْتِضَاعِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَمَّا شَقَّا صَدَرَهُ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: خِطْهُ، فَخَاطَهُ وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ انْتَهَى.

فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ حَمَلَ ذَلِكَ عِيَاضٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَّ لَمَّا وَقَعَ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ خِيطَ حَتَّى الْتَأَمَ كَمَا كَانَ وَوَقَعَ الْخَتْمُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ الشِّقِّ، وَفَهِمَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّقِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَثَرِ الْخَتْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَالدَّلَائِلُ لِأَبِي نُعَيْمٍ: إِنَّ الْمَلَكَ لَمَّا أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَغَسَلَهُ خَتَمَ، ثُمَّ أَعَادَهُ عَلَيْهِ بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ فَامْتَلَأَ نُورًا

ص: 561

وَذَلِكَ نُورُ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالدَّلَائِلِ لِأَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمَّا تَرَاءَيَا لَهُ عِنْدَ الْمَبْعَثِ هَبَطَ جِبْرِيلُ فَسَلَقَنِي لِحَلَاوَةِ الْقَفَا، ثُمَّ شَقَّ عَنْ قَلْبِي فَاسْتَخْرَجَهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ لَأَمَهُ ثُمَّ أَلْقَانِي وَخَتَمَ فِي ظَهْرِي حَتَّى وَجَدْتُ مَسَّ الْخَاتَمِ فِي قَلْبِي وَقَالَ: اقْرَأْ الْحَدِيثَ.

هَذَا مُسْتَنَدُ الْقَاضِي فِيمَا ذَكَرَهُ، وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْخَاتَمَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ وِلَادَتِهِ، فَفِيهِ تَعْقِيبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ نَقَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ بِلَفْظِ قِيلَ: وُلِدَ بِهِ وَقِيلَ: حِينَ وُضِعَ نَقَلَهُ مُغَلْطَايْ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَائِذٍ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ أَثْبَتُ. وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ وَفِيهِ: وَجَعَلَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفِي كَمَا هُوَ الْآنَ، وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ عَائِدٍ فِي قِصَّةِ شَقِّ صَدْرِهِ وَهُوَ فِي بِلَادِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَأَقْبَلَ وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ لَهُ شُعَاعٌ فَوَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَثَدْيَيْهِ الْحَدِيثَ، وَهَذَا قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْخَتْمَ وَقَعَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ جَسَدِهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ، هُوَ أَبُو ثَابِتٍ الْمَدَنِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَأَصْلُ شَيْخِهِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كُوفِيٌّ.

قَوْلُهُ: (ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَأَمَّا أُمُّهُ فَاسْمُهَا عُلْبَةُ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ - بِنْتُ شُرَيْحٍ أُخْتُ مَخْرَمَةَ بْنِ شُرَيْحٍ.

قَوْلُهُ: (وَقِعٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَبِالتَّنْوِينِ أَيْ وَجِعٌ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَقَدْ مَضَى فِي الطَّهَارَةِ بِلَفْظِ وَجِعَ، وَجَاءَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي رِجْلَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ إِلَى جِهَةِ كَتِفهِ الْيُسْرَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الْفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ: مِثْلُ زِرِّ الْحُجْلَةِ) قُلْتُ: هَكَذَا وَقَعَ، وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْ شَيْخِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنْ يُفَسِّرَ الْحُجْلَةَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا فِي سِيَاقِهِ ذِكْرٌ، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مِثْلُ زِرِّ الْحُجْلَةِ ثُمَّ فَسَرَّهَا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي أَصْلِ النَّسَفِيِّ تَضْبِيبٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قَالَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ عَنِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ عَنْهُ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ.

وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَمْزَةَ بِفَتْحِهِمَا، وَحَكَى ابْنُ دِحْيَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي الْأَوَّلِ كَسْرَ الْمُهْمَلَةِ مَعَ ضَمِّهَا، وَقِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ ابْنِ حَمْزَةَ، وَابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرِوَايَةَ ابْنِ حَمْزَةَ بِالْعَكْسِ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ ارْتُزَّ الشَّيْءُ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الرَّزَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْبَيْضَةُ يُقَالُ: ارْتَزَّتِ الْجَرَادَةُ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَنَبَهَا فِي الْأَرْضِ لِتَبِيضَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْحُجْلَةِ الطَّيْرُ الْمَعْرُوفُ.

وَجَزَمَ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجْلَةِ هُنَا الْكِلَّةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى السَّرِيرِ وَيُزَيَّنُ بِهَا لِلْعَرُوسِ كَالْبَشْخَانَاتِ، وَالزِّرُّ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّهَا تَكُونُ ذَاتَ أَزْرَارٍ وَعُرًى، وَاسْتُبْعِدَ قَوْلُ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِأَنَّهَا مِنْ حُجَلِ الْفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ بِأَنَّ التَّحْجِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوَائِمِ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْوَجْهِ فَهُوَ الْغُرَّةُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُهُ عَلَى ذَلِكَ مَجَازًا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا قَدْرُ الزِّرِّ، وَإِلَّا فَالْغُرَّةُ لَا زِرَّ لَهَا.

وَجَزَمَ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجْلَةِ الطَّيْرُ الْمَعْرُوفُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِزِرِّهَا بَيْضُهَا، وَيُعَضِّدُهُ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ مِثْلُ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي صِفَةِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَحَادِيثُ مُتَقَارِبَةٌ لِمَا ذُكِرَ هُنَا،

ص: 562

مِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامَةٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ كَبَيْضَةِ نَعَامَةٍ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا غَلَطٌ

(1)

.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ نَظَرْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ الْبُنْدُقَةِ مِنَ اللَّحْمِ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ كَبَضْعَةٍ نَاشِزَةٍ مِنَ اللَّحْمِ وَعِنْدَ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ مِثْلُ السَّلْعَةِ وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ كَأَثَرِ مِحْجَمٍ، أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاءِ أَوِ الْخَضْرَاءِ، أَوْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ سِرْ فَأَنْتَ الْمَنْصُورُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ.

وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَافِظُ قُطْبُ الدِّينِ فِي اسْتِيعَابِهَا فِي شَرْحِ السِّيرَةِ وَتَبِعَهُ مُغَلْطَايْ فِي الزَّهْرِ الْبَاسِمِ وَلَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا مِنْ حَالِهَا، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْتُهُ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فَإِنَّهُ غَفَلَ حَيْثُ صَحَّحَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَتِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ عَلَى أَنَّ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ كَانَ شَيْئًا بَارِزًا أَحْمَرَ عِنْدَ كَتِفهِ الْأَيْسَرِ قَدْرُهُ إِذَا قُلِّلَ قَدْرُ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَإِذَا كُبِّرَ جُمْعُ الْيَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَفِي حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كَأَنَّهُ رُكْبَةُ عَنْزٍ عَلَى طَرَفِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَلَكِنْ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي خَبَرٍ مَقْطُوعٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ فَرَأَى الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ ضِفْدَعٍ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ حِذَاءَ قَلْبِهِ لَهُ خُرْطُومٌ كَالْبَعُوضَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ إِلَى مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرَهُ.

وَذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْفَائِقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي م ص ر، وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَدِيٍّ وَلَفْظُهُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ. الْحَدِيثَ، وَأَوْرَدَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ أَنَّ عِيسَى عليه السلام سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنَ ابْنِ آدَمَ، قَالَ: فَإِذَا بِرَأْسِهِ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى تَمْرَةِ الْقَلْبِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدٌ فِي آخِرِ التَّفْسِيرِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وُضِعَ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.

‌23 - بَاب صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3542 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه الْعَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَقَالَ: بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ، لَا شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.

[الحديث 3542 - طرفه في: 3750]

3543 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الْحَسَنُ يُشْبِهُهُ".

[الحديث 3543 - طرفه في: 3544]

(1)

بهامش طبعة بولاق: في نسخة أخرى "وقد تبين من رواية مسلم أنها غلط" اهـ

ص: 563

3544 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهما السلام يُشْبِهُهُ. قُلْتُ لِأَبِي جُحَيْفَةَ: صِفْهُ لِي قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ قَدْ شَمِطَ. وَأَمَرَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَ عَشْرَةَ قَلُوصًا. قَالَ: فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ نَقْبِضَهَا.

3545 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبٍ أَبِي جُحَيْفَةَ السُّوَائِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ بَيَاضًا مِنْ تَحْتِ شَفَتِهِ السُّفْلَى الْعَنْفَقَةَ.

3546 -

حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ شَيْخًا؟ قَالَ: كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ.

3547 -

حَدَّثَنا ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ قَالَ رَبِيعَةُ فَرَأَيْتُ شَعَرًا مِنْ شَعَرِهِ فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ فَسَأَلْتُ فَقِيلَ احْمَرَّ مِنْ الطِّيبِ".

[الحديث 3547 - طرفاه في: 3548، 5900]

3548 -

حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق وليس بالآدم وليس بالجعد القطط ولا بالسبط بعثه الله على رأس أربعين سنة فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء".

3549 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ".

3550 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَسًا هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ".

[الحديث 3550 - طرفاه في: 5894، 5895]

ص: 564

3551 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعَرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ".

[الحديث 3551 - طرفاه في: 5844، 5901]

3552 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ الْبَرَاءُ أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ قَالَ لَا بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ".

3553 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ بِالْمَصِّيصَةِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَزَادَ فِيهِ عَوْنٌ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ كَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ قَالَ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ".

3554 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".

3555 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ الْمُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وَأُسَامَةَ وَرَأَى أَقْدَامَهُمَا إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ".

[الحديث 3555 - أطرافه في: 3731، 6770، 6771]

3556 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ: "فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ".

ص: 565

3557 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنْ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ".

3558 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ".

[الحديث 3558 - طرفاه في: 3944، 5917]

3559 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا".

[الحديث 3559 - أطرافه في: 3759، 6029، 6035]

3560 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا".

[الحديث 3560 - أطرافه في: 6126، 6786، 6853]

3561 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

3562 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا".

[الحديث 3562 - طرفاه في: 6102، 6119]

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ مِثْلَهُ "وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ"

3563 -

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَا تَرَكَهُ".

[الحديث 3563 - طرفه في: 5409]

ص: 566

3564 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَرَى إِبْطَيْهِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا بَكْرٌ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ".

3565 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُمْ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ". وقال أبو موسى: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه".

3566 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَوْنَ بْنَ أَبِي جُحَيْفَةَ ذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دُفِعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ كَانَ بِالْهَاجِرَةِ خَرَجَ بِلَالٌ فَنَادَى بِالصَّلَاةِ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ فَضْلَ وَضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَقَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ فَرَكَزَ الْعَنَزَةَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ".

3567 -

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ الْبَّزَّارُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَاحْصَاهُ".

[الحديث 3567 - طرفه في: 3568]

3568 -

وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو فُلَانٍ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ".

قَوْلُهُ: (بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا:

الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يُشْبِهُ جَدَّهُ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَخْبَرَنِي وَفِي أُخْرَى حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ.

قَوْلُهُ: (صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَيَالٍ، وَعَلِيٌّ يَمْشِي إِلَى جَانِبِهِ.

قَوْلُهُ: (بِأَبِي) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَفْدِيهِ بِأَبِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَارْتَجَزَ فَقَالَ: وَابِأَبِي، شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا رَجَزًا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى السَّجْعِ رَجَزًا. وَوَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ تَغْيِيرٌ وَتَصْحِيفُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ وَابِأَبِي وَابِأَبِي كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ

ص: 567

الْمَذْكُورَةُ، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ مَجْزُوءِ الرَّجَزِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ شَخْصٌ أَوْ أَنْتَ شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَوْزُونٌ.

قَوْلُهُ: (وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَعَلِيٌّ يَتَبَسَّمُ أَيْ رِضًا بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَتَصْدِيقًا لَهُ. وَقَدْ وَافَقَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبُو جُحَيْفَةَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَذْكُرُ فِيهِ مَنْ شَارَكَهُمَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَحَبَّتُهُ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ قَوْلُهُ: لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي وَفِيهِ تَرْكُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ يَلْعَبُ، لِأَنَّ الْحَسَنَ إِذْ ذَاكَ كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَفِظَ عَنْهُ، وَلَعِبُهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ، بَلْ عَلَى مَا فِيهِ تَمْرِينٌ وَتَنْشِيطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: وَحَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ. وَإِسْمَاعِيلُ فِيهِمَا هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَابْنُ فُضَيْلٍ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ مُحَمَّدٌ.

قَوْلُهُ: (كَانَ أَبْيَضَ قَدْ شَمِطَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ صَارَ سَوَادُ شَعْرِهِ مُخَالِطًا لِبَيَاضِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذَا أَنَّ مَوْضِعَ الشَّمَطِ كَانَ فِي الْعَنْفَقَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، وَالْعَنْفَقَةُ مَا بَيْنَ الذَّقَنِ وَالشَّفَةِ السُّفْلَى، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهَا شَعْرٌ أَمْ لَا. وَتُطْلَقُ عَلَى الشَّعْرِ أَيْضًا. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءُ - وَأَشَارَ إِلَى عَنْفَقَتِهِ - قِيلَ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَبْرِي النَّبْلَ وَأُرَيِّشُهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ لَنَا) أَيْ لَهُ وَلِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي سُوَاءَةَ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ وَآخِرُهُ هَاءُ تَأْنِيثٍ - ابْنُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَكَانَ أَمَرَ لَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ جَائِزَةِ الْوَفْدِ.

قَوْلُهُ: (قَلُوصًا) بِفَتْحِ الْقَافِ، هِيَ الْأُنْثَى مِنَ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: الشَّابَّةُ، وَقِيلَ: الطَّوِيلَةُ الْقَوَائِمِ.

قَوْلُهُ: (فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ نَقْبِضَهَا) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قُرْبَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ شَهِدَ أَبُو جُحَيْفَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَفَّى لَهُمْ بِالْوَعْدِ الْمَذْكُورِ كَمَا صَنَعَ بِغَيْرِهِمْ. ثُمَّ وَجَدْتُ ذَلِكَ مَنْقُولًا صَرِيحًا، فَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَذَهَبْنَا نَقْبِضُهَا فَأَتَانَا مَوْتُهُ فَلَمْ يُعْطُونَا شَيْئًا، فَلَمَّا قَامَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فَلْيَجِئْ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَمَرَ لَنَا بِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْهِبَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَهْبٍ أَبِي جُحَيْفَةَ) هُوَ اسْمُ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا: وَهْبُ اللَّهِ وَوَهْبُ الْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَيْتُ بَيَاضًا مِنْ تَحْتِ شَفَتِهِ السُّفْلَى الْعَنْفَقَةَ) بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الشَّفَةِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: بَيَاضًا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ تَحْتِ شَفَتِهِ السُّفْلَى مِثْلُ مَوْضِعِ إِصْبَعٍ الْعَنْفَقَةِ وَإِصْبَعٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالتَّنْوِينِ، وَإِعْرَابُ الْعَنْفَقَةِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي رِوَايَةِ شَبَّابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عِنْدَهُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَابَتْ عَنْفَقَتُهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَهُوَ مِنْ ثُلَاثِيَّاتِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ) هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْصِيُّ الْحَضْرَمِيُّ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهُ. وَأَمَّا حَرِيزٌ فَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّهُ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَالنَّبِيُّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَخْبِرْنِي أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْخًا؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَأَيْتَ اسْتِفْهَامًا مِنْهُ هَلْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ وَيَكُونُ النَّبِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: (كَانَ شَيْخًا)

ص: 568

اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحِمْصَ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَنَا غُلَامٌ فَقُلْتُ: أَنْتَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: شَيْخٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَابٌّ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَبَغَ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنَّمَا كَانَتْ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. وَأَشَارَ إِلَى عَنْفَقَتِهِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ حَدِيثَيْنِ قَوْلُ أَنَسٍ: إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرُّوخَ الْفَقِيهُ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُمَحِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ لَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ اللَّيْثُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ رَبْعَةً) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مَرْبُوعًا، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَبْعَةٌ وَامْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ وَالْمُرَادُ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ مَعَ اضْطِرَابِ الْقَامَةِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بَعْدَ قَلِيلٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَانَ رَبْعَةً وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ.

قَوْلُهُ: (أَزْهَرَ اللَّوْنِ) أَيْ أَبْيَضُ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالطَّيَالِسِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ مُشَرَّبًا بَيَاضُهُ بِحُمْرَةٍ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ جَابِرٍ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَفِي الشَّمَائِلِ مِنْ حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ أَنَّهُ أَزْهَرُ اللَّوْنِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ تَبَعًا لِرِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ أَمْهَقُ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَاعْتَرَضَهُ الدَّاوُدِيُّ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ وَهْمٌ، قَالَ: وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْيَضِ وَلَا الْآدَمِ لَيْسَ بِصَوَابٍ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فِي هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ وَلَا بِالْآدَمِ الشَّدِيدِ الْأُدْمَةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِطُ بَيَاضَهُ الْحُمْرَةُ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَسْمَرَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ مَنْدَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَسْمَرَ وَقَدْ رَدَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِقَوْلِهِ: فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ: وَلَا بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ وَلَيْسَ بِالْآدَمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ الصِّفَةَ النَّبَوِيَّةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ بَيَاضُهُ إِلَى السُّمْرَةِ.

وَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ أَحْمَرُ وَفِي لَفْظٍ أَسْمَرَ إِلَى الْبَيَاضِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

وَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّمْرَةِ الْحُمْرَةُ الَّتِي تُخَالِطُ الْبَيَاضَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَاضِ الْمُثْبَتِ مَا يُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ، وَالْمَنْفِيُّ مَا لَا يُخَالِطُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَكْرَهُ الْعَرَبُ لَوْنَهُ وَتُسَمِّيهِ أَمْهَقَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَةَ الْمَرْوَزِيِّ أَمْهَقَ لَيْسَ بِأَبْيَضَ مَقْلُوبَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْهَقِ الْأَخْضَرُ اللَّوْنِ الَّذِي لَيْسَ بَيَاضُهُ فِي الْغَايَةِ وَلَا سُمْرَتُهُ وَلَا حُمْرَتُهُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ الْمَهَقَ خُضْرَةُ الْمَاءِ، فَهَذَا التَّوْجِيهُ يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ إِطْلَاقُ كَوْنِهِ أَبْيَضَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا أَنْسَى شِدَّةَ بَيَاضِ وَجْهِهِ مَعَ شِدَّةِ سَوَادِ شَعْرِهِ وَكَذَا فِي شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ.

وَفِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَجَعَلْتُ

ص: 569

أَنْظُرَ إِلَى سَاقِهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ فِي عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ أَنَّهُ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُقَالُ: إِنَّ الْمُشَرَبَ مِنْهُ حُمْرَةٌ وَإِلَى السُّمْرَةِ مَا ضَحَى مِنْهُ لِلشَّمْسِ وَالرِّيحِ، وَأَمَّا مَا تَحْتَ الثِّيَابِ فَهُوَ الْأَبْيَضُ الْأَزْهَرُ. قُلْتُ: وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَقِبَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَزَادَ وَلَوْنُهُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ الْأَبْيَضُ الْأَزْهَرُ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي زِيَادَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ أَبْيَضُ مُشَرَّبٌ شَدِيدُ الْوَضَحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ لَيْسَ بِالْأَمْهَقِ وَهُوَ أَصَحُّ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ مَا فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ عَلَى مَا تَحْتَ الثِّيَابِ مِمَّا لَا يُلَاقِي الشَّمْسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبِطٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْجُعُودَةُ فِي الشَّعْرِ أَنْ لَا يَتَكَسَّرَ وَلَا يَسْتَرْسِلَ وَالسُّبُوطَةُ ضِدُّهُ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلًا وَقَوْلُهُ: رَجِلٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ - وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا - أَيْ مُتَسَرِّحٌ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ هُوَ رَجِلٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالْخَفْضِ وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَقَدْ وُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ خَفَضَهُ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ.

قَوْلُهُ: (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بَعَثَهُ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ بُعِثَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ بُعِثَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ حِينَ بُعِثَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ وَنِصْفٌ، فَمَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ أَلْغَى الْكَسْرَ أَوْ جَبَرَ، لَكِنْ قَالَ الْمَسْعُودِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ بُعِثَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً سَوَاءً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بُعِثَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ الْجِعَابِيِّ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهُ وُلِدَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ شَاذٌّ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا وَضُمَّ إِلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الْمَبْعَثَ فِي رَمَضَانَ فَيَصِحُّ أَنَّهُ بُعِثَ عِنْدَ إِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ أَيْضًا.

وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: بُعِثَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ وُلِدَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي تَارِيخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتَقِيِّ وَعَزَاهُ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَزَادَ لِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَهُوَ شَاذٌّ. وَمِنَ الشَّاذِّ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ، وَتَبِعَهُ الْبِلَاذُرِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَفِي تَارِيخِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ بُعِثَ بَعْدَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: (فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ) مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ سَنَةً، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَاضِي قَرِيبًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْإِس مَاعِيلِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ أَحَدَهُمَا، وَجَمَعَ غَيْرُهُ بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْوَفَاةِ آخَرَ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ) أَيْ بَلْ دُونَ ذَلِكَ، وَلِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قُلْتُ لِرَبِيعَةَ: جَالَسْتَ أَنَسًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: شَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ شَيْبَةً هَهُنَا يَعْنِي الْعَنْفَقَةَ وَلِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ فِي مُقَدَّمِهِ وَقَدِ اقْتَضَى حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ شَيْبَهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ

ص: 570

شَعَرَاتٍ لِإِيرَادِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ، لَكِنْ خُصَّ ذَلِكَ بِعَنْفَقَتِهِ، فَيُحْمَلُ الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي صُدْغَيْهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْ مَا فِي لِحْيَتِهِ مِنَ الشَّيْبِ عِشْرِينَ شَعْرَةً قَالَ حُمَيْدٌ: وَأَوْمَأَ إِلَى عَنْفَقَتِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا كَانَ فِي رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِحْيَتِهِ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَلِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ لَمْ يَكُنْ فِي لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ. قَالَ حُمَيْدٌ: كُنَّ سَبْعَ عَشْرَةَ وَفِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَا عَدَدْتُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَعْرَةً وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ شَعْرَةً وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَوْ عَدَدْتُ مَا أَقْبَلَ عَلَيَّ مِنْ شَيْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ مَا كُنْتُ أَزِيدُهُنَّ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ شَيْبَةً وَفِي حَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ زُهَيْرٍ عِنْدَ

(1)

ثَلَاثُونَ عَدَدًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَبِيعَةُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُ شَعْرًا مِنْ شَعْرِهِ فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ، فَسَأَلْتُ فَقِيلَ: احْمَرَّ مِنَ الطِّيبِ) لَمْ أَعْرِفِ الْمَسْئُولَ الْمُجِيبَ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لِأَنَسٍ: هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ شَعْرًا مِنْ شَعْرِهِ قَدْ لُوِّنَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا الَّذِي لُوِّنَ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي كَانَ يُطَيَّبُ بِهِ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي غَيَّرَ لَوْنَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَبِيعَةُ سَأَلَ أَنَسًا عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ. وَوَقَعَ فِي رِجَالِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهَا. قُلْتُ: فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا اسْتَقَامَ إِنْكَارُ أَنَسٍ، وَيَقْبَلُ مَا أَثْبَتَهُ سِوَاهُ التَّأْوِيلَ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ) أَيِ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَحْسَنُهُ خَلْقًا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ لِلْأَكْثَرِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ التِّينِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالشَّكِّ وَأَحْسَنُهُ خَلْقًا أَوْ خُلُقًا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْحُسْنِ الْحِسِّيِّ، فَيَكُونُ فِي الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى الْحُسْنِ الْمَعْنَوِيِّ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: إِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا وَهُوَ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا أَنَّ فِي أَوَّلِهِ فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ فَجَمَعَ صِفَاتِ الْقُوَى الثَّلَاثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهْوَانِيَّةِ، فَالشَّجَاعَةُ تَدُلُّ عَلَى الْغَضَبِيَّةِ، وَالْجُودُ يَدُلُّ عَلَى الشَّهَوِيَّةِ، وَالْحُسْنُ تَابِعٌ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الْمُسْتَتْبِعِ لِصَفَاءِ النَّفْسِ الَّذِي بِهِ جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ الدَّالِّ عَلَى الْعَقْلِ، فَوُصِفَ بِالْأَحْسَنِيَّةِ فِي الْجَمِيعِ.

وَمَضَى فِي الْجِهَادِ وَالْخُمُسِ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا. فَأَشَارَ بِعَدَمِ الْجُبْنِ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَهِيَ الشَّجَاعَةُ، وَبِعَدَمِ الْكَذِبِ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَبِعَدَمِ الْبُخْلِ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَهُوَ الْجُودُ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ رَبْعَةً، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُمَاشِيهِ مِنَ النَّاسِ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إِلَّا طَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَرُبَّمَا اكْتَنَفَهُ الرَّجُلَانِ الطَّوِيلَانِ فَيَطُولُهُمَا، فَإِذَا فَارَقَاهُ نُسِبَا إِلَى الطُّولِ، وَنُسِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرَّبْعَةِ وَقَوْلُهُ:(الْبَائِنِ) بِالْمُوَحَّدَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَانَ أَيْ ظَهَرَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ فَارَقَ مَنْ سِوَاهُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ قَتَادَةَ سَأَلْتُ أَنَسًا:

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: هكذا بياض في النسخ.

ص: 571

هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ الصُّدْغُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا لِلشَّعْرِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الرَّأْسِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهَذَا مُغَايِرٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَخَضِبْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ أَيْ مُتَفَرِّقٌ.

وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي شَابَ مِنْ عَنْفَقَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا شَابَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ زَادَ ابْنُ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمُ مَا شَانَهُ بِالشَّيْبِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فَقَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِذَا لَمْ يَدَّهِنْ تَبَيَّنَ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعْرٌ قَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ، وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَضِّبُ بِالصُّفْرَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ أَنَسٍ عَلَى غَلَبَةِ الشَّيْبِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى خِضَابِهِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنَّهُ رَآهُ وَهُوَ مُخَضِّبٌ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مَنْ أَثْبَتَ الْخَضْبَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ لِإِرَادَةِ بَيَانِ الْجَوَازِ وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَنَسٍ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ حُسْنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ إِنْكَارَ أَنَسٍ أَنَّهُ خَضَبَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخَضِبُ بِالصُّفْرَةِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَوَافَقَ مَالِكٌ، أَنَسًا فِي إِنْكَارِ الْخِضَابِ، وَتَأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَعِيدٌ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) أَيْ عَرِيضٌ أَعْلَى الظَّهْرِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ رَحْبُ الصَّدْرِ.

قَوْلُهُ: (لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أُذُنَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تَكَادُ جُمَّتُهُ تُصِيبُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى مَنْكِبَيْهِ) أَيْ زَادَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَطَرِيقُ يُوسُفَ هَذِهِ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ قَبْلَ هَذَا بِحَدِيثٍ لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِلدَّاوُدِيِّ: قَوْلُهُ: يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ: إِلَى مَنْكِبَيْهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مُعْظَمَ شَعْرِهِ كَانَ عِنْدَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ، وَمَا اسْتَرْسَلَ مِنْهُ مُتَّصِلٌ إِلَى الْمَنْكِبِ. أَوْ يُحْمَلُ عَلَى حَالَتَيْنِ. وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْهُ أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ وَفِي حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْهُ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ لَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ أُذُنَيْهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ، أَوْ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَغَايِرَةٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ.

وَفِي حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفْرَةٌ أَيْ جَعَلَهُ وَفْرَةً، فَهَذَا الْقَيْدُ يُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الْمُتَقَدِّمَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ الْبَرَاءُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ زُهَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ.

قَوْلُهُ:

ص: 572

(مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِثْلُ الْقَمَرِ) كَأَنَّ السَّائِلَ أَرَادَ أَنَّهُ مِثْلُ السَّيْفِ فِي الطُّولِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَرَاءُ فَقَالَ: بَلْ مِثْلُ الْقَمَرِ أَيْ فِي التَّدْوِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مِثْلَ السَّيْفِ فِي اللَّمَعَانِ وَالصِّقَالِ؟ فَقَالَ: بَلْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَعَدَلَ إِلَى الْقَمَرِ لِجَمْعِهِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ التَّدْوِيرِ وَاللَّمَعَانِ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ الْمَذْكُورَةِ أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيدًا مِثْلَ السَّيْفِ؟ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا بَلْ مِثْلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُسْتَدِيرًا وَإِنَّمَا قَالَ: مُسْتَدِيرًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلَ السَّيْفِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطُّولَ أَوِ اللَّمَعَانَ، فَرَدَّهُ الْمَسْئُولُ رَدًّا بَلِيغًا. وَلَمَّا جَرَى التَّعَارُفُ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالشَّمْسِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ غَالِبًا الْإِشْرَاقُ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْقَمَرِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمَلَاحَةُ دُونَ غَيْرِهِمَا، أَتَى بِقَوْلِهِ: وَكَانَ مُسْتَدِيرًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيهَ بِالصِّفَتَيْنِ مَعًا: الْحُسْنِ وَالِاسْتِدَارَةِ.

وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي جَبْهَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ جَرَيَانَ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا بِجَرَيَانِ الْحُسْنِ فِي وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ عَكْسُ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَنَاهِي التَّشْبِيهِ جَعْلُ وَجْهِهِ مَقَرًّا وَمَكَانًا لِلشَّمْسِ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ أَبِي يَعْفُورَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهَا: شَبِّهِيهِ. قَالَتْ: كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَفِي حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ لَوْ رَأَيْتَهُ لَرَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ الرَّقَّاشِيِّ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمِيلُ دَوَائِرِ الْوَجْهِ، قَدْ مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مِنْ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ حَتَّى كَادَتْ تَمْلَأُ نَحْرَهُ. وَرَوَى الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَسِيلَ الْخَدَّيْنِ، شَدِيدَ سَوَادِ الشَّعْرِ، أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ الْحَدِيثَ.

وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: أَسِيلَ الْخَدَّيْنِ هُوَ الْحَامِلُ عَلَى مَنْ سَأَلَ: أَكَانَ وَجْهُهُ مِثْلَ السَّيْفِ؟ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ وَكَانَ فِي وَجْهِهِ تَدْوِيرٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي شَرْحِهِ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّدْوِيرِ، بَلْ كَانَ فِيهِ سُهُولَةٌ، وَهِيَ أَحْلَى عِنْدَ الْعَرَبِ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ) هُوَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ الشَّطَوِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ، لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ) هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ فِيهِ عَوْنٌ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ) سَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِزِيَادَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ) وَقَعَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ: فَمَسَحَ صَدْرِي فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا - أَوْ رِيحًا - كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُونَةِ عَطَّارٍ وَفِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ: لَقَدْ كُنْتُ أُصَافِحُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَمَسُّ جِلْدِي جِلْدَهُ - فَأَتَعَرَّفُهُ بَعْدُ فِي يَدِي وَإِنَّهُ لَأَطْيَبَ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ.

وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ مَجَّ فِي الدَّلْوِ، ثُمَّ فِي الْبِئْرِ فَفَاحَ مِنْهُ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي جَمْعِ أُمِّ سُلَيْمٍ عَرَقَهُ صلى الله عليه وسلم وَجَعْلِهَا إِيَّاهُ فِي الطِّيبِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي اسْتَعَانَ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَجْهِيزِ ابْنَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَاسْتَدْعَى بِقَارُورَةٍ فَسَلَتْ لَهُ فِيهَا مِنْ عَرَقِهِ، وَقَالَ لَهُ: مُرْهَا فَلْتَطَّيَّبْ بِهِ، فَكَانَتْ إِذَا تَطَيَّبَتْ بِهِ شَمَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَائِحَةَ ذَلِكَ الطِّيبِ فَسُمُّوا بَيْتَ الْمُطَيَّبِينَ.

وَرَوَى أَبُو

ص: 573

يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، فَيُقَالُ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَصْفُهُ عليه الصلاة والسلام بِالْجُودِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْقَائِفِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهَا: تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ وَالْأَسَارِيرُ جَمْعُ أَسْرَارٍ وَهِيَ جَمْعُ سُرُرٍ وَهِيَ الْخُطُوطُ الَّتِي تَكُونَ فِي الْجَبْهَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ تَوْبَتِهِ، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الْمَغَازِي مُسْتَوْفًى شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ) أَيِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَبِينُ فِيهِ السُّرُورُ، وَهُوَ جَبِينُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: قِطْعَةُ قَمَرٍ وَلَعَلَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُلَثَّمًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ قِطْعَةُ قَمَرٍ الْقَمَرَ نَفْسَهُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ مِثْلَ شُقَّةِ الْقَمَرِ فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى صِفَتِهِ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا كَأَنَّهُ دَارَةُ قَمَرٍ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُ أَبِي عَمْرٍو مَيْسَرَةُ.

قَوْلُهُ: (بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا) الْقَرْنُ الطَّبَقَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَقِيلَ: بِسَبْعِينَ، وَقِيلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَحَكَى الْحَرْبِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ تَعَقَّبَ الْجَمِيعَ وَقَالَ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقَرْنَ كُلُّ أُمَّةٍ هَلَكَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ. وَقَوْلُهُ: (قَرْنًا) بِالنَّصْبِ حَالٌ لِلتَّفْصِيلِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَعَنْهُ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ سَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مَالِكٍ وَأَخْطَأَ فِيهِ، وَالصَّوَابُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّوَابُ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ.

قَوْلُهُ: (يَسْدُلُ شَعْرَهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، أَيْ يَتْرُكُ شَعْرَ نَاصِيَتِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ، أَيْ بِضَمِّ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ أَلْقَى شَعْرَ رَأْسِهِ إِلَى جَانِبَيْ رَأْسِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى جَبْهَتِهِ، وَيَفْرُقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا فَرَقْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ عَنْ يَافُوخِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ - أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ الَّذِي عَلَى نَاصِيَتِهِ - فَرَقٌ وَإِلَّا فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِهِ: الْعَقِيقَةُ شَعْرُ رَأْسِ الصَّبِيِّ قَبْلَ أَنْ يُحْلَقَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَلْقِ مَجَازًا. وَقَوْلُهُ: كَانَ لَا يَفْرُقُ شَعْرَهُ إِلَّا إِذَا انْفَرَقَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا لِمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيْ حَيْثُ كَانَ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ كَثِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ) أَيْ فِيمَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعَهُ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي زَمَانِهِ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ شَرَائِعِ الرُّسُلِ، فَكَانَتْ مُوَافَقَتُهُمْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ غَالِبُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ أَحَبَّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَجِئْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، وَتُعُقِّبَ

ص: 574

بِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْمَحَبَّةِ، وَلَوْ كَانَ كذَلِكَ لَعَبَّرَ بِالْوُجُوبِ. وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ آخِرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَيِ ابْنِ الْعَاصِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ سِوَى طَرَفَيْهِ وَقَدْ دَخَلَاهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْكُوفَةَ فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ.

قَوْلُهُ: (فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا) أَيْ نَاطِقًا بِالْفُحْشِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَدِّ فِي الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَالْمُتَفَحِّشُ الْمُتَكَلِّفُ لِذَلِكَ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفُحْشُ خُلُقًا وَلَا مُكْتَسِبًا، وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ.

وَقَدْ رَوَى الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَتْ جَبِينُهُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَقُولُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَحَاسِنَكُمْ وَحُسْنُ الْخُلُقِ: اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ، وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ مَكَارِمَ بَدَلَ صَالِحَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ أَمْرَيْنِ) أَيْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا لِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ لَا إِثْمَ فِيهَا، وَأُبْهِمَ فَاعِلُ خَيْرٌ لِيَكُونَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا أَيْ أَسْهَلَهُمَا. وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا أَيْ مَا لَمْ يَكُنِ الْأَسْهَلُ مُقْتَضِيًا لِلْإِثْمِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْتَارُ الْأَشَدَّ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِيهِ سَخَطٌ وَوُقُوعُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَا فِيهِ إِثْمٌ وَمَا لَا إِثْمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ جَائِزَيْنِ، لَكِنْ إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِأَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ مِنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ مَا يُخْشَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ مَثَلًا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُؤْتِيَهُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا الْكَفَافَ فَيَخْتَارَ الْكَفَافَ وَإِنْ كَانَتِ السَّعَةُ أَسْهَلَ مِنْهُ، وَالْإِثْمُ عَلَى هَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا يُرَادُ مِنْهُ مَعْنَى الْخَطِيئَةِ لِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ) أَيْ خَاصَّةً، فَلَا يَرِدُ أَمْرُهُ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لَا يَنْتَقِمُ إِذَا أَرَادَتْ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ إِذَا أُوذِيَ فِي غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي يُخْرِجُ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا عَفَا عَنِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَفَا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَيْهِ، وَعَنِ الْآخَرِ الَّذِي جَبَذَ بِرِدَائِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي كَتِفِهِ، وَحَمَلَ الدَّاوُدِيُّ عَدَمَ الِانْتِقَامِ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ، قَالَ: وَأَمَّا الْعِرْضُ فَقَدِ اقْتَصَّ مِمَّنْ نَالَ مِنْهُ، قَالَ: وَاقْتَصَّ مِمَّنْ لَدَّهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ بِلَدِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ تَأَوَّلُوا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ

ص: 575

مِنْ كَرَاهَةِ النَّفْسِ الدَّوَاءَ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: مَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا بِذِكْرٍ - أَيْ بِصَرِيحِ اسْمِهِ - وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا سُئِلَ فِي شَيْءٍ قَطُّ فَمَنَعَهُ إِلَّا أَنْ يُسْأَلَ مَأْثَمًا، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَكُونَ لِلَّهِ يَنْتَقِمُ الْحَدِيثَ.

وَهَذَا السِّيَاقُ سِوَى صَدْرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ: وَمَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَإِنِ انْتُهِكَتْ حُرْمَةُ اللَّهِ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ غَضَبًا لِلَّهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشَّيْءِ الْعَسِرِ، وَالِاقْتِنَاعِ بِالْيُسْرِ، وَتَرْكِ الْإِلْحَاحِ فِيمَا لَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ النَّدْبُ إِلَى الْأَخْذِ بِالرُّخَصِ مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخَطَأُ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ إِلَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّدْبُ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. وَفِيهِ تَرْكُ الْحُكْمِ لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْهُ الْحَيْفُ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لَكِنْ لِحَسْمِ الْمَادَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (مَا مَسِسْتُ) بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي مِيمِ شَمِمْتُ.

قَوْلُهُ: (وَلَا دِيبَاجًا) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الدِّيبَاجَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْفَتْحُ مُوَلَّدٌ أَيْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ.

قَوْلُهُ: (أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: هَذَا يُخَالِفُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إنَّهُ كَانَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَالْقَدَمَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ وَفِي حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ أَيْ غَلِيظَهُمَا فِي خُشُونَةٍ وَهَكَذَا وَصَفَهُ عَلِيٌّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ، وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَا فِي صِفَةِ عَائِشَةَ لَهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللِّينُ فِي الْجِلْدِ وَالْغِلَظُ فِي الْعِظَامِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نُعُومَةُ الْبَدَنِ وَقُوَّتُهُ، أَوْ حَيْثُ وُصِفَ بِاللِّينِ وَاللَّطَافَةِ حَيْثُ لَا يَعْمَلُ بِهِمَا شَيْئًا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَحَيْثُ وُصِفَ بِالْغِلَظِ وَالْخُشُونَةِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى امْتِهَانِهِمَا بِالْعَمَلِ، فَإِنَّهُ يَتَعَاطَى كَثِيرًا مِنْ أُمُورِهِ بِنَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَزَّارِ أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ فِي سَفَرٍ، فَمَا مَسِسْتُ شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ جِلْدِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (أَوْ عَرْفًا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ وَالْعَرْفُ الرِّيحُ الطَّيِّبُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْقَافِ، وَأَوْ عَلَى هَذَا لِلتَّنْوِيعِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مِسْكَةً وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: عَنْبَرَةً ضُبِطَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَالْآخَرُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، وَالْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ، وَالثَّانِي طِيبٌ مَعْمُولٌ مِنْ أَخْلَاطٍ يَجْمَعُهَا الزَّعْفَرَانُ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّعْفَرَانُ نَفْسُهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عَنْبَرًا وَلَا عَبِيرًا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الْعَاشِرِ. وَقَوْلُهُ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ بِخَفْضِ رِيحٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُضَافِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ

بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ.

وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى يَتَكَفَّأُ، وَمَا مَسِسْتُ إِلَخْ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ مِثْلَهُ: وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبي سَعِيدٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ

ص: 576

بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ مَوْلَى أَنَسٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ) أَيِ الْبِكْرِ، وَقَوْلُهُ فِي خِدْرِهَا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فِي سِتْرِهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ، لِأَنَّ الْعَذْرَاءَ فِي الْخَلْوَةِ يَشْتَدُّ حَيَاؤُهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَكُونُ خَارِجَةً عَنْهُ، لِكَوْنِ الْخَلْوَةِ مَظِنَّةَ وُقُوعِ الْفِعْلِ بِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا دُخِلَ عَلَيْهَا فِي خِدْرِهَا لَا حَيْثُ تَكُونُ مُنْفَرِدَةً فِيهِ، وَمَحَلُّ وُجُودِ الْحَيَاءِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَا أَنِكْتَهَا لَا تُكَنِّي كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْحُدُودِ.

وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ يَقُولُ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، وَمَا رَأَى أَحَدٌ عَوْرَتَهُ قَطُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ مِثْلَهُ) يَعْنِي سَنَدًا وَمَتْنًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ بِسَنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْقَطَّانِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَسَلْ يَا شُعْبَةُ فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ) أَيْ إنَّ ابْنَ بَشَّارٍ زَادَ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى أَيْضًا وَلَمْ يَقَعْ لِمُسَدَّدٍ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَابْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ الزِّيَادَةُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فَذَكَرَهَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَأَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْقَطَّانِ كُلِّهِمْ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ، إِشَارَةٌ إِلَى تَصْحِيحِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُهُ، بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ فَيَفْهَمُ أَصْحَابُهُ كَرَاهِيَتَهُ لِذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ الْأَشْجَعِيُّ، وَاسْمُهُ سَلْمَانُ، وَلَيْسَ هُوَ أَبَا حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنَ دِينَارٍ صَاحِبَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ) فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَابَ طَعَامًا قَطُّ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّعَامِ الْمُبَاحِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ، وَهُوَ بِتَنْوِينِ مَالِكٍ وَإِعْرَابُ ابْنِ بُحَيْنَةَ إِعْرَابَ ابْنِ مَالِكٍ لِأَنَّ مَالِكًا أَبُوهُ وَبُحَيْنَةَ أُمُّهُ.

قَوْلُهُ: (الْأَسْدِيُّ) هُوَ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُقَالُ فِيهِ: الْأَزْدِيُّ بِسُكُونِ الزَّايِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ يُقَالُ بِالزَّايِ وَبِالسِّينِ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ فَقَرَأَهُ بِفَتْحِ السِّينِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ أَيْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ (حَدَّثَنَا بَكْرٌ) أَيِ ابْنُ مُضَرَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) أَيْ أَنَّ يَحْيَى زَادَ لَفْظَ بَيَاضُ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ حَتَّى يَرَى إِبْطَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِوَصْفِ إِبْطَيْهِ بِالْبَيَاضِ فَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُمَا شَعْرٌ فَكَانَا كَلَوْنِ جَسَدِهِ، ثُمَّ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ تَحْتَ إِبْطَيْهِ شَعْرٌ الْبَتَّةَ، وَقِيلَ: كَانَ لِدَوَامِ تَعَهُّدِهِ لَهُ لَا يَبْقَى فِيهِ شَعْرٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَعْفَرَ مَا بَيَاضُهُ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَغَابِنِ يَكُونُ لَوْنُهَا فِي الْبَيَاضِ دُونَ لَوْنِ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ

ص: 577

فِي الِاسْتِسْقَاءِ، تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ مَشْرُوحًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ إِبْطَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَصْرِ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا أَصْلُ الرَّفْعِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ عَنْهُ كَمَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي بَعْدَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا مُعَلَّقًا، هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْمَنَاقِبِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ عَلَّقَ طَرَفًا مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ) هُوَ الْبَزَّارُ الَّذِي أَخْرَجَ عَنْهُ الْحَدِيثَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ لِأَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عَوْنَ بْنَ أَبِي جُحَيْفَةَ ذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَوْنٍ سَمِعْتُ أَبِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (دُفِعْتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَالْأَبْطَحُ هُوَ الَّذِيِ خَارِجَ مَكَّةَ يَنْزِلُ فِيهِ الْحَاجُّ إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى. وَقَوْلُهُ وَكَانَ بِالْهَاجِرَةِ اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ وَالْوَبِيصُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْبَرِيقُ وَزْنًا وَمَعْنًى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ، وَهُوَ وَاسِطِيٌّ سَكَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ مَا لَحِقَ الثَّوْرِيَّ، وَالثَّوْرِيُّ لَا يَرْوِي عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ) أَيْ لَوْ عَدَّ كَلِمَاتِهِ أَوْ مُفْرَدَاتِهِ أَوْ حُرُوفَهُ لَأَطَاقَ ذَلِكَ وَبَلَغَ آخِرَهَا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّرْتِيلِ وَالتَّفْهِيمِ، هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي سِيَاقِهِ بَسْطًا وَاخْتِصَارًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا يُعْجِبُكَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ مِنَ الْإِعْجَابِ وَبِفَتْحِ ثَانِيهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْجِيبِ.

قَوْلُهُ: (أَبَا فُلَانٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ مُنَادَى بِكُنْيَتِهِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَأَذْكُرُهُ، وَإِنَّمَا خَاطَبَتْ عَائِشَةُ عُرْوَةَ بِقَوْلِهَا: أَلَا يُعْجِبُكَ، وَذَكَرَتْ لَهُ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ فَقَالَتْ: أَبَا فُلَانٍ، وَحَقُّ السِّيَاقِ أَنْ تَقُولَ: أَبُو فُلَانٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، لَكِنَّهُ جَاءَ هَكَذَا عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ ثُمَّ حَكَتْ وَجْهَ التَّعَجُّبِ فَقَالَتْ: جَاءَ فَجَلَسَ إِلَخْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَرِيمَةَ فِي أَبُو فُلَانٍ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا.

وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الطُّوسِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، لَكِنْ قَالَ: هَارُونُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَقَالَ الطُّوسِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَكَأَنَّ لِسُفْيَانَ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ أَبُو هُرَيْرَةَ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ فَجَلَسَ وَلِأَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَقَعَ لِلْقَابِسِيِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَفْتُوحَةٌ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِتْيَانِ، وَفُلَانٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْكُنْيَةِ لَا بِلَفْظِ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ عَنْهَا، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَابِسِيَّ أَنْكَرَ عَيْنَ رِوَايَتِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هِيَ الصَّوَابُ لَوْلَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ جَاءَ. قُلْتُ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَكْرَارًا.

قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ أُسَبِّحُ) أَيْ أُصَلِّي نَافِلَةً، أَوْ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ أَذْكُرُ اللَّهَ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ) أَيْ لَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ وَبَيَّنْتُ لَهُ أَنَّ التَّرْتِيلَ فِي التَّحْدِيثِ أَوْلَى مِنَ السَّرْدِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ) أَيْ يُتَابِعُ الْحَدِيثَ اسْتِعْجَالًا بَعْضَهُ إِثْرَ بَعْضٍ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى الْمُسْتَمِعِ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصْلًا، فَهْمًا تَفْهَمُهُ الْقُلُوبُ وَاعْتَذَرَ

ص: 578

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ، فَكَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهَلِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْدِيثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيَّ.

‌24 - بَاب كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3569 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي.

3570 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ: جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ. وَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ. فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ.

[الحديث 3570 - أطرافه في: 4964، 5610، 6581، 7517]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَيْنَاهُ (وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ).

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ) وَصَلَهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، وَفِي آخِرِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنِي وَلَا يَنَامُ قَلْبِي. وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْمِعْرَاجِ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَخِي) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ.

قَوْلُهُ: (جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) هُمْ مَلَائِكَةٌ، وَلَمْ أَتَحَقَّقْ أَسْمَاءَهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ) هُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ نَائِمًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نَائِمًا بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ تِلْكَ) أَيِ الْقِصَّةُ أَيْ لَمْ يَقَعْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى جَاءُوا إِلَيْهِ لَيْلَةً أُخْرَى) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا يَحْصُلُ رَفْعُ الْإِشْكَالِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ، وَزَعَمَ الْقُضَاعِيُّ أَنَّهُ مِمَّا اخْتُصَّ

ص: 579

بِهِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَرُدَّانِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، فَلْيُرَاجِعْ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ.

‌25 - بَاب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ

3571 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ فَأَدْلَجُوا لَيْلَتَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ عَرَّسُوا، فَغَلَبَتْهُمْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ لَا يُوقَظُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنَامِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ وَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ ثُمَّ صَلَّى، وَجَعَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَكُوبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا مَاءَ فَقُلْنَا: كَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ؟ قَالَتْ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.

فَقُلْنَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: وَمَا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا حَتَّى اسْتَقْبَلْنَا بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَتْهُ بِمِثْلِ الَّذِي حَدَّثَتْنَا غَيْرَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا مُؤْتِمَةٌ، فَأَمَرَ بِمَزَادَتَيْهَا فَمَسَحَ فِي الْعَزْلَاوَيْنِ فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعُونَ رَجُلًا حَتَّى رَوِينَا، فَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَنِضُّ مِنْ الْمِلْءِ ثُمَّ قَالَ: هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ، فَجُمِعَ لَهَا مِنْ الْكِسَرِ وَالتَّمْرِ حَتَّى أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ: لَقِيتُ أَسْحَرَ النَّاسِ أَوْ هُوَ نَبِيٌّ كَمَا زَعَمُوا فَهَدَى اللَّهُ ذَاكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا.

3572 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ "أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِائَةٍ".

3573 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتُمِسَ الْوَضُوءُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.

ص: 580

3574 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُبَارَكٍ، حَدَّثَنَا حَزْمٌ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَخَارِجِهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَانْطَلَقُوا يَسِيرُونَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَدَّ أَصَابِعَهُ الْأَرْبَعَ عَلَى الْقَدَحِ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَتَوَضَّئُوا، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ حَتَّى بَلَغُوا فِيمَا يُرِيدُونَ مِنْ الْوَضُوءِ، وَكَانُوا سَبْعِينَ أَوْ نَحْوَهُ.

3575 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ مِنْ الْمَسْجِدِ يَتَوَضَّأُ وَبَقِيَ قَوْمٌ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْمِخْضَبِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ جَمِيعًا قُلْتُ: كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: ثَمَانُونَ رَجُلًا.

3576 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ، فَتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ، وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا. قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.

3576 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: "عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ مَا لَكُمْ قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً".

[الحديث 3576 - أطرافه في: 4152، 4153، 4154، 4840، 5639]

3577 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا حَتَّى لَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي الْبِئْرِ فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حَتَّى رَوِينَا وَرَوَتْ أَوْ صَدَرَتْ رَكَائِبُنَا".

[الحديث 3577 - طرفاه في: 4150، 4151]

قَوْلُهُ: (بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ) الْعَلَامَاتُ جَمْعُ عَلَامَةٍ، وَعَبَّرَ بِهَا الْمُصَنِّفُ لِكَوْنِ مَا يُورِدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَعَمَّ مِنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعْجِزَةَ أَخَصُّ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَتَحَدَّى النَّبِيُّ مَنْ يُكَذِّبُهُ بِأَنْ يَقُولَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَلِكَ أَتُصَدِّقُ بِأَنِّي صَادِقٌ؟ أَوْ يَقُولُ مَنْ يَتَحَدَّاهُ: لَا أُصَدِّقُكَ حَتَّى تَفْعَلَ كَذَا. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَدَّى بِهِ مِمَّا يَعْجَزُ عَنْهُ الْبَشَرُ فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ.

وَقَدْ وَقَعَ النَّوْعَانِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، وَسُمِّيَتِ الْمُعْجِزَةُ

ص: 581

لِعَجْزِ مَنْ يَقَعُ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ هِيَ صِفَةُ مَحْذُوفٍ.

وَأَشْهَرُ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ - وَهُمْ أَفْصَحُ النَّاسِ لِسَانًا وَأَشَدُّهُمُ اقْتِدَارًا عَلَى الْكَلَامِ - بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَصَدِّهِمْ عَنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فَكُلُّ قُرْآنٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى كَانَ قَدْرَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} سَوَاءٌ كَانَ آيَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بَعْضَ آيَةٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَتَصِلُ مُعْجِزَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ إِلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ جِدًّا.

وَوُجُوهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامِ كَلِمَاتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَإِيجَازِهِ فِي مَقَامِ الْإِيجَازِ، وَبَلَاغَتُهُ ظَاهِرَةٌ جِدًّا مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ نَظْمِهِ وَغَرَابَةِ أُسْلُوبِهِ، مَعَ كَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ قَوَاعِدِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، هَذَا إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا وَقَعَ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا أَخَذَ عَنْهُمْ، وَبِمَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ، هَذَا مَعَ الْهَيْبَةِ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ وَالْخَشْيَةِ الَّتِي تَلْحَقُ سَامِعَهُ وَعَدَمِ دُخُولِ الْمَلَالِ وَالسَّآمَةِ عَلَى قَارِئِهِ وَسَامِعِهِ، مَعَ تَيَسُّرِ حِفْظِهِ لِمُتَعَلِّمِيهِ وَتَسْهِيلِ سَرْدِهِ لِتَالِيهِ، وَلَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مُعْظَمَ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ.

وَمِنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ إِبْقَاؤُهُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِعْجَازِ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ تَحَدِّيهِ الْيَهُودَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَلَمْ يَقَعْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنْهُمْ وَلَا خَلَفَ مَنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ وَلَا أَقْدَمَ، مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِهَذَا الدِّينِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى إِفْسَادِهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَوْضَحُ مُعْجِزَةٍ.

وَأَمَّا مَا عَدَا الْقُرْآنَ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنُطْقِ الْجَمَادِ، فَمِنْهُ مَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَحَدٍّ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى يَدِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، كَمَا يُقْطَعُ بِوُجُودِ جُودِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُ ذَلِكَ ظَنِّيَّةً وَرَدَتْ مَوْرِدَ الْآحَادِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ النَّبَوِيَّةِ قَدِ اشْتَهَرَ وَانْتَشَرَ وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَأَفَادَ الْكَثِيرُ مِنْهُ الْقَطْعَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ، وَالْعِنَايَةِ بِالسِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ لِعَدَمِ عِنَايَتِهِمْ بِذَلِكَ، بَلْ لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْوَقَائِعِ مُفِيدَةٌ لِلْقَطْعِ بِطَرِيقٍ نَظَرِيٍّ لِمَا كَانَ مُسْتَبْعَدًا وَهُوَ أَنَّهُ لَا مِرْيَةَ أَنَّ رُوَاةَ الْأَخْبَارِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ قَدْ حَدَّثُوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مُخَالَفَةُ الرَّاوِي فِيمَا حَكَاهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِيمَا هُنَالِكَ، فَيَكُونُ السَّاكِتُ مِنْهُمْ كَالنَّاطِقِ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمْ مَحْفُوظٌ مِنَ الْإِغْضَاءِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُوجَدَ مِنْ بَعْضِهِمْ إِنْكَارٌ أَوْ طَعْنٌ عَلَى بَعْضِ مَنْ رَوَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفٍ فِي صِدْقِ الرَّاوِي أَوْ تُهْمَتِهِ بِكَذِبٍ أَوْ تَوَقُّفٌ فِي ضَبْطِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى سُوءِ الْحِفْظِ أَوْ جَوَازِ الْغَلَطِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ طَعْنٌ فِي الْمَرْوِيِّ كَمَا وُجِدَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ

مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ وَحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَدْ قَرَّرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ وُجُودِ إِفَادَةِ الْقَطْعِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ تَقْرِيرًا حَسَنًا، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمُ النَّقْلُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِجْزَاءُ النِّيَّةِ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِهِ لَهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَكَذَا إِيجَابُ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي إِجْزَاءِ بَعْضِهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَهُمَا مَعًا إِيجَابُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَتَجِدُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ خِلَافِهِمْ، فَضْلًا عَمَّنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ

ص: 582

الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ: بَلَغَتْ أَلْفًا، وَقَالَ الزَّاهِدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ أَلْفُ مُعْجِزَةٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَدِ اعْتَنَى بِجَمْعِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

قَوْلُهُ: (فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ مِنْ حِينِ الْمَبْعَثِ وَهَلُمَّ جَرَّا دُونَ مَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَدْ جَمَعَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، بَلْ قَبْلَ الْمَوْلِدِ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ وَأَبُو سَعِيدٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَسَيَأْتِي مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي خُرُوجِهِ فِي ابْتِغَاءِ الدِّينِ، وَمَضَى مِنْهُ قِصَّةُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَقَدَّمْتُ فِي بَابِ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِصَّةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ مُحَمَّدًا، وَمِنْ الْمَشْهُورِ ذَلِكَ قِصَّةُ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَهِيَ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ رَاهِبٌ يُدْعَى عِيصَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ: أَعْلَمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَيْلَةَ وُلِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَذَكَرَ لَهُ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَتِهِ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْكُتُبِ صِفَةَ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ بِلَادِنَا، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي هُوَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَ: فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِأَخْلَاقِهِ إِلَّا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، إِلَّا أَنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ غَيْرُهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ قُلْتُ لِأُمَيَّةَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ حَقٌّ فَاتَّبِعْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَأَنْتَ مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: الْحَيَاءُ مِنْ نُسَيَّاتِ ثَقِيفٍ أَنِّي كُنْتُ أُخْبِرُهُنَّ أَنِّي هُوَ ثُمَّ أَصِيرُ تَبَعًا لِفَتًى مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَانٍ فَذَكَرَ الْحَشْرَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَقُلْنَا لَهُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: خُرُوجُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ - وَأَشَارَ إِلَى مَكَّةَ - فَقَالُوا: مَتَى يَقَعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَرَمَى بِطَرَفِهِ إِلَى السَّمَاءِ - وَأَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ - فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ، قَالَ: فَمَا ذَهَبَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَيٌّ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ هُوَ بَغْيًا وَحَسَدًا وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَهُودِيٌّ قَدْ سَكَنَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ وُلِدَ فِيكُمُ اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ؟ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ.

قَالَ: فَإِنَّهُ وُلِدَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَامَةٌ، لَا يَرْضَعُ لَيْلَتَيْنِ لِأَنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، فَانْصَرَفُوا فَسَأَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ وُلِدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ غُلَامٌ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ مَعَهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْرَجَتْهُ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى الْيَهُودِيُّ الْعَلَامَةَ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَقَالَ: ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَاللَّهِ لَيَسْطُوَنَّ بِكُمْ سَطْوَةً يَخْرُجُ خَبَرُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

قُلْتُ: وَلِهَذِهِ الْقِصَصِ نَظَائِرُ يَطُولُ شَرْحُهَا. وَمِمَّا ظَهَرَ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ وَبَعْدَهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا حَضَرَتْ آمِنَةَ أُمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى النُّجُومِ تَدَلَّى حَتَّى أَقُولَ لَتَقَعْنَ عَلَيَّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ الْبَيْتُ وَالدَّارُ.

وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنِّي دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَإِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ،

وَالْحَاكِمُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ نَحْوَهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَقَالَتْ: أَضَاءَتْ لَهُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ

ص: 583

وَالْحَاكِمُ فِي قِصَّةِ رَضَاعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْعَلَامَاتِ كَثْرَةُ اللَّبَنِ فِي ثَدْيَيْهَا، وَوُجُودُ اللَّبَنِ فِي شَارِفِهَا بَعْدَ الْهُزَالِ الشَّدِيدِ، وَسُرْعَةُ مَشْيِ حِمَارِهَا، وَكَثْرَةُ اللَّبَنِ فِي شِيَاهِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَخِصْبُ أَرْضِهَا، وَسُرْعَةُ نَبَاتِهِ، وَشَقُّ الْمَلَكَيْنِ صَدْرَهُ.

وَهَذَا الْأَخِيرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَمَعَهُ فَأَعَادَهُ مَكَانَهُ الْحَدِيثَ.

وَفِي حَدِيثِ مَخْزُومِ بْنِ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قال: وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ إِيوَانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرَّافَةً، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ وَلَمْ تُخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَرَأَى الْمُوبِذَانُ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا وَقَعَ، فَسَأَلَ عُلَمَاءَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَرْسَلُوا إِلَى سَطِيحٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا أَخْرَجَهَا ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ نَحْوَ خَمْسِينَ حَدِيثًا: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ، وَالْمُعْجِزَةُ فِيهَا تَكْثِيرُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِبَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ التَّيَمُّمِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إِيهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيهًا بِالتَّنْوِينِ مَعَ الْفَتْحِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ جَوَازَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي هَذِهِ. وَقَوْلُهُ:(مُؤْتِمَةٌ) أَيْ ذَاتُ أَيْتَامٍ.

وَقَوْلُهُ: (فَمَسَحَ بِالْعَزْلَاوَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْعَزْلَايْنِ وَهُمَا تَثْنِيَةُ عَزْلَاءَ بِسُكُونِ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ فَمُ الْقِرْبَةِ وَالْجَمْعُ عَزَالِي بِكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعُونَ رَجُلًا) أَيْ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَرْبَعِينَ بِالنَّصْبِ وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ تَكَادُ تَبِضُّ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ثَقِيلَةٌ أَيْ تَسِيلُ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْبَصِيصِ وَهُوَ اللَّمَعَانُ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَبْعَدٌ هُنَا، فَإِنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ تَكَادُ تَبُضُّ مِنَ الْمِلْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، فَكَوْنُهَا تَكَادُ تَسِيلُ مِنَ الْمِلْءِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا تَلْمَعُ مِنَ الْمِلْءِ فَبَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: تَبُضُّ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ تُشَقُّ، يُقَالُ: بَضَّ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ إِذَا نَبَعَ، وَكَذَا بَضَّ الْعَرَقُ، قَالَ: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى: رُوِيَ تَنِضُّ بِنُونٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَرُوِيَ تَيْصَرُ بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَصَادٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ رَاءٌ.

قَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَنْشَقُّ، قَالَ: وَمِنْهُ صَيْرُ الْبَابِ أَيْ شَقُّ الْبَابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ صَيْرَ عَيْنُهُ حَرْفُ عِلَّةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ تَصَوَّرُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَنْصَبُّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، فَتُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِأَنَّهَا بِمَعْنَى تَسِيلُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ عَنْ أَنَسٍ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْرَدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ: مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَحُمَيْدٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَهُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ.

وَظَهَرَ لِي مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ فِي مَوْطِنَيْنِ لِلتَّغَايُرِ فِي عَدَدِ مَنْ حَضَرَ، وَهِيَ مُغَايَرَةٌ وَاضِحَةٌ يَبْعُدُ الْجَمْعُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ ذَلِكَ فِيهِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَفَرٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ قَتَادَةَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَوَاطِنَ أُخَرَ.

قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الْقِصَّةُ رَوَاهَا الثِّقَاتُ مِنَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلَةً بِالصَّحَابَةِ،

ص: 584

وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ اجْتِمَاعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي الْمَحَافِلِ وَمَجْمَعِ الْعَسَاكِرِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارٌ عَلَى رَاوِي ذَلِكَ، فَهَذَا النَّوْعُ مُلْحَقٌ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَضِيَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم تَكَرَّرَتْ مِنْهُ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ، وَوَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يُفِيدُ مَجْمُوعُهُا الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ.

قُلْتُ: أَخَذَ كَلَامَ عِيَاضٍ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، قَالَ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَنْ غَيْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم. وَحَدِيثُ نَبْعِ الْمَاءِ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ خَمْسَةِ طُرُقٍ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالِدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، فَعَدَدُ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِهِمَا، وَأَمَّا تَكْثِيرُ الْمَاءِ يَلْمَسُهُ بِيَدٍ أَوْ يَتْفُلُ فِيهِ أَوْ يَأْمُرُ بِوَضْعِ شَيْءٍ فِيهِ كَسَهْمٍ مِنْ كِنَانَتِهِ، فَجَاءَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، وَعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ عِنْدَهُ، وَعَنْ حِبَّانَ بْنِ بُحٍّ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الصُّدَائِيِّ أَيْضًا، فَإِذَا ضُمَّ هَذَا إِلَى هَذَا بَلَغَ الْكَثْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أَوْ قَارَبَهَا. وَأَمَّا مَنْ رَوَاهَا مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي فَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَإِنْ كَانَ شَطْرُ طُرُقِهِ أَفْرَادًا. وَفِي الْجُمْلَةِ يُسْتَفَادُ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ حَيْثُ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ شَهِدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَذَلِكَ لِطُولِ عُمُرِهِ وَتَطَلُّبِ النَّاسِ الْعُلُوَّ فِي السَّنَدِ انْتَهَى. وَهُوَ يُنَادَى عَلَيْهِ بِقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ وَالِاسْتِحْضَارِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابِ الَّذِي شَرَحَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَنْ غَيْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم حَيْثُ نَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَبْعُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ حَيْثُ ضَرَبَهُ مُوسَى بِالْعَصَا فَتَفَجَّرَتْ مِنْهُ الْمِيَاهُ، لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ، بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ انْتَهَى.

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَاءَ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ الْكَائِنِ فِي الْأَصَابِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَجَاءُوا بِشَنٍّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَرَّقَ أَصَابِعَهُ فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ عَصَا مُوسَى، فَإِنَّ الْمَاءَ تَفَجَّرَ مِنْ نَفْسِ الْعَصَا فَتَمَسُّكُهُ بِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ تَفَجَّرَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رُؤْيَةِ الرَّائِي، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلْبَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ يَفُورُ وَيَكْثُرُ وَكَفُّهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَاءِ، فَرَآهُ الرَّائِي نَابِعًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ، وَلَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَرُدُّهُ وَهُوَ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) لَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ إِلَّا مُعَنْعَنًا، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ لِقَوْلِهِ: قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ فَهَذَا لَوْ كَانَ مَحْفُوظًا اقْتَضَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ انْقِطَاعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَكِّيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُرْتَفِعًا كَالْمَنَارَةِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بِالتَّأْذِينِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، بَلِ الْوَاقِعُ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ عُثْمَانُ بِالتَّأْذِينِ فِيهِ كَانَ بِالزَّوْرَاءِ لَا أَنَّهُ الزَّوْرَاءُ نَفْسُهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ عِنْدَ الزَّوْرَاءِ، أَوْ عِنْدَ بُيُوتِ الْمَدِينَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.

وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ

ص: 585

شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْضَرَ الْمَاءَ، وَأَنَّهُ أَحْضَرَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَّهُ رَدَّهُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهِ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهِ أَوَّلًا.

وَوَقَعَ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى قُبَاءَ، فَأُتِيَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِهِمْ بِقَدَحٍ صَغِيرٍ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفِي رِوَايَةِ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا فِي الْقَوْمِ مِنْ طَهُورٍ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِفَضْلَةٍ فِي إِدَاوَةٍ فَصَبَّهُ فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ أَتَوْا بِبَقِيَّةِ الطَّهُورِ فَقَالُوا: تَمَسَّحُوا تَمَسَّحُوا، فَسَمِعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي الْقَدَحِ فِي جَوْفِ الْمَاءِ ثُمَّ قَالَ: أَسْبِغُوا الطُّهُورَ، قَالَ جَابِرٌ: فَوَالَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَضَّئُوا أَجْمَعُونَ، قَالَ: حَسِبْتُهُ قَالَ: كُنَّا مِائَتَيْنِ وَزِيَادَةً وَجَاءَ عَنْ جَابِرٍ قِصَّةٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي أَحْضَرُوهُ لَهُ كَانَ قَطْرَةً فِي إِنَاءٍ مِنْ جِلْدٍ لَوْ أَفْرَغَهَا لَشَرِبَهَا يَابِسُ الْإِنَاءِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي الرَّكْبِ قَطْرَةَ مَاءٍ غَيْرَهَا، قَالَ: فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ وَغَمَزَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَادِ بِجَفْنَةِ الرَّكْبِ فَجِيءَ بِهَا ; فَقَالَ بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ فَبَسَطَهَا، ثُمَّ فَرَّقَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَ تِلْكَ الْقَطْرَةَ فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ فَقَالَ: خُذْ يَا

جَابِرُ فَصُبَّ عَلَيَّ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ، فَفَعَلْتُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ وَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأَتْ، فَأَتَى النَّاسُ فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوَوْا، فَرَفَعَ يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ وَهِيَ مَلْأَى وَهَذِهِ الْقِصَّةُ أَبْلَغُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قِلَّةِ الْمَاءِ وَعَلَى كَثْرَةِ مَنِ اسْتَقَى مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ أَيْ قَدْرَ ثَلَاثِمِائَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَهَوْتُ الشَّيْءَ إِذَا حَصَرْتُهُ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: ثَلَاثِمِائَةِ بِالْجَزْمِ بِدُونِ قَوْلِهِ زُهَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي نَبْعِ الْمَاءِ أَيْضًا:

قَوْلُهُ: (عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ:(جَهَشَ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ أَيْ أَسْرَعُوا لِأَخْذِ الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَجَهَشَ بِزِيَادَةِ فَاءٍ فِي أَوَّلِهِ، وَقَوْلُهُ: فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَلَّثَةٍ، وَلِلكُشمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ وَهُمَا بِمَعْنًى.

وَقَوْلُهُ: (رُوِينَا) بِكَسْرِ الْوَاوِ مِنَ الرِّيِّ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي تَكْثِيرِ الْمَاءِ بِبِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأُبَيِّنُ هُنَاكَ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي قَبْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

3578 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ، لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِطَعَامٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ،

ص: 586

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ.

فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا.

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا".

3579 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ".

3580 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عَامِرٌ قَالَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ رضي الله عنه "أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ إِنَّ أَبِي تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَلَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ سِنِينَ مَا عَلَيْهِ فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْ لَا يُفْحِشَ عَلَيَّ الْغُرَمَاءُ فَمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ فَدَعَا ثَمَّ آخَرَ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ فَقَالَ انْزِعُوهُ فَأَوْفَاهُمْ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ".

3581 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَّةً مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ أَوْ كَمَا قَالَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَةً قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ امْرَأَتِي وَخَادِمِي بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ أَوْ ضَيْفِكَ قَالَ أَوَعَشَّيْتِهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ. قال:

ص: 587

فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ. فَقَالَ يَا غُنْثَرُ - فَجَدَّعَ وَسَبَّ - وَقَالَ: كُلُوا وَقَالَ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ اللُّقْمَةِ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلُ. فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا شَيْءٌ أَوْ أَكْثَرُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ قَالَتْ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَمَضَى الأَجَلُ فَتَفَرَّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ قَالَ أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ". وَغَيْرُهُ يَقُولُ "فَعَرَفْنَا" مِنْ الْعِرَافَةِ.

3582 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْكُرَاعُ هَلَكَتْ الشَّاءُ فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا قَالَ أَنَسٌ وَإِنَّ السَّمَاءَ لَمِثْلُ الزُّجَاجَةِ فَهَاجَتْ رِيحٌ أَنْشَأَتْ سَحَابًا ثُمَّ اجْتَمَعَ ثُمَّ أَرْسَلَتْ السَّمَاءُ عَزَالِيَهَا فَخَرَجْنَا نَخُوضُ الْمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَا مَنَازِلَنَا فَلَمْ نَزَلْ نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهُ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَنَظَرْتُ إِلَى السَّحَابِ تَصَدَّعَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ كَأَنَّهُ إِكْلِيلٌ".

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي تَكْثِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ) هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةِ أَنَسٍ، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الطُّرُقُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَرَوَاهُ مُطَوَّلًا عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَوَّلُهُ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ. الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ فِيهِ حِينَ مُحَاصَرَةِ الْأَحْزَابِ لِلْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ.

قَوْلُهُ: (ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ) فِيهِ الْعَمَلُ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَاوِيًا، وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ بَلَغَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامٌ، فَذَهَبَ فَأَجَّرَ نَفْسَهُ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ بِعَمَلِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ أَخُو إِسْحَاقَ رَاوِي حَدِيثِ الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي يَعْلَى قَالَ: رَأَى أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ وَقَدْ عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلْتُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا مِنَ الْجُوعِ، فَذَهَبْتُ

ص: 588

إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ الْحَدِيثَ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: أَعْنَدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُقْرِئُ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ سُورَةَ النِّسَاءِ، وَقَدْ رَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ: عَمَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى نِصْفِ مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنَ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ غَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَرَشَتْهُ ثُمَّ عَمِلَتْهُ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ أَتَى أَبُو طَلْحَةَ بِمُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ فَأَمَرَ بِهِ فَصُنِعَ طَعَامًا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ تَعَدَّدَتْ، وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الشَّعِيرُ فِي الْأَصْلِ كَانَ صَاعًا فَأَفْرَدَتْ بَعْضَهُ لِعِيَالِهِمْ وَبَعْضَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مَا بَيْنَ الْعَصِيدَةِ وَالْخُبْزِ الْمَفْتُوتِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّمْنِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ، وَقَدْ وَقَعَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ فِي شَيْءٍ صَنَعَتْهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَإِدْخَالِ عَشَرَةٍ عَشَرَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ.

وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ عَمَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى نِصْفِ مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى عُكَّةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سَمْنٍ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً الْحَدِيثَ. وَالْخَطِيفَةُ هِيَ الْعَصِيدَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ) أَيْ لَفَّتْنِي بِهِ يُقَالُ: لَاثَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ أَيْ عَصَبَهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَفَّتْ بَعْضَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَبَعْضَهُ عَلَى إِبْطِهِ. وَوَقَعَ فِي الْأَطْعِمَةِ لِلْمُصَنِّفِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ وَدَسَّتِ الْخُبْزَ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ تَقُولُ: دَسَّ الشَّيْءَ يَدُسُّهُ دَسًّا إِذَا أَدْخَلَهُ فِي الشَّيْءِ بِقَهْرٍ وَقُوَّةٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا) ظَاهِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ قُومُوا، وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَأَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَا الْخُبْزَ مَعَ أَنَسٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا أَرَادَا بِإِرْسَالِ الْخُبْزِ مَعَ أَنَسٍ أَنْ يَأْخُذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَنَسٌ وَرَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ حَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَى وَظَهَرَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَقُومَ مَعَهُ وَحْدَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ إِطْعَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ، عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا رَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَدْ عَرَفُوا إِيثَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَدْعُوَهُ وَقَدْ جَعَلَ لَهُ طَعَامًا.

وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَنَسٍ أَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ أَنْ تَصْنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ فَدَخَلَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى أُمِّي فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، عِنْدِي كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ، فَإِنْ جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ أَشْبَعْنَاهُ، وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ مَعَهُ قَلَّ عَنْهُمْ وَجَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: اعْجِنِيهِ وَأَصْلِحِيهِ عَسَى أَنْ نَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَ عِنْدَنَا، فَفَعَلَتْ، فَقَالَتِ: ادْعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ فَقُمْ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا قَامَ فَدَعْهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ اتْبَعْهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، عَنْ أَنَسٍ قَالَ لِي أَبُو

ص: 589

طَلْحَةَ: اذْهَبْ فَادْعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ فِي الْأَطْعِمَةِ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ بَعَثَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَدَعَوْتُهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَغَدَّى عِنْدنَا فَافْعَلْ.

وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اذْهَبْ يَا بُنَيَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَادْعُهُ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَادْعُهُ، وَلَا تَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَا تَفْضَحْنِي.

قَوْلُهُ: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: انْطَلِقُوا فَانْطَلَقُوا وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ فَلَمَّا قُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: يَا هَؤُلَاءِ تَعَالَوْا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَشَدَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا أَرْسَلَ يَدِي فَدَخَلْتُ، وَأَنَا حَزِينٌ لِكَثْرَةِ مَنْ جَاءَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ) أَيْ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِمْ (فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) كَأَنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لِيُظْهِرَ الْكَرَامَةَ فِي تَكْثِيرِ ذَلِكَ الطَّعَامِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فِطْنَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ وَرُجْحَانِ عَقْلِهَا.

وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ فَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُرْصٌ عَمِلَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ وَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّمَا هُوَ قُرْصٌ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبَارِكُ فِيهِ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ أَنَسًا يَدْعُوكَ وَحْدَكَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يُشْبِعُ مَنْ أَرَى، فَقَالَ: ادْخُلْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبَارِكُ فِيمَا عِنْدَكَ وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ فَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَنَا مُنْدَهِشٌ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: يَا أَنَسُ فَضَحْتَنَا وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ فَجَعَلَ يَرْمِينِي بِالْحِجَارَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ؟ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: هَلُمَّ، وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، هَلُمَّ عِنْدَهُمْ لَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ طَلَبُ مَا عِنْدَهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ) أَيْ صَيَّرَتْ مَا خَرَجَ مِنَ الْعُكَّةِ لَهُ إِدَامًا، وَالْعُكَّةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ إِنَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ يُجْعَلُ فِيهِ السَّمْنُ غَالِبًا وَالْعَسَلُ، وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ فَقَالَ هَلْ مِنْ سَمْنٍ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قَدْ كَانَ فِي الْعُكَّةِ سَمْنٌ، فَجَاءَ بِهَا فَجَعَلَا يَعْصِرَانِهَا حَتَّى خَرَجَ، ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ سَبَّابَتَهُ، ثُمَّ مَسَحَ الْقُرْصَ فَانْتَفَخَ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَالْقُرْصُ يَنْتَفِخُ حَتَّى رَأَيْتُ الْقُرْصَ فِي الْجَفْنَةِ يَتَمَيَّعُ.

وَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ فَمَسَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ فَجِئْتُ بِهَا فَفَتَحَ رِبَاطَهَا ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ فِيهَا الْبَرَكَةَ وَعُرِفَ بِهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَنْزِلَ أَبِي طَلْحَةَ وَحْدَهُ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَفْظُهُ فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَابِ فَقَالَ لَهُمُ: اقْعُدُوا وَدَخَلَ وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ أَدْخِلْ عَلَيَّ ثَمَانِيَةً ; فَمَا زَالَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا ثُمَّ دَعَانِي وَدَعَا أُمِّي وَأَبَا طَلْحَةَ فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً سِوَى هَذِهِ فَقَالَ إِنَّهُ أَدْخَلَهُمْ ثَمَانِيَةً ثَمَانِيَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَأَكَلُوا) فِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ وَسَطَ الْقُرْصِ وَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ حَتَّى شَبِعُوا وَفِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنْ بَيْنِ

ص: 590

أَصَابِعِي.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَرَجُوا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قُومُوا وَلْيَدْخُلْ عَشَرَةٌ مَكَانَكُمْ.

قَوْلُهُ: (وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ، وَفِي غَيْرِهَا بِالْجَزْمِ بِالثَّمَانِينَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ حَتَّى أَكَلَ مِنْهُ بِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْبَيْتِ وَتَرَكُوا سُؤْرًا أَيْ فَضْلًا. وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ قُلْتُ: كَمْ كَانُوا؟ قَالُوا: كَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ قَالَ: وَأَفْضَلَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مَا يُشْبِعُهُمْ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُلْغِيَ الْكَسْرُ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ أَحْمَدَ حَتَّى أَكَلَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَبَقِيَتْ كَمَا هِيَ وَهَذَا يُؤَكِّدُ التَّغَايُرَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ سِيرِينَ غَيْرُ الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا غَيْرُهُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَأَفْضَلَ مَا بَلَّغُوا جِيرَانَهُمْ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَأَهْدَيْنَاهَا لِجِيرَانِنَا وَنَحْوُهُ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ حَتَّى أَهْدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِجِيرَانِنَا وَلِمُسْلِمٍ فِي أَوَاخِرِ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ فَعَادَ كَمَا كَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ. (تَكْمِلَةٌ):

سُئِلْتُ فِي مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ لَمَّا ذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حِكْمَةِ تَبْعِيضِهِمْ، فَقُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَرَفَ أَنَّ الطَّعَامَ قَلِيلٌ وَأَنَّهُ فِي صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَلَّقَ ذَلِكَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ، فَقِيلَ: لِمَ لَا دَخَّلَ الْكُلَّ وَبَعَّضَ لِمَنْ يَسَعُهُ التَّحْلِيقُ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي اشْتَرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُعْجِزَةِ، بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ تَكَرُّرِ وَضْعِ الطَّعَامِ لِصِغَرِ الصَّحْفَةِ؟ فَقُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِضِيقِ الْبَيْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - فِي نَبْعِ الْمَاءِ أَيْضًا وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ) أَيِ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ.

قَوْلُهُ: (بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَّ جَمِيعِ الْخَوَارِقِ تَخْوِيفًا، وَإِلَّا فَلَيْسَ جَمِيعُ الْخَوَارِقِ بَرَكَةً، فَإِنَّ التَّحْقِيقَ يَقْتَضِي عَدَّ بَعْضِهَا بَرَكَةً مِنَ اللَّهِ كَشِبَعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَبَعْضُهَا بِتَخْوِيفٍ مِنَ اللَّهِ كَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَكَأَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِذَلِكَ تَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِخَسْفٍ فَقَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) هَذَا السَّفَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ لِثُبُوتِ نَبْعِ الْمَاءِ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي تَبُوكَ. ثُمَّ وَجَدْتُ الْبَيْهَقِيَّ فِي الدَّلَائِلِ جَزَمَ بِالْأَوَّلِ لَكِنْ لَمْ يُخَرِّجْ مَا يُصَرِّحُ بِهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَأَصَابَ النَّاسُ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ الْتَمِسْ لِي مَاءً، فَأَتَيْتُهُ بِفَضْلِ مَاءٍ فِي إِدَاوَةٍ الْحَدِيثَ، فَهَذَا أَوْلَى، وَدَلَّ عَلَى تَكَرُّرِ وُقُوعِ ذَلِكَ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ) وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا بِمَاءٍ فَطَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَتَاهُ بِشَنٍّ فِيهِ مَاءٌ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَشْرَبُ وَيُكْثِرُ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَمَلَهُ

ص: 591

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِلَالٌ أَحْضَرَ الْإِدَاوَةَ، فَإِنَّ الشَّنَّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالنُّونِ هُوَ الْإِدَاوَةُ الْيَابِسَةُ.

قَوْلُهُ: (حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ) أَيْ هَلُمُّوا إِلَى الطَّهُورِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَالْمُرَادُ الْفِعْلُ أَيْ تَطَهَّرُوا.

قَوْلُهُ: (وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) الْبَرَكَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيجَادَ مِنَ اللَّهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَجَعَلْتُ أُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ أُدْخِلُهُ فِي جَوْفِي لِقَوْلِهِ: الْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَسَطَ كَفَّهُ فِيهِ فَنَبَعَتْ تَحْتَ يَدِهِ عَيْنٌ، فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَشْرَبُ وَيُكْثِرُ وَالْحِكْمَةُ فِي طَلَبِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَضْلَةَ الْمَاءِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ الْمُوجِدُ لِلْمَاءِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ فِي الدُّنْيَا غَالِبًا بِالتَّوَالُدِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَقَعُ بَيْنَهَا التَّوَالُدُ وَبَعْضَهَا لَا يَقَعُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ فَوَرَانِ بَعْضِ الْمَائِعَاتِ إِذَا خُمِّرَتْ وَتُرِكَتْ زَمَانًا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الْمَاءِ الصِّرْفِ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْمُعْجِزَةُ بِذَلِكَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ) أَيْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَالِبًا، وَوَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ صَرِيحًا أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَلَهُ شَاهِدٌ أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسليمَانُ إِذَا كَتَبَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ قَالَ لَهُ: بِآيَةِ الصَّحْفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا بَيْنَا هُمَا يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ إِذْ سَبَّحَتْ وَمَا فِيهَا وَذَكَرَ عِيَاضٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِطَبَقٍ فِيهِ عِنَبٌ وَرُطَبٌ فَأَكَلَ مِنْهُ فَسَبَّحَ.

قُلْتُ: وَقَدِ اشْتَهَرَ تَسْبِيحُ الْحَصَى، فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمَرَ فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَسَبَّحْنَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فَسَمِعَ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ وَفِيهِ ثُمَّ دَفَعَهُنَّ إِلَيْنَا فَلَمْ يُسَبِّحْنَ مَعَ أَحَدٍ مِنَّا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ كَذَا رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ - وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ - عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ يَزِيدَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمَحْفُوظُ مَا رَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ذَكَرَ الْوَلِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ كَانَ كَبِيرَ السِّنِّ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ذَكَرَ لَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِهَذَا.

(فَائِدَةٌ):

ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَتَسْبِيحَ الْحَصَى وَحَنِينَ الْجِذْعِ وَتَسْلِيمَ الْغَزَالَةِ مِمَّا نُقِلَ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَذَّبْ رُوَاتُهَا. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ اسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهَا تَوَاتُرًا بِالْقُرْآنِ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِمَنْعِ نَقْلِهَا آحَادًا، وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ الْقَطْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ

(1)

وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّهَا كُلُّهَا مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ فَلَيْسَتْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَإِنَّ حَنِينَ الْجِذْعِ وَانْشِقَاقَ الْقَمَرِ نُقِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَقْلًا مُسْتَفِيضًا يُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ مَنْ يَطَّلِعُ عَلَى طُرُقِ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا مُمَارَسَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا تَسْبِيحُ الْحَصَى فَلَيْسَتْ لَهُ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ الْوَاحِدَةُ مَعَ ضَعْفِهَا، وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْغَزَالَةِ فَلَمْ نَجِدْ لَهُ إِسْنَادًا لَا مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ وَلَا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ وَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ،

(1)

العجيب أن يقول هذا شيعي، وهم في أوثق كتبهم ينقلون عن رواة معروفين بالكذب آيات عن غير المعصومين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذب بعضها بعضا حتى لو لم يكن رواتها كذابين - محب الدين.

ص: 592

وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَاهُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الْبُيُوعِ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَفِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الْوَصَايَا أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُ، فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأَبَى وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَالْهِبَةِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: يَا جَابِرُ لَا عَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ فِي قِطَارِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتَّى تَعْلَمَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُنَا - فَذَكَرَ قِصَّةَ قَتْلِ أَبِيهِ وَدَفْنِهِ قَالَ - وَتَرَكَ أَبِي عَلَيْهِ دَيْنًا مِنَ التَّمْرِ، فَاشْتَدَّ عَلَيَّ بَعْضُ غُرَمَائِهِ فِي التَّقَاضِي، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ وَقُلْتُ: فَأُحِبُّ أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ لَعَلَّهُ أَنْ

يُنْظِرَنِي طَائِفَةً مِنْ تَمْرِهِ إِلَى هَذَا الصِّرَامِ الْمُقْبِلِ، قَالَ: نَعَمْ آتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الضِّيَافَةِ وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ: ادْعُ فُلَانًا - لِغَرِيمِي الَّذِي اشْتَدَّ فِي الطَّلَبِ - فَجَاءَ فَقَالَ: أَنْظِرْ جَابِرًا طَائِفَةً مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى أَبِيهِ إِلَى الصِّرَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، وَاعْتَلَّ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَالُ يَتَامَى.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ عِنْدِي إِلَّا مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا إِلَّا الْبُسْتَانَ الْمَذْكُورَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ سِنِينَ) أَيْ فِي مُدَّةِ سِنِينَ (مَا عَلَيْهِ) أَيْ مِنَ الدَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْلَا يَفْحُشَ عَلَيَّ الْغُرَمَاءُ فَمَشَى) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ فَوَصَلَ إِلَى الْحَائِطِ فَمَشَى. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى التَّصْرِيحُ بِمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ فَقَالَ: اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ، فَفَعَلْتُ، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلَاهُ وَفِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ فِي الْبُيُوعِ اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا: الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَوْلُهُ: عَذْقَ زَيْدٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَزَيْدٌ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ اسْمٌ لِشَخْصٍ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ ابْتَدَأَ غِرَاسَهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَالْعَجْوَةُ مِنْ أَجْوَدِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بَيْدِرْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، أَيِ اجْعَلِ التَّمْرَ فِي الْبَيَادِرِ كُلَّ صِنْفٍ فِي بَيْدَرٍ، وَالْبَيْدَرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ لِلتَّمْرِ كَالْجُرْنِ لِلْحَبِّ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَغَدَا عَلَيْنَا فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي تَمْرِهِ بِالْبَرَكَةِ وَفِي رِوَايَةِ الدِّيَالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرٍ فَجَاءَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَاسْتَقْرَأَ النَّخْلَ، يَقُومُ تَحْتَ كُلِّ نَخْلَةٍ لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ، حَتَّى مَرَّ عَلَى آخِرِهَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ آخَرَ) أَيْ مَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ آخَرَ فَدَعَا، وَفِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا فَقَالَ: أَفْرِغُوهُ أَيْ أَفْرِغُوهُ مِنَ الْبَيْدَرِ، وَفِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ ثُمَّ قَالَ: كِلْ لِلْقَوْمِ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ وَفِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: جُدَّ فَأَوْفِ الَّذِي لَهُ، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَأَوْفَاهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ) فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ وَبَقِيَ تَمْرِي وَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبٍ وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا بَقِيَّةٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، وَيُجْمَعُ بِالْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْغُرَمَاءِ، فَكَانَ أَصْلُ الدَّيْنِ كَانَ مِنْهُ لِيَهُودِيٍّ ثَلَاثُونَ وَسْقًا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَأَوْفَاهُ وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْدَرِ سَبْعَةَ عَشْرَ وَسْقًا، وَكَانَ مِنْهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ أَشْيَاءُ أُخَرُ مِنْ أَصْنَافٍ أُخْرَى فَأَوْفَاهُمْ وَفَضَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ قَدْرَ الَّذِي أَوْفَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ فَكِلْتُ لَهُ مِنَ الْعَجْوَةِ فَأَوْفَاهُ اللَّهُ وَفَضَلَ لَنَا مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا، وَكِلْتُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ التَّمْرِ فَأَوْفَاهُ اللَّهُ وَفَضَلَ لَنَا

ص: 593

مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَا قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَعَنْهُ ثُمَّ دَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ أَيْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ لِعَدَاوَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُهُمْ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَهَا اللَّهُ وَلَا أَرْجِعُ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ فِيهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْكَيْلَ جَمِيعَهُ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ التَّمْرَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَالَّذِي مَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ وَأَنَّ بَعْضَ التَّمْرِ نَقَصَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْكَيْلِ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَّتُهُ كَانَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْبَيَادِرِ الَّتِي أَوْفَى مِنْهَا بَعْضَ أَصْحَابِ الدَّيْنِ حَيْثُ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَلَمَّا انْصَرَفَ بَقِيَتْ آثَارُ بَرَكَتِهِ فَلِذَلِكَ أَوْفَى مِنْ أَحَدِ الْبَيَادِرِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ.

وَفِي رِوَايَةِ نُبَيْحٍ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: كِلْ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَوْفَ يُوَفِّيَهُ وَفِي حَدِيثِهِ فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ دَلَكَتْ فَقَالَ: الصَّلَاةَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَانْدَفَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ لَهُ - أَيْ لِلْغَرِيمِ - قَرِّبْ أَوْعِيَتَكَ وَفِيهِ فَجِئْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي شَرَارَةٌ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَيْنَ عُمَرُ؟ فَجَاءَ يُهَرْوِلُ. فَقَالَ: سَلْ جَابِرًا عَنْ تَمْرِهِ وَغَرِيمِهِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَائِلِهِ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ سَيُوَفِّيهِ الْحَدِيثَ.

وَقِصَّةُ عُمَرَ قَدْ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبٍ فَفِيهَا: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِعُمَرَ: اسْمَعْ يَا عُمَرُ، قَالَ: أَلَّا نَكُونَ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةِ وَهْبٍ فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُبَارِكَنَّ اللَّهُ فِيهَا وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ كَعْبٍ: أَلَّا نَكُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَصْلُهَا أَنِ الْخَفِيفَةُ ضُمَّتْ إِلَيْهَا لَا النَّافِيَةُ، أَيْ هَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يَشُكُّ فِي الْخَبَرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.

وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، فَأَنْكَرَ عُمَرُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِالرِّسَالَةِ فَأَنْتَجَ إِنْكَارُهُ ثُبُوتَ عِلْمِهِ بِهَا، وَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ، إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ ضَبَطَهَا عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: النُّكْتَةُ فِي اخْتِصَاصِ عُمَرَ بِإعْلَامِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَنِيًا بِقِصَّةِ جَابِرٍ مُهْتَمًّا بِشَأْنِهِ مُسَاعِدًا لَهُ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِ أَبِيهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَشَى فِي النَّخْلِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ التَّمْرَ الَّذِي فِيهِ لَا يَفِي بِبَعْضِ الدَّيْنِ، فَأَرَادَ إِعْلَامَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَاهَدَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ. ثُمَّ وَجَدْتُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا حَتَّى نَطُوفَ بِنَخْلِكَ هَذَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَأَتَاهُ هُوَ وَعُمَرُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ خُذْ مِنْ جَابِرٍ وَأَخِّرْ عَنْهُ فَأَبَى، فَكَادَ عُمَرُ يَبْطِشُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْ يَا عُمَرُ، هُوَ حَقُّهُ. ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى نَخْلِكَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ائْتِنِي بِعُمَرَ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ سَلْ جَابِرًا عَنْ نَخْلِهِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدِّيَالِ بْنِ حَرْمَلَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ جَمِيعًا كَانَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَخْبِرْ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَأَخْبَرْتُهُمَا الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ.

وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ الْمَذْكُورَ كَانَ لَهُ دَيْنٌ مِنْ تَمْرٍ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ دُيُونٌ أُخْرَى، فَلَمَّا حَضَرَ الْغُرَمَاءُ وَطَالَبُوا بِحُقُوقِهِمْ، وَكَالَ لَهُمْ جَابِرٌ التَّمْرَ فَفَضَلَ تَمْرُ الْحَائِطِ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ شَيْءٌ، فَجَاءَ الْيَهُودِيُّ بَعْدَهُمْ

ص: 594

فَطَالَبَ بِدَيْنِهِ فَجَدَّ لَهُ جَابِرٌ مَا بَقِيَ عَلَى النَّخَلَاتِ فَأَوْفَاه حَقَّهُ مِنْهُ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ مِنْهُ سَبْعَةَ عَشَرَ، انْتَهَى.

وَهَذَا الْجَمْعُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَفْضُلْ مِنَ الَّذِي فِي الْبَيَادِرِ شَيْءٌ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهَا فَضَلَتْ كُلُّهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي جَمَعْتُ بِهِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ الِاسْتِنْظَارِ فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْغَرِيمِ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ الَّذِي يُوَفَّى مِنْهُ، وَفِيهِ مَشْيُ الْإِمَامِ فِي حَوَائِجِ رَعِيَّتِهِ، وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَفِيهِ عَلَمٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ إِلَى أَنْ حَصَلَ بِهِ وَفَاءُ الْكَثِيرِ وَفَضَلَ مِنْهُ.

فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلَاثِ مِرَارٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الْأَجَلُ فَفُرِّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ قَالَ: أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: فَعَرَفْنَا مِنْ الْعِرَافَةِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ أَضْيَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَكْثِيرُ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ أَحَدُ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ مُعْتَمِرٍ حَدَّثَنَا أَبِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ.

قَوْلُهُ: (إنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ) سَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَأَنَّ الصُّفَّةَ مَكَانٌ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مُظَلَّلٌ أُعِدَّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاءِ فِيهِ مِمَّنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَكَانُوا يَكْثُرُونَ فِيهِ وَيَقِلُّونَ بِحَسَبِ مَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ أَوْ يَمُوتُ أَوْ يُسَافِرُ، وَقَدْ سَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فَزَادُوا عَلَى الْمِائَةِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةُ الْمَذْكُورِينَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ لِمُوَافَقَتِهَا لِسِيَاقِ بَاقِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَسَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ إِذَا ذَهَبَ مَعَهُ بِثَلَاثَةٍ لَزِمَ أَنْ يَأْكُلَهُ فِي خَمْسَةٍ وَحِينَئِذٍ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَسُدُّ رَمَقَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَهَبَ بِوَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي أَرْبَعَةً أَيِ الْقَدْرَ الَّذِي يُشْبِعُ الِاثْنَيْنِ يَسُدُّ رَمَقَ أَرْبَعَةٍ، وَوَجَّهَهَا النَّوَوِيُّ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلْيَذْهَبْ بِمَنْ يُتِمُّ مَنْ عِنْدَهُ ثَلَاثَةٌ، أَوْ فَلْيَذْهَبْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ، بِسَادِسٍ، أَوْ كَمَا قَالَ) أَيْ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ مَعَ الْخَامِسِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ يَزِيدُ كُلَّ أَحَدٍ وَاحِدًا فَقَطْ أَنَّ عَيْشَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ مُتَّسِعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَثَلًا ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ لَا يَضِيقُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ الرَّابِعَ مِنْ قُوتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَرْبَعَةُ وَمَا فَوْقَهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ زِيدَتِ الْأَضْيَافُ بِعَدَدِ الْعِيَالِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ فِيهِ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْحَالِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ وَإِنْ أَرْبَعٍ فَخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ وَأَوْ فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَوْ سَادِسٍ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ خَمْسٍ فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ.

وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَرْبَعٍ فَخَامِسٍ) بِالْجَرِّ فِيهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ، فَحَذَفَ عَامِلَ الْجَرِّ وَأَبْقَى عَمَلَهُ، كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ صَالِحٍ وَإِنْ لَا صَالِحٍ فَطَالِحٍ، أَيْ إِنْ لَا أَمُرَّ بِصَالِحٍ فَقَدْ مَرَرْتُ بِطَالِحٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَهُوَ أَوْجَهُ.

قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حَذْفَ فِعْلَيْنِ وَعَامِلَيْ جَرٍّ مَعَ بَقَاءِ عَمَلِهِمَا بَعْدَ إِنْ وَبَعْدَ الْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ اهـ. وَهَذَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ فَيَكُونُ حُذِفَ مِنْهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَالتَّقْدِيرُ أَوْ إِنْ قَامَ بِخَمْسَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ) عَبَّرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِلَفْظِ الْمَجِيءِ لِبُعْدِ مَنْزِلِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالِانْطِلَاقِ لِقُرْبِهِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَبُو بَكْرٍ ثَلَاثَةً بِالنَّصْبِ لِلْأَكْبَرِ أَيْ أَخَذَ ثَلَاثَةً فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ تَكْرَارًا لِأَنَّ هَذَا

ص: 595

بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ مَا جَاءَ فِي نَصِيبِهِ، وَالْأَوَّلُ لِبَيَانِ مَنْ أَحْضَرَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ ثَلَاثَةٌ بِالرَّفْعِ وَقَدَّرَهُ وَأَبُو بَكْرٍ أَهْلُهُ ثَلَاثَةٌ أَيْ عَدَدُ أَضْيَافِهِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَخَذَ خَامِسًا وَسَادِسًا وَسَابِعًا فَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَخْذِهِ وَاحِدًا زَائِدًا عَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَ السَّابِعَ بِنَصِيبِهِ إِذْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ أَوَّلًا مَعَهُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ بِثَلَاثَةٍ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ أَيْ وَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ بِثَلَاثَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي) الْقَائِلُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وقَوْلُهُ: فَهُوَ أَيِ الشَّأْنُ، وَقَوْلُهُ: أَنَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَقْدِيرُهُ فِي الدَّارِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَدْرِي هَلْ قَالَ امْرَأَتِي وَخَادِمِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَخَادِمٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ، وَالْقَائِلُ هَلْ قَالَ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ الرَّاوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَأَنَّهُ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:(بَيْنَ بَيْتِنَا) أَيْ خِدْمَتِهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِلْخَادِمِ، وَأُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أُمُّ رُومَانَ مَشْهُورَةٌ بِكُنْيَتِهَا، وَاسْمُهَا زَيْنَبُ وَقِيلَ: وَعْلَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، قِيلَ: عُمَيْرَةُ، مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَارِثِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، كَانَتْ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ سَخْبَرَةَ الْأَزْدِيِّ فَقَدِمَ مَكَّةَ فَمَاتَ وَخَلَّفَ مِنْهَا ابْنَهُ الطُّفَيْلَ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ رُومَانَ قَدِيمًا وَهَاجَرَتْ وَمَعَهَا عَائِشَةُ، أَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ وَهِجْرَتُهُ إِلَى هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَدِمَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ أَوْ أَوَّلَ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ - وَالِدَةُ أَكْبَرِ أَوْلَادِهِ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدٍ - أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيَّةُ، وَالْخَادِمُ لَمْ أَعْرِفِ اسْمَهَا.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ) وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ وَفِي رِوَايَةٍ حَيْثُ صَلَّيْتُ، ثُمَّ رَجَعَ فَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ تَعَشِّيَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي تَقَدَّمَ بِعَكْسِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ حَالِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى الطَّعَامِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَالثَّانِي فِيهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ: الْأَوَّلُ تَعَشِّي الصِّدِّيقِ وَالثَّانِي تَعَشِّي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالْأَوَّلُ مِنَ الْعَشَاءِ بِفَتْحِهَا أَيِ الْأَكْلِ، وَالثَّانِي بِكَسْرِهَا أَيِ الصَّلَاةِ، فَأَحَدُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا جَاءَ بِالثَّلَاثَةِ إِلَى مَنْزِلِهِ لَبِثَ إِلَى وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَعَشَّى عِنْدَهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ صَرِيحَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إِنَّ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ ثُمَّ رَجَعَ بِالْجِيمِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنَ الرُّوَاةِ لِمَا سَأَذْكُرُهُ، وَظَاهِرُهُ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: ثُمَّ رَجَعَ أَيْ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْلِهِ: فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَكْرَارٌ وَفَائِدَتُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ تَأَخُّرَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِمِقْدَارِ أَنْ تَعَشَّى مَعَهُ وَصَلَّى الْعِشَاءَ، وَمَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنَ اللَّيْلِ قِطْعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ.

وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ثُمَّ رَكَعَ بِالْكَافِ أَيْ صَلَّى النَّافِلَةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى فَقَطْ، وَفَائِدَتُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ بِعَيْنٍ وَسِينٍ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ مِنَ النُّعَاسِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَبِهِ يَنْتَفِي التَّكْرَارُ مِنَ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إِلَّا فِي قَوْلِهِ: لَبِثَ وَسَبَبُهُ اخْتِلَافُ تَعَلُّقِ اللُّبْثِ فَالْأَوَّلُ قَالَ: لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ: فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَأَخَّرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَأَخَّرَ حَتَّى نَعَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ لِيَنَامَ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ حِينَئِذٍ إِلَى بَيْتِهِ.

وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي أَبْوَابِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ الْأَذَانِ بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ وَأَخَذَهُ مِنْ كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ

ص: 596

وَضِيفَانِهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَوْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: نَزَلَ بِنَا أَضْيَافٌ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَيْكَ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ ضِيَافَةِ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُ يَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بِلَفْظِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافُكَ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْضَرَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ مِنْ أَضْيَافِكَ؟) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَنْ أَضْيَافِكَ وَكَذَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَوْ ضَيْفِكَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَاسْمُ الضَّيْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَمَا فَوْقَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ يَتَنَاوَلُ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعَ، كَذَا قَالَ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ.

قَوْلُهُ: (أَوَعَشَّيْتَهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوَمَا عَشَّيْتَهُمْ بِزِيَادَةِ مَا النَّافِيَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَفِي بَعْضِهَا عَشَّيْتِيهِمْ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْخَدَمُ أَوِ الْأَهْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، (فَغَلَبُوهُمْ) أَيْ إنَّ آلَ أَبِي بَكْرٍ عَرَضُوا عَلَى الْأَضْيَافِ الْعَشَاءَ فَأَبَوْا فَعَالَجُوهُمْ فَامْتَنَعُوا حَتَّى غَلَبُوهُمْ.

وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ قَدْ عُرِّضُوا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أُطْعِمُوا مِنَ الْعِرَاضَةِ وَهِيَ الْهَدِيَّةُ، قَالَهُ عِيَاضٌ، قَالَ: وَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ أَنَّ الْقِيَاسَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مُوَجِّهًا لِلتَّخْفِيفِ: أَيْ عُرِضَ الطَّعَامُ عَلَيْهِمْ، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ فَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ كَعَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَوَقَعَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ عَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فَامْتَنَعُوا وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَرَصُوا بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ، قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا، وَوَجَّهَهَا غَيْرُهُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَرَصَ إِذَا نَشِطَ، فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُمْ نَشِطُوا فِي الْعَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

وَفِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ: اطْعَمُوا، قَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اطْعَمُوا. قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ. قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ - أَيْ شَرًّا - فَأَبَوْا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ؟ ضَبَطَهُ عِيَاضٌ عَنِ الْأَكْثَرِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَثْبُتَ النُّونُ فِي تَقْبَلُونَ إِذْ لَا مُوجِبَ لِحَذْفِهَا، وَضَبَطَهَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَهُوَ الْوَجْهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ) أَيْ خَوْفًا مِنْ خِصَامِ أَبِي بَكْرٍ لَهُ وَتَغَيُّظِهِ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ أَيْ يَغْضَبُ فَلَمَّا جَاءَ تَغَيَّبْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَكَتَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ) فِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَا جِئْتَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَالِي ذَنْبٌ، هَؤُلَاءِ أَضْيَافُكَ فَسَلْهُمْ. قَالُوا: صَدَقَكَ قَدْ أَتَانَا. وَقَوْلُهُ: فَجَدَّعَ وَسَبَّ أَيْ دَعَا عَلَيْهِ بِالْجَدَعِ وَهُوَ قَطْعُ الْأُذُنِ أَوِ الْأَنْفِ أَوِ الشَّفَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ السَّبُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَفِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ فَجَزَّعَ بِالزَّايِ بَدَلَ الدَّالِ أَيْ نَسَبَهُ إِلَى الْجَزَعِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْخَوْفُ، وَقِيلَ: الْمُجَازَعَةُ الْمُخَاصَمَةُ فَالْمَعْنَى خَاصَمَ، وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَنَّ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَرَّطَ فِي حَقِّ الْأَضْيَافِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَالُ أَدَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ: كُلُوا لَا هَنِيئًا، وَسَبَّ أَيْ شَتَمَ. وَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلْعِلْمِ بِهِ.

قَوْلُهُ: غُنْثَرُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَحُكِيَ ضَمُّ الْمُثَلَّثَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ

ص: 597

بَعْضِ شُيُوخِهِ فَتْحَ أَوَّلِهِ مَعَ فَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ بِلَفْظِ عَنْتَرُ بِلَفْظِ اسْمِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ بالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا النُّونُ السَّاكِنَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ مَعْنَاهُ الذُّبَابُ، وَإنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَوْتِهِ فَشَبَّهَهُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ تَحْقِيرَهُ وَتَصْغِيرَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ الثَّقِيلُ الْوَخِمُ وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَقِيلَ: السَّفِيهُ وَقِيلَ: اللَّئِيمُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغُثْرِ وَنُونُهُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ ذُبَابٌ أَزْرَقُ شَبَّهَهُ بِهِ لِتَحْقِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كُلُوا) زَادَ فِي الصَّلَاةِ لَا هَنِيئًا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَيْ: لَا أَكَلْتُمْ هَنِيئًا، هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: خَبَرٌ أَيْ لَمْ تَتَهَيَّئُوا فِي أَوَّلِ نُضْجِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْإِنْصَافُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَرَجِ وَالتَّغَيُّظِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَحَكَّمُوا عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِوَلَدِهِ مَعَ إِذْنِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ رَغْبَتُهُمْ فِي التَّبَرُّكِ بِمُؤَاكَلَتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ بِذَلِكَ أَهْلَهُ لَا الْأَضْيَافَ، وَقِيلَ: لَمْ يُرِدِ الدُّعَاءَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ فَاتَهُمُ الْهَنَاءُ بِهِ إِذَا لَمْ يَأْكُلُوهُ فِي وَقْتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَذَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا وَفِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ فَقَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، فَقَالَ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَمَا مَنَعَكُمْ؟ قَالُوا: مَكَانُكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا. ثُمَّ اتَّفَقَا فَقَالَ: لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ مَا أَنْتُمْ؟ لَمْ تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ. هَاتِ طَعَامَكَ، فَوَضَعَ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُخَاطِبْ أَبُو بَكْرٍ أَضْيَافَهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا خَاطَبَ أَهْلَهُ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَلَّا تَقْبَلُونَ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِتَخْفِيفِهَا.

قَوْلُهُ: (وَايْمُ اللَّهِ) هَمْزَتُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ: يَجُوزُ الْقَطْعُ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ ايْمُ اللَّهِ قَسَمِي، وَأَصْلُهُ أَيْمَنُ اللَّهِ فَالْهَمْزَةُ حِينَئِذٍ هَمْزَةُ قَطْعٍ لَكِنَّهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ خُفِّفَتْ فَوُصِلَتْ، وَحُكِيَ فِيهَا لُغَاتٌ: أَيْمُنُ اللَّهِ مُثَلَّثَةُ النُّونِ، وَمُنُ اللَّهِ مُخْتَصَرَةٌ مِنَ الْأُولَى مُثَلَّثَةُ النُّونِ أَيْضًا، وَايْمُ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَمُ اللَّهِ كَذَلِكَ، وبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْضًا، وَأَمُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَلَيْسَ الْمِيمُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ وَلَا أَصْلُهَا مِنْ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ. وَلَا أَيْمُنُ، جَمْعُ يَمِينٍ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا رَبَا) أَيْ زَادَ، وَقَوْلُهُ:(مِنْ أَسْفَلِهَا) أَيِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا شَيْءٌ أَوْ أَكْثَرُ) وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا هِيَ شَيْءٌ أَيْ قَدْرَ الَّذِي كَانَ، كَذَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَوَقَعَ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا هِيَ - أَيِ الْجَفْنَةُ - كَمَا هِيَ أَيْ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا أَوْ أَكْثَرُ، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ) زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا هَذَا وَخَاطَبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ امْرَأَتَهُ أُمَّ رُومَانَ، وَبَنُو فِرَاسٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ ابْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّقْدِيرُ يَا مَنْ هِيَ مِنْ بَنِي فِرَاسٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى قَبِيلَةٍ أَنَّهُ أَخُوهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ ضِمَامٌ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أُمَّ رُومَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ وَهُوَ أَخُو فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ فَلَعَلَّ أَبَا بَكْرٍ نَسَبَهَا إِلَى بَنِي فِرَاسٍ لِكَوْنِهِمْ أَشْهَرَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ، وَيَقَعُ فِي النَّسَبِ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيُنْسَبُونَ أَحْيَانًا إِلَى أَخِي جَدِّهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى يَا أُخْتَ الْقَوْمِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى بَنِي فِرَاسٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَارِثَ أَخُو فِرَاسٍ فَأَوْلَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِخْوَةٌ لِلْآخَرِينَ لِكَوْنِهِمْ فِي دَرَجَتِهِمْ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ قِيلَ فِي أُمِّ رُومَانَ: إِنَّهَا مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ لَا مِنْ بَنِي الْحَارِثِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَمْ أَرَ فِي كِتَابِ ابْنِ سَعْدٍ لَهَا نَسَبًا إِلَّا إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ سَاقَ

ص: 598

لَهَا نَسَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي) قُرَّةُ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَسَرَّةِ وَرُؤْيَةِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُوَافِقُهُ، يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَيْنَهُ قَرَّتْ أَيْ سَكَنَتْ حَرَكَتُهَا مِنَ التَّلَفُّتِ لِحُصُولِ غَرَضِهَا فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَامَ اللَّهُ عَيْنَكَ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ أَيْ أَنَّ عَيْنَهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: دَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارَّةٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَإِنَّمَا حَلَفَتْ أُمُّ رُومَانَ بِذَلِكَ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهَا مِنَ السُّرُورِ بِالْكَرَامَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ بِبَرَكَةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقْسَمَتْ بِهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَا فِي قَوْلِهَا: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي زَائِدَةٌ أَوْ نَافِيَةٌ عَلَى حَذْفٍ، تَقْدِيرُهُ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا أَقُولُ.

قَوْلُهُ: (لَهِيَ) أَيِ الْجَفْنَةُ أَوِ الْبَقِيَّةُ (أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلُ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَ (أَكْثَرُ) لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ، يَعْنِي يَمِينَهُ) كَذَا هُنَا وَفِيهِ حَذْفٌ تَقَدَّمَهَا تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ، يَعْنِي الْحَامِلَ عَلَى يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَهَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ وَهُوَ أَوْجَهُ.

وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ اللُّقْمَةُ الَّتِي أَكَلَ أَيْ هَذِهِ اللُّقْمَةُ لِقَمْعِ الشَّيْطَانِ وَإِرْغَامِهِ. لِأَنَّهُ قَصَدَ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْيَمِينَ إِيقَاعَ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَضْيَافِهِ، فَأَخْزَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنْثِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، فَقَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا السِّيَاقِ خَطَأٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا فِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ هَذِهِ أَنَّ سَبَبَ أَكْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا رَآهُ مِنَ الْبَرَكَةِ فِيهِ فَرَغِبَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَعْرَضَ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَمَّا رَجَحَ عِنْدَهُ مِنَ التَّنَاوُلِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَرِيرِيِّ تَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ مِنَ الطَّعَامِ لِجَاجُ الْأَضْيَافِ وَحَلِفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَطْعَمُونَ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَأْكُلَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا أَوْجَهَ، لَكِنْ يُمْكِنُ رَدُّ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ لَا عَلَى الْقِصَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ حَلِفَ الْأَضْيَافِ أَنْ لَا يَطْعَمُوهُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ لَا مِنْ أَبِيهِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَدَبِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمُوهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ اللُّقْمَةَ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ أَكَلَ لِأَجْلِ تَحْلِيلِ يَمِينِهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْبَرَكَةَ الظَّاهِرَةَ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهَا لِتَحْصُلَ لَهُ وَقَالَ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَزَالَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحَرَجِ، فَعَادَ مَسْرُورًا، وَانْفَكَّ الشَّيْطَانُ مَدْحُورًا. وَاسْتَعْمَلَ الصِّدِّيقُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فَحَنَّثَ نَفْسَهُ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِ ضِيفَانِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ أَكْلِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ قُدْرَةً مِنْهُمْ عَلَى الْكَفَّارَةِ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا وَحَنِثْتَ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَخَيْرُهُمْ. قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ وَسَقَطَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَكَأَنَّ سَبَبَ حَذْفِهِ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ فِيهَا إِدْرَاجًا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا فَأُخْبِرْتُ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - أَنَّهُ أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ وَقَوْلُهُ:(أَبَرُّهُمْ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ بِرًّا أَيْ طَاعَةً، وَقَوْلُهُ:(وَخَيْرُهُمْ) أَيْ لِأَنَّكَ حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ حِنْثًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مَطْلُوبًا فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقَوْلُهُ:(وَلَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي يَمِينِ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ

ص: 599

مِنْ عَدَمِ الذِّكْرِ عَدَمُ الْوُجُودِ، فَلِمَنْ أَثْبَتَ الْكَفَّارَةَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَيْمَانِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى نَزَلَتِ الْكَفَّارَةُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ قَبْلَ الْحِنْثِ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَا قَالَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يَطْعَمَهُ أَضْمَرَ وَقْتًا مُعَيَّنًا أَوْ صِفَةً مَخْصُوصَةً، أَيْ لَا أَطْعَمُهُ الْآنَ أو لَا أَطْعَمُهُ مَعَكُمْ أَوْ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ هَلْ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ فِي النَّفْسِ أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا يَمِينٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ وَلَا مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ) أَيِ الْجَفْنَةُ عَلَى حَالِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ) كَذَا هُوَ هُنَا مِنَ التَّفْرِيقِ أَيْ جَعَلَهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَقَرَيْنَا بِقَافٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مِنَ الْقِرَى وَهُوَ الضِّيَافَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا) كَذَا لِلْمُصَنِّفِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ اثْنَيْ عَشَرَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْأَوَّلُ عَلَى طَرِيقِ مَنْ يَجْعَلُ الْمُثَنَّى بِالرَّفْعِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَفُرِّقْنَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَارْتَفَعَ اثْنَا عَشَرَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ) يَعْنِي أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِمِ اثْنَا عَشَرَ عَرِّيفًا لَكِنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ كَانَ تَحْتَ يَدِ كُلِّ عَرِّيفٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ - أَيْ مَعَ كُلِّ نَاسٍ - عَرِّيفًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ) هُوَ شَكٌّ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ فِي لَفْظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الْجَيْشِ أَكَلُوا مِنْ تِلْكَ الْجَفْنَةِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ الْبَرَكَةِ فِي الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ كَانَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا في بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ ظُهُورُ أَوَائِلِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَأَمَّا انْتِهَاؤُهَا إِلَى أَنْ تَكْفِيَ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ فَمَا كَانَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَصْعَةٍ فِيهَا ثَرِيدٌ فَأَكَلَ وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَمَا زَالُوا يَتَدَاوَلُونَهَا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الظُّهْرِ يَأْكُلُ قَوْمٌ، ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَتَعَاقَبُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَلْ كَانَتْ تُمَدُّ بِطَعَامٍ؟ قَالَ: أَمَّا مِنَ الْأَرْضِ فَلَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَانَتْ تُمَدُّ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقَصْعَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ مَا وَقَعَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ الْتِجَاءُ الْفُقَرَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْمُوَاسَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلْحَاحٌ وَلَا إِلْحَافٌ وَلَا تَشْوِيشٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مُوَاسَاتِهِمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، وَفِيهِ التَّوْظِيفُ فِي الْمَخْمَصَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْغَيْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالضَّيْفِ إِذَا أُعِدَّتْ لَهُمُ الْكِفَايَةُ، وَفِيهِ تَصَرُّفُ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ وَالْإِطْعَامُ بِغَيْرِ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنَ الرَّجُلِ، وَفِيهِ جَوَازُ سَبِّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَتَعَاطِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ تَوْكِيدُ الرَّجُلِ الصَّادِقِ لِخَبَرِهِ بِالْقَسَمِ، وَجَوَازُ الْحِنْثِ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِطَعَامِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَفِيهِ عَرْضُ الطَّعَامِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْبَرَكَةُ عَلَى الْكِبَارِ وَقَبُولُهُمْ ذَلِكَ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ظَنَّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَرَّطَ فِي أَمْرِ الْأَضْيَافِ فَبَادَرَ إِلَى سَبِّهِ وَقَوَّى الْقَرِينَةَ عِنْدَهُ اخْتِبَاؤُهُ مِنْهُ، وَفِيهِ مَا يَقَعُ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَوْلِيَائِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ

ص: 600

خَاطِرَ أَبِي بَكْرٍ تَشَوَّشَ، وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ وَأَهْلُهُ وَأَضْيَافُهُ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ، وَتَكَدَّرَ خَاطِرُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحَرَجِ بِالْحَلِفِ وَبِالْحِنْثِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَدَارَكَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ عَنْهُ بِالْكَرَامَةِ الَّتِي أَبْدَاهَا لَهُ، فَانْقَلَبَ ذَلِكَ الْكَدَرُ صَفَاءً وَالنَّكَدُ سُرُورًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُقُوعُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَوْلُهُ: وَعَنْ يُونُسَ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَمَّادًا سَمِعَهُ عَنْ أَنَسٍ عَالِيًا وَنَازِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ ثَابِتٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّ حَمَّادًا تَفَرَّدَ بِطَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ هَذِهِ

قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُ يَقُولُ فَعَرَّفَنَا) وَهُوَ مِنَ الْعِرَافَةِ، وَكَذَا اخْتَلَفَتِ الرُّوَاةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ هَلْ قَالَ: فَرَّقَنَا أَوْ عَرَّفَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَعَرَّفَنَا مِنَ الْعِرَافَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَسُمِّيَ الْعَرِّيفُ عَرِّيفًا لِأَنَّهُ يُعَرِّفُ الْإِمَامَ أَحْوَالَ الْعَسْكَرِ. وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَرَّفَنَا، قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُهُمْ وَإِرْسَالُهُمْ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (هَلَكَتِ الْكُرَاعُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَحُكِيَ عَنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ كَسْرُهَا وَخُطِّئَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَيْلُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ: (كَمِثْلِ الزُّجَاجَةِ) أَيْ مِنْ شِدَّةِ الصَّفَاءِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ السَّحَابِ.

قَوْلُهُ: (فَهَاجَتْ رِيحٌ أَنْشَأَتْ سَحَابًا) قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: نَشَأَ السَّحَابُ إِذَا ارْتَفَعَ وَأَنْشَأَ اللَّهُ السَّحَابَ لِقَوْلِهِ: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} قُلْتُ: الْمُرَادُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الثَّانِي، وَنِسْبَةُ الْإِنْشَاءِ إِلَى الرِّيحِ مَجَازِيَّةٌ وَذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْكُلَّ بِإِنْشَاءِ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ السَّحَابَ.

قَوْلُهُ: (عَزَالَيْهَا) بِالزَّايِ الْخَفِيفَةِ وَاللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ تَثْنِيَةٌ عَزْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَتَفْسِيرُهَا قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَا يُقَرِّبُ أَنَّهُ خَارِجَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَمَا يُوَضِّحُ أَنَّ الَّذِي قَامَ أَوَّلًا هُوَ الَّذِي قَامَ ثَانِيًا، وَأَنَّ أَنَسًا جَزَمَ بِهِ تَارَةً وَشَكَّ فِيهِ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (تَصَدَّعَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَتَصَدَّعُ وَهُوَ الْأَصْلُ.

قَوْلُهُ: (إِكْلِيلٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ هِيَ الْعِصَابَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِالرَّأْسِ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِصَابَةُ مُكَلَّلَةً بِالْجَوْهَرِ وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ مَا أَحَاطَ بِالظُّفْرِ مِنَ اللَّحْمِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَا أَحَاطَ بِشَيْءٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3583 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ أَخُو أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ نَافِعٍ بِهَذَا. وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3584 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتْ

ص: 601

النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهُ إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ قَالَ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا".

3585 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: "كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ".

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ فِي حَنِينِ الْجِذْعِ، أَوْرَدَهُ عَنْهُمَا مِنْ طُرُقٍ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ وَاسْمُهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ تَسْمِيَةُ أَبِي حَفْصٍ لَمْ أَرَهَا إِلَّا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْعَلَاءِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَفْصٍ فِي الْكُنَى هَذَا الْحَدِيثَ فَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ الْغُدَانِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْعَلَاءِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ وَلَمْ يَقُلِ اسْمُهُ عُمَرُ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلَاءِ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلَاءِ أَبِي غَسَّانَ قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ الْعَلَاءِ يُكَنَّى أَبَا غَسَّانَ، قَالَ الْحَاكِمُ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمَا أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى عُمَرَ وَالْآخَرُ يُسَمَّى مُعَاذًا وَحَدَّثَا مَعًا عَنْ نَافِعٍ بِحَدِيثِ الْجِذْعِ أَوْ أَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ غَيْرُ مَحْفُوظٌ، لِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ أَوْلَادِ الْعَلَاءِ أَبُو عَمْرٍو صَاحِبُ الْقِرَاءَاتِ وَأَبُو سُفْيَانَ، وَمُعَاذٌ، فَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ فَلَا أَعْرِفُهُ إِلَّا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ لِمُعَاذٍ وَلَا لِعُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَهُوَ أَشْهَرُ الْإِخْوَةِ وَأَجَلُّهُمْ، وَهُوَ إِمَامُ الْقِرَاءَاتِ بِالْبَصْرَةِ، وَشَيْخُ الْعَرَبِيَّةِ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ رِوَايَةٌ وَلَا ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَأَمَّا أَخُوهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْعَلَاءِ فَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ السَّكَنِ، عَنْ مُعَاذٍ فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَفْعَلْ لَمَا سَكَنَ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ بِلَفْظِ لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلِأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمَا زَالَ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ. وَأَصْلُهُ فِي التِّرْمِذِيِّ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ وَيُدْفَنَ وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ حَنِينِ هَذِهِ الْخَشَبَةِ؟ فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَسَمِعُوا مِنْ حَنِينِهَا حَتَّى كَثُرَ بُكَاؤُهُمْ

وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: كَانَ يَقُومُ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَامَ إِلَى نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَشُكَّ. وَقَوْلُهُ: فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَالْخِلَافُ فِي اسْمِهَا

ص: 602

وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ:، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) عَبْدُ الْحَمِيدِ هَذَا لَمْ أَرَ مَنْ تَرْجَمَ لَهُ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْمِزِّيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ جَزَمُوا بِأَنَّهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْحَافِظُ الْمَشْهُورُ، وَقَالُوا: كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْحَمِيدِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ تَخْفِيفًا، وَقَدْ رَاجَعْتُ الْمَوْجُودَ مِنْ مُسْنَدِهِ وَتَفْسِيرِهِ فَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ، نَعَمْ وَجَدْتُهُ مِنْ حَدِيثِ رَفِيقِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ الْمَشْهُورِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ الْعَلَاءِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلَاءِ وَهُوَ أَخُو أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ الْقَارِئِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ سَمِعْتُ نَافِعًا.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ النَّبِيلُ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ) يَعْنِي عَبْدَ الْعَزِيزِ وَرَوَّادُ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ اسْمُهُ مَيْمُونٌ، وَطَرِيقُ أَبِي عَاصِمٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ مُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (دُفِعَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِالدَّالِ وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِالرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (فَضَمَّهُ إِلَيْهِ) أَيِ الْجِذْعَ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَضَمَّهَا أَيِ الْخَشَبَةَ.

قَوْلُهُ: فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ حَفْصٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ لِأَنَّهُ فِي طَبَقَتِهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ) أَيْ إنَّ الْجُذُوعَ كَانَتْ لَهُ كَالْأَعْمِدَةِ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا) أَيْ حِينَ يَخْطُبُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ.

قَوْلُهُ: (كَصَوْتِ الْعِشَارِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ جَمْعُ عُشَرَاءَ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْعُشَرَاءُ النَّاقَةُ الَّتِي انْتَهَتْ فِي حَمْلِهَا إِلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي الْكَبِيرِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ كَحَنِينِ النَّاقَةِ الْخَلُوجِ انْتَهَى.

وَالْخَلُوجُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ النَّاقَةُ الَّتِي انْتُزِعَ مِنْهَا وَلَدُهَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَحَنَّتِ الْخَشَبَةُ حَنِينَ الْوَالِدِ، وَفِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى عَنْدَ الدَّارِمِيِّ خَارَ ذَلِكَ الْجِذْعُ كَخُوَارِ الثَّوْرِ وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالدَّارِمِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ خَارَ الْجِذْعُ حَتَّى تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ وَفِي حَدِيثِهِ فَأَخَذَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ذَلِكَ الْجِذْعَ لَمَّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى بَلِيَ وَعَادَ رُفَاتًا وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ دُفِنَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ بَعْدَ الْهَدْمِ عِنْدَ التَّنْظِيفِ فَأَخَذَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: اخْتَرْ أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ فَتَكُونَ كَمَا كُنْتَ - يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جِذْعًا - وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْرَبَ مِنْ أَنْهَارِهَا فَيَحْسُنَ نَبْتُكَ وَتُثْمِرَ فَيَأْكُلَ مِنْكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْتَارَ أَنْ أَغْرِسَهُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قِصَّةُ حَنِينِ الْجِذْعِ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي حَمَلَهَا الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَرِوَايَةُ الْأَخْبَارِ الْخَاصَّةِ فِيهَا كَالتَّكَلُّفِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَادَاتِ قَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ لَهَا إِدْرَاكًا كَالْحَيَوَانِ بَلْ كَأَشْرَفِ الْحَيَوَانِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِقَوْلِ مَنْ يَحْمِلُ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} عَلَى ظَاهِرِهِ.

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا مَا أَعْطَى مُحَمَّدًا، فَقُلْتُ: أَعْطَى عِيسَى إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، قَالَ: أَعْطَى مُحَمَّدًا حَنِينَ الْجِذْعِ حَتَّى سُمِعَ صَوْتُهُ، فَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ.

3586 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ

ص: 603

قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ. قَالَ: هَاتِ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ، وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ. قُلْنَا: عَلِمَ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ. إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ، وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ.

3587 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ".

3588 -

"وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ وَالنَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ".

3589 -

"وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَانْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ".

3590 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكَرْمَانَ مِنْ الأَعَاجِمِ حُمْرَ الْوُجُوهِ فُطْسَ الأُنُوفِ صِغَارَ الأَعْيُنِ وُجُوهُهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ". تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.

3591 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنِي قَيْسٌ قَالَ أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ أَكُنْ فِي سِنِيَّ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِيَ الْحَدِيثَ مِنِّي فِيهِنَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَهُوَ هَذَا الْبَارِزُ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَهُمْ أَهْلُ الْبَازِرِ".

3592 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ وَتُقَاتِلُونَ قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ".

3593 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ

ص: 604

اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ".

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي ذِكْرِ الْفِتْنَةِ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ غُنْدَرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ - وَهُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ - جَامِعُ بْنِ شَدَّادٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّوْمِ، وَوَافَقَ شَقِيقًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ؟) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الصَّلَاةِ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ، فَفِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ: سَأَلَ عُمَرُ أَمْسَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَيُّكُمْ سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الزَّكَاةِ أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ هَاتِ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ) فِي الزَّكَاةِ إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ، فَكَيْفَ

(1)

.

قَوْلُهُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ) زَادَ فِي الصَّلَاةِ وَوَلَدِهِ.

قَوْلُهُ: (تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ) زَادَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمُ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ وَمَا مَعَهَا مُكَفِّرَةً لِلْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا لَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا مُكَفِّرَةٌ لِلْفِتْنَةِ فِي الْأَهْلِ وَالصَّوْمِ فِي الْوَلَدِ إِلَخْ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْبَشَرِ ; أَوْ الِالْتِهَاءُ بِهِمْ أَوْ أَنْ يَأْتِيَ لِأَجْلِهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَوْ يُخِلَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وُقُوعَ التَّكْفِيرِ بِالْمَذْكُورَاتِ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ ; لِأَنَّ الطَّاعَاتِ لَا تُسْقِطُ ذَلِكَ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَالْإِخْلَالِ بِالْمُسْتَحَبِّ لَمْ يُنَاسِبْ إِطْلَاقَ التَّكْفِيرِ، وَالْجَوَابُ الْتِزَامُ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ تَكْفِيرِ الْحَرَامِ. وَالْوَاجِبِ مَا كَانَ كَبِيرَةً فَهِيَ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ.

وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا تُكَفَّرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنَ الْبَحْثِ فِي هَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْفِتْنَةُ بِالْأَهْلِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِنَّ أَوْ عَلَيْهِنَّ فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِيثَارِ حَتَّى فِي أَوْلَادِهِنَّ، وَمِنْ جِهَةِ التَّفْرِيطِ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُنَّ، وَبِالْمَالِ يَقَعُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْعِبَادَةِ أَوْ بِحَبْسِهِ عَنْ إِخْرَاجِ حَقِّ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ بِالْأَوْلَادِ تَقَعُ بِالْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ إِلَى الْوَلَدِ وَإِيثَارِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَالْفِتْنَةُ بِالْجَارِ تَقَعُ بِالْحَسَدِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْحُقُوقِ وَإِهْمَالِ التَّعَاقُدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَسْبَابُ الْفِتْنَةِ بِمَنْ ذُكِرَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِالتَّكْفِيرِ دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ قَدْرِهَا لَا نَفْيَ أَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ لَيْسَ فِيهَا صَلَاحِيَةُ التَّكْفِيرِ، ثُمَّ إِنَّ التَّكْفِيرَ الْمَذْكُورَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ بِنَفْسِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ بِالْمُوَازَنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: خُصَّ الرَّجُلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ صَاحِبُ الْحُكْمِ فِي دَارِهِ وَأَهْلِهِ، وَإِلَّا فَالنِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فِي الْحُكْمِ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ، بَلْ نَبَّهَ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْغَلُ صَاحِبَهُ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ فِتْنَةٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُكَفِّرَاتُ لَا تَخْتَصُّ بِمَا ذُكِرَ بَلْ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهَا، فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَفْعَالِ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْمَالِ

(1)

هو في كتاب الزكاة برقم 1435، وقبله في كتاب الصلاة برقم 525، وانظر رقم 1895 ورقم 7096

ص: 605

الصَّدَقَةَ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَقْوَالِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ) أَيِ الْفِتْنَةَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةَ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أُرِيدُ الْفِتْنَةَ، وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعَ أَيْ مُرَادِيَ الْفِتْنَةُ.

قَوْلُهُ: (تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) أَيْ تَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَاصَمَةِ وَكَثْرَةِ الْمُنَازَعَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ.

قَوْلُهُ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ فَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى يَصِيرَ أَبْيَضَ مِثْلَ الصَّفَاةِ لَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ، وَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ أَسْوَدَ كَالْكُوزِ مَنْكُوسًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، وَحَدَّثَتْهُ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بَابًا مُغْلَقًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا) أَيْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَيَاتِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: آثَرَ حُذَيْفَةُ الْحِرْصَ عَلَى حِفْظِ السِّرِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ لِعُمَرَ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَنَّى عَنْهُ كِنَايَةً، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ عَلِمَ أَنَّ عُمَرَ يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَابُ فَأَتَى بِعِبَارَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالْقَتْلِ انْتَهَى.

وَفِي لَفْظِ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ مَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ، وَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْفِتَنَ بِدَارٍ، وَمَثَّلَ حَيَاةَ عُمَرَ بِبَابٍ لَهَا مُغْلَقٌ، وَمَثَّلَ مَوْتَهُ بِفَتْحِ ذَلِكَ الْبَابِ، فَمَا دَامَتْ حَيَاةُ عُمَرَ مَوْجُودَةً فَهِيَ الْبَابُ الْمُغْلَقُ لَا يَخْرُجُ مِمَّا هُوَ دَاخِلُ تِلْكَ الدَّارِ شَيْءٌ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ انْفَتَحَ ذَلِكَ الْبَابُ فَخَرَجَ مَا فِي تِلْكَ الدَّارِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لَا بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ) زَادَ فِي الصِّيَامِ ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لَا يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْغَلْقَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الصَّحِيحِ، فَأَمَّا إِذَا انْكَسَرَ فَلَا يُتَصَوَّرُ غَلْقُهُ حَتَّى يُجْبَرَ انْتَهَى.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَنَّى عَنِ الْمَوْتِ بِالْفَتْحِ وَعَنِ الْقَتْلِ بِالْكَسْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ فَقَالَ عُمَرُ كَسْرًا لَا أَبَا لَكَ لَكِنْ بَقِيَّةُ رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ تَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ، فَإِنَّ فِيهِ: وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ، أَوْ يَمُوتُ وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَوُقُوعِ الْبَأْسِ بَيْنَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الْآيَةَ.

وَقَدْ وَافَقَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَعْنَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ أَبُو ذَرٍّ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّهُ لَقِيَ عُمَرَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَغَمَزَهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: أَرْسِلْ يَدِي يَا قُفْلَ الْفِتْنَةِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: لَا يُصِيبُكُمْ فِتْنَةٌ مَا دَامَ فِيكُمْ وَأَشَارَ إِلَى عُمَرَ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا غَلْقَ الْفِتْنَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَرَرْتُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذَا غَلْقُ الْفِتْنَةِ، لَا يَزَالُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْفِتْنَةِ بَابٌ شَدِيدُ الْغَلْقِ مَا عَاشَ.

قَوْلُهُ: (قُلْنَا عَلِمَ عُمَرُ الْبَابَ) فِي رِوَايَةِ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ مَسْرُوقٌ، لِحُذَيْفَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ) أَيْ أَنَّ لَيْلَةَ غَدٍ أَقْرَبُ إِلَى الْيَوْمِ مِنْ غَدٍ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ حُذَيْفَةَ، وَالْأَغَالِيطُ جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ وَهُوَ مَا يُغَالَطُ بِهِ، أَيْ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا صِدْقًا مُحَقَّقًا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا عَنِ اجْتِهَادٍ وَلَا رَأْيٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ الْبَابُ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِرَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ، فَقَالَ: اثْبُتْ ; فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ أَوْ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ بَلْ يُكْسَرُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ عَلِمَ الْبَابَ بِالنَّصِّ كَمَا قَدَّمْتُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، فَلَعَلَّ حُذَيْفَةَ حَضَرَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ.

وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ

ص: 606

قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَفِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مَاتُوا قَبْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عُمَرُ عَارِفًا بِذَلِكَ فَلِمَ شَكَّ فِيهِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ؟ فَالْجَوَابُ أَن ذَلِكَ يَقَعُ مِثْلُهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، أَوْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ فَسَأَلَ مَنْ يُذَكِّرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (فَهِبْنَا) بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ خِفْنَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُسْنِ تَأَدُّبِهِمْ مَعَ كِبَارِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا) هُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَ الْفِتْنَةِ وَبَيْنَ عُمَرَ بَابًا فَكَيْفَ يُفَسَّرُ الْبَابُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ عُمَرُ؟! وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا، وَالْمُرَادُ بَيْنَ الْفِتْنَةِ وَبَيْنَ حَيَاةِ عُمَرَ، أَوْ بَيْنَ نَفْسِ عُمَرَ وَبَيْنَ الْفِتْنَةِ بَدَنُهُ ; لِأَنَّ الْبَدَنَ غَيْرُ النَّفْسِ.

(تَنْبِيهٌ):

غَالِبُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَهَلُمَّ جَرَّا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْيَسِيرُ مِنْهَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي نُزُولِ السَّكِينَةِ، وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ سُرَاقَةَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الَّذِي ارْتَدَّ فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا قِتَالُ التُّرْكِ، وَقَدْ أَتَى رَدُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، ثَانِيهَا حَدِيثُ: تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَجِدُونَ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ مُخْتَصَرًا إِلَّا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمُسْتَمْلِي فَأَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ النَّاسُ مَعَادِنُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ أَيْضًا. رَابِعُهَا حَدِيثُ: يَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.

قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ وَقَعَ لِلْجَمِيعِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ لَكِنْ وَقَعَ لِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي عَرْضَةِ بَغْدَادَ أَحَدِهِمْ بِالْهَاءِ، وَالصَّوَابُ بِالْكَافِ، كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ انْتَهَى.

وَالْأَحَادِيثُ الْأَرْبَعَةُ تَدْخُلُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ فِيهَا عَمَّا لَا يَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ، لَا سِيَّمَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوَدُّ لَوْ كَانَ رَآهُ وَفَقَدَ مِثْلَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا يَتَمَنَّى مِثْلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِهِمْ مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَمَحَبَّتِهِمْ فِيهِ

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ.

قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ: قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَهِمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَقَالَهُ بِالْجِيمِ بَدَلَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَكِرْمَانَ) هُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنِ اشْتُهِرَ بِالْكَسْرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِبَلَدِنَا. قُلْتُ: جَزَمَ بِالْفَتْحِ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ وَقَبِلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَجَزَمَ بِالْكَسْرِ الْأَصِيلِيُّ، وَعَبْدُوسٌ، وَتَبِعَ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ، يَاقُوتٌ، وَالصَّغَانِيُّ، لَكِنْ نَسَبَ الْكَسْرَ لِلْعَامَّةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَالرَّاءُ سَاكِنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تُقَاتِلُونَ التُّرْكَ وَاسْتُشْكِلَ لِأَنَّ خُوزًا وَكِرْمَانَ لَيْسَا مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، أَمَّا خُوزٌ فَمِنْ بِلَادِ الْأَهْوَازِ وَهِيَ مِنْ عِرَاقِ الْعَجَمِ.

وَقِيلَ: الْخُوزُ صِنْفٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ، وَأَمَّا كِرْمَانُ فَبَلْدَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ أَيْضًا بَيْنَ خُرَاسَانَ وَبَحْرِ الْهِنْدِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ خَوْرَ كِرْمَانَ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَبِالْإِضَافَةِ وَالْإِشْكَالُ بَاقٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ حَدِيثِ قِتَالِ التُّرْكِ، وَيَجْتَمِعُ مِنْهُمَا الْإِنْذَارُ بِخُرُوجِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمِجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، يَلْبَسُونَ الشَّعْرَ

ص: 607

وَيَمْشُونَ فِي الشَّعْرِ.

قَوْلُهُ: (حُمْرُ الْوُجُوهِ فُطْسُ الْأُنُوفِ) الْفَطَسُ الِانْفِرَاشُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا دُلْفُ الْأُنُوفِ جَمْعُ أَدْلَفَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ الصِّغَرُ، وَقِيلَ: الدَّلَفُ الِاسْتِوَاءُ فِي طَرَفِ الْأَنْفِ لَيْسَ بِحَدٍّ غَلِيظٍ، وَقِيلَ: تَشْمِيرُ الْأَنْفِ عَنِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَدُلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ أَدْلَفَ مِثْلُ حُمْرٍ وَأَحْمَرَ، وَقِيلَ: الدَّلَفُ غِلَظٌ فِي الْأَرْنَبَةِ وَقِيلَ: تَطَامُنٌ فِيهَا، وَقِيلَ: ارْتِفَاعُ طَرَفِهِ مَعَ صِغَرِ أَرْنَبَتِهِ، وَقِيلَ: قِصَرُهُ مَعَ انْبِطَاحِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَقِيَّةُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وُجُوهَهُمُ الْمِجَانُّ الْمُطْرَقَةُ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمِجَانُّ الْمُطْرَقَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ فِي بَابِ قِتَالِ التُّرْكِ قِيلَ: إِنَّ بِلَادَهُمْ مَا بَيْنَ مَشَارِقِ خُرَاسَانَ إِلَى مَغَارِبِ الصِّينِ وَشِمَالِ الْهِنْدِ إِلَى أَقْصَى الْمَعْمُورِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: شَبَّهَ وُجُوهَهُمْ بِالتِّرَسَةِ لِبَسْطِهَا وَتَدْوِيرِهَا وَبِالْمُطْرَقَةِ لِغِلَظِهَا وَكَثْرَةِ لَحْمِهَا.

قَوْلُهُ: (نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ فِي بَابِ قِتَالِ التُّرْكِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ طُولُ شُعُورِهِمْ حَتَّى تَصِيرَ أَطْرَافُهَا فِي أَرْجُلِهِمْ مَوْضِعَ النِّعَالِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ نِعَالَهُمْ مِنَ الشَّعْرِ بِأَنْ يَجْعَلُوا نِعَالَهُمْ مِنْ شَعْرٍ مَضْفُورٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ قِتَالِ التُّرْكِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَلْبَسُونَ الشَّعْرَ، وَزَعَمَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُنْدُسُ الَّذِي يَلْبَسُونَهُ فِي الشَّرَابِيشِ، قَالَ: وَهُوَ جِلْدُ كَلْبِ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَابَعَهُ عَبْدَةُ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامَانِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَجَعَلَهُ أَحْمَدُ حَدِيثَيْنِ فَصَلَ آخِرَهُ فَقَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا أَقْوَامًا نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ.

قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: نَزَلَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَانَا قَرَابَةٌ قَالَ سُفْيَانُ: وَهُمْ - أَيْ آلُ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ - مَوَالِي لِأَحْمُسَ، فَاجْتَمَعَتْ أَحْمُسُ، قَالَ قَيْسٌ: فَأَتَيْنَاهُ نُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَؤُلَاءِ أَنْسَابُكَ أَتَوْكَ لِيُسَلِّمُوا عَلَيْكَ وَتُحَدِّثَهُمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِمْ وَأَهْلًا صَحِبْتُ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ سِنِينَ) كَذَا وَقَعَ وَفِيهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ قَدِمَ فِي خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَكَانَتْ خَيْبَرُ فِي صَفَرٍ، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ فَتَكُونُ الْمُدَّةُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَزِيَادَةٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ صَحِبْتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اعْتَبَرَ الْمُدَّةَ الَّتِي لَزِمَ فِيهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْمُلَازَمَةَ الشَّدِيدَةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ قُدُومِهِ مِنْ خَيْبَرَ، أَوْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْأَوْقَاتَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا سَفَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوِهِ وَحَجِّهِ وَعُمَرِهِ، لِأَنَّ مُلَازَمَتَهُ لَهُ فِيهَا لَمْ تَكُنْ كَمُلَازَمَتِهِ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ، أَوِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَيْدِ الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ الْحِرْصِ، وَمَا عَدَاهَا لَمْ يَكُنْ وَقَعَ لَهُ فِيهَا الْحِرْصُ الْمَذْكُورُ، أَوْ وَقَعَ لَهُ لَكِنْ كَانَ حِرْصُهُ فِيهَا أَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَمْ أَكُنْ فِي سِنِيَّ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْإِضَافَةِ أَيْ فِي سِنِي عُمْرِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي شَيْءٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَاحِدُ الْأَشْيَاءِ، وَقَوْلُهُ (أَحْرَصَ مِنِّي) هُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ، فَالْأَفْضَلُ الْمُدَّةُ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ وَالْمَفْضُولُ بَقِيَّةُ عُمْرِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ مَا كُنْتَ أَعْقَلَ مِنِّي فِيهِنَّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ هَذَا الْبَارِزُ، وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَهُمْ أَهْلُ الْبَازِرِ) وَقَعَ ضَبْطُ الْأُولَى بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ وَفِي الثَّانِيَةِ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ

ص: 608

عَلَى الرَّاءِ وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ، وَعَبْدُوسٍ بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الرَّاءِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأَصِيلِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: مَعْنَاهُ الْبَارِزِينَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيِ الظَّاهِرِينَ فِي بِرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي وَصْفِ عَلِيٍّ أَنَّهُ بَارِزٌ وَظَاهِرٌ، وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ هَذَا الْبَارِزُ إِذَا أَشَارَتْ إِلَى شَيْءٍ ضَارٍّ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْلُ سُفْيَانَ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ تَقْدِيمُ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ وَعَكْسُهُ تَصْحِيفٌ كَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي مِنَ الْبَارِزِ وَهُوَ السُّوقُ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَهُمْ أَهْلُ الْبَارِزِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ سُفْيَانَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُمْ هَذَا الْبَارِزُ؛ يَعْنِي الْأَكْرَادَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْبَارِزُ الدَّيْلَمُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْكُنُونَ فِي بِرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ أَوِ الْجِبَالِ وَهِيَ بَارِزَةٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرْضُ فَارِسَ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْفَاءَ مُوَحَّدَةً وَالزَّايَ سِينًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي الْبَاءِ وَالزَّايِ، وَقِيلَ: الْبَارِزُ نَاحِيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ كِرْمَانَ بِهَا جِبَالٌ فِيهَا أَكْرَادٌ، فَكَأَنَّهُمْ سُمُّوا بِاسْمِ بِلَادِهِمْ، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ أَهْلٍ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ وَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، فَكَأَنَّهُ أَبْدَلَ السِّينَ زَايًا؛ أَيْ وَالْفَاءَ بَاءً. وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ هَذَا الْخَبَرِ، وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ حَدِيثُ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَأَتَاهُ كِتَابُ عَامِلِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بِالتُّرْكِ وَهَزَمَهُمْ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: لَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يَأْتِيكَ أَمْرِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ التُّرْكَ تُجْلِي الْعَرَبَ حَتَّى تُلْحِقَهَا بِمَنَابِتِ الشِّيخ، قَالَ: فَأَنَا أَكْرَهُ قِتَالَهُمْ لِذَلِكَ. وَقَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ فِي خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَسْدُودًا إِلَى أَنْ فُتِحَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَثُرَ السَّبْيُ مِنْهُمْ وَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ فِيهِمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ عَسْكَرِ الْمُعْتَصِمِ مِنْهُمْ.

ثُمَّ غَلَبَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْمُلْكِ فَقَتَلُوا ابْنَهُ الْمُتَوَكِّلَ، ثُمَّ أَوْلَادَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ خَالَطَ الْمَمْلَكَةَ الدَّيْلَمُ، ثُمَّ كَانَ الْمُلُوكُ السَّامَانِيَّةُ مِنَ التُّرْكِ أَيْضًا، فَمَلَكُوا بِلَادَ الْعَجَمِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى تِلْكَ الْمَمَالِكِ آلُ سَبَكْتَكِينَ ثُمَّ آلُ سُلْجُوقَ وَامْتَدَّتْ مَمْلَكَتُهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالرُّومِ، ثُمَّ كَانَ بَقَايَا أَتْبَاعِهِمْ بِالشَّامِ وَهُمْ آلُ زَنْكِي وَأَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ بَيْتُ أَيُّوبَ، وَاسْتَكْثَرَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنَ التُّرْكِ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى الْمَمْلَكَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحِجَازِيَّةِ، وَخَرَجَ عَلَى آلِ سُلْجُوقَ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ الْغُزُّ فَخَرَّبُوا الْبِلَادَ وَفَتَكُوا فِي الْعِبَادِ، ثُمَّ جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى بِالطَّطَرِ فَكَانَ خُرُوجُ جِنْكِيزْخَانْ بَعْدَ السِّتّمِائَةِ فَأُسْعِرَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا نَارًا خُصُوصًا الْمَشْرِقَ بِأَسْرِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بَلَدٌ مِنْهُ حَتَّى دَخَلَهُ شَرُّهُمْ، ثُمَّ كَانَ خَرَابُ بَغْدَادَ وَقَتْلُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ آخِرِ خُلَفَائِهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ بَقَايَاهُمْ يُخَرِّبُونَ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُمُ اللَّنْكَ - وَمَعْنَاهُ الْأَعْرَجُ، وَاسمهُ تَمُرُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَرُبَّمَا أُشْبِعَتْ - فَطَرَقَ الدِّيَارَ الشَّامِيَّةَ وَعَاثَ فِيهَا، وَحَرَقَ دِمَشْقَ حَتَّى صَارَتْ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَدَخَلَ الرُّومَ وَالْهِنْدَ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَطَالَتْ مُدَّتُهُ إِلَى أَنْ أَخَذَهُ اللَّهُ وَتَفَرَّقَ بَنُوهُ الْبِلَادَ، وَظَهَرَ بِجَمِيعِ مَا أَوْرَدْتُهُ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بَنِي قَنْطُورَا أَوَّلُ مَنْ سَلَبَ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ

مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ بِبَنِي قَنْطُورَا التُّرْكُ، وَقَنْطُورَا قَيَّدَهُ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ فِي الْمُعَرَّبِ بِالْمَدِّ وَفِي كِتَابِ الْبَارِعِ بِالْقَصْرِ، قِيلَ: كَانَتْ جَارِيَةً لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَانْتَشَرَ مِنْهُمُ التُّرْكُ؛ حَكَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَاسْتَبْعَدَهُ، وَأَمَّا شَيْخُنَا فِي الْقَامُوسِ فَجَزَمَ بِهِ وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ السُّودَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ قِتَالِ التُّرْكِ مِنَ الْجِهَادِ

ص: 609

بَقِيَّةُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ أُمَّتِي أُمَّةَ النَّسَبِ لَا أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛ يَعْنِي الْعَرَبَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ بِمَا فِيهِ غِنْيَةٌ، وَتَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْجِهَادِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ، الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ قِتَالِ الْيَهُودِ.

قَوْلُهُ: (تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: يَنْزِلُ الدَّجَّالُ هَذِهِ السَّبْخَةَ - أَيْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ - ثُمَّ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَ شِيعَتَهُ، حَتَّى إِنَّ الْيَهُودِيَّ لَيَخْتَبِئُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَالْحَجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ وَالشَّجَرَةُ لِلْمُسْلِمِ: هَذَا يَهُودِيٌّ فَاقْتُلْهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقِتَالِ الْيَهُودِ وُقُوعُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الدَّجَّالُ وَنَزَلَ عِيسَى، وَكَمَا وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ فِي قِصَّةِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى، وَفِيهِ: وَرَاءَ الدَّجَّالِ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى. فَيُدْرِكُهُ عِيسَى عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ وَيَنْهَزِمُ الْيَهُودُ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ - لِلْمُسْلِمِ - هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مُطَوَّلًا وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَفِي الْحَدِيثِ ظُهُورُ الْآيَاتِ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِنْ كَلَامِ الْجَمَادِ مِنْ شَجَرَةٍ وَحَجَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْطِقُ حَقِيقَةً. وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُفِيدُهُمْ الِاخْتِبَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

وَفِيهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ جَوَازُ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ، وَالْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، لِأَنَّ الْخِطَابَ كَانَ لِلصَّحَابَةِ وَالْمُرَادُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانُوا مُشْتَرِكِينَ مَعَهُمْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ نَاسَبَ أَنْ يُخَاطَبُوا بِذَلِكَ.

3594 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ".

3595 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، أَخْبَرَنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ: فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ - قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟ - وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى. قُلْتُ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ. وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟

ص: 610

فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ. قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقّ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.

قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ.

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ، سَمِعْتُ عَدِيًّا: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

3596 -

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ لَانْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ بَعْدِي أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا".

3597 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: "أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ الْآطَامِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي أَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ".

3598 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ حَدَّثَتْهَا عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ وَبِالَّتِي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".

3599 -

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ".

3600 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ لِي: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَتَتَّخِذُهَا فَأَصْلِحْهَا وَأَصْلِحْ رُعَامَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ

ص: 611

الْجِبَالِ أَوْ سَعَفَ الْجِبَالِ فِي مَوَاقِعِ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ

3601 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".

[الحديث 3601 - طرفاه في: 7081، 7082]

3602 -

وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَزِيدُ مِنْ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".

3603 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ".

[الحديث 3603 - طرفه في: 7052]

3604 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ". قَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ.

[الحديث 3604 - طرفاه في: 3605، 7058]

3605 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَسَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ غِلْمَةٌ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ".

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أَحَدٍ

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ فِيهِ، الْحَدِيثُ يَأْتِي فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِنْهُمَا.

ص: 612

مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (الظَّعِينَةُ) بِالْمُعْجَمَةِ: الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْهَوْدَجِ.

قَوْلُهُ: (الْحِيرَةُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ كَانَتْ بَلَدُ مُلُوكِ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَحْتَ حُكْمِ آلِ فَارِسَ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ وَلِيَهَا مِنْ تَحْتِ يَدِ كِسْرَى بَعْدَ قَتْلِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَلِهَذَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ مَقَاتِبُ طَيِّئٍ وَرِجَالُهَا؟ وَمَقَاتِبُ بِالْقَافِ جَمْعُ مَقْتَبٍ؛ وَهُوَ الْعَسْكَرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفُرْسَانِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَدِيٍّ: فِي غَيْرِ جَوَازِ أَحَدٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ؟) الدُّعَّارُ جَمْعُ دَاعِرٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ الشَّاطِرُ الْخَبِيثُ الْمُفْسِدُ، وَأَصْلُهُ عُودٌ دَاعِرٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الدُّخَانِ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، فَكَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَعْنَى الْفَزَعِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَالْمُرَادُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ. وَطَيِّئٌ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْمَذْكُورُ، وَبِلَادُهُمْ مَا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ، وَكَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ جَوَازٍ، وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ عَدِيٌّ؛ كَيْفَ تَمُرُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ غَيْرُ خَائِفَةٍ؟!

قَوْلُهُ: (قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ)؛ أَيْ: أَوْقَدُوا نَارَ الْفِتْنَةِ، أَيْ مَلَؤوا الْأَرْضَ شَرًّا وَفَسَادًا، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ اسْتِعَارِ النَّارَ؛ وَهُوَ تَوَقُّدُهَا.

قَوْلُهُ: (كُنُوزُ كِسْرَى) وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، لَكِنْ كَانَتِ الْمَقَالَةُ فِي زَمَنِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعَظَمَةِ كِسْرَى فِي نَفْسِهِ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ)؛ أَيْ لِعَدَمِ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّمَا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، أَلَا وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِينَا بِالْمَالِ الْعَظِيمِ فَيَقُولُ: اجْعَلُوا هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ فِي الْفُقَرَاءِ، فَمَا يَبْرَحُ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَالِهِ يَتَذَكَّرُ مَنْ يَضَعُهُ فِيهِ فَلَا يَجِدُهُ، قَدْ أَغْنَى عُمَرُ النَّاسَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ تَصْدِيقُ مَا رُوِينَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، انْتَهَى. وَلَا شَكَّ فِي رُجْحَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ.

قَوْلُهُ: (بِشِقِّ تَمْرَةٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ نِصْفِهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ. وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَمَنْ يَجِدْ شِقَّ تَمْرَةٍ؛ قَالَ الْمُسْتَمْلِي: شِقَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ مَقُولُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَقَوْلُهُ: (يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ - أَيْ مِنَ الْمَالِ - فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ) رِوَايَةُ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَآمَنَ بِهِ عَدِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ وَتَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، يُقَالُ: اسْمُهُ سَعِيدٌ، وَسَعْدَانُ لَقَبُهُ. وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا لِشَيْخِهِ وَلَا لِشَيْخِ شَيْخِهِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ) هُوَ سَعْدٌ الطَّائِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ المعجمة بَعْدَهَا لَامٌ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ. وَتَقَدَّمَ سِيَاقُ مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَهُوَ أَخْصَرُ مِنْ سِيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ حَدِيثُ عُقْبَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا) هَذَا

ص: 613

مِمَّا حُذِفَ فِيهِ لَفْظُ إنَّهُ وَهِيَ تُحْذَفُ كَثِيرًا مِنَ الْخَطِّ وَلَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ بِهَا وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ نَبَّهُوا عَلَى حَذْفِ قَالَ خَطًّا، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ بِهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ ذَكَرْتُهُ فِي النُّكَتِ، وَوَقَعَ هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ أَنَّ بَدَلَ عَنْ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْجَنَائِزِ، وَقَوْلُهُ:(أَلَا وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ. . . إِلَخْ) هُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَغْنٍ عَنْ إِعَادَتِهِ، وَوَقَعَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: خَزَائِنَ مَفَاتِيحِ عَلَى الْقَلْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ وَالْمَغَازِي بِلَفْظِ: مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) فِيهِ إِنْذَارٌ بِمَا سَيَقَعُ، فَوَقَعَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمُ الْفُتُوحُ بَعْدَهُ وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَحَاسَدُوا وَتَقَاتَلُوا وَوَقَعَ مَا هُوَ الْمُشَاهَدُ الْمَحْسُوسُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّا يَشْهَدُ بِمِصْدَاقِ خَبَرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ فَرَطُهُمْ؛ أَيْ سَابِقُهُمْ، وَكَانَ كَذَلِكَ. وَأَنَّ أَصْحَابَهُ لَا يُشْرِكُونَ بَعْدَهُ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَوَقَعَ مَا أَنْذَرَ بِهِ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الدُّنْيَا، وَتَقَدَّمَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا: مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي مَعْنَاهُ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ وَفُتِحَتْ عَلَيْهِمُ الْفُتُوحُ الْكَثِيرَةُ وَصُبَّتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا صَبًّا، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ بَعْضِهِ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مَعَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِسْنَادِ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَهُوَ أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْفِتَنِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الْغَنَمُ فِيهِ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى، وَرِوَايَتُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ لَا عَنْ أَبِي صَعْصَعَةَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ آبَائِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: شَعَفُ الْجِبَالِ أَوْ سَعَفُ الْجِبَالِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْأُولَى أَوِ الْمُهْمَلَةِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالَّتِي بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَعْنَاهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ، وَالَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهَا جَرِيدُ النَّخْلِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ إِلَى تَوْهِيمِهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى إِرَادَةِ تَشْبِيهِ أَعْلَى الْجَبَلِ بِأَعْلَى النَّخْلَةِ، وَجَرِيدُ النَّخْلِ يَكُونُ غَالِبًا أَعْلَى مَا فِي النَّخْلَةِ لِكَوْنِهَا قَائِمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ. الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْمَتْنِ فِي الْفِتَنِ، وَقَوْلُهُ:(وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) هُوَ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَوْلُهُ:(إِلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ)؛ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخَ الزُّهْرِيِّ. وَقَوْلُهُ: يَزِيدُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ زَادَ هَذَا مُرْسَلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَادَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ

ص: 614

الْأَسْوَدِ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ الَّذِي وَلِيَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتَابِعِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَشَيْخُهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ صَحَابِيٌّ قَلِيلُ الْحَدِيثِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ خَالُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُطِيعٍ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: اسْمُ أُمِّهِ كُلْثُومٌ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، كَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُفَسَّرًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ نَوْفَلَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ فَذَكَرَ مِثْلَ لَفْظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَزَادَ: قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوَاقِيتِ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي ذَلِكَ مَشْرُوحًا، وَهُوَ شَاهِدٌ لِصِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هُنَا اسْتِطْرَادًا لِوُقُوعِهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَرَادَ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَتَكُونُ أَثَرَةٌ، يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قُرَيْشٍ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي الْفِتَنِ.

وَقَوْلُهُ هُنَا فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: قَالَ مَحْمُودٌ:، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَرَادَ بِذَلِكَ تَصْرِيحَ أَبِي التَّيَّاحِ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبُو دَاوُدَ هَذَا هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْمُصَنِّفُ إِلَّا اسْتِشْهَادًا، وَمَحْمُودٌ هَذَا هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ أَحَدُ مَشَايِخِهِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ نَزَلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ دَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِي أُسَامَةَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي أسامة، وَهُمَا مِمَّنْ أَكْثَرَ عَنْهُمَا الْبُخَارِيُّ، وَكَأَنَّهُ فَاتَهُ عَنْهُمَا. وَنَزَلَ فِيهِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ شُعْبَةَ دَرَجَتَيْنِ لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ حَدِيثِ شُعْبَةَ.

وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ مَرْوَانُ: غِلْمَةٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَعَجَّبَ مَرْوَانُ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ غِلْمَةٍ، فَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ شِئْتَ صَرَّحْتُ بِأَسْمَائِهِمْ انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفِتَنِ، فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ مَرْوَانَ لَمْ يُورِدْهَا مَوْرِدَ التَّعَجُّبِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ هُنَاكَ: فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَظَهَرَ أَنَّ فِي هَذَا الطَّرِيقِ اخْتِصَارًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَيَلْعَنَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

3606 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ هذا الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، ومَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ

ص: 615

لَنَا. فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.

[الحديث 3606 - طرفاه في: 3607، 7084]

3607 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ".

3608 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ".

3609 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ".

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ عَنِ الْخَيْرِ، يَأْتِي فِي الْفِتَنِ مَعَ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ، وَتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الطَّرِيقِ الْآخَرِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَلَ قَوْلِهِ: كَانَ النَّاسُ.

الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ الْحَدِيثَ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَفِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ الدَّجَّالِينَ، وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ مِنْ صَحِيفَةِ هَمَّامٍ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَوْلُهُ:(فِئَتَانِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ تَثْنِيَةُ فِئَةٍ؛ أَيْ جَمَاعَةٍ، وَوَصَفَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِالْعِظَمِ أَيْ بِالْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَنْ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ لَمَّا تَحَارَبَا بِصِفِّينَ. وَقَوْلُهُ:(دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ)؛ أَيْ دِينُهُمَا وَاحِدٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُحِقُّ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذْ ذَاكَ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَلَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بَايَعُوهُ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَتَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ خَرَجَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَمَعَهُمَا عَائِشَةُ إِلَى الْعِرَاقِ فَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى طَلَبِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمُ انْضَمُّوا إِلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمْ فَرَاسَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُمْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ دَعْوَى مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ وَثُبُوتِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَرَحَلَ عَلِيٌّ بِالْعَسْكَرِ طَالِبًا الشَّامَ، دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ بِمَا تَقَدَّمَ، فَرَحَلَ مُعَاوِيَةُ بِأَهْلِ الشَّامِ فَالْتَقَوْا بِصِفِّينَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم، وَآلَ الْأَمْرُ بِمُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ عِنْدَ ظُهُورِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ إِلَى طَلَبِ التَّحْكِيمِ،

ص: 616

ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الْحَرُورِيَّةُ فَقَتَلَهُمْ بِالنَّهْرَوَانِ وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَهُ بِالْعَسَاكِرِ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ الصُّلْحُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْآتِي فِي الْفِتَنِ: إِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ جَمِيعِ ذَلِكَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَدِيثُ الْحَادِي والعشرون حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُبْعَثَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ؛ أَيْ يُخْرَجَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ مَعْنَى الْإِرْسَالِ الْمُقَارِنِ لِلنُّبُوَّةِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}

قَوْلُهُ: (دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ) الدَّجَلُ التَّغْطِيَةُ وَالتَّمْوِيهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا كَذَّابُونَ تَأْكِيدٌ. وَقَوْلُهُ:(قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ) كَذَا وَقَعَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: قَرِيبٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الْجَزْمَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا دجَالًا، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ تَسْمِيَةَ بَعْضِ الْكَذَّابِينَ الْمَذْكُورِينَ بِلَفْظِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا؛ مِنْهُمْ: مُسَيْلِمَةُ، وَالْعَنْسِيُّ، وَالْمُخْتَارُ. قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي آخِرِ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَسَجَاحُ التَّمِيمِيَّةُ فِي بَنِي تَمِيمٍ، وَفِيهَا يَقُولُ شَبِيبُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَكَانَ مُؤَدِّبَهَا:

أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا

وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا

وَقُتِلَ الْأَسْوَدُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقُتِلَ مُسَيْلِمَةُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَتَابَ طُلَيْحَةُ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَنُقِلَ أَنَّ سَجَاحَ أَيْضًا تَابَتْ، وَأَخْبَارُ هَؤُلَاءِ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْأخْبَارِيِّينَ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ؛ غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَأَظْهَرَ مَحَبَّةَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَلَبِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ، فَتَبِعَهُمْ فَقَتَلَ كَثِيرًا مِمَّنْ بَاشَرَ ذَلِكَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ، ثُمَّ إنه زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ أَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَزَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ يَأْتِيهِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كُنْتُ أَبْطَنَ شَيْءٍ بِالْمُخْتَارِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ: دَخَلْتَ وَقَدْ قَامَ جِبْرِيلُ قَبْلُ مِنْ هَذَا الْكُرْسِيِّ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ أَرَاهُ كِتَابَ الْمُخْتَارِ إِلَيْهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَتَرَى الْمُخْتَارَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ مِنَ الرُّءُوسِ. وَقُتِلَ الْمُخْتَارُ سَنَةَ بِضْعٍ وَسِتِّينَ. وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ الْكَذَّابُ؛ خَرَجَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقُتِلَ. وَخَرَجَ فِي خِلَافَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً لِكَوْنِ غَالِبِهِمْ يَنْشَأُ لَهُمْ ذَلِكَ عَنْ جُنُونٍ أَوْ سَوْدَاءَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ قَامَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَبَدَتْ لَهُ شُبْهَةٌ كَمَنْ وَصَفْنَا، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِأَصْحَابِهِ وَآخِرُهُمُ الدَّجَّالُ الْأَكْبَرُ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

3610 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا إذ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ. فَقَالَ: وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ

ص: 617

إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ - وَهُوَ قِدْحُهُ - فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ.

3611 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَانْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

[الحديث 3611 - أطرافه في: 5057، 6930]

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذِكْرى ذِي الْخُوَيْصِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَلْتُ عَلَى شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي وَهُوَ فِي أَوَاخِرِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُطَوَّلًا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ: فَقَالَ خَالِدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَأَلَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا لَيْسَتِ الْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ ظَاهِرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ. وَقَوْلُهُ:(لَا يُجَاوِزُ)، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ لَا تَفْقَهُهُ قُلُوبُهُمْ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلَاوَتَهُمْ لَا تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ:(يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْلَامُ فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يُكَفِّرُ الْخَوَارِجَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدِّينِ الطَّاعَةَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ وَإِلَيْهِ جَنَحَ الْخَطَّابِيُّ. وَقَوْلُهُ:(الرَّمِيَّةُ) بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ؛ وَهُوَ الصَّيْدُ الْمَرْمِيُّ، شَبَّهَ مُرُوقَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، وَمِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ خُرُوجِهِ لِقُوَّةِ الرَّامِي لَا يَعْلَقُ مِنْ جَسَدِ الصَّيْدِ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ:(يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ)؛ أَيْ حَدِيدَةِ السَّهْمِ، وَرِصَافِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ؛ أي عَصَبُهُ الَّذِي يَكُونُ فَوْقَ مَدْخَلِ النّ صْلِ، وَالرِّصَافُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ رِصَفَةٌ بِحَرَكَاتٍ.

وَنَضِيِّهِ بِفَتْحِ النُّونِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ، قَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالْقِدْحِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ؛ أَيْ عُودُ السَّهْمِ قَبْلَ أَنْ يُرَاشَ وَيُنَصَّلَ، وَقِيلَ: هُوَ مَا بَيْنَ الرِّيشِ وَالنَّصْلِ؛ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ

ص: 618

لِأَنَّهُ بُرِيَ حَتَّى عَادَ نِضْوًا؛ أَيْ هَزِيلًا. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّضِيَّ النَّصْلُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْقُذَذُ بِضَمِّ الْقَافِ وَمُعْجَمَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ جَمْعُ قُذَّةٍ وَهِيَ رِيشُ السَّهْمِ، يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قُذَّةٌ، وَيُقَالُ: هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُجْعَلُ عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: (آيَتُهُمْ)؛ أَيْ عَلَامَتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: (بَضْعَةٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ قِطْعَةُ لَحْمٍ. وَقَوْلُهُ: (تُدَرْدِرُ) بِدَالَيْنِ وَرَاءَيْنِ مُهْمَلَاتٍ؛ أَيْ تَضْطَرِبُ، وَالدَّرْدَرَةُ صَوْتٌ إِذَا انْدَفَعَ سُمِعَ لَهُ اخْتِلَاطٌ. وَقَوْلُهُ:(عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ)؛ أَيْ زَمَانِ فُرْقَةٍ، وَهُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ؛ أَيِ افْتِرَاقٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى خَيْرِ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ؛ أَيْ أَفْضَلَ، وَفِرْقَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ طَائِفَةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ، أَخْرَجَهُ هَكَذَا مُخْتَصَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ. وَفِي هَذَا وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَأُتِيَ بِهِ؛ أَيْ بِذِي الْخُوَيْصِرَةِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ، يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ أَسْوَدَ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ. . . إِلَخْ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: النَّعْتُ يَخْتَصُّ بِالْمَعَانِي كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ، وَالصِّفَةُ بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ وَالْجُرُوحِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّعْتُ لِلشَّيْءِ الْخَاصِّ، وَالصِّفَةُ أَعَمُّ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الْخَوَارِجِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ. وَقَوْلُهُ: سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، قَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ النَّسَائِيِّ: لَيْسَ يَصِحُّ لِسُوَيْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ:(الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَشَرْحُهُ فِي الْجِهَادِ. وَقَوْلُهُ: (حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ)؛ أَيْ صِغَارُهَا، وَسُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ؛ أَيْ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ. وَقَوْلُهُ:(يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ)؛ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَبْلَهُ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ خَرَجُوا بِهَا قَوْلُهُمْ: لَا حَكَمَ إِلَّا اللَّهُ، وَانْتَزَعُوهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمَلُوهَا عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهَا. وَقَوْلُهُ:(فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِنَّ قَتْلَهُمْ.

3612 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَني يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ - قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.

[الحديث 3612 - طرفاه في: 3852، 6643]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ خَبَّابٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَجَاء كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْجِيمِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَالْفَيْحُ الْبَابُ الْوَاسِعُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ صَنْعَاءَ الْيَمَنِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ حَضْرَمَوْتَ مِنَ الْيَمَنِ أَيْضًا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ نَحْوَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ صَنْعَاءَ الشَّامِ وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا

ص: 619

أَبْعَدُ بِكَثِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، قَالَ يَاقُوتٌ: هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ تَتَّصِلُ بِالْعَقِيبَةِ. قُلْتُ: وَسُمِّيَتْ بِاسْمِ مَنْ نَزَلَهَا مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ.

3613 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ. فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ: فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

[الحديث 3613 - طرفه في: 4846]

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ) كَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَزْهَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَزْهَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ أَزْهَرَ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ بَدَلَ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مِمَّنِ الْوَهْمُ. قُلْتُ: لَمْ أَرَهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} قَعَدَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ الْحَدِيثَ، وَهَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي أَنَّ الْحَدِيثَ لِابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُوسَى لَا عَنْ ثُمَامَةَ.

قَوْلُهُ: (افْتُقِدَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ)؛ أَيِ ابْنُ شَمَّاسٍ خَطِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ خَطِيبَ الْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ آشْتَكَى؟ فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ كَانَ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْحُفَّاظُ بِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ فِي زَمَنِ الْوفُودِ بِسَبَبِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وذلك سَنَةَ خَمْسٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّةِ ثَابِتٍ مُجَرَّدُ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّةِ الْأَقْرَعِ أَوَّلُ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ:{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَدْ نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ سَابِقًا أَيْضًا قَوْلُهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ. وَفِي السِّيَاقِ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ إِسْلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ: حَدَّثَنِي أَبُو ثَابِتِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَعَدَ ثَابِتٌ يَبْكِي، فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا الْحَدِيثَ، وَهَذَا لَا يُغَايِرُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.

وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ

ص: 620

بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ جَارِي الْحَدِيثَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ مِنْ قَبِيلَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ جَارَهُ مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا الْكِرْمَانِيُّ: أَلَا بِلَامٍ بَدَلَ النُّونِ، وَهِيَ لِلتَّنْبِيهِ. وَقَوْلُهُ: أَعْلَمُ لَكَ؛ أَيْ لِأَجْلِكَ. وَقَوْلُهُ: عِلْمَهُ؛ أَيْ خَبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ) كَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي.

قَوْلُهُ: (فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا)؛ أَيْ مِثْلَ مَا قَالَ ثَابِتٌ إنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ) هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى مُوسَى، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ بَاقِيَ الْحَدِيثِ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُتَّصِلًا بِلَفْظِ: قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: (بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ) هِيَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنَّمَا يَتِمُّ الْغَرَضُ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ أَيْ مِنْ إِيرَادِهِ فِي بَابِ عَلَامَةِ النُّبُوَّةِ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ، أَيِ الَّذِي مَضَى فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا؛ يَعْنِي وَظَهَرَ بِذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِكَوْنِهِ اسْتُشْهِدَ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ إِشَارَةً لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا جَهِيرٌ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ سَعِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيُّ الْإِسْنَادِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَلْحَقْ ثَابِتًا.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إنَّ ثَابِتًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُعْضَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ فَوْقَهُ أَحَدًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي آخِرِهِ: بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُفٍّ لِهَؤُلَاءِ وَلِمَا يَعْبُدُونَ، وَأُفٍّ لِهَؤُلَاءِ وَلِمَا يَصْنَعُونَ. قَالَ: وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى ثُلْمَةٍ فَقَتَلَهُ وَقُتِلَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَقَالَ فِي آخِرِهَا: قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ كَانَ فِي بَعْضِنَا بَعْضُ الِانْكِشَافِ، فَأَقْبَلَ وَقَدْ تَكَفَّنَ وَتَحَنَّطَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ قَالَتْ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ دَخَلَ ثَابِتٌ بَيْتَهُ فَأَغْلَقَ بَابَهُ - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً، وَفِيهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَعِيشُ حَمِيدًا وَتَمُوتُ شَهِيدًا، وَفِيهَا: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ ثَبَتَ حَتَّى قُتِلَ.

ص: 621

3614 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ وَفِي الدَّارِ الدَّابَّةُ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَسَلَّمَ، فَإِذَا ضَبَابَةٌ غَشِيَتْهُ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اقْرَأْ فُلَانُ، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ.

[الحديث 3614 - طرفاه في: 4839، 5011]

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَتَمَّ مِنْهُ.

3615 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا، فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثْ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي. قَالَ: فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ عليه فَرْوَةً وَقُلْتُ له: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ. فَنَامَ، وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - أَوْ مَكَّةَ. قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى يَنْفُضُ.

فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوِي مِنْهَا يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتْ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا - أُرَى فِي جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ، شَكَّ زُهَيْرٌ - فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا. فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَى لَنَا.

ص: 622

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ بَعْضِهِ فِي آخِرِ اللُّقَطَةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي أَوَّلِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِهِ، وَشَيْخُهُ الْآخَرُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا وَأَقْدَمُ سَمَاعًا وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ يُعْرَفُ بِالْوَرْتَنِّيسيِّ - بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ - وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ، قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ تَامًّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا زُهَيْرٌ وَأَخُوهُ خَدِيجٌ، وَإِسْرَائِيلُ، وَرَوَى شُعْبَةُ مِنْهُ قِصَّةَ اللَّبَنِ خَاصَّةً، انْتَهَى. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ مُطَوَّلًا أَيْضًا حَفِيدُهُ يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قِصَّةَ سُرَاقَةَ، وَزَادَ فِيهِ قِصَّةً غَيْرَهَا كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (جَاءَ أَبُو بَكْرٍ)؛ أَيِ الصِّدِّيقُ (إِلَى أَبِي) هُوَ عَازِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَوْسِيُّ، مِنْ قُدَمَاءِ الْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، هُوَ لِلنَّاقَةِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ.

قَوْلُهُ: (ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي، قَالَ: فَحَمَلْتُهُ، وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا؟) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الْآتِيَةِ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ: إنَّ عَازِبًا امْتَنَعَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِهِ مَعَ أَبِي بِكْرٍ حَتَّى يُحَدِّثَهُ أَبُو بَكْرٍ بِالْحَدِيثِ، وَهِيَ زِيَادَةُ ثِقَةٍ مَقْبُولَةٍ لَا تُنَافِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، بَلْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهُ أَبِي؛ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَحْمِلَهُ مَعَهُ، أَوْ أَعَادَ عَازِبٌ سُؤَالَ أَبِي بَكْرٍ عَنِ التَّحْدِيثِ بَعْدَ أَنْ شَرَطَهُ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَأَجَابَهُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَعَمْ، أَسْرَيْنَا) هَكَذَا اسْتَعْمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ سَرَوتُ وَأَسْرَيْتُ فِي سَيْرِ اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (لَيْلَتَنَا)؛ أَيْ بَعْضَهَا، وَذَلِكَ حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْغَارِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفِيهَا أَنَّهُمَا لَبِثَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ خَرَجَا، وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْغَدِ فِيهِ تَجَوُّزٌ ; لِأَنَّ السَّيْرَ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ سَيْرُ اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ)؛ أَيْ نِصْفُ النَّهَارِ، وَسُمِّيَ قَائِمًا لِأَنَّ الظِّلَّ لَا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِفٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا؛ أَيْ: دَخَلْنَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ.

قَوْلُهُ: (فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ)؛ أَيْ ظَهَرَتْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تَأْتِ عَلَيْهَا)؛ أَيْ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ؛ أَيْ عَلَى الظِّلِّ.

قَوْلُهُ: (وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً) هِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَيْءٌ مِنَ الْحَشِيشِ الْيَابِسِ، لَكِنْ يُقَوِّي الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ: فَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً مَعِي، وَفِي رِوَايَةِ خَدِيجٍ فِي جُزْءِ لُوَيْنٍ: فَرْوَةً كَانَتْ مَعِي.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ) يَعْنِي مِنَ الْغُبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُثِيرَهُ عَلَيْهِ الرِّيحُ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّفْضِ هُنَا الْحِرَاسَةُ، يُقَالُ: نَفَضْتُ الْمَكَانَ إِذَا نَظَرْتُ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي؛ هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا؟.

قَوْلُهُ: (لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي؛ أَيَّ اللَّفْظَيْنِ قَالَ؟ وَكَأَنَّ الشَّكَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ زُهَيْرٍ فَقَالَ فِيهِ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَشُكَّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَدِيجٍ: فَسَمَّى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ يَشُكَّ. وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ مَكَّةُ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةَ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ تُسَمَّى الْمَدِينَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهَا: يَثْرِبُ. وَأَيْضًا فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَبْعُدُوا فِي الْمُرَاعِي هَذِهِ الْمَسَافَةَ الْبَعِيدَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْتُهُ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَكُونُوا يَسْكُنُونَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ: (أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ لُبٍّ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ لَابِنٍ؛ أَيْ ذَوَاتُ لَبَنٍ.

قَوْلُهُ: (أَفَتَحْلُبُ؟ قَالَ: نَعَمْ) الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ: أَمَعَكَ إِذْنٌ فِي

ص: 623

الْحَلْبِ لِمَنْ يَمُرُّ بِكَ عَلَى سَبِيلِ الضِّيَافَةِ؟ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمَاضِي فِي أَوَاخِرِ اللُّقَطَةِ، وَهُوَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ أَبُو بَكْرٍ أَخْذَ اللَّبَنِ مِنَ الرَّاعِي بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِ الْغَنَمِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا عَرَفَهُ عَرَفَ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِصَدَاقَتِهِ لَهُ أَوْ إِذْنِهِ الْعَامِّ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ هُنَا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: انْفُضِ الضَّرْعَ)؛ أَيْ ثَدْيَ الشَّاةِ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الْآتِيَةِ: وَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً؛ أَيْ وَضَعَ رِجْلَهَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ يَمْنَعُهَا مِنَ الْحَرَكَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ

(1)

) فِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرْتُ الرَّاعِيَ فَحَلَبَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ تَجَوَّزٌ فِي قَوْلِهِ: فَحَلَبْتُ، وَمُرَادُهُ أَمَرْتُ بِالْحَلْبِ.

قَوْلُهُ: (كُثْبَةً) بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ قَدْرَ قَدَحٍ، وَقِيلَ: حَلْبَةً خَفِيفَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَعَلَى الْجَرْعَةِ تَبْقَى فِي الْإِنَاءِ وَعَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مُجْتَمِعٍ.

قَوْلُهُ: (وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ.

قَوْلُهُ: (فَارْتَطَمَتْ) بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ غَاصَتْ قَوَائِمُهَا.

قَوْلُهُ: (أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ، شَكَّ زُهَيْرٌ) أَيِ الرَّاوِي؛ هَلْ قَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ أَمْ لَا؟ وَالْجَلَدُ بِفَتْحَتَيْنِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ زُهَيْرٍ فِي قَوْلِ سُرَاقَةَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَدِيجِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَخُو زُهَيْرٍ: وَنَحْنُ فِي أَرْضٍ شَدِيدَةٍ كَأَنَّهَا مُجَصَّصَةٌ، فَإِذَا بِوَقْعٍ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا سُرَاقَةُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: كَلَّا، ثُمَّ دَعَا بِدَعَوَاتٍ. وَسَتَأْتِي قِصَّةُ سُرَاقَةَ فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ نَفْسِهِ بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ الْبَرَاءِ، فَلِذَلِكَ أَخَّرْتُ شَرْحَهَا إِلَى مَكَانِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِيهِ فَوَائِدُ أُخْرَى يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

3616 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ طَهُورٌ كَلَا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ". فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذًا".

[الحديث 3616 - أطرافه في: 5656، 5662، 7470]

3617 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ".

(1)

في المتن "فحلب" ولعل ما وقع في الشرح رواية للمؤلف.

ص: 624

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَقَالَ: حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ زِيَادَةٌ تَقْتَضِي إِيرَادَهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ شُرَحْبِيلَ وَالِدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِذَا أَبَيْتَ فَهِيَ كَمَا تَقُولُ قَضَاءُ اللَّهِ كَائِنٌ، فَمَا أَمْسَى مِنَ الْغَدِ إِلَّا مَيِّتًا. وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَظْهَرُ دُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَعَجِبْتُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ؛ كَيْفَ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَأَغْفَلَهُ هُنَا! وَوَقَعَ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ قَيْسٌ، فَقَالَ فِي بَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ يَعُودُهُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَلَمْ أَرَ تَسْمِيَتَهُ لِغَيْرِهِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ غَيْرُ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَحَدِ الْمُخَضْرَمِينَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ مَاتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَيْسٌ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ إِسْلَامِهِ فَلَا صُحْبَةَ لَهُ، وَلَكِنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَعَاشَ بَعْدَهُ دَهْرًا طَوِيلًا.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الَّذِي أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَدُفِنَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.

قَوْلُهُ: (فَعَادَ نَصْرَانِيًّا) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَرَفَعُوهُ.

قَوْلُهُ: (مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَى يُحْسِنُ مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَمَّا لَمْ يَرْضَ دِينَهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَفِظَتْهُ الْأَرْضُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ؛ أَيْ طَرَحَتْهُ وَرَمَتْهُ، وَحُكِيَ فَتْحُ الْفَاءِ.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (فَأَلْقَوْهُ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ: فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا.

3618 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

3619 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَذَكَرَ وَقَالَ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (كِسْرَى) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ. وَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ وَلِيَ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ، وَقَيْصَرُ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ وَلِيَ مَمْلَكَةَ الرُّومِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْكَسْرُ أَفْصَحُ فِي كِسْرَى، وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَخْتَارُهُ، وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ الْكَسْرَ عَلَى ثَعْلَبٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَيْهِ كَسْرَوِيٌّ بِالْفَتْحِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ فَارِسٍ بِأَنَّ النِّسْبَةَ قَدْ يُفْتَحُ فِيهَا مَا هُوَ فِي الْأَصْلِ مَكْسُورٌ أَوْ مَضْمُومٌ، كَمَا قَالُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ بِكَسْرِ اللَّامِ تَغْلَبِيٌّ بِفَتْحِهَا، وَفِي سَلِمَةَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى تَخْطِئَةِ الْكَسْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الْفُرْسِ؛ لِأَنَّ آخِرَهُمْ قُتِلَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: لَا يَبْقَى كِسْرَى بِالْعِرَاقِ وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَسَبَبُ

ص: 625

الْحَدِيثِ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَأْتُونَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ تُجَّارًا، فَلَمَّا أَسْلَمُوا خَافُوا انْقِطَاعَ سَفَرِهِمْ إِلَيْهِمَا لِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ مُلْكَهُمَا سَيَزُولُ عَنِ الْإِقْلِيمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.

وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ قَيْصَرَ بَقِيَ مُلْكُهُ وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا، وَكِسْرَى ذَهَبَ مُلْكُهُ أَصْلًا وَرَأْسًا أَنَّ قَيْصَرَ لَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَهُ وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ كَمَا مَضَى بَسْطُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَكِسْرَى لَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَزَّقَهُ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ يَمْلِكُ مِثْلَ مَا يَمْلِكُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ وَبِهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِلنَّصَارَى نُسُكٌ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ عَلَى الرُّومِ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ قَدْ دَخَلَهُ إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا جَهْرًا، فَانْجَلَى عَنْهَا قَيْصَرُ وَاسْتُفْتِحَتْ خَزَائِنُهُ وَلَمْ يَخْلُفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَيَاصِرَةِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ بَعْدَهُ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَابِ الْحَرْبُ خَدْعَةٌ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ: هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَلَيَهْلِكَنَّ قَيْصَرُ. قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا هَلَكَ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ امْرَأَةً الْحَدِيثَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا مَاتَ شِيرَوَيْهِ بْنُ كِسْرَى، فَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَهُ بُورَانَ.

وَأَمَّا قَيْصَرُ فَعَاشَ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ سَنَةَ عِشْرِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِّ وَلَدُهُ وَكَانَ يُلَقَّبُ أَيْضًا قَيْصَرَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُمَا لَمْ تَبْقَ مَمْلَكَتُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَّرْتُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَفْظُهَا: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَفْظُهَا: هَلَكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ: بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ بَوْنٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَمُوت كِسْرَى وَالْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ التَّغَايُرُ بِالْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، فَقَوْلُهُ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى؛ أَيْ هَلَكَ مُلْكُهُ وَارْتَفَعَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَاتَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، فَالْمُرَادُ بِهِ كِسْرَى حَقِيقَةً اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هَلَكَ كِسْرَى تَحَقُّقَ وُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى لِأَنَّ مَخْرَجَ الرِّوَايَتَيْنِ مُتَّحِدٌ فَحَمْلَهُ عَلَى التَّعَدُّدِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ هَذَا الْجَمْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

قَوْلُهُ: (رَفَعَهُ) تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ) كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - مِثْلُ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَكَذَا قَالَ، لَمْ يَذْكُرْ قَيْصَرَ، وَقَالَ: كُنُوزَهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ وَقَالَ: لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: وَذَكَرَهُ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ؛ أَيْ مِثْلَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْبَاقِينَ فَفِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَذَكَرَ كَلَامًا أَوْ حَدِيثًا، وَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ.

3620 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ. وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ

ص: 626

شَمَّاسٍ - وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ - حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ.

[الحديث 3620 - أطرافه في: 4373، 4378، 7033، 7461]

3621 -

فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ صَاحِبَ الْيَمَامَةِ".

[الحديث 3621 - أطرافه في: 4374، 4375، 4379، 7034، 7037]

3622 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ".

[الحديث 3622 - أطرافه في: 3987، 4081، 7035، 7041]

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُدُومِ مُسَيْلِمَةَ، وَفِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْمَنَامَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ كُلُّهُ مَبْسُوطًا فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَقَدْ ذُكِرَه هُنَاكَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْهِجْرَةِ وَبِأُحُدٍ، وَسَيَأْتِي فِي ذِكْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، وَأَذْكُرُ هُنَاكَ شَرْحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَفْرَدَ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَشَرَحْتُهُ هُنَاكَ، وَعُلِّقَ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَذَكَرْتُ شَرْحَهُ أَيْضًا هُنَاكَ.

3623 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهَا".

[الحديث 3623 - أطرافه في: 3625، 3715، 4433، 6285]

ص: 627

3624 -

فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ. فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ - فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.

[الحديث 3624 - أطرافه في: 3626، 3716، 4434، 6286]

3625 -

حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فِي شَكْوَاهُ الَّتي قُبِضَ فِيها، فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا فَضَحِكَتْ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ

3626 -

فَقَالَتْ: سَارَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ أَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ.

3627 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ".

[الحديث 3627 - أطرافه في: 4294، 4430، 4969، 4970]

3628 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم".

3629 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه "أَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْحَسَنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".

3630 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى جَعْفَرًا وَزَيْدًا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ".

ص: 628

3631 -

حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكُمْ مِنْ أَنْمَاطٍ قُلْتُ وَأَنَّى يَكُونُ لَنَا الأَنْمَاطُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمْ الأَنْمَاطُ فَأَنَا أَقُولُ لَهَا يَعْنِي امْرَأَتَهُ أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَكِ فَتَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الأَنْمَاطُ فَأَدَعُهَا".

[الحديث 3631 - طرفه في: 5161]

3632 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا قَالَ فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ سَعْدٌ أَنَا سَعْدٌ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَتَلَاحَيَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَاقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ قَالَ فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ دَعْنَا عَنْكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قَالَ إِيَّايَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ قَالَتْ وَمَا قَالَ قَالَ زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ قَالَ فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ فَأَرَادَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللَّهُ".

[الحديث 3632 - طرفه في: 3950]

3633 -

حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ قَالَتْ هَذَا دِحْيَةُ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ".

[الحديث 3633 - طرفه في: 4980]

3634 -

حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ

ص: 629

سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "رَأَيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ فِي صَعِيدٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي بَعْضِ نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا فِي النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ".

وَقَالَ هَمَّامٌ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَنَزَعَ أَبُو بَكْرٍ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ".

[الحديث 3634 - أطرافه في: 3676، 3682، 7019، 7020]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام الْحَدِيثُ فِي ذِكْرِ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِعْلَامِهِ لَهَا بِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فِي الْوَفَاةِ مَشْرُوحًا، وَأَذْكُرُ فِيهِ وَجْهَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ عُمَرُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ الْحَدِيثُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّصْرِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَفِيهِ وَصِيَّتُهُ بِالْأَنْصَارِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَنَّ الْحَسَنَ سَيِّدٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قَتْلِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي شَرْحِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي ذِكْرِ الْأَنْمَاطِ، وَهِيَ جَمْعُ نَمَطٍ بِفَتَحَاتٍ مِثْلُ خَبَرٍ وَأَخْبَارٍ، وَالنَّمَطُ بِسَاطٌ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَأَنَا أَقُولُ ما لَهَا؛ يَعْنِي امْرَأَتَهُ، كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَسَيَأْتِي تَسْمِيَةُ امْرَأَتِهِ هُنَاكَ. وَفِي اسْتِدْلَالِهَا عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْأَنْمَاطِ بِأخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا سَتَكُونُ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيَكُونُ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ إِلَّا إِنِ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى التَّقْرِيرِ فَيَقُولُ: أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّهُ. وَقَدْ وَقَعَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي خُرُوجِ الظَّعِينَةِ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى جَوَازِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَفِيهِ مِنَ الْبَحْثِ مَا ذُكِرَ.

الْحَدِيثُ الْخَمْسُونَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي إِخْبَارِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَنَّهُ سَيُقْتَلُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ شَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إنَّهُ قَاتِلُكَ؛ أَيْ أَبُو جَهْلٍ، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِكَوْنِ أَبِي جَهْلٍ عَلَى دِينِ أُمَيَّةَ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ فَنَسَبَ قَتْلَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فَهْمٌ عَجِيبٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سَعْدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ أُمَيَّةَ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي مَكَانِهِ بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَنَزَعَ أَبُو بَكْرٍ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ.

الْحَدِيثُ الثاني وَالْخَمْسُونَ حديث ابْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا أَبِي بَكْرٍ: يَنْزِعُ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ. . . الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، أَوْرَدَ مِنْهُ طَرَفًا مُعَلَّقًا، وَهُوَ مَوْصُولٌ فِي التَّعْبِيرِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 630

‌26 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

3635 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ تَسْمِيَةَ مَنْ أُبْهِمَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَذِكْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُورِيَا الْأَعْوَرِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا بِقَوْلِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأ التَّوْرَاةَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ.

‌27 - بَاب سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ

3636 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا.

[الحديث 3636 - أطرافه في: 3869، 3871، 4864، 4865]

3637 -

حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ.

[الحديث 3637 - أطرافه في: 3868، 4867، 4868]

3638 -

حَدَّثَنا خَلَفُ بْنُ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 3638 - طرفاه في: 3870، 4866]

ص: 631

قَوْلُهُ: (بَابُ سُؤَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ) فَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَمَّا أَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَحْضُرَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ خَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُولَدْ، وَأَمَّا أَنَسٌ فَكَانَ ابْنَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَاهَدَ ذَلِكَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِحُضُورِ ذَلِكَ، وَأَوْرَدَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا، وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ تَأْتِي قَبْلَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَ شِقَّيْهِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بِمِنًى وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌28 - بَاب

3639 -

حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ.

3640 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ.

[الحديث 3640 - طرفاه في: 7311، 7459]

3641 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّامِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّامِ.

3642 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَيَّ يتحَدِّثُونَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوْ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ.

قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ جَاءَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَهُ شَبِيبٌ مِنْ عُرْوَةَ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ شَبِيبٌ: إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَيَّ يُخْبِرُونَهُ عَنْهُ،

3643 -

وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي دَارِهِ سَبْعِينَ فَرَسًا. قَالَ سُفْيَانُ: يَشْتَرِي لَهُ شَاةً كَأَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ.

ص: 632

3644 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

3645 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ فِي الْخَيْلِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا.

3646 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ وِزْرٌ. وَسُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

3647 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بُكْرَةً وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِي، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فأَجالُوا إِلَى الْحِصْنِ يَسْعَوْنَ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ.

3648 -

حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا فَأَنْسَاهُ. قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ. فَبَسَطْتُه، فَغَرَفَ بِيَدِيهِ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ. فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدِيثًا بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنْهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْبَابَيْنِ رَاجِعًا إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ سَهُلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (إنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم هُمَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:

ص: 633

لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ. . . الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ، وَمُعَاذٍ فِي الْمَعْنَى، وَالْوَلِيدُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَابْنُ جَابِرٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ، وَهُوَ السَّكْسَكِيُّ، نَزَلَ حِمْصَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَعَادَهُ بِإِسْنَاده وَمَتْنُهُ فِي التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَا يَصِحُّ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِالَّذِينَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ الدِّينِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْجِهَادِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ إِيرَادِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَبْوَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا التَّوْجِيهِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ فِي بَابِ الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هُنَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: خَرِبَتْ خَيْبَرُ الْإِخْبَارَ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَوَقَعَ كَذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ عُرْوَةَ، وَهُوَ الْبَارِقِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَزْنُ سَعِيدٍ، وَغَرْقَدَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الْحَيَّ يَتَحَدَّثُونَ)؛ أَيْ قَبِيلَتَهُ، وَهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى بَارِقٍ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ نَزَلَهُ بَنُو سَعْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مَزِيقِيًّا فَنُسِبُوا إِلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) هُوَ ابْنُ الْجَعْدِ أَوِ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْخَيْلِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً) فِي رِوَايَةِ أَبِي لَبِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَلَبٌ، فَأَعْطَانِي دِينَارًا فَقَالَ: أَيْ عُرْوَةُ، ائْتِ الْجَلَبَ فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً، قَالَ: فَأَتَيْتُ الْجَلَبَ فَسَاوَمْتُ صَاحِبَهُ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ)؛ أَيْ: وَبَقِيَ مَعَهُ دِينَارٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي لَبِيدٍ: فَلَقِيَنِي رَجُلٌ فَسَاوَمَنِي فَبِعْتُهُ شَاةً بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ عُرْوَةَ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ. وَفِيهِ أَنَّهُ أَمْضَى لَهُ ذَلِكَ وَارْتَضَاهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ. وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ؛ فَتَارَةً قَالَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ، وَتَارَةً قَالَ: إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْبُوَيْطِيِّ. وَقَدْ أَجَابَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَا بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ كَانَ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعًا، وَهَذَا بَحْثٌ قَوِيٌّ يَقِفُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٌ لِأَنَّ الْحَيَّ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، يُسَمُّونَ مَا فِي إِسْنَادِهِ مُبْهَمٌ مُرْسَلًا أَوْ مُنْقَطِعًا، وَالتَّحْقِيقُ إِذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ فِي إِسْنَادِهِ مُبْهَمٌ، إِذْ لَا فَرْقَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالْمَعْرُوفِ، فَالْمُبْهَمُ نَظِيرُ الْمَجْهُولِ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُقَالُ فِي إِسْنَادٍ صَرَّحَ كُلُّ مَنْ فِيهِ بِالسَّمَاعِ مِنْ شَيْخِهِ أنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَإِنْ كَانُوا أَوْ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي لَبِيدٍ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقِفُ بِكُنَاسَةِ الْكُوفَةِ فَأَرْبَحُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إِلَى أَهْلِي، قَالَ: وَكَانَ يَشْتَرِي الْجَوَارِيَ وَيَبِيعُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ) هُوَ الْكُوفِيُّ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِمْ، وَكَانَ قَاضِيَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ ثَانِي خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: جَرَحَهُ عِنْدِي شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ كِلَاهُمَا. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يُدَلِّسُ عَنِ الثِّقَاتِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ عَنْهُمْ، فَالْتَصَقَتْ بِهِ تِلْكَ الْمَوْضُوعَاتُ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.

قَوْلُهُ: (جَاءَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ)؛ أَيْ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ)؛ أَيِ الْحَسَنُ (سَمِعَهُ شَبِيبٌ منْ عُرْوَةَ، فَأَتَيْتُهُ) الْقَائِلُ سُفْيَانُ وَالضَّمِيرُ لِشَبِيبٍ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ بَيَانَ ضَعْفِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَأَنَّ شَبِيبًا لَمْ يَسْمَعِ الْخَبَرَ مِنْ عُرْوَةَ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنَ الْحَيِّ وَلَمْ يَسْمَعْهُ عَنْ عُرْوَةَ،

ص: 634

فَالْحَدِيثُ بِهَذَا ضَعِيفٌ لِلْجَهْلِ بِحَالِهِمْ، لَكِنْ وُجِدَ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سميدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا أَحَدًا، وَرِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ - فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَتْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَسْوِيَةٌ، وَقَدْ وَافَقَ عَلِيًّا عَلَى إِدْخَالِهِ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ شَبِيبٍ، وَعُرْوَةَ، أَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَكَذَا مُسَدَّدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ أَبي عُمَرَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: يَشْتَرِي لَهُ شَاةً كَأَنَّهَا أُضْحِيَةٌ) هُوَ مَوْصُولٌ أَيْضًا، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أُضْحِيَةً، وَحَدِيثُ الْخَيْلِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ مُسْتَوْفًى. وَزَعَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدْ بِسِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا حَدِيثَ الْخَيْلِ وَلَمْ يُرِدْ حَدِيثَ الشَّاةِ، وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ الشَّاةِ مُحْتَجًّا بِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ لِإِبْهَامِ الْوَاسِطَةِ فِيهِ بَيْنَ شَبِيبٍ، وَعُرْوَةَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ لَيْسَ في ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ تَخْرِيجُهُ وَلَا مَا يَحُطُّهُ عَنْ شَرْطِهِ، لِأَنَّ الْحَيَّ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ وُرُودُ الْحَدِيثِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ الشَّاهِدُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ دُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْوَةَ فَاسْتُجِيبَ لَهُ حَتَّى كَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَلَمْ يُرِدْهَا، إِذْ لَوْ أَرَادَهَا لَأَوْرَدَهَا فِي الْبُيُوعِ، كَذَا قَرَّرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِهِ وَيُعَارِضُهُ عِنْدَهُ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فَلَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي بَابِهِ وَيُخْرِجُهُ فِي بَابٍ آخَرَ أَخْفَى لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ مَا دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سَبَبِ عَدَمِ نِسْيَانِهِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتِ الْمَنَاقِبُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ إِلَى هُنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَمَا لَهَا حُكْمُ الْمَرْفُوعِ عَلَى مِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ مِائَةُ حَدِيثٍ وَحَدِيثٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا وَهِيَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الشُّعُوبِ، وَحَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ مُضَرَ وَفِي النَّبِيذِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَالْمِسْوَرِ فِي النَّذْرِ، وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ: مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْلَمُ وَغِفَارٌ خَيْرٌ مِنْ أَسَدٍ وَتَمِيمٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ

ص: 635

عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي قَوْلِهِ، وَبِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ فِي صِفَةِ شَيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ: كَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ الْقَمَرِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ أَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا

نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ: كُنَّا بِالْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ مِائَةٍ، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي حَنِينِ الْجِذْعِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ فِي قِتَالِ التُّرْكِ، وَحَدِيثُ خَبَّابٍ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الَّذِي قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ، بِهِ حُمَّى تَفُورُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وَحَدِيثُهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْأَنْصَارِ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي قَتْلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ بِالشَّامِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سَبْعَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 636