الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
47 - بَاب غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ
4275 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ أَفْطَرَ فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ.
4276 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الآخِرُ فَالآخِرُ
4277 -
حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ أَفْطِرُوا"
4278 -
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ" وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
4279 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ" قَالَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ) أَيْ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَّارِيَّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الصِّيَامِ. وَبَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ اللَّيْثِ مَا حَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ سَاقَهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَزَادَ لَا أَدْرِي أَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَمَضَانُ، أَوْ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَمَا دَخَلَ، غَيْرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَحَذَفَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ التَّرَدُّدَ الْمَذْكُورَ. ثُمَّ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ لِثْلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَأَنَّ ابْنَ أَبِي حَفْصَةَ أَدْرَجَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا يَدْفَعُ التَّرَدُّدَ الْمَاضِي وَيُعَيِّنُ يَوْمَ الْخُرُوجِ، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ يُعَيِّنُ يَوْمَ الدُّخُولِ وَيُعْطِي أَنَّهُ أَقَامَ فِي الطَّرِيقِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. وَأَمَّا مَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ إِنَّهُ خَرَجَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِمُخَالَفَتِهِ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ.
وَفِي تَعْيِينِ هَذَا التَّارِيخِ أَقْوَالٌ أُخْرَى: مِنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ لِسِتَّ عَشْرَةَ وَلِأَحْمَدَ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَفِي أُخْرَى لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ بِحَمْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَا مَضَى وَالْأُخْرَى عَلَى مَا بَقِيَ، وَالَّذِي فِي الْمَغَازِي: دَخَلَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ. وَوَقَعَ فِي أُخْرَى بِالشَّكِّ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ فِي عَشْرٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيةِ: (وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ) أَيْ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ. وَفِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ عَائِذٍ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَسْلَمَ وَغِفَارَ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَسَلِيمٍ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْإِكْلِيلِ وَشَرَفِ الْمُصْطَفَى وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعَشَرَةَ آلَافٍ خَرَجَ بِهَا مِنَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَلَاحَقَ بِهَا الْأَلْفَانِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ عَلَى رَأْسِ سَبْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْوَهْمُ مِنْ كَوْنِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ كَانَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَمِنْ أَثْنَاءِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى أَثْنَاءِ رَمَضَانَ نِصْفُ سَنَةٍ سَوَاءٌ، فَالتَّحْرِيرُ أَنَّهَا سَبْعُ سِنِينَ وَنِصْفٌ وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى التَّارِيخِ بِأَوَّلِ السَّنَةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا دَخَلَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أُطْلِقَ عَلَيْهَا سَنَةٌ مَجَازًا مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَعْضِ بِاسْمِ الْكُلِّ، وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى رَمَضَانَ نِصْفُ سَنَةٍ. أَوْ يُقَالُ: كَانَ آخِرُ شَعْبَانَ تِلْكَ السَّنَةِ آخِرَ سَبْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ أَوَّلِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانَ دَخَلَ سَنَةٌ أُخْرَى. وَأَوَّلُ السَّنَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَأْسُهَا فَيَصِحُّ أَنَّهُ رَأْسُ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، أَوْ أَنَّ رَأْسَ الثَّمَانِ كَانَ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدُهُ نِصْفُ سَنَةٍ.
قَوْلُهُ: (يَصُومُ وَيَصُومُونَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: في رواية (خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ
(عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ) اسْتَشْكَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ حُنَيْنًا كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَذَا حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ كَانَتْ خَيْبَرُ فَتَصَحَّفَتْ. قُلْتُ: وَحَمْلُهُ عَلَى خَيْبَرَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِي رَمَضَانَ، وَتَأْوِيلُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَى حُنَيْنٍ أَيِ الَّتِي وَقَعَتْ عَقِبَ الْفَتْحِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ أَثَرُهَا أُطْلِقَ الْخُرُوجُ إِلَيْهَا. وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي قَرِيبًا. وَبِهَذَا جَمَعَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ فِي بَقِيَّةِ رَمَضَانَ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي عَاشِرِ رَمَضَانَ فَقَدِمَ مَكَّةَ وَسَطَهُ وَأَقَامَ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ كَمَا سَيَأْتِي. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ مُعْتَرَضٌ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ خُرُوجِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا مَضَى فِي آخِرِ الْغَزْوَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ الْخُرُوجُ إِلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ.
قَوْلُهُ في هذه الرواية: (دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ) فِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ آخِرَ الْبَابِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا الْحَدِيثَ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَعَا بِهَذَا مَرَّةً وَبِهَذَا مَرَّةً. قُلْتُ: لَا دَلِيلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ وَالْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي فَقَدَّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ جَزَمَ، وَأَبْعَدَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: كَانَتْ قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْفَتْحِ وَالْأُخْرَى فِي حُنَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّمِ: أَفْطِرُوا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ لِلصُّوَّامِ بِأَلِفِ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ صَائِمٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ فِي تَهْذِيبِهِ فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا يَا عُصَاةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْهُ وَبَقِيَّتُهُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَكْثَرِ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَكَذَلِكَ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ: لَمْ يُجَاوِزْ بِهِ أَيُّوبُ، عِكْرِمَةَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلَهُ، وَأَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَهُ هَكَذَا مُرْسَلًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ بِهِ بِطُولِهِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ.
وَطَرِيقُ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ أَيْضًا.
48 - بَاب أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ؟
4280 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ. فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:، عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْجبلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتْ
الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ. فقَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فقَالَ: هَذِهِ غِفَارُ. قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارَ؟ ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ. قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ؛ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا.
قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ، حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: مَا قَالَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ.
قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَاهُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ؟ قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ: حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الْفِهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ أَيْنَ رَكَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيْ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي رُكِّزَتْ فِيهِ رَايَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُرْسَلًا، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ عُرْوَةَ مَوْصُولًا، وَمَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ مِنْهُ مَا تَرْجَمَ بِهِ وَهُوَ آخِرُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَوْصُولٌ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.
قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ مَسِيرُهُ قَبْلَ خُرُوجِ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَالَّذِي عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ مِنْ مَغَازِي عُرْوَةَ: ثُمَّ خَرَجُوا وَقَادُوا الْخُيُولَ حَتَّى نَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِمْ قُرَيْشٌ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالطُّرُقِ فَحُبِسَتْ، ثُمَّ خَرَجَ، فَغُمَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الْأَمْرُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: هَلْ لَكَ أَنْ تَرْكَبَ إِلَى أَمْرٍ لَعَلَّنَا أَنْ نَلْقَى خَبَرًا؟ فَقَالَ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: وَأَنَا مَعَكُمْ، قَالَا: وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ فَرَكِبُوا.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَغْزُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِمْ ضَمْرَةَ يُخَيِّرُهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: أَنْ يُودُوا قَتِيلَ خُزَاعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْرَأوا مِنْ حِلْفِ بَكْرٍ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَأَتَاهُمْ ضَمْرَةُ فَخَيَّرَهُمْ، فَقَالَ قَرَظَةُ بْنُ عَمْرٍو: لَا نُودِي وَلَا نَبْرَأُ، وَلَكِنَّا نَنْبِذُ إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ. فَانْصَرَفَ ضَمْرَةُ بِذَلِكَ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ أَبَا سُفْيَانَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَجْدِيدِ الْعَهْدِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسَدَّدُ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَنْكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَزَعَمَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ مُبَادِرًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمُسْلِمِينَ الْخَبَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَنَحْوُهُ فِي مَغَازِي عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ عَائِذٍ فَخَافَتْ قُرَيْشٌ، فَانْطَلَقَ أَبُو
سُفْيَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: جَدِّدْ لَنَا الْحِلْفَ، قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ إِلَيَّ. ثُمَّ أَتَى عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ عُمَرُ. ثُمَّ أَتَى فَاطِمَةَ فَقَالَتْ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ إِلَيَّ. فَأَتَى عَلِيًّا فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَضَلَّ - أَيْ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ - أَنْتَ كَبِيرُ النَّاسِ، فَجَدِّدِ الْحِلْفَ. قَالَ: فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ: قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ. وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَقَالُوا لَهُ: جِئْتَنَا بِحَرْبٍ فَنَحْذَرَ، وَلَا بِصُلْحٍ فَنَأْمَنَ لَفْظُ عِكْرِمَةَ وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ فَقَالُوا لَهُ: لَعِبَ بِكَ عَلِيٌّ وَإِنَّ إِخْفَارَ جِوَارِكَ لَهَيِّنٌ عَلَيْهِمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بَلَغَ قُرَيْشًا أَيْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ ذَلِكَ لَا أَنَّ مُبَلِّغًا بَلَّغَهُمْ ذَلِكَ حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: (خَرَجُوا يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَائِذٍ فَبَعَثُوا أَبَا سُفْيَانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ فَلَقِيَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَصْحَبَاهُ فَخَرَجَ مَعَهُمَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَزِيَادَةِ وَاوٍ، وَالظَّهْرَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بِلَفْظِ تَثْنِيَةِ ظَهْرِ، وَفِي مُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ حَتَّى إِذَا دَنُوا مِنْ ثَنِيَّةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ أَظْلَمُوا - أَيْ دَخَلُوا فِي اللَّيْلِ - فَأَشْرَفُوا عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَإِذَا النِّيرَانُ قَدْ أَخَذَتِ الْوَادِيَ كُلَّهُ وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْقَدُوا تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَشَرَةَ آلَافِ نَارٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ) أَيِ النِّيرَانُ (لَكَأَنَّهَا) جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَوْلُهُ: (نِيرَانُ عَرَفَةَ) إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ الْكَثِيرَةِ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَوْقَدُوا عَشْرَةَ آلَافِ نَارٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: هَذِهِ نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو) يَعْنِي خُزَاعَةَ، وَعَمْرٌو يَعْنِي: ابْنُ لُحَيٍّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ نَسَبِ خُزَاعَةَ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ) وَمِثْلُ هَذَا فِي مُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ، وَفِي مَغَازِي عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ عَكْسُ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْفَسَاطِيطَ وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ فَرَاعَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ بَنُو كَعْبٍ - يَعْنِي خُزَاعَةَ، وَكَعْبٌ أَكْبَرُ بُطُونِ خُزَاعَةَ - جَاشَتْ بِهِمُ الْحَرْبُ. فَقَالَ بَدِيلٌ: هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ مَا بَلَغَ تَأْلِيبُهَا هَذَا. قَالُوا: فَانْتَجَعَتْ هَوَازِنُ أَرْضَنَا، وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا أَنَّهُ هَذَا الْمَثَلُ صَاحَ النَّاسُ.
قَوْلُهُ: (فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ) وفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَائِذٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَيْلًا تَقْبِضُ الْعُيُونَ، وَخُزَاعَةُ عَلَى الطَّرِيقِ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَمْضِي، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ أَخَذَتْهُمُ الْخَيْلُ تَحْتَ اللَّيْلِ وَفِي مُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ وَكَانَ حَرَسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَجَاءُوا بِهِمْ إِلَيْهِ فَقَالُوا: جِئْنَاكَ بِنَفَرٍ أَخَذْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَوْ جِئْتُمُونِي بِأَبِي سُفْيَانَ مَا زِدْتُمْ. قَالُوا: قَدْ أَتَيْنَاكَ بِأَبِي سُفْيَانَ وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْعَبَّاسَ خَرَجَ لَيْلًا فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ، وَبُدَيْلًا، فَحَمَلَ أَبَا سُفْيَانَ مَعَهُ عَلَى الْبَغْلَةِ وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْحَرَسَ لَمَّا أَخَذُوهُمُ اسْتَنْقَذَ الْعَبَّاسُ، أَبَا سُفْيَانَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إِنَّهُ لَهَلَاكَ قُرَيْشٍ. قَالَ: فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جِئْتُ الْأَرَاكَ فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ، إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ، وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي فَقَالَ: أَبَا الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَا الْحِيلَةُ؟ قُلْتُ: فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَأْمِنَهُ لَكَ. قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُمْ، وَلَكِنْ عِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ فَدَخَلَ بُدَيْلٌ، وَحَكِيمٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَاه فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَا، وَاسْتَمَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عِنْدَ الْعَبَّاسِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ
حَتَّى يَرَى الْعَسَاكِرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا رَجَعَا لَمَّا الْتَقَى، بِأَبِي سُفْيَانَ فَأَخَذَهُمَا الْعَسْكَرُ أَيْضًا. وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَفِيهِ فَلَقِيَهُمُ الْعَبَّاسُ فَأَجَارَهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ بُدَيْلٌ، وَحَكِيمٌ، وَتَأَخَّرَ أَبُو سُفْيَانَ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى أَصْبَحَ.
وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ بِأَنَّ الْحَرَسَ أَخَذُوهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَبَا سُفْيَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ تَرَكُوهُ مَعَهُ. وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فَذَهَبَ بِهِ الْعَبَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى؟ قَالَ: فَسَمِعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ خَارِجًا مِنَ الْقُبَّةِ مَا قُلْتَهَا أَبَدًا، فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَذَهَبَ بِهِ الْعَبَّاسُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى مُبَادَرَةَ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ أَسْلَمَ.
قَوْلُهُ: (احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا آمَنُ أَنْ يَرْجِعَ أَبُو سُفْيَانَ فَيَكْفُرَ، فَاحْبِسْهُ حَتَّى تُرِيَهُ جُنُودَ اللَّهِ، فَفَعَلَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ؟ قَالَ الْعَبَّاسُ: لَا وَلَكِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ فَتُصْبِحَ فَتَنْظُرَ جُنُودَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ، فَحَبَسَهُ بِالْمَضِيقِ دُونَ الْأَرَاكِ حَتَّى أَصْبَحُوا.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَنْفِ الْجَبَلِ، وَهِيَ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي، وَفِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ اللَّفْظَةِ الْأُولَى وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيِ ازْدِحَامِهَا، وَإِنَّمَا حَبَسَهُ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ مَضِيقًا لِيَرَى الْجَمِيعَ وَلَا يَفُوتُهُ رُؤْيَةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: لِتُظْهِرْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مَا مَعَهَا مِنَ الْأَدَاةِ وَالْعُدَّةِ، وَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَتَائِبَ فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ أَفِي هَذِهِ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قُضَاعَةُ. ثُمَّ مَرَّتِ الْقَبَائِلُ فَرَأَى أَمْرًا عَظِيمًا أَرْعَبَهُ.
قَوْلُهُ: (كَتِيبَةً كَتِيبَةً) بِمُثَنَّاةٍ وَزْنُ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ، فَعَيْلَةٌ مِنَ الْكَتْبِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ الْجَمْعُ.
قَوْلُهُ: (مَا لِي وَلِغِفَارٍ. ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ) وَفِي مُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ: أَيْ عَبَّاسٌ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَذِهِ جُهَيْنَةُ. قَالَ: مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ، وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حَرْبٌ قَطُّ وَالْمَذْكُورُ فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ هَذَا مِنَ الْقَبَائِلِ غِفَارٌ وَجُهَيْنَةُ وَسَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ وَسُلَيْمٌ، وَفِي مُرْسَلِ أَبِي سَلَمَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ أَسْلَمُ وَمُزَيْنَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ وَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ قُضَاعَةَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ الْمَعْرُوفُ فِيهَا سَعْدُ هُذَيْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَيَصِحُّ الْآخَرُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودٍ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ ابْنِ أَسْلُمِ بِضَمِّ اللَّامِ ابْنِ الْحَافِّ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ ابْنِ قُضَاعَةَ. وَفِي سَعْدِ هُذَيْمٍ طَوَائِفُ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْهُمْ بَنُو ضِنَةَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ نُونٍ وَبَنُو عُذْرَةَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهُذَيْمٌ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ عَبْدٌ كَانَ رَبَّاهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْقَبَائِلِ أَيْضًا أَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَتَمِيمًا وَفَزَارَةَ.
قَوْلُهُ: (مَعَهُ الرَّايَةُ) أَيْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ الزُّبَيْرِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَوْمُ حَرْبٍ لَا يُوجَدُ مِنْهُ مُخَلِّصٌ، أَيْ يَوْمُ قَتْلٍ، يُقَالُ: لَحَمَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا قَتَلَهُ.
قَوْلُهُ: (الْيَوْمُ تسْتَحيل الْكَعْبَةُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ) وَكَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُخْتَصَرًا، وَمُرَادُ سَعْدٍ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ يَوْمُ الْمَقْتَلَةِ الْعُظْمَى، وَمُرَادُ أَبِي سُفْيَانَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ الذِّمَارِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَيِ الْهَلَاكُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَمَنَّى أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ فَيَحْمِي قَوْمَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَذَا يَوْمُ الْغَضَبِ لِلْحَرِيمِ وَالْأَهْلِ وَالِانْتِصَارِ لَهُمْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَذَا يَوْمُ يَلْزَمُكَ فِيهِ حِفْظِي وَحِمَايَتِي مِنْ أَنْ يَنَالَنِي مَكْرُوهٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
آمَنُ أَنْ يَكُونَ لِسَعْدٍ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلْ بِهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ هُوَ عُمَرُ.
قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِشِدَّةِ الْبَأْسِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رَوَى الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَاذَاهُ: أُمِرْتُ بِقَتْلِ قَوْمِكَ؟ قَالَ: لَا. فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، ثُمَّ نَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمُ يَعِزُّ اللَّهُ قُرَيْشًا. وَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ عَارَضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا
…
حَيُّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءٍ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الْأَرضِ
…
وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ
إِنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ
…
بِأَهْلِ الْحُجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا الشِّعْرَ دَخَلَتْهُ رَأْفَةٌ لَهُمْ وَرَحْمَةٌ، فَأَمَرَ بِالرَّايَةِ فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدٍ وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ بِلِوَاءَيْنِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، لَكِنْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِيمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ الرَّايَةُ الَّتِي نُزِعَتْ مِنْ سَعْدٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ أَنَّ عَلِيَّا أُرْسِلَ بِنَزْعِهَا، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهَا، ثُمَّ خَشِيَ تَغَيُّرَ خَاطِرِ سَعْدٍ فَأَمَرَ بِدَفْعِهَا لِابْنِهِ قَيْسٍ، ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا خَشِيَ أَنْ يَقَعَ مِنَ ابْنِهِ شَيْءٌ يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ أَخَذَهَا الزُّبَيْرُ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْأَخِيرَةُ قَدْ ذَكَرَهَا الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ كَانَ قَيْسٌ فِي مُقَدِّمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَلَّمَ سَعْدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى شَيْءٍ، فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ وَالشِّعْرُ الَّذِي أَنْشَدَتْهُ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لِضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيِّ، وَكَأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ الْمَرْأَةَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمُعَاطَفَةِ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ سَعْدٌ فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ أَيْ أَخْطَأَ.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمُ تسْتَحيل الْحُرْمَةُ، الْيَوْمُ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا، فَحَاذَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا مَرَّ بِهِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ - وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ، فَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمُ يَعِزُّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا. فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ مِنْ يَدِهِ فَجَعَلَهُ فِي يَدِ ابْنِهِ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ) أَيْ أَقَلُّهَا عَدَدًا، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْجَمِيعِ بِالْقَافِ، وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ أَجَلُّ بِالْجِيمِ وَهِيَ أَظْهَرُ، وَلَا يَبْعُدُ صِحَّةُ الْأُولَى لِأَنَّ عَدَدَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ.
قَوْلُهُ: (وَرَايَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) لَمْ يَكْتَفِ أَبُو سُفْيَانَ بِمَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبَّاسِ حَتَّى شَكَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْكَذِبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِغَيْرِ مَا سَيَقَعُ وَلَوْ كَانَ قَائِلُهُ بَنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ وَقُوَّةِ الْقَرِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمٌ يُعَظِّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ) يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَأَذَانِ بِلَالٍ عَلَى ظَهْرِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُزِيلَ عَنْهَا مِمَّا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَحْوِ مَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ) قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَكْسُونَ الْكَعْبَةَ فِي رَمَضَانَ فَصَادَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ كَمَا قَالَ
يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكْسُوهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ الْخَفِيفَةِ هُوَ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِالْقُرْبِ مِنْ مَقْبَرَةِ مَكَّةَ. (قَالَ عُرْوَةُ: فَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَاهُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكِزَ الرَّايَةَ) وَهَذَا السِّيَاقُ يُوهِمُ أَنَّ نَافِعًا حَضَرَ الْمَقَالَةَ الْمَذْكُورَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةٍ اجْتَمَعُوا فِيهَا إِمَّا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ أَوْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِلَخْ فَحُذِفَتْ قُلْتُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ عُرْوَةُ وَهُوَ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِرْسَالِ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا فِي الْقَدْرِ الَّذِي صَرَّحَ عُرْوَةُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَمَّا بَاقِيهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ تَلَقَّاهُ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنِ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ أَدْرَكَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، أَوْ جَمَعَهُ مِنْ نَقْلِ جَمَاعَةٍ لَهُ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ) أَيْ بِالْمَدِّ ; وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَدَا أَيْ بِالْقَصْرِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ أَنَّ خَالِدًا دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْلَاهَا، وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ خَالِدًا دَخَلَ مِنْ أَسْفَلَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْلَاهَا وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَاكَ قُبَّةٌ، وَقَدْ سَاقَ ذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سِيَاقًا وَاضِحًا فَقَالَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَخَيْلِهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَ رَايَتَهُ بِالْحَجُونِ وَلَا يَبْرَحَ حَتَّى يَأْتِيَهُ، وَبَعَثَ خَالِدَ ب نَ الْوَلِيدِ فِي قَبَائِلِ قُضَاعَةٍ وَسُلَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ وَأَنْ يَغْرِزَ رَايَتَهُ عِنْدَ أَدْنَى الْبُيُوتِ، وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ عِبَادَةَ فِي كَتِيبَةِ الْأَنْصَارِ فِي مُقَدِّمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ رَأَى النِّسَاءَ يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ، فَتَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ قَوْلَهُ:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
…
تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءٌ
يُنَازِعْنَ الْأَسِنَّةَ مُسْرَجَاتٍ
…
يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فَقَالَ: أَدْخِلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ.
قَوْلُهُ: (فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ: حُبَيْشٌ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ (ابْنُ الْأَشْعَرِ) وَهُوَ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَخْزَمَ الْخُزَاعِيُّ، وَهُوَ أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ الَّتِي مَرَّ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرًا. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَآخَرُونَ قِصَّتَهَا مِنْ طَرِيقِ حِزَامِ بْنِ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا حِزَامُ بْنُ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: شَهِدَ جَدِّي الْفَتْحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَكُرْزٍ) بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ هُوَ ابْنُ جَابِرِ بْنِ حِسْلِ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ ابْنِ الْأَحَبِّ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ ابْنِ حَبِيبٍ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى سَرْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْأُولَى، ثُمَّ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِ الْعُرَنِيِّينِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ سَلَكَا طَرِيقًا فَشَذَّا عَنْ عَسْكَرِ خَالِدٍ فَقَتَلَهُمَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَصْحَابَ خَالِدٍ لَقُوا نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ كَانُوا تَجَمَّعُوا بِالْخَنْدَمَةِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ مَكَانٍ أَسْفَلَ مَكَّةَ لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ، فَنَاوَشُوهُمْ
شَيْئًا مِنَ الْقِتَالِ، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ، مَسْلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَانْهَزَمُوا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَمَّاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْبَكْرِيُّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ هِيَ لِلمرعاشِ الْهُذَلِيِّ - يُخَاطِبُ امْرَأَتَهُ حِينَ لَامَتْهُ عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ
…
إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
…
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ
…
لَمْ تَنْطِقِي فِي اللُّوَّمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: وَانْدَفَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ وَقَدْ تَجَمَّعَ بِهَا بَنُو بَكْرٍ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةٍ وَنَاسٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَمِنَ الْأَحَابِيشِ الَّذِينَ اسْتَنْصَرَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، فَقَاتَلُوا خَالِدًا، فَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمُوا وَقُتِلَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ نَحْوُ عِشْرِينَ رَجُلًا وَمِنْ هُذَيْلٍ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، حَتَّى انْتَهَى بِهِمُ الْقَتْلُ إِلَى الْحَزْوَرَةِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى دَخَلُوا فِي الدُّورِ، وَارْتَفَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الْجِبَالِ، وَصَاحَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ، قَالَ: وَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَارِقَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا وَقَدْ نُهِيتُ عَنِ الْقِتَالِ؟ فَقَالُوا: نَظُنُّ أَنَّ خَالِدًا قُوتِلَ وَبُدِئَ بِالْقِتَالِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَاتِلَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: لِمَ قَاتَلْتَ وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْقِتَالِ؟ فَقَالَ: هُمْ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَوَضَعُوا فِينَا السِّلَاحَ، وَقَدْ كَفَفْتُ يَدَيَّ مَا اسْتَطَعْتُ. فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عِدَّةَ مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْكُفَّارِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَمِنْ هُذَيْلٍ خَاصَّةً أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ الْحَدِيثَ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقْتُلُ، فَقَالَ: قُمْ يَا فُلَانُ فَقُلْ لَهُ فَلْيَرْفَعِ الْقَتْلَ، فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ اقْتُلْ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ ثُمَّ اعْتَذَرَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ، فَسَكَتَ قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُمَرَاءَهُ أَنْ لَا يَقْتُلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ نَفَرٍ سَمَّاهُمْ. وَقَدْ جَمَعْتُ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ مُفَرَّقَاتِ الْأَخْبَارِ وَهُمْ: عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ بِنُونٍ وَقَافٍ مُصَغَّرٌ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةِ بِمُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَهَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَقَيْنَتَانِ كَانَتَا لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهَجْوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَارَةُ مَوْلَاةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَهِيَ الَّتِي وُجِدَ مَعَهَا كِتَابُ حَاطِبٍ. فَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَكَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ عُثْمَانُ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَقَنَ دَمَهُ وَقَبِلَ إِسْلَامَهُ. وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَفَرَّ إِلَى الْيَمَنِ فَتَبِعَتْهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَرَجَعَ مَعَهَا بِأَمَانٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ فَكَانَ شَدِيدَ الْأَذَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَأَمَّا مَقِيسٌ بْنُ صُبَابَةَ فَكَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ قَتَلَ أَخَاهُ هِشَامًا خَطَأً، فَجَاءَ مَقِيسٌ فَأَخَذَ الدِّيَةَ ثُمَّ قَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَأَمَّا هَبَّارٌ فَكَانَ شَدِيدَ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ وَعَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَاجَرَتْ فَنَخَسَ بَعِيرَهَا فَأُسْقِطَتْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْمَرَضُ بِهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ أَعْلَنَ بِالْإِسْلَامِ فَقَبِلَ مِنْهُ فَعَفَا عَنْهُ. وَأَمَّا الْقَيْنَتَانِ فَاسْمُهُمَا فَرْتَنَى وَقَرِينَةُ، فَاسْتُؤْمِنَ لِإِحْدَاهُمَا فَأَسْلَمَتْ وَقُتِلَتِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا سَارَةُ فَأَسْلَمَتْ وَعَاشَتْ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: بَلْ قُتِلَتْ. وَذَكَرَ أَبُو مَعْشَرٍ فِيمَنْ أَهْدَرَ دَمَهُ الْحَارِثَ بْنَ طَلَاطِلَ الْخُزَاعِيَّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ. وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ فَرْتَنَى هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَأَنَّ قَرِينَةَ قُتِلَتْ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِمَّنْ أَهْدَرَ دَمَهُ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ وَمَدَحَ. وَوَحْشِيَّ بْنَ حَرْبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَأْنُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَهِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ. وَأَرْنَبَ مَوْلَاةَ ابْنِ خَطَلٍ أَيْضًا قُتِلَتْ. وَأُمَّ سَعْدٍ قُتِلَتْ فِيمَا ذَكَرَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَكَمُلَتِ الْعِدَّةُ ثَمَانِيَةَ رِجَالٍ وَسِتَّ نِسْوَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرْنَبُ وَأُمُّ سَعْدٍ هُمَا الْقَيْنَتَانِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِمَا أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكُنْيَةِ وَاللَّقَبِ.
قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ ابْنِ خَطَلٍ.
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ بَعَثَ عَلَى إِحْدَى الْجَنْبَتَيْنِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ الَّذِينَ بِغَيْرِ سلاحٍ - فَقَالَ لِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ. فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ؟ ثُمَّ قَالَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى: احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا نَشَاءُ أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا قَتَلْنَاهُ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا لَمَّا وَقَعَ هَذَا التَّأْمِينُ، وَلِإِضَافَةِ الدُّورِ إِلَى أَهْلِهَا، وَلِأَنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَلِأَنَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يَمْلِكُوا دُورَهَا وَإِلَّا لَجَازَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الدُّورِ مِنْهَا. وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّصْرِيحِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَوُقُوعِهِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَبِتَصْرِيحِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا أُحِلَّتْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَنَهْيِهِ عَنِ التَّأَسِّي بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَأَجَابُوا عَنْ تَرْكِ الْقِسْمَةِ بِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْعَنْوَةِ فَقَدْ تُفْتَحُ الْبَلَدُ عَنْوَةً وَيَمُنُّ عَلَى أَهْلِهَا وَيَتْرُكُ لَهُمْ دُورَهَمْ وَغَنَائِمَهُمْ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ لَيْسَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، بَلِ الْخِلَافُ ثَابِتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ فُتِحَتْ أَكْثَرُ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ تُقْسَمْ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ مَعَ وُجُودِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ زَادَتْ مَكَّةُ عَنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِي اخْتِصَاصَهَا بِهِ دُونَ بَقِيَّةِ الْبِلَادِ، وَهِيَ أَنَّهَا دَارُ النُّسُكِ وَمُتَعَبَّدُ الْخَلْقِ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - حَرَمًا سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالَبَادِ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيُّ: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَمَا عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى صُلْحًا إِلَّا إِذَا الْتَزَمَ مَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ، وَالَّذِي وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَّشَتْ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا فَقَالُوا: نُقدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَاهُ الَّذِينَ سَأَلْنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ؟ ثُمَّ قَالَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى أَيِ احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا نَشَاءُ أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصُّلْحِ وُقُوعَ عَقْدٍ بِهِ فَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ وَلَا أَظُنُّهُ عَنَى إِلَّا الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ.
وَتَمَسَّكَ أَيْضًا مَنْ قَالَ إِنَّهُ مُبْهَمٌ بِمَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الْفَتْحِ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ، لِعَلِيٍّ: أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً. ثُمَّ قَالَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ.
وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي - وَهِيَ أَصَحُّ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ - مَا نَصُّهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ حَقِيقًا أَنْ تَجْعَلَ عُدَّتَكَ وَكَيْدَكَ بِهَوَازِنَ، فَإِنَّهُمْ أَبْعَدُ رَحِمًا وَأَشَدُّ عَدَاوَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْمَعَهُمَا اللَّهُ لِي: فَتْحَ مَكَّةِ وَإِعْزَازَ الْإِسْلَامِ بِهَا، وَهَزِيمَةَ هَوَازِنَ وَغَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَحَكِيمٌ: فَادْعُ النَّاسَ بِالْأَمَانِ، أَرَأَيْتَ إِنِ اعْتَزَلَتْ قُرَيْشٌ فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا أَآمِنُونَ هُمْ؟ قَالَ: مَنْ كَفَّ يَدَهُ وَأَغْلَقَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ. قَالُوا: فَابْعَثْنَا نُؤَذِّنْ بِذَلِكَ فِيهِمْ. قَالَ: انْطَلِقُوا، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمٍ فَهُوَ آمِنٌ، وَدَارُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَى مَكَّةَ وَدَارُ حَكِيمٍ بِأَسْفَلِهَا. فَلَمَّا تَوَجَّهَا قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا آمَنُ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَرْتَدَّ ; فَرُدَّهُ حَتَّى تُرِيَهُ جُنُودَ اللَّهِ. قَالَ: أفْعَل فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ التَّأْمِينِ، فَكَانَ هَذَا أَمَانًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ مَكَّةُ مَأْمُونَةً وَلَمْ يَكُنْ فَتْحُهَا عَنْوَةً، وَالْأَمَانُ كَالصُّلْحِ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَرَّضُوا لِلْقِتَالِ أَوِ الَّذِينَ اسْتُثْنَوْا مِنَ الْأَمَانِ وَأَمَرَ أَنْ يُقْتَلُوا وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِتَالِ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ فِي تَأْمِينِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ التَّأْمِينُ عُلِّقَ بِشَرْطٍ وَهُوَ تَرْكُ قُرَيْشٍ الْمُجَاهَرَةَ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا إِلَى دُورِهِمْ وَرَضُوا بِالتَّأْمِينِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّ أَوْبَاشَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ وَقَاتَلُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَمَنْ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ أَنْ تَكُونُ الْبَلَدُ فُتِحَتْ عَنْوَةً؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأُصُولِ لَا بِالْأَتْبَاعِ وَبِالْأَكْثَرِ لَا بِالْأَقَلِّ، وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُجْرِ فِيهَا قَسْمَ غَنِيمَةٍ وَلَا سبي مِنْ أَهْلِهَا مِمَّنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ أَحَدٌ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ فَتْحُهَا عَنْوَةً.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ غَنِمْتُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَجَنَحَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ - إِلَى أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً لِمَا وَقَعَ مِنْ قِصَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ فَتْحِهَا كَانَ عَنْوَةً وَمُعَامَلَةَ أَهْلِهَا مُعَامَلَةَ مَنْ دَخَلَتْ بِأَمَانٍ، وَمَنَعَ جَمْعٌ مِنْهُمُ السُّهَيْلِيُّ تَرَتُّبَ عَدَمِ قِسْمَتِهَا وَجَوَازِ بَيْعِ دُورِهَا وَإِجَارَتِهَا عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي قِسْمَةِ الْأَرْضِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِذَا انْتُزِعَتْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيْنَ إِبْقَائِهَا وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ بَيْعِ الدُّورِ وَإِجَارَتِهَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَضَى كَانُوا إِذَا غَلَبُوا عَلَى الْكُفَّارِ لَمْ يَغْنَمُوا الْأَمْوَالَ، فَتَنْزِلُ النَّارُ فَتَأْكُلَهَا وَتَصِيرُ الْأَرْضُ عُمُومًا لَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الْآيَةَ. وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فَلَا نُطِيلُ بِهَا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ دُورِ مَكَّةَ فِي بَابِ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
4281 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ.
[الحديث 4281 - أطرافه في: 4835، 5034، 5047، 7540]
4282 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ"
4283 -
"ثُمَّ قَالَ: "لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ" قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ قَالَ وَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ وَلَمْ يَقُلْ يُونُسُ حَجَّتِهِ وَلَا زَمَنَ الْفَتْح"
4284 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفُ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ"
4285 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا: "مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْر".
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ بَعْدَ هَذَا سِتَةَ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَزَعَمَ خلف أَنَّهُ وَقَعَ بَدلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةٍ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِيَاسٍ أَخْرَجَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَأَبُو إِيَاسٍ هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً.
قَوْلُهُ: (يُرَجِّعُ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَالتَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الْقَارِئِ الْحَرْفَ فِي الْحَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَجْتَمِعَ النَّاسَ) الْقَائِلُ هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ رَاوِي الْحَدِيثِ، بَيَّنَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ وَفِي أَوَاخِرِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ عَنْ شُعْبَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَحْوَهُ وَأَتَمَّ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لَمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: أأأ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلِلْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلُ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ لَقَرَأْتُ بِذَلِكَ اللَّحْنِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ وَسَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى هُوَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ اللَّخْمِيُّ أَبُو يَحْيَى الْكُوفِيُّ نَزِيلُ دِمَشْقٍ، وَسَعْدَانُ لَقَبُهُ، وَهُوَ صَدُوقٌ. وَأَشَارَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى لِينِهِ. وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَاسْمُ أَبِي حَفْصَةَ مَيْسَرَةُ بَصْرِيٌّ يُكْنَى أَبَا سَلَمَةَ، صَدُوقٌ. ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ. وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ فِي الْحَجِّ قَرَنَهُ فِيهِ بِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا؟) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: مَنْ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ) السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (وَرِثَهُ عَقِيلٌ، وَطَالِبٌ)، تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. وَكَانَ عَقِيلٌ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ هَذَا الْحُكْمِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِجْرَةُ لَمَّا وَقَعَتِ اسْتَوْلَى عَقِيلٌ، وَطَالِبٌ عَلَى مَا خَلَفَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَا خَلَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ
كَانَ شَقِيقَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ثُمَّ وَقَعَتِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُسْلِمْ طَالِبٌ وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ عَقِيلٍ اسْتَوْلَيَا عَلَى مَا خَلَفَ أَبُو طَالِبٍ، وَمَاتَ طَالِبٌ قَبْلَ بَدْرٍ وَتَأَخَّرَ عَقِيلٌ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَقِيلٍ فَأَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عَقِيلٌ قَدْ بَاعَ تِلْكَ الدُّورَ كُلَّهَا. وَاخْتُلِفَ فِي تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقِيلًا عَلَى مَا يَخُصُّهُ هُوَ. فَقِيلَ: تَرَكَ لَهُ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ اسْتِمَالَةً لَهُ وَتَأْلِيفًا، وَقِيلَ: تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تُصَحَّحُ أَنْكِحَتُهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ بَيْعٍ لَنَزَلَ فِيهَا، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْخَطَّابِيُّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَنْزِلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لِأَنَّهَا دُورٌ هَجَرُوهَا فِي اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْهِجْرَةِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْتُهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالتَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ إِقَامَةُ الْمُهَاجِرِ فِي الْبَلَدِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ، لَا مُجَرَّدَ نُزُولِهِ فِي دَارٍ يَمْلِكُهَا إِذَا أَقَامَ الْمُدَّةَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِيهَا، وَهِيَ أَيَّامُ النُّسُكِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ) طَرِيقُ مَعْمَرٍ تَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَقُلْ يُونُسُ) أَيِ ابْنُ يَزِيدَ (حَجَّتِهِ وَلَا زَمَنَ الْفَتْحِ) أَيْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ، وبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَمَعْمَرٍ، أَوْثَقُ وَأَتْقَنُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْأَعْرَجُ.
قَوْلُهُ: (مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) هُوَ لِلتَّبَرُّكِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا افْتَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفُ) هُوَ بِالرَّفْعِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَنْزِلُنَا، وَلَيْسَ هُوَ مَفْعُولُ افْتَتَحَ. وَالْخَيْفُ مَا انْحَدَرَ عَنْ غِلَظِ الْجَبَلِ وَارْتَفَعَ عَنْ مَسِيلِ الْمَاءِ.
قَوْلُهُ: (حَيْثُ تَقَاسَمُوا) يَعْنِي قُرَيْشًا (عَلَى الْكُفْرِ) أَيْ لَمَّا تَحَالَفَ قُرَيْشٌ أَنْ لَا يُبَايِعُوا بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُؤْوُوهُمْ وَحَصَرُوهُمْ فِي الشِّعْبِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمَبْعَثِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا شَرْحُهُ فِي بَابِ نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ في الطريق الثانية: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا) أَيْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ عَقِبَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ وَلَا مُغَايِرَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ قَالَ وَهُوَ بِمِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَجَّتِهِ لَا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ التَّعَدُّدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِيلَ: إِنَّمَا اخْتَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النُّزُولَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَتَذَكَّرَ مَا كَانُوا فِيهِ فَيَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَى رَغْمَ أَنْفِ مَنْ سَعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنْهَا وَمُبَالَغَةً فِي الصَّفْحِ عَنِ الَّذِينَ أَسَاءُوا وَمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْإِحْسَانِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
4286 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلْهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا.
4287 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ
يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ.
4288 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأُخْرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الأَزْلَامِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ" ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (الْمِغْفَرُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ لِيَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ مِثْلُ الْجَمَاعَةِ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَشَرَةٍ عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَأَى مِنْكُمُ ابْنَ خَطَلٍ فَلْيَقْتُلْهُ وَمِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكَانَ ابْنُ خَطَلٍ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشِّعْرِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اقْتُلْهُ) زَادَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي آخِرِهِ فَقُتِلَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ عَائِذٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُرَيْثٍ، وَأَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ فِيهِ أَقْوَالًا: مِنْهَا أَنَّ قَاتِلَهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدَةَ الْعَجْلَانَيُّ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي الْحَرَمِ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفِينَ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْقِتَالُ بِمَكَّةَ، وصَرَّحَ بِأَنَّ حُرْمَتَهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، وَالسَّاعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مِنْ صَبِيحَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ إِلَى الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ زَمْزَمَ وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: لَا يُقْتَلَنَّ قُرَشِيٌّ بَعْدَ هَذَا صَبْرًا، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِي أَبِي مَعْشَرٍ مَقَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحديث الخامس.
قَوْله: (عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح) فِي رِوَايَة الْحَمِيدِيّ فِي التَّفْسِير عَنْ اِبْن عُيَيْنَة حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي نَجِيح وَهُوَ عَبْد اللَّه وَاسْم أَبِي نَجِيح يَسَار، وَتَقَدَّمَ فِي الْمُلَازَمَة عَنْ عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه عَنْ سُفْيَان حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي نَجِيح وَلِابْنِ عُيَيْنَة فِي هَذَا الْحَدِيث إِسْنَاد آخَر أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق عَبْد الْغَفَّار بْن دَاوُدَ عَنْ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ جَامِع بْن أَبِي رَاشِد عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ اِبْن مَسْعُود.
قَوْله: (عَنْ أَبِي مَعْمَر) هُوَ عَبْد اللَّه بْن سَخْبَرَةَ.
قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه) هُوَ اِبْن مَسْعُود.
قَوْله: (سِتُّونَ وَثَلَاثمِائَة نُصُب)
بِضَمِّ النُّون وَالْمُهْمَلَة وَقَدْ تُسَكَّن، بَعْدهَا مُوَحَّدَة، هِيَ وَاحِدَة الْأَنْصَاب، وَهُوَ مَا يُنْصَب لِلْعِبَادَةِ مِنْ دُون اللَّه تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ صَنَمًا بَدَل نُصُبًا. وَيُطْلَق النُّصُب وَيُرَاد بِهِ الْحِجَارَة الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا لِلْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ مُرَادَة هُنَا، وَتُطْلَق الْأَنْصَاب عَلَى أَعْلَام الطَّرِيق وَلَيْسَتْ مُرَادَة هُنَا وَلَا فِي الْآيَة.
قَوْله: (فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا) بِضَمِّ الْعَيْن وَبِفَتْحِهَا وَالْأَوَّل أَشْهُر.
قَوْله: (بِعُودٍ فِي يَده وَيَقُول: جَاءَ الْحَقّ) فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد مُسْلِم يَطْعَن فِي عَيْنَيْهِ بِسِيَةِ الْقَوْس وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر عِنْد الْفَاكِهِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ فَيَسْقُط الصَّنَم وَلَا يَمَسّهُ، وَلِلْفَاكِهِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس فَلَمْ يَبْقَ وَثَن اِسْتَقْبَلَهُ إِلَّا سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَة بِالْأَرْضِ، وَقَدْ شَدَّ لَهُمْ إِبْلِيس أَقْدَامهَا بِالرَّصَاصِ وَفَعَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِإِذْلَالِ الْأَصْنَام وَعَابِدِيهَا، وَلِإِظْهَارِ أَنَّهَا لَا تَنْفَع وَلَا تَضُرّ، وَلَا تَدْفَع عَنْ نَفْسهَا شَيْئًا.
قَوْله: (الْأَزْلَام) هِيَ السِّهَام الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا الْخَيْر وَالشَّرّ، وَعِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث جَابِر نَحْو حَدِيث اِبْن مَسْعُود وَفِيهِ فَأَمَرَ بِهَا فَكُبَّتْ لِوُجُوهِهَا وَفِيهِ نَحْو حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَزَادَ قَاتَلَهُمْ اللَّه، مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَسْتَقْسِم بِالْأَزْلَامِ. ثُمَّ دَعَا بِزَعْفَرَانٍ فَلَطَّخَ تِلْكَ التَّمَاثِيل. وَفِي الْحَدِيث كَرَاهِيَة الصَّلَاة فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ صُوَر؛ لِكَوْنِهَا مَظِنَّة الشِّرْك، وَكَانَ غَالِب كُفْر الْأُمَم مِنْ جِهَة الصُّوَرِ.
الحديث السادس.
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَقَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقَ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَلَا بُدَّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ) وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ أَنْ يَأْتِيَ الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا، فَلَمْ يَدْخُلْهَا حَتَّى مُحِيَتِ الصُّوَرُ، وَكَانَ عُمَرُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهَا وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَحَا مَا كَانَ مِنَ الصُّوَرِ مَدْهُونًا مَثَلًا، وَأَخْرَجَ مَا كَانَ مَخْرُوطًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ خَفِيَ عَلَى مَنْ مَحَاهَا أَوَّلًا. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَائِذٍ فِي الْمَغَازِي عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ صُورَةَ عِيسَى وَأُمِّهِ بَقِيَتَا حَتَّى رَآهُمَا بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نَصَارَى غَسَّانَ فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَبِبِلَادِ غُرْبَةٍ، فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْبَيْتَ ذَهَبَا فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا أَثَرٌ. وَقَدْ أَطْنَبَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ فِي تَخْرِيجِ طَرِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَطَاءً: أَدْرَكْتَ فِي الْكَعْبَةِ تَمَاثِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَدْرَكْتُ تَمَاثِيلَ مَرْيَمَ فِي حِجْرِهَا ابْنُهَا عِيسَى مُزَوَّقًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعَمُودِ الْأَوْسَطِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ.
قَالَ: فَمَتَى ذَهَبَ ذَلِكَ؟ قَالَ: فِي الْحَرِيقِ وَفِيهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِطَمْسِ الصُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْبَيْتِ وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَأَمَرَنِي فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فِي دَلْوٍ فَجَعَلَ يَبُلُّ الثَّوْبَ وَيَضْرِبُ بِهِ عَلَى الصُّوَرِ وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لَا يَخْلُقُونَ.
وقَوْلُهُ: وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ وَمَنْ نَفَاهَا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ) وَصَلَهُ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ وُهَيْبٌ:، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بِإِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّعْلِيقِ عَنْ وُهَيْبٍ وَهُوَ خَطَأٌ، وَرَجَّحْتُ الرِّوَايَةَ الْمَوْصُولَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ؛ لِاتِّفَاقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَمَعْمَرٍ عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَيُّوبَ.
49 - بَاب دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ
4289 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنْ الْحَجَبَةِ حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى سَجْدَة.
4290 -
حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ فِي كَدَاء".
4291 -
حَدَّثَنَا عبيد الله بن إسماعيل، حَدَّثَنَا أبو أسامة عم هشام عن أبيه "دخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة من كداء".
قَوْلُهُ: (بَابُ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ) أَيْ حِينَ فَتَحَهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ عَلَى رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْجِهَادِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْحَجِّ فِي بَابِ إِغْلَاقِ الْبَيْتِ مَعَ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُثْمَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ: ائْتِنِي بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، وَيَقُولُ: مَا يَحْبِسُهُ؟ فَسَعَى إِلَيْهِ رَجُلٌ، وَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي عِنْدَهَا الْمِفْتَاحُ وَهِيَ أُمُّ عُثْمَانَ وَاسْمُهَا سُلَافَةُ بِنْتُ سَعِيدٍ تَقُولُ: إِنْ أَخَذَهُ مِنْكُمْ لَا يُعْطِيكُمُوهُ أَبَدًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى أَعْطَتِ الْمِفْتَاحَ، فَجَاءَ بِهِ فَفَتَحَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ عِنْدَ السِّقَايَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا أُعْطِينَا النُّبُوَّةَ وَالسِّقَايَةَ وَالْحِجَابَةَ، مَا قَوْمٌ بِأَعْظَمَ نَصِيبًا مِنَّا. فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ. ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَدَفَعَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فَفَتَحَ لَهُ فَدَخَلَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَخَطَبَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. ثُمَّ جَلَسَ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ:
اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: خُذْهَا خَالِدَةً مُخَلَّدَةً، إِنِّي لَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ دَفَعَهَا إِلَيْكُمْ، وَلَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ، فَنَزَلَتْ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَدَعَا عُثْمَانَ فَقَالَ: خُذُوهَا يَا بَنِي شَيْبَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا بَنِي شَيْبَةَ كُلُوا مِمَّا يَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَاوَلَ عُثْمَانَ الْمِفْتَاحَ قَالَ لَهُ: غَيِّبْهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلِذَلِكَ يُغَيَّبُ الْمِفْتَاحُ. وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَفْتَحُ الْكَعْبَةَ إِلَّا هُمْ، فَتَنَاوَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِفْتَاحَ فَفَتَحَهَا بِيَدِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَجِيمٍ خُرَاسَانِيٌّ نَزَلَ بَغْدَادَ، كَانَ مِنَ الْأَثْبَاتِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي إِذَا رَضِيَ عَنْ إِنْسَانٍ وَكَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ حَدَّثَ عَنْهُ وَهُوَ حَيٌّ، فَحَدَّثَنَا عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَارِجَةَ وَهُوَ حَيٌّ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَوْصُولٌ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
(تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَوُهَيْبٌ فِي كَدَاءٍ) أَيْ رَوَيَاهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَا فِي رِوَايَتِهِمَا: دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ أَيْ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَطَرِيقُ أَبِي أُسَامَةَ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْهُ مَوْصُولًا، وَأَوْرَدَهَا هُنَا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَائِشَةَ. وَأَمَّا طَرِيقُ وُهَيْبٍ وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ
50 - بَاب مَنْزِلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ
4292 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قال: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ؛ فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. قَالَتْ: لَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْزِلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّالِثِ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ، وَهُنَا أَنَّهُ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ. وَكَذَا فِي الْإِكْلِيلُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَازِلًا عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ وَإِنَّمَا نَزَلَ بِهِ حَتَّى اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَيْثُ ضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ عِنْدَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي حَصَرَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْزِلُنَا إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَكَّةَ فِي الْخَيْفِ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ وِجَاهَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ حَصَرُونَا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَ حَدِيثِ أُسَامَةَ السَّابِقِ وَقَالَ فِيهِ: وَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْأَبْطَحِ لَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ مَكَّةَ.
51 - باب
4293 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
4294 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ. قَالَ: وَمَا رأيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي. فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ.
4295 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنْ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ لَا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو قَالَ قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْخَرْبَةُ الْبَلِيَّة".
4296 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْر"
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَكَأَنَّهُ بَيَّضَ لَهُ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ وُقُوعُ مَا يُنَاسِبُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبُّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ هُنَا مَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ مَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَّا يَقُولُ فِيهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ (كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ) الْحَدِيثُ سَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّصْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: (مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ) أَيْ فَضْلُهُ. وَقَوْلُهُ: (لِيُرِيَهُمْ مِنِّي) أَيْ بَعْضَ فَضِيلَتِي. وَقَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ: ابْنَ
عَبَّاسٍ) هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ آلَةِ النِّدَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ) هُوَ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَآخَرُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عِنْدَهُ لَهُ مُتَابِعٌ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْمَقْبُرِيُّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (الْعَدَوِيُّ) كُنْتُ جَوَّزْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّنِي رَأَيْتُهُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى الْكَعْبِيَّ نِسْبَةً إِلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ نُسِبَ إِلَى بَنِي عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَهُمْ إِخْوَةُ كَعْبٍ، وَيَقَعُ هَذَا فِي الْأَنْسَابِ كَثِيرًا يَنْسُبُونَ إِلَى أَخِي الْقَبِيلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَبَعْضُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي بَعْضُ شَرْحُهُ فِي الدِّيَاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، موقَع فِي آخِرِهِ هُنَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُصَنِّفُ الْخَرِبَةُ: الْبَلِيَّةُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ جَابِرٍ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ) كَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ مُطَوَّلًا مَعَ شَرْحِهِ.
52 - بَاب مَقَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحِ
4297 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. ح.
وحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قال:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
4298 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْن".
4299 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا".
قَوْلُهُ: (بَابُ مَقَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ أَقَمْنَا فِي سَفَرٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَكَانَ، فَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التَّعَارُضُ، وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهَا هِيَ السَّفْرَةُ الَّتِي أَقَامَ فِيهَا بِمَكَّةَ عَشْرًا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الرَّابِعِ وَخَرَجَ يَوْمَ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ فِي الْفَتْحِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَأَوْرَدْتُ هُنَاكَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْتُ وَلَمْ يُفْصِحْ بِذَلِكَ تَشْحِيذًا لِلْأَذْهَانِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَا هُوَ فِي بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ، فَإِنَّ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ فِي سَفْرَةِ الْفَتْحِ حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا.
(تَنْبِيهٌ): سُفْيَانُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هُوَ الثَّوْرِيُّ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ. وَقَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا.
53 - بَاب
4300 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ.
[الحديث 4300 - طرفه في: 6356]
4301 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَنَحْنُ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَزَعَمَ أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ فَصَارَتْ أَحَادِيثُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُنَاسَبَتُهَا لَهُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ قَدْ بَيَّضَ لَهُ لِيَكْتُبَ لَهُ تَرْجَمَةً فَلَمْ يَتَّفِقْ، وَالْمُنَاسِبُ لِتَرْجَمَتِهِ مَنْ شَهِدَ الْفَتْحَ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ وَقَدْ وَصَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ) بِمُهْمَلَةِ مُصَغَّرا، وَهُوَ عُذْرِيٌّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: ابْنُ أَبِي صُعَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ سِنَانَ حَلِيفُ بَنِي زَهْرَةَ، وَلِأَبِيهِ ثَعْلَبَةَ صُحْبَةٌ، وَقَدْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ الْمُخْبَرَ بِهِ اخْتِصَارًا وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْأَدَبِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَنَحْنُ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ أَرَادَ الزُّهْرِيُّ بِهَا تَقْوِيَةَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ بِأَنَّهَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُنَيْنٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالنُّونِ الْأُولَى فَقَطْ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَاتِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ) ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ حَجَّ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَاتِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.
4302 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: أَلَا تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ؟ قَالَ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِمَا مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَاكَ فكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا: فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّوا عَنَّا
اسْتَ قَارِئِكُمْ، فَاشْتَروْا، فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ) مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَاهُ وَفَدَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَفِدْ مَعَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَفَدَ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو سَلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ هُوَ ابْنُ قِيسٍ وَيُقَالُ: نُفَيْعٌ الْجَرْمِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، صَحَابِيٌّ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا ابْنُهُ، لَكِنْ وَقَعَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ) هُوَ مَقُولُ أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا بِمَا مَمَرِّ النَّاسِ) يَجُوزُ فِي مَمَرِّ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ كُنَّا نُحَاصِرُ، يَمُرُّ بِنَا النَّاسُ إِذَا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ) كَذَا فِيهِ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (مَا هَذَا الرَّجُلُ) أَيْ يَسْأَلُونَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ حَالِ الْعَرَبِ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا) يُرِيدُ حِكَايَةَ مَا كَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ مِمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَيَقُولُونَ: نَبِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَكُنْتُ غُلَامًا حَافِظًا، فَحَفِظْتُ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّمَا يُقَرُّ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الْقَرَارِ، وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ مَقْصُورَةٍ مِنَ التَّقْرِيَةِ أَيْ يُجْمَعُ، وَلِلْأَكْثَرِ بِهَمْزٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ يُغَرَّى بَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ يُلْصَقُ بِالْغِرَاءِ، وَرَجَّحَهَا عِيَاضٌ.
قَوْلُهُ: (تَلَوَّمُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ تَنْتَظِرُ وَإِحْدَى التَّاءَيْنِ مَحْذُوفَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَبَدَرَ) أَيْ سَبَقَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمَ) اسْتَقْبَلْنَاهُ، هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَا وَفَدَ مَعَ أَبِيهِ لَكِنْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَفَدَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يَؤُمُّنَا؟ قَالَ: أَكْثَرُكُمْ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (فَنَظَرُوا) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَنَظَرُوا إِلَى أَهْلِ حِوَائِنَا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ، وَالْحِوَاءُ مَكَانُ الْحَيِّ النُّزُولِ.
قَوْلُهُ: (تَقَلَّصَتْ) أَيِ انْجَمَعَتْ وَارْتَفَعَتْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ تَكَشَّفَتْ عَنِّي وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ فِي بُرْدَةٍ مَوْصُولَةٍ فِيهَا فَتْقٌ، فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ خَرَجَتْ اسْتِي.
قَوْلُهُ: (أَلَا تُغَطُّونَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِحَذْفِ النُّونِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَاشْتَرَوْا) أَيْ ثَوْبًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَاشْتَرَوْا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ نِسْبَةٌ إِلَى عُمَانَ وَهِيَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: فَمَا شَهِدْتُ مَجْمَعًا مِنْ جَرْمٍ إِلَّا كُنْتُ إِمَامَهُمْ وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي إِمَامَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ وَلَمْ يُنْصِفْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَلَمْ يَطَّلِعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ، وَلِأَنَّ زَمَنَ الْوَحْيِ لَا يَقَعُ التَّقْرِيرُ فِيهِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، كَمَا اسْتَدَلَّ أَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ لِجَوَازِ الْعَزْلِ بِكَوْنِهِمْ فَعَلُوهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَنُهِيَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ بِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، وَيَجْزِي بِدُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ حَالٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِالْحُكْمِ.
4303 -
حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حدثني عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ، هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ؛ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَصِيحُ بِذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ والْخَامِسُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي آخِرِهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَلَى لَفْظِ يُونُسَ، وَأَوْرَدَهُ مَقْرُونًا بِطَرِيقِ مَالِكٍ وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ شَدِيدَةٌ لَهُ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِهِ، وَقَدْ عَابَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَقَالَ: قَرَنَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ مَعَ شِدَّةِ اخْتِلَافِهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَتْ عَائِشَةُ) كَذَا هُنَا، وَهَذَا الْقَدْرُ مَوْصُولٌ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بِذِكْرِ عُرْوَةَ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ رَدٌّ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ أَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْمِلْكِ فَقَالَ: أَيْ هُوَ لَكَ عَبْدٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَصِيحُ بِذَلِكَ) أَيْ يُعْلِنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
(1)
، وَهَذَا مَوْصُولٌ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَمُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ فِي الْأَطْرَافِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، زَادَ مَعْمَرٌ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ مَعًا ; وَفِي أُخْرَى عَنْ سَعِيدٍ أَوْ أَبِي سَلِمَةَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلُ: هُوَ مَحْفُوظٌ لِابْنِ شِهَابٍ عَنْهُمَا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِاخْتِصَارٍ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، فَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ إِخْرَاجِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ.
4304 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، قَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ:
(1)
في هامش طبعة بولاق: في نسخة "بهذا الحكم"
فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَزَوَّجَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَتْ تَأْتِيني بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ) كَذَا فِيهِ بِصُورَةِ الْإِرْسَالِ، لَكِنْ فِي آخِرِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَنْ عَائِشَةَ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَأْتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَتَابَتْ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا وَكَانَتْ تَأْتِينِي فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ; وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ.
4305، 4306 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي مُجَاشِعٌ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَخِي بَعْدَ الْفَتْحِ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ: ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ، فَلَقِيتُ مَعْبَدًا بَعْدُ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ.
4307، 4308 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ: انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ: مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ. وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ: إنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدٍ.
4309 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّامِ، قَالَ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ، فَانْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلَّا رَجَعْتَ.
4310 -
وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
4311 -
حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
4312 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
قَالَ: "زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَسَأَلَهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلَامَ فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"
الْحَدِيثُ السَّابِعُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، وَمُجَاشِعٌ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيِّ، وَقَوْلُهُ: بِأَخِي هُوَ مَجَالِدٌ بِوَزْنِ أَخِيهِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مَعْبَدٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالَّذِي هُنَا فَلَقِيتُ مَعْبَدًا كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ، وَصَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ جِهَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ بِلَفْظٍ عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَايِعْهُ عَلَى الْهِجْرَةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَحْوَالِ الْهِجْرَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْهِجْرَةِ وَفِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، تَقَدَّمَ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ) ابْنُ شُمَيْلٍ، وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَلَكِنْ جِهَادٌ، فَانْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ فَإِنْ أَصَبْتَ شَيْئًا وَإِلَّا فَارْجِعْ
قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَسَأَلَهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ، تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ أَيْضًا سَنَدًا وَمَتْنًا، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْفَرَادِيسِيُّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ. الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ.
4313 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنْ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجرهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَالْبُيُوتِ، فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ.
وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوِ هَذَا، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ ابْنُ نَصْرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ النَّبِيلُ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الْكَرِيمِ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ: الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ وَصَلَهَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: أنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
54 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} - إِلَى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} - ثُمَّ قَالَ إِلَى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: بَابُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} - إِلَى - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَحُنَيْنٌ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: سُمِّيَ بِاسْمِ حُنَيْنِ بْنِ قَابِثَةَ بْنِ مَهْلَائِيلَ. قَالَ أَهْلُ الْمَغَازِي: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ لِسِتٍّ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْخُرُوجِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ وَسَارَ سَادِسَ شَوَّالٍ ; وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي عَاشِرِهِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّضْرِيَّ جَمَعَ الْقَبَائِلَ مِنْ هَوَازِنَ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَفِيُّونَ، وَقَصَدُوا مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَّغَ ذَلِكَ الحزامي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ: حَدَّثَنَا الْخزَامِيُّ يَعْنِي: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قِصَّةِ الْفَتْحِ، فَذَكَرَ لَهُ وَقْتَهَا، فَأَقَامَ عَامَئِذٍ بِمَكَّةَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ أَنَّ هَوَازِنَ وَثَقِيفًا قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا يُرِيدُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا قَدْ جَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَئِيسُهُمْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعد ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ.
قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ أَحَادِيثِ الْبَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:
4314 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: رَأَيْتُ بِيَدِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ضَرْبَةً قَالَ: ضُرِبْتُهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: شَهِدْتَ حُنَيْنًا؟ قَالَ: قيلَ ذَلِكَ
4315 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَتَوَلَّيْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ، وَلَكِنْ
عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ
…
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
4316 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قِيلَ لِلْبَرَاءِ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَوَلَّيْتُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا، كَانُوا رُمَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ
…
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
4317 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ "وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتُقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِب".
قَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ "نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَغْلَتِه".
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَكَذَا هُوَ مَنْسُوبٌ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ.
قَوْلُهُ: (ضَرْبَةً) زَادَ أَحْمَدُ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ضَرْبَةً عَلَى سَاعِدِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ.
قَوْلُهُ: (شَهِدْتُ حُنَيْنًا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ قَالَ: نَعَمْ وَقَبْلَ ذَلِكَ وَمُرَادُهُ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ حُنَيْنٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْحُدَيْبِيَةُ فِيمَا ذَكَرَهُ مَنْ صَنَّفَ فِي الرِّجَالِ، وَوَقَفْتُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ أَنَّهُ شَهِدَ الْخَنْدَقَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ الْبَرَاءِ
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (وَجَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفُ عَلَى اسْمِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ مِنْ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَا عُمَارَةَ) هِيَ كُنْيَةُ الْبَرَاءِ.
قَوْلُهُ: (أَتَوَلَّيْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَتَوَلَّيْتَ أَيِ انْهَزَمْتَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَوَلَّيْتُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي الثَّالِثَةِ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّهَا بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ) تَضَمَّنَ جَوَابُ الْبَرَاءِ إِثْبَاتَ الْفِرَارِ لَهُمْ، لَكِنْ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْمِيمِ، وَأَرَادَ أَنَّ إِطْلَاقَ السَّائِلِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ حَتَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِحَمْلِ الْمَعِيَّةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْهَزِيمَةِ فَبَادَرَ إِلَى اسْتِثْنَائِهِ ثُمَّ أَوْضَحَ ذَلِكَ، وَخَتَمَ حَدِيثَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَدِيعِ الْأَدَبِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ فَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ جَرَى كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَوْضَحَ أَنَّ فِرَارَ مَنْ فَرَّ لَمْ يَكُنْ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْفِرَارِ، وَإِنَّمَا انْكَشَفُوا مِنْ وَقْعِ السِّهَامِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرِ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَفِرُّوا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبَرَاءَ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ وَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْهَزِمًا فَلِذَلِكَ حَلَفَ: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَلِّ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُنْهَزِمًا حَالٌ مِنْ سَلَمَةَ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي
طَرِيقِ أُخْرَى وَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ أَخَذَ التَّعْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ) فَأَمَّا سَرَعَانُ فَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ، وَيَجُوزُ سُكُونُ الرَّاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَالرَّشْقُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ رَمْيُ السِّهَامِ، وَأَمَّا هَوَازِنُ فَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ فِيهَا عِدَّةُ بُطُونٍ يُنْسَبُونَ إِلَى هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَاتٍ ابْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَالْعُذْرُ لِمَنِ انْهَزَمَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَلَّفَةِ أَنَّ الْعَدُوَّ كَانُوا ضِعْفَهُمْ فِي الْعَدَدِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ شُعْبَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ السَّبَبَ فِي الْإِسْرَاعِ الْمَذْكُورِ قَالَ: كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، قَالَ: وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ انْهَزَمُوا قَالَ: فَأَكْبَبْنَا وَفِي رِوَايَتِهِ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ تَكْمِلَةُ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ قَالَ: خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ جَمْعُ هَوَازِنَ وَبَنِي نَضْرٍ مَا يَكَادُونَ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ نَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.
ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلُ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ انْكِشَافِهِمْ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ سَبَقَ بِهِمْ إِلَى حُنَيْنٍ فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي، وَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عِمَايَةِ الصُّبْحِ، فَثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ السُّمَيْطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، قَالَ: فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ؛ صُفَّ الْخَيْلُ، ثُمَّ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ الْغَنَمُ ثُمَّ النِّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ وَمَنْ تَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ، قَالَ: فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ الْحَدِيثَ.
وَيَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَقِيَ وَحْدَهُ مُتَقَدِّمًا مُقْبِلًا عَلَى الْعَدُوِّ، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا وَرَاءَهُ، أَوِ الْوَحْدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ كَانُوا يَخْدُمُونَهُ فِي إِمْسَاكِ الْبَغْلَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلُ تَفْصِيلُ الْمِائَةِ: بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمِنَ النِّسَاءِ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ حَارِثَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَخَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فَكَانَ فِيمَنْ ثَبَتَ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ. قَالَ: وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ
لِمُوَلِّينَ، وَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ رَجُلٍ وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ مَنْ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ ; وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُرْسَلِ الْحَاكِمِ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا كَانُوا عَشَرَةً فَقَطْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً
…
وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا وَافَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ
…
لِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الثَّبْتُ، وَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُون عَجِلَ فِي الرُّجُوعِ فَعَدَّ فِيمَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعُتْبَةُ، وَمُعَتِّبٌ ابْنا أَبِي لَهَبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلُ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَشَيْبَةُ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا اسْتَدْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ لَهُ: قَاتِلِ الْكُفَّارَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا. قَالَ الطَّبَرانيُّ: الِانْهِزَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْعَوْدِ وَأَمَّا الِاسْتِطْرَادُ لِلْكَثْرَةِ فَهُوَ كَالتَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ.
قَوْلُهُ: (آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَأَقْبَلُوا أَيِ الْمُشْرِكُونَ هُنَالِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي رُكُوبِهِ صلى الله عليه وسلم الْبَغْلَةُ يَوْمَئِذٍ دَلَالَةٌ عَلَى النِّهَايَةِ فِي الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ. وَقَوْلُهُ: فَنَزَلَ أَيْ عَنِ الْبَغْلَةِ فَاسْتَنْصَرَ أَيْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ. وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَفِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ عِنْدَ مُسْلِمٍ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ فَلَمْ نُفَارِقْهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ آخِذًا أَوَّلًا بِزِمَامِهَا فَلَمَّا رَكَضَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ خَشِيَ الْعَبَّاسُ فَأَخَذَ بِلِجَامِ الْبَغْلَةِ يَكُفُّهَا، وَأَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ بِالرِّكَابِ وَتَرَكَ اللِّجَامِ لِلْعَبَّاسِ إِجْلَالًا لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ عَمَّهُ.
قَوْلُهُ: (بَغْلَتِهِ) هَذِهِ الْبَغْلَةُ هِيَ الْبَيْضَاءُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ وَكَانَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ صَنَّفَ السِّيرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى بَغْلَتِهِ دُلْدُلَ، وَفِيهِ لِأَنَّ دُلْدُلَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ ; وَقَدْ ذَكَرَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ أَنَّهُ اسْتَشْكَلَ عِنْدَ الدِّمْيَاطِيِّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فَقَالَ لَهُ: كُنْتُ تَبِعْتُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ وَكُنْتُ حِينَئِذٍ سِيرِيًّا مَحْضًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَذْكُرَ الْخِلَافَ. قَالَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ رَكِبَ كُلًّا مِنَ الْبَغْلَتَيْنِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ صَحِبَتْهُ، وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ. وَدَلَّ قَوْلُ الدِّمْيَاطِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ الرُّجُوعَ عَنْ كَثِيرٍ
مِمَّا وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السِّيَرِ وَخَالَفَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَضَلَّعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلِخُرُوجِ نُسَخٌ مِنْ كِتَابِهِ وَانْتِشَارِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِهِ. وَقَدْ أَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَفِي أُخْرَى الشَّهْبَاءِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ بَغْلَةً غَيْرَهَا. وَتَعَقَّبَ بِدُلْدُلَ فَقَدْ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، لَكِنْ قِيلَ إِنَّ الِاسْمَيْنِ لِوَاحِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا كَذِبْ لِيُخْرِجَهُ عَنِ الْوَزْنِ، وَقَدْ أُجِيبُ عَنْ مَقَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الرَّجَزِ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ نَظْمُ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ: أَنْتَ النَّبِيُّ لَا كَذَبْ أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ أَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ. ثَانِيهَا أَنَّ هَذَا رَجَزٌ وَلَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الشِّعْرِ، وَهَذَا مَرْدُودٌ. ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ شِعْرًا حَتَّى يَتِمَّ قِطْعَةً، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ يَسِيرَةٌ وَلَا تُسَمَّى شِعْرًا. رَابِعُهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَوْزُونًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَجْوِبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ، وَيَأْتِي تَامًّا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.
وَأَمَّا نِسْبَتُهُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ فَكَأَنَّما لِشُهْرَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَيْنَ النَّاسِ لِمَا رُزِقَ مِنْ نَبَاهَةِ الذِّكْرِ وَطُولِ الْعُمْرِ، بِخِلَافِ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَاتَ شَابًّا، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَدْعُونَهُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَمَا قَالَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ لَمَّا قَدِمَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَجُلٌ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَيَهْدِي اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى يَدَيْهِ وَيَكُونُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، فَانْتَسَبَ إِلَيْهِ لِيَتَذَكَّرَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، وَقَدِ اشْتَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزْنٍ قَدِيمًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ آمِنَةَ وَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنْبِيهَ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُ لِتَقْوَى قُلُوبِهِمْ إِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ ثَابِتٌ غَيْرَ مُنْهَزِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا كَذِبْ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صِفَةَ النُّبُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا الْكَذِبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ، وَالنَّبِيُّ لَا يَكْذِبُ، فَلَسْتُ بِكَاذِبٍ فِيمَا أَقُولُ حَتَّى أَنْهَزِمَ، وَأَنَا مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ الَّذِي وَعَدَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّصْرِ حَقٌّ، فَلَا يَجُوزُ عَلَيَّ الْفِرَارُ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا كَذِبْ أَيْ أَنَا النَّبِيُّ حَقًّا لَا كَذِبَ فِي ذَلِكَ.
(تَنْبِيهَانِ): أَحَدهُمَا: سَاقَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ عَالِيًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ جِدًّا. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مُطَوَّلًا بِنُزُولِ دَرَجَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ الْفَضْلِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مُطَوَّلًا، فَكَأَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيَّ حَدَّثَهُ بِهِ مُخْتَصَرًا.
(الثَّانِي) اتَّفَقَتِ الطُّرُقُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ إِلَّا رِوَايَةُ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَزَادَ فِي آخِرِهَا ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا الَّذِي يُحَاذِيهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ صَارَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ إِلَى جِهَةِ الْكُفَّارِ وَزَادَ فَقَالَ: أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ صَيِّتًا، قَالَ: فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ، قَالَ فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عِطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عِطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ. قَالَ فَاقْتَتَلُوا وَالْكَفَّارَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ. ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ: انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا وَلِابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُهُ، وَزَادَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَعْطِفُ بِغَيْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ، فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِسَيْفِهِ وَدَرَقَتِهِ ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: (قَالَ إِسْرَائِيلُ، وَزُهَيْرٌ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَغْلَتِهِ) أَيْ إِنَّ إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ فَقَالَا فِي آخِرِهِ:
نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَمَّا رِوَايَةُ إِسْرَائِيلَ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَنْ قَالَ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ فُلَانٍ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ وَلَفْظُهُ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ زُهَيْرٍ فَوَصَلَهَا أَيْضًا فِي بَابِ مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَدْ ذَكَرْتُ لَفْظَهُ قَرِيبًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا غَشَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ. وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ قَالَ: فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
ثُمَّ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَهَزَمَهُمْ قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ رِوَايَةً عَنْ أَبِي هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ تُرَابًا وَلِأَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ قُدْمًا، فَحَادَتْ بِهِ بَغْلَتُهُ فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ فَقُلْتُ: ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا. وَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ سُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ الْأَدْبَارَ وَلِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا نَاوَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ، فَرَمَى بِهِ فِي وجه الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا قَالَ لِصَاحِبِهِ: نَاوِلْنِي فَنَاوَلَهُ فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَمَاهُمْ أَيْضًا. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَصَى فِي إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى ترَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ، وَالْإِرْشَادُ إِلَى حُسْنِ السُّؤَالِ بِحُسْنِ الْجَوَابِ. وَذَمُّ الْإِعْجَابِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِانْتِسَابِ إِلَى الْآبَاءِ وَلَوْ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ خَارِجُ الْحَرْبِ. وَمِثْلُهُ الرُّخْصَةُ فِي الْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ دُونَ غَيْرِهَا. وَجَوَازُ التَّعَرُّضِ إِلَى الْهَلَاكِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ويُقَالُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَيَقِّنًا لِلنَّصْرِ لِوَعْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ قَدْ ثَبَتَ مَعَهُ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْيَقِينِ مِثْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدِ اسْتُشْهِدَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ. وَفِيهِ رُكُوبُ الْبَغْلَةِ إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ الثَّبَاتِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الْفُحُولَةِ مَظِنَّةُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْفِرَارِ وَالتَّوَلِّي، وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْجَيْشِ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ وَأَخَذَ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لَأَتْبَاعِهِ عَلَى الثَّبَاتِ. وَفِيهِ شُهْرَةُ الرَّئِيسِ نَفْسَهُ فِي الْحَرْبِ مُبَالَغَةً فِي الشَّجَاعَةِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْعَدُوِّ.
4318، 4319 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بن سعد، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ: وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ؛ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ - وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ - فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا:
فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ
طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الشُّرُوطِ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ حَيْثُ لَا يُذْكَرُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُرْسِلُهُ، فَإِنَّ الْمِسْوَرَ يَصْغُرُ عَنْ إِدْرَاكِ الْقِصَّةِ وَمَرْوَانُ أَصْغَرُ مِنْهُ. نَعَمْ كَانَ الْمِسْوَرُ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ مُمَيِّزًا، فَقَدْ ضَبَطَ فِي ذَلِكَ الْأَوَانِ قِصَّةَ خِطْبَةِ عَلِيٍّ لِابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَسَقَطَ ابْنُ مُسْلِمٍ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ.
قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَخْ وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: (قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ) سَاقَ الزُّهْرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَدْ سَاقَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً وَلَفْظُهُ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَبِهَا السَّبْيُ يَعْنِي سَبْيَ هَوَازِنَ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فِيهِمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا، ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَهُنَّ مَخَازِي الْأَقْوَامِ، فَقَالَ: سَأَطْلُبُ لَكُمْ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْمُقَاسِمُ فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ: آلسَّبْيُ أَمِ الْمَالِ؟ قَالُوا: خَيَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ، فَالْحَسَبُ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ. فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَوْفَ أُكَلِّمُ لَكُمُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَلِّمُوهُمْ وَأَظْهِرُوا إِسْلَامَكُمْ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهَاجِرَةَ قَامُوا فَتَكَلَّمَ خُطَبَاؤُهُمْ فَأَبْلَغُوا وَرَغِبُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي رَدِّ سَبْيهِمْ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغُوا فَشَفَعَ لَهُمْ وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ رَدَدْتُ الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِمْ. فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَدَدُ الْوَفْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَغْفَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ لَمَّا ذَكَرَ الْوُفُودَ وَفْدَ هَوَازِنَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ أَحَدٌ الْوُفُودِ أَكْثَرَ مِمَّا جَمَعَ.
وَمِمَّنْ سُمِّيَ مِنْ وَفْدِ هَوَازِنَ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَبُو مَرْوَانَ - وَيُقَالُ: أَبُو ثَرْوَانَ أَوَّلُهُ مُثَلَّثَةٌ بَدَلَ الْمِيمِ وَيُقَالُ بِمُوَحَّدَةٍ وَقَافٍ - وَهُوَ عَمُّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّضَاعَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ تَعْيِينُ الَّذِي خَطَبَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَفْظُهُ وَأَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بَالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ قَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّوَاتِي فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ واللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ مَكْفُولٍ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْأَبْيَاتَ الْمَشْهُورَةَ أَوَّلُهَا:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ
…
فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
يَقُولُ فِيهَا:
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
…
إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ
ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ نَحْوَ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. وَأَوْرَدَ الطَّبَرَانِيُّ شِعْرَ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدَ مِنْ حَدِيثِهِ فَزَادَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ خَمْسَةَ أَبْيَاتٍ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا عَالِيًا جِدًّا فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ عُشَارِيُّ الْإِسْنَادِ، وَمَنْ بَيْنَ الطَّبَرَانِيِّ فِيهِ وَزُهَيْرٍ لَا يُعْرَفُ، لَكِنْ يَقْوَى حَدِيثُهُ بِالْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْمُتَبَايِنَةِ وَفِي الْأَمَالِي وَفِي الْعَشَرَةِ الْعُشَارِيَّةِ وَبَيَّنْتُ وَهْمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْنَادَ مُنْقَطِعٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَعْنَى اسْتَأْنَيْتُ اسْتَنْظَرْتُ، أَيْ أَخَّرْتُ قَسْمَ السَّبْيِ لِتَحْضُرُوا فَأَبْطَأْتُمْ، وَكَانَ تَرَكَ السَّبْيَ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ وَتَوَجَّهَ إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا إِلَى الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ قَسَمَ الْغَنَائِمَ هُنَاكَ، فَجَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَسْمَ لِيَحْضُرُوا فَأَبْطَئُوا. وَقَوْلُهُ: بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فِيهِ بَيَانُ مُدَّةِ التَّأْخِيرِ. وَقَوْلُهُ: قَفَلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْفَاءِ أَيْ رَجَعَ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ كَانُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ بَيْتًا فِيهِمْ أَبُو بَرْقَانَ السَّعْدِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ إِلَّا أُمَّهَاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضُنَكَ وَمُرْضِعَاتُكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: قَدِ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ لَا تَقْدُمُونَ، وَقَدْ قَسَمْتُ السَّبْيَ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ يُعْطِيهِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ مَنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى حَظِّهِ) أَيْ بِأَنْ يَرُدَّ السَّبْيَ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطَى عِوَضَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مُكْرَهٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يُعْطِيَ فَعَلَيَّ فِدَاؤُهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَأَعْطَى النَّاسُ مَا بِأَيْدِيهِمْ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ النَّاسِ سَأَلُوا الْفِدَاءَ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا. وَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سَلِيمٍ فَلَا، فَقَالَتْ بَنُو سَلِيمٍ: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَمَسَّكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ نُصِيبُهُ، فَرَدُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ إِلَخْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْعُرَفَاءِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِبَةِ أَنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا إِلَخْ هُوَ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ خَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِسَنَدِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.
4320 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ح.
وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَذْرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِوَفَائِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
4321 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ
أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ عز وجل، ثُمَّ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ؟ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، فقمت فقال: مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ: فَأَعْطِهِ، فَأَعْطَانِيهِ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ. الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا مُخْتَصَرًا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْصُولًا تَامًّا. وَقَدْ عَابَ عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَمْعَهُمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَيِ الرِّوَايَةُ الْأُولَى الْمُرْسَلَةُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ لَا إِلَى النَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ طَرِيقَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ الْمُرْسَلَةَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ مَرْجُوحَةٌ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ شَيْخِهِ أَيُّوبَ خَالَفُوهُ فِيهِ فَوَصَلُوهُ، بَلْ بَعْضُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ رَوَاهُ عَنْهُ مَوْصُولًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا هُنَا، عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهَا ذِكْرُ الْقُفُولِ مِنْ حُنَيْنٍ صَرِيحًا لَكِنَّهُ فِيهَا ضِمْنًا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ مَعْمَرٍ أَيْضًا مِمَّا هُوَ أُدْخِلَ فِي مَقْصُودِ الْبَابِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، فَأَمَّا بَقِيَّةُ لَفْظِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَقَدْ سَاقَهَا هُوَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ بِلَفْظِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ.
قَالَ: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ الْحَدِيثَ، وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ كُلِّهِمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَالْجِعْرَانَةِ سَأَلَهُ عَنْهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ لَفْظُ أَبِي الرَّبِيعِ قُلْتُ: وَكَانَ نُزُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَالْجِعْرَانَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الطَّائِفِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا سَبْيُ حُنَيْنٍ إِنَّمَا قُسِّمَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْهَا فَاتَّحَدَتْ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَعْمَرٍ مَعْنًى، وَظَهَرَ رَدُّ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَوْصُولًا فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ حَمَّادٍ إِلَخْ فَالْمُرَادُ بِحَمَّادِ: ابْنِ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَقِبَهُ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسِيَاقِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمُبْهَمِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ وَذَكَرَ فِيهِ إِنْكَارَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي بَابِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ كِتَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ:
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَرِوَايَةُ جَرِيرِ ابْنِ حَازِمٍ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ أَنَّ أَيُّوبَ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَالْجِعْرَانَةِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ يَوْمًا.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَاهُ جَارِيَةً مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا النَّاسِ قَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ فَخَلِّ سَبِيلَهَا فَاشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى فَوَائِدَ زَوَائِدَ، وَعُرِفَ وَجْهُ دُخُولِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَرِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ مَقْرُونَةً بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ فِي قِصَّةِ النَّذْرِ يَعْنِي دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ الْجَارِيَةِ وَالسَّبْيِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ كَلَامَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ قَالَ: رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، فَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَهُ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ مَوْصُولًا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي خَلَفٍ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ مُسْلِمٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ النَّذْرِ وَالسَّبْيِ وَالْجَارِيَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ.
وَفِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَجْرةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا بِنْتُ حِبَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خِنَاسٍ، وَأَعْطَى عُمَرَ قِلَابَةَ فَوَهَبَهَا لِابْنِهِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ. بَعَثْتُ جَارِيَتِي إِلَى أَخْوَالِي فِي بَنِي جُمَحَ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقُلْتُ: دُونَكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فَهِيَ فِي بَنِي جُمَحَ، فَانْطَلَقُوا فَأَخَذُوهَا وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ وَهَبَ عُمَرَ جَارِيَتَيْنِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمَرَ أَعْطَى إِحْدَى جَارِيَتَيْهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ أَعْطَى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَآخَرِينَ مَعَهُ مِنَ الْجَوَارِي، وَأَنَّ جَارِيَةَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَارَتْهُ فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ وَوَلَدَتْ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِكَافِ فِي بَابِهِ، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّذْرِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4322 -
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَآخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي وَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ لَهُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلَا لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا
مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلَام".
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَعُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ مَدَنِيٌّ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَلَكِنَّ ابْنَ حِبَّانَ ذَكَرَهُ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ: فَتَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مُخْتَصَرًا، وَفِي فَرْضِ الْخُمُسِ تَامًّا، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيَّ حَرَّفَهُ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرٍ وَالصَّوَابُ: عُمَرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ) هُوَ نَافِعُ بْنُ عَبَّاسٍ مَعْرُوفٌ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ حَرَكَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا أَنَّهُمُ انْهَزَمُوا، لَكِنْ بَعْدَ الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو قَتَادَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَنْهَزِمُوا.
قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا.
(وَقَوْلُهُ: عَلَا) أَيْ ظَهَرَ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الَّتِي بَعْدَهَا نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآخَرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى غِرَّةٍ، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِي الْأُولَى: فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِهَذَا الثَّانِي الَّذِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِلَ الْمُسْلِمَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) حَبْلُ الْعَاتِقِ عَصَبُهُ، وَالْعَاتِقُ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الذِّرَاعُ وَالْعَضُدُ إِلَى الْكَتِفِ.
وَقَوْلُهُ: فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ أَيِ الَّتِي كَانَ لَابِسَهَا وَخَلَصَتِ الضَّرْبَةُ إِلَى يَدِهِ فَقَطَعَتْهَا.
قَوْلُهُ: (وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ) أَيْ مِنْ شِدَّتِهَا، وَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْمُشْرِكَ كَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ جِدًّا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي) أَيْ أَطْلَقَنِي.
قَوْلُهُ: (فَلَحِقْتُ عُمَرَ) فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ حَيْثُ قَالَ: فَتَحَلَّلَ وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
قَوْلُهُ: (أَمْرُ اللَّهِ) أَيْ حُكْمُ اللَّهِ وَمَا قَضَى بِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَجَعُوا) فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ تَرَاجَعُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَيْفِيَّةُ رُجُوعِهِمْ وَهَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَة.
قَوْلُهُ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي فَرْضِ الْخُمُسِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ شَهِدَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ وَجَدَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جُلَسَائِهِ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ اسْمَهُ أَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ السَّلَبَ قُرَشِيٌّ.
قَوْلُهُ: (صَدَقَ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَرْضِهِ مِنِّي.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَاهَا اللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ لَاهَا اللَّهِ إِذًا فَأَمَّا لَاهَا اللَّهِ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَا لِلتَّنْبِيهِ، وَقَدْ يُقْسَمُ بِهَا يُقَالُ: لَاهَا اللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ. فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ وَاوِ الْقَسَمِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ اللَّهِ أَيْ لَمْ يُسْمَعْ لَاهَا الرَّحْمَنِ كَمَا سُمِعَ لَا وَالرَّحْمَنِ، قَالَ: وَفِي النُّطْقِ بِهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا هَا اللَّهِ بِاللَّامِ بعد الْهَاءِ بِغَيْرِ إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنَ الْأَلِفَيْنِ، ثَانِيهَا: مِثْلُهُ لَكِنْ بِإِظْهَارِ أَلِفٍ
وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ كَقَوْلِهِمُ: الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ، ثَالِثُهَا: ثُبُوتُ الْأَلِفَيْنِ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، رَابِعُهَا: بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَثُبُوتِ هَمْزَةِ الْقَطْعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمَشْهُورُ فِي الرَّاوِيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ: الثَّالِثُ ثُمَّ الْأَوَّلُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ لَاهَأَ اللَّهُ ذَا بِالْهَمْزِ، وَالْقِيَاسُ تَرْكُ الْهَمْزِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ بِرَفْعِ اللَّهِ. قَالَ: وَالْمَعْنَى يَأْبَى اللَّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةِ بِالرَّفْعِ فَتَكُونُ هَا لِلتَّنْبِيهِ واللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَلَا يَعْمِدُ خَبَرُهُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَقَدْ نَقَلَ الْأَئِمَّةُ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْجَرِّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِذًا فَثَبَتَتْ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُحَقَّقَةِ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِكَسْرِ الْأَلْفِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَنُونَةٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَكَذَا يَرْوُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِهِمْ - أَيِ الْعَرَبِ - لَاهَا اللَّهِ ذَا، وَالْهَاءُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى لَا وَاللَّهِ يَكُونُ ذَا. وَنَقَلَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنَّ الْمَازِنِيَّ قَالَ: قَوْلُ الرُّوَاةِ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ لَاهَا اللَّهِ ذَا، أَيْ ذَا يَمِينِي وَقَسَمِي. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ لَاهَا اللَّهِ إِذًا، وَإِنَّمَا هُوَ لَاهَا اللَّهِ ذَا، وَذَا صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: لَا وَاللَّهِ، هَذَا مَا أَقْسِمُ بِهِ، وَمِنْهُ أَخَذَ الْجَوْهَرِيُّ فقَالَ: قَوْلُهُمْ: لَاهَا اللَّهِ ذَا مَعْنَاهُ: لَا وَاللَّهِ هَذَا، فَفَرَّقُوا بَيْنَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ وَالصِّلَةِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ ذَا. وَتَوَارَدَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْخَبَرِ بِلَفْظِ إِذًا خَطَأٌ وَإِنَّمَا هُوَ ذَا تَبَعًا لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَمْ يُصِبْ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ بَعْضِ مَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كِتَابَةِ إِذًا هَذِهِ هَلْ تُكْتُبُ بِأَلِفٍ أَوْ بِنُونٍ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ أَوْ حَرْفٌ فَمَنْ قَالَ: هِيَ اسْمٌ قَالَ: الْأَصْلُ فِيمَنْ قِيلَ لَهُ: سَأَجِيءُ إِلَيْكَ فَأَجَابَ إِذًا أُكْرِمَكَ أَيْ إِذَا جِئْتَنِي أُكْرِمُكَ ثُمَّ حَذَفَ جِئْتَنِي وَعَوَّضَ عَنْهَا التَّنْوِينَ وَأُضْمِرَتْ أَنْ، فَعَلَى هَذَا يُكْتَبُ بِالنُّونِ.
وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَرْفٌ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ بَسِيطَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِذَا وَإِنْ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تُكْتَبُ بِأَلِفٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ وَبِهِ وَقَعَ رَسْمُ الْمَصَاحِفِ، وَعَلَى الثَّانِي تُكْتَبُ بِنُونٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فقَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَاهَا الْجَوَابُ وَالْجَزَاءُ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: هِيَ حَرْفُ جَوَابٍ يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ. وَأَفَادَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا قَدْ تَتَمَحَّضُ لِلْجَوَابِ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِيءُ جَوَابًا لِـ لَوْ وَإِنْ ظَاهِرًا أَوْ مُقَدَّرًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِلَفْظِ إِذًا لَاخْتَلَّ نَظْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَكَذَا: لَا وَاللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ إِلَخْ. وَكَانَ حَقُّ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: إِذًا يَعْمِدُ، أَيْ لَوْ أَجَابَكَ إِلَى مَا طَلَبْتَ لَعَمَدَ إِلَى أَسَدٍ إِلَخْ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِلَفْظِ لَا يَعْمِدُ إِلَخْ، فَمِنْ ثَمَّ ادَّعَى مَنِ ادَّعَى أَنَّهَا تَغْيِيرٌ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ إِذًا بِأَلِفٍ وَتَنْوِينٍ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ بَعِيدٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا وَاللَّهِ لَا يُعْطَى إِذًا، يَعْنِي وَيَكُونُ لَا يَعْمِدُ إِلَخْ تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَذْكُورِ وَمُوضِّحًا لِلسَّبَبِ فِيهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ لَاهَا اللَّهِ إِذًا فَحَمَلَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ لَاهَا اللَّهِ بِدُونِ ذَا، وَإِنْ سَلِمَ اسْتِعْمَالُهُ بِدُونِ ذَا فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ إِذًا لِأَنَّهَا حَرْفُ جَزَاءٍ وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى نَقِيضِهِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْجَزَاءِ أَنْ لَا يَذْكُرَ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْمِدُ بَلْ كَانَ يَقُولُ: إِذًا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ إِلَخْ لِيَصِحَّ جَوَابًا لِطَلَبِ السَّلَبِ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِمَنْ قَالَ لَكَ: افْعَلْ كَذَا فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِذًا لَا أَفْعَلُ، فَالتَّقْدِيرُ إِذًا وَاللَّهِ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ إِلَخْ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِذًا زَائِدَةً كَمَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ إِنَّهَا زَائِدَةٌ فِي قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
إِذًا لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خَشِنٌ
فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تُسْتَبَحْ إِبِلِي قَالَ: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَنِي بِشَرْحِ الْحَدِيثِ وَيُقَدِّمُ نَقْلَ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ
عَلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتِهِ وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمُ الْخَطَأَ وَالتَّصْحِيفَ، وَلَا أَقُولُ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَعْدَلُ وَأَتْقَنُ فِي النَّقْلِ إِذْ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمْ، بَلْ أَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ فِي النَّقْلِ إِلَى غَيْرِهِمْ. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى تَقْرِيرِ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ وَرَدِّ مَا خَالَفَهَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَنَقَلَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ، وَالْهَوْزَنِيِّ فِي مُسْلِمٍ لَاهَا اللَّهِ ذَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَا تَنْوِينٍ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ صَوَابٌ وَلَيْسَتْ بِخَطَأٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ عَلَى جَوَابِ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ لِلْأُخْرَى، وَالْهَاءُ هِيَ الَّتِي عَوَّضَ بِهَا عَنْ وَاوِ الْقَسَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي الْقَسَمِ: اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَبِقَصْرِهَا، فَكَأَنَّهُمْ عَوَّضُوا عَنِ الْهَمْزَةِ هَا فَقَالُوا: هَا اللَّهِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ قَالُوا بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الَّذِي مَدَّ مَعَ الْهَاءِ كَأَنَّهُ نَطَقَ بِهَمْزَتَيْنِ أَبْدَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا أَلِفًا اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِهِمَا كَمَا تَقُولُ: آللَّهِ، وَالَّذِي قَصَرَ كَأَنَّهُ نَطَقَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَقُولُ: اللَّهِ، وَأَمَّا إِذًا فَهِيَ بِلَا شَكٍّ حَرْفُ جَوَابٍ وَتَعْلِيلٍ، وَهِيَ مِثْلُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إِذًا، فَلَوْ قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ إِذًا لَكَانَ مُسَاوِيًا لِمَا وَقَعَ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ; لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَجْ هُنَاكَ إِلَى الْقَسَمِ فَتَرَكَهُ، قَالَ: فَقَدْ وَضَحَ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ وَمُنَاسَبَتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ مَعْنًى وَوَضْعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَكَلُّفٍ بِعِيدٍ يَخْرُجُ عَنِ الْبَلَاغَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَنِ ارْتَكَبَ أَبْعَدَ وَأَفْسَدَ فَجَعَلَ الْهَاءَ لِلتَّنْبِيهِ وَذَا لِلْإِشَارَةِ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْمُقْسَمِ بِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا فَيَطَّرِدُ، وَلَا فَصِيحًا فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ النَّبَوِيُّ، وَلَا مَرْوِيًّا بِرِوَايَةٍ ثَابِتَةٍ. قَالَ: وَمَا وُجِدَ الْعذريِّ وَغَيْرِهِ فَإِصْلَاحُ مَنِ اغْتَرَّ بِمَا حُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْغِرْنَاطِيُّ نَزِيلُ حَلَبَ فِي حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: اسْتَرْسَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَى أَنْ جَعَلُوا الْمُخَلِّصَ مِنْهُ أَنِ اتَّهَمُوا الْأَثْبَاتَ بِالتَّصْحِيفِ فَقَالُوا: وَالصَّوَابُ لَاهَا اللَّهِ ذَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. قَالَ: وَيَا عَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْبَلُونَ التَّشْكِيكَ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ وَيَطْلُبُونَ لَهَا تَأْوِيلًا. جَوَابُهُمْ أَنَّ هَا اللَّهِ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْمَ الْإِشَارَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، وَأَمَّا جَعْلُ، لَا يَعْمِدُ جَوَابَ فَأَرْضِهِ فَهُوَ سَبَبُ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ مِمَّنْ زَعَمَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِدْقُ فَأَرْضِهِ، فَكَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: إِذَا صَدَقَ فِي أَنَّهُ صَاحِبُ السَّلَبِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى السَّلَبِ فَيُعْطِيكَ حَقَّهُ، فَالْجَزَاءُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ صِدْقَهُ سَبَّبٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا وَاضِحٌ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ. وَالَّذِي قَبْلُهُ أَقْعَدُ.
وَيُؤَيِّدُ مَا رَجَّحَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ كَثْرَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، مِنْهَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ أَنَّ أَهْلَهَا يَشْتَرِطُونَ الْوَلَاءَ قَالَتْ: فَانْتَهَرْتُهَا فَقُلْتُ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا وَمِنْهَا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ جُلَيْبِيبٍ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ عَلَيْهِ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أَمَّهَا، قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا، فَذَهَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ لَهَا فَقَالَتْ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا فُلَانًا. الْحَدِيثَ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ لَوْ لَبِسْتَ مِثْلَ عَبَاءَتِي هَذِهِ. قَالَ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا أَلْبَسُ مِثْلَ عَبَاءَتِكَ هَذِهِ وَفِي تَهْذِيبُ الْكَمَالِ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فِي مَرَضِهَا فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكِ؟ قَالَتْ: أَصْبَحْتُ ذَاهِبَةً. قَالَ: فَلَا إِذًا. وَكَانَ فِيهِ دُعَابَةٌ وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ بِقَسَمٍ وَبِغَيْرِ قَسَمٍ، فَمِنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ جُلَيْبِيبٍ، مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ لَمَّا قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ وَقَالَ: إِنَّهَا طَافَتْ بَعْدَ
مَا أَفَاضَتْ فَقَالَ: فَلْتَنْفِرْ إِذًا وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا إِذًا وَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرُهُ فِي سُؤَالِهِ عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ فَقَالَ: عَائِشَةُ.
فَقَالَ: لَمْ أَعْنِ النِّسَاءَ؟ قَالَ: فَأَبُوهَا إِذًا وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَقَالَ: بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورُ. قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ قَالَ: لَقِيتُ لِيطَةَ بْنَ الْفَرَزْدَقِ فَقُلْتُ: أَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِيكَ؟ قَالَ: أَيْ هَا اللَّهِ إِذًا، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُهُ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي فَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي فَلَمْ أَرْضَ كَمَالَهَا، أَفَلَا أَعُودُ لَهَا؟ قَالَ: بَلَى هَا اللَّهِ إِذًا وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَقْدِيرِ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ أَنَّ إِذًا حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ أَنَّهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذًا وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ: نَعَمْ، وَكَذَا فِي النَّفْيِ كَأَنَّهُ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: إِذًا وَاللَّهِ لَا نُعْطِيكَ، إِذًا وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِطُ، إِذًا وَاللَّهِ لَا أَلْبَث، وَأَخَّرَ حَرْفَ الْجَوَابِ فِي الْأَمْثِلَةِ كُلِّهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} فَلَا يُؤْتَوْنَ النَّاسَ إِذًا، وَجَعَلَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ عَدَمِ النَّصِيبِ بِهَا، مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَقْبَلٌ وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي الْمُغِيثِ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا إِذًا قِيلَ: هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْحُرُوفِ النَّاصِبَةِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ إِذًا الَّذِي هُوَ مِنْ ظُرُوفِ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا نُوِّنَ لِلْفَرْقِ وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَيْ إِنْ أَخْرَجُوكَ مِنْ مَكَّةَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ أَمْكَنَ حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ. ثُمَّ أَرَادَ بَيَانَ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَعْمِدُ إِلَخْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّنِي مُنْذُ طَلَبْتُ الْحَدِيثَ وَوَقَفْتُ عَلَى كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ وَقَعَتْ عِنْدِي مِنْهُ نَفْرَةٌ لِلْإِقْدَامِ عَلَى تَخْطِئَةِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ، خُصُوصًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَمَا زِلْتُ أَتَطَلَّبُ الْمُخَلِّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَفِرْتُ بِمَا ذَكَرْتُهُ، فَرَأَيْتُ إِثْبَاتَهُ كُلَّهُ هُنَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ: (لَا يَعْمِدُ إِلَخْ) أَيْ لَا يَقْصِدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ كَأَنَّهُ أَسَدٌ فِي الشَّجَاعَةِ يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ وَيُعْطِيكَهُ بِغَيْرِ طِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ، هَكَذَا ضُبِطَ لِلْأَكْثَرِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ فِيهِ وَفِي يُعْطِيكَ، وَضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِالنُّونِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ) أَيْ سَلَبَ قَتِيلِهِ فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَلَكَهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ عُمَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ أنَّ هَوَازِنَ جَاءَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ: فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَضْرِبْ بِسَيْفٍ وَلَمْ يَطْعَنْ بِرُمْحٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَاجلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إِنِّي ضَرَبْتُ رَجُلًا عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ فَأَعْجَلْتُ عَنْهُ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَخَذْتُهَا فَأَرْضِهِ مِنْهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ، فَسَكَتَ. فَقَالَ عُمَرُ. وَاللَّهِ لَا يَفِيئُهَا اللَّهُ عَلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِهِ وَيُعْطِيكَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عُمَرُ وَهَذَا الْإِسْنَادُ قَدْ أَخْرَجَ بِهِ مُسْلِمٌ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ فَهُوَ أَتْقَنُ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَيْضًا قَالَ ذَلِكَ تَقْوِيَةً لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (صَدَقَ) أَيِ الْقَائِلُ: (فَأَعْطِهِ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِلَّذِي اعْتَرَفَ بِأَنَّ السَّلَبَ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَابْتَعْتُ بِهِ) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ سَبْعَ أَوَاقٍ.
قَوْلُهُ: (مَخْرَفًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُ الرَّاءِ أَيْ بُسْتَانًا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْتَرَفُ مِنْهُ التَّمْرُ أَيْ يُجْتَنَى، وَأَمَّا بِكَسْرِ الْمِيمِ فَهُوَ اسْمُ الْآلَةِ الَّتِي يُخْتَرَفُ بِهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خِرَافًا وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ التَّمْرُ الَّذِي يُخْتَرَفُ أَيْ يُجْتَنَى، وَأَطْلَقَهُ عَلَى الْبُسْتَانِ مَجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: بُسْتَانُ خِرَافٍ. وَذَكَرَ
الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْبُسْتَانَ الْمَذْكُورَ كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْوَدِّيَّيْنِ.
قَوْلُهُ: (فِي بَنِي سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ هُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ قَوْمُ أَبِي قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (تَأَثَّلْتُهُ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ أَيْ أَصَّلْتُهُ، وَأَثْلَةُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَوَّلُ مَالٍ اعْتَقَدْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ عُقْدَةً، وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنَ الْعَقْدِ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا عَقَدَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ مَالِكٍ فِيهِ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ وَقَالَ فِيهِ: عَنْ يَحْيَى لَمْ يَقُلْ: حَدَّثَنِي، وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ كَلِمَةً قَالَ فِيهَا: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَأَكْثَرُ مَا يُعَلِّقُهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ اللَّيْثِ مَا أَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَشْبَعت الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَقَدْ وَصَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ.
قَوْلُهُ: (تَخَوَّفْتُ) حُذِفَ الْمَفْعُولُ وَالتَّقْدِيرُ: الْهَلَاكَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ بَرَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُوَحَّدَةِ. وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُثَنَّاةِ أَيْ تَرَكَنِي، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ثُمَّ نُزِفَ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا فَاءٌ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهَا فَتَحَلَّلَ.
قَوْلُهُ: (سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَلَبَهُ كَانَ سِلَاحًا.
قَوْلُهُ: (أُصَيْبِغَ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ، وَبِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَصَفَهُ بِالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ، وَالْأُصَيْبِغُ نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ، أَوْ شَبَّهَهُ بِنَبَاتٍ ضَعِيفٍ يُقَالُ لَهُ الصَّبْغَاءُ إِذَا طَلَعَ مِنَ الْأَرْضِ يَكُونُ أَوَّلَ مَا يَلِي الشَّمْسَ مِنْهُ أَصْفَرُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ، وَعَلَى الثَّانِي تَصْغِيرُ الضَّبْعِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وكَأَنَّهُ لَمَّا عَظَّمَ أَبَا قَتَادَةَ بِأَنَّهُ أَسَدٌ صَغَّرَ خَصْمَهُ وَشَبَّهَهُ بِالضَّبْعِ لِضَعْفِ افْتِرَاسِهِ وَمَا يُوصَفُ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أُضَيْبِعٌ بِمُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ تَصْغِيرُ أَضَبَعَ وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الضَّعِيفِ.
قَوْلُهُ: (وَيَدَعُ) أَيْ يَتْرُكُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ للنَّصب وَالْجَرُّ.
55 - بَاب غَزاةِ أَوْطَاسٍ
4323 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ، قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ، فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِي، أَلَا تَثْبُتُ، فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَل مِنْهُ الْمَاءُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ، وَقَالَ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ،
ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ، فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ
وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ، وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ) قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَرْبِ حُنَيْنٍ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَادِيَ أَوْطَاسٍ غَيْرُ وَادِي حُنَيْنٍ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهم إِلَى الطَّائِفِ وَطَائِفَةٌ إِلَى بَجِيلَةَ وَطَائِفَةٌ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَسْكَرًا مُقَدَّمُهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَنْ مَضَى إِلَى أَوْطَاسٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ إِلَى الطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْبَكْرِيُّ: أَوْطَاسٌ وَادٍ فِي دِيَارِ هَوَازِنَ، وَهُنَاكَ عَسْكَرُوا هُمْ وَثَقِيفٌ ثُمَّ الْتَقَوْا بِحُنَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ) هُوَ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حِضَارٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ عَمُّ أَبِي مُوسَى. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ ابْنُ عَمِّهِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
قَوْلُهُ: (فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ) أَمَّا الصِّمَّةُ فَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيِ ابْنُ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ - وَيُقَالُ: ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ - الْجُشَمِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، فَالصِّمَّةُ لَقَبٌ لِأَبِيهِ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ، وَقَوْلُهُ فَقُتِلَ رُوِّينَاهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ فَجَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ بِفَاءٍ مُصَغَّرٌ ابْنِ وَهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ السُّلَمِيُّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الذَّعِنَّةِ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَيُقَالُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُبَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ، وَسَاقَ بَقِيَّةَ نَسَبِهِ.
وَيُقَالُ أَيْضًا: ابْنُ الدَّغِنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ الْمَذْكُورُ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَاتِلَ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَلَفْظُهُ لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ انْحَازَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي سِتِّمِائَةِ نَفْسٍ عَلَى أَكْمَةٍ فَرَأَوْا كَتِيبَةً، فَقَالَ: خَلُّوهُمْ لِي، فَخَلَّوْهُمْ، فَقَالَ: هَذِهِ قُضَاعَةُ وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ رَأَوْا كَتِيبَةً مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ سُلَيْمٌ، ثُمَّ رَأَوْا فَارِسًا وَحْدَهُ فَقَالَ: خَلُّوهُ لِي، فَقَالُوا مُعْتَجِز بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَهُوَ قَاتِلُكُمْ وَمُخْرِجُكُمْ مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا، قَالَ: فَالْتَفَتَ الزُّبَيْرُ فَرَآهُمْ فَقَالَ: عَلَامَ هَؤُلَاءِ هَاهُنَا؟ فَمَضَى إِلَيْهِمْ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ، فَحَزَّ رَأْسَ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ فَجَعَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ كَانَ فِي جَمَاعَةِ الزُّبَيْرِ فَبَاشَرَ قَتْلَهُ فَنُسِبَ إِلَى الزُّبَيْرِ مَجَازًا، وَكَانَ دُرَيْدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَمَّا قُتِلَ ابْنَ عِشْرِينَ - وَيُقَالُ ابْنَ سِتِّينَ - وَمِائَةِ سَنَةٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
(مَعَ أَبِي عَامِرٍ) أَيْ إِلَى مَنِ الْتَجَأَ إِلَى أَوْطَاسٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَدْرَكَ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ.
قَوْلُهُ: (فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الْجُشَمِيِّ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: زَعَمُوا أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ مِنْ بَنِي جُشْمٍ وَهُمَا أَوْفَى وَالْعَلَاءُ ابْنَا الْحَارِثِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَافَى بَدَلَ أَوْفَى، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا رُكْبَتَهُ، وَقَتَلَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَيْلِ الطَّلَبِ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ وَأَنَا مَعَهُ فَقَتَلَ ابْنُ دُرَيْدٍ، أَبَا عَامِرٍ، فَعَدَلْتُ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ وَأَخَذْتُ اللِّوَاءَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي أَيْضًا أَنَّ أَبَا عَامِرٍ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِخْوَةً فَقَتَلَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحَدٍ، حَتَّى كَانَ الْعَاشِرُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ، فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ فَقَتَلَهُ الْعَاشِرُ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّيهِ شَهِيدُ أَبِي عَامِرٍ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي أَنَّ أَبَا مُوسَى قَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ، وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلَعَلَّ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ شَارَكَ فِي قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ) أَيِ انْصَبَّ مِنْ مَوْضِعِ السَّهْمِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي) هَذَا يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ، وَيُحْتَمَلُ - إِنْ كَانَ ضَبَطَهُ - أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَائِذٍ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي اللِّوَاءُ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى قُتِلَ أَبُو عَامِرٍ.
قَوْلُهُ: (عَلَى سَرِيرٍ مُرَمَّلٍ) بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مِيمٍ ثَقِيلَةٍ، أَيْ مَعْمُولٍ بِالرِّمَالِ، وَهِيَ حِبَالُ الْحُصْرِ الَّتِي تُضَفَّرُ بِهَا الْأَسِرَّةُ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَنْكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَقَالَ: الصَّوَابُ: مَا عَلَيْهِ فِرَاشٌ، فَسَقَطَتْ مَا انْتَهَى. وَهُوَ إِنْكَارٌ عَجِيبٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَقَدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاشٍ كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى سَرِيرِهِ دَائِمًا فِرَاشٌ.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ التَّطْهِيرِ لِإِرَادَةِ الدُّعَاءِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ) أَيْ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَائِذٍ فِي الْأَكْثَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو بُرْدَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
56 - بَاب. غَزْوَةِ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
4324 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، سَمِعَ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ؛ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ؛ فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ.
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا وَزَادَ: وَهُوَ مُحَاصِرُ الطَّائِفِ يَوْمَئِذٍ.
[الحديث 4224 - طرفاه في: 5235، 5887]
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ الطَّائِفِ) هُوَ بَلَدٌ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، كَثِيرُ الْأَعْنَابِ وَالنَّخِيلِ، عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ أَوِ اثْنَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، قِيلَ: أَصْلُهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام اقْتَلَعَ الْجَنَّةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَصْحَابِ الصَّرِيمِ فَسَارَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا حَيْثُ الطَّائِفِ فَسُمِّيَ الْمَوْضِعُ بِهَا، وَكَانَتْ أَوَّلًا بِنَوَاحِي صَنْعَاءَ، وَاسْمُ الْأَرْضِ وَجٌّ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ، سُمِّيَتْ بِرَجُلٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْجِنِّ مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَزَلَ بِهَا. وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حُنَيْنٍ وَحَبَسَ الْغَنَائِمَ بَالْجِعْرَانَةِ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ قَائِدَ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَ دَخَلَ الطَّائِفَ وَكَانَ
لَهُ حِصْنُ بَلِيَةَ، وَهِيَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الطَّائِفِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الطَّائِفِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ). قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ فِي مَغَازِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْمَغَازِي. وَقِيلَ: بَلْ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفِي الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ: رَجُلٌ عَنْ أَبِيهِ وَهُمَا تَابِعِيَّانِ، وَامْرَأَةٌ عَنْ أُمِّهَا وَهُمَا صَحَابِيَّتَانِ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ) الْحَدِيثُ يَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ حِصَارِ الطَّائِفِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: وَهُوَ مُحَاصِرٌ الطَّائِفَ يَوْمَئِذٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ هُوَ أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ رَاوِيَةِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَاسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بِالطَّائِفِ أَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ أَيِ اسْمُهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَأَمَّا ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ فَضَبَطَهُ بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوَّلَ تَصْحِيفٌ. قَالَ: وَالْهَنَبُ الْأَحْمَقُ. وَسَيَأْتِي مَا قِيلَ فِي اسْمِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَكَذَا مَا قِيلَ فِي اسْمِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهَا بَادِيَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
4325 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الْأَعْمَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ؟ وَقَالَ مَرَّةً: نَقْفُلُ، فَقَالَ: اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ، فَغَدَوْا، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَتَبَسَّمَ، قَالَ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْخَبَرَ كُلَّهُ.
[الحديث 4325 - طرفه في: 6086، 7480]
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الشَّاعِرُ الْأَعْمَى: تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَتَسْمِيَتُهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَقُرِئَ عَلَى ابْنِ زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ كَذَلِكَ فَرَدَّهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَقَالَ: الصَّوَابُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَكَذَلِكَ الْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ مِمَّنْ لَازَمَ ابْنَ عُيَيْنَةَ جِدًّا، وَالَّذِي قَالَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَهُمُ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ مُتَأَخِّرًا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَقَدْ بَالَغَ الْحُمَيْدِيُّ فِي إِيضَاحِ ذَلِكَ فَقَالَ فِي مُسْنَدِهِ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سُفْيَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الدَّارِمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَمْ يَقُلْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فَزَادَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مَرَّةً أُخْرَى يُحَدِّثُ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ الْعَلَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَبُو الْعَبَّاسِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الطَّائِفِ، الصَّحِيحُ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا) فِي مُرْسَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ قَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، وَذَكَرَ أَهْلَ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْحِصْنُ وَكَانُوا قَدْ أَعَدُّوا فِيهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِحِصَارِ سَنَةٍ وَرَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ سِكَكَ الْحَدِيدِ الْمُحَمَاةِ، وَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَأَصَابُوا قَوْمًا، فَاسْتَشَارَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ فَقَالَ: هُمْ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ، فَرَحَلَ عَنْهُمْ. وَذَكَرَ أَنَسٌ فِي حَدِيثِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ مُدَّةَ حِصَارِهِمْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ اخْتِلَافٌ قِيلَ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بِضْعَ عَشرة. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا قَافِلُونَ) أَيْ رَاجِعُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ) ب يَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ وَحَاصِلُ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ بِغَيْرِ فَتْحٍ لَمْ يُعْجِبْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَلَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ فَأُصِيبُوا بِالْجِرَاحِ؛ لِأَنَّهُمْ رَمَوْا عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَى السُّورِ فَكَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُمْ بِسِهَامِهِمْ وَلَا تَصِلُ السِّهَامُ إِلَى مَنْ عَلَا السُّورِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَهُمْ تَصْوِيبُ الرُّجُوعِ، فَلَمَّا أَعَادَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ بِالرُّجُوعِ أَعْجَبَهُمْ حِينَئِذٍ، وَلِهَذَا قَالَ فَضَحِكَ وَقَوْلُهُ: وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَتَبَسَّمَ هُوَ تَرْدِيدٌ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْخَبَرَ كُلَّهُ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ رَوَاهُ بِغَيْرِ عَنْعَنَةٍ بَلْ ذَكَرَ الْخَبَرَ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْخَبَرِ كُلِّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَفِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَعْمَى يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ فَذَكَرَهُ.
4326، 4327 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَأَبَا بَكْرَةَ - وَكَانَ تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ - فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: سَمِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ؛ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَقَالَ هِشَامٌ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَوْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا، وَأَبَا بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَاصِمٌ: قُلْتُ: لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ حَسْبُكَ بِهِمَا قَالَ: أَجَلْ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الطَّائِفِ.
[الحديث 4326 - طرفه في: 6766]
[الحديث 4327 - طرفه في: 6767]
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: (عَنْ عَاصِمٍ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، وَشَرْحُ الْمَتْنِ يَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ أَبِي بَكْرَةَ وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَكَانَ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الثَّقَفِيِّ، فَتَدَلَّى مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ بِبَكْرَةٍ فَكُنِّيَ أَبَا بَكْرَةَ لِذَلِكَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ نَزَلَ مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ مِنْ عَبِيدِهِمْ فَأَسْلَمَ فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي مِنْهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ: الْمُنْبَعِثُ وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَامِرٍ بْنِ مُعَتِّبٍ،
وَكَذَا مَرْزُوقٌ، وَالْأَزْرَقُ زَوْجُ سُمَيَّةَ وَالِدَةِ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ الَّذِي صَارَ يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ ابْنُ أَبِيهِ، وَالْأَزْرَقُ أَبُو عُقْبَةَ وَكَانَ لِكِلْدَةَ الثَّقَفِيِّ، ثُمَّ حَالَفَ بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهُ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لِيُعَلِّمَهُ الْإِسْلَامَ، وَوَرْدَانُ وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَيُحَنَّسُ النَّبَّالُ وَكَانَ لِابْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَكَانَ لِخَرَشَةَ الثَّقَفِيِّ، وَبَشَّارٌ وَكَانَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَنَافِعٌ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَنَافِعٌ مَوْلَى غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ، وَيُقَالُ: كَانَ مَعَهُمْ زِيَادُ بْنُ سُمَيَّةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ حِينَئِذٍ لِصِغَرِهِ، وَلَمْ أَعْرِفْ أَسْمَاءَ الْبَاقِينَ.
قَوْلُهُ: (تَسَوَّرَ) أَيْ صَعَدَ إِلَى أَعْلَاهُ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلُهُ: تَدَلَّى؛ لِأَنَّهُ تَسَوَّرَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ لِي مَوْصُولًا إِلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ لَكِنْ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَحْدَهُ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَغَرَضُ الْمُصَنِّفِ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ عَدَدِ مَنْ أُبْهِمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَإِنَّ فِيهَا: تَسَوَّرَ مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ وَفِي هَذَا: فَنَزَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الطَّائِفِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سُوَرِ الطَّائِفِ غَيْرُهُ، وَهُوَ شَيْءٌ قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ وَتَبِعَهُ الْحَاكِمُ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ نَزَلَ وَحْدَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ نَزَلَ الْبَاقُونَ بَعْدَهُ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الطَّائِفِ كُلَّ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ رَقِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَوَّلُ الْأَحَادِيثِ فِي قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ بِالْجِعْرَانَةِ.
4328 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا قَالَا: قَبِلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا، فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا، فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ نَازِلٌ الْجِعْرَانَة بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) أَمَّا الْجِعْرَانَةُ فَهِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ الْعَيْنُ، وَهِيَ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ، وَإِلَى مَكَّةَ أَقْرَبُ قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ: بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ بَرِيدٌ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَقَدْ أَنْكَرَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحَ قَوْلَهُ: إِنَّ الْجِعْرَانَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَكَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْجِعْرَانَةَ بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ نَقَلُهُ عَنِ الْفَاكِهِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (أَعْرَابِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي) يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ خَاصًّا بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَكَانَ طَلَبُهُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ نَصِيبَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَمَرَ أَنْ تُجْمَعَ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ بَالْجِعْرَانَةِ وَتَوَجَّهَ هُوَ بِالْعَسَاكِرِ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ حِينَئِذٍ بَالْجِعْرَانَةِ. فَلِهَذَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ اسْتِبْطَاءُ الْغَنِيمَةِ وَاسْتِنْجَازُ قِسْمَتِهَا.
قَوْلُهُ: (أَبْشِرْ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ بِقُرْبِ الْقِسْمَةِ، أَوْ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَى الصَّبْرِ.
قَوْلُهُ: (فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ)
هِيَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَتْ: لِأُمِّكُمَا.
قَوْلُهُ: (فَأَفْضِلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً) أَيْ بَقِيَّةً. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِأَبِي عَامِرٍ، وَلِأَبِي مُوسَى، وَلِبِلَالٍ، وَلِأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهم.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:
4329 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ: فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جنة بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِظ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا، فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَيَعْلَى هُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ التَّمِيمِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِهِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ:
4330 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عن عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ: مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ: لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ.
[الحديث 4330 - طرفه في: 7245]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى وَهُوَ الْمَازِنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولُهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ) أَيْ أَعْطَاهُ غَنَائِمَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَأَصْلُ الْفَيْءِ الرَّدُّ وَالرُّجُوعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيْئًا لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَكَأَنَّ أَمْوَالَ الْكُفَّارِ سُمِّيَتْ فَيْئًا لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ إِذِ الْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْكُفْرُ طَارِئٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا غَلَبَ
الْكُفَّارُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي، فَإِذَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِحَبْسِ الْغَنَائِمِ بَالْجِعْرَانَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ وَصَلَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فِي خَامِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَكَانَتِ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ.
قَوْلُهُ: (قَسَمَ فِي النَّاسِ) حَذَفَ الْمَفْعُولُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَنَائِمُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْبَابِ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ.
وَقَوْلُهُ: (فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَلَّفَةِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ إِسْلَامًا ضَعِيفًا، وَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمُ الَّذِينَ هُمْ أَحَدُ الْمُسْتَحَقِّينَ لِلزَّكَاةِ فَقِيلَ: كُفَّارٌ يُعْطَوْنَ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُسْلِمُونَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ كُفَّارٌ لِيَتَأَلَّفُوهُمْ، وَقِيلَ: مُسْلِمُونَ أَوَّلَ مَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِيَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالْمُؤَلَّفَةِ هُنَا فَهَذَا الْأَخِيرُ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الْبَابِ: فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي فِي بَابِ قَسْمِ الْغَنَائِمِ فِي قُرَيْشٍ وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ وَهُمْ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُهَاجِرِينَ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ سَرَدَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ لَهُ أَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَهُمْ (س) أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، (س) وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بِعْكَكٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ وَهَؤُلَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حصنٍ الْفَزَارِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَيْهَمِ التَّمِيمِيُّ، (س) وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، (س) وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَالْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، وَفِي ذِكْرِ الْأَخِيرَيْنِ نَظَرٌ؛ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا جَاءَا طَائِعِينَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَذَكَرَ الْوَاقِدَيُّ فِي الْمُؤَلَّفَةِ (س) مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ ابْنِي أَبِي سُفْيَانَ، وَأُسِيدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، (س) وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ، (س) وَقِيسَ بْنَ عَدِّي (س) وَعَمْرَو بْنَ وَهْبٍ، (س) وَهِشَامَ بْنَ عَمْرٍو. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ ذَكَرْتُ عَلَامَةَ سِينٍ وَزَادَ: النضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ فِيهِمْ أَبُو عُمَرَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَسَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ، وَمُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيهِمْ: زَيْدَ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَةَ، وابْنَ عُلَاثَةَ، وَحَكِيمَ بْنَ طَلْقِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَالِدَ بْنَ قَيْسٍ السَّهْمِيَّ، وَعُمَيْرَ بْنَ مِرْدَاسٍ.
وَذَكَرَ غَيْرَهُمْ فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَابْنُ أَبِي شَرِيقٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ، وَخَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرٍ الْعَبْدَرِيُّ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُمَارَةَ، وَعَمْرُو بْنُ وَرَقَةَ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ. فَهَؤُلَاءِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِينَ نَفْسًا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْإِجْرَاءُ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْعَطَاءَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ، وَمِنْهُ كَانَ أَكْثَرُ عَطَايَاهُ، وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ لِلْأَعْرَابِيِّ: مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَكِّدُهُ.
وَالَّذِي رَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ جَزَمَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَصَرَّفَ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا انْهَزَمُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا حَتَّى وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ، فَرَدَّ اللَّهُ أَمْرَ الْغَنِيمَةِ لِنَبِيِّهِ. وَهَذَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّابِقِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: دَعُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنْ غَلَبَهُمْ دَخَلْنَا فِي دِينِهِ، وَإِنْ غَلَبُوهُ كَفَوْنَا أَمْرَهُ.
فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ اسْتَمَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ضَلَالِهِ فَجَمَعُوا لَهُ وَتَأَهَّبُوا لِحَرْبِهِ، وَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَ رَسُولَهُ لَا بِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ مِنَ الْقَبَائِلِ وَلَا بِانْكِفَافِ قَوْمِهِ عَنْ قِتَالِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَتِهِ إِيَّاهُمْ قَدَّرَ وُقُوعَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقُوَّةِ عُدَدِهِمْ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ الْحَقَّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنْ لَا يَغْلِبُوا الْكُفَّارَ ابْتِدَاءً لَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ شَامِخَ الرَّأْسِ مُتَعَاظِمًا، فَقَدَّرَ هَزِيمَتَهُمْ ثُمَّ أَعْقَبَهُمُ النَّصْرَ لِيَدْخُلُوا مَكَّةَ كَمَا دَخَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَيْضًا أَنَّ غَنَائِمَ الْكُفَّارِ لَمَّا حُصِّلَتْ ثُمَّ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ لِمَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ فِي مَحَبَّةِ الْمَالِ فَقَسَمَهُ فِيهِمْ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ، وَتَجْتَمِعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. وَمَنَعَ أَهْلَ الْجِهَادِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَرُؤَسَاءِ الْأَنْصَارِ مَعَ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَ ذَلِكَ فِيهِمْ لَكَانَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قِسْمَتِهِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِجْلَابَ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْضَوْنَ إِذَا رَضِيَ رَئِيسُهُمْ، فَما كَانَ ذَلِكَ الْعَطَاءُ سَبَبًا لِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلِتَقْوِيَةِ قَلْبِ مَنْ دَخَلَ فِيهِ قَبْلُ تَبِعَهُمْ مَنْ دُونَهُمْ فِي الدُّخُولِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عَظِيمُ الْمَصْلَحَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْسِمْ فِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ فَتْحِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مَعَ احْتِيَاجِ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَالِ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَحَرَّكَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ لِغَزْوِهِمْ، فَرَأَى كَثِيرُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَكَانُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ لَمْ يَقْذِفِ اللَّهُ فِي قَلْبِ رَئِيسِهِمْ أَنَّ سَوْقَهُ مَعَهُ هُوَ الصَّوَابُ لَكَانَ الرَّأْيُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ دُرَيْدٌ؛ فَخَالَفَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَصْيِيرِهِمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ أَنْ تُقْسَمَ تِلْكَ الْغَنَائِمُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ، وَيُوَكِّلُ مَنْ قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِالْإِيمَانِ إِلَى إِيمَانِهِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّأْلِيفِ رَدُّ مَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَانْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَدَخَلُوا طَائِعِينَ رَاغِبِينَ، وَجَبَرَ ذَلِكَ قُلُوبَ أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ عَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْكَسْرِ وَالرُّعْبِ فَصَرَفَ عَنْهُمْ شَرَّ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعَرَبِ مِنْ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْكَسْرَةِ، وَبِمَا قَيَّضَ لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يُطِيقُونَ مُقَاوَمَةَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ مَعَ شِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا.
وَأَمَّا قِصَّةُ الْأَنْصَارِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ فَقَدِ اعْتَذَرَ رُؤَسَاؤُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ، وَلَمَّا شَرَحَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيمَا صَنَعَ رَجَعُوا مُذْعِنِينَ وَرَأَوْا أَنَّ الْغَنِيمَةَ الْعُظْمَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ عَوْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بِلَادِهِمْ، فَسَلُوا عَنِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَالسَّبَايَا مِنَ الْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ، بِمَا حَازُوهُ مِنَ الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَمُجَاوِرَةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ لَهُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَهَذَا دَأْبُ الْحَكِيمِ يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ مَا يُنَاسِبُهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَكَأَنَّهُمْ وُجُدٌ إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، أَوْ كَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ أَوْرَدَهُ عَلَى الشَّكِّ هَلْ قَالَ: وُجُدٌ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ وَاجِدٍ أَوْ وَجَدُوا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَوَقَعَ لَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحدَهُ: وَجَدُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَصَارَ تَكْرَارًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي أَصْلِ النَّسَفِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ. قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ فِي الثَّانِي أَنْ لَمْ يُصِبْهُمْ يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِالنُّونِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّكْرَارِ، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنَ الْغَضَبِ وَالثَّانِي مِنَ الْحُزْنِ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ غَضِبُوا، وَالْمَوْجِدَةُ الْغَضَبُ يُقَالُ: وَجَدَ فِي نَفْسِهِ إِذَا غَضِبَ، وَيُقَالُ أَيْضًا: وَجَدَ إِذَا حَزَنَ، وَوَجَدَ ضِدُّ فَقَدَ، وَوَجَدَ إِذَا اسْتَفَادَ مَالًا، وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَصَادِرِهِمَا: فَفِي الْغَضَبِ مُوجِدَةٌ، وَفِي الْحُزْنِ وَجْدا بِالْفَتْحِ، وَفِي ضِدِّ الْفَقْدِ وُجْدَانٌ، وَفِي الْمَالِ وُجْدٌ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَصَادِرِ، وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَفِي مَغَازِي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ سَبَبَ حُزْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ. وَالْأَصَحُّ مَا فِي الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ: إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ وَهَذَا أَوْلَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ فِي الْبَابِ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ آخِرَ الْبَابِ إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةً فَنَحْنُ نُدْعَى، وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَطَاءَ كَانَ مِنْ صُلْبِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ مَا رَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَخَطَبَهُمْ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أُدْمٍ، فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ: فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أُدْمٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي؟ فَسَكَتُوا وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهَمْ سَكَتَ وَبَعْضَهَمْ أَجَابَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ قَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ.
وَكَانُوا لَا يَكْذِبُونَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ، وَعُيَيْنَةَ، وَالْأَقْرَعَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي آخَرِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ: أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَلَفْظُهُ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ، وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمُ الْقَالَةُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي. قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ. فَخَرَجَ فَجَمَعَهُمْ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْأَنْصَارِ بِلَا رَيْبٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، وَأَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُ بِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَلَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ نَفْسِهِ فِي النَّفْيِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ رَضِيَ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا) بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ جَمْعُ ضَالٍّ، وَالْمُرَادُ هُنَا ضَلَالَةُ الشِّرْكِ، وَبِالْهِدَايَةِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ رَتَّبَ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى يَدِهِ مِنَ النِّعَمِ تَرْتِيبًا بَالِغًا فَبَدَأَ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَثَنَّى بِنِعْمَةِ الْأُلْفَةِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ تُبْذَلُ فِي تَحْصِيلِهَا وَقَدْ لَا تُحَصَّلُ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي غَايَةِ التَّنَافُرِ وَالتَّقَاطُعِ لِمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَرْبِ بُعَاثَ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، فَزَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}
قَوْلُهُ: (عَالَةً) بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ فُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَالْعَيْلَةُ الْفَقْرُ.
قَوْلُهُ: (كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَالتَّشْدِيدِ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْمَنِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالُوا: مَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ جَعْفَرٍ: لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا وَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا لِأَشْيَاءَ زَعَمَ عَمْرُو بْنُ أَبِي يَحْيَى الْمَازِنِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُهَا. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّاوِي كَنَّى عَنْ ذَلِكَ عَمْدًا عَلَى طَرِيقِ التَّأَدُّبِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِئْتَنَا وَنَحْنُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَهُدِينَا بِكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاكَ، وَنَحْوُهُ فِي مَغَازِي أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا، وَابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا، وَفِي مَغَازِي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِ ذَلِكَ: رَضِينَا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَآمَنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ. فَقَالُوا: بَلِ الْمَنُّ عَلَيْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ أَنْ لَوِ اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ لَقَدْ آثَرَ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا عَنِيفًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ.
وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَإِنْصَافًا، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْمِنَّةُ الظَّاهِرَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْلَا هِجْرَتُهُ إِلَيْهِمْ وَسُكْنَاهُ عِنْدَهُمْ لَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَرْقٌ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تَرْضَوْنَ إِلَخْ فَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ عَظِيمِ مَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حَصَلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.
قَوْلُهُ: (بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ) اسْمُ جِنْسٍ فِيهِمَا، وَالشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَكَذَا الْبَعِيرُ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ بَعْدَهَا وَكَذَا قَتَادَةَ بِالدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (إِلَى رِحَالِكُمْ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بُيُوتِكُمْ وَهِيَ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ قَالُوا: بَلَى وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ حِينَئِذٍ دَعَاهُمْ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ تَكُونُ لَهُمْ خَاصَّةً بَعْدَهُ دُونَ النَّاسِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مَا فُتِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِالدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ تَأَلُّفَ الْأَنْصَارِ وَاسْتِطَابَةَ نُفُوسِهِمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ حَتَّى رَضِيَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْلَا مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْهِجْرَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا، وَنِسْبَةُ الْإِنْسَانِ تَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْوِلَادَةُ، وَالْبِلَادِيَّةُ، وَالِاعْتِقَادِيَّةُ، وَالصِّنَاعِيَّةُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الِانْتِقَالَ عَنْ نَسَبِ آبَائِهِ لِأَنَّهُ مُمْتَنَعٌ قَطْعًا. وَأَمَّا الِاعْتِقَادِيُّ فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِقَالِ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمَانِ الآخران، وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ دَارَ الْأَنْصَارِ وَالْهِجْرَةُ إِلَيْهَا أَمْرًا وَاجِبًا، أَيْ لَوْلَا أَنَّ النِّسْبَةَ الْهِجْرِيَّةَ لَا يَسْعُنِي تَرْكُهَا لَانْتَسَبْتُ إِلَى دَارِكُمْ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانُوا أَخْوَالَهُ لِكَوْنِ أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْوِلَادَةِ لَوْلَا مَانِعُ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمْ يُرِدْ صلى الله عليه وسلم تَغَيُّرَ نَسَبِهِ وَلَا مَحْوَ هِجْرَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ هَاجَرَ لَانْتَسَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، فَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا أَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْهِجْرَةِ نِسْبَةٌ دِينِيَّةٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا لَانْتَسَبْتُ إِلَى دَارِكُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ لَتَسَمَّيْتُ بِاسْمِكُمْ وَانْتَسَبْتُ إِلَيْكُمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَسِبُونَ بِالْحِلْفِ، لَكِنْ خُصُوصِيَّةُ الْهِجْرَةِ وَتَرْبِيَّتُهَا سَبَقَتْ فَمَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِغَيْرِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَكُنْتُ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعِدَادِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَوْلَا أَنَّ ثَوَابَ الْهِجْرَةِ أَعْظَمُ لَاخْتَرْتُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابِي ثَوَابَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُرِدْ ظَاهِرَ النَّسَبِ أَهلًا. وَقِيلَ: لَوْلَا الْتِزَامِي بِشُرُوطِ الْهِجْرَةِ وَمِنْهَا تَرْكُ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ لَاخْتَرْتُ أَنْ أكُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ فَيُبَاحُ لِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَادِي الْأَنْصَارِ)
هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ، وَقِيلَ: الَّذِي فِيهِ مَاءٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَلَدُهُمْ. وَقَوْلُهُ: شِعْبُ الْأَنْصَارِ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَقِيلَ: الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. وَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وَبِمَا بَعْدَهُ التَّنْبِيهَ عَلَى جَزِيلِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ النُّصْرَةِ وَالْقَنَاعَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الدُّنْيَا. وَمَنْ هَذَا وَصْفُهُ فَحَقُّهُ أَنْ يُسْلَكَ طَرِيقُهُ وَيُتَّبَعُ حَالُهُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ فِي نُزُولِهِ وَارْتِحَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ، وَأَرْضُ الْحِجَازِ كَثِيرَةُ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَإِذَا تَفَرَّقَتْ فِي السَّفَرِ الطُّرُقُ سَلَكَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ وَادِيًا وَشِعْبًا. فَأَرَادَ أَنَّهُ مَعَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْوَادِ الْمَذْهَبَ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ.
قَوْلُهُ: (الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ) الشِّعَارُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ خَفِيفَةٌ: الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجِلْدَ مِنَ الْجَسَدِ. وَالدِّثَارُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَمُثَلَّثَةٍ خَفِيفَةٍ الَّذِي فَوْقَهُ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لَطِيفَةٌ لِفَرْطِ قُرْبِهِمْ مِنْهُ. وَأَرَادَ أَيْضًا أَنَّهُمْ بِطَانَتُهُ وَخَاصَّتُهُ وَأَنَّهُمْ أَلْصَقُ بِهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا.
قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحَتَيْنِ، وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ مَعَ الْإِسْكَانِ، أَيِ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: أَثَرَةً شَدِيدَةً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ اشْتَرَاكٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ فِي الْفَيْءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَثَرَةِ الشِّدَّةُ. وَيَرُدُّهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَسَبَبُهُ.
قَوْلُهُ: (فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَيِ اصْبِرُوا حَتَّى تَمُوتُوا، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَيَحْصُلُ لَكُمُ الِانْتِصَافُ مِمَّنْ ظَلَمَكُمْ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ عَلَى الصَّبْرِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَحُسْنِ أَدَبِ الْأَنْصَارِ فِي تَرْكِهِمُ الْمُمَارَاةَ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْحَيَاءِ، وَبَيَانِ أَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَنْ شُبَّانِهِمْ لَا عَنْ شُيُوخِهِمْ وَكُهُولِهِمْ. وَفِيهِ مَنَاقِبُ عَظِيمَةٌ لَهُمْ لِمَا اشْتَمَلَ مِنْ ثَنَاءِ الرَّسُولِ الْبَالِغِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْكَبِيرَ يُنَبِّهُ الصَّغِيرَ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَيُوَضِّحُ لَهُ وَجْهَ الشُّبْهَةِ لِيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ. وَفِيهِ الْمُعَاتَبَةُ وَاسْتِعْطَافُ الْمُعَاتِبِ وَإِعْتَابُهُ عَنْ عَتْبِهِ بِإِقَامَةِ حُجَّةِ مَنْ عَتَبَ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِذَارُ وَالِاعْتِرَافُ. وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِقَوْلِهِ: سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا. وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلَ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ. وَأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَقَّهُ مِنَ الدُّنْيَا لَا عَتْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَمَشْرُوعِيَّةُ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ الَّذِي يَحْدُثُ سَوَاءً كَانَ خَاصًّا أَمْ عَامًّا. وَفِيهِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْخَاطبِينَ فِي الْخُطْبَةِ.
وَفِيهِ تَسْلِيَةُ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا مِمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَالْحَضُّ عَلَى طَلَبِ الْهِدَايَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْغِنَى، وَأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَقْدِيمُ جَانِبِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَالصَّبْرُ عَمَّا فَاتَ مِنْهَا لِيَدَّخِرَ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
4331 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ
مِنْ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا.
4332 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ، فَغَضِبَتْ الْأَنْصَارُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ.
4333 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوَازِنُ، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ فَأَدْبَرُوا، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ لَبَّيْكَ، نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَى الطُّلَقَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَقَالُوا: فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَاخْتَرْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأْنَا هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ) فِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْ هِشَامٍ.
4334 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا؛ لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
4337 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِيهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ،
وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةُ آلَافٍ وَمِنْ الطُّلَقَاءِ فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ فَسَكَتُوا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ قَالُوا: بَلَى فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَأَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ هِشَامٌ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلكَ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟
الْحَدِيثُ السَّابِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ، أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي التَّيَّاحِ، وَهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ كُلِّهِمْ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْآخَرِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَهِشَامٌ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، وَأَبُو التَّيَّاحِ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَكَذَا طَرِيقُ قَتَادَةَ. وَهِشَامُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ ابْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: فَالْأُولَى عَنْ أَزْهَرَ، وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ الْعَنْبَرِيُّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَمِيعُهُمْ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ فِي قُرَيْشٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخِهِ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَهِيَ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ غَنَائِمَ قُرَيْشٍ وَلِبَعْضِهِمْ: غَنَائِمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ مَكَّةَ لَمَّا فُتِحَتْ قُسِمَتْ غَنَائِمُ قُرَيْشٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ زَمَانُ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْمَلُ السَّنَةَ كُلَّهَا، وَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ نَاشِئَةً عَنْ غَزْوَةِ مَكَّةَ أُضِيفَتْ إِلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ عَكْسُهُ، وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مَكَّةُ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ يُرِيدُ غَنَائِمَ هَوَازِنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ غَنِيمَةٌ تُقْسَمُ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَزَا حُنَيْنًا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقَرِيبَةِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي فَتْحُ مَكَّةَ هَوَازِنَ؛ لِأَنَّ الْخُلُوصَ إِلَى مُحَارَبَتِهِمْ كَانَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ خَطَّأَ الْقَابِسِيُّ الرِّوَايَةَ وَقَالَ: الصَّوَابُ فِي قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ قَالَتِ الْأَنْصَارُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهْوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ، فَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ (إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ) كَذَا وَقَعَ بِالْإِفْرَادِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ حَدِيثُو عَهْدٍ، وَكَتَبَهَا الدِّمْيَاطِيُّ بِخَطِّهِ: حَدِيثُو عَهْدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ أَجْبُرَهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ زَاي مِنَ الْجَائِزَةِ.
قَوْلُهُ فِي
رِوَايَةِ مُعَاذٍ: (عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّ الطُّلَقَاءَ لَمْ يَبْلُغُوا هَذَا الْقَدْرَ وَلَا عُشْرَ عُشْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ مُقَدَّرَةٌ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ تَقْدِيرَ حَرْفِ الْعَطْفِ.
قُولُهُ فِي آخِرِهِ: (وَقَالَ هِشَامٌ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ) هُوِ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ: شَاهِدٌ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَاهِدٌ ذَاكَ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟ هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ يُقَرِرُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ أَنَسًا يَغِيبُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحُوزُونَهُ إِلَى بَيُوتِكُمْ كَذَا لَلْجَمِيعِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ مِنَ الْحَوْزِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْكَرْمَانِيِّ تَجِيرُونَهُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ الْوَاوِ، وَضَبَطَهُ بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ تُنْقِذُونَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ نَقْلًا وَتَفْسِيرًا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: فَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَينِ.
4335 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ حُنَيْنٍ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى؛ لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.
4336 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاسًا أَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (آثَرَ نَاسًا، أَعْطَى الْأَقْرَعَ) أَيِ ابْنَ حَابِسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيَّ الْمُجَاشِعِيَّ، قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ فِرَاس، وَالْأَقْرَعُ لَقَبُهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ) أَيِ ابْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيَّ.
قَوْلُهُ: (وَأَعْطَى نَاسًا) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ قَرِيبًا، وَفِي هَذِهِ الْعَطِيَّةِ يَقُولُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ مِائَةَ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ. فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ
…
بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ
…
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
…
وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
قَالَ: فَأَكْمَلَ لَهُ الْمِائَةَ وَسَاقَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: (فَقَالَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مُغْلَطَاي حَيْثُ قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا مَا وَقَعَ هُنَا وَجَزَمَ بِأَنَّهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قِصَّةَ حُرْقُوصٍ غَيْرُ هَذِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (مَا أَرَادَ بِهَا) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ مَا أُرِيدَ بِهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ.
قَوْلُهُ: (فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ حَتَّى نَدِمْتُ عَلَى مَا بَلَّغْتُهُ.
قَوْلُهُ: (رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى) تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ شَرْحِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالصَّفْحُ عَنِ الْأَذَى، وَالتَّأَسِّي بِمَنْ مَضَى مِنَ النُّظَرَاءِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُقَدَّمًا عَلَى طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالصَّوَابُ تَأْخِيرُهُ لِتَتَوَالَى طُرُقُ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَظُنُّهُ مِنْ تَغْيِيرِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَإِنَّ طَرِيقَ أَنَسٍ الْأَخِيرَةَ سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَلْحَقَهَا فَكُتِبَتْ مُؤَخَّرَةً عَنْ مَكَانِها.
57 - بَاب السَّرِيَّةِ الَّتِي قِبَلَ نَجْدٍ
4338 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَكُنْتُ فِيهَا فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا، فَرَجَعْنَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّرِيَّةِ الَّتِي قِبَلَ نَجْدٍ) قِبَلَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ فِي جِهَةِ نَجْدٍ، هَكَذَا ذَكَرَنا بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ التَّوَجُّهِ لِفَتْحِ مَكَّةَ. فَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ مُؤْتَةَ، وَمُؤْتَةُ كَانَتْ فِي جُمَادَى كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ السَّنَةِ. وَقِيلَ: كَانَتْ فِي رَمَضَانَ. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ أَمِيرَهَا، وَكَانُوا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَغَنِمُوا مِنْ غَطَفَانَ بِأَرْضِ مُحَارِبٍ مِائَتِي بَعِيرٍ وَأَلْفَيْ شَاةٍ. وَالسَّرِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هِيَ الَّتِي تَخْرُجُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّارِيَةُ الَّتِي تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخْفِي ذَهَابَهَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا أُخِذَتْ مِنَ السِّرِّ وَلَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّةِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ مِائَةٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ فَمَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ يُقَالُ لَهُ: مَنْسَرٌ بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّمَانِمِائَةِ سُمِّيَ جَيْشًا، وَمَا بَيْنَهُمَا يُسَمَّى هَبْطَةً، فَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ يُسَمَّى جَحْفَلًا، فَإِنْ زَادَ فَجَيْشٌ جَرَّارٌ، وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَمَا افْتَرَقَ مِنَ السَّرِيَّةِ يُسَمَّى بَعْثًا، فَالْعَشَرَةُ فَمَا بَعْدَهَا تُسَمَّى حَفِيرَةً، وَالْأَرْبَعُونَ عُصْبَةً، وَإِلَى ثَلَاثِمِائَةِ مِقْنَبٌ بِقَافٍ وَنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، فَإِنْ زَادَ سُمِّيَ جَمْرَةً بِالْجِيمِ، وَالْكَتِيبَةُ مَا اجْتَمَعَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ.
وحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَفِي ذِكْرِهِ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ إشَارَةٌ إِلَى اتِّحَادِهُمَا.
58 - بَاب بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ
4339 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ.
ح وَحَدَّثَنِي نُعَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ، أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيهُ فَقالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ.
[الحديث 4339 - طرفه في 7189]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ، أَيِ ابْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ. وَوَهَمَ الْكَرْمَانِيُّ فَظَنَّ أَنَّهُ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفٍ قَبِيلَةٍ مِنْ عَبْدِ قِيسٍ، وَهَذَا الْبَعْثُ كَانَ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى حُنَيْنٍ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَغَازِي، وَكَانُوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ مِنْ نَاحِيَةِ يَلَمْلَمَ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دَاعِيًا إِلَى الْإِسْلَامِ لَا مُقَاتِلًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ.
وَقَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي نُعَيْمٌ) هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ الَّذِي هُنَا لَفْظُ ابْنِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ - يَعْنِي الْبَاقِرَ - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ إِلَى جَذِيمَةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا) هَذَا مِنَ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْإِسْلَامَ حَقِيقَةً. وَيُؤَيِّدُهُ فَهْمُهُ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ أَسْلَمَ: صَبَأَ حَتَّى اشْتَهَرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَصَارُوا يُطْلِقُونَهَا فِي مَقَامِ الذَّمِّ. وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ وَقَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا قَالُوا لَهُ: صَبَأْتَ؟ قَالَ: لَا بَلْ أَسْلَمْتُ. فَلَمَّا اشْتَهَرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بَيْنَهُمْ فِي مَوْضِعِ: أَسْلَمْتُ اسْتَعْمَلَهَا هَؤُلَاءِ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَحَمَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ صَبَأْنَا أَيْ خَرَجْنَا مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلَمْ يَكْتَفِ خَالِدٌ بِذَلِكَ حَتَّى يُصَرِّحُوا بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَالِدٌ نَقَمَ عَلَيْهِمُ الْعُدُولَ عَنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْأَنَفَةِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا إِلَى الدِّينِ فَقَتَلَهُمْ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ) فِي كَلَامِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَأْسِرُوا فَاسْتَأْسَرُوا فَكَتَّفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفَرَّقَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمْ أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ بَعْدَ الْمُحَارَبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ) أَيْ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّرِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِرِ فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلَاحَ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَكُتِّفُوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ) كَذَا بِالتَّنْوِينِ أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانَ تَامَّةٌ، وَعِنْدَ أَبِي سَعْدٍ: فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ نَادَى خَالِدٌ: مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كُلُّ إِنْسَانٍ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ)، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فَأَمَّا بَنُو سُلَيمٍ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ إِذَا وَثِقَ بِطَوَاعِيَّتِهِ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكِ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْعَجَلَةَ
وَتَرْكَ التَّثبيتِ فِي أَمْرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَبَأْنَا.
قَوْلُهُ: (مَرَّتَيْنِ) زَادَ ابْنُ عَسْكَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَوْ ثَلَاثَةً أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَزَادَ الْبَاقِرُ فِي رِوَايَتِهِ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ. فَخَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَدَاهُ، وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي زِيَادَاتِهِ أَنَّهُ انْفَلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَبَرِ، فَقَالَ: هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ فَوَصَفَ لَهُ صِفَةَ ابْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي خَيْلِ خَالِدٍ فَقَالَ لِي فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ فِي عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ: يَا فَتَى، هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ فَقَائِدِي إِلَى هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقُدْتُهُ بِهَا فَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْشُ. قَبْلَ نِفَادِ الْعَيْشُ.
أَرَيْتُكِ إِنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ
…
بِحِلْيَةٍ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
الْأَبْيَاتَ، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: وَأَنْتَ نَجَّيْتَ عَشْرًا، وَتِسْعًا وَوِتْرًا، وَثَمَانِيةً تَتْرَى. قَالَ: ثُمَّ ضَرَبْتُ عُنُقَ الْفَتَى، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبِّلُهُ حَتَّى مَاتَتْ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَالَ فِيهَا: فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، إِنِّي عَشِقَتُ امْرَأَةً مِنْهُمْ فَدَعُونِي أَنْظُرُ إِلَيْهَا نَظْرَةً - قَالَ فِيهِ - فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ؟ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَانْحَصرَتْ إِلَيْهِ مِنْ هَوْدَجِهَا فَحَنَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ.
59 - بَاب سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَرِيَّةُ الْأَنْصَارِ ي
4340 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا فَقَالَ: ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. والطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.
[الحديث 4340 - طرفاه: 7145، 7257]
قَوْلُهُ: (بَابُ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَرِيَّةُ الْأَنْصَاريِّ) قُلْتُ: كَذَا تَرْجَمَ، وَأَشَارَ بِأَصْلِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ عَلَى بَعْثٍ أَنَا فِيهِمْ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَأْسِ غَزَاتِنَا أَوْ كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَذِنَ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِنَحْوِ هَذَا السِّيَاقِ. وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهَا أَنَّهُ بَلَغَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّ نَاسًا مِنَ الْحَبَشَةِ تَرَاآهُمْ أَهْلُ جِدَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَانْتَهَى إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا خَاضَ الْبَحْرَ إِلَيْهِمْ هَرَبُوا، فَلَمَّا رَجَعَ تَعَجَّلَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَى أَهْلِهِمْ، فَأَمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ وَقَّاصَ بْنَ مُجَزِّزٍ كَانَ قُتِلَ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ، فَأَرَادَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ أَنْ يَأْخُذَ بِثَأْرِهِ فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ. قُلْتُ: وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَأَرَّخَهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَرِيَّةُ الْأَنْصَارِيِّ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى احْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِي لِاخْتِلَافِ سِيَاقِهِمَا وَاسْمِ أَمِيرِهِمَا، وَالسَّبَبُ فِي أَمْرِهِ بِدُخُولِهِمُ النَّارَ، وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَيُبْعِدُهُ وَصْفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ الْقُرَشِيِّ الْمُهَاجِرِيِّ بِكَوْنِهِ أَنْصَارِيًّا، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيُحْتَمَلُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْ أَنَّهُ نَصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَى التَّعَدُّدِ جَنَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ. وَأَمَّا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: مِنَ الْأَنْصَارِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَهْمِيٌّ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ فَقَالَ: رَجُلًا وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ فَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَعَنِ الْقَابِسِيِّ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: وَأَغْرَبَ الْكَرْمَانِيُّ فَحَكَى أَنَّهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ فَتْحًا وَكَسْرًا، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ وَلَدُ الْقَائِفِ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي النِّكَاحِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَابْنِهِ أُسَامَةَ: إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ فَعَلْقَمَةُ صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ السُّلَمِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَغَضِبَ) فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الْأَحْكَامِ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، وَهَذَا يُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِنَّ فِيهِ فَأَوْقَدَ الْقَوْمُ نَارًا لِيَصْنَعُوا عَلَيْهَا صَنِيعًا لَهُمْ أَوْ يَصْطَلُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَيْسَ عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ؟ قَالُوا: بَلَى، أَعْزِمُ عَلَيْكُمْ بِحَقِّي وَطَاعَتِي لَمَا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِيهَا فَقَامُوا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ لَهُمْ شَابٌّ مِنْهُمْ: لَا تَعْجَلُوا بِدُخُولِهَا وَفِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ: فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَخَمَدَتْ هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ طَفِئَ لَهَبُهَا، وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ كَسْرَ الْمِيمِ مِنْ خَمِدَتْ.
قَوْلُهُ: (فَسَكَنَ غَضَبُهُ) هَذَا أَيْضًا يُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَتْ بِهِ دُعَابَةٌ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ تَحَجَّزُوا حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا فَقَالَ: احْبِسُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّمَا كُنْتُ أَضْحَكُ مَعَكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ
مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا وَفِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ فَلَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَعْنِي أَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا مَعْصِيَةٌ، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقُّ النَّارَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَوْ دَخَلُوهَا مُسْتَحِلِّينَ لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا. وَعَلَى هَذَا فَفِي الْعِبَارَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَوْ دَخَلُوهَا لِلنَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَالضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا لِنَارِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّارِ الَّتِي أُوقِدَتْ لَهُمْ أَيْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا بِسَبَبِ طَاعَةِ أَمِيرِهِمْ لَا تَضُرُّهُمْ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا فِيهَا لَاحْتَرَقُوا فَمَاتُوا، فَلَمْ يَخْرُجُوا.
قَوْلُهُ: (الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَفِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ: لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ - أَيِ الَّذِينَ امْتَنَعُوا - قَوْلًا حَسَنًا وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ يَنْفُذُ مِنْهُ مَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، وَأَنَّ الْغَضَبَ يُغَطِّي عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يُنَجِّي مِنَ النَّارِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ وَالْفِرَارُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِرَارٌ إِلَى اللَّهِ، وَالْفِرَارُ إِلَى اللَّهِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَعُمُّ الْأَحْوَالَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوا الْأَمِيرَ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَفِي حَالِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ أَنَّ الْجَمْعَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ لِانْقِسَامِ السَّرِيَّةِ قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ دُخُولُ النَّارِ فَظَنَّهُ طَاعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ سَبَبًا لِرَحْمَةِ الْجَمِيعِ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي خَيْرٍ، وَلَوْ قَصَدَ الشَّرَّ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ: مَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ وَقَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ.
60 - بَاب بَعْثُ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4341، 4342 - حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ، ثُمَّ قَالَ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَيُّمَ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، قَالَ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ قَالَ: إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ قَالَ: مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ: أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا قَالَ: فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ، وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنْ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي.
[الحديث 4342 - طرفه في: 4345]
قَوْلُهُ: (بَابُ بَعْثِ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثَ الْبَابِ أَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ فَلَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَكِنَّ الْقَبْلِيَّةَ نِسْبِيَّةٌ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الزَّكَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ مَتَى كَانَ بَعْثُهُ إِلَى الْيَمَنِ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ يُوصِيهِ وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ الْحَدِيثَ. وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ، عَنْ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: قَدْ بَعَثْتُكَ إِلَى قَوْمٍ رَقِيقَةٍ قُلُوبُهُمْ، فَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى) هَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِطَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَشْرِبَةِ، لَكِنِ الْغَرَضَ مِنْهُ إِثْبَاتُ قِصَّةِ بَعْثِ أَبِي مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ، ثُمَّ قَوَّاهُ بِطَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَرْضِ قَوْمِي الْحَدِيثَ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْإِهْلَالِ، لَكِنَّهُ يُثْبِتُ أَصْلَ قِصَّةِ الْبَعْثِ الْمَقْصُودَةِ هُنَا أَيْضًا، ثُمَّ قَوَّى قِصَّةَ مُعَاذٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَيْضًا إِثْبَاتُ أَصْلِ قِصَّةِ بَعْثِ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي مَعْنًى آخَرَ، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْبَابُ عَلَى عِدَّةِ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَصْلُ الْبَعْثَ إِلَى الْيَمَنِ، وَسَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى سَبَبُ بَعْثِهِ إِلَى الْيَمَنِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: أَقْبَلْتُ وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَكِلَاهُمَا سَأَلَ - يَعْنِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ - فَقَالَ: لَنْ نَسْتَعْمِلَ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ.
قَوْلُهُ: (وَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ، قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ) الْمِخْلَافُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ فَاءٌ، هُوَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ الْكُورَةُ وَالْإِقْلِيمُ وَالرُّسْتَاقُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَآخِرُهَا قَافٌ. وَكَانَتْ جِهَةُ مُعَاذٍ الْعُلْيَا إِلَى صَوْبِ عَدَنَ، وَكَانَ مِنْ عَمَلِهِ الْجَنَدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ، وَلَهُ بِهَا مَسْجِدٌ مَشْهُورٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَانَتْ جِهَةُ أَبِي مُوسَى السُّفْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَعْنَى الثَّانِي مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَنْ يُقَالَ: بَشِّرَا وَلَا تُنْذِرَا وَآنِسَا وَلَا تُنَفِّرَا. فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَعُمَّ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ، وَالتَّأْنِيسَ وَالتَّنْفِيرَ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النُّكْتَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الْبِشَارَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِلَفْظِ التَّنْفِيرِ وَهُوَ اللَّازِمُ، وَأَتَى بِالَّذِي بَعْدَهُ عَلَى الْعَكْسِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يُنْفَى مُطْلَقًا بِخِلَافِ التَّنْفِيرِ، فَاكْتَفَى بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْإِنْذَارُ وَهُوَ التَّنْفِيرُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ أَنْذَرْتُمْ فَلْيَكُنْ بِغَيْرِ تَنْفِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا}
قَوْلُهُ: (إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا) كَذَا فِيهِ، وَلِلْأَكْثَرِ إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ وَكَانَ قَرِيبًا أَحْدَثَ - أَيْ جَدَّدَ - بِهِ الْعَهْدَ لِزِيَارَتِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ فَجَعَلَا يَتَزَاوَرَانِ، فَزَارَ مُعَاذٌ، أَبَا مُوسَى زَادَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ انْزِلْ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مَعَ شَرْحِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَقَوْلُهُ:(أَيْمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَرْكِ إِشْبَاعِهَا لُغَةٌ، وَأَخْطَأَ مَنْ ضَمَّهَا وَأَصْلُهُ أَيِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ دَخَلَتْ عَلَيْهَا مَا وَقَدْ سُمِعَ أَيْمَ هَذَا بِالتَّخْفِيفِ مِثْلَ إِيشَ هَذَا فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ (أَيْمَ) وَالْهَمْزُ مِنْ (إِيشَ).
قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ) هُوَ اسْمُ أَبِي مُوسَى (كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا) بِالْفَاءِ ثُمَّ الْقَافِ أَيْ أُلَازِمُ قِرَاءَتَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحِينًا بَعْدَ حِينٍ: مَأْخُوذٌ مِنْ فَوَاقِ النَّاقَةِ وَهُوَ أَنْ تُحْلَبَ ثُمَّ تُتْرَكَ سَاعَةً حَتَّى تَدِرَّ ثُمَّ تُحْلَبُ هَكَذَا دَائِمًا.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ لَعَلَّهُ: أَرْبِي وَهُوَ الْوَجْهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لَوْ جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، وَلَكِنِ الَّذِي جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ جَزَّأَ اللَّيْلَ أَجْزَاءً: جُزْءًا لِلنَّوْمِ، وَجُزْءًا لِلْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَخْطِئَةِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الْمُوَجَّهَةِ بِمُجَرَّدِ التَّخَيُّلِ.
قَوْلُهُ: (فَاحْتَسَبْتُ نَوْمَتِي كَمَا احْتَسَبْتُ قَوْمَتِي) كَذَا لَهُمْ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَحْتَسِبُ بِغَيْرِ الْمُثَنَّاةِ فِي آخِرِهِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ الثَّوَابَ فِي الرَّاحَةِ كَمَا يَطْلُبُهُ فِي التَّعَبِ؛ لِأَنَّ الرَّاحَةَ إِذَا قُصِدَ بِهَا الْإِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ حَصَّلَتِ الثَّوَابَ.
(تَنْبِيهٌ): كَانَ بَعْثُ أَبِي مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ عَالِمًا فَطِنًا حَاذِقًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوَلِّهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِمَارَةَ، وَلَوْ كَانَ فَوَّضَ الْحُكْمَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْصِيَتِهِ بِمَا وَصَّاهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ، فَطَعَنُوا فِيهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَفْلَةِ، وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي وَصْفُهُ بِذَلِكَ، وَغَايَةُ مَا وَقَعَ مِنْهُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَدَّاهُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ
(1)
لِمَا شَاهَدَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِصِفِّينَ، وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
4343 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ فَقُلْتُ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. رَوَاهُ جَرِيرٌ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.
4344، 4345 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَدَّهُ أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ الْمِزْرُ، وَشَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ الْبِتْعُ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَانْطَلَقَا فَقَالَ مُعَاذٌ، لِأَبِي مُوسَى: كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي، وَضَرَبَ فُسْطَاطًا فَجَعَلَا يَتَزَاوَرَانِ فَزَارَ مُعَاذٌ، أَبَا مُوسَى، فَإِذَا
(1)
هذا ما اتفق عليه الحكمان، وهو خلاف ما دسته الشيعة في كتب التاريخ وشوهته، فاستقر في الأذهان خطأ، لتداول مؤلفي كتب التاريخ هذا الخطأ وإقرارهم له على غير ما وقع. انظر تحقيق ذلك في كتاب "العواصم من القواصم" للقاضي أبي بكر بن العربي وتعليقات محب الدين الخطيب عليه.
رَجُلٌ مُوثَقٌ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَهُودِيٌّ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَالَ مُعَاذٌ: لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. تَابَعَهُ الْعَقَدِيُّ، وَوَهْبٌ، عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ وَكِيعٌ، وَالْنَّضْرُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَالشَّيْبَانِيُّ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزَ.
قَوْلُهُ: (الْبِتْعُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، وَقَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ رَاوِيهِ وَأَنَّهُ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ جَرِيرٌ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) يَعْنِي أَنَّهُمَا رَوَيَاهُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بِدُونِ ذِكْرِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ جَرِيرٍ وَهُوَ ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى به، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، فَوَصَلَهَا
(1)
.
ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ عَنْ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ:(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا مُطَوَّلًا فِيهِ قِصَّةُ بَعْثِهِمَا، وَذِكْرُ الْأَشْرِبَةِ وَقِصَّةُ الْيَهُودِيِّ، وَسُؤَالُ مُعَاذٍ، عَنِ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَقَالَ بَعْدَهُ: تَابَعَهُ الْعَقَدِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ وَكِيعٌ، وَالنَّضْرُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ يَعْنِي أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْعَقَدِيَّ، وَوَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، أَرْسَلُوهُ عَنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّ وَكِيعًا، وَالنَّضْرَ وَهُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبَا دَاوُدَ، وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ، رَوَوْهُ عَنْ شُعْبَةَ مَوْصُولًا، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْعَقَدِيِّ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَوَصَلَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ وَكِيعٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْجِهَادِ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ مُطَوَّلًا، وَهِيَ فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فَوَصَلَهَا كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَلِذَلِكَ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ.
4346 -
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ هُوَ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَرْضِ قَوْمِي فَجِئْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنِيخٌ بِالْأَبْطَحِ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ إِهْلَالًا كَإِهْلَالِكَ قَالَ: فَهَلْ سُقْتَ مَعَكَ هَدْيًا؟ قُلْتُ: لَمْ أَسُقْ قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَاسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ، فَفَعَلْتُ حَتَّى مَشَطَتْ لِي امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ، وَمَكُثْنَا بِذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ (هُوَ النَّرْسِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ وَالْأَكْثَرُ هَكَذَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ يَعْنِي الْجُرْجَانِيَّ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ وَلَمْ
(1)
هكذا بياض في النسخ
يَنْسِبْهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. إِنَّمَا هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ النَّرْسِيُّ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَجَزَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ، وَأَمَّا الدِّمْيَاطِيُّ فَضَبَطَهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَعَيَّنَ أَنَّهُ الرَّقَّامُ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ النَّرْسِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ عَائِذٍ بِتَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ مُدْلِجِيٌّ بَصْرِيٌّ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَرُمِيَ بِالْإِرْجَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ شَيْخِ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى.
4347 -
حَدَّثَنِي حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: طَوَّعَتْ: طَاعَتْ وَأَطَاعَتْ لُغَةٌ. طِعْتُ وَطُعْتُ وَأَطَعْتُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي حِبَّانُ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ نُونٍ ابْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي بَعَثَهُ فِيهِ وَمَا فِيهِ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: طَوَّعَتْ طَاعَتْ وَأَطَاعَتْ) وَقَعَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} عَلَى عَادَتِهِ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَةِ الْغَرِيبَةِ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا وَافَقَتْ لَفْظَةً مِنَ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا فَإِنَّ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ التِّينِ فَإِنْ هُمْ طَاعُوا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَدْ قَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ فَطَاوَعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَهُ فَقَدْ أَطَاعَهُ، وَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ طَاوَعَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الطَّوْعُ نَقِيضُ الْكُرْهِ، وَطَاعَ لَهُ انْقَادَ، فَإِذَا مَضَى لِأَمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: طَاعَ وَأَطَاعَ بِمَعْنَى. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْضًا: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: طَاعَ لَهُ يَطُوعُ طَوْعًا فَهُوَ طَائِعٌ بِمَعْنَى أَطَاعَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ طَاعَ وَأَطَاعَ اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا إِمَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلَ (بَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ) وَأَبْدَأَهُ، أَوْ دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ وَفِي اللَّازِمِ لِلصَّيْرُورَةِ، أَوْ ضَمَّنَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ فَسَرُّوا أَطَاعَ بِمَعْنَى لَانَ وَانْقَادَ، وَهُوَ اللَّائِقُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الرُّبَاعِيِّ التَّعَدِّيَ وَفِي الثُّلَاثِيِّ اللُّزُومَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى فَعَلَ وَأَفْعَلَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لِكَوْنِهِ قَلِيلًا، وَأَوْلَى مِنْ دَعْوَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ زَائِدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: طُعْتُ طِعْتُ وَأَطَعْتُ: الْأَوَّلى بِالضَّمِّ وَالثَّانِيَةُ بِالْكَسْرِ وَالثَّالِثَةُ بِالْفَتْحِ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ فِي أَوَّلِهِ.
4348 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: أَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.
زَادَ مُعَاذٌ:، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَرَأَ مُعَاذٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ النِّسَاءِ فَلَمَّا قَالَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} قَالَ رَجُلٌ خَلْفَهُ: قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) هُوَ الْأَوْدِيُّ وَهُوَ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ) هُوَ مَوْصُولٌ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ كَانَ بِالْيَمَنِ لَمَّا قَدِمَهَا مُعَاذٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ) أَيْ حَصَلَ لَهَا السُّرُورُ، وَكَنَّى عَنْهُ بِقَرَّتْ عَيْنُهَا أَيْ بَرَدَتْ دَمْعَتُهَا؛ لِأَنَّ دَمْعَةَ السُّرُورِ بَارِدَةٌ بِخِلَافِ دَمْعَةِ الْحُزْنِ فَإِنَّهَا حَارَّةٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِيمَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ: أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ تَقْرِيرُ مُعَاذٍ لِهَذَا الْقَائِلِ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِ أَمْرِهِ بِالْإِعَادَةِ، وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ إِمَّا بِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالْحُكْمِ يُعْذَرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ، أَوْ كَانَ الْقَائِلُ خَلْفَهُمْ وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (زَادَ مُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ) فَذَكَرَهُ، الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ قَوْلُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُنَافَاةٌ؛ لِأَنَّ مُعَاذًا إِنَّمَا قَدِمَ الْيَمَنَ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، فَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَالِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ.
61 - بَاب بَعْثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4349 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ، فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَهُ قَالَ: فَغَنِمْتُ أَوَاقي ذَوَاتِ عَدَدٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) قَدْ ذُكِرَ فِي آخِرِ الْبَابِ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ فَلَاقَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ أَسَنَّ مِنِّي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ لَا أَبْصُرُ الْقَضَاءَ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لِسَانَهُ، وَاهْدِ قَلْبَهُ، وَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ.
قَوْلُهُ: (شُرَيْحُ) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ) كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنَ الطَّائِفِ وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ بَالْجِعْرَانَةِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ)
أَيْ يَرْجِعَ إِلَى الْيَمَنِ، وَالتَّعْقِيبُ أَنْ يَعُودَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ بَعْدَ الرُّجُوعِ لِيُصِيبُوا غَزْوَةً مِنَ الْغَدِ، كَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: غَزَاةٌ بَعْدَ غَزَاةٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرْسِلُ الْعَسْكَرَ إِلَى جِهَةٍ مُدَّةً فَإِذَا انقضت رَجَعُوا وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمْ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْعَسْكَرِ الْأَوَّلِ مَعَ الْعَسْكَرِ الثَّانِي سُمِّيَ رُجُوعُهُ تَعْقِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَغَنِمْتُ أَوَاقِيَّ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا.
وَقَوْلُهُ: (ذَوَاتِ عَدَدٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَحْرِيرِهَا.
(تَنْبِيهٌ): أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي السَّفَرِ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ فَزَادَ فِيهِ: قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ مِمَّنْ عَقِبَ مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا، فَصَلَّى بِنَا عَلِيٌّ وَصَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ جَمِيعًا، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَحْوَصِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ قِصَّةُ الْجَارِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ بُرَيْدَةَ:
4350 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ، وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ، أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: لَا تُبْغِضْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ مَنْجُوفٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ سَدُوسِيٌّ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ) أَيِ ابْنِ الْوَلِيدِ (لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ) أَيْ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الَّتِي سَأَذْكُرُهَا لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ أَبْغَضُ عَلِيًّا وَقَدِ اغْتَسَلَ فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ إِلَى رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالَ فِي سِيَاقِهِ: بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ لِيَقْسِمَ الْفَيْءَ، فَاصْطَفَى عَلِيٌّ مِنْهُ لِنَفْسِهِ سَبِيئَةً بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ هَمْزَةٌ أَيْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ أَصْبَحَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ، فَقَالَ خَالِدٌ، لِبُرَيْدَةَ: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَ هَذَا؟ قَالَ بُرَيْدَةَ: وَكُنْتُ أَبْغَضُ عَلِيًّا وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبْغَضْتُ عَلِيًّا بُغْضًا لَمْ أَبْغَضْهُ أَحَدًا، وَأَحْبَبْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أُحِبَّهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ. عَلِيًّا، قَالَ: فَأَصَبْنَا سَبْيًا فَكَتَبَ - أَيِ الرَّجُلُ - إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ يُخَمِّسُهُ، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْنَا عَلِيًّا، وَفِي السَّبْيِ وَصِيفَةٌ هِيَ أَفْضَلُ السَّبْيِ، قَالَ: فَخَمَّسَ وَقَسَمَ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ - فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْوَصِيفَةِ، فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ فَوَقَعْتُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ - عَبْدِ الْجَلِيلِ فَكَتَبَ الرَّجُلُ: إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَّةِ، فَقُلْتُ: ابْعَثْنِي فَبَعَثَنِي فَجَعَلَ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَيَقُولُ: صَدَقَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ أَتَبْغَضُ عَلِيًّا؟
فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَا تُبْغِضْهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَلِيلِ وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَلِيلِ فوالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ وَزَادَ: قَالَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَجْلَحَ الْكِنْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ بِطُولِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: لَا تَقَعُ فِي عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ مُخْتَصَرًا، وَفِي آخِرِهِ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ يَقُولُ: مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فِعْلِيٌّ وَلِيُّهُ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا وَفِيهِ قِصَّةُ الْجَارِيَةِ نَحْوَ رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَلِيلِ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ: إِنَّمَا أَبْغَضَ الصَّحَابِيُّ عَلِيًّا؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَخَذَ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَظَنَّ أَنَّهُ غَلَّ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ أَحَبَّهُ اهـ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، لَكِنْ يُبْعِدُهُ صَدْرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فَلَعَلَّ سَبَبَ الْبُغْضِ كَانَ لِمَعْنًى آخَرَ وَزَالَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ عَنْ بُغْضِهِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ وُقُوعُ عَلِيٍّ عَلَى الْجَارِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَكَذَلِكَ قِسْمَتُهُ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا غَيْرَ بَالِغٍ، وَرَأَى أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُسْتَبْرَأُ، كَمَا صَارَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَاضَتْ عَقِبَ صَيْرُورَتِهَا لَهُ ثُمَّ طَهُرَتْ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ مَا يَدْفَعُهُ، وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَجَائِزَةٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ شَرِيكٌ فِيمَا يَقْسِمُهُ كَالْإِمَامِ إِذَا قَسَمَ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ قَامَ مَقَامَهُ. وَقَدْ أَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِالثَّانِي، وَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَذْرَاءَ أَوْ دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ أَنْ لَا اسْتِبْرَاءَ فِيهَا، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّسَرِّي عَلَى بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهَا، لِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ:
4351 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأَقْرَعَ بْنِ حابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ: وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟ قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي، فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ. قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ) ابْنِ شُبْرُمَةَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَنُعْمٌ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (بِذُهَيْبَةٍ) تَصْغِيرُ ذَهَبَةٍ، وَكَأَنَّهُ أَنَّثَهَا عَلَى مَعْنَى الطَّائِفَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَلَى مَعْنَى الْقِطْعَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ تِبْرًا، وَقَدْ يُؤَنَّثُ الذَّهَبُ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ، وَفِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مِنْ مُسْلِمٍ بِذَهَبَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ بِغَيْرِ تَصْغِيرٍ.
قَوْلُهُ: (فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ) بِظَاءٍ مُعْجَمَةٍ مُشَالَةٍ أَيْ مَدْبُوغٍ بِالْقَرَظِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا) أَيْ لَمْ تُخَلَّصْ مِنْ تُرَابِ الْمَعْدِنِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ تِبْرًا وَتَخْلِيصُهَا بِالسَّبْكِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ) كَذَا نُسِبَ لِجَدِّهِ الْأَعْلَى. وَهُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ ذَا الْأَلْفِ وَاللَّامِ مِنَ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ قَدْ يُنْزَعَانِ عَنْهُ فِي غَيْرِ نِدَاءٍ وَلَا إِضَافَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ، وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ: هَذَا يَوْمُ اثْنَيْنِ مُبَارَكٌ، وَقَالَ مِسْكِينٌ الدَّارِمِيُّ، وَنَابِغَةُ الْجَعْدِيُّ
(1)
فِي الْجَعْدِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عُيَيْنَةَ، وَالْأَقْرَعِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ مَضَى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ بِلَفْظِ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ الْمُجَاشِعِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَزَيْدِ الْخَيْلِ) أَيِ ابْنِ مُهَلْهَلٍ الطَّائِيِّ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ وَقِيلَ لَهُ: زَيْدُ الْخَيْلِ لِكَرَائِمِ الْخَيْلِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ الْخَيْرِ بِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَمَاتَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ) أَيِ ابْنُ عُلَاثَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ الْعَامِرِيُّ (وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ) وَهُوَ الْعَامِرِيُّ، وَجَزَمَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ بِأَنَّهُ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلَابٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ يَتَنَازَعُ الرِّيَاسَةَ هُوَ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَأَسْلَمَ عَلْقَمَةُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى حَوْرَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ. وَذِكْرُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ غَلَطٌ مِنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ كَانَ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ وَالصَّنَادِيدُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ جَمْعُ صِنْدِيدٍ، وَهُوَ الرَّئِيسُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَقِبَ قَوْلِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَوَهَمَ مَنْ خَلَطَهَا بِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الذُّهَبَيةِ فَقِيلَ: كَانَتْ خُمُسَ الْخُمُسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ مِنَ الْخُمُسِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ يَضَعُهُ فِي صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَقِيلَ: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ فِي السَّمَاءِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ) بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ وَزْنُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَوْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَيْنَيْهِ دَاخِلَتَانِ فِي مَحَاجِرِهِمَا لَاصِقَيْنِ بِقَعْرِ الْحَدَقَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الْجُحُوظِ.
قَوْلُهُ: (مُشْرِفٌ) بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ أَيْ بَارِزُهُمَا، وَالْوَجْنَتَانِ الْعَظْمَانِ الْمُشْرِفَانِ عَلَى الْخَدَّيْنِ.
قَوْلُهُ: (نَاشِزٌ) بِنُونٍ وَشَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَزَايٍ أَيْ مُرْتَفِعُهَا، فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ نَاتِئُ الْجَبِينِ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ مِنَ النُّتُوءِ أَيْ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَلَى مَا حَوْلَهُ.
قَوْلُهُ: (مَحْلُوقٌ) سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ التَّوْحِيدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الْخَوَارِجَ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، وَكَانَ السَّلَفُ يُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لَا يَحْلِقُونَهَا،
(1)
في هامش طبعة بولاق: في بعض النسخ وتابعه الجعدي.
وَكَانَتْ طَرِيقَةُ الْخَوَارِجِ حَلْقَ جَمِيعِ رُءُوسِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ) وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ فَقَالَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ اسْمُهُ نَافِعٌ وَرَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقِيلَ اسْمُهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ عُمَرُ وَلَا تُنَافِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَأَلَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي) فِيهِ اسْتِعْمَالُ لَعَلَّ اسْتِعْمَالَ عَسَى، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ، وَقَوْلُهُ: يُصَلِّي قِيلَ فِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: (أَنْ أُنَقِّبَ) بِنُونٍ وَقَافٍ ثَقِيلَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ بِظَوَاهِرِ أُمُورِهِمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ قَتْلَهُ وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ لِئَلَّا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهَ وَلَا سِيَّمَا مَنْ صَلَّى، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْهَمْ مِنَ الرَّجُلِ الطَّعْنَ فِي النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْإِجْمَاعِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ، أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ هَذَا الرَّجُلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهُ، بَلْ نَقَلَهُ عَنْهُ وَاحِدٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُرَاقُ بِهِ الدَّمُ. انْتَهَى. وَأَبْطَلَهُ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَخَاطَبَهُ فِي الْمَلَإِ بِذَلِكَ حَتَّى اسْتَأْذَنُوهُ فِي قَتْلِهِ، فَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَادَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ سَاكِنَةٌ، وَفِي آخِرِهِ تَحْتَانِيَّةٌ مَهْمُوزَةٌ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِصَادَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، فَأَمَّا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّسْلُ وَالْعَقِبُ، وَزَعَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الَّذِي بِالْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَاهُ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمَدِّ بِوَزْنِ قِنْدِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ مِنْ عَقِبِ هَذَا.
قَوْلُهُ: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: (لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَوَّلَ الدِّينَ هُنَا بِالطَّاعَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُطِيعُونَ الْخُلَفَاءَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْإِسْلَامُ كَمَا فَسَّرَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الزَّجْرِ وَأَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ. وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ فِي رِوَايَتِهِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنِ الْمُغَيَّبَاتِ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (وَأَظُنُّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِيهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُ نَهَى خَالِدًا عَنْ قَتْلِ أَصْلِهِمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِدْرَاكَ خُرُوجِهِمْ وَاعْتِرَاضِهِمُ الْمُسْلِمِينَ بِالسَّيْفِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ شَهِيرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ.
4352 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ. زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
بِسِعَايَتِهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ، قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا.
4353، 4354 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ أَنَّهُ ذَكَرَ لِابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَقَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ وَأَهْلَلْنَا بِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَدْيٌ فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْيَمَنِ حَاجًّا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَ أَهْلَلْتَ فَإِنَّ مَعَنَا أَهْلَكَ؟ قَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَمْسِكْ، فَإِنَّ مَعَنَا هَدْيًا. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي مَجِيءِ عَلِيٍّ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الْحَجِّ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالسَّنَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَقَدِمَ عَلِيٌّ بِسِعَايَتِهِ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَعْنِي: وِلَايَتِهِ عَلَى الْيَمَنِ لَا بِسِعَايَةِ الصَّدَقَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: لِأَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ طَلَبِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
62 - بَاب غَز وَةُ ذِي الْخَلَصَةِ
4355 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا بَيَانٌ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: كَانَ بَيْتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ، وَالْكَعْبَةُ الْيَمانِيَةُ، وَالْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ، فَنَفَرْتُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا فَكَسَرْنَاهُ وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ.
4356 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرٌ رضي الله عنه "قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمانِيَةَ فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ قَالَ فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّات".
4357 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ فَقُلْتُ بَلَى فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ
فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا" قَالَ فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ قَالَ وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لِخَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ قَالَ فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا قَالَ وَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلَامِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَا هُنَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ لَتَكْسِرَنَّهَا وَلَتَشْهَدَنَّ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَوْ لَاضْرِبَنَّ عُنُقَكَ قَالَ فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلاً مِنْ أَحْمَسَ يُكْنَى أَبَا أَرْطَاةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ قَالَ فَبَرَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّات".
قَوْلُهُ: (غَزْوَةُ ذِي الْخَلَصَةِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَحَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانَ ثَانِيهِ، وَحَكَى ابْنُ هِشَامٍ ضَمَّهَا، وَقِيلَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَانِيهِ وَالْأَوَّلُ أَشْهُرُ. وَالْخَلَصَةُ نَبَاتٌ لَهُ حَبٌّ أَحْمَرُ كَخَرَزِ الْعَقِيقِ، وَذُو الْخَلَصَةِ اسْمٌ لِلْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الصَّنَمُ، وَقِيلَ اسْمُ الْبَيْتِ الْخَلَصَةُ، وَاسْمُ الصَّنَمِ ذُو الْخَلَصَةِ، وَحَكَى الْمُبَرِّدُ أَنَّ مَوْضِعَ ذِي الْخَلَصَةِ صَارَ مَسْجِدًا جَامِعًا لِبَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: الْعَبْلَاتُ مِنْ أَرْضِ خَثْعَمَ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي بِلَادِ فَارِسَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَبَيَانٌ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ وَهُوَ ابْنُ بِشْرٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أبي حَازِمٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ بَيْتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْخَلَصَةِ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ كَانَ فِي خَثْعَمَ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَزْنُ جَعْفَرٍ، قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى خَثْعَمَ بْنِ أَنْمَارٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ، أَيِ ابْنِ إِرَاشٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَفِي آخِرِهِ مُعْجَمَةٌ ابْنِ عَنْزٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ أَيِ ابْنِ وَائِلٍ يَنْتَهِي نَسَبُهُمْ إِلَى رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ إِخْوَةِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ جَدِّ قُرَيْشٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ ذِي الْخَلَصَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مَرْفُوعًا لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبُ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَكَانَ صَنَمًا تَعْبُدُهُ دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ السُّهَيْلِيُّ يُشِيرُ إِلَى اتِّحَادِهِمَا؛ لِأَنَّ دَوْسًا قَبِيلَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى دَوْسِ بْنِ عُدْثَانَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الدَّالِ السَّاكِنَةِ مُثَلَّثَةٌ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَهْرَانَ، يَنْتَهِي نَسَبُهُمْ إِلَى الْأَزْدِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَثْعَمَ تَبَايُنٌ فِي النَّسَبِ وَالْبَلَدِ. وَذَكَرَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ ذَا الْخَلَصَةِ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ قَدْ نَصَبَهُ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَكَانُوا يُلْبِسُونَهُ الْقَلَائِدَ وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ بَيْضَ النَّعَامِ وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الَّذِي لِخَثْعَمَ فَكَانُوا قَدْ بَنَوْا بَيْتًا يُضَاهُونَ بِهِ الْكَعْبَةَ فَظَهَرَ الِافْتِرَاقُ وَقَوِيَ التَّعَدُّدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَالْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ وَالْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ) كَذَا فِيهِ. قِيلَ: وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ الْيَمَانِيَّةُ فَقَطْ، سَمُّوهَا بِذَلِكَ مُضَاهَاةً لِلْكَعْبَةِ، وَالْكَعْبَةُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَكُونُ جِهَةَ الْيَمَنِ شَامِيَّةٌ فَسَمُّوا الَّتِي بِمَكَّةَ شَامِيَّةً، وَالَّتِي عِنْدَهُمْ يَمَانِيَّةً تَفْرِيقًا بَيْنَهُمَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الَّذِي فِي الرِّوَايَةِ صَوَابٌ، وَأَنَّهَا كَانَ يُقَالُ لَهَا الْيَمَانِيَّةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا بِالْيَمَنِ، وَالشَّامِيَّةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَابَهَا مُقَابِلَ الشَّامِ، وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَالْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ: وَفِيهِ إبْهَامٌ، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَانَ يُقَالُ
لَهَا تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، وَهَذَا يُقَوِّي مَا قُلْتُهُ فَإِنَّ إِرَادَةَ ذَلِكَ مَعَ ثُبُوتِ الْوَاوِ أَوْلَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُ: وَالْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ هِيَ الَّتِي بِمَكَّةَ، وَقِيلَ الْكَعْبَةُ مُبْتَدَأٌ والشَّامِيَّةُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى وَالْكَعْبَةُ هِيَ الشَّامِيَّةُ لَا غَيْرَ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ لَهُ زَائِدَةٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ كَانَ يُقَالُ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ أَيْ لِهَذَا الْبَيْتِ الْجَدِيدِ وَالْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ أَيْ لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ بِالْعَكْسِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَيْسَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ، وَإِنَّمَا اللَّامُ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَيْ كَانَ يُقَالُ مِنْ أَجْلِهِ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ وَالْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ، أَيْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ لِلْعَتِيقِ، وَالْأُخْرَى لِلْجَدِيدِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا تُرِيحُنِي) هُوَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، طَلَبٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَخَصَّ جَرِيرًا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي بِلَادِ قَوْمِهِ، وَكَانَ هُوَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالرَّاحَةِ رَاحَةُ الْقَلْبِ، وَمَا كَانَ شَيْءٌ أَتْعَبَ لِقَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَقَاءِ مَا يُشْرَكُ بِهِ مِنْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ، وَبَنِي قُشَيْرٍ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ بَنِي خَثْعَمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى عَامَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَنَدَبَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى خَثْعَمَ فَيَدْعُوهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَجَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ قَبِلَ مِنْهُمْ وَهَدَمَ صَنَمَهُمْ ذَا الْخَلَصَةِ، وَإِلَّا وَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ.
قَوْلُهُ: (فَنَفَرْتُ) أَيْ خَرَجْتُ مُسْرِعًا.
قَوْلُهُ: (فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ أَيْ يَثْبُتُونَ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ فِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، فَلَعَلَّهَا إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً يَكُونُ الزَّائِدُ رَجَّالَةً وَأَتْبَاعًا. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لِابْنِ السَّكَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذُكِرَ عَنْ قَيْسِ بْنِ غَرَبَةَ الْأَحْمَسِيِّ أَنَّهُ وَفَدَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، قَالَ: وَقَدِمَ جَرِيرٌ فِي قَوْمِهِ وَقَدِمَ الْحَجَّاجُ بْنُ ذِي الْأَعْيُنِ فِي مِائَتَيْنِ، قَالَ: وَضُمَّ إِلَيْنَا ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ، فَغَزَوْنَا بَنِي خَثْعَمَ. فَكَأَنَّ الْمِائَةَ وَالْخَمْسِينَ هُمْ قَوْمُ جَرِيرٍ وَتَكْمِلَةَ الْمِائَتَيْنِ أَتْبَاعُهُمْ، وَكَأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا سَبْعُمِائَةٍ مَنْ كَانَ مِنْ رَهْطِ جَرِيرٍ، وَقَيْسِ بْنِ غَرَبَةَ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ كَانُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَغَرَبَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (فَكَسَرْنَاهُ) أَيِ الْبَيْتَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ) كَذَا فِيهِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ رَسُولُ جَرِيرٍ، فَكَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى جَرِيرٍ مَجَازًا.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ) بِمُهْمَلَةٍ وَزْنُ أَحْمَرَ، وَهُمْ إِخْوَةُ بَجِيلَةَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ رَهْطُ جَرِيرٍ يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَحْمَسَ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ أَنْمَارٍ، وَبَجِيلَةُ امْرَأَةٌ نُسِبَتْ إِلَيْهَا الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَمَدَارُ نَسَبِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنْمَارٍ. وَفِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ أُخْرَى يُقَالُ لَهَا أَحْمَسُ، لَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا، يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَحْمَسَ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرَجَّالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ أَيْ دَعَا لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فَدَعَا لِأَحْمَسَ بِالْبَرَكَةِ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ عَلَى صَدْرِي، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي) فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَشَكَا جَرِيرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَلَعَ فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا عَلَى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ حَتَّى بَلَغَ عَانَتَهُ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَأَرْسَلَهَا إلَى ظَهْرِهِ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى أَلْيَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ.
(فَائِدَةٌ): الْقَلَعُ بِالْقَافِ ثُمَّ اللَّامِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ضَبَطَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى السَّرْجِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَجُلٌ قَلِعُ الْقَدَمِ بِالْكَسْرِ إِذَا كَانَتْ قَدَمُهُ لَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَفُلَانٌ قَلِعَةٌ إِذَا كَانَ يَتَقَلَّعُ عَنْ سَرْجِهِ. وَسُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: خَمْسَ مَرَّاتٍ فَقِيلَ: مُبَالَغَةً وَاقْتِصَارًا عَلَى
الْوَتْرِ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ دَعَا لِلْخَيْلِ وَالرِّجَالِ أَوْ لَهُمَا مَعًا. ثُمَّ أَرَادَ التَّأْكِيدَ فِي تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا، فَدَعَا لِلرِّجَالِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَلِلْخَيْلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لِيَكْمُلَ لِكُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ ثَلَاثًا، فَكَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) قِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَادِيًا حَتَّى يَكُونَ مَهْدِيًّا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: كَامِلًا مُكَمَّلًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ إِمْرَارِ يَدِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَزَادَ وَبَارِكْ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ.
(تَنْبِيهٌ): كَلَامُ الْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ هُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا) أَيْ هَدَمَ بِنَاءَهَا وَرَمَى النَّارَ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْخَشَبِ.
قَوْلُهُ في الرواية الثالثة: (وَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ إِلَخْ) يُشْعِرُ بِاتِّحَادِ قِصَّتِهِ فِي غَزْوَةِ ذِي الْخَلَصَةِ بِقِصَّةِ ذَهَابِهِ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ ذِي الْخَلَصَةِ وَأَرْسَلَ رَسُولَهُ مُبَشِّرًا اسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى الْيَمَنِ لِلسَّبَبِ الَّذِي سَيُذْكَرُ بَعْدَ بَابٍ، وَقَوْلُهُ: يَسْتَقْسِمُ أَيْ يَسْتَخْرِجُ غَيْبَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} وَحَكَى أَبُو الْفَرْجِ الْأَصْبِهَانِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَأَنَّ امْرَأَ الْقِيسِ لَمَّا خَرَجَ يَطْلُبُ بِثَأْرِ أَبِيهِ اسْتَقْسَمَ عِنْدهُ، فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ، فَسَبَّ الصَّنَمَ وَرَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَنْشَدَ:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا
…
لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورًا قَالَ: فَلَمْ يَسْتَقْسِمْ عِنْدَهُ أَحَدٌ بَعْدُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا يَسْتَقْسِمُونَ عِنْدَهُ حَتَّى نَهَاهُمُ الْإِسْلَامُ، وَكَأَنَّ الَّذِي اسْتَقْسَى عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ حَتَّى زَجَرَهُ جَرِيرٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ يُكْنَى أَبَا أَرْطَاةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدهَا مُهْمَلَةٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَاءُ تَأْنِيثٍ وَاسْمُ أَبِي أَرْطَاةَ هَذَا حُصَيْنُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَعَ مُسَمًّى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلِبَعْضِ رُوَاتِهِ: حُسَيْنٌ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ بَدَلَ الصَّادِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ حِصْنٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَقَلَبَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ: رَبِيعَةُ بْنُ حُصَيْنٍ وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ أَرْطَاةَ وَالصَّوَابُ أَبُو أَرْطَاةَ حُصَيْنُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ ابْنُ عَامِرِ بْنِ الْأَزْوَرِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ بَجَلِيٌّ لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ) بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ. هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نَزْعِ زِينَتِهَا وَإِذْهَابِ بَهْجَتِهَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهَا صَارَتْ مِثْلَ الْجَمَلِ الْمَطْلِيِّ بِالْقَطِرَانِ مِنْ جَرَبِهِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا صَارَتْ سَوْدَاءَ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيقِ. وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ - وَقِيلَ: إِنَّهَا رِوَايَةُ مُسَدَّدٍ -: أَجْوَفُ بِوَاوٍ بَدَلَ الرَّاءِ وَفَاءٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ صُورَةً بِغَيْرِ مَعْنَى، وَالْأَجْوَفُ الْخَالِي الْجَوْفِ مَعَ كِبْرِهِ فِي الظَّاهِرِ. وَوَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَجْرَبُ أَيْ أَسْوَدُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَجْوَفُ أَيْ أَبْيَضُ، وَحَكَاهُ عَنْ ثَابِتٍ السَّرَقُسْطِيِّ، وَأَنْكَرَهُ عِيَاضٌ وَقَالَ: هُوَ تَصْحِيفٌ وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى، كَذَا قَالَ، فَإِنْ أَرَادَ إِنْكَارَ تَفْسِيرِ أَجْوَفَ بِأَبْيَضَ فَمَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ يُضَادُّ مَعْنَى الْأَسْوَدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَقَهَا وَالَّذِي يُحْرَقُ يَصِيرُ أَثَرُهُ أَسْوَدَ لَا مَحَالَةَ فِيهِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ أَرَادَ إِنْكَارَ لَفْظِ أَجْوَفَ فَلَا إِفْسَادَ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ صَارَ خَالِيًا لَا شَيْءَ فِيهِ كَمَا قَرَّرْتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِزَالَةِ مَا يُفْتَتَنُ بِهِ النَّاسُ مِنْ بِنَاءٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا، وَفِيهِ اسْتِمَالَةُ نُفُوسِ الْقَوْمِ بِتَأْمِيرِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِمَالَةُ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ وَالْبِشَارَةِ فِي الْفُتُوحِ، وَفَضْلُ رُكُوبِ الْخَيْلِ فِي الْحَرْبِ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي نِكَايَةِ الْعَدُوِّ، وَمَنَاقِبُ لِجَرِيرٍ وَلِقَوْمِهِ، وَبَرَكَةُ يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُعَائِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو وِتْرًا وَقَدْ يُجَاوِزُ الثَّلَاثَ.
وَفِيهِ
تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِ أَنَسٍ: كَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَكَأَنَّ الزِّيَادَةَ لِمَعْنَى اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَحْمَسَ لِمَا اعْتَمَدُوهُ مِنْ دَحْضِ الْكُفْرِ وَنَصْرِ الْإِسْلَامِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ مِنْهُمْ.
63 - بَاب غَزْوَةُ ذَاتِ السُّلَاسِلِ وَهِيَ غَزْوَةُ لَخْمٍ وَجُذَامَ
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ: هِيَ بِلَادُ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَنِي الْقَيْنِ
4358 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، فَعَدَّ رِجَالًا فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، قِيلَ: سُمِّيَتْ ذَاتَ السَّلَاسِلِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ ارْتَبَطَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَفِرُّوا، وَقِيلَ: لِأَنَّ بِهَا مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: السَّلْسَلُ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهَا وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، قَالَ: وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ فِي كِتَابِ صَحِيحِ التَّارِيخِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَسَاكِرَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، إِلَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ: قَبْلَهَا. قُلْتُ: وَهُوَ قَضِيَّةُ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ أَبِي خَالِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ غَزْوَةُ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ مَاءٌ لِبَنِي جُذَامٍ وَلَخْمٍ، أَمَّا لَخْمٌ فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ: قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى لَخْمٍ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أَدَدَ، وَأَمَّا جُذَامٌ فَبِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ: قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ أَيْضًا يُنْسَبُونَ إِلَى عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ وَهُمْ إِخْوَةُ لَخْمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ: هِيَ بِلَادُ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَنِي الْقَيْنِ) أَمَّا يَزِيدُ فَهُوَ ابْنُ رُومَانَ مَدَنِيٌّ مَشْهُورٌ، وَأَمَّا عُرْوَةُ فَهُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَأَمَّا الْقَبَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَالثَّلَاثَةُ بُطُونٌ مِنْ قُضَاعَةَ، أَمَّا بَلِيٌّ فَبِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا يَاءُ النَّسَبِ: قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى بَلِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأَمَّا عُذْرَةُ فَبِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ هُذَيْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ أَسْلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ ابْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأَمَّا بَنُو الْقَيْنِ فَقَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ أَيْضًا يُنْسَبُونَ إِلَى الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ، وَيُقَالُ: كَانَ لَهُ عَبْدٌ يُسَمَّى الْقَيْنُ حَضَنَهُ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَكَانَ اسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ جِسْرِ بْنِ شِيعِ اللَّهِ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ ابْنِ أَسَدِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ ثَعْلَبِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَوَهَمَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: بَنُو الْقَيْنِ قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ تَجَمَّعُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَدْنُوا مِنْ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثمِائَةٍ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَمَدَّهُ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فِي مِائَتَيْنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِعَمْرٍو وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَا فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ فَمَنَعَهُ عَمْرٌو وَقَالَ: إِنَّمَا قَدِمْتَ عَلَيَّ مَدَدًا وَأَنَا
الْأَمِيرُ، فَأَطَاعَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَصَلَّى بِهِمْ عَمْرٌو، وَتَقَدَّمَ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَغْتَسِلْ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ الْحَدِيثَ. وَسَارَ عَمْرٌو
حَتَّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ.
وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أُمَّ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَتْ مِنْ بَلِيٍّ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمْرًا يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَسْتَأْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَمَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ أَنْ لَا يُوقِدُوا نَارًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: دَعْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْعَثْهُ عَلَيْنَا إِلَّا لِعِلْمِهِ بِالْحَرْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَهَذَا السَّبَبُ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا فَمَنَعَهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا. قَالَ: فَلَقَوُا الْعَدُوَّ فَهَزَمَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَمَنَعَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَيَكُونَ لَهُ مَدَدٌ. فَحَمِدَ أَمْرَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ الْحَدِيثَ.
فَاشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى فَوَائِدَ زَوَائِدَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَسَلَّمَ لَهُ أَمْرَهُ، وَأَلَحُّوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَسْأَلَهُ فَسَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) هَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، بَلْ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ مَوْصُولٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِنَّ الْمُرَادَ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَأَبُو عُثْمَانَ سَمِعَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ قَدِمْتُ مِنْ جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ عَمْرٌو: فَحَدَّثَتْ نَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْنِي عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (فَعَدَّ رِجَالًا) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَأْمِيرِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ إِذَا امْتَازَ الْمَفْضُولُ بِصِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَمَزِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الرِّجَالِ وَبِنْتِهِ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَمَنْقَبَةٌ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِتَأْمِيرِهِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ لَكِنْ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فَضْلًا فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ الطَّائِيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي يَفْتَخِرُ بِهَا أَهْلُ الشَّامِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ ثِيَابِي وَسِلَاحِي فَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدَ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسَلِّمَكَ، قُلْتُ: إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ. قَالَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ، وَهَذَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ بَعْثَهُ عَقِبَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: (فَسَكَتُّ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَضْمُومَةِ، هُوَ مَقُولُ عَمْرٍو
64 - بَاب ذَهَابُ جَرِيرٍ إِلَى الْيَمَنِ
4359 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: كُنْتُ بِالْيَمَنِ فَلَقِيتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: ذَا كَلَاعٍ، وَذَا عَمْرٍو، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ ذُو عَمْرٍو: لَئِنْ كَانَ الَّذِي تَذْكُرُ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَجَلِهِ مُنْذُ ثَلَاثٍ وَأَقْبَلَا مَعِي، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ رُفِعَ لَنَا رَكْبٌ مِنْ قِبَلِ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلْنَاهُمْ فَقَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَالنَّاسُ صَالِحُونَ، فَقَالَا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّا قَدْ جِئْنَا وَلَعَلَّنَا سَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَرَجَعَا إِلَى الْيَمَنِ، فَأَخ بَرْتُ أَبَا بَكْرٍ بِحَدِيثِهِمْ قَالَ: أَفَلَا جِئْتَ بِهِمْ؟ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ قَالَ لِي ذُو عَمْرٍو: يَا جَرِيرُ، إِنَّ بِكَ عَلَيَّ كَرَامَةً، وَإِنِّي مُخْبِرُكَ خَبَرًا، إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا كُنْتُمْ إِذَا هَلَكَ أَمِيرٌ تَأَمَّرْتُمْ فِي آخَرَ، فَإِذَا كَانَتْ بِالسَّيْفِ كَانُوا مُلُوكًا يَغْضَبُونَ غَضَبَ الْمُلُوكِ، وَيَرْضَوْنَ رِضَا الْمُلُوكِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ذَهَابِ جَرِيرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ (إِلَى الْيَمَنِ) ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ أُقَاتِلُهُمْ وَأَدْعُوهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْبَعْثَ غَيْرُ بَعْثِهِ إِلَى هَدْمِ ذِي الْخَلَصَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ إِلَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِيَّ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا جَرِيرُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ طَوَاغِيتِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بَيْتُ ذِي الْخَلَصَةِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِتَأْخِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ جِدًّا، وَسَيَأْتِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ جَرِيرًا شَهِدَهَا، فَكَأَنَّ إِرْسَالَهُ كَانَ بَعْدَهَا، فَهَدَمَهَا ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الْيَمَنِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَجَعَ بَلَغَتْهُ وَفَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْمُ أَبِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ الْحَافِظُ، وَابْنُ إِدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ بِالْيَمَنِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى ذِي عَمْرٍو، وَذِي الْكَلَاعِ يَدْعُوهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَا، قَالَ: وَقَالَ لِي ذُو الْكَلَاعِ: ادْخُلْ عَلَى أُمِّ شُرَحْبِيلَ يَعْنِي زَوْجَتَهُ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فِي الرِّدَّةِ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ نَحْوَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كُنْتُ بِالْيَمَنِ، فَأَقْبَلْتُ وَمَعِي ذُو الْكَلَاعِ، وَذُو عَمْرٍو وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَبْيَنُ، وَذَلِكَ أَنَّ جَرِيرًا قَضَى حَاجَتَهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَأَقْبَلَ رَاجِعًا يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَصَحِبَهُ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ذُو الْكَلَاعِ، وَذُو عَمْرٍو، فَأَمَّا ذُو الْكَلَاعِ فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَاسْمُهُ إسْمَيْفَعُ بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَيُقَالُ: أَيْفَعُ بْنُ بَاكُورَاءَ وَيُقَالُ: ابْنُ حَوْشَبِ بْنِ عَمْرٍو. وَأَمَّا ذُو عَمْرٍو فَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ حِمْيَرَ أَيْضًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ غَيْرِهِ، وَلَا رَأَيْتُ مِنْ أَخْبَارِهِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَكَانَا عَزَمَا عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بَلَغَهُمَا وَفَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَا إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ هَاجَرَا فِي زَمَنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (لَئِنْ كَانَ الَّذِي تَذْكُرُ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكَ) أَيْ حَقًّا، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَئِنْ كَانَ كَمَا تَذْكُرُ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَرَّ عَلَى أَجَلِهِ جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهَذَا أُخْبِرْكَ بِهَذَا، وَهَذَا قَالَهُ ذُو عَمْرٍو عَنِ اطِّلَاعٍ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ لِأَنَّ الْيَمَنَ كَانَ أَقَامَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْيَمَنِ فِي دِينِهِمْ، وَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ بَعْضِ الْقَادِمِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ سِرًّا، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَاهِنًا، أَوْ أَنَّهُ صَارَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ مُحْدَّثًا أَيْ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ بأنه الْمُلْهَمُ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَفَاتِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ جَرِيرٌ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْتُهُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى بِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ خَبَرٌ مَحْضٌ، وَالثَّالِثَ وُقُوعُ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ. قَالَ لِي حَبْرٌ بِالْيَمَنِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرٍ بِحَدِيثِهِمْ قَالَ: أَفَلَا جِئْتَ بِهِمْ) كَأَنَّهُ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنَ الْأَتْبَاعِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ إِلَخْ) لَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لَمَّا هَاجَرَ ذُو عَمْرٍو فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ ذَا الْكَلَاعِ كَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنْ مَوَالِيهِ ; فَسَأَلَ عُمَرُ بَيْعَهُمْ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى حَرْبِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ ذُو الْكَلَاعِ: هُمْ أَحْرَارٌ فَأَعْتَقَهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَى سَيْفٌ فِي الْفُتُوحِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَسْتَنْفِرُ أَهْلَ الْيَمَنِ إِلَى الْجِهَادِ فَرَحَلَ ذُو الْكَلَاعِ وَمَنْ أَطَاعَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْكُلْبِيِّ فِي النَّسَبِ أَنَّ ذَا الْكَلَاعِ كَانَ جَمِيلًا، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ يَتَعَمَّمُ. وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَقُتِلَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (تَآمَرْتُمْ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَيْ تَشَاوَرْتُمْ، أَوْ بِالْقَصْرِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ أَقَمْتُمْ أَمِيرًا مِنْكُمْ عَنْ رِضًا مِنْكُمْ أَوْ عَهْدٍ مِنَ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا كَانَتْ) أَيِ الْإِمَارَةُ (بِالسَّيْفِ) أَيْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (كَانُوا مُلُوكًا) أَيِ الْخُلَفَاءُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قَرَرْتُهُ أَنَّ ذَا عَمْرٍو كَانَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْأَخْبَارِ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، وَإِشَارَتُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ تُطَابِقُ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا عَضُوضًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَا قَالَهُ ذُو عَمْرٍو، وَذُو الْكَلَاعِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ كِتَابٍ أَوْ كَهَانَةٍ، وَمَا قَالَهُ ذُو عَمْرٍو لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ كِتَابٍ. قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي لِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَقَالَتَيْنِ وَالِاحْتِمَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، بَلِ الْمَقَالَةُ الْأَخِيرَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِهَةِ التَّجْرِبَةِ.
65 - بَاب غَزْوَةُ سِيفِ الْبَحْرِ وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ
4360 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُ مِائَةٍ، فَخَرَجْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمِعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ: مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْه الْقَوْمُ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا.
4361 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ
فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعاً مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً ضِلَعاً مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَأَخَذَ رَجُلاً وَبَعِيراً فَمَرَّ تَحْتَهُ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ وَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ كُنْتُ فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نُهِيت"
4362 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: "غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَه"
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ سِيفِ الْبَحْرِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ فَاءٌ، أَيْ سَاحِلِ الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ: (وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ) هُوَ صَرِيحُ مَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُمْ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقَبَلِيَّةِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسُ لَيَالٍ، وَأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَهَذَا لَا يُغَايِرُ ظَاهِرَهُ مَا فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَيَقْصِدُونَ حَيًّا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعُ مَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا إِلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، لَكِنَّ تَلَقِّيَ عِيرِ قُرَيْشٍ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي الْهُدْنَةِ، بَلْ مُقْتَضَى مَا فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّرِيَّةُ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ قَبْلَهَا قَبْلَ هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقِّيهِمْ لِلْعِيرِ لَيْسَ لِمُحَارَبَتِهِمْ بَلْ لِحِفْظِهِمْ مِنَ جُهَيْنَةَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُريقِ الْخَبَرِ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَحَدًا، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ قَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ)
(1)
.
قَوْلُهُ: (قِبَلَ السَّاحِلِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: جِهَتَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ سِيفُ الْبَحْرِ وَسَأَذْكُرُ مَنْ أَخْرَجَهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَحْفُوظُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رِوَايَاتُ الصَّحِيحَيْنِ
(1)
بياض بالأصل
أَنَّهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَأَنَّ أَحَدَ رُوَاتِهِ ظَنَّ مِنْ صَنِيعِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ مَا صَنَعَ مِنْ نَحْرِ الْإِبِلِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجْنَا فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمِعَ فَكَانَ مِزْوَدُ تَمْرٍ) الْمِزْوَدُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الزَّادُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَقُوتُنَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَبِضَمِّهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْوِيتِ.
قَوْلُهُ: (كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ زَادٌ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَأَزْوَادٌ بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ. فَلَمَّا فَنِيَ الَّذِي بِطَرِيقِ الْعُمُومِ اقْتَضَى رَأْيُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنْ يَجْمَعَ الَّذِي بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ لِقَصْدِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَ، فَكَانَ جَمِيعُهُ مِزْوَدًا وَاحِدًا، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَتَلَقَّيْنَا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْبَابِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعِ بِأَنَّ الزَّادَ الْعَامَّ كَانَ قَدْرَ جِرَابٍ، فَلَمَّا نَفِدَ وَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ الزَّادَ الْخَاصَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ أَيْضًا كَانَ قَدْرَ جِرَابٍ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَأَمَّا تَفْرِقَةُ ذَلِكَ تَمْرَةً تَمْرَةً، فَكَانَ فِي ثَانِي الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِيَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَادِهِمْ تَمْرٌ غَيْرُ الْجِرَابِ الْمَذْكُورِ.
فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ كَانَ مِزْوَدَ تَمْرٍ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّدَهُمْ جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَصَحَّ أَنَّ التَّمْرَ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ الْجِرَابِ. وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِقَتُهُ عَلَيْهِمْ تَمْرَةً تَمْرَةً كَانَ مِنَ الْجِرَابِ النَّبَوِيِّ قَصْدًا لِبَرَكَتِهِ، وَكَانَ يُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَزْوَادِ الَّتِي جُمِعَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ السِّيَاقِ بَلْ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَلَّتْ أَزْوَادُنَا حَتَّى مَا كَانَ يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنَّا إِلَّا تَمْرَةً.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ)؟ هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ فَيُفَسَّرُ بِهِ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي مَضَتْ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ فِيهَا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ - وَهِيَ كُنْيَةُ جَابِرٍ - أَيْنَ كَانَتْ تَقَعُ التَّمْرَةُ مِنَ الرَّجُلِ؟ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَيْضًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ أَيْ مُؤَثِّرًا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، هُوَ وَرَقُ السَّلَمِ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ: وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَابِسًا، بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ كَانَ أَخْضَرَ رَطْبًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ وَأَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ) أَيْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَهُوَ صَرِيحُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا حُوتٌ مِثْلَ الظَّرِبِ) أَمَّا الْحُوتُ فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِجَمِيعِ السَّمَكِ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا عَظُمَ مِنْهَا، وَالظَّرِبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْمُعْجَمَةِ السَّاقِطَةِ حَكَاهَا ابْنُ التِّينِ. وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَبِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ: الْجَبَلُ الصَّغِيرُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ بِسُكُونِ الرَّاءِ إِذَا كَانَ مُنْبَسِطًا لَيْسَ بِالْعَالِي. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَوَقَعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ: فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرَ وَفِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ فَهَبَطْنَا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَحْنُ بِأَعْظَمِ حُوتٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعَنْبَرُ سَمَكَةٌ بَحْرِيَّةٌ كَبِيرَةٌ يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِهَا
التِّرْسَةُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَنْبَرَ الْمَشْمُومَ رَجِيعُ هَذِهِ الدَّابَّةِ. وَقَالَ ابْنُ سَيْنَاءَ: بَلِ الْمَشْمُومُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَجْوَافِ السَّمَكِ الَّذِي يَبْتَلِعُهُ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: رَأَيْتُ الْعَنْبَرَ نَابِتًا فِي الْبَحْرِ مُلْتَوِيًا مِثْلَ عُنُقِ الشَّاةِ، وَفِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ تَأْكُلُهُ وَهُوَ سُمٌّ لَهَا فَيَقْتُلُهَا فَيَقْذِفُهَا، فَيَخْرُجُ الْعَنْبَرُ مِنْ بَطْنِهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَنْبَرُ سَمَكَةٌ تَكُونُ بِالْبَحْرِ الْأَعْظَمِ، يَبْلُغُ طُولُهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا يُقَالُ لَهَا بَالَةٌ، وَلَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ: قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
فَبِتْنَا كَأَنَّ الْعَنْبَرَ الْوَرْدُ بَيْنَنَا
…
وَبَالَةُ بَحْرٍ فَاؤُهَا قَدْ تَخَرَّمَا
أَيْ قَدْ تَشَقَّقَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ مَيْتَةِ السَّمَكِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَأَكَلَ مِنْهُ الْقَوْمُ ثَمَانَ عَشْرَةَ لَيْلَةً) فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ الَّذِي قَالَ: ثَمَانَ عَشْرَةَ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: نِصْفَ شَهْرٍ أَلْغَى الْكَسْرَ الزَّائِدَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَنْ قَالَ شَهْرًا جَبَرَ الْكَسْرَ أَوْ ضَمَّ بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ وِجْدَانِهِمُ الْحُوتَ إِلَيْهَا، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَأَشَدُّ مِنْهَا شُذُوذًا رِوَايَةُ الْخَوْلَانِيِّ فَأَقَمْنَا قَبْلَهَا ثَلَاثًا وَلَعَلَّ الْجَمْعَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (حَتَّى ثَابَتْ) بِمُثَلَّثَةٍ أَيْ رَجَعَتْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ هُزَالٌ مِنَ الْجُوعِ السَّابِقِ.
قَوْلُهُ: (وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْ شَحْمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْطَعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ. وَالْوَقْبُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هِيَ النُّقْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْحَدَقَةُ، وَالْفِدَرُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ جَمْعُ فَدْرَةٍ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ فَحَمَلْنَا مَا شِئْنَا مِنْ قَدِيدٍ وَوَدَكٍ فِي الْأَسْقِيَةِ وَالْغَرَائِز.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا) كَذَا فِيهِ، وَاسْتُشْكِلَ لِأَنَّ الضِّلْعَ مُؤَنَّثَةٌ، وَيُجَابُ بِأَنَّ تَأْنِيثَهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَيَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا) وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ فَمَرَّ تَحْتَهُ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ ثُمَّ أَمْرَ بِأَجْسَمِ بَعِيرٍ مَعَنَا فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَجْسَمَ رَجُلٍ مِنَّا فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهِمَا وَمَا مَسَّتْ رَأْسَهُ وَهَذَا الرَّجُلُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَأَظُنُّهُ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَإِنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا سَتَرَاهُ بَعْدُ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالطُّولِ، وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ بِالسَّرَاوِيلِ مَعْرُوفَةٌ، فَذَكَرَهَا الْمُعَافِيُّ الْحَرِيرِيُّ فِي الْجَلِيسِ، وَأَبُو الْفَرْجِ الْأَصْبِهَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ أَطْوَلَ رَجُلٍ مِنَ الرُّومِ نَزَعَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ سَرَاوِيلَهُ فَكَانَ طُولُ قَامَةِ الرُّومِيِّ بِحَيْثُ كَانَ طَرَفُهَا عَلَى أَنْفِهِ وَطَرَفُهَا بِالْأَرْضِ، وَعُوتِبَ قَيْسٌ فِي نَزْعِ سَرَاوِيلِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَأَنْشَدَ:
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهَا
…
سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ
…
سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ وَالْوَقْبُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَهُوَ حُفْرَةُ الْعَيْنِ فِي عَظْمِ الْوَجْهِ، وَأَصْلُهُ نُقْرَةٌ فِي الصَّخْرَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْجَمْعُ: وِقَابٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ
صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ - فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا، وَفِي آخِرِهِ - وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ فَقَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ. فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً، فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ فَاطَّبَخْنَا وَاشْتَوَيْنَا وَأَكَلْنَا وَشَبِعْنَا. قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أنا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا وَمَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا وَأَخَذْنَا ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهَا فَقَوَّسْنَاهُ، ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ. وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَبَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَتَيْنَا إِلَخْ، فَيَتَحَدُّ مَعَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ مِنْ أَعْضَائِهِ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ قَالَ سُفْيَانَ مَرَّةً: ضِلْعًا مِنْ أَعْضَائِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مِنْ أَضْلَاعِهِ.
قَوْلُهُ في الرواية الثانية: (وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ) أَيْ عِنْدَمَا جَاعُوا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْخَوْلَانِيِّ سَبْعَ جَزَائِرَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو صَالِحٍ هُوَ ذَكْوَانُ السَّمَّانُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ: كُنْتُ فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا، قَالَ: انْحَرْ) وَهَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ تَحْدِيثِ قَيْسٍ لِأَبِيهِ، لَكِنَّهُ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ مَوْصُولٌ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ جَيْشِ الْخَبَطِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، قَالَ لِي: انْحَرْ. قُلْتُ: نَحَرْتُ فَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ قُلْتُ: نَهَيْتُ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا رَأَى مَا بِالنَّاسِ قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِالْمَدِينَةِ بِجَزُورٍ هُنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: عَرَفْتُ نَسَبَكَ. فَابْتَاعَ مِنْهُ خَمْسَ جَزَائِرَ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ لِكَوْنِ قَيْسٍ لَا مَالَ لَهُ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَجْنِيَ بِابْنِهِ فِي أَوَسُقِ تَمْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَغَضِبَ وَوَهَبَ لِقَيْسٍ أَرْبَعَ حَوَائِطَ أَقَلُّهَا يَجُذُّ خَمْسِينَ وَسْقًا. وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: لَمَّا قَدِمُوا ذَكَرُوا شَأْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْجُودَ مِنْ شِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَفِي حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بَلَغَهُمُ الْجَهْدُ الَّذِي قَدْ أَصَابَ الْقَوْمَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنْ يَكُ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُ فَسَيَنْحَرْ لِلْقَوْمِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: (وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ) كَذَا لَهُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ مِنْهُ، فَآتَاهُ بَعْضُهُمْ) بِالْمَدِّ أَيْ فَأَعْطَاهُ (فَأَكَلَهُ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِعُضْوٍ مِنْهُ فَأَكَلَهُ قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ الْوَجْهُ. قُلْتُ: فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَكَانَ مَعَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا ذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا نُدْرِكُهُ لَمْ يُرَوِّحْ لَأَحْبَبْنَا لَوْ كَانَ عِنْدنَا مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ازْدِيَادًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَحْضَرُوا لَهُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْضِرُوا لَهُ مِنْهُ وَكَانَ الَّذِي أَحْضَرُوهُ مَعَهُمْ لَمْ يُرَوَّحْ فَأَكَلَ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ بَدَنَةً. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِّ مُشْرِكٌ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة تَامّ السِّيَاق، وَيَأْتِي تَمَام شَرْحه هُنَاكَ.
ثانيهما: حَدِيث الْبَرَاء آخِر سُورَة نَزَلَتْ كَامِلَة بَرَاءَة منه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّةُ الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْجَيْشِ عِنْدَ وُقُوعِ الْمَجَاعَةِ، وَأَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الطَّعَامِ يَسْتَدْعِي الْبَرَكَةَ فِيهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نَهْيِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَيْسًا أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى إِطْعَامِ
الْجَيْشِ، فَقِيلَ: لِخَشْيَةِ أَنْ تَفْنَى حَمُولَتُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِصَّةَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ الْعَسْكَرِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِينُ عَلَى ذِمَّتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ فَأُرِيدَ الرِّفْقُ بِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
66 - بَاب حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
4363 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
4364 -
حَدَّثَنِا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} .
[الحديث 4364 - أطرافه في: 4605، 4654، 6744]
قَوْلُهُ: (حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ) كَذَا جَزَمَ بِهِ، وَنَقَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنْ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ قَالَ الْمُحِبُّ: إِنَّمَا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَالْجِعْرَانَةُ كَانَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا حَجَّ فِيهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ تَبِعَ الْمَاوَرْدِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَتَّابًا أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ عَامَ الْفَتْحِ، وَالَّذِي جَزَمَ بِهِ الْأَزْرَقِيُّ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ خِلَافَهُ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ أَحَدًا، وَإِنَّمَا وَلَّى عَتَّابًا إِمْرَةَ مَكَّةَ فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عَتَّابٍ لِكَوْنِهِ الْأَمِيرَ.
قُلْتُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَيِّ شَهْرٍ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَوَافَقَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنَ إِمَّا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحَجَّةِ - كَالدَّاوُدِيِّ، وَبِهِ جَزَمَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الرُّمَّانِيُّ، وَالثَّعْلَبِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَتَبِعَهُمْ جَمَاعَةٌ - وَإِمَّا سَاكِتٌ.
وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَبِهِ جَزَمَ الْأَزْرَقِيُّ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ بَعْثَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بَعْدَ انْسِلَاخِ ذِي الْقَعْدَةِ، فَيَكُونُ حَجُّهُ فِي ذِي الْحَجَّةِ عَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ هَذَا لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ الْفَرْضَ، بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَلِبَسْطِ تَقْرِيرِ ذَلِكَ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: وَيُسْتَفَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، لِأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ اتِّفَاقًا، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ خُرُوجَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ. الحديث.
وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا وَبَيَانُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مِنْ قَوْلِهِ كَامِلَةً وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الْآيَةَ، كَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَدَقَّقَ فِي ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ قَالَ: نَزَلَتْ (بَرَاءَةٌ) وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا عَلَى الْحَجِّ، فَقِيلَ: لَوْ بَعَثْتَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: اخْرُجْ بِصَدْرِ (بَرَاءَةٍ)، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى إِذَا اجْتَمَعُوا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي الْحَدِيثَ. وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ يَشِيعَ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةِ؟ قَالَ: بِأَرْبَعٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَحَّحَهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هُنَا ذِكْرُ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ الْوُفُودِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُفُودِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَمَا بَعْدَهَا، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوُفُودَ كَانُوا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ. نَعَمِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَتْ سَنَةُ تِسْعٍ تُسَمَّى سَنَةَ الْوُفُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَلُومُ بِإِسْلَامِهَا الْفَتْحَ الْحَدِيثَ. فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ كَمَا قَدَّمْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذَا فِي تَقْدِيمِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ سَرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ الْوُفُودَ، وَتَبِعَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا، وَتَبِعَهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، وَمُغْلَطَايُ، وَشَيْخُنَا فِي نَظْمِ السِّيرَةِ وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرُوهُ يَزِيدُ عَلَى السِّتِّينَ.
67 - بَاب وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ
4365 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ) أَيِ: ابْنُ مُرٍّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، ابْنِ أُدٍّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، ابْنِ طَابِخَةَ بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، ابْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَشْرَافَ بَنِي تَمِيمٍ قَدِمُوا عَلَى النبي -
صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ الدَّارِمِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الدَّارِمِيُّ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ السَّعْدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ الْمَنْقَرِيُّ، وَالْحُبَابُ بْنُ يَزِيدَ الْمُجَاشِعِيُّ، وَنُعَيْمُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمَنْقَرِيُّ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَكَانَ الْأَقْرَعُ، وَعُيَيْنَةُ شَهِدَا الْفَتْحَ، ثُمَّ كَانَا مَعَ بَنِي تَمِيمٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِهِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي
أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ.
68 - بَاب قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: غَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَغَارَ وَأَصَابَ مِنْهُمْ نَاسًا، وَسَبَى مِنْهُمْ نِسَاءً
4366 -
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهن مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا فِيهِمْ: هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ، وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمٍ أَوْ قَوْمِي.
4367 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حَتَّى انْقَضَتْ.
[الحديث 4367 - أطرافه في: 4845، 4847، 7302]
ثُمَّ قَالَ: (بَابُ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: غَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ) يَعْنِي الْفَزَارِيَّ (بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَأَغَارَ وَأَصَابَ مِنْهُمْ نَاسًا، وَسَبَى مِنْهُمْ سِبَاءً) انْتَهَى. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَبَبَ بَعْثِ عُيَيْنَةَ أَنَّ بَنِي تَمِيمٍ أَغَارُوا عَلَى نَاسٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فِي خَمْسِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ وَلَا مُهَاجِرِيٌّ، فَأَسَرَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا. فَقَدِمَ رُؤَسَاؤُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ فِيهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (سَبِيَّةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَخْفِيفِهَا، ثُمَّ هَمْزَةٌ، أَيْ جَارِيَةٌ مَسْبِيَّةٌ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْمِهَا وَتَسْمِيَةِ بَعْضِ مَنْ أُسِرَ مَعَهَا، وَشَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ.
قَوْلُهُ: (وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِ، أَوْ قَوْمِي) كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ (وَقَوْمِ) بِالْكَسْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْآخَرِ: (قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَرَ الْقَعْقَاعُ) سَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
69 - بَاب وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ
4368 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ لِي جَرَّةً تنتبذ لِي نَبِيذا فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا فِي جَرٍّ، إِنْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ. فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا النَّدَامَى. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ، حَدِّثْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ - هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: مَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ.
4369 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَشْيَاءَ نَأْخُذُ بِهَا وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا.
قَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ - شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَقَدَ وَاحِدَةً - وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ: الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ) هِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يَسْكُنُونَ الْبَحْرَيْنِ يُنْسَبُونَ إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ أَفْصَى بِسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ بِوَزْنِ أَعْمَى، ابْنِ دُعْمِيٍّ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ، ابْنِ جَدِيلَةَ بِالْجِيمِ وَزْنِ كَبِيرَةٍ، ابْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَالَّذِي تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ الْقَيْسِ وَفْادَتَانِ: إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْفَتْحِ، وَلِهَذَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَكَانَ ذَلِكَ قَدِيمًا إِمَّا فِي سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ قَبْلَهَا، وَكَانَتْ قَرْيَتُهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ أَوَّلَ قَرْيَةٍ أُقِيمَتْ فِيهَا الْجُمُعَةُ بَعْدَ الْمَدِينَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ، وَكَانَ عَدَدُ الْوَفْدِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَفِيهَا سَأَلُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْأَشْرِبَةِ، وَكَانَ فِيهِمُ الْأَشَجُّ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ الزَّارِعِ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ، وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ: فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا يَعْنِي لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ - فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَانْتَظَرَ الْأَشَجُّ وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ حَتَّى لَبِسَ ثَوْبَيْهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ الْحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثِ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْعَصْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ مَزِبدَةَ الْعَصْرِيَّ قَالَ: - بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ قَالَ لَهُمْ: سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَاهُنَا رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمْ فَلَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا فَبَشَّرَهُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَشَى مَعَهُمْ حَتَّى أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَرَمَوْا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رَكَائِبِهِمْ فَأَخَذُوا يَدَهُ فَقَبَّلُوهَا، وَتَأَخَّرَ الْأَشَجُّ فِي الرِّكَابِ حَتَّى أَنَاخَهَا وَجَمَعَ مَتَاعَهُمْ ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مُطَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمْ يُسَمِّهِ.
ثَانِيَتُهُمَا كَانَتْ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ حِينَئِذٍ أَرْبَعِينَ رَجُلًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي حَيْوَةَ الصُّنَاحِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَكَانَ فِيهِمُ
الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّتَهُ وَأَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَيُؤَيِّدُ التَّعَدُّدَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ: مَا لِي أَرَى أَلْوَانَكُمْ تَغَيَّرَتْ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ رَآهُمْ قَبْلَ التَّغَيُّرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِي جَرَّةً تَنْتَبِذُ لِي نَبِيذًا) أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْجَرَّةِ مَجَازًا، وَقَوْلُهُ: فِي جَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِجَرَّةٍ وَتَقْدِيرُهُ إنَّ لِي جَرَّةً كَائِنَةً فِي جُمْلَةِ جِرَارٍ، وَقَوْلُهُ: خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ أَيْ لِأَنِّي أَصِيرُ فِي مِثَالِ حَالِ السُّكَارَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى بَابِ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَوْعِيَةِ وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ.
4370 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ:، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ: أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوا إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فإِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينهَما، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهما. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ مَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَنْهُمَا. قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُمْ، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهُمَا، وَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَصَلَّاهُمَا، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَ فَقُلْتُ: قُومِي إِلَى جَنْبِهِ، فَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي، فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ.
4371 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى، يَعْنِي قَرْيَةً مِنْ الْبَحْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ بَكْرٍ بِنِ مُضَرَ بِإِسْنَادِهِ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، وَتَقَدَّمَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْعَقَدِيُّ.
قَوْلُهُ: (بِجُواثَى) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
70 - بَاب وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَحَدِيثِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ
4372 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَاذا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ، يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فقَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نخل قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ قَالَ: لَا والله، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَحَدِيثِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ) أَمَّا حَنِيفَةُ فَهُوَ ابْنُ لُجَيْمِ بِجِيمٍ ابْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ يَنْزِلُونَ الْيَمَامَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، وَكَانَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أنهم كَانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ. وَأَمَّا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَأَبُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وبمثلثة خَفِيفَةٍ ابْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُ قَبْلَ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ بِزَمَانٍ، فَإِنَّ قِصَّتَهُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَكَأنَ الْبُخَارِيُّ ذَكَرَهَا هُنَا اسْتِطْرَادًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِسَمَاعِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ لَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، فَإِنَّ اللَّيْثَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَتْقَنُ النَّاسِ لِحَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدٌ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِهِ قَبْلُ، أَوْ ثَبَّتَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَحَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ) أَيْ بَعَثَ فُرْسَانَ خَيْلٍ إِلَى جِهَةِ نَجْدٍ، وَزَعَمَ سَيْفٌ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لَهُ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ ثُمَامَةَ وَأَسَرَهُ هُوَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زَمَانِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِصَّةُ ثُمَامَةَ تَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَيْثُ اعْتَمَرَ ثُمَامَةُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ ثُمَّ مَنَعَهُمْ أَنْ يَمِيرُوا أَهْلَ مَكَّةَ، ثُمَّ شَكَا أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ يَشْفَعُ فِيهِمْ عِنْدَ ثُمَامَةَ.
قَوْلُهُ: (مَاذَا عِنْدَكَ) أَيْ أَيُّ شَيْءٍ عِنْدَكَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَذَا: مَوْصُولَةٌ
وَعِنْدَكَ: صِلَتُهُ، أَيْ مَا الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي ظَنِّكَ أَنْ أَفْعَلَهُ بِكَ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ ظَنَّ خَيْرًا فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ؛ أَيْ لِأَنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَظْلِمُ، بَلْ مِمَّنْ يَعْفُو وَيُحْسِنُ.
قَوْلُهُ: (إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُهْمَلَةٍ مُخَفَّفَةِ الْمِيمِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ ذَمٍّ بِمُعْجَمَةٍ مُثْقَّلِ الْمِيمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ أَيْ صَاحِبِ دَمٍ، لِدَمِهِ مَوْقِعٌ يَشْتَفِي قَاتِلُهُ بِقَتْلِهِ وَيُدْرِكُ ثَأْرَهُ لِرِيَاسَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِهِ، فَلَا لَوْمَ عَلَيْكَ فِي قَتْلِهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ بِالْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهَا ذَا ذِمَّةٍ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَضَعَّفَهَا عِيَاضٌ بِأَنَّهُ يَقْلِبُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَا ذِمَّةٍ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْحُرْمَةُ فِي قَوْمِهِ، وَأَوْجَهُ الْجَمِيعِ الْوَجْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُشَاكِلٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: عِنْدِي خَيْرٌ ; وَفِعْلُ الشَّرْطِ إِذَا كُرِّرَ فِي الْجَزَاءِ دَلَّ عَلَى فَخَامَةِ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ) أَيْ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ; هَكَذَا اقْتَصَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. وَحَذَفَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَذْفِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَ أَوَّلَ يَوْمٍ أَشَقَّ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، وَأَشْفَى الْأَمْرَيْنِ لِصَدْرِ خُصُومِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِعْطَافِ وَطَلَبِ الْإِنْعَامِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ رَأَى أَمَارَاتِ الْغَضَبِ فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْتُلْهُ طَمِعَ فِي الْعَفْوِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا مِمَّا قَالَ اقْتَصَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَلَى الْإِجْمَالِ تَفْوِيضًا إِلَى جَمِيلِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ وَافَقَ ثُمَامَةُ فِي هَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ قَوْلَ عِيسَى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ؛ لِأَنَّ الْمَقَامُ يَلِيقُ بِذَلِكَ
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ يَا ثُمَامَةُ وَأَعْتَقْتُكَ وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْأَسْرِ جَمَعُوا مَا كَانَ فِي أَهْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ وَلَبَنٍ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْ ثُمَامَةَ مَوْقِعًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ جَاءُوهُ بِالطَّعَامِ فَلَمْ يُصِبْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا. فَتَعَجَّبُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (فَبَشَّرَهُ) أَيْ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ أَوْ بِمَحْوِ ذُنُوبِهِ وَتَبِعَاتِهِ السَّابِقَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ) زَادَ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَبَّى، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يُلَبِّي. فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: لَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَيْنَا، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: دَعُوهُ فَإِنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَامِ مِنَ الْيَمَامَةِ فَتَرَكُوهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ) كَأَنَّهُ قَالَ: لَا مَا خَرَجْتُ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ لَيْسَتْ دِينًا، فَإِذَا تَرَكْتُهَا لَا أَكُونُ خَرَجْتُ مِنْ دِينٍ، بَلِ اسْتَحْدَثْتُ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ مُحَمَّدٍ أَيْ وَافَقْتُهُ عَلَى دِينِهِ فَصِرْنَا مُتَصَاحِبَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ أَنَا بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ بِالِاسْتِدَامَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَلَكِنْ تَبِعْتُ خَيْرَ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا وَاللَّهِ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ وَلَا أَرْفَقُ بِكُمْ، فَأَتْرُكُ الْمِيرَةَ تَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ ابْنُ هِشَامٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْيَمَامَةِ فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إِلَى مَكَّةَ شَيْئًا، فَكَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، فَكَتَبَ إِلَى ثُمَامَةَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ إِلَيْهِمْ. وَفِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ رَبْطُ الْكَافِرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَنُّ عَلَى الْأَسِيرِ الْكَافِرِ وَتَعْظِيمُ أَمْرِ الْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيءِ؛ لِأَنَّ ثُمَامَةَ أَقْسَمَ أَنَّ بُغْضَهُ انْقَلَبَ حُبًّا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا أَسَدَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَالْمَنِّ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ. وَفِيهِ الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِحْسَانَ يُزِيلُ الْبُغْضَ وَيُثَبِّتُ الْحُبَّ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَرَادَ عَمَلَ خَيْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ شَرَعَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي عَمَلِ ذَلِكَ الْخَيْرِ. وَفِيهِ الْمُلَاطَفَةُ بِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنَ الْأُسَارَى إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَتْبَعُهُ عَلَى إِسْلَامِهِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنْ
قَوْمِهِ، وَفِيهِ بَعْثُ السَّرَايَا إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ، وَأَسْرُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَالتَّخْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَتْلِهِ أَوِ الْإِبْقَاءِ عَلَيْهِ. الْحَدِيثُ الثَّانِي:
4373 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَه، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ.
4374 -
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أَرَيْتُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالآخَرُ مُسَيْلِمَة".
4375 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأَوْحي إِلَيَّ أَنْ أنْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ النَّوْفَلِيُّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَشْهُورٌ نُسِبَ هُنَا لِجَدِّهِ.
قَوْلُهُ: (قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ الْمَدِينَةَ، وَمُسَيْلِمَةُ مُصَغَّرٌ بِكَسْرِ اللَّامِ ابْنُ ثُمَامَةَ بْنِ كَبِيرٍ بِمُوَحَّدَةٍ ابْنِ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ادَّعَى النُّبُوَّةَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَزَعَمَ وَثِيمَةُ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ ثُمَامَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو ثُمَامَةَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مِمَّنْ تَوَافَقَتْ كُنْيَتُهُ وَاسْمُهُ، وَسِيَاقُ هَذِهِ الْقِصَّةِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَدِمَ مَعَ وَفْدِ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ فِي رِحَالِهِمْ يَحْفَظُهَا لَهُمْ، وَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَخَذُوا مِنْهُ جَائِزَتَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ، وَأَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ أُشْرِكَ فِي النُّبُوَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَّ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهَذَا مَعَ شُذُوذِهِ ضَعِيفُ السَّنَدِ لِانْقِطَاعِهِ.
وَأَمْرُ مُسَيْلِمَةَ كَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يُقَالُ لَهُ: رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ لِعِظَمِ قَدْرِهِ فِيهِمْ، وَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا الْخَبَرُ الضَّعِيفُ مَعَ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَ بِهِ وَخَاطَبَهُ وَصَرَّحَ لَهُ بِحَضْرَةِ قَوْمِهِ أَنْ لَوْ سَأَلَهُ الْقِطْعَةَ الْجَرِيدَةَ مَا أَعْطَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسَيْلِمَةُ قَدِمَ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى كَانَ تَابِعًا وَكَانَ رَئِيسُ بَنِي حَنِيفَةَ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا أَقَامَ فِي
حِفْظِ رِحَالِهِمْ، وَمَرَّةً مَتْبُوعًا وَفِيهَا خَاطَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ فِي رِحَالِهِمْ بِاخْتِيَارِهِ أَنَفَةً مِنْهُ وَاسْتِكْبَارًا أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَامَلَهُ النَّبِيُّ مُعَامَلَةَ الْكَرَمِ عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاسْتِئْلَافِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ أَيْ بِمَكَانٍ، لِكَوْنِهِ كَانَ يَحْفَظُ رِحَالَهُمْ، وَأَرَادَ اسْتِئْلَافَهُ بِالْإِحْسَانِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَفِدْ مُسَيْلِمَةُ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِمْ لِيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَيُعْذِرَ إِلَيْهِ بِالْإِنْذَارِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْتِي بِنَفْسِهِ إِلَى مَنْ قَدِمَ يُرِيدُ لِقَاءَهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
قَوْلُهُ: (إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ) أَيِ الْخِلَافَةَ ; وَسَقَطَ لَفْظُ الْأَمْرَ هُنَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَثَبَتَتْ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَدَدَ مَنْ كَانَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا، فَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقُدُومِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ لَنْ تَعْدُ بِالْجَزْمِ وَهُوَ لُغَةٌ، أَيِ الْجَزْمِ بِلَنْ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ حُكْمُهُ. وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ أَيْ خَالَفْتَ الْحَقَّ، قَوْلُهُ: لَيَعْقِرَنَّكَ بِالْقَافِ أَيْ يُهْلِكُكَ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يُجِيبُكَ عَنِّي) أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ خَطِيبَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَاكْتَفَى بِمَا قَالَهُ لِمُسَيْلِمَةَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ الْإِسْهَابَ فِي الْخِطَابِ فَهَذَا الْخَطِيبُ يَقُومُ عَنِّي فِي ذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِعَانَةُ الْإِمَامِ بِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ فِي جَوَابِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أُرِيتَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ رُؤْيَا الْمَنَامِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مِنْ ذَهَبٍ) مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: الْأَسَاوِرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَهَبٍ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ فَهِيَ الْقَلْبُ.
قَوْلُهُ: (فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الَّتِي بَعْدَهَا فَكَبُرَا عَلَيَّ.
قَوْلُهُ: (أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ) بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ صَاحِبُ صَنْعَاءَ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ شَأْنَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْقَبَةٌ لِلصِّدِّيقِ رضي الله عنه، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَلَّى نَفْخَ السِّوَارَيْنِ بِنَفْسِهِ حَتَّى طَارَا، فَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَقُتِلَ فِي زَمَنِهِ، وَأَمَّا مُسَيْلِمَةُ فَكَانَ الْقَائِمَ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَامَ مَقَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ السِّوَارَ وَسَائِرَ آلَاتِ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ اللَّائِقَةِ بِالنِّسَاءِ تَعْبر لِلرِّجَالِ بِمَا يَسُوءُهُمْ وَلَا يَسُرُّهُمْ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4376 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَهْدِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ فَلَا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ، وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ.
4377 -
وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَارِكِيُّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ يُكْنَى أَبَا هَمَّامٍ،
بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، أَكْثَرَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ.
قَوْلُهُ: (هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَحْسَنُ بَدَلَ أَخْيَرَ، وَأَخْيَرُ لُغَةٌ فِي خَيْرٍ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ مِنْ كَوْنِهِ أَشَدَّ بَيَاضًا أَوْ نُعُومَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحِجَارَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ.
قَوْلُهُ: (جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ هُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ التُّرَابِ تُجْمَعُ فَتَصِيرُ كَوْمًا وَجَمْعُهَا الْجُثَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ نَحْلُبُهَا عَلَيْهِ) أَيْ لِتَصِيرَ نَظِيرَ الْحَجَرِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِحَلَبِهِمُ الشَّاةَ عَلَى التُّرَابِ مَجَازُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ اللَّبَنِ.
قَوْلُهُ: (مُنْصِلُ) بِسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِنَزْعِ الْحَدِيدِ مِنَ السِّلَاحِ لِأَجْلِ شَهْرِ رَجَبٍ إِشَارَةً إِلَى تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ الْحَدِيدَ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيُقَالُ: نَصَلْتُ الرُّمْحَ إِذَا جَعَلْتُ لَهُ نَصْلًا، وَأَنْصَلْتُهُ إِذَا نَزَعْتُ مِنْهُ النَّصْلَ.
قَوْلُهُ: (وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ) بِالْفَتْحِ أَيْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ. وَلِبَعْضِهِمْ لِشَهْرِ رَجَبٍ أَيْ لِأَجْلِ شَهْرِ رَجَبٍ. وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ فِي ذِكْرِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ أَنَّهُ ذَكَرَ الدِّمَاءَ فَعَظَّمَهَا وَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ نَزَعَ أَحَدُهُمْ سِنَانَهُ مِنْ رُمْحِهِ، وَجَعَلَهَا فِي عُلُومِ النِّسَاءِ
(1)
وَيَقُولُونَ: جَاءَ مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ، ثُمَّ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ هَوْدَجَ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ كَأَنَّهُ قُنْفُذٌ، فَقِيلَ لَهُ: قَاتَلْتَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَقَدْ رَمَيْتُ بَأَسْهُمٍ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَقُولُ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ إِلَّا أَنْ رَأَيْنَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا تَمَالَكْنَا.
قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ) هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ، إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: بُعِثَ أَيِ اشْتُهِرَ أَمْرُهُ عِنْدَهُمْ، وَمُرَادُهُ بِخُرُوجِهِ أَيْ ظُهُورِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَبْدَأَ ظُهُورِهِ بِالنُّبُوَّةِ وَلَا خُرُوجَهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِطُولِ الْمُدَّةِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ خُرُوجِ مُسَيْلِمَةَ. وَدَلَّتِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ أَبَا رَجَاءٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَ مُسَيْلِمَةَ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي عُطَارِدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ بَطْنٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَجَاحًا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ أَيْضًا فَتَابَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهَا، ثُمَّ بَلَغَهَا أَمْرُ مُسَيْلِمَةَ فَخَادَعَهَا إِلَى أَنْ تَزَوَّجَهَا وَاجْتَمَعَ قَوْمُهَا وَقَوْمُهُ عَلَى طَاعَةِ مُسَيْلِمَةَ.
71 - بَاب قِصَّةُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ
4378 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرامِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ نَشِيطٍ، وَكَانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ قَضِيبٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: إِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ،
(1)
بهامش طبعة بولاق: كذا في نسخ الشرح التي بأيدينا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ سَيُجِيبُكَ عَنِّي، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
4379 -
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي ذَكَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُرِيتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ" فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّاب"
قَوْلُهُ: (قِصَّةُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ) بِسِكُونِ النُّونِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ جَوَازَ فَتْحِهَا وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ مُكْثِرٌ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ نَشِيطٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ) أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْمُبْهَمَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ لَا أَخُوهُ مُوسَى، وَمُوسَى ضَعِيفٌ جِدًّا وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ ثِقَةٌ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ: صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. وَسَاقَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ الْحَدِيثَ مُرْسَلًا. وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مَوْصُولًا لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ وَكَانَ تَحْتَهُ ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ) وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَالَّذِي وَقَعَ هُنَا أَنَّهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، قِيلَ: الصَّوَابُ أُمُّ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا أُمُّهُ، فَإِنَّ أُمَّ ابْنِ عَامِرٍ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ. وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَّجَهٌ.
وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَإِنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَلَدًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَاسْمِ أَبِيهِ، وَهُوَ مِنْ بِنْتِ الْحَارِثِ وَاسْمُهَا كَيِّسَةُ بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَهِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَلَهَا مِنْهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ كَيِّسَةُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ السِّرُّ فِي نُزُولِ مُسَيْلِمَةَ وَقَوْمِهِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا كَانَتِ امْرَأَتَهُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِدَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ اسْمَهَا رَمْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَلَهَا صُحْبَةٌ، وَتُكْنَى أُمَّ ثَابِتٍ، وَكَانَتْ زَوْجَ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، فَكَلَامُ ابْنِ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَارَهَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِنُزُولِ الْوُفُودِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي وَفْدِ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي كِلَابٍ وَبَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ نَزَلُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ حُبِسُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَتَعَقَّبَ السُّهَيْلِيُّ مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ بِأَنَّ الصَّوَابَ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهُوَ تَعَقُّبٌ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ نَزَلُوا بِدَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ كَسَائِرِ الْوُفُودِ، وَمُسَيْلِمَةُ وَحْدَهُ نَزَلَ بِدَارِ زَوْجَتِهِ بِنْتِ الْحَارِثِ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَنَّ مُسَيْلِمَةَ وَالْوَفْدَ نَزَلُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَتْ دَارُهَا مُعَدَّةً لِلْوُفُودِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا أَيْضًا: بِنْتُ الْحَارِثِ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِ النِّسَاءِ فَقَالَ: رَمْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَيُقَالُ لَهَا ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ وَسَاقَ نَسَبَهَا. وَأَمَّا زَوْجَةُ مُسَيْلِمَةَ وَهِيَ كَيِّسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ،
فَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِنْدَ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ) هَذَا مُغَايِرٌ لِمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ ادَّعَى الشَّرِكَةَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ.
4379 -
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي ذَكَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُرِيتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ لِي) كَذَا فِيهِ بِضَمِّ الذَّالِ مِنْ ذَكَرَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ وَضَحَ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (إِسْوَارَانِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ تَثْنِيَةُ إِسْوَارٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي السِّوَارِ، وَالسِّوَارُ بِالْكَسْرِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ، وَالْأُسْوَارُ أَيْضًا صِفَةٌ لِلْكَبِيرِ مِنَ الْفَرَسِ: وَهُوَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ مَعًا بِخِلَافِ الْإِسْوَارِ مِنَ الْحُلِيِّ فَإِنَّهُ بِالْكَسْرِ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (فَفَظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا) بِفَاءٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، يُقَالُ: فَظِعَ الْأَمْرُ فَهُوَ فَظِيعٌ إِذَا جَاوَزَ الْمِقْدَارَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْفَظِيعُ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ، وَجَاءَ هُنَا مُتَعَدِّيًا، وَالْمَعْرُوفُ فَظِعْتُ بِهِ وَفَظِعْتُ مِنْهُ فَيُحْتَمَلُ التَّعْدِيَةُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ خِفْتُهُمَا، أَوْ مَعْنَى فَظِعْتُهُمَا اشْتَدَّ عَلَيَّ أَمْرُهُمَا. قُلْتُ: يُؤَيِّدُ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ قَرِيبًا وَكَبُرَا عَلَيَّ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ) أَمَّا مُسَيْلِمَةُ فَقَدْ ذَكَرْتُ خَبَرَهُ، وَأَمَّا الْعَنْسِيُّ، وَفَيْرُوزُ فَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ أَنَّ الْعَنْسِيَّ وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَاسْمُهُ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا: ذُو الْخِمَارِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يُخَمِّرُ وَجْهَهُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ شَيْطَانِهِ. وَكَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ خَرَجَ بِصَنْعَاءَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَغَلَبَ عَلَى عَامِلِ صَنْعَاءَ الْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَرَّ بِهِ فَلَمَّا حَاذَاهُ عَثَرَ الْحِمَارُ فَادَّعَى أَنَّهُ سَجَدَ لَهُ، وَلَمْ يَقُمِ الْحِمَارُ حَتَّى قَالَ لَهُ شَيْئًا فَقَامَ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بُزْرُجَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ، ثُمَّ رَاءٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ جِيمٌ قَالَ: خَرَجَ الْأَسْوَدُ الْكَذَّابُ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَنْسٍ يَعْنِي بِسُكُونِ النُّونِ وَكَانَ مَعَهُ شَيْطَانَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا سُحَيْقٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَقَافٍ مُصَغَّرٌ وَالْآخَرُ شُقَيْقٌ بِمُعْجَمَةٍ وَقَافَيْنِ مُصَغَّرٌ، وَكَانَا يُخْبِرَانِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَحْدُثُ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، وَكَانَ بَاذَانُ عَامِلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِصَنْعَاءَ فَمَاتَ، فَجَاءَ شَيْطَانُ الْأَسْوَدِ فَأَخْبَرَهُ، فَخَرَجَ فِي قَوْمِهِ حَتَّى مَلَكَ صَنْعَاءَ وَتَزَوَّجَ الْمَرْزُبَانَةَ زَوْجَةَ بَاذَانَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي مُوَاعَدَتِهَا دَادَوَيْهِ، وَفَيْرُوزَ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى الْأَسْوَدِ لَيْلًا ; وَقَدْ سَقَتْهُ الْمَرْزُبَانَةُ الْخَمْرَ صَرْفًا حَتَّى سَكِرَ، وَكَانَ عَلَى بَابِهِ أَلْفُ حَارِسٍ. فَنَقَبَ فَيْرُوزُ وَمَنْ مَعَهُ الْجِدَارَ حَتَّى دَخَلُوا فَقَتَلَهُ فَيْرُوزُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَخْرَجُوا الْمَرْأَةَ وَمَا أَحَبُّوا مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَأَرْسَلُوا الْخَبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَافَى بِذَلِكَ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ: أُصِيبَ الْأَسْوَدُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَأَتَاهُ الْوَحْيُ فَأَخْبَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَقِيلَ: وَصَلَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ صَبِيحَةَ دَفْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
72 - بَاب قِصَّةِ أَهْلِ نَجْرَانَ
4380 -
حَدَّثَنا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَننا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ، وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالَ: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا، فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ. فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَمِينُ
هَذِهِ الْأُمَّةِ.
4381 -
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال:"سمعت أبا إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا، فَقَالَ لَابْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ الناس، فبعث أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاح".
4382 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاح".
قَوْلُهُ: (قِصَّةُ أَهْلِ نَجْرَانَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَلَدٌ كَبِيرٌ عَلَى سَبْعِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ قَرْيَةً، مَسِيرَةُ يَوْمِ الرَّاكِبِ السَّرِيعِ، كَذَا فِي زِيَادَاتِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ فِي الْمَغَازِي، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَهُمْ حِينَئِذٍ عِشْرُونَ رَجُلًا، لَكِنْ أَعَادَ ذِكْرَهُمْ فِي الْوُفُودِ بِالْمَدِينَةِ فَكَأَنَّهُمْ قَدِمُوا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ النَّب يُّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَفْدُهُمْ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ كُرْزِ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا، وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ) هُوَ بَغْدَادِيٌّ ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي التَّهَجُّدِ مَقْرُونًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ) فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدَلَ حُذَيْفَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ هَذِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ شُعْبَةَ قَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ: عَنْ حُذَيْفَةَ كَمَا فِي الْبَابِ أَيْضًا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ فَهِمَ ذَلِكَ فَاسْتَظْهَرَ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ صَاحِبَا نَجْرَانَ) أَمَّا السَّيِّدُ فَكَانَ اسْمُهُ الْأَيْهَمَ بِتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَيُقَالُ شُرَحْبِيلُ، وَكَانَ صَاحِبَ رِحَالِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَرَئِيسَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَاقِبُ فَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ صَاحِبَ مَشُورَتِهِمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَيْضًا أَبُو الْحَارِثِ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ أُسْقُفَهُمْ وَحَبْرَهُمْ وَصَاحِبَ مِدْرَاسِهِمْ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَامْتَنَعُوا، فَقَالَ: إِنْ أَنْكَرْتُمْ مَا أَقُولُ فَهَلُمَّ أُبَاهِلْكُمْ، فَانْصَرَفُوا عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ) أَيْ يُبَاهِلَاهُ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ أَنَّ ثَمَانِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ) ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُوَ السَّيِّدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ هُوَ الْعَاقِبُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَأْيِهِمْ، وَفِي زِيَادَاتِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ فِي الْمَغَازِي بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ شُرَحْبِيلُ أَبُو مَرْيَمَ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَاعَنَنَا بِإِظْهَارِ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبَدًا، وَفِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَقَدْ أَتَانِي الْبَشِيرُ بِهَلَكَةِ أَهْلِ نَجْرَانَ لَوْ تَمُّوا عَلَى الْمُلَاعَنَةِ. وَلَمَّا غَدَا عَلَيْهِمْ أَخَذَ بِيَدِ حَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ وَفَاطِمَةَ تَمْشِي خَلْفَهُ لِلْمُلَاعَنَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا)
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ أَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، أَلْفٍ فِي رَجَبٍ، وَأَلْفٍ فِي صَفَرٍ، وَمَعَ كُلِّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ، وَسَاقَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ بَيْنَهُمْ مُطَوَّلًا. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ رَجَعَا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَسْلَمَا، زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: لَا نُلَاعِنُكَ، وَلَكِنْ نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ إِقْرَارَ الْكَافِرِ بِالنُّبُوَّةِ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى يَلْتَزِمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. وَفِيهَا جَوَازُ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَجِبُ إِذَا تَعَيَّنَتْ مَصْلَحَتُهُ. وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ مُبَاهَلَةِ الْمُخَالِفِ إِذَا أَصَرَّ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ. وَقَدْ دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَةٌ مِنْ يَوْمِ الْمُبَاهَلَةِ. وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْصٍ كَانَ يَتَعَصَّبُ لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ، فَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهَا غَيْرَ شَهْرَيْنِ. وَفِيهَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يُؤْخَذُ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ فِي كُلِّ عَامٍ. وَفِيهَا بَعْثُ الْإِمَامِ الرَّجُلَ الْعَالِمَ الْأَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْهُدْنَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ. وَفِيهَا مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ لِيَأْتِيَهُ بِصَدَقَاتِهِمْ وَجِزْيَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ قِصَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ تَوَجَّهَ مَعَهُمْ فَقَبَضَ مَالَ الصُّلْحِ وَرَجَعَ، وَعَلِيٌّ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ يَقْبِضُ مِنْهُمْ مَا اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجِزْيَةِ وَيَأْخُذُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ سَبَبَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي عُبَيْدَةَ.
73 - بَاب قِصَّةُ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ
4383 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا (ثَلَاث)، فَلَمْ يَقْدَمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي، قَالَ جَابِرٌ: فَجِئْتُ أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا (ثَلَاثًا)، قَالَ: فَأَعْطَانِي، قَالَ جَابِرٌ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُعْطِنِي، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي، قَالَ: أَقُلْتَ تَبْخَلُ عَنِّي؟ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ - قَالَهَا ثَلَاثًا - مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ.
وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جِئْتُهُ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَ مِائَةٍ فَقَالَ: خُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قِصَّةُ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ) أَمَّا الْبَحْرَيْنِ فَبَلَدُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا عُمَانُ فَبِضَمِّ
الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، قَالَ عِيَاضٌ: هِيَ فُرْضَةُ بِلَادِ الْيَمَنِ لَمْ يَزِدْ فِي تَعْرِيفِهَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّشَاطِيُّ: عُمَانُ فِي الْيَمَنِ سُمِّيَتْ بِعُمَانَ بْنِ سَبَأٍ، يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْجُلَنْدِيُّ رَئِيسُ أَهْلِ عُمَانَ. ذَكَرَ وَثِيمَةُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَدَّقَهُ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الَّذِي آمَنَ عَلَى يَدِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَلَدَا الْجُلَنْدِيِّ، عَيَّاذٌ، وَجَيْفَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ خَيْبَرَ، ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو انْتَهَى. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ، وَعَيَّاذٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ مَلِكِ عُمَانَ وَفِيهِ: فَرَجَعُوا جَمِيعًا قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا عَمْرًا فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَعَمْرٌو بِالْبَحْرَيْنِ وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِقُرْبِ عُمَانَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَبِقُرْبِ الْبَعْثِ إِلَى الْمُلُوكِ مِنْ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ حُنَيْنٍ فَتَصَحَّفَتْ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَلَمْ يَقْدُمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي لَبِيدٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ: بَيْرَحُ بْنُ أَسَدٍ، فَرَآهُ عُمَرُ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ عُمَانَ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الَّتِي سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنِّي لِأَعْلَمُ أَرْضًا يُقَالُ لَهَا: عُمَانُ يَنْضَحُ بِنَاحِيَتِهَا الْبَحْرُ، لَوْ أَتَاهُمْ رَسُولِي مَا رَمَوْهُ بِسَهْمٍ وَلَا حَجَرٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ.
(تَنْبِيهَانِ): بِعَمَلِ الشَّامِ بَلْدَةٌ يُقَالُ لَهَا عَمَّانُ لَكِنَّهَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَهِيَ الَّتِي أَرَادَهَا الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
فِي وَجْهِهِ خَالَانِ لَوْلَاهُمَا
…
مَا بِتُّ مَفْتُونًا بِعَمَّانَ
وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا قَطْعًا، وإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافٌ الرُّوَاةِ فِيمَا وَقَعَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ النَّبَوِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ حَيْثُ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ذِكْرُ عَمَّانَ. وَجَيْفَرٌ مِثْلُ جَعْفَرٍ إِلَّا أَنَّ بَدَلَ الْعَيْنِ تَحْتَانِيَّةٌ، وَعَيَّاذٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَالْجُلَنْدِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ النُّونِ وَالْقَصْرِ، وَبَيْرَحٌ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ بِوَزْنِ دَيْلَمٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بِنَصَبِ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ سَمِعَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي الْكَفَالَةِ، وَفِي الشَّهَادَاتِ، وَفِي فَرْضِ الْخُمُسِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَمْرٍو) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْبَاقِرِ، وَأَبُوهُ هُوَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ هُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ.
74 - بَاب قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ
4384 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنْ الْيَمَنِ، فَمَكَثْنَا حِينًا مَا نُرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَمَعَ ذَلِكَ ظَهَرَ لي أَنَّ فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الْيَمَنِ خُصُوصًا آخَرَ، وَهُوَ مَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا فِي نَفَرٍ مِنْ حِمْيَرَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ، أَوَّلُهُ: أنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ جَمَعُوا ثُمَّ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الشَّرِكَةِ وَشُرِحَ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُمْ مِنِّي الْمُبَالَغَةُ فِي اتِّصَالِ طَرِيقِهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الطَّاعَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ سِوَى شَيْخَيِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَسْوَدِ) فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى.
قَوْلُهُ: (قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِ أَخِيهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
قَوْلُهُ: (مَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ) اسْمُ أُمِّهِ أُمُّ عَبْدٍ بِنْتُ عَبْدِ وُدِّ بْنِ سَوَاءَ، وَلَهَا صُحْبَةٌ.
وَقَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ) أَيْ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ بِلَفْظِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي مَنَاقِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ شَيْخَا الْبُخَارِيِّ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْتِدَاءُ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَثَبَتَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلَمْ يُدْرِكِ الْبُخَارِيُّ، يَحْيَى بْنَ آدَمَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ بِالْكُوفَةِ، وَالْبُخَارِيُّ يَوْمَئِذٍ بِبُخَارَى وَلَمْ يَرْحَلْ مِنْهَا وَعُمْرُهُ يَوْمئِذٍ تِسْعُ سِنِينَ، وَإِنَّمَا رَحَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الْمُقَدَّمَةِ. (تَنْبِيهٌ آخَرُ): كَانَ قُدُومُ أَبِي مُوسَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ كَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى، ثُمَّ قَدِمَ الثَّانِيَةَ صُحْبَةَ جَعْفَرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ طَالِبًا الْمَدِينَةَ فِي سَفِينَةٍ فَأَلْقَتْهُمُ الرِّيحُ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ بِجَعْفَرٍ ثُمَّ قَدِمُوا صُحْبَتَهُ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا لَيَجْمَعُ مَا وَقَعَ عَلَى شَرْطِهِ مِنَ الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا وَالْوُفُودِ وَلَوْ تَبَايَنَتْ تَوَارِيخُهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ غَزْوَةَ سِيفِ الْبَحْرِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَكَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِمُدَّةٍ. وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَهْلُ الْيَمَنِ بَعْدَ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ لِهَذَا الْعَامِّ خُصُوصًا أَيْضًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ بَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهُمْ وَفْدُ حِمْيَرَ، فَوَجَدْتُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لِابْن شَاهِينَ مِنْ طَرِيقِ إِيَاسِ بْنِ عُمَيْرٍ الْحِمْيَرِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ حِمْيَرَ فَقَالُوا: أَتَيْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَوَائِدَهُ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَحَاصِلُهُ: أن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَةٌ عَلَى طَائِفَتَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْوِفَادَةِ، فَإِنَّ قُدُومَ الْأَشْعَرِيِّينَ كَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي سَنَةِ سَبْعٍ عِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَقُدُومَ وَفْدِ حِمْيَرَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ، وَلِأَجْلِ هَذَا اجْتَمَعُوا مَعَ بَنِي تَمِيمٍ. وَقَدْ عَقَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنَ الطَّبَقَاتِ لِلْوُفُودِ بَابًا وَذَكَرَ فِيهِ الْقَبَائِلَ مِنْ مُضَرَ، ثُمَّ مِنْ رَبِيعَةَ، ثُمَّ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَادَ يَسْتَوْعِبُ ذَلِكَ بِتَلْخِيصٍ حَسَنٍ. وَكَلَامُهُ أَجْمَعُ مَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ وَفْدَ حِمْيَرَ لَمْ يَقَعْ لَهُ قِصَّةُ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي ذَكَرْتُهَا.
4385 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى أَكْرَمَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ جَرْمٍ، وَإِنَّا لَجُلُوسٌ عِنْدَهُ وَهُوَ يَتَغَدَّى دَجَاجًا، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ فَدَعَاهُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَقَالَ له: هَلُمَّ، فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ فَقَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ
لَا آكُلُهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ أُخْبِرْكَ عَنْ يَمِينِكَ، إِنَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ يَحْمِلَنَا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُتِيَ بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا: تَغَفَّلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا وَقَدْ حَمَلْتَنَا قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ) هُوَ ابْنُ حَرْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَهْدَمٍ) بِزَايٍ وَزْنِ جَعْفَرٍ، وَهُوَ ابْنُ مُضَرِّبٍ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى) أَيْ إِلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: أَرَادَ قَدِمَ الْيَمَنَ؛ لِأَنَّ زَهْدَمًا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.
قَوْلُهُ: (أَكْرَمَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ جَرْمٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى جَرْمِ بْنِ رَبَّانَ بِرَاءٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ ابْنِ ثَعْلَبَةَ بن حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقَذِرْتُهُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ، وَعَلَى بَاقِي الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ الْوَقْتُ الَّذِي طَلَبَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّونَ الْحُمْلَانَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِرَادَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
4386 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرَةَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: جَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبْشِرُوا يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: أَمَّا إِذْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عِمْرَانَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ قُدُومَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقُدُومَ الْأَشْعَرِيِّينَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَقِبَ فَتْحِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأُجِيبُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ قَدِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
4387 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِيمَانُ هَا هُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ، وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ؛ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.
4388 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ.
وَقَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
4389 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِتْنَةُ هَا هُنَا، هَا هُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ.
4390 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ (الْإِيمَانُ هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ) أَيْ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ ; وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْبَلَدِ لَا مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْيَمَنِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَذَكْوَانُ هُوَ ابن صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ إِلَخْ) أَوْرَدَهُ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِ الْأَعْمَشِ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَأَمَّا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الشَّامِيُّ فَأَبُوهُ بِزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَأَبُو الْغَيْثِ اسْمُهُ سَالِمٌ.
قَوْلُهُ: (الْإِيمَانُ يَمَانٍ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ الَّتِي بَعْدَهَا الْفِقْهُ يَمَانٍ، وَفِيهَا وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ وَفِي أَوَّلِهَا وَأَوَّلِ رِوَايَةِ ذَكْوَانَ أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُوَ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَزَادَ فِيهَا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْغَيْثِ وَالْفِتْنَةُ هاهُنَا حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ السَّادِسُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ سَائِرِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَشَرْتُ هُنَاكَ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ تَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ الْأَنْصَارُ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ أَنَّ مَبْدَأَ الْإِيمَانِ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ مِنْ تِهَامَةَ، وَتِهَامَةُ مِنَ الْيَمَنِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَدَرَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ، فَتَكُونُ الْمَدِينَةُ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ يَمَانِيَّةٌ، وَالثَّالِثُ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ؛ لِأَنَّهُمْ يَمَانِيُّونَ فِي الْأَصْلِ فَنَسَبَ الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَنْصَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَوْ تَأَمَّلُوا أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ خِطَابٌ لِلنَّاسِ وَمِنْهُمُ الْأَنْصَارُ، فَيَتَعَيَّنَ أَنَّ الَّذِي جَاءُوا غَيْرُهُمْ، قَالَ: وَمَعْنَى الْحَدِيثَ وَصْفُ الَّذِينَ جَاءُوا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ وَلَا مَفْهُومَ لَهُ، قَالَ: ثُمَّ الْمُرَادُ الْمَوْجُودُونَ حِينَئِذٍ مِنْهُمْ لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ انْتَهَى. وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَمَانٍ يَشْمَلُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْيَمَنِ بِالسُّكْنَى وَبِالْقَبِيلَةِ، لَكِنْ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ مَنْ يُنْسَبُ بِالسُّكْنَى أَظْهَرُ.
بَلْ هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانِ جِهَةِ الْيَمَنِ وَجِهَةِ الشِّمَالِ، فَغَالِبُ مَنْ يُوجَدُ مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ رِقَاقُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَغَالِبُ مَنْ يُوجَدُ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ غِلَاظُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَقَدْ قَسَمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَهْلَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ: الْيَمَنَ وَالشَّامَ وَالْمَشْرِقَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَغْرِبِ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرَّاوِي إِمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَطْعًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ نَقِيَّةٌ قُلُوبُهُمْ، حَسَنَةٌ طَاعَتُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، كَأَنَّهُمُ السَّحَابُ، هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ: أَيُّ الرِّجَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: رِجَالُ أَهْلِ نَجْدٍ. قَالَ: كَذَبْتَ بَلْ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا أَيْ لِأَنَّ الْفُؤَادَ غِشَاءُ الْقَلْبِ، فَإِذَا رَقَّ نَفَذَ الْقَوْلُ، وَخَلَصَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ ; وَإِذَا غَلُظَ بَعُدَ وُصُولُهُ إِلَى دَاخِلٍ، وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ لَيِّنًا عَلِقَ كُلُّ مَا يُصَادِفُهُ.
4391 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ خَبَّابٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَيَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ أَنْ يَقْرَءُوا كَمَا تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ شِئْتَ أَمَرْتُ بَعْضَهُمْ يَقْرَأُ عَلَيْكَ، قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: اقْرَأْ يَا عَلْقَمَةُ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حُدَيْرٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ: أَتَأْمُرُ عَلْقَمَةَ أَنْ يَقْرَأَ، وَلَيْسَ بِأَقْرَئِنَا، قَالَ: أَمَا إِنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمِكَ وَقَوْمِهِ، فَقَرَأْتُ خَمْسِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا أَقْرَأُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ يَقْرَؤُهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خَبَّابٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِهَذَا الْخَاتَمِ أَنْ يُلْقَى؟ قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ عَلَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَأَلْقَاهُ. رَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ. الحديث السابع: قَوْلُهُ: (فَجَاءَ خَبَّابٌ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ، وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ كُنْيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (أَمَرْتُ بَعْضَهُمْ فَيَقْرَأُ عَلَيْكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَرَأَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حُدَيْرٍ) بِمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ أَخُو زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، وَزِيَادُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، أَدْرَكَ عُمَرَ وَلَهُ رِوَايَةٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ وَوَلِيَ إِمْرَتَهَا مَرَّةً، وَهُوَ أَسَدِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَأَمَّا أَخُوهُ زَيْدٌ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ رِوَايَةً.
قَوْلُهُ: (أَمَا) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ (إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمِكَ وَفِي قَوْمِهِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ثَنَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّخَعِ لِأَنَّ عَلْقَمَةَ نَخَعِيٌّ، وَإِلَى ذَمِّ بَنِي أَسَدٍ وَزِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ أَسَدِيٌّ، فَأَمَّا ثَنَاؤُهُ عَلَى النَّخَعِ فَفِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو لِهَذَا الْحَيِّ مِنَ النَّخَعِ أَوْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَمَّا ذَمُّهُ لِبَنِي أَسَدٍ فَتَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ إِنَّ جُهَيْنَةَ وَغَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، وَأَمَّا النَّخَعِيُّ فَمَنْسُوبٌ إِلَى النَّخَعِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنَ الْيَمَنِ، وَاسْمُ النَّخَعِ حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُلَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ ابْنِ جَلْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَدَدَ بْنِ زَيْدٍ، وَقِيلَ لَهُ النَّخَعُ؛ لِأَنَّهُ نَخَعَ عَنْ قَوْمِهِ أَيْ بَعُدَ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ لَتَسْكُتَنَّ أَوْ لَأُحَدِّثَنَّكَ
بِمَا قِيلَ فِي قَوْمِكَ وَقَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَرَأْتُ خَمْسِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ تَرَى؟) هُوَ مَوصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَخَاطَبَ عَبْدُ اللَّهِ بِذَلِكَ خَبَّابًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَعْلَى، عَنِ الْأَعْمَشِ فَفِيهِ قَالَ خَبَّابٌ: أَحْسَنْتَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ مَوْصُولٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (مَا أَقْرَأُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ يَقْرَؤُهُ) يَعْنِي: عَلْقَمَةُ، وَهِيَ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَلْقَمَةَ حَيْثُ شَهِدَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خَبَّابٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِهَذَا الْخَاتَمِ أَنْ يُلْقَى؟) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْقَافِ أَيْ يُرْمَى بِهِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ) أَيْ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ بِإِسْنَادِهِ هَذَا، وَكَأَنَّهُ فِي الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ، وَإِلَّا فَلَمْ أَرَهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَوَهَمَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ مُعَادٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَنَّ مَحَلَّهُ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنْ لَا إِعَادَةَ، وَأَنَّهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ صَوَابٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي أَنَّ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي وَصَلَهُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ رِوَايَةَ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي وَصَلَهُ بِهِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرَوَاهُ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُسْنِ تَأَنِّيهِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا نُبِّهَ عَلَيْهَا رَجَعَ، وَلَعَلَّ خَبَّابًا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لِبْسِ الرِّجَالِ خَاتَمَ الذَّهَبِ لِلتَّنْزِيهِ، فَنَبَّهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُسْرِعًا.
75 - بَاب قِصَّةُ دَوْسٍ وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ
4392 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ، عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ.
4393 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا
…
عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
وَأَبَقَ غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلَامُكَ فَقُلْتُ: هُوَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْتَقْتُهُ.
قَوْلُهُ: (قِصَّةُ دَوْسٍ وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، تَقَدَّمَ نَسَبُهُمْ فِي غَزْوَةِ ذِي الْخَلَصَةِ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَيِ ابْنِ طَرِيفِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو النُّورِ آخِرُهُ رَاءٌ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْلَمَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: اجْعَلْ لِي آيَةً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَوِّرْ لَهُ.
فَسَطَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَخَافُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ مُثْلَةٌ، فَتَحَوَّلَ إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ، وَكَانَ يُضِيءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ ; ذَكَرَهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِيهَا: أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَبُوهُ وَلَمْ تُسْلِمْ أُمُّهُ، وَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَنَّهُ قَدِمَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِخَيْبَرَ وَكَأَنَّهَا قَدْمَتُهُ الثَّانِيَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو الزِّنَادِ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ) وَقَعَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ حَبِيبَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَثْمَةَ الدَّوْسِيَّ كَانَ حَاكِمًا عَلَى دَوْسٍ، وَكَذَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَعَمَّرَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ حَبِيبٌ يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ لِلْخَلْقِ خَالِقًا لَكِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمُوا. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لِيُحْرِقَ صَنَمَ عَمْرِو بْنِ حَثْمَةَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْكَفِينِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، فَأَحْرَقَهُ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو اسْتُشْهِدَ بَأَجْنَادِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَجَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ، وَقِيلَ بِالْيَرْمُوكِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ (عَنْ قَيْسٍ) وهُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا قَدِمْتُ) أَيْ أَرَدْتُ الْقُدُومَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَأَبَقَ غُلَامٌ لِي لَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْعِتْقِ فَأَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِأَنَّ رِوَايَةَ أَبَقَ فَسَرَّتْ وَجْهَ الْإِضْلَالِ، وَأَنَّ الَّذِي أَضَلَّ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، بِخِلَافِ غُلَامِهِ فَإِنَّهُ أَبَقَ
(1)
أَبُو هُرَيْرَةَ مَكَانَهُ لِهَرَبِهِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ أَنَّهُ أَضَلَّهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِنْكَارِ ابْنِ التِّينِ أَنَّهُ أَبَقَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَادَ فَحَضَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْإِبَاقِ وَعَادَ إِلَى سَيِّدِهِ بِبَرَكَةِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ أَبَقَ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَضَلَّ الطَّرِيقَ فَلَا تَتَنَافَى الرِّوَايَتَانِ.
76 - بَاب قِصَّةِ وَفْدِ طَي وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
4394 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْنَا عُمَرَ فِي وَفْدٍ فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلًا رَجُلًا وَيُسَمِّيهِمْ فَقُلْتُ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا فَقَالَ عَدِيٌّ: فَلَا أُبَالِي إِذًا.
قَوْلُهُ: (وَفْدُ طَيِّئٍ وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ جِيمٍ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ ابْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ الطَّائِيِّ، مَنْسُوبٌ إِلَى طَيِّئٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ابْنِ أَدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عُرَيْبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، يُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ جَلْهَمَةَ فَسُمِّيَ طَيِّئًا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ طَوَى بِئْرًا، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ طَوَى الْمَنَاهِلَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بَيَّضَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ صَدَقَةُ طَيِّئٍ، جِئْتُ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِهِ: أَتَيْتُ عُمَرَ فِي أُنَاسٍ مِنْ قَوْمِي، فَجَعَلَ يُعْرِضُ عَنِّي، فَاسْتَقْبَلْتُهُ فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا أَوْرَدَهُ
(1)
في العبارة غموض أو ساقط منها شيء.
الْبُخَارِيُّ وَنَحْوَ مَا أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ الْمَخْزُومِيُّ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ.
قَوْلُهُ: (أَتَيْتُ عُمَرَ) أَيْ فِي خِلَافَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلًا رَجُلًا يُسَمِّيهِمْ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَلى أَسْلَمْتُ إِذْ كَفَرُوا إِلَخْ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى وَفَاءِ عَدِيٍّ بِالْإِسْلَامِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ مَنَعَ مَنْ أَطَاعَهُ مِنَ الرِّدَّةِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفُتُوحِ
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَدِيٌّ: فَلَا أُبَالِي إِذًا) أَيْ إِذَا كُنْتَ تَعْرِفَ قَدْرِيَ فَلَا أُبَالِي إِذَا قَدِمْتَ عَلَى غَيْرِي، وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَدِيٍّ: حَيَّاكَ اللَّهُ مِنْ مَعْرِفَةٍ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي سَبَبِ إِسْلَامِ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَرِهْتُهُ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ مِمَّا يَلِي الرُّومَ، ثُمَّ كَرِهْتُ مَكَانِي فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُهُ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ. فَقُلْتُ: إِنَّ لِي دِينًا وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَذَكَرَ إِسْلَامَهُ. وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ أَنَّ خَيْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَابَتْ أُخْتَ عَدِيٍّ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَيْهَا فَأَطْلَقَهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَعْطَفَتْهُ بِإِشَارَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ: هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ فَلَمَّا قَدِمَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ عَلَى عَدِيٍّ أَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَ وَأَسْلَمَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: هَذَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ فِي يَدِي.
77 - بَاب حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4395 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَقَدِمْتُ مَعَهُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ حِجَّةِ الْوَدَاعِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا، وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا، ذَكَرَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي صِفَتِهَا كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ - أَيْ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ - لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَا يُوهِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ غَيْرَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَفْظُهُ
(1)
.
(1)
بياض بأصله ا هـ
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ ثَلَاثَ حِجَجٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَدِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ إِلَى الْعَقَبَةِ بِمِنًى بَعْدَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُمْ قَدِمُوا أَوَّلًا فَتَوَاعَدُوا، ثُمَّ قَدِمُوا ثَانِيًا فَبَايَعُوا الْبَيْعَةَ الْأُولَى، ثُمَّ قَدِمُوا ثَالِثًا فَبَايَعُوا الْبَيْعَةَ الثَّانِيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحَجِّ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الثَّوْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حِجَجًا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حَجَّ حِجَجًا لَا يُعْرَفُ عَدَدُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنْ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَطْعًا لِمَا ثَبَتَ وَتَوَاتَرَ أَنَّ وُقُوفَهُ بِعَرَفَةَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ يَوْمُ الْخَمِيسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، بَلْ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ صَلَّيْنَا الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُمْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ أَيْ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ فَاتَّفَقَ أَنْ جَاءَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ يَوْمُ الْخَمِيسِ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَا خَمْسٍ، وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الْأَخْبَارُ، هَكَذَا جَمَعَ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَقَوِيَ هَذَا الْجَمْعُ بِقَوْلِ جَابِرٍ: إِنَّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ أَرْبَعٍ وَكَانَ دُخُولُهُ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ صُبْحَ رَابِعِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْمَدِينَة كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ مَكَثه فِي الطَّرِيقِ ثَمَانِ لَيَالٍ، وَهِيَ الْمَسَافَةُ الْوُسْطَى.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا تَقَدَّمَ غَالِبُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ مَشْرُوحَةً، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ مَعَ مَزِيدِ فَائِدَةٍ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
4396 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَاهُ قَبْلُ وَبَعْدُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ؟) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْمَقُولُ لَهُ عَطَاءٌ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَرَّفِ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنِ اعْتَمَرَ مُطْلَقًا سَوَاءَ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَبْوَابِ الطَّوَافِ فِي بَابِ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
4397 -
حَدَّثَنِي بَيَانٌ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقًا، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ أَهْلَلْتَ؟
قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي.
4398 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حَفْصَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: فَمَا يَمْنَعُكَ؟ فَقَالَ: لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَسْتُ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بَيَانٌ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْبُخَارِيُّ، وَالنَّضْرُ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَطَارِقٌ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي بَابِ مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ حَفْصَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.
4399 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ:، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ الْحَدِيثَ، فِي أَمْرِهَا بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِيهِ الْكَلَامُ عَلَى اسْمِهَا وَاسْمِ أَبِيهَا. وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِتَصْرِيحِ الرَّاوِي بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَسَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ هُنَا عَلَى لَفْظِهِ، وَأَمَّا لَفْظُ شُعَيْبٍ فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ أَتَمُّ سِيَاقًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ.
4400 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ حَتَّى أَنَاخَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: لِعُثْمَانَ ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَفَتَحَ لَهُ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ ثُمَّ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَمَكَثَ نَهَارًا طَوِيلًا ثُمَّ خَرَجَ وَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فَسَبَقْتُهُمْ فَوَجَدْتُ بِلَالًا قَائِمًا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: صَلَّى بَيْنَ ذَيْنِكَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ، وَكَانَ
الْبَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنْ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ وَجَعَلَ بَابَ الْبَيْتِ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُكَ حِينَ تَلِجُ الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَالَ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى؟ وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ إِغْلَاقِ الْبَيْتِ مِنْ أَبْوَابِ الطَّوَافِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ رَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: سَطْرَيْنِ بِالْمُهْمَلَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْمُعْجَمَةِ وَخَطَّأَهُ عِيَاضٌ، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْمِيمَيْنِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَاحِدَةُ الْمَرْمَرِ، وَهُوَ جِنْسٌ مِنَ الرُّخَامِ نَفِيسٌ مَعْرُوفٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ غُيِّرَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ بَعْدَهُ فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَقَدْ أُشْكِلَ دُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَامُ الْفَتْحِ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ، وَفِي أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ جَمِيعِهَا التَّصْرِيحُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبِحَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حِجَّةُ الْوَدَاعِ.
4401 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَلْتَنْفِرْ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ إِذَا حَاضَتْ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
4402 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ.
4403 -
أَلَا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثًا وَيْلَكُمْ - أَوْ وَيْحَكُمْ - انْظُرُوا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كُنَّا نَسْمَعُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا نَدْرِي مَا حِجَّةُ الْوَدَاعِ) كَأَنَّهُ شَيْءٌ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَدَّثُوا بِهِ وَمَا فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَدَاعِ وَدَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى وَقَعَتْ وَفَاتُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا بِقَلِيلٍ فَعَرَفُوا الْمُرَادَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ وَدَّعَ النَّاسَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا، وَأَكَّدَ التَّوْدِيعَ بِإِشْهَادِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِهِ، فَعَرَفُوا حِينَئِذٍ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ: حِجَّةُ الْوَدَاعِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَجِّ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ بِمِنًى مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَدَّعَ النَّاسَ وَقَدَّمْتُ هُنَاكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ سُورَةَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نَزَلَتْ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَرَكِبَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَذَكَرَ الْخُطْبَةَ.
قَوْلُهُ: (فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَحَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الدَّجَّالِ وَفِيهِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كُلَّهَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخُطْبَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قِصَّةَ الدَّجَّالِ فِيهَا إِلَّا ابْنُ عُمَرَ، بَلِ اقْتَصَرَ الْجَمِيعُ عَلَى حَدِيثِ إِنَّ أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا حَدِيثَ جَرِيرٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ هُنَا وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ أَخُو عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِدُونِهَا، وَزِيَادَةُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ، وَكَأَنَّهُ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4404 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَ مَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا حَجَّةَ الْوَدَاعِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَبِمَكَّةَ أُخْرَى.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حِجَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا حِجَّةَ الْوَدَاعِ يَعْنِي وَلَا حَجَّ قَبْلَهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ فَلَا، فَإِنَّهُ اعْتَمَرَ قَبْلَهَا قَطْعًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَبِمَكَّةَ أُخْرَى) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَغَرَضُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ لِقَوْلِهِ: بَعْدَمَا هَاجَرَ مَفْهُومًا، وَأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ كَانَ قَدْ حَجَّ لَكِنِ اقْتِصَارُهُ عَلَى قَوْلِهِ أُخْرَى قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَّا وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِرَارًا، بَلِ الَّذِي لَا أَرْتَابُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْحَجَّ وَهُوَ بِمَكَّةَ قَطُّ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَتْرُكُونَ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ مِنْهُمْ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَوْ عَاقَهُ ضَعْفٌ، وَإِذَا كَانُوا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ دِينٍ يَحْرِصُونَ عَلَى إِقَامَةِ الْحَجِّ وَيَرَوْنَهُ مِنْ مَفَاخِرِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَتْرُكُهُ؟ وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ، وَثَبَتَ دُعَاؤُهُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِمِنًى ثَلَاثَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
4405 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِجَرِيرٍ: اسْتَنْصِتْ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِّ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ نَخَعِيٌّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَكْثَرِ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا، وَقَدْ ذَكَرَ جَرِيرٌ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِجَّةَ الْوَدَاعِ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ.
4406 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ - ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ - وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ - فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: صَدَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ أَبِي بَكْرَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثَ فِي الْعِلْمِ وَفِي الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ أَنْ يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ بِشَهْرٍ حَرَامٍ وَيُخْتَمَ بِشَهْرٍ حَرَامٍ، وَتُتَوَسَّطَ السَّنَةُ بِشَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ رَجَبٌ، وَإِنَّمَا تَوَالَى شَهْرَانِ فِي الْآخِرِ لِإِرَادَةِ تَفْضِيلِ الْخِتَامِ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ.
4407 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْيَهُودِ قَالُوا: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقَالُوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ مَكَانٍ أُنْزِلَتْ: أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ.
قَوْلُهُ: (إنَّ أُنَاسًا مِنَ الْيَهُودِ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَبَيَّنْتُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ صَدَرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، لَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ بِالْيَمَنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَدِ عَلِيٍّ، فَإِنْ ثَبَتَ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ سَأَلُوا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ
اجْتَمَعُوا مَعَ كَعْبٍ عَلَى السُّؤَالِ وَتَوَلَّى هُوَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَتَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِأَوْضَحَ مِنْ هَذَا مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ.
4408 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، وَقَالَ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا، مَالِكٌ مِثْلَهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ الْحَدِيثَ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقِ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ فِي طَرِيقَيْنِ، مِنْهَا حِجَّةُ الْوَدَاعِ وَهُوَ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ لِمَالِكٍ بِأَتَمَّ مِنَ السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ هُنَا.
4409 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؟ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ. اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ.
4410 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
4411 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ.
4412 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ.
4413 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدٌ عَنْ سَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
4414 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَصَايَا، وَتَقْرِيرُ كَوْنِ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَانُ تَوْجِيهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَلْقِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّلَاةِ بِمِنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ كَانَ يَسِيرُ فِي حَجَّتِهِ الْعَنَقَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالْقَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ أَيْضًا.
الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْحَجِّ أَيْضًا.
78 - بَاب غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ
4415 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوكَ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُنَّ فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ بِهِنَّ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لِي: إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ
مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ تَبُوكَ) هَكَذَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ خَطَأٌ وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ النُّسَّاخِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الطَّائِفِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي رَجَبٍ إِذَا حَذَفْنَا الْكُسُورَ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ رُجُوعِهِ مِنَ الطَّائِفِ فِي ذِي الْحَجَّةِ. وَتَبُوكُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ هُوَ نِصْفُ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقٍ، وَيُقَالُ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً. وَذَكَرَهَا فِي الْمُحْكَمِ فِي الثُّلَاثِيِّ الصَّحِيحِ، وَكَلَامُ ابْنِ قُتَيْبَةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنَ الْمُعْتَلِّ فَإِنَّهُ قَالَ: جَاءَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَبْكُونَ مَكَانَ مَائِهَا بِقَدَحٍ فَقَالَ: مَا زِلْتُمُ تَبُوكُونَهَا، فَسُمِّيَتْ حِينَئِذٍ تَبُوكَ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ) وَفِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ قَوْلُ أَبِي مُوسَى: فِي جَيْشِ الْعُمرَةِ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَبَعْدهَا سُكُونٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لِعُمَرَ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَأَصَابَنَا عَطَشٌ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ: خَرَجُوا فِي قِلَّةٍ مِنَ الظَّهْرِ وَفِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَعِيرَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِي كَرِشِهِ مِنَ الْمَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةً مِنَ الْمَاءِ وَفِي الظَّهْرِ وَفِي النَّفَقَةِ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ. وَتَبُوكُ الْمَشْهُورُ فِيهَا عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ. وَوَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا عَيْنَ تَبُوكَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَاهُ إِلَى الْعَيْنِ: مَا زِلْتُمَا تَبُوكَانِهَا مُنْذُ الْيَوْمِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَيْنَ تَبُوكَ ; وَالْبَوْكُ كَالْحَفْرِ انْتَهَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمُسْلِمٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي عَامِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَ تَبُوكَ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا.
فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَائِهَا ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النَّاسُ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْبَاطِ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ بِالزَّيْتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ، فَنَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزَوِهُمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَتَبَتْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ هَلَكَ وَأَصَابَتْهُمْ سُنُونَ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ: قُبَاذُ وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ قُوَّةٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَهَّزَ عِيرًا إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَضُرُّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ
مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا. يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَالْحَقْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَغَزَا تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الْآيَةَ انْتَهَى، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا.
قَوْلُهُ: (أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ لَهُمْ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيِ الشَّيْءَ الَّذِي يَرْكَبُونَ عَلَيْهِ وَيَحْمِلُهُمْ.
قَوْلُهُ: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: وَجَاءَ نَفَرٌ كُلُّهُمْ مُعْسِرٌ يَسْتَحْمِلُونَهُ لَا يُحِبُّونَ التَّخَلُّفَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ. قَالَ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ وَفِي مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْبَكَّائِينَ سَبْعَةُ نَفَرٍ
(1)
: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبُو لَيْلَى بْنُ كَعْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحِمَامِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَقِيلَ ابْنُ غَنْمَةَ، وَعُلَيَّةُ بْنُ زَيْدٍ، وَهَرَمِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ. قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا يَاسِرٍ الْيَهُودِيَّ وَقِيلَ: ابْنُ يَامِينَ - جَهَّزَ أَبَا لَيْلَى، وَابْنَ مُغَفَّلٍ، وَقِيلَ: كَانَ فِي الْبَكَّائِينَ بَنُو مُقَرِّنٍ السَّبْعَةُ مَعْقِلٌ وَإِخْوَتُهُ.
قَوْلُهُ: (خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ) أَيِ الْجَمَلَيْنِ الْمَشْدُودَيْنِ، أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ: النَّظِيرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي: هَاتَيْنِ الْقَرِينَتَيْنِ أَيِ النَّاقَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ فِي قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ لَهُمْ بِخَمْسِ ذَوْدٍ وَقَالَ: هَذَا بِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ، فَإِمَّا تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ أَوْ زَادَهُمْ عَلَى الْخَمْسِ وَاحِدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَاتَيْنِ الْقَرِينَتَيْنِ وَهَاتَيْنِ الْقَرِينَتَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنَ الرَّاوِي أَوْ كَانَتِ الْأُولَى اثْنَتَيْنِ وَالثَّانِيَةُ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الْقَرِينَ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا: هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ فَذَكَّرَ ثُمَّ أَنَّثَ فَالْأُولَى عَلَى إِرَادَةِ الْبَعِيرِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لَا عَلَى الْوَصْفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (ابْتَاعَهُنَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ابْتَاعَهُمْ وَكَذَا انْطَلَقَ بِهِنَّ فِي رِوَايَتِهِ: بِهِمْ وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ.
قَوْلُهُ: (حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ) لَمْ يَتَعَيَّنْ لِي مَنْ هُوَ سَعْدٌ إِلَى الْآنَ، إِلَّا أَنَّهُ يَهْجِسُ فِي خَاطِرِي أَنَّهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ حِنْثِ الْحَالِفِ فِي يَمِينِهِ إِذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَانْعِقَادُ الْيَمِينِ فِي الْغَضَبِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4416 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ قَالَ: أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ:، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، سَمِعْتُ مُصْعَبًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مُرْسَلًا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَاضْرِبْ وَخُذْ وَعِظْ. ثُمَّ دَعَا نِسَاءَهُ فَقَالَ: اسْمَعْنَ لِعَلِيٍّ وَأَطِعْنَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ إِلَخْ) أَرَادَ بَيَانَ التَّصْرِيحِ بِالسَّمَاعِ فِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ، عَنْ مُصْعَبٍ، وَطَرِيقُ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِهِ.
4417 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يُخْبِرُ قَالَ: أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعُسْرَةَ قَالَ: كَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ
(1)
المعدود ثمانية
الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ أَعْمَالِي عِنْدِي قَالَ عَطَاءٌ: فَقَالَ صَفْوَانُ: قَالَ يَعْلَى: فَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الْآخَرِ قَالَ عَطَاءٌ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ أَيُّهُمَا عَضَّ الْآخَرَ فَنَسِيتُهُ قَالَ: فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَفهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ قَالَ عَطَاءٌ: وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ يَقْضَمُهَا.
قَوْلُهُ: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعُسْرَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيُّ: الْعُسَيْرَةَ بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ: (كَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ أَعْمَالِي عِنْدِي) تَقَدَّمَ فِي الْإِجَازةِ بِلَفْظٍ إِجْمَالِيٍّ، وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَطَاءٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدهُمَا يَدَ الْآخَرِ، قَالَ عَطَاءٌ: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ أَيَّهُمَا عَضَّ الْآخَرَ فَنَسِيتُهُ) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ وَتَتِمَّةُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
79 - بَاب حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
4418 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ
سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ: وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ
عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ: لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ
تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ: لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ
سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي
وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ {تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ:{وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ تبارك وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: (حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: خُلِّفُوا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ) كَذَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ،
وَوَقَعَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي بَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ عَمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ هُنَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ نَفْسِهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوْيهِ: كَأَنَّ الزُّهْرِيَّ سَمِعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ نَفْسِهِ، وَسَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ مِنْ وَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهُوَ يُرِيدُ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ بِالشَّامِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ تَبُوكَ أَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَلَقِيَهُ بِهَا وَفْدُ أَذَرْحَ وَوَفْدُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ قَفَلَ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الْآيَةَ وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بِضْعَةٍ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا رَجَعَ صَدَّقَهُ أُولَئِكَ وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَكَذَبَ سَائِرُهُمْ فَحَلَفُوا مَا حَبَسَهُمْ إِلَّا الْعُذْرُ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَنُهِى عَنْ كَلَامِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ هُنَا وَكَذَا لِابْنِ السَّكَنِ فِي الْجِهَادِ مِنْ بَيْتِهِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْقِلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ وَأَوْعَاهُمْ لِأَحَادِيثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (حِينَ تَخَلَّفَ) أَيْ زَمَانَ تَخَلُّفِهِ. وَقَوْلُهُ: عَنْ قِصَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُحَدِّثُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) زَادَ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ رَوَاهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَمِثْلُهُ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي لِيُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِهَذَا السَّنَدِ وَلَمْ يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا.
قَوْلُهُ: (تَوَاثَقْنَا) بِمُثَلَّثَةٍ وَقَافٍ أَيْ أَخَذَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ لَمَّا تَبَايَعْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ) أَيْ أَنَّ لِي بَدَلَهَا.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ) أَيْ أَعْظَمَ ذَكَرًا. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَكْثَرَ ذِكْرًا فِي النَّاسِ مِنْهَا وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: وَلَعَمْرِي إِنَّ أَشْرَفَ مَشَاهِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَدْرٌ.
قَوْلُهُ: (أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ) زَادَ مُسْلِمٌ: مِنِّي.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا) أَيْ أَوْهَمَ غَيْرَهَا، وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْآخَرِ فَيُوهِمُ إِرَادَةَ الْقَرِيبِ وَهُوَ يُرِيدُ الْبَعِيدَ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكَانَ يَقُولُ: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقِطْعَةُ مِنَ الْحَدِيثِ أُفْرِدَتْ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِهَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَلَّمَا كَانَ يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ: فِي سَفَرِ جِهَادٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَخَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.
قَوْلُهُ: (وَعَدُوًّا كَثِيرًا) فِي رِوَايَةٍ: وَغَزْوَ عَدُوٍّ كَبِيرٍ.
قَوْلُهُ: (فَجَلَّى) بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ أَوْضَحَ.
قَوْلُهُ: (أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أُهْبَةَ عَدُوِّهُمْ وَالْأُهْبَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَرْبِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ) بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْقِلٍ: يَزِيدُونَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، وَلَا يَجْمَعُ دِيوَانٌ حَافِظٌ وَلِلْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَبِهَذِهِ الْعِدَّةِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَأَوْرَدَهُ الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدٍ آخَرَ مَوْصُولٍ وَزَادَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ مَعْقِلٍ عَلَى إِرَادَةِ عَدَدِ الْفُرْسَانِ. وَلِابْنِ مَرْدَوْيهِ: وَلَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ حَافِظٌ يَعْنِي كَعْبٌ بِذَلِكَ الدِّيوَانِ يَقُولُ: لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ مَكْتُوبٌ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ التَّنْوِينَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَلَا تُخَالِفُ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي الْإِكْلِيلِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَالَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا جَبَرَ الْكَسْرَ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ الدِّيوَانَ هُوَ كَلَامُ الزُّهْرِيِّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازَ عَمَّا وَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اكْتُبُوا لِي مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الدِّيوَانَ عُمَرُ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (قَالَ كَعْبٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (فَمَا رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقَلَّ رَجُلٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا ظَنَّ أَنَّهُ سَيَخْفَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ سَيَخْفَى بِتَخْفِيفِ النُّونِ بِلَا هَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ.
قَوْلُهُ: (حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فِي لَيَالِي الْخَرِيفِ وَا نَّاسُ خَارِفُونَ فِي نَخِيلِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ: وَأَنَا أَقْدَرُ شَيْءٍ فِي نَفْسِي عَلَى الْجِهَازِ وَخِفَّةِ الْحَاذِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ أَصْغُو إِلَى الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَقَوْلُهُ: الْحَاذِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْحَالُ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَقَوْلُهُ: أَصْغُو بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَمِيلُ، وَيُرْوَى: أَصْعُرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: فَالنَّاسُ إِلَيْهَا صُعُرٌ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى اشْتَدَّ النَّاسُ الْجِدَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ الْجِدُّ فِي الشَّيْءِ وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ، وَضَبَطُوا النَّاسَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَالْجِدَّ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: اشْتَدَّ النَّاسُ الِاشْتِدَادَ الْجِدَّ، وَعِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ: اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ بِرَفْعِ الْجِدِّ وَزِيَادَةِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِالنَّاسِ الْجِدُّ وَالْجِدُّ عَلَى هَذَا فَاعِلٌ وَهُوَ مَرْفُوعٌ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: حَتَّى شَمَّرَ النَّاسُ الْجِدَّ وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبِكَسْرِهَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ كَعْبٍ: فَأَخَذْتُ فِي جَهَازِي، فَأَمْسَيْتُ وَلَمْ أَفْرُغْ، فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ فِي غَدٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَسْرَعُوا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى شَرَعُوا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: وَلَمْ أَفْعَلْ.
قَوْلُهُ: (وَتَفَارَطَ) بِالْفَاءِ وَالطَّاءِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيْ فَاتَ وَسَبَقَ، وَالْفَرْطُ السَّبْقُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَتَّى أَمْعَنَ الْقَوْمُ وَأَسْرَعُوا، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِلتَّجْهِيزِ وَتَشْغَلُنِي الرِّجَالُ، فَأَجْمَعْتُ الْقُعُودَ حِينَ سَبَقَنِي الْقَوْمُ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ كَعْبٍ: فَقُلْتُ أَيْهَاتَ، سَارَ النَّاسُ ثَلَاثًا، فَأَقَمْتُ.
قَوْلُهُ: (مَغْمُوصًا) بَالِغِينِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَطْعُونًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مُتَّهَمًا بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُسْتَحْقَرًا، تَقُولُ: غَمَصْتُ فُلَانًا إِذَا اسْتَحْقَرْتُهُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ) بِغَيْرِ صَرْفٍ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَبُوكًا عَلَى إِرَادَةِ الْمَكَانِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: مِنْ قَوْمِي وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَهَذَا غَيْرُ الْجُهَنِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَنِ اسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ السَّلَمِيَّ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ هَذَا، وَالَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ اتِّفَاقًا إِلَّا مَا حَكَى الْوَاقِدِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ.
قَوْلُهُ: (حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفِهِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنْ حُسَنِهِ وَبَهْجَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الرِّدَاءَ بِصِفَةِ الْحُسْنِ وَتُسَمِّيهِ عِطْفًا لِوُقُوعِهِ عَلَى عِطْفَيِ الرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُنْتَصِبًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ. فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ
الْأَنْصَارِيُّ. قُلْتُ: وَاسْمُ أَبِي خَيْثَمَةَ - هَذَا - سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، كَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَلَفْظُهُ: تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلْتُ حَائِطًا فَرَأَيْتُ عَرِيشًا قَدْ رُشَّ بِالْمَاءِ، وَرَأَيْتُ زَوْجَتِي فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِإِنْصَافٍ، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّمُومِ وَالْحَرُورِ وَأَنَا فِي الظِّلِّ وَالنَّعِيمِ، فَقُمْتُ إِلَى نَاضِحٍ لِي وَتَمَرَاتٍ فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا طَلَعْتُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَرَآنِي النَّاسُ قَالَ النَّبِيُّ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ. فَجِئْتُ، فَدَعَا لِي وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ مُرْسَلًا، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ قُدُومَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ كَانَ فِي رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (حَضَرَنِي هَمِّي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: هَمَّنِي وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: بَثِّي بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَطَفِقْتُ أَعُدُّ الْعُذْرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَ وَأُهَيِّئُ الْكَلَامَ.
قَوْلُهُ: (وَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ) أَيْ: جَزَمْتُ بِذَلِكَ وَعَقَدْتُ عَلَيْهِ قَصْدِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يُنْجِينِي مِنْهُ إِلَّا الصِّدْقُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ) هَذِهِ الْقِطْعَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أُفْرِدَتْ فِي الْجِهَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا فِي الضُّحَى فَيَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَيَقْعُدُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عِنْدَ
…
(1)
والطَّبَرَانِيُّ: كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُثَنِّي بِفَاطِمَةَ ثُمَّ يَأْتِي أَزْوَاجَهُ وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ بَدَأَ بِبَيْتِ فَاطِمَةَ ثُمَّ أَتَى بُيُوتَ نِسَائِهِ.
قَوْلُهُ: (جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ، وَأَنَّ الْمُعَذِّرِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا أَيْضًا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ كَانُوا مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ) وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ فِي الْمَغَازِي: فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِمَ تُعْرِضْ عَنِّي؟ فَوَاللَّهِ مَا نَافَقْتُ وَلَا ارْتَبْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، قَالَ: فَمَا خَلَّفَكَ؟ قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا) أَيْ فَصَاحَةً وَقُوَّةَ كَلَامٍ بِحَيْثُ أَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا يُنْسَبُ إِلَيَّ بِمَا يُقْبَلُ وَلَا يُرَدُّ.
قَوْلُهُ: (تَجِدُ عَلَيَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ تَغْضَبُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُمْتُ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَمَضَيْتُ.
قَوْلُهُ: (وَثَارَ رِجَالٌ) أَيْ وَثَبُوا.
قَوْلُهُ: (كَافِيكَ ذَنْبَكَ) بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْضًا، وَاسْتِغْفَارُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ. وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ فَقَالَ كَعْبٌ: مَا كُنْتُ لِأَجْمَعُ أَمْرَيْنِ. أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكْذِبُهُ. فَقَالُوا: إِنَّكَ شَاعِرٌ جَرِيءٌ، فَقَالَ: أَمَّا عَلَى الْكَذِبِ فَلَا زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: كَمَا صَنَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِكَ فَقَبِلَ مِنْهُمْ عُذْرَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: وَقَالَ لَهُمَا: مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ.
قَوْلُهُ: (يُؤَنِّبُونِي) بِنُونٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مِنَ التَّأْنِيبِ وَهُوَ اللَّوْمُ الْعَنِيفُ.
قَوْلُهُ: (مُرَارَةُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَرَاءَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَقَوْلُهُ:(الْعَمْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمُ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ.
وَقَوْلُهُ: (ابْنُ الرَّبِيعِ) هُوَ الْمَشْهُورُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لمُسْلِمٍ: ابْنُ رَبِيعَةَ وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: مُرَارَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَهُوَ خَطَأٌ، وَكَذَا مَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ رَبِيعَ بْنَ مُرَارَةَ وَهُوَ مَقْلُوبٌ، وَذُكِرَ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ أَنَّ سَبَبَ تَخَلُّفِهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَائِطٌ حِينَ زُهِيَ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: قَدْ
(1)
بياض بأصله
غَزَوْتُ قَبْلَهَا، فَلَوْ أَقَمْتُ عَامِي هَذَا. فَلَمَّا تَذَكَّرَ ذَنْبَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ فِي سَبِيلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ الْآخَرَ يَعْنِي هِلَالًا كَانَ لَهُ أَهْلٌ تَفَرَّقُوا ثُمَّ اجْتَمَعُوا فَقَالَ: لَوْ أَقَمْتُ هَذَا الْعَامَ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا تَذَكَّرَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ أَنْ لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ.
قَوْلُهُ: (وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ) بِقَافٍ ثُمَّ فَاءٍ نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي وَاقِفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَرَّرْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُمَا شَهِدَا بَدْرًا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَلَطِ فَلَمْ يُصِبْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِكَوْنِهِمَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا بِمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَهْجُرْهُ وَلَا عَاقَبَهُ مَعَ كَوْنِهِ جَسَّ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. قَالَ: وَأَيْنَ ذَنْبُ التَّخَلُّفِ مِنْ ذَنْبِ الْجَسِّ؟ قُلْتُ: وَلَيْسَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَدْرِيَّ عِنْدَهُ إِذَا جَنَى جِنَايَةً وَلَوْ كَبُرَتْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَهَذَا عُمَرُ مَعَ كَوْنِهِ الْمُخَاطَبَ بِقِصَّةِ حَاطِبٍ فَقَدْ جَلَدَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ الْحَدَّ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ بَدْرِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَاطِبًا وَلَا هَجَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ عُذْرَهُ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَاتَبَ قُرَيْشًا خَشْيَةً عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ عِنْدَهُمْ يَدًا فَعَذَرَهُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ تَخَلُّفِ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (لِي فِيهِمَا أسْوَةٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: التَّأَسِّي بِالنَّظِيرِ يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْآخِرَةِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا أَبَدًا.
قَوْلُهُ: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ) بِالرَّفْعِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ مُتَخَصِّصِينَ بِذَلِكَ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالَّتِي أَعْرِفُ) وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ حَتَّى مَا هُمُ الَّذِينَ نَعْرِفُ وَهَذَا يَجِدُهُ الْحَزِينُ وَالْمَهْمُومُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَدْ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، وَزَادَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلَا يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَمُوتُ فَأَكُونُ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: حَتَّى وَجِلُوا أَشَدَّ الْوَجَلِ وَصَارُوا مِثْلَ الرُّهْبَانِ.
قَوْلُهُ: (هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ) لَمْ يَجْزِمْ كَعْبٌ بِتَحْرِيكِ شَفَتَيْهِ عليه السلام، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَجَلِ.
قَوْلُهُ: (فَأُسَارِقُهُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ أَيْ: أَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي خُفْيَةٍ.
قَوْلُهُ: (مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ إِعْرَاضِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَطَفِقْنَا نَمْشِي فِي النَّاسِ، لَا يُكَلِّمُنَا أَحَدٌ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا سَلَامًا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَسَوَّرْتُ) أَيْ: عَلَوْتُ سُوَرَ الدَّارِ.
قَوْلُهُ: (جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) ذَكَرَ أَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ لِكَوْنِهِمَا مَعًا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَلَيْسَ هُوَ ابْنَ عَمِّهِ أَخِي أَبِيهِ الْأَقْرَبِ.
قَوْلُهُ: (أَنْشُدُكَ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ أَسْأَلُكَ. وَقَوْلُهُ: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) لَيْسَ هُوَ تَكْلِيمًا لِكَعْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْحَائِطَ) وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَلَمْ أَمْلِكُ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ الْحَائِطَ خَارِجًا.
قَوْلُهُ: (إِذَا نَبَطِيٌّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ) نِسْبَةٌ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ وَاسْتِخْرَاجِهِ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَهْلَ الْفِلَاحَةِ وَهَذَا النَّبَطِيُّ الشَّامِيُّ كَانَ نَصْرَانِيًّا كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: إِذَا نَصْرَانِيٌّ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا النَّصْرَانِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّ النَّبَطَ يُنْسَبُونَ إِلَى
نَبَطِ بْنِ هَانِبَ بْنِ أُمَيْمِ بْنِ لَاوِذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
قَوْلُهُ: (مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثَقِيلَةٍ هُوَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ، جَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ عَائِذٍ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ، الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شَمِرٍ، وَيُقَالُ: جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، أَيْ حَيْثُ يَضِيعُ حَقُّكَ. وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: فَإِنَّ لَكَ مُتَحَوَّلًا بِالْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ مَكَانًا تَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْمُوَاسَاةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي أَمْوَالِنَا. فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، قَدْ طَمِعَ فِيَّ أَهْلُ الْكُفْرِ وَنَحْوُهُ لِابْنِ مَرْدَوْيهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَيَمَّمْتُ) أَيْ قَصَدْتُ، وَالتَّنُّورُ مَا يُخْبَزُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: فَسَجَرْتُهُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَجِيمٍ أَيْ: أَوْقَدْتُهُ، وَأَنَّثَ الْكِتَابَ عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوْيهِ: فَعَمَدْتُ بِهَا إِلَى تَنُّورٍ بِهِ فَسَجَرْتُهُ بِهَا. وَدَلَّ صَنِيعُ كَعْبٍ هَذَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَمَنْ صَارَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْهَجْرِ وَالْإِعْرَاضِ قَدْ يَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ ذَلِكَ وَتَحْمِلُهُ الرَّغْبَةُ فِي الْجَاهِ وَالْمَالِ عَلَى هِجْرَانِ مَنْ هَجَرَهُ وَلَا سِيَّمَا مَعَ أَمْنِهِ مِنَ الْمَلِكِ الَّذِي اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرِهُهُ عَلَى فِرَاقِ دِينِهِ، لَكِنْ لَمَّا احْتُمِلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنَ الِافْتِتَانِ حَسَمَ الْمَادَّةَ وَأَحْرَقَ الْكِتَابَ وَمَنَعَ الْجَوَابَ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ طُبِعَتْ نُفُوسُهُمْ عَلَى الرَّغْبَةِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ الِاسْتِدْعَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا وَالَّذِي اسْتَدْعَاهُ قَرِيبُهُ وَنَسِيبُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَلَبَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَقَوِيَ عِنْدَهُ يَقِينُهُ، وَرَجَّحَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النَّكَدِ وَالتَّعْذِيبِ عَلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ حُبًّا فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ أَنَّهُ شَكَا حَالَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: مَا زَالَ إِعْرَاضُكَ عَنِّي حَتَّى رَغِبَ فِيَّ أَهْلُ الشِّرْكِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: وَهُوَ الرَّسُولُ إِلَى هِلَالٍ، وَمُرَارَةَ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ) هِيَ عُمَيْرَةُ بِنْتُ جُبَيْرِ بْنِ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةُ أُمُّ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ الله وَمَعْبَدٍ، وَيُقَالُ: اسْمُ امْرَأَتِهِ الَّتِي كَانَتْ يَوْمَئِذٍ عِنْدَهُ خَيْرَةُ بِالْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَلَحِقَتْ بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالٍ) هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَيُشْكَلْ مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ بَعْضُ وَلَدِهِ أَوْ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَقَعِ النَّهْيُ عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ لِلنِّسَاءِ اللَّائِي فِي بُيُوتِهِمْ، أَوِ الَّذِي كَلَّمَهُ بِذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَخْدُمُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ.
قَوْلُهُ: (فَأَوْفَى) بِالْفَاءِ مَقْصُورٌ أَيْ أَشْرَفَ وَاطَّلَعَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: مِنْ ذُرْوَةِ سَلْعٍ أَيْ أَعْلَاهُ، وَزَادَ ابْنُ مَرْدَوْيهِ: وَكُنْتُ ابْتَنَيْتُ خَيْمَةً فِي ظَهْرِ سَلْعٍ فَكُنْتُ أَكُونُ فِيهَا وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَائِذٍ وَزَادَ: أَكُونُ فِيهَا نَهَارًا.
قَوْلُهُ: (يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ) فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ كَعْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا عَلَى الثَّنِيَّةِ يَقُولُ: كَعْبًا، كَعْبًا، حَتَّى دَنَا مِنِّي فَقَالَ: بَشِّرُوا كَعْبًا.
قَوْلُهُ: (فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ جَاءَ فَرَجٌ) وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: فَخَرَّ سَاجِدًا يَبْكِي فَرِحًا بِالتَّوْبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَآذَنَ) بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَعْلَمَ، وللْكُشْمِيهَنِيِّ بِغَيْرِ مَدٍّ وَبِالْكَسْرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مُعْتَنِيَةً بِأَمْرِي فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ. قَالَتْ: أَفَلَا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟ قَالَ: إِذًا يُحَطِّمُكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُوكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ
اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ.
قَوْلُهُ: (وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ) هُوَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ أَنَّ اللَّذَيْنِ سَعَيَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، لَكِنَّهُ صَدَّرَهُ بِقَوْلِهِ: زَعَمُوا وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ وَكَانَ الَّذِي أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَصَاحَ: قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى كَعْبٍ. وَالَّذِي خَرَجَ عَلَى فَرَسِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. قَالَ: وَكَانَ الَّذِي بَشَّرَنِي فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ. قَالَ: وَكَانَ الَّذِي بَشَّرَ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ بِتَوْبَتِهِ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ: وَخَرَجْتُ إِلَى بَنِي وَاقِفٍ فَبَشَّرْتُهُ فَسَجَدَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَمَا ظَنَنْتُهُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى تَخْرُجَ نَفْسُهُ يَعْنِي لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى كَانَ يُوَاصِلُ الْأَيَّامَ صَائِمًا وَلَا يَفْتُرُ مِنَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ الَّذِي بَشَّرَ مُرَارَةَ بِتَوْبَتِهِ سِلْكَانَ بْنَ سَلَامَةَ أَوْ سَلَمَةَ بْنَ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ) يُرِيدُ مِنْ جِنْسِ الثِّيَابِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَاحِلَتَانِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ فَفِيهَا: وَوَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ ثَوْبَيْنِ غَيْرَهُمَا وَزَادَ ابْنُ عَائِذٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَلَبِسَهُمَا.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ: مِنْ أَبِي قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَوْجًا فَوْجًا) أَيْ جَمَاعَةً جَمَاعَةً.
قَوْلُهُ: (لِيَهْنِكَ بِكَسْرِ النُّونِ) وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ بِفَتْحِهَا، بَلْ قَالَ السَّفَاقُسِيُّ: إِنَّهُ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْهَنَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ) قَالُوا: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلْحَةَ لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهُ كَانَ أَخَا الزُّبَيْرِ لَكِنْ كَانَ الزُّبَيْرُ أَخَا طَلْحَةَ فِي أُخُوَّةِ الْمُهَاجِرِينَ فَهُوَ أَخُو أَخِيهِ.
قَوْلُهُ: (أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ) اسْتُشْكِلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِيَوْمِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ خَيْرُ أَيَّامِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مُسْتَثْنًى، تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِعَدَمِ خَفَائِهِ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ يَوْمَ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لِيَوْمِ إِسْلَامِهِ، فَيَوْمُ إِسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ مُكَمِّلٌ لَهَا فَهُوَ خَيْرُ جَمِيعِ أَيَّامِهِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ إِسْلَامِهِ خَيْرَهَا فَيَوْمُ تَوْبَتِهِ الْمُضَافُ إِلَى إِسْلَامِهِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ إِسْلَامِهِ الْمُجَرَّدِ عَنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّكُمْ صَدَقْتُمُ اللَّهَ فَصَدَقَكُمْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ فِي التَّفْسِيرِ: حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقَمَرِ وَيُسْأَلُ عَنِ السِّرِّ فِي التَّقْيِيدِ بِالْقِطْعَةِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ تَشْبِيهِ الْوَجْهِ بِالْقَمَرِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَشْبِيهُهُمْ لَهُ بِالشَّمْسِ طَالِعَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَائِلَ هَذَا مِنْ شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَحَالُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورة، فَلَا بُدَّ فِي التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ مِنْ حِكْمَةٍ. وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنَ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِمَا فِي الْقَمَرِ مِنَ الضِّيَاءِ وَالِاسْتِنَارَةِ، وَهُوَ فِي تَمَامِهِ لَا يَكُونُ فِيهَا أَقَلَّ مِمَّا فِي الْقِطْعَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَوْجِيهَاتٍ: وَمِنْهَا أَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنَارَةِ وَهُوَ الْجَبِينُ وَفِيهِ يَظْهَرُ السُّرُورُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَكَأَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْوَجْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُشَبَّهَ بِبَعْضِ الْقَمَرِ.
قَوْلُهُ: (وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِيهِ وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ وَالْفَرَحِ بِمَا يَسُرُّهُمْ. وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوْيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: لَمَّا نَزَلَتْ تَوْبَتِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلْتُ يَدَهُ وَرُكْبَتَهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي) أَيْ أَخْرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِي.
قَوْلُهُ: (صَدَقَةً) هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَصَدِّقًا، أَوْ ضَمَّنَ أَنْخَلِعُ مَعْنَى أَتَصَدَّقُ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا وَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ
فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً. قَالَ: لَا، قُلْتُ: نِصْفُهُ. قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ. قَالَ: نَعَمْ وَلِابْنِ مَرْدَوْيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَجْزِي عَنْكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ فِي قِصَّةِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ) أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفِي قَوْلِهِ: أَحْسَنَ وَأَعْظَمَ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ يُورَدُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْأَفْضَلِيَّةِ لَا الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ كَعْبًا شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ رَفِيقَانِ، وَقَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ حَصَلَ لَهُ أَحْسَنُ مِمَّا حَصَلَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ) لَا زَائِدَةٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ.
قَوْلُهُ: (وَكُنَّا تُخُلِّفْنَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: خُلِّفْنَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَرْجَأَ) مَهْمُوزًا أَيْ أَخَّرَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَعْبًا فَسَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أَيْ: أُخِّرُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ خُلِّفُوا عَنِ الْغَزْوِ، وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قَالَ: خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ، وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوُهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ أُخِّرَتْ تَوْبَتُهُمْ. وَفِي قِصَّةِ كَعْبٍ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، جَوَازُ طَلَبِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ ذَوِي الْحَرْبِ، وَجَوَازُ الْغَزْوِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالتَّصْرِيحُ بِجِهَةِ الْغَزْوِ إِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَصْلَحَةُ سَتْرَهُ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ عُمُومًا لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ وَلَحِقَ اللَّوْمُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ أَنْ لَوْ تَخَلَّفَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّمَا اشْتَدَّ الْغَضَبُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ خَاصَّةً فَرْضُ عَيْنٍ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
…
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
فَكَانَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّهَا كَالنَّكْثِ لِبَيْعَتِهِمْ، كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي قَالَ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ وَلَعَلَّهُ أَقْعَدُ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ: أَنَّ الْجِهَادَ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَى هَذَا فَيَتَوَجَّهُ الْعِتَابُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ مُطْلَقًا. وَفِيهَا: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَاسْتِخْلَافُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْإِمَامِ عَلَى أَهْلِهِ وَالضَّعَفَةِ، وَفِيهَا تَرْكُ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ تَرْكُ قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ. وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَفِيهَا عِظَمُ أَمْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكَلَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مَالًا حَرَامًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا حَرَامًا وَلَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، أَصَابَهُمْ مَا سَمِعْتُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُوَاقِعُ الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ؟ وَفِيهَا أَنَّ الْقَوِيَّ فِي الدِّينِ يُؤَاخَذُ بِأَشَدِّ مِمَّا يُؤَاخَذُ الضَّعِيفُ فِي الدِّينِ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءِ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ وَعَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ تَحْذِيرًا وَنَصِيحَةً لِغَيْرِهِ، وَجَوَازُ مَدْحِ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ إِذَا أُمِنَ الْفِتْنَةَ وَتَسْلِيَةُ نَفْسَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِمَا وَقَعَ لِنَظِيرِهِ، وَفَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْعَقَبَةِ، وَالْحَلِفُ لِلتَّأْكِيدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ، وَالتَّوْرِيَةُ عَنِ الْمَقْصِدِ، وَرَدُّ الْغَيْبَةِ، وَجَوَازُ تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ مُدَّةً.
وَفِيهِ: أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ فُرْصَةٌ فِي الطَّاعَةِ فَحَقُّهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهَا وَلَا يُسَوِّفُ بِهَا لِئَلَّا يُحْرَمَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَنَا الْمُبَادَرَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ لَا يَسْلُبَنَا مَا خَوَّلَنَا مِنْ نِعْمَتِهِ.
وَفِيهَا: جَوَازُ تَمَنِّي مَا فَاتَ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُهْمِلُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بَلْ يَذْكُرُهُ لِيُرَاجِعَ التَّوْبَةَ. وَجَوَازُ الطَّعْنِ فِي الرَّجُلِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى اجْتِهَادِ الطَّاعِنِ عَنْ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَفِيهَا جَوَازُ الرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّادِّ وَهْمُ الطَّاعِنِ أَوْ غَلَطُهُ. وَفِيهَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْقَادِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وُضُوءٍ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِالْمَسْجِدِ قَبْلَ بَيْتِهِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَجْلِسُ لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ عَلَى الْقَادِمِ وَتَلَقِّيهِ، وَالْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ، وَقَبُولُ الْمَعَاذِيرِ، وَاسْتِحْبَابُ بُكَاءِ الْعَاصِي أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وَفِيهَا إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ وَوُكُولُ السَّرَائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ أَذْنَبَ، وَجَوَازُ هَجْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْهَجْرِ فَوْقَ الثَّلَاثِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ هِجْرَانُهُ شَرْعِيًّا، وَأَنَّ التَّبَسُّمَ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَضَبٍ كَمَا يَكُونُ عَنْ تَعَجُّبٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِالسُّرُورِ. وَمُعَاتَبَةُ الْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَفِيهَا: فَائِدَةُ الصِّدْقِ وَشُؤْمُ عَاقِبَةِ الْكَذِبِ.
وَفِيهَا: الْعَمَلُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ إِذَا حَفَّتْهُ قَرِينَةٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَدَّثَهُ كَعْبٌ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ سِوَاهُ كَذَبَ، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مُرَارَةَ، وَهِلَالًا أَيْضًا قَدْ صَدَقَا، فَيَخْتَصُّ الْكَذِبُ بِمَنْ حَلَفَ وَاعْتَذَرَ، لَا بِمَنِ اعْتَرَفَ، وَلِهَذَا عَاقَبَ مَنْ صَدَقَ بِالتَّأْدِيبِ الَّذِي ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ عَنْ قُرْبٍ، وَأَخَّرَ مَنْ كَذَبَ لِلْعِقَابِ الطَّوِيلِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فَيَرِدُ الْقِيَامَةَ بِذُنُوبِهِ قِيلَ: وَإِنَّمَا غُلِّظَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} وَقَوْلُ الْأَنْصَارِ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
…
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
وَفِيهَا: تَبْرِيدُ حَرِّ الْمُصِيبَةِ بِالتَّأَسِّي بِالنَّظِيرِ، وَفِيهَا: عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ، وَأَنَّ مِنْ عُوقِبَ بِالْهَجْرِ يُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ مُرَارَةَ، وَهِلَالًا لَمْ يَخْرُجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا تِلْكَ الْمُدَّةَ. وَفِيهَا: سُقُوطُ رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْمَهْجُورِ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَقُلْ كَعْبٌ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ. وَفِيهَا جَوَازُ دُخُولِ الْمَرْءِ دَارَ جَارِهِ وَصَدِيقِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمِنْ غَيْرِ الْبَابِ إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ. وَفِيهَا: أَنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلَا كَلَامٍ وَلَا يَحْنَثُ بِهِ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ الْآخَرَ إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ مُكَالَمَتُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو قَتَادَةَ ذَلِكَ لَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ مَلِكِ غَسَّانَ لَمَّا سَأَلَ عَنْ كَعْبٍ جَعَلَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَى كَعْبٍ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِقَوْلِهِمْ مَثَلًا هَذَا كَعْبٌ مُبَالَغَةً فِي هَجْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَفِيهَا: أَنَّ مُسَارَقَةَ النَّظَرِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا، وَإِيثَارُ طَاعَةِ الرَّسُولِ عَلَى مَوَدَّةِ الْقَرِيبِ، وَخِدْمَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَالِاحْتِيَاطُ لِمُجَانَبَةِ مَا يُخْشَى الْوُقُوعُ فِيهِ، وَجَوَازُ تَحْرِيقِ مَا فِيهِ اسْمُ اللَّهِ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَفِيهَا: مَشْرُوعِيَّةُ سُجُودِ الشُّكْرِ، وَالِاسْتِبَاقُ إِلَى الْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ، وَإِعْطَاءُ الْبَشِيرِ أَنْفَسَ مَا يَحْضُرُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْبِشَارَةِ، وَتَهْنِئَةُ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَاجْتِمَاعُ النَّاسِ عِنْدَ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَسُرُورُهُ بِمَا يَسُرُّ أَتْبَاعَهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْعَارِيَةِ، وَمُصَافَحَةُ الْقَادِمِ وَالْقِيَامُ لَهُ، وَالْتِزَامُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْخَيْرِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَاسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ
بِكُلِّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ جَمِيعِهِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ كَعْبٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ.
80 - بَاب نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحِجْرَ
4419 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ.
4420 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
قَوْله: (بَاب نُزُول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْحِجْر) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْجِيم، وَهِيَ مَنَازِل ثَمُود. زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ وَلَمْ يَنْزِل، وَيَرُدّهُ التَّصْرِيح فِي حَدِيث اِبْن عُمَر بِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْر أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيث اِبْن عُمَر فِي بِئْر ثَمُود، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثه فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء. وَقَوْله: أَنْ يُصِيبكُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مَفْعُول لَهُ، أَيْ كَرَاهَة الْإِصَابَة. وَقَوْله: أَجَازَ الْوَادِي أَيْ قَطَعَهُ. وقَوْله في الرواية الثانية: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ لَا تَدْخُلُوا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَيْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِع، وَأُضِيفَ إِلَى الْحِجْر لِعُبُورِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَتَعَسَّفَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ اللَّام فِي قَوْله: لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى عَنْ، وَحَذَفَ الْمَقُول لَهُمْ لِيَعُمّ كُلّ سَامِع، وَالتَّقْدِير: قَالَ لِأُمَّتِهِ عَنْ أَصْحَاب الْحِجْر وَهُمْ ثَمُود: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، أَيْ ثَمُود: وَهَذَا وَاضِح لَا خَفَاء بِهِ.
81 - بَاب
4421 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذَهَبَ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ عَلَيْهِ كُمُّا الْجُبَّةِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
4422 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ.
قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ هلَالٍ، (وَعَمْرُو بْنُ يَحْيَى) هُوَ الْمَازِنِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ هَذَا فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ وَفِي الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ.
4423 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِيهِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَهُ تَتَعَلَّقُ بِبَقِيَّةِ قِصَّةِ تَبُوكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَيْخَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) كَذَا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَيَانَ مَنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ بَقِيَّةَ شَرْحِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمَسْحِ كَمَا تَقَدَّمَ وَزَادَ الْمُغِيرَةُ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يُصَلِّي بِهِمْ، فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُتِمُّ صَلَاتَهُ. فَأَفْزَعَ ذَلِكَ النَّاسَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ.
82 - بَاب كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ
4424 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
4425 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَة".
[الحديث 4425 - طرفه في: 7099]
4426 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ يَقُولُ "أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الْغِلْمَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَعَ الصِّبْيَانِ"
4427 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ السَّائِبِ، أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ
الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ مَقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ) أَمَّا كِسْرَى فَهُوَ ابْنُ بَرْوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشَرْوَانَ. وَهُوَ كِسْرَى الْكَبِيرُ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي بَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَنُوشَرْوَانُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ زُرْبَانَ ابْنَهُ يَقْتُلُهُ، وَالَّذِي قَتَلَهُ ابْنُهُ هُوَ كِسْرَى بْنُ بَرْوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ. وَكِسْرَى بِفَتْح الْكَافِ وَبِكَسْرِهَا لَقَبُ كُلِّ مَنْ تَمَلَّكَ الْفُرْسَ، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُظَفَّرِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ضَبْطِ كَافِهِ فِي: عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا قَيْصَرُ فَهُوَ هِرَقْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَأْنُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنِ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْعِلْمِ عَالِيًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: (مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ أَنَّهُ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ مَاتَ بِأُحُدٍ فَتَأَيَّمَتْ مِنْهُ حَفْصَةُ وَبَعْثُ الرُّسُلِ كَانَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى أَخِي كَامِلِ بْنِ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ وَفِيهِ: وَبَعَثَ كِتَابًا إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ بَعَثَ بِهِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَذَا قَالَ، وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ فَارِسَ مَرَّتَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ سَبْعٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ) هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى الْعَبْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَدَفَعَهُ) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ الْكِتَابَ فَأَعْطَاهُ لِقَاصِدِهِ عِنْدَهُ فَتَوَجَّهَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى كِسْرَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْذِرُ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَاصِدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَاصِدُ لَمْ يُبَاشِرْ إِعْطَاءَ كِسْرَى بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْمُلُوكِ فَيَزْدَادُ التَّقْدِيرُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَرَأَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وللْكُشْمِيهَنِيِّ: فَلَمَّا قَرَأَهُ وَفِيهِ مَجَازٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا قُرِئَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (مَزَّقَهُ) أَيْ قَطَّعَهُ.
قَوْلُهُ: (فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ) الْقَائِلُ هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَوَقَعَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ مُرْسَلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ صَاحِبِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ ابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ فَمَزَّقَهُ.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ عَلَى كِسْرَى وَجُنُودِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ يَتَفَرَّقُوا وَيَتَقَطَّعُوا وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ مَزِّقْ مُلْكَهُ وَكَتَبَ إِلَى بَاذَانَ عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ: ابْعَثْ مِنْ عِنْدِكَ رَجُلَيْنِ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِالْحِجَازِ، فَكَتَبَ بَاذَانُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبْلِغَا صَاحِبَكُمَا أَنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ، وَإِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى بَاذَانَ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَسِرْ إِلَيْهِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ابْعَثْ بِرَأْسِهِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ بَاذَانَ أَسْلَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ.
(تَنْبِيهٌ) جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّ بَعْثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ إِلَى كِسْرَى كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: مُنْصَرَفِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَصَنِيعُ الْبُخَارِيُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ فِي آخَرِ الْبَابِ حَدِيثَ السَّائِبِ أَنَّهُ تَلَقَّى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنَ تَبُوكَ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْتُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِتَبُوكَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ غَيْرُ الْمَرَّةِ الَّتِي كَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْخَبَرِ وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعٍ.
وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى، وَقَيْصَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَأَدُّوا عَنِّي وَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ إِلَى كِسْرَى، وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْيَمَامَةِ، وَالْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى بِهَجَرَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ، وَعَبَّادٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ بِعُمَانَ، وَدِحْيَةَ إِلَى قَيْصَرَ، وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى ابْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَرَجَعُوا جَمِيعًا قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: وَزَادَ أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّهُ بَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كَلَالٍ، وَجرِيرًا إِلَى ذِي الْكَلَاعِ، وَالسَّائِبِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّجَاشِيَّ الَّذِي بَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ النَّجَاشِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَوْفٌ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ (وَالْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَسَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الصُّلْحِ.
قَوْلُهُ: (نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْجَمَلِ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: نَفَعَنِي اللَّهُ أَيَّامَ الْجَمَلِ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَـ أَيَّامَ يَتَعَلَّقُ بِـ نَفَعَنِي لَا بِـ سَمِعْتُهَا فَإِنَّهُ سَمِعَهَا قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا، وَالْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ الْعَسْكَرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَمَا كِدْتُ أَلْحَقُ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ) يَعْنِي عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَنْ مَعَهَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُحَصَّلُهَا أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا قُتِلَ وَبُويِعَ عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ خَرَجَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ إِلَى مَكَّةَ فَوَجَدَا عَائِشَةَ وَكَانَتْ قَدْ حَجَّتْ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْبَصْرَةِ يَسْتَنْفِرُونَ النَّاسَ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلَ، وَنُسِبَتْ إِلَى الْجَمَلِ الَّذِي كَانَتْ عَائِشَةُ قَدْ رَكِبَتْهُ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا تَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِصْلَاحِ، وَالْقَائِلُ: لَمَّا بَلَغَ هُوَ أَبُو بَكْرَةَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: بِكَلِمَةٍ وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْكَثِيرِ.
قَوْلُهُ: (مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى) هِيَ بُورَانُ بِنْتُ شِيرَوَيْهِ بْنِ كِسْرَى بْنِ بَرْوِيزَ، وَذَلِكَ أَنَّ شِيرَوَيْهِ لَمَّا قَتَلَ أَبَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ أَبُوهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ ابْنَهُ قَدْ عَمِلَ عَلَى قَتْلِهِ احْتَالَ عَلَى قَتْلِ ابْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَمِلَ فِي بَعْضِ خَزَائِنِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ حُقًّا مَسْمُومًا وَكَتَبَ عَلَيْهِ: حُقُّ الْجِمَاعِ، مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ كَذَا جَامَعَ كَذَا. فَقَرَأَهُ شِيرَوَيْهِ، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهِ هَلَاكُهُ، فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ أَبِيهِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يُخَلِّفْ أَخًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَتَلَ إِخْوَتَهُ حِرْصًا عَلَى الْمُلْكِ وَلَمْ يُخَلِّفْ ذَكَرًا، وَكَرِهُوا خُرُوجَ الْمُلْكِ عَنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَمَلَّكُوا الْمَرْأَةَ وَاسْمُهَا بُورَانُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَغَازِي. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا أَنَّ أُخْتَهَا أَرْزَمِيدَخْتَ مَلَكَتْ أَيْضًا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي الْإِمَارَةَ وَلَا الْقَضَاءَ، وَفِيهِ: أَنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَلَا تَلِي الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِهَا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، وَالْمَنْعُ مِنْ أَنْ تَلِيَ الْإِمَارَةَ وَالْقَضَاءَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَهُ الطَّبَرِيُّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَلِي الْحُكْمَ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَتِمَّةُ قِصَّةِ كِسْرَى الَّذِي مَزَّقَ كِتَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ابْنَهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَتَلَ إِخْوَتَهُ حَتَّى أَفْضَى الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى تَأْمِيرِ الْمَرْأَةِ، فَجَرَّ ذَلِكَ إِلَى ذَهَابِ مُلْكِهِمْ وَمُزِّقُوا كَمَا دَعَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَعَ الصِّبْيَانِ) هُوَ مَوْصُولٌ، وَلَكِنْ بَيَّنَ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّةً الْغِلْمَانَ وَمَرَّةً الصِّبْيَانَ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى. ثُمَّ سَاقَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ فَأَنْكَرَ الدَّاوُدِيُّ هَذَا وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَالَ: ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ لَا مِنْ جِهَةِ تَبُوكَ، بَلْ هِيَ مُقَابِلُهَا كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ثَنِيَّةٌ أُخْرَى فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالثَّنِيَّةُ مَا ارْتَفَعَ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. قُلْتُ: لَا يَمْنَعُ كَوْنُهَا مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْمُسَافِرِ إِلَى الشَّامِ مِنْ جِهَتِهَا، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا فِي دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةٍ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا مِنْ أُخْرَى، وَيَنْتَهِي
كِلَاهُمَا إِلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ رُوِّينَا بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ فِي الْحَلَبِيَّاتِ قَوْلَ النِّسْوَةِ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
…
مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ فِي الْهِجْرَةِ وَقِيلَ: عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
(تَنْبِيهٌ): فِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ آخِرَ هَذَا الْبَابِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِرْسَالَ الْكُتُبِ إِلَى الْمُلُوكِ كَانَ فِي سَنَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَاتَبَ الْمُلُوكَ فِي سَنَةِ الْهُدْنَةِ كَقَيْصَرَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ كَاتَبَ قَيْصَرَ مَرَّتَيْنِ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ قَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي: مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَكَاتَبَ النَّجَاشِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَصَلَّى عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ، ثُمَّ كَاتَبَ النَّجَاشِيَّ الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ وَكَانَ كَافِرًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَسَمَّى مِنْهُمْ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ، قَالَ: وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ.
83 - بَاب مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَفَاتِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
قَوْلُهُ: (بَابُ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَفَاتِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِهَذَا الْبَابِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَابِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ مَرَضِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا ابْتِدَاؤُهُ فَكَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ لِأَبِي مَعْشَرٍ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَفِي السِّيرَةِ لِسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي بَيْتِ رَيْحَانَةَ ; وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقِيلَ: يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ مَرَضِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: بِزِيَادَةِ يَوْمٍ، وَقِيلَ: بِنَقْصِهِ. وَالْقَوْلَانِ فِي الرَّوْضَةِ وَصَدَرَ بِالثَّانِي، وَقِيلَ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَكَادَ يَكُونُ إِجْمَاعًا، لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ فِي حَادِي عَشَرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْهُ، وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَاللَّيْثِ، وَالْخَوَارِزْمِيِّ، وَابْنِ زَبْرٍ: مَاتَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ أَبِي مِخْنَفٍ، وَالْكَلْبِيِّ: فِي ثَانِيهِ وَرَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يَتَنَزَّلُ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ حَجَّتِهِ ثَمَانِينَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: أَحَدًا وَثَمَانِينَ، وَأَمَّا عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ فَيَكُونُ عَاشَ بَعْدَ حَجَّتِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا أَوْ أَحَدًا وَتِسْعِينَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَعْنِي كَوْنَهُ مَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَا الْحَجَّةِ كَانَ أَوَّلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَمَهْمَا فُرِضَتِ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ تَوْامٌ أَوْ نَوَاقِصُ أَوْ بَعْضُهَا لَمْ يَصِحَّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَأَجَابَ الْبَارِزِيُّ ثُمَّ ابْنُ كَثِيرٍ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ كَوَامِلَ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ فَرَآهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ وَلَمْ يَرَهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَحَصَلَتِ الْوَقْفَةُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَرَّخُوا بِرُؤْيَةِ أَهْلِهَا فَكَانَ أَوَّلُ ذِي الْحَجَّةِ الْجُمُعَةَ وَآخِرُهُ السَّبْتَ، وَأَوَّلُ الْمُحَرَّمِ الْأَحَدَ وَآخِرُهُ الِاثْنَيْنِ، وَأَوَّلُ صَفَرٍ الثُّلَاثَاءَ وَآخِرُهُ الْأَرْبِعَاءَ، وَأَوَّلُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الْخَمِيسَ فَيَكُونُ ثَانِي عَشَرَهُ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا الْجَوَابُ بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ تَوَالِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَوَامِلَ، وَقَدْ جَزَمَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا كَانَ صَفَرٌ نَاقِصًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ صَفَرٍ السَّبْتَ إِلَّا إِنْ كَانَ ذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ نَاقِصَيْنِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَقْصُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ
مُتَوَالِيَةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَاتَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ اثْنَانِ نَاقِصَيْنِ وَوَاحِدٌ كَامِلًا، وَلِهَذَا رَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَفِي الْمَغَازِي لِأَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ صَفَرٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ أَوَّلَ صَفَرٍ كَانَ السَّبْتَ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ فَاشْتَكَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَيَرِدُ عَلَى هَذَا الْإِشْكَالِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ صَفَرٍ الْأَحَدَ فيَكُونَ تَاسِعُ عِشْرِينِهِ الْأَرْبِعَاءَ؟ وَالْغَرَضُ أَنَّ ذَو الْحَجَّةِ أَوَّلُهُ الْخَمِيسُ، فَلَوْ فُرِضَ هُوَ وَالْمُحَرَّمُ كَامِلَيْنِ لَكَانَ أَوَّلُ صَفَرٍ الِاثْنَيْنِ، فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ إِلَى الْأَرْبِعَاءِ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، وَكَأَنَّ سَبَبَ غَلَطِ غَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَاتَ فِي ثَانِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَتَغَيَّرَتْ فَصَارَتْ ثَانِي عَشَرَ، وَاسْتَمَرَّ الْوَهْمُ بِذَلِكَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِجَوَابٍ آخَرَ فَقَالَ. يُحْمَلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ أَيْ بِأَيَّامِهَا فَيَكُونُ مَوْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَيُفْرَضُ الشُّهُورُ كَوَامِلَ فَيَصِحُّ قَوْلُ الْجُمْهُورُ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا يُعَكِّرُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ زِيَادَةِ مُخَالَفَةِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِمْ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهَا إِلَّا مُضِيَّ اللَّيَالِي، وَيَكُونُ مَا أُرِّخَ بِذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ.
4429 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) هِيَ وَالِدَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِهَا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
4430 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ، ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ) هُوَ مِنْ إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُنِي مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ أَتَمَّ سِيَاقًا وَأَكْثَرَ فَوَائِدَ، وَأَطَلْنَا بِشَرْحِهِ عَلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّصْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ نَزَلَتْ سُورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ مَا كَانَ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لِجِبْرِيلَ: نَعَيْتَ إِلَيَّ نَفْسِي. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى.
4428 -
وقال يُونُسُ: عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: (وَقَالَ يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَهَذَا قَدْ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: تَفَرَّدَ بِهِ عَنْبَسَةُ، عَنْ يُونُسَ، أَيْ بِوَصْلِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ، وَلَهُ شَاهِدَانِ مُرْسَلَانِ أَيْضًا أَخْرَجَهُمَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرَائِبُ الْحَدِيثِ لَهُ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْآخَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَلِلْحَاكِمِ مَوْصُولٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَتَّهِمُ بِنَفْسِكَ؟ فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُ بِابْنِي إِلَّا الطَّعَامَ الَّذِي أَكَلَ بِخَيْبَرَ ; وَكَانَ ابْنُهَا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ مَاتَ، فَقَالَ: وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ غَيْرَهَا، وَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْخِهِ الْوَاقِدِيِّ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي قِصَّةِ الشَّاةِ الَّتِي سُمَّتْ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ فِي آخِرِ ذَلِكَ: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ. وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُهَا بِخَيْبَرَ عِدَادًا حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ وَتُوُفِّيَ شَهِيدًا انْتَهَى وَقَوْلُهُ: عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَتُوُفِّيَ شَهِيدًا وَقَوْلُهُ: مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ أَيْ أَحُسُّ الْأَلَمَ فِي جَوْفِي بِسَبَبِ الطَّعَامِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ لَذَّةِ ذَوْقِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ.
وَقَوْلُهُ: أَوَانَ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَبْهَرُ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ بِالظَّهْرِ مُتَّصِلٌ بِالْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُقَالُ إِنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِ الشَّاةِ الَّتِي سُمَّتْ بِخَيْبَرَ فِي غَزْوِهِ خَيْبَرَ مُفَصَّلًا.
4439 -
حَدَّثَنِي حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ.
[الحديث 4439 - أطرافه في: 5016، 5735، 5751]
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (اشْتَكَى) أَيْ مَرِضَ، وَنَفَثَ أَيْ تَفَلَ بِغَيْرِ رِيقٍ أَوْ مَعَ رِيقٍ خَفِيفٍ.
قَوْلُهُ: (بِالْمُعَوِّذَاتِ) أَيْ يَقْرَؤُهَا مَاسِحًا لِجَسَدِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِلَفْظِ: فَقَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُعَوِّذَاتِ وَسَيَأْتِي فِي الطِّبِّ قَوْلُ مَعْمَرٍ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفُثُ؟ قَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ. هَذِهِ رِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا ثُمَّ يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَالْمُرَادُ بِالْمُعَوِّذَاتِ سُورَةُ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَجَمَعَ إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي يَقَعُ التَّعَوُّذُ بِهَا مِنَ السُّورَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَوِّذَاتِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ مَعَ سُورَةِ
الْإِخْلَاصِ وَأَطْلَقَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَأَمْسَحَ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَمْسَحَ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: فَذَهَبْتُ أُعَوِّذُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فَأَفَاقَ وَهِيَ تَمْسَحُ صَدْرَهُ وَتَدْعُو بِالشِّفَاءِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى وَسَأَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ.
4431 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بن عيينة، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ نَزاعٌ فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِني إِلَيْهِ وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا للْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا.
4432 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ" فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِم"
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ
قَوْلُهُ: (يَوْمُ الْخَمِيسِ) هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ عَكْسُهُ، وَقَوْلُهُ: وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَفْخِيمِ الْأَمْرِ فِي الشِّدَّةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، زَادَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَّبَ دَمْعُهُ الْحَصَى وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حَتَّى رَأَيْتُهَا عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ وَبُكَاءُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْتَمَلُ لِكَوْنِهِ تَذَكَّرَ وَفَاةَ رَسُولِ اللَّهِ فَتَجَدَّدَ لَهُ الْحُزْنُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ ذَلِكَ رَزِيَّةٌ، ثُمَّ بَالَغَ فِيهَا فَقَالَ: كُلَّ الرَّزِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ الْجَوَابُ عَمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَعُمَرَ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ) زَادَ فِي الْجِهَادِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ ابْتِدَاءَ مَرَضِهِ، كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا حُضِرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَفِي إِطْلَاقِ
ذَلِكَ تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ.
قَوْلُهُ: (كِتَابًا) قِيلَ: هُوَ تَعْيِينُ الْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (لَنْ تَضِلُّوا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا تَضِلُّونَ وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ وَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: لَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ) بِهَمْزَةٍ لِجَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ: فَقَالُوا هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَاكَ فَقَالُوا: هَجَرَ، هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعَادَ هَجَرَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَى أَهَجَرَ أَفَحَشَ، يُقَالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ إِذَا هَذَى، وَأَهْجَرَ إِذَا أَفْحَشَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَطَالُوا، وَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيُّ تَلْخِيصًا حَسَنًا ثُمَّ لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ هَجَرَ، الرَّاجِحُ فِيهِ إِثْبَاتُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، قَالَ: وَلِبَعْضِهِمْ أَهُجْرًا بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمِرٍ أَيْ قَالَ: هُجْرًا، وَالْهُجْرُ بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ الْهَذَيَانُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَقَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَنْتَظِمُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ.
وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَا أَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَتَوَقَّفُ أَتَظُنُّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ يَقُولُ الْهَذَيَانَ فِي مَرَضِهِ؟ امْتَثِلْ أَمْرَهُ وَأَحْضِرْهُ مَا طَلَبَ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، قَالَ: هَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكٍّ عَرَضَ لَهُ، وَلَكِنْ يُبْعِدُهُ أَنْ لَا يُنْكِرَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ لَنُقِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ صَدَرَ عَنْ دَهْشَ وَحَيْرَةٍ كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ اشْتَدَّ وَجَعُهُ فَأَطْلَقَ اللَّازِمَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ، لِأَنَّ الْهَذَيَانَ الَّذِي يَقَعُ لِلْمَرِيضِ يَنْشَأُ عَنْ شِدَّةِ وَجَعِهِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِإِرَادَةِ سُكُوتِ الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَيُفْضِي فِي الْعَادَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَهَجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَيَاةَ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ.
قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي تَرْجِيحُ ثَالِثِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ قَرُبَ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ يَعْهَدُ أَنَّ مَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ قَدْ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ تَحْرِيرِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ لِجَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ يَهْجُرُ، اسْتَفْهِمُوهُ وَعَنِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَيَهْجُرُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ ذَلِكَ: اسْتَفْهِمُوهُ
(1)
بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِفْهَامِ أَيِ اخْتَبِرُوا أَمْرَهُ بِأَنْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنْ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ وَابْحَثُوا مَعَهُ فِي كَوْنِهِ الْأَوْلَى أَوْ لَا. وَفِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ مُصَمِّمًا عَلَى الِامْتِثَالِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْهُمُ الِاخْتِلَافُ ارْتَفَعَتِ الْبَرَكَةُ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ.
وَقَدْ مَضَى فِي الصِّيَامِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُهُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فَرُفِعَتْ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنَّمَا جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ صَرِيحِ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَامِرَ قَدْ
(1)
في هامش طبعة بولاق: لعل فيه سقطا، ويكون تمامه "أنه بعد أن قال ذلك، قال استفهموه".
يُقَارِنُهَا مَا يَنْقُلُهَا مِنَ الْوُجُوبِ، فَكَأَنَّهُ ظَهَرَتْ مِنْهُ قَرِينَةٌ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى التَّحَتُّمِ بَلْ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ، وَصَمَّمَ عُمَرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَائِنِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ جَازِمٍ، وَعَزْمُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِمَّا بِالْوَحْيِ وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُهُ إِنْ كَانَ بِالْوَحْيِ فَبِالْوَحْيِ وَإِلَّا فَبِالِاجْتِهَادِ أَيْضًا، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ قُوَّةِ فِقْهِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا فَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَةً، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَنْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْعُلَمَاءِ.
وَفِي تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم الْإِنْكَارَ عَلَى عُمَرَ إِشَارَةٌ إِلَى تَصْوِيبِهِ رَأْيَهُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّخْفِيفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ، وَقَامَتْ عِنْدَهُ قَرِينَةٌ بِأَنَّ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَتَهُ لَيْسَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَمْ يَتْرُكْهُ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ إِلَخْ، لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ قَطْعًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَتَوَهَّمْ عُمَرُ الْغَلَطَ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ كِتَابَتَهُ، بَلِ امْتِنَاعُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ وَحُضُورِ الْمَوْتِ خَشِيَ أَنْ يَجِدَ الْمُنَافِقُونَ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ فِيمَا يَكْتُبُهُ وَإِلَى حَمْلِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ فِيهَا بِوُقُوعِ بَعْضِ مَا يُخَالِفُ الِاتِّفَاقَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَوَقُّفِ عُمَرَ، لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا جَوَازَ وُقُوعِ الْغَلَطِ عَلَيْهِ حَاشَا وَكَلَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ ذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَنْهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ أَيْ يُعِيدُونَ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ وَيَسْتَثْبِتُونَهُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَرُدُّونَ عَنْهُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى مَنْ قَالَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ دَعُونِي: فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: دَعُونِي فَالَّذِي أُعَايِنُهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِي بَعْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِمَّا أَنَا فِيهِ فِي الْحَيَاةِ، أَوْ أَنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِلِقَاءِ اللَّهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي تَسْأَلُونَنِي فِيهِ مِنَ الْمُبَاحَثَةِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْكِتَابَةِ أَوْ عَدَمِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَإِنَّ امْتِنَاعِي مِنْ أَنْ أَكْتُبَ لَكُمْ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ عَكْسُهُ أَيِ الَّذِي أَشَرْتُ عَلَيْكُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهَا بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى الَّذِي قَبْلَهُ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا فَهَدَى اللَّهُ عُمَرَ لِمُرَادِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ بَطَّالٍ: عُمَرُ أَفْقَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ اكْتَفَى بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَكْتَفِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ; فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ عَنْ بَيَانِ السُّنَّةِ، بَلْ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَرِينَةِ، وَخَشِيَ مِنَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى كِتَابَةِ الْكِتَابِ مِمَّا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَرَأَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْقُرْآنِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا خَشِيَهُ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ لَمْ يَكْتَفِ بِالْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ حَبْرَ الْقُرْآنِ وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ، وَلَكِنَّهُ أَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْبَيَانِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَشَرْحُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مُتَحَتِّمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُهُ لِوُقُوعِ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَعَاقَبَ اللَّهُ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَبْلِيغِهِ، وَلَبَلَّغَهُ لَهُمْ لَفْظًا كَمَا أَوْصَاهُمْ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَيَّامًا وَحَفِظُوا عَنْهُ أَشْيَاءَ لَفْظًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهَا مَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. وَقَوْلُهُ: أَجِيزُوا
الْوَفْدَ أَيْ أَعْطُوهُمْ، وَالْجَائِزَةُ الْعَطِيَّةُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ أَنَّ نَاسًا وَفَدُوا عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَنْطَرَةٍ فَقَالَ: أَجِيزُوهُمْ فَصَارُوا يُعْطُونَ الرَّجُلَ وَيُطْلِقُونَهُ فَيَجُوزُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ مُتَوَجِّهًا فَسُمِّيَتْ عَطِيَّةُ مَنْ يَقْدَمُ عَلَى الْكَبِيرِ جَائِزَةً، وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي إِعْطَاءِ الشَّاعِرِ عَلَى مَدْحِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ بِنَحْوِ: مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ أَيْ بِقَرِيبٍ مِنْهُ، وَكَانَتْ جَائِزَةُ الْوَاحِدِ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وُقِيَّةً مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قَوْلُهُ: (وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا) يُحْتمُل أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ثُمَّ وَجَدْتُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَفِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ أَيِ ابْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الثَّالِثَةَ فَنَسِيتُهَا أَوْ سَكَتَ عَنْهَا. وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الثَّالِثَةُ لِلْوَصِيَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: بَلْ هُوَ تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَقَوَّاهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي تَنْفِيذِ جَيْشِ أُسَامَةَ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ قَوْلُهُ: وَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُوَطَّأِ مَقْرُونَةً بِالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهَا قَوْلُهُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
قَوْلُهُ في الرواية الثانية: (فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ) أَيْ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُرِدْ أَهْلَ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ فِيهَا (فَقَالَ: قُومُوا) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: قُومُوا عَنِّي.
4433، 4434 - حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ عليها السلام فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَضَحِكَتْ فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: سَارَّنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ يَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ) وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا مَضَتْ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا بِبِنْتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ سَارَّهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إِلَيْهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَرِضَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ تُقَبِّلُهُ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَتَانِ عَلَى أَنَّ الَّذِي سَارَّهَا بِهِ أَوَّلًا فَبَكَتْ هُوَ إِعْلَامُهُ إِيَّاهَا بِأَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَا فِيمَا سَارَّهَا بِهِ ثَانِيًا فَضَحِكَتْ فَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ أَنَّهُ إِخْبَارُهُ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ إِخْبَارُهُ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ كَوْنَهَا أَوَّلَ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ مَضْمُومًا إِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنَّ حَدِيثَ مَسْرُوقٍ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَاتٍ لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الضَّابِطِينَ فَمَا زَادَهُ مَسْرُوقٌ قَوْلُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأَفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي
الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَأَنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجْلَي وَأَنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقًا بِي.
وَقَوْلُهَا: كَأَنَّ مِشْيَتَهَا هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْهَيْئَةُ. وَقَوْلُهَا: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْكُسُوفِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا رَأَيْتُ كَفَرَحِ الْيَوْمِ فَرَحًا أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرَحًا كَفَرَحٍ رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ، وَقَوْلُهَا: حَتَّى تُوُفِّيَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلَمْ تَقُلْ لِي شَيْئًا حَتَّى تُوُفِّيَ. وَقَدْ طَوَى عُرْوَةُ هَذَا كُلَّهُ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَضَحِكَتْ: فَسَأَلْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: سَارَّنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ. الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ أَن عَائِشَةَ لَمَّا رَأَتْ بُكَاءَهَا وَضَحِكَهَا قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَعْقَلُ النِّسَاءِ فَإِذَا هِيَ مِنَ النِّسَاءِ. وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ الْجَزْمُ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ، فَفِيهَا أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ إِلَّا بِالزِّيَادَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارُهُ بِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ سَبَبًا لِبُكَائِهَا أَوْ ضَحِكِهَا مَعًا بِاعْتِبَارَيْنِ، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ الْبُكَاءِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَفِي سَبَبِ الضَّحِكِ الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا أَنَّ سَبَبَ الْبُكَاءِ مَوْتُهُ، وَسَبَبَ الضَّحِكِ أَنَّهَا سَيِّدَةُ النِّسَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْهَا أَنَّ سَبَبَ الْبُكَاءِ مَوْتُهُ، وَسَبَبَ الضَّحِكِ لِحَاقُهَا بِهِ.
وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَيْسَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ ذُرِّيَّةً مِنْكِ فَلَا تَكُونِي أَدْنَى امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ صَبْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ حَتَّى مِنْ أَزْوَاجِهِ.
4435 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يَقُولُ:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ.
[الحديث 4435 - أطرافه في: 4436، 4437، 4586، 6348، 6509]
4436 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.
4437 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُحَيَّا أَوْ يُخَيَّرَ فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فَقُلْتُ: إِذًا لَا يُختارُنَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدٍ، وَهُوَ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَوْرَدَهُ عَالِيًا مُخْتَصَرًا وَنَازِلًا تَامًّا ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَتَمَّ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ النَّازِلَةُ فَإِنَّهُ سَاقَهَا مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ،
عَنْ شُعْبَةَ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْعَالِيَةُ فَأَخْرَجَهَا عَنْ مُسْلِمٍ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ وَلَفْظُهُ مُغَايِرٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلَ يَقُولُ: الرَّفِيقَ الْأَعْلَى وَهَذَا الْقَدْرُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ وَقَعَ لِي مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِزِيَادَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَصَابَتْهُ بُحَّةٌ فَجَعَلْتُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الْآيَةَ، قَالَتْ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اقْتَصَرَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَوْضِعِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، وَقَدِ اقْتَصَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى تَخْرِيجِ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ دُونَ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: مِثْلُ غُنْدَرٍ قَوْلُهَا.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَمْ تُصَرِّحْ عَائِشَةُ بِذِكْرِ مَنْ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَصَرَّحَتْ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُحَيَّى أَوْ يُخَيَّرُ وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ: يُحَيَّى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا أُخْرَى أَوْ يُخَيَّرُ كَمَا فِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: مَا مِنْ نَبِيٍّ يُقْبَضُ إِلَّا يَرَى الثَّوَابَ ثُمَّ يُخَيَّرُ، وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوَيْهِبَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَالْخُلْدَ ثُمَّ الْجَنَّةَ فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ طَاوُسٍ رَفَعَهُ خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ فَاخْتَرْتُ التَّعْجِيلَ.
(تَنْبِيهٌ): فَهْمُ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَنَّهُ خُيِّرَ، نَظِيرُ فَهْمِ أَبِيهَا رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُرَادَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَكَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ: شَيْءٌ يَعْرِضُ فِي الْحَلْقِ فَيَتَغَيَّرُ لَهُ الصَّوْتُ فَيَغْلُظُ، تَقُولُ: بَحِحْتُ بِالْكَسْرِ بُحًّا، وَرَجُلٌ أَبَحُّ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهِ خِلْقَةً.
قَوْلُهُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فِي رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَقَالَ: مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ:{رَفِيقًا} وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى الْأَسْعَدَ، مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّفِيقَ الْمَكَانُ الَّذِي تَحْصُلُ الْمُرَافَقَةُ فِيهِ مَعَ الْمَذْكُورِينَ. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَفِي رِوَايَةِ عَبَّادٍ عَنْ عَائِشَةَ بَعْدَ هَذَا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَةَ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّفِيقَ تَغْيِيرٌ مِنَ الرَّاوِي وَأَنَّ الصَّوَابَ الرَّقِيعُ بِالْقَافِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّمَاءِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: بَلِ الرَّفِيقُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ وَمَا فَوْقَهُ، وَالْمُرَادُ: الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ.
وَقَدْ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَنُكْتَةُ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْإِفْرَادِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، نَبَّهَ عَلَيْهِ السُّهَيْلِيُّ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى اللَّهُ عز وجل لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ كَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ فَعَزْوُهُ إِلَيْهِ أَوْلَى. قَالَ:
وَالرَّفِيقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ ذَاتٍ كَالْحَكِيمِ، أَوْ صِفَةَ فِعْلٍ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَضْرَةُ الْقُدْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ رَفِيقًا تَعَاوُنُهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَارْتِفَاقُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ. وَقَدْ غَلَّطَ الْأَزْهَرِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَلَا وَجْهَ لِتَغْلِيطِهِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي غَلَّطَهُ بِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: مَعَ الرَّفِيقِ أَوْ فِي الرَّفِيقِ؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ سَائِغٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي اخْتِتَامِ كَلَامِ الْمُصْطَفَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَوْنُهَا تَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ حَتَّى يُسْتَفَادَ مِنْهُ الرُّخْصَةُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَمْنَعُهُ مِنَ النُّطْقِ مَانِعٌ فَلَا يَضُرُّهُ إِذَا كَانَ قَلْبُهُ عَامِرًا بِالذِّكْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: فَقُلْتُ إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ وَعِنْدَ أَبِي الْأَسْوَدِ فِي الْمَغَازِي عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَخَيَّرَهُ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَجَدْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَرْضِعٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَآخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: جَلَالُ رَبِّي الرَّفِيعُ. الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي السِّوَاكِ.
4438 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي.
4440 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ.
[الحديث 4440 - طرفه في: 5674]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) جَزَمَ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَسَقَطَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ فَصَارَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَفَّانَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَعَفَّانُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَمَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَفِي يَدِهِ جَرِيدَةٌ رَطْبَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ بِهَا حَاجَةً، فَأَخَذْتُهَا فَمَضَغْتُ رَأْسَهَا وَنَفَضْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (يَسْتَنُّ بِهِ) أَيْ يَسْتَاكُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ السَّنِّ أَيْ بِالْفَتْحِ، وَمِنْهُ الْمِسَنُّ الَّذِي يُسَنُّ عَلَيْهِ الْحَدِيدُ.
قَوْلُهُ: (فَأَبَدَّهُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: مَدَّ نَظَرُهُ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَبْدَدْتُ فُلَانًا النَّظَرَ إِذَ طَوَّلْتُهُ إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَمَدَّهُ بِالْمِيمِ.
قَوْلُهُ: (فَقَضِمْتُهُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مَضَغْتُهُ، وَالْقَضْمُ الْأَخْذُ بِطَرَفِ الْأَسْنَانِ، يُقَالُ: قَضِمَتِ الدَّابَّةُ بِكَسْرِ الضَّادِ شَعِيرَهَا تَقْضَمُ بِالْفَتْحِ إِذَا مَضَغَتْهُ وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَسَرَتْهُ أَوْ قَطَعَتْهُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ رِوَايَةً بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إِنْ كَانَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهَا: فَطَيَّبْتُهُ تَكْرَارًا
وَإِنْ كَانَ بِالْمُهْمَلَةِ فَلَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى كَسَرْتُهُ لِطُولِهِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْمَكَانِ الَّذِي تَسَوَّكَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَيَّنْتُهُ ثُمَّ طَيَّبْتُهُ) أَيْ بِالْمَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: طَيَّبْتُهُ تَأْكِيدًا لِلَيَّنْتُهُ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَدْخَلْتُهُ فِي فِيهِ فَاشْتَدَّ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعَمَلُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَقُوَّةُ فِطْنَةِ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (وَنَفَضْتُهُ) بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ:(فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ) أَيْ مِنَ السِّوَاكِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ وَرَأْسُهُ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي) وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَإِنَّ اللَّهَ جَمَعَ رِيقِي وَرِيقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَالْحَاقِنَةُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ: مَا سَفَلَ مِنَ الذَّقَنِ، وَالذَّاقِنَةُ مَا عَلَا مِنْهُ. أَوِ الْحَاقِنَةُ: نُقْرَةُ التَّرْقُوَةِ، هُمَا حَاقِنَتَانِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَاقِنَةَ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ التَّرْقُوَةِ وَالْحَلْقِ. وَقِيلَ: مَا دُونَ التَّرْقُوَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وَقِيلَ: هِيَ تَحْتَ السُّرَّةِ. وَقَالَ ثَابِتٌ: الذَّاقِنَةُ طَرَفُ الْحُلْقُومِ: وَالسَّحْرُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الصَّدْرُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرِّئَةُ. وَالنَّحْرُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ النَّحْرِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هُوَ مَا بَيْنَ الثَّدْيَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا بَيْنَ الْحَاقِنَةِ وَالذَّاقِنَةِ هُوَ مَا بَيْنَ السَّحْرِ وَالنَّحْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَاتَ وَرَأْسُهُ بَيْنَ حَنَكِهَا وَصَدْرِهَا صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا.
وَهَذَا لَا يُغَايِرُ حَدِيثَهَا الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ رَأْسَهُ كَانَ عَلَى فَخِذِهَا؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا رَفَعَتْهُ مِنْ فَخِذِهَا إِلَى صَدْرِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَارِضُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ وَكُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا لَا يَخْلُو مِنْ شِيعِيٍّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رَأَيْتُ بَيَانَ حَالِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ التَّعَصُّبِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ذِكْرُ مَنْ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ وَسَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: سَأَلَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، عَلِيًّا مَا كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَسْنَدْتُهُ إِلَى صَدْرِي، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَقَالَ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَقَالَ كَعْبٌ: كَذَلِكَ آخِرُ عَهْدِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَحَرَمُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُمَا مَتْرُوكَانِ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ: ادْعُوا إِلَيَّ أَخِي، فَدُعِيَ لَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ مُسْتَنِدًا إِلَيَّ وَإِنَّهُ لِيُكَلِّمُنِي حَتَّى نَزَلَ بِهِ، وَثَقُلَ فِي حِجْرِي فَصِحْتُ: يَا عَبَّاسُ أَدْرِكْنِي فإِنِّي هَالِكٌ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ، فَكَانَ جَهْدُهُمَا جَمِيعًا أَنْ أَضْجَعَاهُ. فِيهِ انْقِطَاعٌ مَعَ الْوَاقِدِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ فِيهِ لِينٌ.
وَبِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قُبِضَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فِيهِ انْقِطَاعٌ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَاتَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ. فِيهِ الْوَاقِدِيُّ وَالِانْقِطَاعُ، وَأَبُو الْحُوَيْرِثِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيُّ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَأَبُوهُ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي غَطَفَانَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ تُوُفِّيَ وَإِنَّهُ لَمُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي غَسَّلَهُ وَأَخِي الْفَضْلُ، وَأَبَى أَبِي أَنْ يَحْضُرَ. فِيهِ الْوَاقِدِيُّ، وَسُلَيْمَانُ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، وَأَبُو غَطَفَانَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ اسْمُهُ سَعْدٌ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ طَرِيقِ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: أَسْنَدْتُهُ إِلَى صَدْرِي فَسَالَتْ نَفْسُهُ. وَحَبَّةُ ضَعِيفٌ. وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: عَلِيٌّ آخِرُهُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ آخِرَ الرِّجَالِ بِهِ عَهْدًا. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ آخِرَهُمْ عَهْدًا بِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى مَالَ فَلَمَّا مَالَ ظَنَّ أَنَّهُ مَاتَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ فَأَسْنَدَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَهُ إِلَى صَدْرِهَا فَقُبِضَ.
وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ
بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ غَيْرَ مَهْمُوزٍ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ الْمَفْتُوحَةِ نُونٌ مَضْمُومَةٌ ثُمَّ وَاوٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ سِينٌ مُهْمَلَةٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ: فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مَنْكِبِي إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُقْطَةٌ بَارِدَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا.
4441 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ والنصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
4443، 4444 - وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
4445 -
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا وَلَا كُنْتُ أُرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
4446 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، لَا إِلَى جَمِيعِ الْحَدِيثِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَصَلَهُ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْإِمَامَةِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
الْحَدِيثُ العَاشَرَ.
قَوْلهَا: (فَلَا أَكْرَه شِدَّة الْمَوْت لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِي بَيَان الشِّدَّة الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث الْآتِي أَوَاخِر الْبَاب مِنْ رِوَايَة ذَكْوَانَ عَنْ عَائِشَة وَلَفْظه: بَيْن يَدَيْهِ رَكْوَة أَوْ عُلْبَة بِهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِل يَدَيْهِ فِي الْمَاء فَيَمْسَح بِهَا وَجْهه يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَات وَعِنْد أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ طَرِيق الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: رَأَيْته وَعِنْده قَدَح فِيهِ مَاء وَهُوَ يَمُوت، فَيُدْخِل يَده فِي الْقَدَح ثُمَّ يَمْسَح وَجْهه بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَات الْمَوْت وَفِي رِوَايَة شَقِيق عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: مَا رَأَيْت الْوَجَع عَلَى أَحَد أَشَدّ مِنْهُ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَسَيَأْتِي فِي الطِّبّ. وَبَيَّنَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود فِي الطِّبّ أَنَّ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَجْرَيْنِ. وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد: إِنَّا مَعَاشِر الْأَنْبِيَاء يُضَاعَف لَنَا الْبَلَاء كَمَا يُضَاعَف لَنَا الْأَجْر.
4442 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَلِيُّ وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ بَيْتِي وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ قَالَ: هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: (لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فِي وَجَعِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ.
قَوْلُهُ: (اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ فَاطِمَةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُنَّ: أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ دُخُولَهُ بَيْتَهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَدْ مَضَى شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ وَفِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَذَكَرْتُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ طَرَفًا مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ الَّذِي كَانَ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْعَبَّاسِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: فَخَرَجَ بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ وَفِي أُخْرَى: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أُسَامَةُ وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أُسَامَةُ، وَالْفَضْلُ وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخِرِهِ: بَرِيرَةُ وَنُوبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا وَأَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ اسْمُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَجَزَمَ سَيْفٌ فِي الْفُتُوحِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: الْفَضْلُ، وَثَوْبَانُ وَجَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا بِأَنَّ خُرُوجَهُ تَعَدَّدَ فَيَتَعَدَّدُ مَنِ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَنَاوَبُوا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (فِي بَيْتِي) وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنِسَائِهِ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بُيُوتَكُنَّ، فَإِذَا شِئْتُنَّ أَذِنْتُنَّ لِي، وَسَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ وَكَانَ أَوَّلُ مَا بَدَأَ مَرَضُهُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ) قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْعَدَدِ أَنَّ لَهُ خَاصِّيَّةً فِي دَفْعِ ضَرَرِ السُّمِّ وَالسِّحْرِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ هَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ نَجَاسَةَ سُؤْرِ الْكَلْبِ وَزَعَمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ مِنْهُ سَبْعًا إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ السُّمَيَّةِ الَّتِي فِي رِيقِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ، وَلِلنَّسَائِيِّ: فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمُصَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: الْقَوْلُ لِمَنْ بِهِ وَجَعٌ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي النَّسَائِيِّ: مَنْ قَالَ عِنْدَ مَرِيضٍ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَنْ يَشْفِيَكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَفِي مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيْنَ أَكُونُ غَدًا؟ كَرَّرَهَا، فَعَرَفَتْ أَزْوَاجُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْنَا أَيَّامَنَا لِأُخْتِنَا عَائِشَةَ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ يَقُولُ: أَيْنَ أَنَا؟ حِرْصًا عَلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي سَكَنَ، وَأَذِنَ لَهُ نِسَاؤُهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي وَقَوْلُهُ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُحَدِّثُ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ مَوْصُولٌ: وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ) تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فِي مَرَضِهِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ -: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ آخِرُ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُهُمْ وَلَغَطُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَقَالَ لَهُمْ: قُومُوا، فَلَعَلَّهُ وَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ خِفَّةً فَخَرَجَ. وَقَوْلُهُ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ إِلَخْ. هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا وَمَوْصُولٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا فَصَلَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ مَا هُوَ عِنْدَ شَيْخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ مَعًا وَعَنْ عَائِشَةَ فَقَطْ.
4447 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ - وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ؟ إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 4447 - طرفه في: 6266]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ) هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ سَمِعَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَخَوَيْهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَمِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الدِّمْيَاطِيِّ فِيهِ فَإِنَّ الْإِسْنَادَ صَحِيحٌ وَسَمَاعُ الزُّهْرِيِّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ ثَابِتٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ شُعَيْبٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَصَرَّحَ أَيْضًا بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَفِي الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَصَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ.
قَوْلُهُ: (بَارِئًا) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَرَأَ بِمَعْنَى أَفَاقَ مِنَ
الْمَرَضِ.
قَوْلُهُ: (أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا) هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّنْ يَصِيرُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَتَصِيرُ أَنْتَ مَأْمُورًا عَلَيْكَ، وَهَذَا مِنْ قُوَّةِ فِرَاسَةِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (لَأَرَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَبِضَمِّهَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَهَذَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ مُسْتَنِدًا إِلَى التَّجْرِبَةِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (هَذَا الْأَمْرُ) أَيِ الْخِلَافَةُ. وَفِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فَنَسْأَلُهُ مَنْ يَسْتَخْلِفُ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مِنَّا فَذَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَوْصَى بِنَا) فِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ وَإِلَّا أَوْصَى بِنَا فَحُفِظْنَا مِنْ بَعْدِهِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ عَلِيٌّ: وَهَلْ يَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَيْرُنَا. قَالَ: أَظُنُّ وَاللَّهِ سَيَكُونُ.
قَوْلُهُ: (لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ) أَيْ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ.
قَوْلُهُ: (لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ لَا أَطْلُبُهَا مِنْهُ، وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ فِي آخِرِهِ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْعَبَّاسُ، لِعَلِيٍّ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ تُبَايِعْكَ النَّاسُ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ عَلِيًّا سَأَلَهُ عَنْهَا كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي الطَّاهِرِ الذُّهْلِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَقِيَنِي الْعَبَّاسُ - فَذَكَرَ نَحْوَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِاخْتِصَارٍ وَفِي آخِرهَا - قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا لَيْتَنِي أَطَعْتُ عَبَّاسًا، يَا لَيْتَنِي أَطَعْتُ عَبَّاسًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ مَعْمَرٌ يَقُ لُ لَنَا: أَيُّهُمَا كَانَ أَصْوَبَ رَأْيًا؟ فَنَقُولُ الْعَبَّاسُ. فَيَأْبَى وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا عَلِيًّا فَمَنَعَهُ النَّاسُ لَكَفَرُوا.
4448 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لَهُمْ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ أَنَسٌ: وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَنَسٍ (أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْقَوْمِ الْحَدِيثَ، وَفَسَّرَهَا بِأَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ فَلَا يَصِحُّ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ صَلَاةَ الظُّهْرِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ) زَادَ أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ وَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّلَاةِ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ بَكَى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَلَا لَا أَسْمَعَنَّ أَحَدًا يَقُولُ: مَاتَ مُحَمَّدٌ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهِيَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ) يَخْدِشُ فِي جَزْمِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ مَاتَ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْآخِرِ بِمَعْنَى ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ وَذَلِكَ عِنْدَ
الزَّوَالِ، وَاشْتِدَادُ الضُّحَى يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى يَتَحَقَّقُ زَوَالُ الشَّمْسِ. وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَاتَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا لِأَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
4449 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ - فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ.
4450 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا" يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي ثُمَّ قَالَتْ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْطَانِيهِ فَقَضِمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي"
4451 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَكَانَتْ إِحْدَانَا تُعَوِّذُهُ بِدُعَاءٍ إِذَا مَرِضَ فَذَهَبْتُ أُعَوِّذُهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمَرَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَفِي يَدِهِ جَرِيدَةٌ رَطْبَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ بِهَا حَاجَةً فَأَخَذْتُهَا فَمَضَغْتُ رَأْسَهَا وَنَفَضْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ فَاسْتَنَّ بِهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ مُسْتَنًّا ثُمَّ نَاوَلَنِيهَا فَسَقَطَتْ يَدُهُ أَوْ سَقَطَتْ مِنْ يَدِهِ فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ.
الحديث الرابع عشر، قَوْلُهُ:(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ذَكْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ) سَيَأْتِي بَعْدَ حَدِيثٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِلَا وَاسِطَةٍ، لَكِنْ فِي كُلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ.
قَوْلُهُ: (فَلَيَّنْتُهُ) أَيْ لَيَّنْتُ السِّوَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَّهُ) بِفَاءٍ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ أَمَرَّهُ عَلَى أَسْنَانِهِ فَاسْتَاكَ بِهِ. وللْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ بِأَمْرِهِ بِمُوَحَّدَةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ وَرَاءٍ مَكْسُورَةٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ أَحْمَدَ نَحْوَهُ وَزَادَ فَلَمَّا خَرَجَتْ نَفْسُهُ لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا. الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ، تَقَدَّمَ كَذَلِكَ. الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ.
4452، 4453 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، وَبَكَى ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا.
4454 -
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّاكِرِينَ} وَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا أَيْضًا وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَتَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْجَنَائِزِ، وَأَنَّهُ مَسْكَنُ زَوْجَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْجَنَائِزِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتَةِ الْأُخْرَى مَوْتَةُ الشَّرِيعَةِ أَيْ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَكَ وَمَوْتَ شَرِيعَتِكَ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خُطْبَتِهِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا لِأَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ قَدْ أَوْضَحَتِ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ زَادَ لَفْظَ: عَلِمْتُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ) الْقَائِلُ هُوَ الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ) أَيْ يَقُولُ لَهُمْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، عَنْ عَائِشَةَ مُتَّصِلًا بِمَا ذَكَرْتُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّامِنِ شَيْءٌ دَارَ بَيْنَ الْمُغِيرَةِ،
وَعُمَرَ. فَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهَا: فَسَجَّيْت هُ ثَوْبًا: فَجَاءَ عُمَرُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَاسْتَأْذَنَا فَأَذِنْتُ لَهُمَا، وَجَذَبْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَاغَشْيَتَاهْ. ثُمَّ قَامَا، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْبَابِ قَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا عُمَرُ مَاتَ. قَالَ: كَذَبْتَ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوشُكَ فِتْنَةٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعُمَرَ: هَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى حَارَبَ وَسَالَمَ وَنَكَحَ وَطَلَّقَ وَتَرَكَكُمْ عَلَى مَحَجَّةٍ وَاضِحَةٍ وَهَذِهِ مِنْ مُوَافَقَاتِ الْعَبَّاسِ، لِلصِّدِّيقِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْتُلَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا أَظْهَرُوا الِاسْتِبْشَارَ وَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، أَلَمْ تَسْمَعِ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ثُمَّ أَتَى الْمِنْبَرَ فَصَعِدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ.
قَوْلُهُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} زَادَ يَزِيدُ بْنُ بَابَنُوسُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، ثُمَّ تَلَا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} الْآيَةَ، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ عُمَرُ. أَوَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَا شَعَرْتُ أَنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَزَادَ: ثُمَّ نَزَلَ، فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذَ الْمُنَافِقِينَ الْكَآبَةُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكَأَنَّمَا عَلَى وُجُوهِنَا أَغْطِيَةٌ فَكُشِفَتْ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ، وَأَغْرَبَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: مَا أَدْرِي: الْقَائِلُ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الزُّهْرِيُّ أَوْ شَيْخُهُ أَبُو مَسْلَمَةَ؟ فَقُلْتُ: صَرَّحَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِأَنَّهُ الزُّهْرِيُّ، وَأَثَرُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ هَذَا أَهْمَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (فَعُقِرْتُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ هَلَكْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ دَهَشْتُ وَتَحَيَّرْتُ، وَيُقَالُ: سَقَطْتُ، وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ بِالْفَاءِ مِنَ الْعَفَرِ وَهُوَ التُّرَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَقُعِرْتُ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (مَا تُقِلُّنِي) بِضَمِّ أَوَّلُهُ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مَا تَحْمِلُنِي.
قَوْلُهُ: (وَحَتَّى أَهْوَيْتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: هَوَيْتُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَقَوْلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ تَلَاهَا: أَيْ تَلَا الْآيَةَ الَّتِي مَعْنَاهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ فَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ وَهِيَ وَاضِحَةٌ، وَكَذَا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَعُقِرْتُ وَأَنَا قَائِمٌ حَتَّى خَرَرْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَيْقَنْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ وَفِي الْحَدِيثِ قُوَّةُ جَأْشِ أَبِي بَكْرٍ وَكَثْرَةُ عِلْمِهِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبَّاسُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْمُغِيرَةُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَمَا فِي الْمَغَازِي لِأَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وَالنَّاسُ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْأَقَلَّ عَدَدًا فِي الِاجْتِهَادِ قَدْ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ الْأَكْثَرَ فَلَا يَتَعَيَّنُ التَّرْجِيحُ بِالْأَكْثَرِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ ظَهَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَلَّدَ بَعْضًا.
4455، 4456 - ، 4457 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
بَعْدَ مَوْتِهِ.
[الحديث 4456 - طرفه في: 5709]
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا مَاتَ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ عَنْهَا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهْ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاصَفِيَّاهْ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاخَلِيلَاهْ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَوَضَعَ فَاهُ عَلَى جَبِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي وَيَقُولُ: بِأَبِي وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَّهُ فَقَالُوا: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.
4458 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَزَادَ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 4458 - أطرافه في: 5712، 6886، 6897]
الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ، قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى وَزَادَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ) أَمَّا عَلِيٌّ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَمَّا يَحْيَى فَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ عَلِيًّا وَافَقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ قِصَّةَ اللُّدُودِ.
قَوْلُهُ: (لَدَدْنَاهُ) أَيْ جَعَلْنَا فِي جَانِبِ فَمِهِ دَوَاءً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا هُوَ اللُّدُودُ، فَأَمَّا مَا يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ فَيُقَالُ لَهُ: الْوُجُورُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُمْ أَذَابُوا قِسْطًا - أَيْ بِزَيْتٍ - فلَّدُوهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ) قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطْنَاهُ بِالرَّفْعِ أَيْ هَذَا مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا الِامْتِنَاعُ كَرَاهِيَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ نَهَانَا لِلْكَرَاهِيَةِ لِلدَّوَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَيْ كَرِهَهُ كَرَاهِيَةَ الدَّوَاءِ، قَالَ عِيَاضٌ: الرَّفْعُ أَوْجَهُ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسُ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) قِيلَ: فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي جَمِيعِ مَا يُصَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَمْدًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَتَعَاطَوْا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ لِتَرْكِهِمُ امْتِثَالَ نَهْيهِ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا مَنْ بَاشَرَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ فَلِكَوْنِهِمْ تَرَكُوا نَهْيَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ هُوَ عَنْهُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَعِيدَ لَا يُعْذَرُ بِهِ صَاحِبُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي مُعَارَضَةِ النَّهْيِ - قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: - أَرَادَ أَنْ لَا يَأْتُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِمْ حَقُّهُ فَيَقَعُوا فِي خَطْبٍ عَظِيمٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ الْعَفْوُ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَأْدِيبَهُمْ لِئَلَّا يَعُودُوا، فَكَانَ ذَلِكَ تَأْدِيبًا لَا قِصَاصًا وَلَا انْتِقَامًا. قِيلَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ اللَّدَّ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَتَدَاوَى لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ، وَمَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ التَّدَاوِي. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّخْيِيرِ وَالتَّحَقُّقِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّدَاوِي لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِدَائِهِ، لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَدَاوَوْهُ بِمَا يُلَائِمُهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ
فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ كَمَا تَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ) وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سْعَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ بِهَذَا السَّنَدِ وَلَفْظُهُ: كَانَتْ تَأْخُذُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَاصِرَةُ، فَاشْتَدَّتْ بِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَدَدْنَاهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: هَذَا مِنْ فِعْلِ نِسَاءٍ جِئْنَ مِنْ هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيَّ ذَاتَ الْجَنْبِ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ لَهَا عَلَيَّ سُلْطَانًا، وَاللَّهِ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ. فَمَا يبَقِى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ، وَلَدَدْنَا مَيْمُونَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ أَشَارَتَا بِأَنْ يَلُدُّوهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا اشْتَكَى كَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَتَشَاوَرْنَ فِي لَدِّهِ فَلَدُّوهُ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: هَذَا فِعْلُ نِسَاءٍ جِئْنَ مِنْ هُنَا - وَأَشَارَ إِلَى الْحَبَشَةِ - وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِنْهُنَّ فَقَالُوا: كُنَّا نَتَّهِمُ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ. فَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَنِي بِهِ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ.
قَالَ: فَلَقَدِ الْتَدَّتْ مَيْمُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ هَذِهِ بَيَانُ ضَعْفِ مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَاتَ الْجَنْبِ تُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَرَضَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ: أَحَدُهُمَا وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ، وَالْآخَرُ رِيحٌ مُحْتَقِنٌ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْفِيُّ هُنَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ذَاتُ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أُثْبِتَ هُنَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ كَالْأَوَّلِ.
الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
4459 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَي أَزْهَرُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ: مَنْ قَالَهُ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَمُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَانْخَنَثَ فَمَاتَ فَمَا شَعَرْتُ فَكَيْفَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ؟
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَزْهَرُ) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ بَصْرِيٌّ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ بَصْرِيٌّ أَيْضًا، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخْعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ فَكُوفِيَّانِ.
قَوْلُهُ: (ذُكِرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: ذَكَرُوا وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَتْ: وَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ وَقَدْ رَأَيْتُهُ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَتْفُلَ فِيهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هُنَاكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِبَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْبَابِ.
4460 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: أَوْصَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِهَا؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْوَصَايَا.
4461 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ
السَّبِيلِ صَدَقَةً.
4462 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ نفُوسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْمُصْطَلِقِيُّ أَخُو مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْوَصَايَا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَنَسٍ عَنْ فَاطِمَةَ.
قَوْلُهُ: (وَاكَرْبَ أَبَاهُ) فِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَاكَرْبَاهْ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا بِذَلِكَ وَإِلَّا لَكَانَ يَنْهَاهَا.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَتَاهْ) كَأَنَّهَا قَالَتْ: يَا أَبِي، وَالْمُثَنَّاةُ بَدَلٌ مِنَ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْأَلِفُ لِلنُّدْبَةِ وَلِمَدِّ الصَّوْتِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَحَكَى الطَّيِّبِيُّ عَنْ نُسْخَةٍ مِنْ الْمَصَابِيحِ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ) قِيلَ: الصَّوَابُ إِلَى جِبْرِيلَ نَعَاهُ، جَزَمَ بِذَلِكَ سِبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِرْآةِ، وَالْأَوَّلُ مُوَجَّهٌ فَلَا مَعْنَى لِتَغْلِيطِ الرُّوَاةِ بِالظَّنِّ وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَارِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: يَا أَبَتَاهُ، مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ وَمِثْلُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ أَنَّ كَرْبَهُ كَانَ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ تَنْقَطِعَ شَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَوْتِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَأَعْمَالُهُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرْبِ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، وَكَانَ فِيمَا يُصِيبُ جَسَدَهُ مِنَ الْآلَامِ كَالْبَشَرِ لِيَتَضَاعَفَ لَهُ الْأَجْرُ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ إِلَخْ) وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ عَنْ فَاطِمَةَ، وَأَشَارَتْ عليها السلام بِذَلِكَ إِلَى عِتَابِهِمْ عَلَى إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا عَرَفَتْهُ مِنْهُمْ مِنْ رِقَّةِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَسَكَتَ أَنَسٌ عَنْ جَوَابِهَا رِعَايَةً لَهَا وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: لَمْ تَطِبْ أَنْفُسُنَا بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا قَهَرْنَاهَا عَلَى فِعْلِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا تَغَيَّرَتْ عَمَّا عَهِدُوهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالصَّفَاءِ وَالرِّقَّةِ؛ لِفِقْدَانِ مَا كَانَ يَمُدُّهُمْ بِهِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّوَجُّعِ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ بِمِثْلِ قَوْلِ فَاطِمَةَ عليها السلام وَاكَرْبَ أَبَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النِّيَاحَةِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهَا بَعْدَ أَنْ قُبِضَ وَاأَبَتَاهْ إِلَخْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُتَّصِفًا بِهَا لَا يُمْنَعُ ذِكْرُهُ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ فِيهِ ظَاهِرًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَافُهُ بِهَا فَيَدْخُلُ فِي الْمَنْعِ، وَنُبِّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمِزِّيَّ ذَكَرَ كَلَامَ فَاطِمَةَ هَذَا فِي مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ فِي مُسْنَدِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُ حَضَرَهُ، لَكِنِ الْأَخِيرُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ فَاطِمَةَ فَحَقُّهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عَنْهَا.
84 - بَاب آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
4463 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، فَقُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَقَدْ شُرِحَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي رِجَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَشَارَتْ إِلَى مَا أَشَاعَتْهُ الرَّافِضَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ وَأَنْ يُوَفِّيَ دُيُونَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا بَيَّنَ لَهُ مَنْ يَلِي بَعْدَهُ فَهَلْ بَيَّنَ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَمَنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ سَلْمَانَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ وَصِيُّكَ؟ قَالَ: وَصِيِّي وَمَوْضِعُ سِرِّي وَخَلِيفَتِي عَلَى أَهْلِي وَخَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُهُ بَعْدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَمَنْ طَرِيقِ أَبِي رَبِيعَةَ الْإِيَادِيِّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ: لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ وَإِنَّ عَلِيًّا وَصِيِّي وَوَلَدِي. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَعَلِيٌّ خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ. أَوْرَدَهَا وَغَيْرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ.
85 - بَاب وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
4464 -
4465 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا.
[الحديث 4464 - طرفه في: 4978]
4466 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ "قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَه"
قَوْلُهُ: (بَابُ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فِي أَيِّ السِّنِينَ وَقَعَتْ؟
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا) هَذَا يُخَالِفُ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَائِشَةَ عَقِبَهُ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، إِلَّا
أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ. وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي عُمْرِهِ أَنَّهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُهُ لِأَحْمَدَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ عَاشَ سِتِّينَ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِلْغَاءَ الْكَسْرِ، أَوْ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ بُعِثَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمَاتَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَبِثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَبُعِثَ لِأَرْبَعِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ الْمَشْهُورَ - وَهُوَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ - جَاءَ عَنْهُ الْمَشْهُورُ، وَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَبِهِ جَزَمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ الثَّبْتُ عِنْدنَا.
وَقَدْ جَمَعَ السُّهَيْلِيُّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: مَكَثَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ عَدَّ مِنْ أَوَّلِ مَا جَاءَهُ الْمَلَكُ بِالنُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَالَ: مَكَثَ عَشْرًا أَخَذَ مَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَمَجِيءِ الْمَلَكِ بِيَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ خَبَرِ الشَّعْبِيِّ الَّذِي نَقَلْتُهُ مِنْ تَارِيخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مَا يُخَالِفُهُ كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ الْمُخَرَّجِ فِي
(1)
مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا الزُّهْرِيُّ، وَمِنَ الشُّذُوذِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّهُ عَاشَ إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَلَمْ يَبْلُغْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا، وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ وُلِدَ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ شَاذٌّ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ جَبَرَ الْكَسْرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فَقَطْ وَقَلَّ مَنْ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَهُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: مِثْلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أَرْسَلَهُ، وَالْقَصْدُ بِالْمِثْلِ الْمَتْنُ فَقَطْ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَقَدْ جَوَّزْتُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا لَمَّا شَرَحْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ الْآنَ كَمَا حَرَّرْتُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
86 - باب
4467 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ يعني صاعا من شعير.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمُمَيَّزِ وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ ثَلَاثِينَ صَاعًا وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا.
87 - بَاب بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ
(1)
بياض الأصل
4468 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ فَقَالُوا فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي أُسَامَةَ وَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ.
4469 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ) إِنَّمَا أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لِمَا جَاءَ أَنَّهُ كَانَ تَجْهِيزُ أُسَامَةَ يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَوْمَيْنِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ قَبْلَ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَدَبَ النَّاسَ لِغَزْوِ الرُّومِ فِي آخِرِ صَفَرٍ، وَدَعَا أُسَامَةَ فَقَالَ: سِرْ إِلَى مَوْضِعِ مَقْتَلِ أَبِيكَ فَأَوْطِئْهُمُ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجَيْشَ، وَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أُبْنَى، وَحَرِّقْ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرِعِ الْمَسِيرَ تَسْبِقِ الْخَبَرَ، فَإِنْ ظَفَّرَكَ اللَّهُ بِهِمْ فَأَقِلَّ اللُّبْثَ فِيهِمْ. فَبَدَأَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَعَقَدَ لِأُسَامَةَ لِوَاءً بِيَدِهِ، فَأَخَذَهُ أُسَامَةُ فَدَفَعَهُ إِلَى بُرَيْدَةَ وَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ، وَكَانَ مِمَّنْ انُتدِبَ مَعَ أُسَامَةَ كِبَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَقَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ، فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. ثُمَّ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ، فَجَهَّزَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْلِفَ، فَسَارَ عِشْرِينَ لَيْلَةً إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِيهِ، وَرَجَعَ بِالْجَيْشِ سَالِمًا وَقَدْ غَنِمُوا.
وَقَدْ قَصَّ أَصْحَابُ الْمَغَازِي قِصَّةً مُطَوَّلَةً فَلَخَّصْتُهَا، وَكَانَتْ آخِرَ سَرِيَّةٍ جَهَّزَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلَ شَيْءٍ جَهَّزَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْمُطَهَّرِ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ كَانَا فِي بَعْثِ أُسَامَةَ ; وَمُسْتَنَدُ مَا ذَكَرَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ فِي الْمَغَازِي وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعدٍ أَوَاخِرَ التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْمَشْهُورَةِ وَلَفْظُهُ بَدَأَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصْبَحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَعَقَدَ لِأُسَامَةَ فَقَالَ: اغْزُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسِرْ إِلَى مَوْضِعِ مَقْتَلِ أَبِيكَ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجَيْشَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَّا انْتُدِبَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَلَمَّا جَهَّزَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنِ اسْتُخْلِفَ سَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَأْذَنَ لَعمر بِالْإِقَامَةِ فَأَذِنَ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ جَازِمًا بِهِ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، أَبَا عُبَيْدَةَ، وَسَعْدًا، وَسَعِيدًا، وَسَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَالَّذِي بَاشَرَ الْقَوْلَ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِمُ الطَّعْنُ فِي إِمَارَتِهِ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَيْضًا أَنَّ عِدَّةَ ذَلِكَ الْجَيْشِ كَانَتْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فِيهِمْ سبعمِائَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَتْ عِدَّةُ الْجَيْشِ سَبْعَمِائَةٍ.
88 - باب
4470 -
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو، عَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَتَى هَاجَرْتَ؟ قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ الْيَمَنِ مُهَاجِرِينَ فَقَدِمْنَا الْجُحْفَةَ فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ فَقُلْتُ لَهُ: الْخَبَرَ؟ فَقَالَ: دَفَنَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ خَمْسٍ، قُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي بِلَالٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فِي السَّبْعِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ) هُوَ يَزِيدُ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالصُّنَابِحِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ)؟ الْقَائِلُ هُوَ أَبُو الْخَيْرِ وَالْمَقُولُ لَهُ الصُّنَابِحِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ بِمَا لَا مَزِيدَ فِي التَّتَبُّعِ عَلَيْهِ.
89 - بَاب كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟
4471 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه كَمْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ.
4472 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ.
4473 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَهْمَسٍ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَتَمَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ الْمَغَازِي بِنَحْوِ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي عَلَى حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَزَادَ هُنَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَكَأَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ كَانَ حَرِيصًا عَلَى مَعْرِفَةِ عَدَدِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءَ وَغَيْرَهُمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ) هُوَ ابْنُ جُنَيْدِبٍ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ كَهْمَسٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَزْنَ جَعْفَرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ كَهْمَسَ بْنَ الْحَسَنِ وَابْنُ بُرَيْدَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِسُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً) كَذَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ عَنْ شُيُوخٍ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بِعَيْنِهَا عَنْ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ بِوَاسِطَةٍ. وَوَقَعَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ لِلْبُخَارِيِّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ حَدِيثٍ، وَقَدْ جَرَّدْتُهَا فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَاتَلَ مِنْهَا فِي ثَمَانٍ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي تَوْجِيهُ ذَلِكَ وَتَحْرِيرُ عَدَدِ الْغَزَوَاتِ. وَأَمَّا السَّرَايَا فَتَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغْلَطَاي أَنَّ مَجْمُوعَ الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا مِائَةٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمَغَازِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا وَالْبَاقِي مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى أَرْبَعُمِائَةِ حَدِيثٍ وَعَشَرَةُ أَحَادِيثَ، وَالْخَالِصُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا وَهِيَ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ شَهِدَ عَلِيٌّ بَدرًا وَبَارَزَ وَظَاهَرَ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَوْجِيهِهِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ وَكَانَ أَبُوهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَحَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ وَعَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي أَبِي زَيْدٍ الْبَدْرِيِّ، وَحَدِيثُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فِي الْأَضَاحِي، وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ فِي قَتْلِهِ الْعَاصَي بْنَ سَعِيدٍ بِبَدْرٍ، وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِي تَكْبِيرِهِ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحَدِيثُ عُمَرَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَعَ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ نَسَخَ الْمَصَاحِفَ، وَحَدِيثُ وَحْشِيٌّ فِي قَتْلِ حَمْزَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، وَحَدِيثُ بِنْتِ الْحَارِثِ فِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَعَ حَفْصَةَ وَفِيهِ مُرَاجَعَتُهُ مَعَ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّى الْخَوْفَ بِذِي قَرَدٍ وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِيهِ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِيهِ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ فِي أَنْمَارٍ مُعَلَّقٌ مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْوَلْقِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَدِيثُ مِرْدَاسَ يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ وَحَدِيثُ بِنْتِ خُفَافٍ، وَحَدِيثُ عُمَرَ مَعَهَا فِي شُهُودِ أَبِيهَا، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ لَا نَدْرِي مَا أَحْدَثْنَا وَحَدِيثُ زَاهِرٍ فِي لُحُومِ الْحُمُرِ، وَحَدِيثُ أُهْبَانَ بْنِ أَوْسٍ فِي السُّجُودِ، وَحَدِيثُ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو فِي نَقْضِ الْوِتْرِ، وَحَدِيثُ قَتَادَةَ فِي الْمُثَلَّثَةِ بَلَاغًا، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ فِي الضَّرْبِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الطَّيَالِسَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مُؤْتَةَ، وَحَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِيهِ، وَحَدِيثُ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ فِي الْبُكَاءِ، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ فِي قِصَّةِ الْفَتْحِ مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي مَسْحِ وَجْهِهِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ حَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي ضَرْبَةِ حُنَيْنٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ بَنِي جَذِيمَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ الْمُرْتَدِّ مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ مَعَ الْجَارِيَةِ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِيهِ، وَحَدِيثُ جَرِيرٍ فِي بَعْثِهِ إِلَى الْيَمَنِ، وَفِيهِ رِوَايَتُهُ عَنْ ذِي عَمْرٍو، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَحَدِيثُ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ فِي رَجَبٍ، وَحَدِيثُهُ فَرَرْنَا إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ خَبَّابٍ وَفِيهِ قِرَاءَةُ عَلْقَمَةَ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ مَعَ عُمَرَ أَسْلَمْتُ إِذْ كَفَرُوا وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مَعَ الْعَبَّاسِ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ مَعَ فَاطِمَةَ فِيهِ، وَحَدِيثُ بِلَالٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَثَرًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسْنَدِ مِمَّا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
65 - كِتَاب التَفْسِيرِ
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسْمَانِ مِنْ الرَّحْمَةِ، الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ التَّفْسِيرِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَر: كِتَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَأَخَّرَ غَيْرُهُ الْبَسْمَلَةَ. وَالتَّفْسِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْفَسْرِ وَهُوَ الْبَيَانُ، تَقُولُ: فَسَرْتُ الشَّيْءَ، بِالتَّخْفِيفِ، أَفْسِرُهُ فَسْرًا، وَفَسَّرْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا: إِذَا بَيَّنْتَهُ. وَأَصْلُ الْفَسْرِ: نَظَرُ الطَّبِيبِ إِلَى الْمَاءِ لِيَعْرِفَ الْعِلَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ فَسَرَتِ الْفَرَسَ إِذَا رَكَضْتَهَا مَحْصُورَةً لِيَنْطَلِقَ حَصْرُهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ سَفَرَ كَجَذَبَ وَجَبَذَ، تَقُولُ: سَفَرَ إِذَا كَشَفَ وَجْهَهَ، وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٌ: هُمَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: التَّفْسِيرُ هو بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، وَالتَّأْوِيلُ هُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْمَعْنَى، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَسَطْتُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اسْمَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ)، أَيْ: مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالرَّحْمَةُ لُغَةً الرِّقَّةُ وَالِانْعِطَافُ، وَعَلَى هَذَا فَوَصْفُهُ بِهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَنْ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ. وَقِيلَ: لَيْسَ الرَّحْمَنُ مُشْتَقًّا، لِقَوْلِهِمْ: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُولُوا: وَمَنِ الرَّحْمَنُ؟ وَقِيلَ: هُوَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِأَنَّهُ جَاءَ غَيْرَ تَابِعٍ لِمَوْصُوفٍ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} ، {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَجِيئِهِ غَيْرَ تَابِعٍ أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ إِذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِفَتِهِ.
قَوْلِهِ: (الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ) هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَصِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، فَمَعْنَاهَا زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى الْفَاعِلِ، وَقَدْ تَرِدُ صِيغَةُ فَعِيلٍ بِمَعْنَى الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا زِيَادَةٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثُّبُوتِ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَاحْتُرِزَ عَنْهُ.
وَاخْتُلِفَ هَلِ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالنَّدْمَانِ وَالنَّدِيمِ، فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا؟ أَوْ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا تَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَفِي الْآخِرَةِ تَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، أَوِ التَّغَايُرُ بِجِهَةٍ أُخْرَى فَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا؛ تَقُولُ: فُلَانٌ غَضْبَانُ إِذَا امْتَلَأَ غَضَبًا، وَأَرْدَفَ بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ. وَقِيلَ: الرَّحِيمُ أَبْلَغُ لِمَا يَقْتَضِيهِ صِيغَةُ فَعِيلٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِهَةَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَمَّا تَسَمَّى بِالرَّحْمَنِ كَمُسَيْلِمَةَ جِيءَ بِلَفْظِ الرَّحِيمِ لِقَطْعِ التَّوَهُّمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوصَفْ بِهِمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ، وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: الرَّحْمَنُ إِذَا سُئِلَ أَعْطَى وَالرَّحِيمُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ يَغْضَبُ، وَمِنَ الشَّاذِّ مَا رُوِيَ عَنِ الْمُبَرِّدِ، وَثَعْلَبٍ أَنَّ الرَّحْمَنَ عِبْرَانِيٌّ وَالرَّحِيمَ عَرَبِيٌّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ وُجِدَ فِي اللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ لَكِنْ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ
وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بِالدِّينِ} بِالْحِسَابِ، {مَدِينِينَ} مُحَاسَبِينَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) أَيْ: مِنَ الْفَضْلِ، أَوْ مِنَ التَّفْسِيرِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ التَّقْيِيدِ بِشَرْطِهِ فِي كُلِّ وَجْهٍ.
قَوْلُهُ: (وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي أَوَّلِ مَجَازِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ لَفْظَهُ: وَلِسُوَرِ الْقُرْآنِ أَسْمَاءٌ: مِنْهَا أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُسَمَّى أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ، وَتُعَادُ قِرَاءَتُهَا فَيُقْرَأُ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ السُّورَةِ، وَيُقَالُ لَهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا فِي الْمَصَاحِفِ فَتُكْتَبُ قَبْلَ الْجَمِيعِ انْتَهَى. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِمَّا اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّ أُمَّ الشَّيْءِ ابْتِدَاؤُهُ وَأَصْلُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: التَّعْلِيلُ بِأَنَّهَا يُبْدَأُ بِهَا يُنَاسِبُ تَسْمِيَتَهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لَا أُمَّ الْكِتَابِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُتَّجَهُ مَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْأُمَّ مَبْدَأُ الْوَلَدِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعَبُّدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَعَلَى مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْفِعْلِ. وَاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَوَافَقَهُمَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ كَرَاهِيَةَ تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْكِتَابِ، وَتَعَقَّبَهُ السُّهَيْلِيُّ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ، وَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْحِجْرِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَسْمِيَتِهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَأُمِّ الْكِتَابِ. وَلَعَلَّ الَّذِي كَرِهَ ذَلِكَ وَقَفَ عِنْدَ لَفْظِ الْأُمِّ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّصُّ طَاحَ مَا دُونَهُ. وَلِلْفَاتِحَةِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى جُمِعَتْ مِنْ آثَارٍ أُخْرَى: الْكَنْزُ، وَالْوَافِيَةُ، وَالشَّافِيَةُ، وَالْكَافِيَةُ، وَسُورَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُورَةُ الصَّلَاةِ، وَسُورَةُ الشِّفَاءِ، وَالْأَسَاسُ، وَسُورَةُ الشُّكْرِ، وَسُورَةُ الدُّعَاءِ.
قَوْلُهُ: (الدِّينُ: الْجَزَاءِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ: الدِّينُ: الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ. انْتَهَى، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وَهُوَ مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَيْضًا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا، وَأَبُو قِلَابَةَ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا الدَّرْدَاءِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مَوْصُولٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيِّ وَضَعَّفَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالدِّينِ بِالْحِسَابِ. مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} قَالَ: بِالْحِسَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُحَاسَبِينَ. وَالْأَثَرُ الْأَوَّلُ جَاءَ مَوْقُوفًا عَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ وَيَوْمُ الْجَزَاءِ. وَلِلدِّينِ مَعَانٍ أُخْرَى: مِنْهَا الْعَادَةُ، وَالْحُكْمُ، وَالْحَالُ، وَالْخَلْقُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْقَهْرُ، وَالْمِلَّةُ، وَالشَّرِيعَةُ، وَالْوَرَعُ، وَالسِّيَاسَةُ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
4474 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ:
لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
[4474 - أطرافه في: 4647، 4703، 5006]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي خُبَيْبٌ) بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ (ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَحَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ أَيِ: ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى) بَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ سَمَاعَ خُبَيْبٍ لَهُ مِنْ حَفْصِ، وَحَفْصٍ لَهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَيْسَ لِأَبِي سَعِيدٍ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: رَافِعٌ، وَقِيلَ: الْحَارِثُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَوَهَّى الَّذِي قَبْلَهُ. وَقِيلَ: أَوْسٌ. وَقِيلَ: بَلْ أَوْسٌ اسْمُ أَبِيهِ وَالْمُعَلَّى جَدُّهُ. وَمَاتَ أَبُو سَعِيدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَرَّخَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفَاتَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.
(تَنْبِيهَانِ) يَتَعَلَّقَانِ بِإِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ: (أَحَدُهُمَا) نَسَبَ الْغَزَالِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِّيُّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى. (ثَانِيهِمَا) رَوَى الْوَاقِدِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ: عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ. وَالْوَاقِدِيُّ شَدِيدُ الضَّعْفِ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ. وَشَيْخُهُ مَجْهُولٌ.
وَأَظُنُّ الْوَاقِدِيَّ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ فَإِنَّ مَالِكًا أَخْرَجَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ ذِكْرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ: عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَمِنَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَادَاهُ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَوَهِمَ ابْنُ الْأَثِيرِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ شَيْخَ الْعَلَاءِ هُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى، فَإِنَّ ابْنَ الْمُعَلَّى صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَدَنِيٌّ، وَذَلِكَ تَابِعِيٌّ مَكِّيٌّ مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْعَلَاءِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَأَحْمَدُ من طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْعَلَاءِ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ كَوْنَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي مَا رَجَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَخْرَجِ الْحَدِيثَيْنِ وَاخْتِلَافِ سِيَاقِهِمَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ) زَادَ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ: فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: أَيْ أُبَيُّ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ صَلَّى فَخَفَّفَ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا مَنَعَكَ إِذْ دَعَوْتُكَ أَنْ لَا تُجِيبَنِي؟ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا} فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَوَلَيْسَ تَجِدُ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (تَنْبِيهٌ)
نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} قَبْلَ قَوْلِ أَبِي سَعِيدِ: كُنْتُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ أَنَّ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْخِطَابِ قَالَ: وَالَّذِي تَأَوَّلَ الْقَاضِيَانِ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ أَنَّ إِجَابَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ يَعْصِي الْمَرْءُ بِتَرْكِهِ، وَأَنَّهُ
حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: وَمَا ادَّعَاهُ الدَّاوُدِيُّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافٍ عِنْدَهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ أَمْ لَا.
قَوْلُهُ: (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ أَنَّ ثَوَابَهَا أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، لِأَنَّ الْمَفْضُولَ نَاقِصٌ عَنْ دَرَجَةِ الْأَفْضَلِ، وَأَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامَهُ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَى التَّفَاضُلِ أَنَّ ثَوَابَ بَعْضِهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ بَعْضٍ، فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعَانِي لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، وَيُؤَيِّدُ التَّفْضِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أَيْ: فِي الْمَنْفَعَةِ وَالرِّفْقِ وَالرِّفْعَةِ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالتَّقْدِيرُ: نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ، وَهُوَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} لَكِنْ قَوْلُهُ فِي آيَةِ الْبَابِ: أَوْ مِثْلِهَا، يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُحَدِّثُنِي وَأَنَا أَتَبَاطَأُ مَخَافَةَ أَنْ يَبْلُغَ الْبَابَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْحَدِيثُ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السُّورَةُ الَّتِي قَدْ وَعَدْتَنِي؟ قَالَ: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ أُمَّ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) فِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ: فَقَالَ: هِيَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَالَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ. وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} هِيَ الْفَاتِحَةُ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ، أَيِ: السُّوَرُ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرةِ إِلَى آخِرِ الْأَعْرَافِ ثُمَّ بَرَاءَةٌ، وَقِيلَ: يُونُسُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْآيُ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا مَثَانِيَ فَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى في كُلَّ رَكْعَةٍ، أَيْ: تُعَادُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَذَا قَالَ، وعَكْسَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ السُّورَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الْآيَةَ لَمْ يَقُلْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُقَالُ لَهَا سَبْعٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا السُّورَةَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَسْمَائِهَا، وَفِيهِ قُوَّةٌ لِتَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرَادَ السُّورَةَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا تُسَمَّى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ هَذَا التَّعَقُّبَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ لِأَنَّهُ عَاتَبَ الصَّحَابِيَّ عَلَى تَأْخِيرِ إِجَابَتِهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ حُكْمَ لَفْظِ الْعُمُومِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ الْعَامُّ مُنَزَّلًا عَلَى الْخَاصِّ، لِأَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِجَابَةَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ. وَفِيهِ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُصَلِّي دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ إِجَابَتُهُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا سَوَاءَ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، أَمَّا كَوْنُهُ يَخْرُجُ بِالْإِجَابَةِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يَخْرُجُ فَلَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ وَلَوْ خَرَجَ
الْمُجِيبُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَلْ يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِالنِّدَاءِ أَوْ يَشْمَلُ مَا هُوَ أَعُمُّ حَتَّى تَجِبَ إِجَابَتُهُ إِذَا سَأَلَ؟ فِيهِ بَحْثٌ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّ إِجَابَةَ الصَّحَابَةِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي قَوْلِهِ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ بِالْعَاطِفَةِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ الَّتِي تَجِيءُ بِمَعْنَى التَّفْصِيلِ كَقَوْلِهِ:{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وَقَوْلِهِ: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مَثَلًا، فَيَكُونُ وَصْفُ الْفَاتِحَةِ انْتَهَى بِقَوْلِهِ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ثُمَّ عَطَفَ قَوْلَهَ: وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، أَيْ: مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِنَظْمِ الْآيَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ الَّذِي أُوتِيتُهُ زِيَادَةً عَلَى الْفَاتِحَةِ.
(تَنْبِيهٌ) يُسْتَنْبَطُ مِنْ تَفْسِيرِ السَّبْعِ الْمَثَانِي بِالْفَاتِحَةِ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَى رَسُولِهِ بِهَا، وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ اتِّفَاقًا فَيَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهَا. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذِهِ هَفْوَةٌ مِنْ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَنَسَبَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَنَقَلُوا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ جَاءَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ أَنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ الْبَسْمَلَةَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهَا ثَمَانُ آيَاتٍ، لِأَنَّهُ عَدَّهَا وَعَدَّ:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَقِيلَ: لَمْ يَعُدَّهَا وَعَدَّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وَهَذَا أَغْرَبُ الْأَقْوَالِ.
2 - بَاب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
4475 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: لَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ الْمَفْهُومِ مِنْ غَيْرِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ أَنْعَمْتَ. وَقِيلَ: لَا بِمَعْنَى غَيْرِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عُمَرَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ، وَلَا الضَّالِّينَ النَّصَارَى. هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وَفِي النَّصَارَى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا}
ثم أورد المصنف حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ فِي التَّأْمِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقَالَ: آمِينَ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
2 - سُورَةُ الْبَقَرَةِ
1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
4476 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح. وقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي - ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَيَسْتَحِي فَيَقُولُ: - ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ - فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم؛ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنَ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ.
فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي - مِثْلَهُ - ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثالثة، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:{خَالِدِينَ فِيهَا} .
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْبَقَرَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِهَا. وَسَيَأْتِي قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَتْ لِغَيْرِهِ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيّ، وَسَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِآدَمَ: وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ: فَقِيلَ: أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: أَسْمَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْقَصْعَةِ. وَقَدْ غَفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَنَسَبَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِلَى كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ لَهَا فِيهِ ذِكْرٌ. وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّفْسِيرِ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
2 - بَاب قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَصْحَابِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اللَّهُ جَامِعُهُمْ، {عَلَى الْخَاشِعِينَ} عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {بِقُوَّةٍ} يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {مَرَضٌ} شَكٌّ، {وَمَا خَلْفَهَا} عِبْرَةٌ لِمَنْ بَقِيَ، {لا شِيَةَ} لَا بَيَاضَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:{يَسُومُونَكُمْ} يُولُونَكُمْ، الْوَلَايَةُ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرُ الْوَلَاءِ وَهِيَ الرُّبُوبِيَّةُ، إِذَا كُسِرَتْ الْوَاوُ فَهِيَ الْإِمَارَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فُومٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَبَاءُوا} فَانْقَلَبُوا. وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ} يَسْتَنْصِرُونَ، {شَرَوْا} بَاعُوا، {رَاعِنَا} مِنْ الرُّعُونَةِ، إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا: رَاعِنًا {لا يَجْزِي} لَا يُغْنِي، {خُطُوَاتِ} مِنْ الْخَطْوِ، وَالْمَعْنَى: آثَارَهُ، {ابْتَلَى} اخْتَبَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ مِنَ التَّفَاسِيرِ) سَقَطَ جَمِيعُ ذَلِكَ لِلسَّرَخْسِيِّ.
قَوْلُهُ: {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} قَالَ: إِلَى أَصْحَابِهِمْ، فَذَكَرَهُ. وَمَنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرُءُوسِهِمْ وَقَادَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا لَقُوا الصَّحَابَةَ قَالُوا: إِنَّا عَلَى دِينِكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ - وَهُمْ أَصْحَابُهُمْ - قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ. وَالنُّكْتَةُ فِي تَعْدِيَةِ خَلَوْا بِإِلَى مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ أَنَّ الَّذِي يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ يَحْتَمِلُ الِانْفِرَادَ وَالسُّخْرِيَةَ تَقُولُ: خَلَوْتُ بِهِ إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ، وَالَّذِي يَتَعَدَّى بِإِلَى نَصٌّ فِي الِانْفِرَادِ، أَفَادَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ خَلَا مَعْنَى ذَهَبَ. وَعَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ تَتَنَاوَبُ، فَإِلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ أَوْ بِمَعْنَى مَعَ.
قَوْلُهُ: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اللَّهُ جَامِعُهُمْ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَزَادَ: فِي جَهَنَّمَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قَالَ: مُنْزِلٌ بِهِمُ النِّقْمَةَ.
(تَنْبِيهٌ)
قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جُمْلَةُ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ اعْتَرَضَتْ بَيْنَ جُمْلَةِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ} وَجُمْلَةِ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}
قَوْلُهُ: {صِبْغَةَ} دِينٌ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَوْلُهُ {صِبْغَةَ اللَّهِ} أَيْ: دِينَ اللَّهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ قَالَ:{صِبْغَةَ اللَّهِ} أَيْ: فِطْرَتَ اللَّهِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَصْبُغُ أَبْنَاءَهَا تَهَوُّدًا، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَإِنَّ {صِبْغَةَ اللَّهِ} الْإِسْلَامُ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نُوحًا وَمَنْ كان بَعْدَهُ، انْتَهَى.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ {صِبْغَةَ} بِالنَّصْبِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ انْتَصَبَ عَنْ قَوْلِهِ:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} عَلَى الْأَرْجَحِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمُوا، وَكَأَنَّ لَفْظَ صِبْغَةٍ وَرَدَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ فِي مَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُطَهِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ، فَقِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ: الْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ.
قَوْلُهُ: {عَلَى الْخَاشِعِينَ} عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ شَبَابَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} قَالَ: يَعْنِي الْخَائِفِينَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: يَعْنِي بِهِ الْمُتَوَاضِعِينَ.
قَوْلُهُ: (بِقُوَّةٍ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الْقُوَّةُ: الطَّاعَةُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ قَالَ: الْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: أَبُو الْعَالِيَةِ: مَرَضٌ: شَكٌّ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ: شَكٌّ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الرِّيَاءُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أَيْ: نِفَاقًا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: رِيبَةٌ وَشَكٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: {وَمَا خَلْفَهَا} عِبْرَةً لِمَنْ بَقِيَ) وَصَلَهُ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أَيْ: عُقُوبَةً لِمَا خَلَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، {وَمَا خَلْفَهَا} أَيْ: عِبْرَةً لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: {لا شِيَةَ} فِيهَا لَا بَيَاضَ فِيهَا) تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَسُومُونَكُمْ} يُولُونَكُمْ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْغَيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ ذَكَرَهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنَّفِ وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي الْمَجَازِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا
…
أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّوْمُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ أَيْ: يُدِيمُونَ تَعْذِيبَكُمْ، وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْغَنَمِ لِمُدَاوَمَتِهَا الرَّعْيَ. وَقَالَ: الطَّبَرِيُّ مَعْنَى {يَسُومُونَكُمْ} يُورِدُونَكُمْ، أَوْ: يُذِيقُونَكُمْ، أَوْ: يُولُونَكُمْ.
قَوْلُهُ: (الْوَلَايَةُ مَفْتُوحَةً) أَيْ: مَفْتُوحَةَ الْوَاوِ (مَصْدَرُ الْوَلَاءِ وَهِيَ الرُّبُوبِيَّةُ وَإِذَا كُسِرَتِ الْوَاوُ فَهِيَ الْإِمَارَةُ) هُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ الْوَلْيِ، وَبِالْكَسْرِ، وَوَلِيتَ الْعَمَلَ وَالْأَمْرَ تَلِيهِ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَهْفِ لَا فِي الْبَقَرَةِ لِيُقَوِّيَ تَفْسِيرَ يَسُومُونَكُمْ يُولُونَكُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فُومٌ) هَذَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ عَنْ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ قَالَ: الْفُومُ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْفُومَ الْحِنْطَةُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ الثُّومُ بِالْمُثَلَّثَةِ. وَبِهِ فَسَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْفَاءُ تُبَدَلُ مِنَ الثَّاءِ فِي عِدَّةِ أَسْمَاءٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: قَتَادَةُ {فَبَاءُوا} فَانْقَلَبُوا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ} يَسْتَنْصِرُونَ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى مِثْلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيْ يَسْتَظْهِرُونَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ قَالُوا: فِينَا وَفِي الْيَهُودِ نَزَلَتْ، وَذَلِكَ أَنَّا كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (شَرَوْا بَاعُوا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: بَاعُوا،، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ.
قَوْلُهُ: {رَاعِنَا} مِنَ الرُّعُونَةِ، إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا رَاعِنَا) قُلْتُ: هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: لَا تَقُولُوا قَوْلًا رَاعِنًا، أَيْ: قَوْلًا ذَا رُعُونَةٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الرَّاعِنُ: السِّخْرِيُّ مِنَ الْقَوْلِ، نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْخَرُوا مِنْ مُحَمَّدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُضَمَّنَ الْقَوْلُ التَّسْمِيَةَ، أَيْ: لَا تُسَمُّوا نَبِيَّكُمْ رَاعِنًا. الرَّاعِنُ الْأَحْمَقُ، وَالْأَرْعَنُ مُبَالَغَةٌ فِيهِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: لَا تَقُولُوا رَاعُونَا وَهِيَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَكَذَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ أَيْضًا: أَرْعُونَا وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَاعِنَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْمُرَاعَاةِ. إِنَّمَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَقَدْ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ: لَا تَقُولُوا اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَعْ مِنْكَ. وَعَنْ عَطَاءٍ: كَانَتْ لُغَةً تَقُولُهَا
الْأَنْصَارُ فَنُهُوا عَنْهَا. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُ: ارْعُنِي سَمْعَكَ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْخِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَنُهُوا عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَاعِنَا بِلِسَانِ الْيَهُودِ السَّبُ الْقَبِيحُ، فَسَمِعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ خَاطَبُوا بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ لَأَضَرِبَنَّ عُنُقَهُ.
قَوْلُهُ: {لا تَجْزِي} لَا تُغْنِي) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ: لَا تُغْنِي، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: يَعْنِي لَا تُغْنِي نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ عَنْ نَفْسٍ كَافِرَةٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (خُطُوَاتِ مِنَ الْخَطْوِ، وَالْمَعْنَى آثَارُهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} هِيَ الْخُطَا وَاحِدَتُهَا خُطْوَةٌ وَمَعْنَاهَا آثَارُ الشَّيْطَانِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ: خُطَاهُ. وَمَنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ: قُلْتُ لِقَتَادَةَ فَقَالَ: كُلُّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. كَذَا قَالَ، وَاللَّفْظُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَمِنْ فِي كَلَامِهِ مُقَدَّرَةٌ.
قَوْلُهُ: (ابْتَلَى اخْتَبَرَ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَرَهُ، وَثَبَتَ هَذَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ.
3 - بَاب قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
4477 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ، تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ.
[الحديث 4477 - أطرافه في: 4761، 6001، 6811، 6861، 7520، 7532]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ، بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ النَّظِيرُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: النِّدُّ: الْعِدْلُ. وَمَنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَنْدَادُ الْأَشْبَاهُ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ لِأَبِي ذَرٍّ.
ثم ذكر المصنف حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنُّ صَمْغَةٌ، وَالسَّلْوَى الطَّيْرُ.
4478 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ.
[الحديث 4478 - طرفاه في: 4639، 5708]
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} - إِلَى - {يَظْلِمُونَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لَهُ لَفْظُ: بَابُ وَسَاقَ الْبَاقُونَ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنُّ صَمْغَةٌ) أَيْ: بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونُ الْمِيمِ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، (وَالسَّلْوَى: الطَّيْرُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا. وَمَنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ مِثْلُ الرُّبِّ الْغَلِيظِ أَيْ: بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ. وَمَنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ مِثْلَ التّرنجبيلِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْمَنُّ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ سُقُوطَ الثَّلْجِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا لَا تَنَافِيَ فِيهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: الْمَنُّ خُبْزُ الرِّقَاقِ. وَهَذَا مُغَايِرٌ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّلْوَى طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وَمِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هُوَ السُّمَانَى. وَعَنْهُ قَالَ: هُوَ طَيْرٌ سَمِينٌ مِثْلُ الْحَمَامِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: طَيْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ.
ثم ذكر المصنف حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا وَجْهَ لِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَنِّ الْمُنَزَّلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ ذَاكَ شَيْءٌ كَانَ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ كَالتّرنجبيلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَنْبُتُ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِنْبَاتٍ وَلَا مُؤْنَةٍ انْتَهَى. وَقَدْ عُرِفَ وَجْهُ إِدْخَالِهِ هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
* رَغَدًا} وَاسِعٌ كَثِيرٌ.
4479 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا، وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{الْمُحْسِنِينَ} .
قَوْلُهُ: {رَغَدًا} وَاسِعًا كَثِيرًا) هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: الرَّغَدُ: الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يُتْعِبُ يُقَالُ: قَدْ أَرْغَدَ فُلَانٌ إِذَا أَصَابَ عَيْشًا وَاسِعًا كَثِيرًا. وَعَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} قَالَ: الرَّغَدُ سَعَةُ الْمَعِيشَةِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ رِجَالِهِ قَالَ: الرَّغَدُ الْهَنِيءُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّغَدُ الَّذِي لَا حِسَابَ فِيهِ.
ثم ذكر المصنف حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَسَأَذْكُرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ لَمْ يَقَعْ مَنْسُوبًا إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ، فَإِنَّهُ يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ
أَيْضًا، وَأَمَّا أَبُو عَلَيٍّ الْجَيَّانِيُّ فَقَالَ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ.
6 - بَاب قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَبْرَ، وَمِيكَ، وَسَرَافِ: عَبْدٌ، إِيلْ: اللَّهُ
4480 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا، قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَام أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي. فَجَاءَتْ الْيَهُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ فَقَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَانْتَقَصُوهُ، قَالَ: فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قِيلَ: سَبَبُ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ لِجِبْرِيلَ أَنَّهُ أُمِرَ بِاسْتِمْرَارِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ فَنَقَلَهَا لِغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ يَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ. قُلْتُ: وَأَصَحُّ مِنْهُمَا مَا سَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ لِكَوْنِهِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: عِكْرِمَةُ: جِبْرُ وَمِيكُ وَسِرَافُ: عَبْدُ، إِيلُ: اللَّهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ من طَرِيقِ عَاصِمٍ عَنْهُ، قَالَ: جِبْرِيلُ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلُ عَبْدُ اللَّهِ، إِيلُ: اللَّهُ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ: جِبْرُ عَبْدٌ، وَمِيكَ عَبْدٌ، وَإِيلُ اللَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ الْأَوَّلِ وَزَادَ: وَكُلُّ اسْمٍ فِيهِ إِيلُ فَهُوَ اللَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْبَصْرِيِّ أَحَدُ التَّابِعِينَ قَالَ: إيلُ اللَّهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: اسْمُ جِبْرِيلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلَ عُبَيْدُ اللَّهِ - يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ - وَإِسْرَافِيلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ اسْمٍ فِيهِ إِيلُ فَهُوَ مُعَبَّدٌ لِلَّهِ. وَذُكِرَ عَكْسَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ إِيلَ مَعْنَاهُ عَبْدٌ وَمَا قَبْلَهُ مَعْنَاهُ اسْمُ لِلَّهِ كَمَا تَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ، فَلَفْظُ عَبْدٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَمَا بَعْدَهُ يَتَغَيَّرُ لَفْظُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الِاسْمَ الْمُضَافَ فِي لُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِ غَالِبًا يَتَقَدَّمُ فِيهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي جِبْرِيلَ لُغَاتٌ، فَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ بِكَسْرِ الْجِيمِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ، وَبَنُو أَسَدٍ مِثْلُهُ لَكِنْ آخِرُهُ نُونٌ، وَبَعْضُ أَهْلِ نَجْدٍ وَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ
يَقُولُونَ: جَبْرَئِيلُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَخَلَفٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَعَلْقَمَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِثْلُهُ لَكِنْ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا قَرَآ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهَذَا الْوَزْنُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَزَعَمَ بَعْضَهُمْ أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ: جَبْرَئلُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ وَتَشْدِيدُ اللَّامِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ مُعْظَمُ شَرْحِهَا هُنَاكَ.
وَقَوْلُهُ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ من الْمَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْآيَةَ رَدًّا لِقَوْلِ الْيَهُودِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نُزُولَهَا حِينَئِذٍ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةً غَيْرَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، فَأَخْرَجُوا مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّا نَسْأَلَكُ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهَا عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ - أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَمَّا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَنْ عَلَامَةِ النُّبُوَّةِ، وَعَنِ الرَّعْدِ وَصَوْتِهِ وَكَيْفَ تُذَكَّرُ الْمَرْأَةُ وَتُؤَنَّثُ، وَعَمَّنْ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنَ السَّمَاءِ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ لَئِنْ أَنَا أَنْبَأْتُكُمْ لَتُبَايِعُنِّي؟ فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الرَّعْدِ.
وَفِي رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: لَمَّا سَأَلُوهُ عَمَّنْ يَأْتِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ. فَقَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَبَايَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ. قَالَ: فَمَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا. فَنَزَلَتْ.
وَفِي رِوَايَةِ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ: قَالُوا: جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْعَذَابِ، لَوْ كَانَ مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ فَنَزَلَتْ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي الْيَهُودَ فَيَسْمَعُ مِنَ التَّوْرَاةِ فَيَتَعَجَّبُ كَيْفَ تُصَدِّقُ مَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَالِمُهُمْ: نَعَمْ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَلِمَ لَا تَتَّبِعُونَهُ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَسِلْمًا، وَإِنَّهُ قَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدُوَّنَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ لَحِقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَوْرَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ يَهُودِيًّا لَقِيَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي يَذْكُرُهُ صَاحِبُكُمْ عَدُوٌّ لَنَا. فَقَالَ: عُمَرُ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فَنَزَلَتْ عَلَى وَفْقِ مَا قَالَ.
وَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ قَوْلُ الْيَهُودِيِّ الْمَذْكُورِ لَا قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَدُوُّ الْيَهُودِ، تَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ مُذَكِّرًا لَهُ سَبَبَ نُزُولِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ من ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَبَبَ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ لِجِبْرِيلَ أَنَّ نَبِيَّهُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ سَيُخَرِّبُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَبَعَثُوا رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ فَوَجَدَهُ شَابًّا ضَعِيفًا فَمَنَعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قَتْلِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرَادَ هَلَاكَكُمْ عَلَى يَدِهِ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَعَلَى أَيِّ حَقٍّ تَقْتُلُهُ؟ فَتَرَكَهُ، فَكَبِرَ بُخْتَنَصَّرَ وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَتَلَهُمْ وَخَرَّبَهُ، فَصَارُوا يَكْرَهُونَ جِبْرِيلَ لِذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا.
وَقَوْلُهُ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ يَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
7 - بَاب قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا
4481 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ؛ وَذَاكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننسأها.
[الحديث 4481 - طرفه في: 5005]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ: نُنْسِهَا، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ السِّينِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلِغَيْرِهِ نَنْسَأْهَا وَالْأَوَّلُ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو وَطَائِفَةٍ، وَسَأَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا، وَفِيهَا قِرَاءاتٌ أُخْرَى فِي الشَّوَاذِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَبِيبٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَوَرَدَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ ابْنِ الْفَضْلِ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خَلَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ) كَذَا أَخْرَجَهُ مَوْقُوفًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي ذِكْرِ أُبَيٍّ، وَفِيهِ ذِكْرُ جَمَاعَةٍ وَأَوَّلُهُ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ - وَفِيهِ - وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ، لَكِنْ قَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الصَّوَابَ إِرْسَالُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، فَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أَقْضَى أُمَّتِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيّ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ، الْحَدِيثَ، وَرُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِثْلَهُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَقْضَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ) فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ: مِنْ لَحْنِ أُبَيٍّ، وَاللَّحْنُ اللُّغَةُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خَلَّادٍ: وَإِنَّا لَنَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ صَدَقَةَ: أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ بِسَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ غَيْرَهُ عَنْهُ بِخِلَافِهِ لَمْ يَنْتَهِضْ مُعَارِضًا لَهُ حَتَّى يَتَّصِلَ إِلَى دَرَجَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ غَالِبًا.
(تَنْبِيهٌ)
هَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ: ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَخْ) هُوَ مَقُولُ عُمَرَ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَاحْتَجَّ عُمَرُ لِجَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ ي قُولُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا أَيْ نُؤَخِّرْهَا وَهَذَا يُرَجِّحُ رِوَايَةَ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِالْهَمْزِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَمِنَ النِّسْيَانِ، وَكَذَلِكَ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَقْرَؤُهَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَكَانَتْ قِرَاءَةُ سَعْدٍ: أَوْ ننْسَاهَا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُبَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَنَسِيَهُ بِالنَّهَارِ فَنَزَلَتْ وَاسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ فَمَنَعَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ السِّيَاقَ وَسَبَبَ
النُّزُولِ كَانَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
8 - بَاب {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
4482 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} كَذَا لِلْجَمِيعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: قَالُوا بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدُسِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ) إِنَّمَا سَمَّاهُ شَتْمًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْقِيصِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ وَالِدَةٍ تَحْمِلُهُ ثُمَّ تَضَعُهُ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ سَبْقَ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ يَسْتَدْعِي بَاعِثًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ.
9 - بَاب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى * مَثَابَةً} يَثُوبُونَ: يَرْجِعُونَ.
4483 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ - أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ نِسَائِهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ قُلْتُ: إِنْ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنْ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} كَذَا لَهُمْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرِ الْخَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّخِذُوا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ مَنِ اتَّبَعَ إِبْرَاهِيمَ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: جَعَلْنَا فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: عَلَى وَإِذْ جَعَلْنَا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ إِذْ وَيَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَثَابُوا، أَيْ: رَجَعُوا وَاتَّخَذُوا. وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ مَثَابَةً كَأَنَّهُ قَالَ: ثُوبُوا وَاتَّخِذُوا، أَوْ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَقُلْنَا اتَّخِذُوا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ.
قَوْلُهُ: (مَثَابَةً
يَثُوبُونَ: يَرْجِعُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَابَةً} مَصْدَرُ يَثُوبُونَ أَيْ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُ بِالْمَصْدَرِ اسْمُ الْمَصْدَرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ اسْمُ مَكَانٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مَثَابَةً} قَالَ: يَأْتُونَهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ لَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثَابَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْمُقَامِ وَالْمُقَامَةِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ لِمَا كَثُرَ مِنْ يَثُوبُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالُوا: سَيَّارَةٌ لِمَنْ يُكْثِرُ السَّيْرَ، وَالْأَصْلُ فِي مَثَابٍ مَثُوبَةٌ فَأُعِلَّ بِالنَّقْلِ وَالْقَلْبِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَتَأْتِي قِصَّةُ الْحِجَابِ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْزَابِ، وَالتَّخْيِيرِ فِي تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى إِحْدَاهُنَّ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ في بَابُ غَيْرَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ عَلَى الْمَقَامِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا تَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ.
تَكْمِلَةٌ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا طَلَبَ عُمَرُ الِاسْتِنَانَ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام مَعَ النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} فَعَلِمَ أَنَّ الِائْتِمَامَ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلِكَوْنِ الْبَيْتِ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَأَنَّ أَثَرَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ كَرَقْمِ الْبَانِي فِي الْبِنَاءِ لِيُذْكَرَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَرَأَى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْمَقَامِ كَقِرَاءَةِ الطَّائِفِ بِالْبَيْتِ اسْمَ مَنْ بَنَاهُ. انْتَهَى، وَهِيَ مُنَاسَبَةٌ لَطِيفَةٌ. ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ تَزَلْ آثَارُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ حَاضِرَةً فِي الْمَقَامِ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِ الْحَرَمِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً
…
قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَفِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَصَابِعُ إِبْرَاهِيمَ وَأَخْمَصُ قَدَمَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ. قَالَ: وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا مَنْ رَأَى أَثَرَ عَقِبِهِ وَأَصَابِعِهِ فِيهَا فَمَا زَالُوا يَمْسَحُونَهُ حَتَّى اخْلَوْلَقَ وَانْمَحَى. وَكَانَ الْمَقَامُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ لِزْقَ الْبَيْتِ إِلَى أَنْ أَخَّرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ وَلَفْظُهُ: أَنَّ الْمَقَامَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مُلْتَصِقًا بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَخَّرَهُ عُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي حَوَّلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: كَانَ الْمَقَامُ فِي سَقْعِ الْبَيْتِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَوَّلَهُ عُمَرُ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِهِ فَرَدَّهُ عُمَرُ إِلَيْهِ. قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي أَكَانَ لَاصِقًا بِالْبَيْتِ أَمْ لَا. انْتَهَى. وَلَمْ تُنْكِرِ الصَّحَابَةُ فِعْلَ عُمَرَ وَلَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَكَانَ عُمَرُ رَأَى أَنَّ إِبْقَاءَهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْيِيقُ عَلَى الطَّائِفِينَ أَوْ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَوَضَعَهُ فِي مَكَانٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْحَرَجُ، وَتَهَيَّأَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ أَشَارَ بِاتِّخَاذِهِ مُصَلًّى، وَأَوَّلُ مَنْ عَمِلَ عَلَيْهِ الْمَقْصُورَةَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ.
10 - بَاب قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ، وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} وَاحِدُهَا قَاعِدٌ.
4484 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنْ قَوْمَكِ بَنَوْا الْكَعْبَةَ وَاقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} سَاقَ إِلَى - الْعَلِيمِ.
قَوْلُهُ: (الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ، وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قَالَ: قَوَاعِدُهُ: أَسَاسُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ: الْقَوَاعِدُ أَسَاسُ الْبَيْتِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْقَوَاعِدِ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ أَهُمَا أَحْدَثَاهَا أَمْ كَانَتْ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ رَوَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ، لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: ابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِبَيْتِي الَّذِي فِي السَّمَاءِ. فَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ حَتَّى بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بَعْدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِزِيَادَةٍ فِيهِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَوْلُهُ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} وَاحِدَتُهَا قَاعِدٌ) أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ مُشْتَرَكٌ، وَتَظْهَرُ التَّفْرِقَةُ بِالْوَاحِدِ، فَجَمْعُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِمْتَاعِ: قَاعِدٌ، بِلَا هَاءٍ وَلَوْلَا تَخْصِيصُهُنَّ بِذَلِكَ لَثَبَتَ الْهَاءُ نَحْوُ قَاعِدَةٍ مِنَ الْقُعُودِ الْمَعْرُوفِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْبَيْتَ، وَقَدْ سَبَقَ بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
11 - بَاب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
4485 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الْآيَةَ.
[الحديث 4485 - طرفاه في: 7262، 7542]
قَوْلُهُ: (بَابُ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} سَقَطَ لَفْظُ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ) أَيْ: الْيَهُودُ.
قَوْلُهُ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) أَيْ: إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا لِئَلَّا يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ، أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ فَتَقَعُوا فِي الْحَرَجِ. وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِيمَا وَرَدَ بِخِلَافِهِ. وَلَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعُنَا بِوَفَائِهِ. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَقُّفُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَالْجَزْمِ فِيهَا بِمَا يَقَعُ فِي الظَّنِّ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَةَ) زَادَ فِي الِاعْتِصَامِ: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
4486 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، سَمِعَ زُهَيْرًا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى - أَوْ صَلَّاهَا - صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ.
فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الْآيَةَ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{مُسْتَقِيمٍ} وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ وَهُوَ خَفِيفُ الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفُ النَّسْجِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالسُّفَهَاءِ فَقَالَ الْبَرَاءُ كما فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: هُمُ الْيَهُودُ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ النِّفَاقِ وَالْيَهُودُ، أَمَّا الْكُفَّارُ فَقَالُوا لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ: رَجَعَ مُحَمَّدٌ إِلَى قِبْلَتِنَا وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ، وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ أَوَّلًا عَلَى الْحَقِّ فَالَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا خَالَفَ، فَلَمَّا كَثُرَتْ أَقَاوِيلُ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
4487 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ح. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى {مُسْتَقِيمٍ} وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
(1)
، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ) أَيْ: لَفْظُ الْمَتْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ) يَعْنِي قَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ:، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ. فَأَفَادَ تَصْرِيحَ الْأَعْمَشِ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا بِالتَّحْدِيثِ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ مُفْرَدَةً فِي الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ.) زَادَ فِي الِاعْتِصَامِ نَعَمْ يَا رَبِّ.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ) فِي الِاعْتِصَامِ فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ. .
قَوْلُهُ: (فَيَشْهَدُونَ) فِي الِاعْتِصَامِ: فَجَاءَ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ غَيْرِهِ وَأَشْمَلَ وَلَفْظُهُ: يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ: أَبَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيُقَالُ لِلنَّبِيِّ: أَبَلَّغْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ) زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: فَيُقَالُ: وَمَا عَلَّمَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَعْمِيمُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُسُلَهُمْ بَلَّغَتْهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَدَّ أَنَّهُ مِنَّا أَيَّتُهَا الْأُمَّةَ، مَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: وَكَذَلِكَ {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فِي الِاعْتِصَامِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ) هُوَ مَرْفُوعٌ مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ بِمُدْرَجٍ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ بِلَفْظِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عَدْلًا وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ فِي قَوْلِهِ: وَسَطًا قَالَ: عَدْلًا، كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ مُخْتَصَرًا مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ مِثْلَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْوَسَطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْخِيَارُ، يَقُولُونَ: فُلَانٌ وَسَطٌ فِي قَوْمِهِ وَوَاسِطٌ، إِذَا أَرَادُوا الرَّفْعَ فِي حَسَبِهِ. قَالَ: وَالَّذِي أَرَى أَنَّ مَعْنَى
(1)
قول الشارح "حدثنا قيبة" الذي في رواية المتن "حدثنا يوسف بن راشد".
الْوَسَطِ فِي الْآيَةِ الْجُزْءُ الَّذِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ وَسَطٌ لِتَوَسُّطِهِمْ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَغْلُوا كَغُلُوِّ النَّصَارَى وَلَمْ يُقَصِّرُوا كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ وَسَطٍ وَاعْتِدَالٍ، قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْوَسَطِ فِي الْآيَةِ صَالِحًا لِمَعْنَى التَّوَسُّطِ أَنْ لَا يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ الْآخَرُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، فَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4488 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ إِذْ جَاءَ فَقَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} الْآيَةَ). كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
ثم أورد حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مُسْتَوْفًى.
15 - بَاب: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} - إِلَى - {عَمَّا تَعْمَلُونَ}
4489 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الْآيَةَ) وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى عَمَّا تَعْمَلُونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ بِسَمَاعِ سُلَيْمَانَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي) يَعْنِي الصَّلَاةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنَسًا آخِرُ مَنْ مَاتَ مِمَّنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَنَسًا قَالَ ذَلِكَ وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ مَوْجُودٌ، ثُمَّ تَأَخَّرَ أَنَسٌ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ عَلِيٌّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا. بَلْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا مُطْلَقًا، لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ غَيْرُ أَبِي الطُّفَيْلِ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ سَكَنَ الْبَوَادِي مِنَ الصَّحَابَةِ تَأَخُّرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَنَسٍ سَنَةَ تِسْعِينَ أَوْ إِحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا، وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: أَقَلُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} هِيَ الْكَعْبَةُ وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قَالَ: نَحْوَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
16 - بَاب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
4490 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ، جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، أَلَا فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ.
قَوْلُهُ: (باب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الْآيَةَ). كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ إِلَى لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَبْلَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
17 - بَاب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
4491 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
4492 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: إِلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ثُمَّ صُرِفُوا وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَرِيبًا.
19 - بَاب {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} شَطْرُهُ: تِلْقَاؤُهُ
4493 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَيْنَا النَّاسُ فِي الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ، إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ: أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، فَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ وَجْهُ النَّاس إِلَى الشَّامِ.
20 - بَاب {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4494 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ.
قَوْلُهُ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ إِلَى {عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
قَوْلُهُ: {شَطْرَهُ} تِلْقَاؤُهُ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يُرِيدُ نَحْوَهُ. قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءاتِ: تِلْقَاءَهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : تِلْقَاءَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى.
شَعَائِرُ: عَلَامَاتٌ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْوَانُ الْحَجَرُ، وَيُقَالُ: الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَالْوَاحِدَةُ: صَفْوَانَةٌ بِمَعْنَى الصَّفَا، وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ.
4495 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ -: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَمَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا، لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
4496 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} - إلى قوله: - {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، شَعَائِرُ: عَلَامَاتٌ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْوَانُ الْحَجَرُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَالْوَاحِدَةُ صَفْوَانَةٌ بِمَعْنَى الصَّفَا، وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ: الصَّفْوَانُ إِجْمَاعٌ، وَيُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ صَفْوَانَةٌ فِي مَعْنَى الصَّفَا، وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا أَبَدًا مِنَ الْأَرَضِينَ وَالرُّءُوسِ، وَوَاحِدُ الصَّفَا صَفَاةٌ، وَقِيلَ: الصَّفَا اسْمُ جِنْسٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ بِالتَّاءِ. وَقِيلَ: مُفْرَدٌ يُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ وَأَفْعَالٍ كَقَفَا وَأَقْفَاءٍ، فَيُقَالُ فِيهِ: صَفًا وَأَصْفَاءٌ. وَيَجُوزُ كَسْرُ صَادِ صَفَا أَيْضًا.
ثم ساق حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
وكذا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَقَوْلُهُ هُنَا: كُنَّا نَرَى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ حَذْفٌ سَقَطَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ.
22 - بَاب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أَضْدَادًا، وَاحِدُهَا نِدٌّ.
4497 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ. وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ وَهْوَ لَا يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يَعْنِي أَضْدَادًا، وَاحِدُهَا نِدٌّ) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَنْدَادِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْدَادِ بِالْأَضْدَادِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَذَكَرَ هُنَا أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
23 - بَاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {عَذَابٌ أَلِيمٌ * عُفِيَ} تُرِكَ.
4498 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُ وقَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَتَلَ بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ.
[الحديث 4498 - طرفه في: 6881]
4499 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ.
4500 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ السَّهْمِيَّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَوْا إِلَّا الْقِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى: أَلِيمٌ.
قَوْلُهُ: (عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ فِي الصُّلْحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ.
ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ، وَسَاقَهُ فِي الصُّلْحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ. ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ: وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ إِغْرَاءٌ وَالثَّانِيَ بَدَلٌ، وَيَجُوزُ فِي الثَّانِي الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيِ: اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} إِلَخْ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ الطَّلَبِ فَمَا هُوَ الِاتِّبَاعُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْعَفْوَ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَفْوِ عَلَى الدِّيَةِ، فَيَتَّجِهُ حِينَئِذٍ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَقِلُ حَقُّ مَنْ لَمْ يَعْفُ إِلَى الدِّيَةِ فَيُطَالِبُ بِحِصَّتِهِ.
4501 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ عَاشُورَاءُ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
4502 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ قَبْلَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
4503 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْعَثُ وَهْوَ يَطْعَمُ فَقَالَ: الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ، فَقَالَ: كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ فَادْنُ فَكُلْ.
4504 -
حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أَمَّا قَوْلُهُ: (كُتِبَ) فَمَعْنَاهُ فُرِضَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَكْتُوبِ فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا فَاخْتُلِفَ فِي التَّشْبِيهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكَافُ هَلْ هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ صِيَامُ رَمَضَانَ قَدْ كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا؟ أَوِ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الصِّيَامِ دُونَ وَقْتِهِ وَقَدْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
وَوَرَدَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجْهُولٌ وَلَفْظُهُ: صِيَامُ رَمَضَانَ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ من طَرِيقِ مَعْقِلٍ النَّسَّابَةِ وَهُوَ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ وَلَمْ تثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَنَحْوُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ التَّشْبِيهَ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الصَّوْمِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ مُعَاذٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَزَادَ الضَّحَّاكُ: وَلَمْ يَزَلِ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا مِنْ زَمَنِ نُوحٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ فَرْضُ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبِيلِ الْآصَارِ وَالْأَثْقَالِ الَّتِي كُلِّفُوا بِهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَتَكْلِيفُهَا بِالصَّوْمِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، فَعَلَى هَذَا الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ بِالْمَعَاصِي أَوْ بِالْمَنْهِيَّاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ في الباب ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وقد تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَعَ شَرْحِهِ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ كَذَلِكَ.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ) هو ابْنُ غَيْلَانَ وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ بَدَلَ مَحْمُودٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ -، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَكِنْ هُنَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا قَالَ الْجَمَاعَةُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْعَثُ وَهُوَ يَطْعَمُ) أَيْ: يَأْكُلُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْرَائِيلَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَلْقَمَةَ قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَأْكُلُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَلْقَمَةَ حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحْضُرْهَا وَحَمَلَهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ رِوَايَةِ الْبَابِ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَتَغَذَّى.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَتَمَامُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ فَقَالَ - أَيِ الْأَشْعَثُ -: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهِيَ كُنْيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَوْضَحُ من ذَلِكَ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْمَذْكُورَةُ فَقَالَ - أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ - يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَهِيَ كُنْيَةُ الْأَشْعَثِ ادْنُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُصَامُ
قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَإِنْ كُنْتَ مُفْطِرًا فَاطْعَمْ، ولِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ، وَكُنَّا نَفْعَلُهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ مُفْتَرَضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فَرْضُ رَمَضَانَ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ مَبْسُوطًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَإِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَوَجْهُهُ أَنَّ رَمَضَانَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَنَا لَصَامَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَصُمْ عَاشُورَاءَ أَوَّلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ صِيَامَهُ عَاشُورَاءَ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَلَا يَضُرُّنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُهُمْ هَلْ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ: يُفْطِرُ مِنْ الْمَرَضِ كُلِّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ: إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا تُفْطِرَانِ ثُمَّ تَقْضِيَانِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ. قراءة الْعَامَّةِ:{يُطِيقُونَهُ} وَهْوَ أَكْثَرُ.
4505 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطَيقُونَهُ {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَليُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سَاقَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَانْتَصَبَ (أَيَّامًا) بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ كَصُومُوا أَوْ صَامُوا، وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي إِعْرَابِهِ كَلَامٌ مُتَعَقَّبٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: يُفْطِرُ مِنَ الْمَرَضِ كُلِّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيِّ وَجَعٍ أُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: من الْمَرَضِ كُلِّهِ، قُلْتُ: يَصُومُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ أَفْطَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلِلْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْأَثَرِ قِصَّةٌ مَعَ شَيْخِهِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ذَكَرْتُهَا فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْحَدِّ الَّذِي إِذَا وَجَدَهُ الْمُكَلَّفُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ الْمَرَضُ الَّذِي يُبِيحُ لَهُ التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَهُوَ مَا إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ تَمَادَى عَلَى الصَّوْمِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ زِيَادَةً فِي الْمَرَضِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ أَوْ تَمَادِيَهُ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: مَتَى حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ حَالٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا اسْمَ الْمَرَضِ فَلَهُ الْفِطْرُ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ عَطَاءٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا يُفْطِرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا تُفْطِرَانِ ثُمَّ تَقْضِيَانِ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِلَفْظِ أَوِ الْحَامِلِ وَلِغَيْرِهِمَا وَالْحَامِلِ بِالْوَاوِ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَأَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ حُمَيْدٍ
عَنِ الْحَسَنِ - هُوَ الْبَصْرِيِّ - قَالَ: الْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَفْطَرَتْ وَأَطْعَمَتْ، وَالْحَامِلُ إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ - وَهُوَ النَّخَعِيُّ - فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا صَوْمًا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ) وَرَوَى عَبْدُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ قَدْ كَبِرَ، فَأَطْعَمَ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ. وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ مُلَاسٍ عَنْ مَرْوَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: ضَعُفَ أَنَسٌ عَنِ الصَّوْمِ عَامَ تُوُفِّيَ، فَسَأَلْتُ ابْنَهُ عُمَرَ بْنَ أَنَسٍ: أَطَاقَ الصَّوْمَ؟ قَالَ: لَا، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ الْقَضَاءَ أَمَرَ بِجِفَانٍ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأَطْعَمَ الْعِدَّةَ أَوْ أَكْثَرَ.
(تَنْبِيهٌ)
قَوْلُهُ: أَطْعَمَ الْفَاءُ جَوَابُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ، فَقَدْ أَطْعَمَ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ كَبِرَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: أَسَنَّ، وَكَانَ أَنَسٌ حِينَئِذٍ فِي عَشْرِ الْمِائَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: يُطِيقُونَهُ، وَهُوَ أَكْثَرُ) يَعْنِي مِنْ أَطَاقَ يُطِيقُ، وَسَأَذْكُرُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَرَوْحٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَقْرَأُ.
قَوْلُهُ: (يُطَوَّقُونَهُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفُ الطَّاءِ، مِنْ طُوِّقَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِوَزْنِ قُطِّعَ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: يُطَوَّقُونَهُ يُكَلَّفُونَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ أَيْ، يُكَلَّفُونَ إِطَاقَتَهُ. وَقَوْلُهُ:(طَعَامُ مِسْكِينٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} زَادَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَزَادَ مِسْكِينٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ) هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُضْعِفُ تَأْوِيلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَا مَحْذُوفَةٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ، وَأَنَّهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا،
أَيْ لَا أَبْرَحُ قَاعِدًا، وَرَدَ بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ عَلَى النَّفْيِ بِخِلَافِ الْآيَةِ، وَيُثْبِتُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُطِيقُونَهُ لِلصِّيَامِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصِّيَامَ فِدْيَةٌ، وَالْفِدْيَةُ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُطِيقِ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصِّيَامَ إِذَا أَفْطَرُوا فِدْيَةٌ، وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ نُسِخَ وَصَارَتِ الْفِدْيَةُ لِلْعَاجِزِ إِذَا أَفْطَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا نَسْخَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ تَكَلَّفَ الصَّوْمَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُفْطِرُ وَيُكَفِّرُ، وَهَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ. وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ فَأَفْطَرُوا فَعَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ ثُمَّ قَوِيَ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَقْضُونَ وَيُطْعِمُونَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا إِطْعَامَ.
26 - بَاب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
4506 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ: فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
4507 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا. مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ فِدْيَةُ طَعَامٍ بِالْإِضَافَةِ وَمَسَاكِينَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ ذَكْوَانَ، وَالْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ فِدْيَةٍ وَتَوْحِيدِ مِسْكِينٍ وَطَعَامُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْبَيَانُ مِثْلُ خَاتَمِ حَدِيدٍ وَثَوْبِ حَرِيرٍ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَكُونً طَعَامًا وَغَيْرَهُ، وَمَنْ جَمْعَ مَسَاكِينَ فَلِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَمَنْ أَفْرَدَ فَمَعْنَاهُ: فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْإِفْرَادِ أَنَّ الْحُكْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُ فِيهِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْإِطْعَامُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ) هُوَ صَرِيحٌ فِي دَعْوَى النَّسْخِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قَالَ: لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ لَمْ يُنَاسِبْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مَعَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْأَكْوَعِ (لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} إِلَخْ) هَذَا أَيْضًا صَرِيحٌ فِي دَعْوَى النَّسْخِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَيُمْكِنُ إِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ ثَابِتَةً أَنْ يَكُونَ الْوَجْهَانِ ثَابِتَيْنِ بِحَسَبِ مَدْلُولِ الْقَرَائِنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَثَبَتَ هَذَا الْكَلَامُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ) أَيْ: مَاتَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، الرَّاوِي عَنْ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَبْلَ شَيْخِهِ يَزِيدَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، وَمَاتَ يَزِيدُ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
4508 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ. ح. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} .
قَوْلُهُ: (بَابُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا.
قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ إِذَا نَامُوا، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ مَمْنُوعًا فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لَيْلًا مَا لَمْ يَحْصُلِ النَّوْمُ، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ كَمَا سَأَذْكُرُهَا بَعْدُ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ عَلَى الْغَالِبِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ) سُمِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ عُمَرُ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنهما فَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أُحِلَّ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَأَصْبَحَ مَجْهُودًا، وَكَانَ عُمَرُ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ فِيهِ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ مُعَاذٍ أَيْضًا، وَلَهُ شَوَاهِدُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَلَغَنَا وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ، فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ، قَالَ: مَا نِمْتِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا. وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَصْحَابِ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، وَثَابِتٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَمْ يَزِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الْقِصَّةِ عَلَى تَسْمِيَةِ عُمَرَ إِلَّا فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- إِلَى قَوْلِهِ -: {يَتَّقُونَ} ، {الْعَاكِفُ} الْمُقِيمُ.
4509 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: أَخَذَ عَدِيٌّ عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ، حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي. قَالَ: إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ.
4510 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} أَهُمَا الْخَيْطَانِ؟ قَالَ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا، إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ.
4511 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
قَالَ: أُنْزِلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ يُنْزَلْ: {مِنَ الْفَجْرِ} ، وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ:{مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنْ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} الْآيَةَ. الْعَاكِفُ الْمُقِيمُ) ثَبَتَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أَيِ: الْمُقِيمُ وَالَّذِي لَا يُقِيمُ.
ثم ذكر حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي الصِّيَامِ مَعَ شَرْحِهِمَا.
4512 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوْا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} .
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِلَى آخِرِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ في سبب نزولها، وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
4513 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قد ضيعوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي. فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
4514 -
وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا، وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي،
بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالصَّلَوات الْخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ. قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ قَالَ: فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ: إِمَّا قَتَلُوهُ، وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ، حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ.
4515 -
قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَكَان اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ يعْفُو عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنُهُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ: - هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} سَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (أَتَاهُ رَجُلَانِ) تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ أَنَّ اسْمَ أَحَدِهِمَا الْعَلَاءُ بْنُ عِرَارٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ، وَاسْمَ الْآخَرِ حِبَّانُ السُّلَمِيُّ صَاحِبُ الدُّثَيْنَةِ، أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّ رَجُلًا اسْمُهُ حَكِيمٌ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رِوَايَةَ سَعِيدِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ ذَلِكَ عَامَ نُزُولِ الْحَجَّاجِ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَا وَقَعَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، وَكَانَ نُزُولُ الْحَجَّاجِ وَهُوَ ابْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، جَهَّزَهُ لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِمَكَّةَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي آخِرِ تِلْكَ السَّنَةِ، وَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ الْعِيدَيْنِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ ضُيِّعُوا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ لِلْأَكْثَرِ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صَنَعُوا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: صَنَعُوا مَا تَرَى مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ هُوَ السَّهْمِيُّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي الْأَحْكَامِ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا. وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ اسْمِ فُلَانٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُ لَفْظِ حَيْوَةَ وَحْدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْأَشَجِّ - بَصْرِيُّونَ، وَمِنْهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَطْلَقَ عَلَى قِتَالِ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ جِهَادًا وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِهَادِ الْكُفَّارِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ غَيْرِهِ خِلَافَهُ، وَأَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ خَاصٌّ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، بِخِلَافِ قِتَالِ الْبُغَاةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكِنَّهُ لَا يَصِلُ الثَّوَابُ فِيهِ إِلَى ثَوَابِ مَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَامِلُ إِيثَارَ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ) كَذَا فِيهِ، الْأَوَّلُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِكَوْنِهِ إِذَا قُتِلَ ذَهَبَ، وَالثَّانِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَوْ يَتَجَدَّدُ لَهُ التَّعْذِيبُ.
قَوْلُهُ: (فَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلَهُ وَبِالْإِفْرَادِ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَبِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ وَالْجَمْعِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (وَخَتَنُهُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ ثُمَّ نُونٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْأَخْتَانُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَحْمَاءُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَالصِّهْرُ جَمَعَهُمَا. وَقِيلَ: اشْتُقَّ الْخَتَنُ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ الْخِتَانُ، وَهُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ.
31 - بَاب {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} التَّهْلُكَةُ وَالْهَلَاكُ وَاحِدٌ.
4516 -
حَدَّثَني إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَسَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (التَّهْلُكَةُ وَالْهَلَاكُ وَاحِدٌ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: وَالْهَلَاكُ وَالْهُلْكُ، يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِضَمِّهَا وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ مَصَادِرُ هَلَكَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْهَلَاكُ بِخِلَافِهِ. وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ نَفْسُ الشَّيْءِ الْمُهْلِكِ. وَقِيلَ: مَا تَضُرُّ عَاقِبَتُهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةَ، أَيْ: فِي تَرْكِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَخَرَجَ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا. فَصَاحَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: إِنَّا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا بَيْنَنَا سِرًّا: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، فَلَوْ أَنَّا أَقَمْنَا فِيهَا وَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ الَّتِي أَرَدْنَاهَا. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا يَغْزُونَ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ اخْتِلَافِ الْمَأْمُورِينَ، فَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا وَأَحْسِنُوا، أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ، وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: وَلَا تُلْقُوا، الْغُزَاةُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ أَبِي جُبَيْرَةَ: كَانَ الْأَنْصَارُ يَتَصَدَّقُونَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَأَمْسَكُوا، فَنَزَلَتْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إِنِّي لَعِنْدَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي جَارًا رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ فَقُتِلَ، فَقَالَ نَاسٌ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبُوا، لَكِنَّهُ اشْتَرَى الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا.
وَجَاءَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ فِيهَا أَلْفٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُذْنِبُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ فَيَقُولُ لَا تَوْبَةَ لِي. وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوَهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَصْدِيرِ الْآيَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي نُزُولِهَا، وَأَمَّا قَصْرُهَا عَلَيْهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ - وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ - عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا فَقَالَ:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ لِلْبَرَاءِ فِيهِ جَوَابَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ وَنَحْوِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَتْقَنُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَكَيْفَ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ وَانْفِرَادِهِ اهـ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حَمْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْعَدُوِّ فَصَرَّحَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِفَرْطِ شَجَاعَتِهِ وَظَنِّهِ أَنَّهُ يُرْهِبُ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ، أَوْ يُجَرِّئُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ،
فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَتَى كَانَ مُجَرَّدَ تَهَوُّرٍ فَمَمْنُوعٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَهَنٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
32 - بَاب {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}
4517 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ - فَسَأَلْتُهُ عَنْ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ: حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ. فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهْيَ لَكُمْ عَامَّةً.
قَوْلُهُ (بَابُ قُولِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ كَعْبِ بن عُجْرَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الَآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
33 - بَاب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
4518 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ، وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، هُوَ عُمَرُ.
34 - بَاب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ}
4519 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
35 - بَاب {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
4520 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حازِمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ،
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
4521 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطَّوَّفُ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ مَا كَانَ حَلَالًا حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا رَكِبَ إِلَى عَرَفَةَ فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ هَدِيَّةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ، مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ، غَيْرَ إِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَنْطَلِقْ، حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَاتٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الظَّلَامُ، ثُمَّ لِيَدْفَعُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، فإِذَا أَفَاضُوا مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغُوا جَمْعًا الَّذِي يتبرر فيه، ثُمَّ لِيَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا، أو أَكْثِرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا، ثُمَّ أَفِيضُوا فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُفِيضُونَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حَتَّى تَرْمُوا الْجَمْرَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (يَطُوفُ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ مَا كَانَ حَلَالًا) أَيِ: الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَالَّذِي دَخَلَ بِعُمْرَةٍ وَتَحَلَّلَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ) هُوَ تَقْيِيدٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا أُطْلِقَ فِي الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِيَنْطَلِقْ) وَقَعَ بِحَذْفِ اللَّامِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَقَوْلُهُ: من صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الظَّلَامُ أَيْ يَحْصُلُ الظَّلَامُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَوْلُهُ: من صَلَاةِ الْعَصْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ من أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ مَصِيرِ الظِّلِّ مِثْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ ذَهَابِ الْقَائِلَةِ وَتَمَامِ الرَّاحَةِ لِيَقِفَ بِنَشَاطٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهَا، وَهِيَ تُصَلَّى عَقِبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، جَمْعَ تَقْدِيمٍ، وَيَقَعُ الْوُقُوفُ عَقِبَ ذَلِكَ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوَّلِ مَشْرُوعِيَّةِ الْوُقُوفِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَفْضَلِ، وَإِلَّا فَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إِلَى الْفَجْرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَبْلُغُوا جَمْعًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ. وَقَوْلُهُ: يَتَبَرَّرُ فِيهِ بِرَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْ: يَطْلُبُ فِيهِ الْبِرُّ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لِيَذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا أَوْ أَكْثَرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَفِيضُوا فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُفِيضُونَ) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَرْمُوا الْجَمْرَةَ هُوَ غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِقَوْلِهِ: أَكْثِرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ.
4522 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
[الحديث 4522 - طرفه في: 6389]
قوله: (بَاب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} الآية)، ذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي الْكِتَابِ الدَّعَوَاتِ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ.
37 - بَاب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّسْلُ الْحَيَوَانُ
4523 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ قَالَ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أَلَدُّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ اللَّدَدِ وَهُوَ مِنْ شِدَّةِ الْخُصُومَةِ، وَالْخِصَامُ جَمْعُ خَصْمٍ وَزْنُ كَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَالْمَعْنَى وَهُوَ أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ مُخَاصَمَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا تَقُولُ: خَاصَمَ خِصَامًا كَقَاتَلَ قِتَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَخَاصَمَهُ أَشَدَّ الْخِصَامِ مُخَاصَمَةً، وَقِيلَ: أَفْعَلُ هُنَا لَيْسَتْ بِالتَّفْضِيلِ بَلْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ وَهُوَ لَدَيْهِ الْخِصَامُ أَيْ شِدَّةُ الْمُخَاصَمَةِ فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّسْلُ الْحَيَوَانُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قَالَ: الْحَرْثُ الزَّرْعُ، النَّسْلُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ رَوَاهُ عَنِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ) أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (الْأَلَدُّ الْخَصِمُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيِ الشَّدِيدُ اللَّدَدِ الْكَثِيرُ الْخُصُومَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ. وَأَوْرَدَهُ لِتَصْرِيحِهِ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ الْجُعْفِيَّ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، لَكِنْ بِالْأَوَّلِ جَزَمَ خَلَفٌ، وَالْمِزِّيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ.
38 - بَاب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} - إِلَى - {قَرِيبٌ}
4524 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ وَتَلَا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ.
4525 -
فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مُثَقَّلَةً.
قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
39 - بَاب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ.
4526 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا ابن شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ثُمَّ مَضَى.
[الحديث 4526 - طرفه في: 4527]
4527 -
وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَالَ يَأْتِيهَا فِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر"
4528 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: "كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "
قَوْلُهُ: (بَابُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَنَّى فَقِيلَ: كَيْفَ، وَقِيلَ: حَيْثُ، وَقِيلَ: مَتَى، وَبِحَسَبِ هَذَا الِاخْتِلَافِ جَاءَ الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا) أَيْ أَمْسَكْتُ الْمُصْحَفَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: أَمْسِكْ عَلَيَّ الْمُصْحَفَ يَا نَافِعُ، فَقَرَأَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ: تَدْرِي فِيمَا أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ثُمَّ مَضَى) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُبْهِمًا لِمَكَانِ الْآيَةِ وَالتَّفْسِيرِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ بِسَنَدِهِ، وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِسَنَدِهِ.
قَوْلُهُ: (يَأْتِيهَا فِي) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَ الظَّرْفِ وَهُوَ الْمَجْرُورِ، وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ يَأْتِيهَا فِي الْفَرْجِ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِهِ بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ. ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى سَلَفِهِ فِيهِ وَهُوَ الْبَرْقَانِيُّ فَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ زَادَ الْبَرْقَانِيُّ يَعْنِي الْفَرْجَ وَلَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لِمَا سَأَذْكُرُهُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ: أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي التَّفْسِيرِ فَقَالَ يَأْتِيهَا فِي وَتَرَكَ بَيَاضًا، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ صَنَّفَ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ جُزْءًا، وَصَنَّفَ فِيهَا ابْنُ شَعْبَانَ كِتَابًا، وَبَيَّنَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي
إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ الْقَطَّانُ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) هَكَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدِ اخْتَصَرَهُ كَمَا تَرَى، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ فَقَدْ أَخْرَجَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَفِي تَفْسِيرِهِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فَقَالَ: أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: نَزَلَتْ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ مِثْلَهُ، وَمَنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ نَحْوَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ فَأَبْهَمَهُ فَقَالَ فِي كَذَا وَكَذَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنِي أَبِي فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: يَأْتِيهَا فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَيَرُدُّ قَوْلَ الْحُمَيْدِيِّ. وَهَذَا الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ الْبُخَارِيُّ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى الِاكْتِفَاءَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ يَحْسُنُ بِسَبَبِهَا اسْتِعْمَالُهُ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمَذْكُورِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} رُخْصَةٌ فِي إِتْيَانِ الدُّبُرِ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَيْضًا كَمَا سَأَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا جَمَاعَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا وَرِوَايَاتُهُمْ بِذَلِكَ ثَابِتَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي فَوَائِدِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ لِأَبِي الشَّيْخِ وَتَارِيخِ نَيْسَابُورَ لِلْحَاكِمِ وَغَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ عَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ صَنِيعَ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: جَمِيعُ مَا أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُبْهَمٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنْ مَالِكٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ نَافِعٍ بِالتَّفْسِيرِ، وَعَنْ مَالِكٍ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ اهـ. كَلَامُهُ. وَرِوَايَةُ الدَّرَاوَرْدِيِّ الْمَذْكُورَةِ قَدْ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ نَافِعٍ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَأَعْظَمَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَقَالَ: لَا، إِلَّا فِي دُبُرِهَا.
وَتَابَعَ نَافِعًا فِي ذَلِكَ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَتَكَلَّمَ الْأَزْدِيّ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَأَصَابَ قَالَ: وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ لِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ بِغَيْرِ نَكِيرٍ أَنْ يَرْوِيَهَا عَنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَسَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ مَا قَالَ نَافِعٌ، وَرِوَايَتُهُمَا عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ جَرِيرٍ وَلَفْظُهُ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قُلْتُ لِمَالِكٍ: إِنَّ نَاسًا يَرْوُونَ عَنْ سَالِمٍ: كَذَبَ الْعَبْدُ عَلَى أَبِي، فَقَالَ مَالِكٌ: أَشْهَدُ عَلَى زَيْدِ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ أَخْبَرَنِي عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ مَا قَالَ نَافِعٌ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ يَعْقُوبَ يَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أُفٍّ، أَوَيَقُولُ ذَلِكَ مُسْلِمٌ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَشْهَدُ عَلَى رَبِيعَةَ لَأَخْبَرَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ مَا قَالَ نَافِعٌ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ: هَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ مَالِكٍ صَحِيحٌ اهـ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بْنِ رَوْحٍ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ قَوْمُ عَرَبٍ؟ هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا مَوْضِعَ الزَّرْعِ؟ وَعَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ اعْتَمَدَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَلَعَلَّ مَالِكًا رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، أَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ صَحِيحَةً عَلَى قَاعِدَتِهِ.
وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ عُمَرَ بِسَبَبِ هَذَا النُّزُولِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالُوا: نُعَيِّرُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةَ وَعَلَّقَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدٍ، وَهَذَا السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَشْهُورٌ، وَكَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ لَمْ يَبْلُغِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَبَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَوَهَّمَهُ فِيهِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ وَهِمَ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتُرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَأَخَذَ ذَلِكَ الْأَنْصَارُ عَنْهُمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَلَذَّذُونَ بِنِسَائِهِمْ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَتَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَفْعَلُ فِيهَا ذَلِكَ فَامْتَنَعَتْ، فَسَرَى أَمْرُهُمَا حَتَّى بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فِي الْفَرْجِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ.
حَوَّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ، وَهَذَا الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ الْآيَةُ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ كَمَا سَأَذْكُرُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: احْتَمَلَتِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُؤْتَى الْمَرْأَةُ حَيْثُ شَاءَ زَوْجُهَا، لِأَنَّ أَنَّى بِمَعْنَى أَيْنَ شِئْتُمْ، وَاحْتَمَلَتْ أَنْ يُرَادَ بِالْحَرْثِ مَوْضِعُ النَّبَاتِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَلَدُ هُوَ الْفَرْجُ دُونَ مَا سِوَاهُ، قَالَ: فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، وَأَحْسَبُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَأَوَّلَ مَا وَصَفْتُ مِنِ احْتِمَالِ الْآيَةِ، قَالَ: فَطَلَبْنَا الدَّلَالَةَ فَوَجَدْنَا حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ وَهُوَ حَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي التَّحْرِيمِ، فَقَوَّى عِنْدَهُ التَّحْرِيمَ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ ابْنَ الْحَسَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْحَرْثَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَرْجِ، فَقَالَ لَهُ: فَيَكُونُ مَا سِوَى الْفَرْجِ مُحَرَّمًا، فَالْتَزَمَهُ. فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَطِئَهَا بَيْنَ سَاقَهَا أَوْ فِي أَعْكَانِهَا أَفِي ذَلِكَ حَرْثٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَيَحْرُمُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَيْفَ تَحْتَجُّ بِمَا لَا تَقُولُ بِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ، وَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَصَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ اهـ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَلْزَمَ مُحَمَّدًا بِطَرِيقِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا انْتَصَرَ لِأَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْحُجَّةُ عِنْدَهُ فِي التَّحْرِيمِ غَيْرُ الْمَسْلَكِ الَّذِي سَلَكَهُ مُحَمَّدٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفَ النَّ سُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ بِالْحِلِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَانْفَصَلَ عَنْهَا مَنْ قَالَ يَحْرُمُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالسَّبَبِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ، يَعْنِي كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْآتِي. قَالَ: وَالْعُمُومُ إِذَا خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ قُصِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ حُجَّةً فِي الْجَوَازِ، لَكِنْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِالْمَنْعِ فَتَكُونُ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَفِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِبَعْضِ خَبَرِ الْآحَادِ خِلَافٌ اهـ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ - كَالْبُخَارِيِّ، وَالذُّهْلِيِّ، وَالْبَزَّارِ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ - إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ. قُلْتُ: لَكِنْ طُرُقُهَا كَثِيرَةٌ فَمَجْمُوعُهَا صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِالتَّحْرِيمِ أَنَّا لَوْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الْإِبَاحَةِ لَلَزِمَ أَنَّهُ أُبِيحَ بَعْدَ أَنْ حَرُمَ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّالِحَةِ الْإِسْنَادِ حَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الإِشَارَةٌ إِلَيْهِ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَلَحَ أَنْ يُخَصِّصَ عُمُومَ الْآيَةِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَنَّى حَيْثُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى السِّيَاقِ، وَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ حَمْلِهَا عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِ الْمُتَبَادِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (كَانَتِ الْيَهُودُ إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ) هَذَا السِّيَاقُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِلَفْظِ: بَارِكَةً مُدْبِرَةً فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: إِذَا أَتَيْتَ امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ مُنْكَدِرٍ بِلَفْظِ: إِذَا أَتَيْتَ الْمَرْأَةَ مِنْ دُبُرِهَا فَحَمَلَتْ، وَقَوْلُهُ: فَحَمَلَتْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي الْفَرْجِ لَا فِي الدُّبُرِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَدَّ بِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ الْيَهُودَ فِي زَعْمِهِمْ وَأَبَاحَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِنِسَائِهِمْ كَيْفَ شَاءُوا، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُجْمَلُ وَالْمُفَسِّرُ قُدِّمَ الْمُفَسِّرُ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ مُفَسِّرٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ زِيَادَةً فِي طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: إِنْ شَاءَ مُحْبِيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُحْبِيَةٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ لِخُلُوِّهَا مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ مُحْبِيَةً بِمِيمٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ بَارِكَةً وَقَوْلُهُ صِمَامٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ هُوَ الْمَنْفَذُ.
4529 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَيَّ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ ح حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ، فَنَزَلَتْ {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، فَيَبْدُو لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتُرِيدُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُ وَلِيُّهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، لَكِنَّهُ سَاقَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي النِّكَاحِ بِتَمَامِهِ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ، وَكَذَا مَا جَاءَ فِي تَسْمِيَةِ أُخْتِ مَعْقِلٍ وَاسْمِ زَوْجِهَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنِي مَعْقِلٌ) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ تَصْرِيحِ الْحَسَنِ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ مَعْقِلٍ، وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا وَهُوَ ابْنُ طَهْمَانَ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي النِّكَاحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَسَنُ بِتَحْدِيثِ مَعْقِلٍ لَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا.
41 - بَاب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} - إلى - {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، {يَعْفُونَ} يَهَبْنَ.
4530 -
حَدَّثَنِا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
[الحديث 4529 - أطرافه في: 5130، 5330، 5331]
4531 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نَحْوَهُ.
[الحديث 4531 - طرفه في: 5344]
4532 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَجْلِسٍ فِيهِ عُظْمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَلَكِنَّ عَمَّهُ كَانَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ - أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ - قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهْيَ حَامِلٌ؟ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ؟ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى.
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ"
[الحديث 4532 - طرفه في: 4910]
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} سَاقَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
قَوْلُهُ: (يَعْفُونَ يَهَبْنَ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ، أَبِو عُبَيْدَةَ قَالَ: يَعْفُونَ: يَتْرُكْنَ يَهَبْنَ، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الْحُمَيْدِيِّ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ عَفْوُ الرِّجَالِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ وَنَظَائِرُهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، لَكِنْ فِي الرِّجَالِ النُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، وَفِي النِّسَاءِ النُّونُ ضَمِيرٌ لَهُنَّ، وَوَزْنُ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ يَفْعُلُونَ وَجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يَفْعُلْنَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَبِيبٍ) هُوَ ابْنُ الشَّهِيدِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ الْمَذْكُورَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ بِسَنَدِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ تَكْتُبُهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، أَوْ قَالَ: لِمَ تَدَعُهَا أَيْ تَتْرُكُهَا مَكْتُوبَةً، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيُّ اللَّفْظَيْنِ قَالَ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ قَالَ: تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لِمَ تَكْتُبُهَا وَقَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّقْدِيرَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ. وَلَهُ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى. قُلْتُ: تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ مِنْهَا شَيْئًا عَنْ مَكَانِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَوْلَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ لَا لِلشَّكِّ. وَفِي جَوَابِ عُثْمَانَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيِ تَوْقِيفِيٌّ. وَكَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُنْسَخُ حُكْمُهُ لَا يُكْتَبُ، فَأَجَابَهُ عُثْمَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَالْمُتَّبَعُ فِيهِ التَّوَقُّفُ، وَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا ثَوَابُ التِّلَاوَةِ، وَالِامْتِثَالُ عَلَى أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَإِنَّمَا خَصَّ مِنَ الْحَوْلِ بَعْضَهُ وَبَقِيَ الْبَعْضُ وَصِيَّةً لَهَا إِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ كَمَا فِي الْبَابِ عَنْ مُجَاهِدٍ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ النَّاسِخُ مُقَدَّمًا فِي تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ عَلَى الْمَنْسُوخِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ نَظِيرُ ذَلِكَ إِلَّا هُنَا وَفِي الْأَحْزَابِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِحْلَالَ جَمِيعِ النِّسَاءِ هُوَ النَّاسِخُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ظَفِرْتُ بِمَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَإِنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّطَوُّعِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} كَوْنُهَا مُقَدَّمَةً فِي التِّلَاوَةِ، وَمِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ طَعَنُوا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَكْفِي هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْقَدرِ. قَوْلُهُ وَقَوْلُ عُثْمَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي يُرِيدُ فِي الْإِيمَانِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السِّنِّ، وَزَادَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْ عَلَى عَادَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّحِدَ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ: أَوْ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي قُصَيٍّ. قَالَ: إِلَّا أَنَّ عُثْمَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ فِي الْعَدَدِ إِلَى قُصَيٍّ سَوَاءٌ، بَيْنَ كُلِّ مِنْهُمَا وَبَيْنَهُ أَرْبَعَةُ آبَاءٍ فَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: يَا أَخِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ. وَرَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، وَشِبْلٌ هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شِبْلٌ، وَفَاعِلُ زَعَمَ هُوَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ: وَقَوْلِهِ وَقَالَ عَطَاءٌ هُوَ عَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ أَبْدَى الْمُصَنِّفُ مَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ بِرِوَايَةِ وَرْقَاءَ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْدَ هَذِهِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْبَأَنَا رَوْحٌ، وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ بِتَمَامِهِ وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَّقَهُ عَنْ شَيْخِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى
وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ أَيُّوبُ وَصَلَهُ هُنَاكَ بِتَمَامِهِ.
42 - بَاب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
4533 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ح. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ - أَوْ أَجْوَافَهُمْ - نارا، شَكَّ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} هِيَ تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ وَالْأَوْسَطُ الْأَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّوَسُّطَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ فُعْلَى مَعْنَاهَا التَّفْضِيلُ، وَلَا يَنْبَنِي لِلتَّفْضِيلِ إِلَّا مَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَالْوَسَطُ بِمَعْنَى الْخِيَارِ، وَالْعَدْلُ يَقْبَلُهُمَا، بِخِلَافِ الْمُتَوَسِّطِ فَلَا يَقْبَلُهُمَا فَلَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَيَزِيدُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ هُوَ ابْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى) أَيْ مَنَعُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَيْ عَنْ إِيقَاعِهَا، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ عَلِيٍّ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: كَمَا حَبَسُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ يَعْنِي الْعَصْرَ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَمِنْ طَرِيقِ كُهَيْلِ بْنِ حَرْمَلَةَ سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: اخْتَلَفْنَا فِيهَا وَنَحْنُ بِفِنَاءِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِينَا أَبُو هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ، فَقَامَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ أَسْأَلُهُ وَأَنَا غُلَامٌ صَغِيرٌ فَقَالَ: هِيَ الْعَصْرُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَغَلَ الْأَحْزَابُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَجَمَعَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا مَشْهُورًا سَمَّاهُ كَشْفُ الْغِطَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى.
فَبَلَغَ تِسْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: أَحَدُهَا الصُّبْحُ أَوِ الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ أَوِ الْمَغْرِبُ أَوْ جَمِيعُ الصَّلَوَاتِ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَقَلَهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُمَا، وَنَقَلَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا عَنْ عَلِيٍّ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصُّبْحَ فَقَنَتَ فِيهَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أُمِرْنَا أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى؟ قَالَ: هِيَ هَذِهِ الصَّلَاةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّ فِيهَا الْقُنُوتَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَبِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ، وَبِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْ جَهْرٍ وَصَلَاتَيْ سِرٍّ. وَالثَّانِي قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، الْآيَةَ.
وَجَاءَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ، وَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَأَرْسَلُوا إِلَى أُسَامَةَ فَسَأَلُوهُ عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: هِيَ الظُّهْرُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَزَادَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ فَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفُّ أَوِ الصَّفَّانِ، وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ، وَفِي تِجَارَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَالثَّالِثُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قُلْنَا لِعَبِيدَةَ: سَلْ عَلِيًّا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهَا الصُّبْحُ، حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، انْتَهَى. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدْفَعُ دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ مُدْرَجٌ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَهِيَ نَصٌّ فِي أَنَّ كَوْنَهَا الْعَصْرَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ شُبْهَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا الصُّبْحُ قَوِيَّةٌ، لَكِنَّ كَوْنَهَا الْعَصْرَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الشَّافِعِيَّةِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَثَرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: نَزَلَ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ فَنَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فَقَالَ رَجُلٌ: فَهِيَ إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقَالَ: أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ. وَالرَّابِعُ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَاةُ الْوُسْطَى هِيَ الْمَغْرِبُ، وَبِهِ قَالَ قُبَيْصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَخْرَجَهُ أَبُو جَرِيرٍ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهَا مُعْتَدِلَةٌ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ فِي الْأَسْفَارِ وَأَنَّ الْعَمَلَ مَضَى عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْجِيلِ لَهَا فِي أَوَّلِ مَا تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَا سِرٍّ وَبَعْدَهَا صَلَاتَا جَهْرٍ. وَالْخَامِسُ وَهُوَ آخِرُ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ: هِيَ كُلُّهُنَّ، فَحَافِظُوا عَلَيْهِنَّ وَبِهِ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يَتَنَاوَلُ الْفَرَائِضَ
وَالنَّوَافِلَ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ الْوُسْطَى وَأُرِيدَ بِهَا كُلُّ الْفَرَائِضِ تَأْكِيدًا لَهَا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ فَالسَّادِسُ أَنَّهَا الْجُمُعَةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاحْتَجَّ بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْخُطْبَةِ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَرَجَّحَهُ أَبُو شَامَةَ.
السَّابِعُ الظُّهْرُ فِي الْأَيَّامِ وَالْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. الثَّامِنُ الْعِشَاءُ نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ، وَلِأَنَّهَا تَقَعُ عِنْدَ النَّوْمِ فَلِذَلِكَ أُمِرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَاخْتَارَهُ الْوَاحِدِيُّ. التَّاسِعُ الصُّبْحُ وَالْعِشَاءُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي أَنَّهُمَا أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَبِهِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. الْعَاشِرُ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قِيلَ إِنَّهُ الْوُسْطَى، فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ الصُّبْحُ وَنَصُّ السُّنَّةِ الْعَصْرُ. الْحَادِيَ عَشَرَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ. الثَّانِيَ عَشَرَ الْوِتْرُ، وَصَنَّفَ فِيهِ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ جُزْءًا، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ فِي جُزْءِ رَأَيْتِهِ بِخَطِّهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ صَلَاةُ الْخَوْفِ. الرَّابِعَ عَشَرَ صَلَاةُ عِيدِ الْأَضْحَى. الْخَامِسَ عَشَرَ صَلَاةُ عِيدِ الْفِطْرِ. السَّادِسَ عَشَرَ صَلَاةُ الضُّحَى. السَّابِعَ عَشَرَ وَاحِدَةٌ مِنَ الْخَمْسِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ قَالَ كَمَا أُخْفِيَتْ لَيْلَةُ الْقَدرِ. الثَّامِنَ عَشَرَ أَنَّهَا الصُّبْحُ أَوِ الْعَصْرُ عَلَى التَّرْدِيدِ، وَهُوَ غَيْرُ الْقَوْلِ الْمُتَقَدِّمِ الْجَازِمِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَالُ لَهُ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى. التَّاسِعَ عَشَرَ التَّوَقُّفُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَلِفِينَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
الْعِشْرُونَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَجَدْتُهُ عِنْدِي، وَذَهَلْتُ الْآنَ عَنْ مَعْرِفَةِ قَائِلِهِ، وَأَقْوَى شُبْهَةٍ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الْعَصْرِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا أُبْهِمَتْ بَعْدَمَا عُيِّنَتْ كَذَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَصَارَ إِلَى أَنَّهَا أُبْهِمَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعُسْرِ التَّرْجِيحِ.
وَفِي دَعْوَى أَنَّهَا أُبْهِمَتْ ثُمَّ عُيِّنَتْ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ نَظَرٌ، بَلْ فِيهِ أَنَّهَا عُيِّنَتْ ثُمَّ وُصِفَتْ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّجُلُ: فَهِيَ إِذَنِ الْعَصْرُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْبَرَاءُ، نَعَمْ جَوَابُ الْبَرَاءِ يُشْعِرُ بِالتَّوَقُّفِ لِمَا نُظِرَ فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ التَّصْرِيحَ بِهَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، فَلَمَّا بَلَغَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} قَالَ: فَأَمْلَتْ عَلَيَّ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ فَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ: أَمَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ سَوَاءً، وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ إِنْسَانًا أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ: أَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ مَوْلًى لَهَا أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا قَالَ نَافِعٌ: فَقَرَأْتُ ذَلِكَ الْمُصْحَفَ فَوَجَدْتُ فِيهِ الْوَاوَ فَتَمَسَّكَ قَوْمٌ بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْعَصْرِ غَيْرَ الْوُسْطَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَصْرَحُ، وَبِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَدْ عُورِضَ بِرِوَايَةِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي مُصْحَفِهَا وَهِيَ الْعَصْرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ بِغَيْرِ وَاوٍ أَوْ هِيَ عَاطِفَةٌ لَكِنْ عَطْفَ صِفَةٍ لَا عَطْفَ ذَاتٍ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَالْعَصْرِ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَعَلَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلًا: وَالْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَتْ ثَانِيًا بَدَلَهَا: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَجَمَعَ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَمَعَ وُجُودِ
الِاحْتِمَالِ لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ بِأَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ: حَاصِلُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا غَيْرُ الْعَصْرِ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا تَنْصِيصُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ مِمَّنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهَا الْعَصْرُ، وَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْعَصْرِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ الْمَرْفُوعِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَتَبْقَى حُجَّةُ الْمَرْفُوعِ قَائِمَةً. ثَانِيهَا مُعَارَضَةُ الْمَرْفُوعِ بِوُرُودِ التَّأْكِيدِ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهَا كَالْحَثِّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ الْوَارِدُ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا.
ثَالِثُهَا مَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ مِنْ قِرَاءَةِ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَهَذَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَكَوْنُهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَنْصُوصِ صَرِيحًا، وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْعَطْفُ صَرِيحًا فِي اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ لِوُرُودِهِ فِي نَسَقِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ أَحْوَالِ يَوْمِ الْخَنْدَقِ فِي الْمَغَازِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ - أَوْ أَجْوَافَهُمْ - نَارًا شَكَّ يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَأَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّهُ سَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِهِ، وَأَمَّا لَفْظُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَلَمْ يَشُكَّ، وَهُوَ لَفْظُ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ كَمَا مَضَى فِي الْجِهَادِ، وَلِمُسْلِمٍ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَا لَهُ من رِوَايَةِ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَمِنْ طَرِيقِ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ: قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ - أَوْ قَالَ - قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ - أَوْ قُبُورَهُمْ - نَارًا، أَوْ حَشَى اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ قُلُوبَهُمْ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الشَّكُّ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَرَدُّدُ الرَّاوِي فِي قَوْلِهِ: مَلَأَ اللَّهُ أَوْ حَشَى يُشْعِرُ بِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى أَنْ يَتَّفِقَ الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ، وَمَلَأَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِحَشَى، فَإِنَّ حَشَى يَقْتَضِي التَّرَاكُمَ وَكَثْرَةَ أَجْزَاءِ الْمَحْشُوِّ بِخِلَافِ مَلَأَ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ تَضَمَّنَ دُعَاءً صَدَرَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُشْرِكًا، وَلَمْ يَقَعْ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ وَهُوَ الْبُيُوتُ أَمَّا الْقُبُورُ فَوَقَعَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُشْرِكًا لَا مَحَالَةَ. وَيُجَابُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى سُكَّانِهَا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ رُجْحَانُ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ قُلُوبِهِمْ أَوْ أَجْوَافِهِمْ.
43 - بَاب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ مُطِيعِينَ
4534 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا أَخَاهُ فِي حَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ مُطِيعِينَ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَذَكَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{قَانِتِينَ} أَيْ مُصَلِّينَ. وَعَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: مِنَ الْقُنُوتِ الرُّكُوعُ، وَالْخُشُوعُ، وَطُولُ الْقِيَامِ، وَغَضُّ الْبَصَرِ، وَخَفْضُ الْجَنَاحِ، وَالرَّهْبَةُ لِلَّهِ. وَأَصَحُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ - وَهُوَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ فِي الْآيَةِ السُّكُوتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السُّكُوتُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ لَا مُطْلَقُ الصَّمْتِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا صَمْتَ فِيهَا بَلْ جَمِيعُهَا قُرْآنٌ وَذِكْرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: {كُرْسِيُّهُ} عِلْمُهُ، يُقَالُ:{بَسْطَةً} زِيَادَةً وَفَضْلًا، {أَفْرِغْ} أَنْزِلْ، {وَلا يَئُودُهُ} لَا يُثْقِلُهُ، آدَنِي أَثْقَلَنِي، وَالْآدُ وَالْأَيْدُ الْقُوَّةُ، السِّنَةُ النُعَاسٌ، {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يَتَغَيَّرْ، {فَبُهِتَ} ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ، {خَاوِيَةٌ} لَا أَنِيسَ فِيهَا، عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا، {نُنْشِزُهَا} نُخْرِجُهَا، {إِعْصَارٌ} رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{صَلْدًا} لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:{وَابِلٌ} مَطَرٌ شَدِيدٌ، الطَّلُّ النَّدَى، وَهَذَا مَثَلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ، {يَتَسَنَّهْ} يَتَغَيَّرْ.
4535 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلَا يُسَلِّمُونَ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا.
قَالَ مَالِكٌ قَالَ نَافِعٌ: لَا أدري عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ} الْآيَةَ)
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مَبْسُوطًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كُرْسِيِّهِ عِلْمِهِ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَزَادَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَرْفُوعًا، وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الْحَرْبِيِّ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهَ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: إِنَّ رَفْعَهُ خَطَأٌ، ثُمَّ هَذَا التَّفْسِيرُ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضُوعُ الْقَدَمَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى مِثْلِهِ، وَأَخْرَجَا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْكُرْسِيَّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُغَايِرًا لِمَا قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: يُقَالُ: (بَسْطَةُ زِيَادَةٍ وَفَضْلًا) هَكَذَا ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أَيْ زِيَادَةً وَفَضْلًا وَكَثْرَةً، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} يَقُولُ: فَضِيلَةً.
قَوْلُهُ: {أَفْرِغْ} أَنْزِلْ) ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أَيْ أَنْزِلْ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: {وَلا يَئُودُهُ} لَا يُثْقِلُهُ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذُكِرَ مِثْلُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلِسُقُوطِ مَا قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ صَارَ كَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِعَطْفِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكُرْسِيِّ، وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (آدَنِي: أَثْقَلَنِي، وَالْآدُ وَالْأَيْدُ الْقُوَّةُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا يَئُودُهُ} أَيْ لَا يُثْقِلُهُ، تَقُولُ: آدَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَثْقَلَنِي، وَتَقُولُ: مَا آدَكَ فَهُوَ لِي آيِدٌ أَيْ مَا أَثْقَلَكَ فَهُوَ لِي مُثْقِلٌ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} أَيْ ذَا الْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (السِّنَةُ النُّعَاسُ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لَمْ يَتَغَيَّرْ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ السُّدِّيِّ مِثْلُهُ قَالَ: لَمْ يَحْمُضِ التِّينُ وَالْعِنَبُ وَلَمْ يَخْتَمِرِ الْعَصِيرُ بَلْ هُمَا حُلْوَانِ كَمَا هُمَا، وَعَلَى هَذَا فَالْهَاءُ فِيهِ أَصْلِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ يَتَسَنَّنُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ أَيِ الْمُسْتَنِّ، وَفِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ لَمْ يَتَسَنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِلَا هَاءٍ أَيْ لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْمَاضِيَةُ كَأَنَّهُ ابْنُ لَيْلَةٍ.
قَوْلُهُ: {فَبُهِتَ} ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي قَوْلِهِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ قَالَ: انْقَطَعَ وَذَهَبَتْ حُجَّتُهُ.
قَوْلُهُ: {خَاوِيَةٌ} لَا أَنِيسَ فِيهَا) ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِنَحْوِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَهِيَ خَاوِيَةٌ قَالَ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
قَوْلُهُ: {عُرُوشِهَا} أَبْنِيَتِهَا) ثَبَتَ هَذَا وَالَّذِي بَعْدَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (نُنْشِرهَا: نُخْرِجُهَا) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِمَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ كَيْفَ نُنْشِرهَا يَقُولُ: نُخْرِجُهَا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَحَمَلَتْ عِظَامَهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ذَهَبَ بِهِ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ فَاجْتَمَعَتْ، فَرُكِّبَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَصَارَ عَظْمًا كُلَّهُ لَا لَحْمَ لَهُ وَلَا دَمَ.
(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِعُزَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِصَّةً فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقَرْيَةَ بَيْتُ الْقُدْسِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: هِيَ أَرْمِيَاءُ، وَسَاقَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةً فِي الْمُبْتَدَأِ.
(تَكْمِلَةٌ): اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ قِيَاسَ إِحْيَاءِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا وَعِمَارَتِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الرِّزْقِ بَعْدَ خَرَابِهَا عَلَى إِحْيَاءِ هَذَا الْمَارِّ وَإِحْيَاءِ حِمَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِمَا كَانَ مَعَ الْمَارِّ مِنَ الرِّزْقِ.
قَوْلُهُ: {إِعْصَارٌ} رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودِ نَارٍ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قَالَ: الْإِعْصَارُ رِيحٌ عَاصِفٌ إِلَخْ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْإِعْصَارُ رِيحٌ فِيهَا سَمُومٌ شَدِيدَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {صَلْدًا} لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) سَقَطَ مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ:{صَلْدًا} وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَتَرَكَهُ يَابِسًا لَا يُنْبِتُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ: مَطَرٌ شَدِيدٌ، الطَّلُّ النَّدَى، وَهَذَا مِثْلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بِهَذَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (يَتَسَنَّهْ: يَتَغَيَّرُ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عَنْ عِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَتِهِ.
45 - بَاب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}
4536 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَدْ نَسَخَتْهَا الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ قَالَ: تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي، لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ، قال: قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ نَحْوَ هَذَا.
قوله: (بَابُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ عُثْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَصَارَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ عِنْدَهُمْ.
46 - بَاب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}
4537 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} فَصُرْهُنَّ: قَطِّعْهُنَّ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صُرْهُنَّ أَيْ أَوْثِقْهُنَّ ثُمَّ اذْبَحْهُنَّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ نَقَلَةُ الْقِرَاءَاتِ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقِيلَ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَقِيلَ: بِضَمِّهِ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ مِنْ صَرَّهُ يَصُرُّهُ إِذَا جَمَعَهُ، وَنَقَلَ أَبُو الْبَقَاءِ تَثْلِيثَ الرَّاءِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهِيَ شَاذَّةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: تَفْسِيرُ صُرْهُنَّ بِقَطِّعْهُنَّ غَرِيبٌ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَعْنَاهَا أَمِلْهُنَّ، يُقَالُ: صَارَّهُ يُصَيِّرُهُ وَيُصَوِّرُهُ إِذَا أَمَالَهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: صُرْهُنَّ بِضَمِّ الصَّادِ مَعْنَاهَا ضُمَّهُنَّ، وَبِكَسْرِهَا قَطِّعْهُنَّ.
قُلْتُ: وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ الضَّمُّ مُشْتَرَكٌ وَالْكَسْرُ الْقَطْعُ فَقَطْ، وَعَنْهُ أَيْضًا هِيَ مَقْلُوبَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: صَرَّاهُ عَنْ كَذَا أَيْ قَطَّعَهُ، يُقَالُ: صُرْتُ الشَّيْءَ فَانْصَارَ أَيِ انْقَطَعَ، وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَتَعَيَّنُ حَمْلُ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْقَطْعِ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الصَّادِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالنَّبَطِيَّةِ، لَكِنِ الْمَنْقُولُ أَوَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثم ذكر حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
47 - بَاب قَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} - إلى قوله - {تَتَفَكَّرُونَ}
4538 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَوْمًا
لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، فَقَالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عز وجل، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ، فصرهن: قطمهن.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كَذَا لِجَمِيعِهِمْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ) هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ.
قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُ أَخَاهُ) هُوَ مَقُولُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ لَهُ، فَإِنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فِيمَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ فِي أَيِّ شَيْءٍ، وَتُرَوْنَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِنْدَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَيُّ عَمَلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَيْءٌ أُلْقِي فِي رُوعِي، فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا ابْنَ أَخِي وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: عَنَى بِهَا الْعَمَلَ، ابْنُ آدَمَ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى جَنَّتِهِ إِذَا كَبِرَ سِنُّهُ وَكَثُرَ عِيَالُهُ، وَابْنُ آدَمَ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ، صَدَقْتَ يَا ابْنَ أَخِي. وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْإِنْسَانِ، يَعْمَلُ صَالِحًا حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَهُ آخِرَ عُمْرِهِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَمِلَ عَمَلَ السُّوءِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْمَلَ عُمْرَهُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ فَنِيَ عُمْرُهُ خَتَمَ ذَلِكَ بِعْمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَأَفْسَدَ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ قُوَّةُ فَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ عُمَرَ، وَتَقْدِيمُهُ لَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَتَحْرِيضُ الْعَالِمِ تِلْمِيذَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ إِذَا عَرَفَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْشِيطِهِ وَبَسْطِ نَفْسِهِ وَتَرْغِيبِهِ فِي الْعِلْمِ.
48 - بَاب {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يُقَالُ: أَلْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ، {فَيُحْفِكُمْ} يُجْهِدْكُمْ
4539 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَلَا اللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ - يَعْنِي قَوْلَهُ تعالى - {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قَوْلُهُ: (بَابُ {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يُقَالُ أَلْحَفَ عَلَيَّ، وَأَلَحَّ، وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ
فَيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكُمْ هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةِ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} يُقَالُ: أَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ عَلَيَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَاشْتِقَاقُ أَلْحَفَ مِنَ اللِّحَافِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ فِي التَّغْطِيَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قَالَ: إِلْحَاحًا انْتَهَى. وَانْتَصَبَ (إِلْحَافًا) عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ لَا يَسْأَلُونَ فِي حَالِ الْإِلْحَافِ، أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْ لَا يَسْأَلُونَ لِأَجْلِ الْإِلْحَافِ، وَهَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَسْأَلُونَ أَصْلًا، أَوْ نَفْيُ السُّؤَالِ بِالْإِلْحَافِ خَاصَّةً فَلَا يَنْتَفِي السُّؤَالُ بِغَيْرِ إِلْحَافٍ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَالثَّانِي أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْ سَأَلُوا لَمْ يَسْأَلُوا إِلْحَافًا فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ:{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَيَانُ قَائِلِ يَعْنِي فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِسَنَدِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: مَا تَقْرَأُ؟ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَائِلَ يَعْنِي هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ بِلَفْظِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَسَّرَهَا بِهِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَهُوَ مُلْحِفٌ، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ رَفَعَهُ: مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا، وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ مُلْحِفٌ.
49 - بَاب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الْمَسُّ الْجُنُونُ
4540 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (الْمَسُّ الْجُنُونُ) هُوَ تَفْسِيرُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أَيْ لَا يَقُومُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ: وَالْمَسُّ الْجُنُونُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَمْسُوسٌ أَيْ مَجْنُونٌ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسُّ اللَّمَمُ مِنَ الْجِنِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ اعْتِرَاضِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أَيْ فَلِمَ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونَ اعْتِرَاضُهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَعَلَى الثَّانِي أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ جَوَابَهُمْ بِقَوْلِهِ:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إِلَى
آخِرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَرَأَهَا) أَيِ الْآيَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ مَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَاقْتَضَى صَنِيعُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الرِّبَا كُلُّهَا إِلَى آيَةِ الدَّيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي الْبُيُوعِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ التِّجَارَةِ فِي الرِّبَا وَقَعَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِمُدَّةٍ فَيَحْصُلُ بِهِ جَوَابُ مَنِ اسْتَشْكَلَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ.
50 - بَاب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يُذْهِبُهُ
4541 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ الْأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يُذْهِبُهُ)
هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أَيْ يُذْهِبُهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى قِلَّةٍ.
ثم ذكر المصنف حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَمُرَادُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَتْهَا عَائِشَةُ.
51 - بَاب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَاعْلَمُوا
4542 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَاعْلَمُوا) هُوَ تَفْسِيرُ فَأْذَنُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأْذَنُوا أَيْقِنُوا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ فَآذِنُوا بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ آذِنُوا غَيْرَكُمْ وَأَعْلِمُوهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ فِي مُرَادِ السِّيَاقِ. ثم ذكر المصنف حديث عائشة عن شيخ له آخر.
4543 -
وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الْآيَةُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ بَقِيَّةَ الْآيَةِ، وَهِيَ خَبَرٌ بِمَعْنَى
الْأَمْرِ، أَيْ إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنُ الرِّبَا مُعْسِرًا فَأَنْظِرُوهُ إِلَى مَيْسَرَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ الْفِرْيَابِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
53 - بَاب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}
4544 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آيَةُ الرِّبَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ تُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا قَالَ عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَخَالَفَهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فَقَالَ عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِلَفْظِ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتُ الرِّبَا وَهُوَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آيَةُ الرِّبَا) كَذَا تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَجَاءَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَزَادَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّهُ مَكَثَ بَعْدَهَا تِسْعَ لَيَالٍ وَنَحْوَهُ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ فَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَبْعًا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ خِتَامُ الْآيَاتِ الْمُنْزَلَةِ فِي الرِّبَا إِذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِنَّ، وَأَمَّا مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا جَمِيعًا، فَيَصْدُقُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آخِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَاهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآخِرِيَّةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ مَثَلًا، بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُحْتَمَلُ عَكْسُهُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَعْنَى الْوَفَاةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِخَاتِمَةِ النُّزُولِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: سَبْعًا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَسَأَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ)
الْمُرَادُ بِالْآخِرِيَّةِ فِي الرِّبَا تَأَخُّرُ نُزُولُ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا حُكْمُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فَنُزُولُهُ سَابِقٌ لِذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ أُحُدٍ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الْآيَةَ.
4545 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ: أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى (قَدِيرٍ).
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَوَقَعَ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ فَأَسْقَطَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ الْمُهْمَلِ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ، وَلَعَلَّ ابْنَ السَّكَنِ ظَنَّ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْبُخَارِيُّ فَحَذَفَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ مَحْذُوفًا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الصَّوَابَ إِثْبَاتُهُ انْتَهَى. وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ ثَابِتٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: هُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ فِيمَا أُرَاهُ، قَالَ: وَقَالَ لِي الْحَاكِمُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا أَمْلَاهُ الْبُوشَنْجِيُّ بِنَيْسَابُورَ انْتَهَى. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ هَذَا الْكَلَامَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْرَمِ، وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ النُّفَيْلِيِّ، وَالنُّفَيْلِيُّ بِنُونٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ يُكَنَّى أَبَا جَعْفَرٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا لِشَيْخِهِ مِسْكِينِ بْنِ بُكَيْرٍ الْحَرَّانِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ، وَشُعْبَةُ وَكَتَبَ بَيْنَ الْأَسْطُرِ: أُرَاهُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَمِسْكِينٌ هَذَا إِنَّمَا يَرْوِي عَنْ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ) تَقَدَّمَ ذِكْرِهِ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَآخَرُ فِي الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ) لَمْ يَتَّضِحْ لِي مَنْ هُوَ الْجَازِمُ بِأَنَّهُ ابْنُ عُمَرَ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْآتِيَةَ بَعْدَ هَذِهِ وَقَعَتْ بِلَفْظٍ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ وَعِنْدِي فِي ثُبُوتِ كَوْنِهِ ابْنَ عُمَرَ تَوَقُّفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخَةً، فَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَرَأَ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} فَبَكَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا أُنْزِلَتْ غَمَّتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَمَّا شَدِيدًا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا، فَإِنَّ قُلُوبَنَا لَيْسَتْ بِأَيْدِينَا.
فَقَالَ: قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فَقَالُوا، فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ قِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ ابْنَ مَرْجَانَةَ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ وَاخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلِكَنَّ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ، فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ لَهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَا فَعَلَ حِينَ تَلَاهَا، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَعَمْرِي لَقَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ نَزَلَتْ مِثْلَ مَا وَجَدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} الْآيَةَ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُطَوِّلًا وَفِيهَا: فَلَمَّا فَعَلُوا نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ ابْنِ عُمَرَ. وَيُمْكِنُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَوَّلًا لَا يَعْرِفُ الْقِصَّةَ ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ جَزَمَ بِهِ فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
55 - بَاب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِصْرًا} عَهْدًا، وَيُقَالُ:{غُفْرَانَكَ} مَغْفِرَتَكَ، فَاغْفِرْ لَنَا
4546 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ -:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِصْرًا عَهْدًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} أَيْ عَهْدًا، وَأَصْلُ الْإِصْرِ الشَّيْءُ الثَّقِيلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْعَهْدِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ شَدِيدٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:(إِصْرًا) قَالَ: عَهْدًا لَا نُطِيقُ الْقِيَامَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتُكَ فَاغْفِرْ لَنَا) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ غُفْرَانَكَ: أَيْ مَغْفِرَتَكَ أَيِ اغْفِرْ لَنَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غُفْرَانَكَ مَصْدَرٌ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ فَنُصِبَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ أَيْ نَسْتَغْفِرُكَ غُفْرَانَكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا) قَدْ عُرِفَ بَيَانُهُ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَسَخَتْهَا أَيْ أَزَالَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَبَيَّنَتْ أَنَّهُ وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُحَاسَبَةُ بِهِ لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ فِرَارًا مِنْ إِثْبَاتِ دُخُولِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُكْمًا، وَمَهْمَا كَانَ مِنَ الْأَخْبَارِ يَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ أَمْكَنَ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا كَانَ خَبَرًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا كَالْإِخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّسْخِ فِي الْحَدِيثِ التَّخْصِيصَ، فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ يُطْلِقُونَ لَفْظَ النَّسْخِ عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُحَاسَبَةِ بِمَا يُخْفِي الْإِنْسَانُ مَا يُصَمِّمُ عَلَيْهِ وَيَشْرَعُ فِيهِ دُونَ مَا يَخْطِرُ لَهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3)
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، {صِرٌّ} بَرْدٌ، {شَفَا حُفْرَةٍ} مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَهْوَ حَرْفُهَا، {تُبَوِّئُ} تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا، الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءٌ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِصُوفَةٍ أَوْ بِمَا كَانَ، {رِبِّيُّونَ} الْجَمِيعُ وَالْوَاحِدُ رِبِّيٌّ، {تَحُسُّونَهُمْ} تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا، {غُزًّى} وَاحِدُهَا غَازٍ، {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} سَنَحْفَظُ، {نُزُلا} ثَوَابًا، وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ، وقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ:{وَحَصُورًا} لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:{مِنْ فَوْرِهِمْ} مِنْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْرِجُ الْحَيَّ النُّطْفَةِ تَخْرُجُ مَيِّتَةً، وَيُخْرِجُ مِنْهَا الْحَيَّ، الْإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أُرَاهُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلَمْ أَرَ الْبَسْمَلَةَ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: {صِرٌّ} بَرْدٌ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} : الصِّرُّ شِدَّةُ الْبَرْدِ.
قَوْلُهُ: {شَفَا حُفْرَةٍ} مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ (وَهُوَ حَرْفُهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَلِلنَّسَفِيِّ بِضَمِّ
الْجِيمِ وَالرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَالْجُرُفُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ شَفَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى غَيْرُ شَفَا هُنَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{شَفَا حُفْرَةٍ} شَفَا جُرُفٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِضَافَةِ، وَإِلَّا فَمَدْلُولُ جُرُفٍ غَيْرُ مَدْلُولِ حُفْرَةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ شَفَا يُضَافُ إِلَى أَعْلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{شَفَا جُرُفٍ} وَإِلَى أَسْفَلِ الشَّيْءِ مِنْهُ {شَفَا حُفْرَةٍ} وَيُطْلَقُ شَفَا أَيْضًا عَلَى الْقَلِيلِ تَقُولُ: مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرَ شَفَا أَيْ غَيْرَ قَلِيلٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْبِ وَمِنْهُ أَشْفَى عَلَى كَذَا أَيْ قَرُبَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: {تُبَوِّئُ} تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أَيْ تَتَّخِذُ لَهُمْ مَصَافَّ وَمُعَسْكَرًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُبَوِّئُ تُنْزِلُ، بَوَّأَهُ أَنْزَلَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَرْجِعُ. وَالْمَقَاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
قَوْلُهُ: {رِبِّيُّونَ} الْجُمُوعُ، وَاحِدُهَا رِبِّيٌّ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قَالَ: الرِّبِّيُّونَ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَاحِدُهَا رِبِّيٌّ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ النَّسَبِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ إِنْ كَانَتِ النِّسْبَةُ إِلَى رَبِّ، وَعَلَيْهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَبِّيُّونَ بِفَتْحِ الرَّاءَ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الرُّبَّةِ أَيِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِكَسْرِهَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَغْيِيرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تُحِسُّونَهُمْ: تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا) وَقَعَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ وَاحِدُهَا رِبِّيٌّ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا بِلَفْظِهِ وَزَادَ: يُقَالُ حَسَسْنَاهُمْ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
قَوْلُهُ: (غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ كَانُوا غُزًّى} لَا يَدْخُلُهَا رَفْعٌ وَلَا جَرٌّ لِأَنَّ وَاحِدُهَا غَازٍ، فَخَرَجَتْ مَخْرَجَ قَائِلٍ وَقُوَّلٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (غُزًّا) بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ غَازٍ وَقِيَاسُهُ غُزَاةٌ، لَكِنْ حَمَلُوا الْمُعْتَلَّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ غَزَا بِالتَّخْفِيفِ فَقِيلَ: خَفَّفَ الزَّايَ كَرَاهِيَةَ التَّثْقِيلِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ غُزَاةٌ وَحَذَفَ الْهَاءَ.
قَوْلُهُ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} سَنَحْفَظُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ وَقَتْلُهُمْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالنُّونِ لِلْمُتَكَلِّمِ الْعَظِيمِ، وَقَتْلَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ، وَتَفْسِيرُ الْكِتَابَةِ بِالْحِفْظِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا مَضَى وَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: {نُزُلا} ثَوَابًا: وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا بِنَصِّهِ، وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى سُمِّيَ بِهِ الْغَدَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلضَّيْفِ. وَفِي نُزُلٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَصْدَرٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ جَمْعُ نَازِلٍ كَقَوْلِ الْأَعْشَى: أَوْ تَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلٌ أَيْ نُزُولٌ، وَفِي نَصْبِ نُزُلًا فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ: مِنْهَا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِأَنَّ مَعْنَى {لَهُمْ جَنَّاتٌ} نُنْزِلُهُمْ جَنَّاتٍ نُزُلًا، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ يُنْزِلُهُمْ جَنَّاتٍ رِزْقًا وَعَطَاءً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فِيهَا أَيْ مُنْزَلَةً عَلَى أَنَّ نُزُلًا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ التَّأْوِيلُ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} : الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءُ بِعَلَامَةٍ، أَوْ بِصُوفَةٍ، أَوْ بِمَا كَانَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى: الْمُسَوَّمَةُ الرَّاعِيَةُ) أَمَّا التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُعَلَّمَةُ بِالسِّيمَاءِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:{مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} أَيْ مُعَلِّمِينَ. وَالْمَسْمُومُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءُ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِصُوفَةٍ أَوْ بِمَا كَانَ. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَرُوِّينَاهُ فِي تَفْسِيرِ الثَّوْرِيِّ رِوَايَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ فَوَصَلَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُ
ابْنِ أَبْزَى فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَوْرَدَ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقٍ لِلْعَوْفِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى (مُسَوَّمَةٍ) مُرْعَاةً، مِنْ أَسَمْتُهَا فَصَارَتْ سَائِمَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَحَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ) وَقَعَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ الْمُسَوَّمَةِ، وَصَلَهُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهِ، وَأَصْلُ الْحَصْرِ الْحَبْسُ وَالْمَنْعُ، يُقَالُ لِمَنْ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَبْعِهِ كَالْعِنِّينِ أَوْ بِمُجَاهِدَةِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْمَمْدُوحُ وَالْمُرَادُ فِي وَصْفِ السَّيِّدِ يَحْيَى عليه السلام.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْ فَوْرِهِمْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قَالَ: فَوْرُهُمْ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَضِبُوا لِيَوْمِ بَدْرٍ بِمَا لَقُوا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِمْ:{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قَالَ مِنْ وُجُوهِهِمْ هَذَا، وَأَصْلُ الْفَوْرِ الْعَجَلَةُ وَالسُّرْعَةُ، وَمِنْهُ فَارَتِ الْقِدْرُ، يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْغَضَبِ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ يُسَارِعُ إِلَى الْبَطْشِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قَالَ: النَّاسُ الْأَحْيَاءُ مِنَ النُّطَفِ الْمَيِّتَةِ وَالنُّطَفُ الْمَيِّتَةُ مِنَ النَّاسِ الْأَحْيَاءِ.
قَوْلُهُ: (الْإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ) وَقَعَ هَذَا أَيْضًا عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
3 - سورة آل عمران
1 - بَاب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّقُ بَعْضُهُا بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ، {زَيْغٌ} شَكٌّ، {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتِ، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْلَمُونَ تأويله، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
4547 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} - إلى قوله - {أُولُو الأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ.
قَوْلُهُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَقَوْلِهِ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} هَكَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَفِيهِ تَغْيِيرٌ وَبِتَحْرِيرِهِ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَرِيبًا إِلَى مُجَاهِدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قَالَ: مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (زَيْغٌ: شَكٌّ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتُ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ كَذَلِكَ وَلَفْظُهُ وَأَمَّا
{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قَالَ: شَكٌّ، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتُ، الْبَابُ الَّذِي ضَلُّوا مِنْهُ وَبِهِ هَلَكُوا.
قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْلَمُونَ وَ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الْآيَةَ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ الرَّاسِخُونَ كَمَا يَسْمَعُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا؛ الْمُتَشَابِهُ وَالْمُحْكَمُ، فَآمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ فَأَصَابُوا وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَالرَّاسِخُونَ عَاطِفَةً عَلَى مَعْمُولِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ بِهَا الْقِرَاءَةُ لَكِنْ أَقَلَّ دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ خَبَرًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ فَيُقَدَّمُ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ لِوَصْفِهِمْ بِالزَّيْغِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، وَصَرَّحَ بِوَفْقِ ذَلِكَ حَدِيثُ الْبَابِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَدْحِ الَّذِينَ فَوَّضُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، كَمَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلَ ذَلِكَ أَعْنِي: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ جَمِيعُ هَذِهِ الْآثَارِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَثَبَتَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ أُخْرَى: فَفِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَوْلُهُ: تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدٌ هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْ أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً).
قَوْلُهُ: (التُّسْتَرِيُّ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ) قَدْ سَمِعَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ عَائِشَةَ كَثِيرًا وَكَثِيرًا أَيْضًا مَا يَدْخُلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا فِي الْبَابِ بِزِيَادَةِ الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقَاسِمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْقَاسِمِ: وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْقَاسِمِ، أَيُّوبُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ، وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا.
قَوْلُهُ: (تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ قَرَأَ (هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَصْلُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَشَابِهَةُ كَانَ كُلٌّ مِنْهَا مُشَابِهًا لِلْآخَرِ فَصَحَّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ وَحْدَهَا مُتَشَابِهَةٌ فِي نَفْسِهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْوَصْفِ فِي الْجَمْعِ صِحَّةُ انْبِسَاطِ مُفْرَدَاتِ الْأَوْصَافِ عَلَى مُفْرَدَاتِ الْمَوْصُوفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ عِيسَى، وَقِيلَ: فِي أَمْرِ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ أَمْرَ عِيسَى قَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لِأُمَّتِهِ، بِخِلَافِ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ عِلْمَهُ خَفِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُحْكَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا وَضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ. وَسُمِّيَ الْمُحْكَمُ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِ كَلَامِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهِ، بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا بِالظُّهُورِ وَإِمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ نَحْوُ الْعَشَرَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَشْهَرُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ،
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَابْنُ السَّمْعَانِيّ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَالْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَرَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَقْبَلُ مَعْنًى إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ غَيْرَهُ أَوْ لَا، الثَّانِي النَّصُّ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى رَاجِحَةً أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيهِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُجْمَلُ، وَالثَّانِي الْمُؤوَّلُ. فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ النَّصُّ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤوَّلِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْسِيمَ أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَوْقَعَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلًا لِلْمُتَشَابِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُحْكَمُ بِمَا يُقَابِلَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أُسْلُوبُ الْآيَةِ وَهُوَ الْجَمْعُ مَعَ التَّقْسِيمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ مَا جَمَعَ فِي مَعْنَى الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إِلَى كُلِّ مِنْهُمَا مَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ فَقَالَ أَوَّلًا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} - إِلَى أَنْ قَالَ - {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمُ اسْتِقَامَةٌ فَيَتَّبِعُونَ الْمُحْكَمَ، لَكِنَّهُ وَضَعَ مَوْضِعَ ذَلِكَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِإِتْيَانِ لَفْظِ الرُّسُوخِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَلِيغِ، فَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَرَسَخَ الْقَدَمُ فِي الْعِلْمِ أَفْصَحَ صَاحِبُهُ النُّطْقَ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَكَفَى بِدُعَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إِلَخْ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ:(إِلَّا اللَّهُ) تَامٌّ، وَإِلَى أَنَّ عِلْمَ بَعْضِ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ حَاوَلَ مَعْرِفَتَهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: فَاحْذَرُوهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَقْلُ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْمُتَشَابِهِ كَابْتِلَاءِ الْبَدَنِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ، كَالْحَكِيمِ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا أَجْمَلَ فِيهِ أَحْيَانَا لِيَكُونَ مَوْضِعَ خُضُوعِ الْمُتَعَلِّمِ لِأُسْتَاذِهِ، وَكَالْمَلِكِ يَتَّخِذُ عَلَامَةً يَمْتَازُ بِهَا مَنْ
يُطْلِعُهُ عَلَى سِرٍّ وَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَقْبَلِ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْبَدَنِ لَاسْتَمَرَّ الْعَالِمُ فِي أُبَّهَةِ الْعِلْمِ عَلَى التَّمَرُّدِ، فَبِذَلِكَ يَسْتَأْنِسُ إِلَى التَّذَلُّلِ بِعِزِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَوْضِعُ خُضُوعِ الْعُقُولِ لِبَارِيهَا اسْتِسْلَامًا وَاعْتِرَافًا بِقُصُورِهَا، وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} تَعْرِيضٌ بِالزَّائِغِينَ وَمَدْحٌ لِلرَّاسِخَيْنِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَيَتَّعِظْ وَيُخَالِفْ هَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاسِخُونَ:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَخَضَعُوا لِبَارِيهِمْ لِاشْتِرَاكِ الْعِلْمِ اللَّدُنِّي بَعْدَ أَنِ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الزَّيْغِ النَّفْسَانِيِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَلَا قَوْلُهُ:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، وَعَكَسَ آخَرُونَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْكَامِ فِي قَوْلِهِ:{أُحْكِمَتْ} الْإِتْقَانُ فِي النَّظْمِ وَأَنَّ كُلَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَشَابِهِ كَوْنُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي حُسْنِ السِّيَاقِ وَالنَّظْمِ أَيْضًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهَ مَعْنَاهُ عَلَى سَامِعِهِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُحْكَمَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ، وَالْمُتَشَابِهَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاحْذَرْهُمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْأُولَى أَوْلَى، وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنَ الْإِصْغَارِ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَأْوِيلِهِمُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ، وَأَنَّ عَدَدَهَا بِالْجُمَّلِ مِقْدَارُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْخَوَارِجِ حَتَّى جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمُ الْآيَةَ، وَقِصَّةُ عُمَرَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى ضُبَيْعٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَدْمَاهُ، أَخْرَجَهَا الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُتَشَابِهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا إِذَا رُدَّ إِلَى الْمُحْكَمِ وَاعْتُبِرَ بِهِ عُرِفَ مَعْنَاهُ، وَالْآخَرُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ فَيَطْلُبُونَ
تَأْوِيلَهُ، وَلَا يَبْلُغُونَ كُنْهَهُ، فَيَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُفْتَنُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
4548 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ طَعَنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَوَقَّفَ فِي صِحَّتِهِ فَقَالَ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ فِي إِغْوَائِهِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا فَإِنَّهُمَا كَانَا مَعْصُومَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي صِفَتِهِمَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ: وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ تَخْيِيلٌ لِطَمَعِهِ فِيهِ كَأَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا مِمَّنْ أُغْوِيهِ. وَأَمَّا صِفَةُ النَّخْسِ كَمَا يَتَوَهَّمَهُ أَهْلُ الْحَشْوِ فَلَا، وَلَوْ مَلَكَ إِبْلِيسُ عَلَى النَّاسِ نَخْسَهُمْ لَامْتَلَأَتِ الدُّنْيَا صُرَاخًا انْتَهَى.
وَكَلَامُهُ مُتَعَقَّبٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ لَا إِشْكَالَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا مُخَالَفَةَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ إِبْلِيسَ مُمَكَّنٌ مِنْ مَسِّ كُلِّ مَوْلُودٍ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، لَكِنْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْمَسُّ أَصْلًا، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْمُخْلَصِينَ مَرْيَمَ وَابْنَهَا فَإِنَّهُ ذَهَبَ يَمَسُّ عَلَى عَادَتِهِ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَهَذَا وَجْهُ الِاخْتِصَاصِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَسَلُّطُهُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخْلَصِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ مَلَكَ إِبْلِيسُ إِلَخْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ جُعِلَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ أَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ هَذَا الْإِشْكَالَ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى عَادَتِهِ وَأَجْمَلَ الْجَوَابَ فَمَا زَادَ عَلَى تَقْرِيرِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُغْوِي مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالْمَوْلُودُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ هَذَا الْقَدرِ لَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إِهْلَاكٍ وَإِفْسَادٍ، وَأَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِمَرْيَمَ وَعِيسَى بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمَا، إِلَى آخِرِ كَلَامِ الْكَشَّافِ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ مُحْتَمَلَةٌ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْخَبَرِ انْتَهَى، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجَوَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْإِغْوَاءِ يُعْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَيْضًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ عَلَامَةً فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِغْوَائِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} لَا خَيْرَ، {أَلِيمٌ} مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ، مِنْ الْأَلَمِ، وَهْوَ فِي مَوْضِعِ مُفْعِلٍ.
4549، 4550 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ
اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قُلْنَا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَقُلْتُ: إِذًا يَحْلِفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ.
4551 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ، سَمِعَ هُشَيْمًا، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ، فَحَلَفَ فِيهَا: لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهِ، لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
4552 -
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تَخْرِزَانِ فِي بَيْتٍ - أَوْ فِي الْحُجْرَةِ - فَخَرَجَتْ إِحْدَاهُمَا وَقَدْ أُنْفِذَ بِإِشْفَى فِي كَفِّهَا فَادَّعَتْ عَلَى الْأُخْرَى فَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ، ذَكِّرُوهَا بِاللَّهِ، وَاقْرَءُوا عَلَيْهَا:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فَذَكَّرُوهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} لَا خَيْرَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ خَلَاقٍ) أَيْ نَصِيبٍ مِنْ خَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (أَلِيمٍ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ، مِنَ الْأَلَمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ مُفْعِلٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ يُصِيبُكَ وَجْهُهَا وَهَجٌ أَلِيمُ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ وَفِيهِ قَوْلُ الْأَشْعَثِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي خَصْمِهِ حِينَ تَحَاكَمَا فِي الْبِئْرِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا جَمِيعًا فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ جَمِيعًا، وَلَفْظُ الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا، وَقَعَ فِي صَدْرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَصَّ الْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي ذَلِكَ قِصَّةً طَوِيلَةً وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.
وسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْيَمِينِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْجَهْضَمِيُّ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَةٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ هُوَ الْخُرَيْبِيُّ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَتَيْنِ) سَيَأْتِي تَسْمِيَتُهُمَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اقْرَءُوا عَلَيْهَا:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الْآيَةَ فَإِنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ لَا خُصُوصُ
سَبَبِ نُزُولِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يُوعَظُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: (فِي بَيْتٍ وَفِي الْحُجْرَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي الْحُجْرَةِ بِأَوْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَسَبَبُ الْخَطَأِ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَنَّ فِي السِّيَاقِ حَذْفًا بَيَّنَهُ ابْنُ السَّكَنِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا فِي بَيْتٍ وَفِي الْحُجْرَةِ حُدَّاثٌ فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ، أَوِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ لَكِنِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ، وَحُدَّاثٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّشْدِيدِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ أَيْ نَاسٌ يَتَحَدَّثُونَ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ كَانَتَا فِي الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْبَيْتِ نَاسٌ يَتَحَدَّثُونَ، فَسَقَطَ الْمُبْتَدَأُ مِنَ الرِّوَايَةِ فَصَارَ مُشْكِلًا فَعَدَلَ الرَّاوِي عَنِ الْوَاوِ إِلَى أَوِ الَّتِي لِلتَّرْدِيدِ فِرَارًا مِنِ اسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحُجْرَةِ مَعًا. عَلَى أَنَّ دَعْوَى الِاسْتِحَالَةِ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْحُجْرَةَ أَخَصُّ مِنَ الْبَيْتِ. لَكِنْ رِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ أَفْصَحَتْ عَنِ الْمُرَادِ فَأَغْنَتْ عَنِ التَّقْدِيرِ، وكَذَا ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} سَوَاءٍ قَصْدٍ
4553 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ ح. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قال: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ، قَالَ: وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، قَالَ: فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ ب شَاشَةَ الْقُلُوبِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ، قَالَ: إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرَّشَدِ آخِرَ الْأَبَدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ؟ قَالَ: فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمْ، فَدَعَا بِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ وَبَيْنَكُمُ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (سَوَاءٍ قَصْدًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالنَّصْبِ، وَلِغَيْرِهِ بِالْجَرِّ فِيهِمَا وَهُوَ أَظْهَرُ عَلَى الْحِكَايَةِ، لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ:{إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ بِالنَّصْبِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ الْحَوْفِيُّ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً. وَالْقَصْدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ: الْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) أَيْ عَدْلٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَنَسَبَهَا الْفَرَّاءُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ سِيَاقُ الْآيَةِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:{أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، فَتُطْلَقُ الْكَلِمَةُ عَلَى الْكَلِمَاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا ارْتَبَطَ بِبَعْضٍ فَصَارَتْ فِي قُوَّةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، بِخِلَافِ اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ بِطُولِهِ، وَقَدْ شَرَحْتُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَأَحَلْتُ بَقِيَّةَ شَرْحِهِ عَلَى الْجِهَادِ فَلَمْ يُقَدَّرْ إِيرَادُهُ هُنَاكَ. فَأَوْرَدْتُهُ هُنَا. وَهِشَامٌ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ) إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ إِلَى أُذُنِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ يُجِيبُهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْجَوَابِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ التَّحْدِيثَ مُتَعَلِّقًا بِفَمِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأُذُنِهِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ كُلَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ إِلَّا مَا وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَاهُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ الْحَدِيثَ. كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُفَصَّلَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ فَاعِلَ قَالَ الَّذِي وَقَعَ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: قَالَ وَكَانَ دِحْيَةُ إِلَخْ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا أَبُو سُفْيَانَ، وَفَاعِلُ قَالَ: وَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هُنَا أَحَدٌ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (هِرَقْلُ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ سُكُونَ الرَّاءِ وَكَسْرَ الْقَافِ، وَهُوَ اسْمٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ فَلَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَنَا رَسُولُهُ، فَتَوَجَّهْنَا مَعَهُ، فَاسْتَأْذَنَ لَنَا فَأَذِنَ فَدَخَلْنَا. وَهَذِهِ الْفَاءُ تُسَمَّى الْفَصِيحَةُ، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا، سُمِّيَتْ فَصَيْحَةً لِإِفْصَاحِهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَصَاحَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا فَوُصِفَتْ بِالْفَصَاحَةِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَلِهَذَا لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مَنْ يُوجَدُ مِنْ قُرَيْشٍ. وَوَقَعَ فِي الْجِهَادِ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدْنَا رَسُولَ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّامِ، فَانْطَلَقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِلَى إِيلِيَاءَ وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْضِ غَزَّةُ، وَقَيْصَرُ هُوَ هِرَقْلُ، وَهِرَقْلُ اسْمُهُ وَقَيْصَرُ لَقَبُهُ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ فَأَتَوْهُ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ هُنَاكَ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ وَاسْتُشْكِلَتْ وَوُجِّهَتْ أَنَّ الْمُرَادَ الرُّومُ مَعَ مَلِكِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ.
قَوْلُهُ: (فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا. فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتُرْجُمَانِهِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هِرَقْلَ خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِغَيْرِ تُرْجُمَانٍ، ثُمَّ دَعَا بِالتُّرْجُمَانِ،
لَكِنْ وَقَعَ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَخْ فَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ دَعَا بِتُرْجُمَانِهِ أَيْ فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي سُفْيَانَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ فَحَضَرَ، وَكَأَنَّ التُّرْجُمَانَ كَانَ وَاقِفًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، فَخَاطَبَهُمْ هِرَقْلُ بِالسُّؤَالِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا تَحَرَّرَ لَهُ حَالُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُخَاطِبَهُ مِنْ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ أَمْرَ التُّرْجُمَانَ بِالْجُلُوسِ إِلَيْهِ لِيُعَبِّرَ عَنْهُ بِمَا أَرَادَ، وَالتُّرْجُمَانُ مَنْ يُفَسِّرُ لُغَةً بِلُغَةٍ فَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ فَسَّرَ كَلِمَةً غَرِيبَةً بِكَلِمَةٍ وَاضِحَةٍ، فَإِنِ اقْتَضَى مَعْنَى التُّرْجُمَانِ ذَلِكَ فَلْيُعْرَفْ أَنَّهُ الَّذِي يُفَسِّرُ لَفْظًا بِلَفْظٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ مُعَرَّبٌ؟ وَالثَّانِي أَشْهَرُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَنُونُهُ زَائِدَةٌ اتِّفَاقًا. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ تَرْجِيمِ الظَّنِّ، وَقِيلَ: مِنَ الرَّجْمِ، فَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ التَّاءُ أَيْضًا زَائِدَةً، وَيُوجِبُ كَوْنُهُ مِنَ الرَّجْمِ أَنَّ الَّذِي يُلْقِي الْكَلَامَ كَأَنَّهُ يَرْجُمُ الَّذِي يُلْقِيِهِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ) مِنْ كَأَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مَبْدَؤُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ هِيَ بِمَعْنَى الْبَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِهَذَا الرَّجُلِ وَفِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ فَإِنَّ أَقْرَبَ يَتَعَدَّى بِإِلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ بِمَعْنَى الْغَايَةِ فَقَدْ ثَبَتَ وُرُودُهَا لِلْغَايَةِ مَعَ قِلَّةٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي) فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ عِنْدَ كَتِفِي وَهِيَ أَخَصُّ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنَّمَا جَعَلْتُكُمْ عَنْ كَتِفَيْهِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ كَذِبًا إِنْ قَالَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هَذَا الرَّجُلِ) أَشَارَ إِلَيْهِ إِشَارَةَ الْقُرْبِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِذِكْرِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ فِي أَذْهَانِهِمْ لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي مُعَادَاتِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَجَعَلْتُ أُزَهِّدُهُ فِي شَأْنِهِ وَأُصَغِّرُ أَمْرَهُ وَأَقُولُ: إِنَّ شَأْنَهُ دُونَ مَا بَلَغَكَ، فَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَذَبَنِي) بِالتَّخْفِيفِ (فَكَذِّبُوهُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: يَقُولُ لَكُمْ ذَلِكَ. وَلَمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَجَالِسَ الْأَكَابِرِ لَا يُوَاجَهُ أَحَدٌ فِيهَا بِالتَّكْذِيبِ احْتِرَامًا لَهُمْ، أَذِنَ لَهُمْ هِرَقْلُ فِي ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَرَادَهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ: كَذَبَ بِالتَّخْفِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِثْلَ صَدَقَ، تَقُولُ: كَذَبَنِي الْحَدِيثَ وَصَدَقَنِي الْحَدِيثَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وَكَذَّبَ بِالتَّشْدِيدِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِنْ غَرَائِبِ الْأَلْفَاظِ لِمُخَالَفَتِهِمَا الْغَالِبَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُنَاسِبُ الزِّيَادَةَ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَمْرُ هُنَا بِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ: (وَأَيْمُ اللَّهِ) بِالْهَمْزَةِ وَبِغَيْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِيهَا لُغَاتٌ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ.
قَوْلُهُ: (يُؤْثَرُ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ: يُنْقَلُ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ حَسَبُهُ؟) كَذَا هُنَا، وَفِي غَيْرِهَا: كَيْفَ نَسَبُهُ؟ وَالنَّسَبُ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِدْلَاءُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ، وَالْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْمَرْءُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَقَوْلُهُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ فِي غَيْرِهَا: ذُو نَسَبٍ وَاسْتُشْكِلَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ تَضَمَّنَ أَنَّ لَهُ نَسَبًا أَوْ حَسَبًا، وَالْجَوَابَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّنْوِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ كَبِيرٍ أَوْ حَسَبٍ رَفِيعٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: فِي الذِّرْوَةِ وَهِيَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَعْلَى مَا فِي الْبَعِيرِ مِنَ السَّنَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنْ أَعْلَانَا نَسَبًا. وَفِي حَدِيثِ دِحْيَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: حَدِّثْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي خَرَجَ بِأَرْضِكُمْ مَا هُوَ؟ قَالَ: شَابٌّ. قَالَ: كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ فِي حَسَبِ مَا لَا يَفْضُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ.
قَوْلُهُ: (هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْ آبَائِهِ وَمَلِكٌ هُنَا بِالتَّنْوِينِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ أَنَّ الرِّوَايَةَ السَّابِقَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: مِنْ مَلِكٍ لَيْسَتْ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ: يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟) كَذَا فِيهِ بِإِسْقَاطِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ مَالِكٍ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالشِّعْرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ، إِلَخْ) إِنَّمَا لَمْ
يَسْتَغْنِ هِرَقْلُ بِقَوْلِهِ: بَلْ يَزِيدُونَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الِارْتِدَادِ وَالنَّقْصِ، فَقَدْ يَرْتَدُّ بَعْضُهُمْ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِمُ النَّقْصُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ مَنْ يَدْخُلُ وَقِلَّةِ مَنْ يَرْتَدُّ مَثَلًا.
قَوْلُهُ: (سَخْطَةً لَهُ) يُرِيدُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الشَّيْءِ عَلَى بَصِيرَةٍ يَبْعُدُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ صَمِيمِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَزَلْزَلُ بِسُرْعَةٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَالُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَرِّجْ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، وَفِيهِمْ صِهْرُهُ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ بِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ تَنَصَّرَ بِالْحَبَشَةِ وَمَاتَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ، وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ حَبِيبَةَ بَعْدَهُ، وَكَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا عَرَّفُوهُ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ التَّنَصُّرِ وَفِيهِ بُعْدٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالِارْتِدَادِ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّينِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَلَمْ يَطَّلِعْ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ. زَادَ فِي حَدِيثِ دِحْيَةَ: أَرَأَيْتَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْكُمْ هَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ) نَسَبَ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: قَاتَلَكُمْ فَيُنْسَبُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ إِلَيْهِ مُحَافَظَةً عَلَى احْتِرَامِهِ، أَوْ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَبْدَأُ قَوْمَهُ بِالْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتِلُوهُ، أَوْ لِمَا عَرَفَهُ مِنَ الْعَادَةِ مِنْ حَمِيَّةِ مَنْ يُدْعَى إِلَى الرُّجُوعِ عَنْ دِينِهِ. وَفِي حَدِيثِ دِحْيَةَ: هَلْ يُنْكَبُ إِذَا قَاتَلَكُمْ؟ قَالَ: قَدْ قَاتَلَهُ قَوْمٌ فَهَزَمَهُمْ وَهَزَمُوهُ، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ.
قَوْلُهُ: (يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ) وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ وَعَكْسُهُ فِي أُحُدٍ، وَأُصِيبَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ نَاسٌ قَلِيلٌ فِي الْخَنْدَقِ، فَصَحَّ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ: يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ تَعَقَّبَ كَلَامَهُ، وَأَنَّ فِيهِ دَسِيسَةً لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا كَمَا نَبَّهَ عَلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَدُسَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شَيْئًا، وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ كَلَامِهِ هَذَا مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ) ذَكَرَ الْأَسْئِلَةَ وَالْأَجْوِبَةَ عَلَى تَرْتِيبِ مَا وَقَعَتْ، وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ جَوَابٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَحَاصِلُ الْجَمِيعِ ثُبُوتُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْجَمِيعِ: فَالْبَعْضُ مِمَّا تَلَقَّفَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْبَعْضُ مِمَّا اسْتَقْرَأَهُ بِالْعَادَةِ، وَوَقَعَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ إِعَادَةُ الْأَجْوِبَةِ مُشَوَّشَةَ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ مِنَ الرَّاوِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ إِلَخْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ شَيْءٌ خَالَفَتْ فِيهِ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ فَإِنَّهُ أَضَافَ قَوْلَهُ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ إِلَى بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ، فَكَمُلَتْ بِهَا عَشَرَةً، وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ أَخَّرَ قَوْلَهُ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ إِلَى مَا بَعْدَ إِعَادَةِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ - أَيْ قُلْ لِأَبِي سُفْيَانَ -: إِنِّي سَأَلْتُكَ أَيْ قُلْ لَهُ حَاكِيًا عَنْ هِرَقْلَ: إِنِّي سَأَلْتُكَ، أَوِ الْمُرَادُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَلَى لِسَانِ هِرَقْلَ؛ لِأَنَّ التُّرْجُمَانَ يُعِيدُ كَلَامَ هِرَقْلَ، وَيُعِيدُ لِهِرَقْلَ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هِرَقْلُ كَانَ يَفْقَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَأْنَفُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِغَيْرِ لِسَانِ قَوْمِهِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُلُوكِ مِنَ الْأَعَاجِمِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ) أَيْ: قُلْتُ فِي نَفْسِي، وَأَطْلَقَ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ قَوْلًا.
قَوْلُهُ: (مُلْكَ أَبِيهِ) أَفْرَدَهُ؛ لِيَكُونَ أَعْذَرَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مُلْكَ آبَائِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَبِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازُهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ) يُرَجِّحُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: حَتَّى يُخَالِطَ وَهمٌ، وَالصَّوَابُ: حِينَ كَمَا لِلْأَكْثَرِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ إِلَخْ) فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: فَقُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَخْ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى صِيغَةِ افْعَلْ وَعَلَى عَكْسِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ كُلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ هِرَقْلَ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَفْسِرْهُ عَنْ حَقَائِقِهَا.
قَوْلُهُ: (إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ
وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ وَوَقَعَ فِي أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ رِوَايَةَ الْأَصْبَهَانِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّ صَاحِبَ بُصْرَى أَخَذَهُ وَنَاسًا مَعَهُ، وَهُمْ فِي تِجَارَةٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً دُونَ الْكِتَابِ وَمَا فِيهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهَا: قَالَ: فَأَخْبرنِي هَلْ تَعْرِفُ صُورَتَهُ إِذَا رَأَيْتَهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأُدْخِلْتُ كَنِيسَةً لَهُمْ فِيهَا الصُّوَرُ فَلَمْ أَرَهُ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ أُخْرَى فَإِذَا أَنَا بِصُورَةِ مُحَمَّدٍ وَصُورَةِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا أَنَّهُ دُونَهُ. وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: إِنَّ هِرَقْلَ أَخْرَجَ لَهُمْ سَفَطًا مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهِ قُفْلٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً مَطْوِيَّةً فِيهَا صُوَرٌ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهَا صُورَةَ مُحَمَّدٍ، فَقُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: هَذِهِ صُورَةُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهَا صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ خَاتَمُهُمْ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ) أَيْ: أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ تَعْيِينَ جِنْسِهِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَ هِرَقْلَ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهِيَ طَافِحَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: لَتَجَشَّمْتُ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَةٍ أَيْ تَكَلَّفْتُ، وَرَجَّحَهَا عِيَاضٌ، لَكِنْ نَسَبَهَا لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً، وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ أَيْ: تَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، وَارْتَكَبْتُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَطَعَ دُونَهُ. قَالَ: وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ صِفَةَ النَّبِيِّ، لَكِنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَرَغِبَ فِي بَقَاءِ رِيَاسَتِهِ فَآثَرَهَا. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: كَذَا قَالَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّوَوِيَّ عَنَى مَا وَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ النَّاطُورِ، وَأَنَّ فِي آخِرِهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا، أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ وَزَادَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: فَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِي أَحْبَبْتُ فَكَأَنَّ النَّوَوِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: شَحَّ بِمُلْكِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هِرَقْلَ هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْكِتَابَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التُّرْجُمَانُ قَرَأَهُ، وَنُسِبَتْ قِرَاءَتُهُ إِلَى هِرَقْلَ مَجَازًا؛ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ وَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَدَعَا التُّرْجُمَانَ الَّذِي يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَهُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ؛ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هِرَقْلَ قَرَأَهُ بِنَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ قَوْمَهُ وَأَحْضَرَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَسَأَلَهُ وَأَجَابَهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: فَقَالَ حِينَ قَرَأَهُ أَيْ: قَرَأَ عُنْوَانَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ كِتَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَخْتُومًا بِخَتْمِهِ، وَخَتْمُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْئِلَةِ قَوْلَ هِرَقْلَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُ: اعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَهَذَا بِعَيْنِهِ فِي الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ هِرَقْلُ قَرَأَهُ أَوَّلًا مَا احْتَاجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ ثَانَيًا، نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ عَنْهُ ثَانِيًا مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَوَائِدُ، مِنْهَا جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ وَدُعَاؤُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَفِيهِ
تَفْصِيلٌ: فَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَجَبَ إِنْذَارُهُمْ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَإِلَّا اسْتُحِبَّ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِ الْكِتَابِ مَعَ دِحْيَةَ وَحْدَهُ فَائِدَةٌ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْخَطِّ إِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ بِصِدْقِهِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكُتُبِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ أَيْ: بِذِكْرِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَلَى أَوْجُهٍ: بِذِكْرِ اللَّهِ، بِبِاسْمِ اللَّهِ، بِحَمْدِ اللَّهِ. قَالَ: وَهَذَا الْكِتَابُ كَانَ ذَا بَالٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعِظَامِ، وَلَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِلَفْظِ الْحَمْدِ بَلْ بِالْبَسْمَلَةِ. انْتَهَى، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ بِلَفْظِ: حَمْدًا لِلَّهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ وَرَدَتْ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ.
ثُمَّ اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامَّا لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى تَقَدُّمِ الْخُطْبَةِ، وَأَمَّا الْمُرَاسَلَاتُ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا الْعُرْفِيَّةُ بِابْتِدَائِهَا بِذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ، فَالِابْتِدَاءُ بِالْحَمْدِ، وَاشْتِرَاطُ التَّشَهُّدِ خَاصٌّ بِالْخُطْبَةِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فَبَعْضُهَا يَبْدَأُ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ تَامَّةً كَالْمُرَاسَلَاتِ، وَبَعْضُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ كَمَا فِي أَوَّلِ الْجِمَاعِ وَالذَّبِيحَةِ، وَبَعْضُهَا بِلَفْظٍ مِنَ الذِّكْرِ مَخْصُوصٍ كَالتَّكْبِيرِ، وَقَدْ جُمِعَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَقَعْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدِ بَلْ بِالْبَسْمَلَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهَذَا الْكِتَابِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْجُنُبِ الْقُرْآنَ وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْجِهَادِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ: هَذَا كِتَابٌ لَمْ أَسْمَعْهُ بَعْدَ سُلَيْمَانَ عليه السلام كَأَنَّهُ يُرِيدُ الِابْتِدَاءَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَفِي الْجِهَادِ: مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ فَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى بُطْلَانِ مَا تَدَّعِيهِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عليه السلام. وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ الْقَارِئَ لَمَّا قَرَأَ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عَظِيمِ الرُّومِ غَضِبَ أَخُو هِرَقْلَ وَاجْتَذَبَ الْكِتَابَ، فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَسَمَّاكَ صَاحِبَ الرُّومِ، فَقَالَ هِرَقْلُ: إِنَّكَ لَضَعِيفُ الرَّأْيِ، أَتُرِيدُ أَنْ أَرْمِيَ بِكِتَابٍ قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ مَا فِيهِ؟ لَئِنْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَأَحَقُّ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ، وَلَقَدْ صَدَقَ؛ أَنَا صَاحِبُ الرُّومِ، وَاللَّهُ مَالِكِي وَمَالِكُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ دِحْيَةَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَأَعْطَيْتُهُ الْكِتَابَ وَعِنْدَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ سَبْطُ الرَّأْسِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ نَخَرَ ابْنُ أَخِيهِ نَخْرَةً فَقَالَ: لَا تَقْرَأْ، فَقَالَ قَيْصَرُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: صَاحِبُ الرُّومِ وَلَمْ يَقُلْ: مَلِكُ الرُّومِ. قَالَ: اقْرَأْ. فَقَرَأَ الْكِتَابَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ) عَظِيمِ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَالْمُرَادُ مَنْ تُعَظِّمُهُ الرُّومُ وَتُقَدِّمُهُ لِلرِّيَاسَةِ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (أَمَّا بَعْدُ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ فِي بَابِ مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَدِ مَنْ رَوَى مِنَ الصَّحَابَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَتَوْجِيهُهَا، وَنَقَلْتُ هُنَاكَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى أَمَّا بَعْدُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ. وَأَقُولُ هُنَا: سِيبَوَيْهِ لَا يَخُصُّ ذَلِكَ بِقَوْلِنَا أَمَّا بَعْدُ بَلْ كُلُّ كَلَامٍ أَوَّلُهُ أَمَّا وَفِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ قَالَهُ فِي مِثْلِ أَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَمُنْطَلِقٌ، وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ،
وَقَدْ تُحْذَفُ وَهُوَ نَادِرٌ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَّا لِلتَّفْصِيلِ، فَأَيْنَ الْقَسِيمُ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَهُوَ بِسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمَكْتُوبُ فَهُوَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَخْ، وَأَمَّا الْمَكْتُوبُ بِهِ فَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ مَقْبُولٌ، لَكِنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَمَعْنَاهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ قَالَهَا فَقِيلَ: دَاوُدُ عليه السلام، وَقِيلَ: يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَقِيلَ: قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَقِيلَ: سَحْبَانُ. وَفِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام قَالَهَا، فَإِنْ ثَبَتَ وَقُلْنَا: إِنَّ قَحْطَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَيَعْقُوبُ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا مُطْلَقًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ قَحْطَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَيَعْرُبُ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ) فِيهِ بِشَارَةٌ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ الْآفَاتِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهِرَقْلَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ، ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ) فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَأَنَّهُ أَعَادَ أَسْلِمْ تَأْكِيدًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَسْلِمْ أَوَّلًا أَيْ: لَا تَعْتَقِدْ فِي الْمَسِيحِ مَا تَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى، وَأَسْلِمْ ثَانِيًا أَيِ: ادْخُلْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْكِتَابِ بِدُعَائِهِ إِلَى الشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُنْطَوٍ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَفِي قَوْلِهِ: أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ وَفِي قَوْلِهِ: أَسْلِمْ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَشَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَوَجَدْتُهُ هُنَاكَ فِي أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَحَكَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَيْضًا صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَغَيْرُهُ، وَفِي أُخْرَى الْأَرِيسِينَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَرَسَ يَأْرِسُ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ أَرِيسٌ، وَأَرَّسَ بِالتَّشْدِيدِ يُؤَرِّسُ فَهُوَ إِرِّيسٌ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ: الْأَكَّارُ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَكَانَ أَهْلُ السَّوَادِ أَهْلَ فِلَاحَةٍ وَكَانُوا مَجُوسًا، وَأَهْلُ الرُّومِ أَهْلَ صِنَاعَةٍ، فَأُعْلِمُوا بِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنَ الْإِثْمِ إِثْمَ الْمَجُوسِ، انْتَهَى. وَهَذَا تَوْجِيهٌ آخَرُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ. وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ الْأَرِيسِيِّينَ يُنْسَبُونَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرِيسٍ، رَجُلٌ كَانَ تُعَظِّمُهُ النَّصَارَى ابْتَدَعَ فِي دِينِهِمْ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِدِينِ عِيسَى، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْمٍ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ فَقَتَلُوهُ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: فَإِنَّ عَلَيْكَ مِثْلَ إِثْمِ الْأَرِيسِيِّينَ. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ أَتْبَاعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرِيسٍ كَانُوا أَهْلَ مَمْلَكَةِ هِرَقْلَ، وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَرِيسِيِّينَ كَانُوا قَلِيلًا، وَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ رَأْيَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ التَّثْلِيثَ. وَمَا أَظُنُّ قَوْلَ ابْنِ حَزْمٍ إِلَّا عَنْ أَصْلٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجَازِفُ فِي النَّقْلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: الْيَرِيسِيِّينَ بِتَحْتَانِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَكَأَنَّهُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ.
وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ: الْأَرِيسُ: الْأَكَّارُ؛ عِنْدَ ثَعْلَبٍ، وَالْأَمِينُ عِنْدَ كُرَاعٍ، فَكَأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، أَيْ: يُقَالُ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ، وَالْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ صَالِحٌ عَلَى الرَّأْيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ التَّابِعَ فَالْمَعْنَى إِنَّ عَلَيْكَ مِثْلُ إِثْمِ التَّابِعِ لَكَ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَتْبُوعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْمَتْبُوعِينَ، وَإِثْمُ الْمَتْبُوعِينَ يُضَاعَفُ بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ عَدَمِ الْإِذْعَانِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضْلَالِ أَتْبَاعِهِمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَبَّهَ بِذِكْرِ الْفَلَّاحِينَ عَلَى بَقِيَّةِ الرَّعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مِنَ الرَّعَايَا غَيْرِ الْفَلَّاحِينَ مَنْ لَهُ صَرَامَةٌ وَقُوَّةٌ وَعَشِيرَةٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ الْفَلَّاحِينَ فِي الْإِسْلَامِ دُخُولُ بَقِيَّةِ الرَّعَايَا حَتَّى يَصِحَّ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِهِمْ عَلَى الْبَاقِينَ، كَذَا تَعَقَّبَهُ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ نَبَّهَ طَائِفَةً مِنَ الطَّوَائِفِ عَلَى بَقِيَّةِ الطَّوَائِفِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا امْتَنَعَتْ كَانَ عَلَيْكَ إِثْمُ كُلِّ مَنِ امْتَنَعَ بِامْتِنَاعِكَ وَكَانَ يُطِيعُ لَوْ أَطَعْتَ كَالْفَلَّاحِينَ، فَلَا وَجْهٌ لِلتَّعَقُّبِ عَلَيْهِ. نَعَمْ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: لَيْسَ الْمُرَادُ
بِالْفَلَّاحِينَ الزَّراعِينَ فَقَطْ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ، إِنْ أَرَادَ بِهِ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَ النَّوَوِيِّ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعْتَرَضٌ.
وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا أَنّ الْأَرِيسِيِّينَ هُمُ الْخَوَلُ وَالْخَدَمُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْخَوَلِ مَا هُوَ أَعَمُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَيْضًا أَنَّ الْأَرِيسِيِّينَ قَوْمٌ مِنَ الْمَجُوسِ كَانُوا يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَيُحَرِّمُونَ الزِّنَا، وَصِنَاعَتُهُمُ الْحِرَاثَةُ، وَيُخْرِجُونَ الْعُشْرَ مِمَّا يَزْرَعُونَ، لَكِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَوْقُوذَةَ. وَهَذَا أَثْبَتُ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ عَلَيْكَ مِثْلَ إِثْمِ الْأَرِيسِيِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيِ: الْقَارِئُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ هِرَقْلَ، وَنَسَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ مَجَازًا؛ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: عِنْدَهُ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ لِهِرَقْلَ جَزْمًا.
قَوْلُهُ: (ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ) وَوَقَعَ فِي الْجِهَادِ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ، فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا: لَكِنْ يُعْرَفُ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ أَنَّ اللَّغَطَ كَانَ لِمَا فَهِمُوهُ مِنْ هِرَقْلَ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى التَّصْدِيقِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَأَنَّ أَمِرَ الْأَوَّلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثَّانِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ كُرَاعٌ فِي الْمُجَرَّدِ وَرِعَ أَمِرَ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ، أَيْ كَثِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْمَعْنَى لَقَدْ كَثُرَ كَثِيرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، وَفِيهِ قَلَقٌ، وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الثَّانِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَرَةٌ - عَلَى وَزْنِ بَرَكَةٍ - الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمَرُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى. هَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ فِي شَرْحِهِ وَرَدَّهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ تَفْسِيرَ اللَّفْظَةِ الْأُولَى، وَهِيَ أَمِرَ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ وَأَنَّ مَصْدَرَهَا أَمَرٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْأَمَرُ بِفَتْحَتَيْنِ الْكَثْرَةُ وَالْعِظَمُ وَالزِّيَادَةُ، وَلَمْ يُرِدْ ضَبْطَ اللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ إِلَخْ) هَذِهِ قِطْعَةٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ عَقِبَ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ النَّاطُورِ، وَقَدْ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَاهُمْ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنَّ رَجَعَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَاتَبَ صَاحِبَهُ الَّذِي بِرُومِيَّةَ فَجَاءَهُ جَوَابُهُ يُوَافِقُهُ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَدَعَا فَصَيْحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ بِرُومِيَّةَ فَجَاءَهُ جَوَابُهُ فَدَعَا الرُّومَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بَعْضُ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ النَّاطُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ حَكَى قِصَّةَ الْكِتَابِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ مِنَ النَّصَارَى قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ ابْنُ النَّاطُورِ، وَقِصَّةُ الْكِتَابِ إِنَّمَا ذَكَرَهَا الزُّهْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ فَصَّلَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْحَدِيثَ تَفْصِيلًا وَاضِحًا، وَهُوَ أَوْثَقُ مِنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَأَتْقَنُ، فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ شَاذَّةٌ، وَمَحَلُّ هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، لَكِنْ فَاتَ ذِكْرُهُ هُنَاكَ فَاسْتَدْرَكْتُهُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ جَمَعَهُمْ فِي مَكَانٍ، وَكَانَ هُوَ فِي أَعْلَاهُ، فَاطَّلَعَ، وَصَنَعَ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُنْكِرُوا مَقَالَتَهُ، فَيُبَادِرُوا إِلَى قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (آخِرَ الْأَبَدِ) أَيْ: يَدُومُ مُلْكُكُمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنَ الْكُتُبِ أَنْ لَا أُمَّةَ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا دِينَ بَعْدَ دِينِهَا، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ آمَنَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمْ، فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَرَدُّوهُمْ، فَقَالَ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الَّذِي أَحْبَبْتُ) يُفَسِّرُهَا مَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُ وَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَمَّا بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ السُّجُودُ لِمُلُوكِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى تَقْبِيلِهِمُ الْأَرْضَ حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الَّذِي
يَفْعَلُ ذَلِكَ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا كَهَيْئَةِ السَّاجِدِ، وَأَطْلَقَ أَنَّهُمْ رَضُوا عَنْهُ بِنَاءً عَلَى رُجُوعِهِمْ عَمَّا كَانُوا هَمُّوا بِهِ عِنْدَ تَفَرُّقِهِمْ عَنْهُ مِنَ الْخُرُوجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: الْبُدَاءَةُ بِاسْمِ الْكَاتِبِ قَبْلَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ: مِنَ الْعَلَاءِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ مَيْمُونٌ: كَانَتْ عَادَةُ مُلُوكِ الْعَجَمِ إِذَا كَتَبُوا إِلَى مُلُوكِهِمْ بَدَءُوا بِاسْمِ مُلُوكِهِمْ فَتَبِعَتْهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ، وَإِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَذَلِكَ، وَكَذَا جَاءَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، عِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَّهَ عَلِيًّا وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَبَدَأَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمَّا بَعْدُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
5 - بَاب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} - إِلَى - {بِهِ عَلِيمٌ}
4554 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ: مَالٌ رَايِحٌ.
4555 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيٍّ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَلِغَيْرِهِ: إِلَى بِهِ عَلِيمٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بَيْرُحَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي الزَّكَاةِ، وَشَرْحُ الْحَدِيثَ فِي الْوَقْفِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: رَابِحٌ) يَعْنِي أَنَّ الْمَذْكُورَيْنِ رَوَيَا الْحَدِيثَ عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ فَوَافَقَا فِيهِ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْوَقْفِ عَنْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمِزِّيِّ أَنَّهُ أَوْرَدَهَا فِي التَّفْسِيرِ مَوْصُولَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ أَيْضًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ فَتَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ أَحْمَدَ وَصَلَهَا عَنْهُ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَا وَقَعَ لِلرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهَلْ هِيَ: رابح بِالْمُوَحَّدَةِ أَوِ التَّحْتَانِيَّةِ مَعَ الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ: رَايِحٌ) كَذَا اخْتَصَرَهُ، وَكَانَ قَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا وَهَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي الْوَقْفِ مَعَ شَرْحِهِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ هُنَا، وَمِمَّنْ عَمِلَ بِالْآيَةِ ابْنُ عُمَرَ فَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ جَارِيَةٌ لِي رُومِيَّةٌ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْلَا أَنِّي لَا أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لَتَزَوَّجْتُهَا.
6 - بَاب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
4556 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ؟ قَالُوا: نُحَمِّمُهُمَا، وَنَضْرِبُهُمَا. فَقَالَ: لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟ فَقَالُوا: لَا نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا، وَلَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَالُوا: هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ، قال: فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يجنأ عَلَيْهَا؛ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْحُدُودِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَقَوْلُهُ: نُحَمِّمُهُمَا بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مِيمٍ مُثَقَّلَةٍ، أَيْ: نَسْكُبُ عَلَيْهِمَا الْمَاءَ الْحَمِيمَ، وَقِيلَ: نَجْعَلُ فِي وُجُوهِهِمَا الْحُمَةَ بِمُهْمَلَةِ وَمِيمٍ خَفِيفَةٍ، أَيِ: السَّوَادَ، وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: فَوَضَعَ مِدْرَاسَهَا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ. وَلِغَيْرِهِ: مُدَارِسَهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَقْدِيمِ الْأَلِفِ، بِوَزْنِ الْمُفَاعِلَةِ مِنَ الدِّرَاسَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْإِفْرَادِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (يَجْنَأُ) بِجِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَحْنِي بِالْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بِغَيْرِ هَمْزٍ.
7 - بَاب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
4557 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ تَعَقَّبَ الْبُخَارِيَّ فَقَالَ: هَذَا مَوْقُوفٌ لَا مَعْنَى لِإِدْخَالِهِ فِي
الْمُسْنَدِ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَيْسَرَةَ) هُوَ ابْنُ عَمَّارٍ الْأَشْجَعِيُّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ، وَشَيْخُهُ أَبُو حَازِمٍ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ زَايٍ هُوَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ. وَقَوْلُهُ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ؛ أَيْ: خَيْرُ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ، أَيْ: أَنْفَعُهُمْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا سَبَبًا فِي إِسْلَامِهِمْ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَالَ أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فَكُنَّا كُلُّنَا، وَلَكِنْ قَالَ: كُنْتُمْ فَهِيَ خَاصَّةٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَمَنْ صَنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمْ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلِهِ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَهَذَا مَوْقُوفٌ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَعْنَاهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ إِلَخْ. وَهَذَا أَعَمُّ وَهُوَ نَحْوُ الْأَوَّلِ. وَجَاءَ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَا يَأْمَنُ هَذَا فِي بِلَادِ هَذَا وَلَا هَذَا فِي بِلَادِ هَذَا، فَلَمَّا كُنْتُمْ أَنْتُمْ أَمِنَ مَنْ فِيكُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: لَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ دَخَلَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ مِثْلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ اسْتِجَابَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ يَقْتَضِي حَمْلَهَا عَلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ، وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا} قَالَ: وَحَذْفُ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِظْهَارُهَا سَوَاءٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ) فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ أَنْتُمْ مُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةٍ، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ.
8 - بَاب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا}
4558 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: فِينَا نَزَلَتْ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ، وَمَا نُحِبُّ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: وَمَا يَسُرُّنِي - أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}
قَوْلُهُ: (بَابُ {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمْ قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}
9 - بَاب لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ
4559 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
4560 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ - إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ -: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. يَجْهَرُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا - لِأَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ - حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا) تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَسَمَّاهُمْ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَتِيبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَنَزَلَتْ، قَالَ: وَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ الرَّابِعُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِي، فَقَدْ عَزَاهُ السُّهَيْلِيُّ لِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ) أَيْ: فِي صَلَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ) تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الرُّكُوعِ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمٍ أَوْ لِقَوْمٍ. وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ الْقُنُوتَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمِ أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُنُوتِ، وَفِي مَحَلِّهِ فِي آخِرِ بَابِ الْوِتْرِ.
قَوْلُهُ: (الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ) أَيِ: ابْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأُسِرَ وَفَدَى نَفْسَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحُبِسَ بِمَكَّةَ ثُمَّ تَوَاعَدَ هُوَ وَسَلَمَةُ، وَعَيَّاشٌ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُ وَهَرَبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَخْرَجِهِمْ فَدَعَا لَهُمْ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ، وَمَاتَ الْوَلِيدُ الْمَذْكُورُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رُوِّينَا ذَلِكَ فِي فَوَائِدِ الزِّيَادَاتِ مِنْ حَدِيثِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْر بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيِّ بِسَنَدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ صَبِيحَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَدَعَا بِذَلِكَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، حَتَّى إِذَا كَانَ
صَبِيحَةَ يَوْمِ الْفِطْرِ تَرَكَ الدُّعَاءَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ قَدِمُوا؟ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَذْكُرُهُمْ انْفَتَحَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقُ يَسُوقُ بِهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ نَكَتَ إِصْبَعُهُ بِالْحَرَّةِ، وَسَاقَ بِهِمْ ثَلَاثًا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَنَهَجَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَضَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا الشَّهِيدُ، أَنَا عَلَى هَذَا شَهِيدٌ وَرَثَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَبْيَاتٍ مَشْهُورَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ) أَيِ: ابْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَخُو أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّامِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَعَيَّاشَ) هُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ، وَأَبُوهُ أَبُو رَبِيعَةَ اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْمُغِيرَةِ فَهُوَ عَمُّ الَّذِي قَبْلَهُ أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، ثُمَّ خَدَعَهُ أَبُو جَهْلٍ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ فَرَّ مَعَ رَفِيقَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، فَمَاتَ كَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا، لِأَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ) وَقَعَ تَسْمِيَتُهُمْ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} تَقَدَّمَ اسْتِشْكَالُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَأَنَّ قِصَّةَ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ كَانَتْ عِنْدَ أُحُدٍ، وَنُزُولَ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} كَانَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ السَّبَبُ عَنِ النُّزُولِ؟ ثُمَّ ظَهَرَ لِي عِلَّةُ الْخَبَرِ وَأَنَّ فِيهِ إِدْرَاجًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَمَّنْ بَلَغَهُ، بَيَّنَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ هُنَا: قَالَ - يَعْنِي الزُّهْرِيَّ -: ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ، وَهَذَا الْبَلَاغُ لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ، لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ قِصَّةِ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ وَجْهُهُ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الْآيَةَ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى الْمَذْكُورِينَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، وَفِيمَا نَشَأَ عَنْهُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُحُدٍ، بِخِلَافِ قِصَّةِ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ؛ فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قِصَّتَهُمْ كَانَتْ عَقِبَ ذَلِكَ وَتَأَخَّرَ نُزُولُ الْآيَةِ عَنْ سَبَبِهَا قَلِيلًا، ثُمَّ نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
10 - باب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} وَهْوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} فَتْحًا أَوْ شَهَادَةً
4561 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ: إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} وَهُوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ) كَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: أُخْرَاكُمْ آخِرِكُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أُخْرَى تَأْنِيثُ آخَرَ بِفَتْحِ الْخَاءِ لَا كَسْرِهَا، وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: فِي أُخْرَاتِكُمْ، بِزِيَادَةِ الْمُثَنَّاةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ فَتْحًا أَوْ شَهَادَةً) كَذَا وَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَحَلُّهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، وَلَعَلَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَقَعَتْ فِي أُحُدٍ
وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
ثم ذكر المصنف طرفا من حَدِيث الْبَرَاءِ فِي قِصَّةِ الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ مَعَ شَرْحِهِ فِي الْمَغَازِي.
11 - بَاب {أَمَنَةً نُعَاسًا}
4562 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ.
قوله: (باب قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} .
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو يَعْقُوبَ) هُوَ بَغْدَادِيٌّ لَقَّبَهُ لُؤْلُؤٌ، وَيُقَالُ: يُؤْيُؤٌ بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَهُوَ ثِقَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَعَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ ثَلَاثَ سِنِينَ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي طَلْحَةَ فِي النُّعَاسِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ مَعَ شَرْحِهِ.
12 - بَاب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
* الْقَرْحُ} الْجِرَاحُ، {اسْتَجَابُوا} أَجَابُوا، يَسْتَجِيبُ: يُجِيبُ
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} سَاقَ الْآيَةَ إِلَى: (عَظِيمٌ).
قَوْلُهُ: (الْقَرْحُ: الْجِرَاحُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْحُ بِالضَّمِّ. قُلْتُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَقْرَأُهَا بِالْفَتْحِ لَا بِالضَّمِّ قَالَ الْأَخْفَشُ: الْقُرْحُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، فَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ غَيْرِهِمْ كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ بِالضَّمِّ الْجُرْحُ وَبِالْفَتْحِ أَلَمُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْحُ بِالْفَتْحِ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَبِالضَّمِّ أَثَرُهَا مِنْ دَاخِلٍ.
قَوْلُهُ: {اسْتَجَابُوا} أَجَابُوا، {وَيَسْتَجِيبُ} يُجِيبُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} أَيْ: أَجَابَهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَجَبْتُكَ أَيْ: أَجَبْتُكَ، قَالَ كَعْبُ الْغَنَوِيُّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى
…
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: يُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهَذِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ اسْتِشْهَادًا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا، وَكَأَنَّهُ بَيَّضَ لَهُ، وَاللَّائِقُ بِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ: الزُّبَيْرُ، وَأَبُو بَكْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِهِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ رَدَفْتُمْ، بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ، فَرَجَعُوا، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا: نَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ الْمَحْفُوظَ إِرْسَالُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَمِنَ الطَّرِيقِ الْمُرْسَلَةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ.
13 - بَاب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} الْآيَةَ
4563 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ - أُرَاهُ قَالَ: - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .
[الحديث 4563 - طرفه في: 4564]
4564 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: بَابُ {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وَزَادَ غَيْرُهُ: الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ - أُرَاهُ قَالَ: - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) كَذَا وَقَعَ، الْقَائِلُ: أُرَاهُ هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: أَظُنُّهُ، وَكَأَنَّهُ عَرَضَ لَهُ شَكٌّ فِي اسْمِ شَيْخِ شَيْخِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ بِغَيْرِ شَكٍّ، لَكِنْ وَهِمَ الْحَاكِمُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاسْمُهُ: عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الضُّحَى) اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ، بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ مَا قَالَ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَنَّهَا أَوَّلُ مَا قَالَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ شَيْءٍ وَآخِرُ شَيْءٍ قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجَعَ بِقُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ مِنْ أُحُدٍ فَلَقِيَهُ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ أُحُدٍ وَنَدِمُوا، فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ فَرَجَعُوا، وَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ نَاسًا فَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقْصِدُونَهُمْ، فَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ وَلَمْ يُسَمِّ مَعْبَدًا، قَالَ: أَعْرَابِيًّا وَمَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا لَكِنْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ قَالَ: اسْتَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ عِيرًا وَارِدَةً الْمَدِينَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بَعْدَ أُحُدٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّسُولَ بِذَلِكَ كَانَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. قِيلَ: إِطْلَاقُ النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ، كَمَا قَالَ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، وَلَيْسَ لَهُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ. قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ.
14 - بَاب {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية
سَيُطَوَّقُونَ كَقَوْلِكَ: طَوَّقْتُهُ بِطَوْقٍ
4565 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ -، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ) سَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ: (خَبِيرٌ) قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا النَّقْلِ نَظَرٌ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: وَقِيلَ: فِيمَنْ يَبْخَلُ بِالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعِيَالِ وَذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ، نَعَمِ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: {سَيُطَوَّقُونَ} كَقَوْلِكَ: طَوَّقْتُهُ بِطَوْقٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: يُلْزَمُونَ، كَقَوْلِكَ: طَوَّقْتُهُ بِالطَّوْقِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَيُطَوَّقُونَ، قَالَ: بِطَوْقٍ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ شَرْحِهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّطْوِيقِ الْمَذْكُورِ، هَلْ يَكُونُ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: لَا يَمْنَعُ عَبْدٌ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ يُطَوَّقُ فِي عُنُقِهِ. ثُمَّ قَرَأَ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ سُئِلُوا أَنْ يُخْبِرُوا بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُمْ فَبَخِلُوا بِذَلِكَ وَكَتَمُوهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا} أَيْ: بِإِثْمِهِ.
4566 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَالَ: حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ؛ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَيِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ، إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِينَا بِهِ
فِي مَجْلِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا؛ فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ، حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَابَّتَهُ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنْهُ، وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ، فَيُعَصِّبُونهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ، وَيَصْطبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الْآيَةَ، وَقَالَ اللَّهُ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فِيمَا كَانَ يَهْجُو بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي خَبَرُهُ، وَفِيهِ شَرْحُ حَدِيثِ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَبَيْنَ فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ) أَيْ: كِسَاءٍ غَلِيظٍ، مَنْسُوبٍ إِلَى فَدَكَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالدَّالِ، وَهِيَ بَلَدٌ مَشْهُورٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَعُودُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) فِيهِ عِيَادَةُ الْكَبِيرِ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ فِي دَارِهِ. وَقَوْلُهُ: (فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) أَيْ: فِي مَنَازِلِ بَنِي الْحَارِثِ، وَهُمْ قَوْمُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَقِيعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) أَيْ: قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ) كَذَا فِيهِ تَكْرَارُ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ آخِرًا بَعْدَ الْبُدَاءَةِ بِهِ، وَالْأَوْلَى حَذْفُ أَحَدِهِمَا، وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ: الْيَهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ مُقِرُّونَ بِالتَّوْحِيدِ، نَعَمْ مِنْ لَازِمِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ - تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمُ - الْإِشْرَاكُ، وَعَطْفُهُمْ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ تَنْوِيهًا بِهِمْ فِي الشَّرِّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي رُجْحَانُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ الْمُشْرِكِينَ بِعبدةِ الْأَوْثَانِ وَبِالْيَهُودِ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ تَوْجِيهُ إِعَادَةِ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ
كَأَنَّهُ فَسَّرَ الْأَخْلَاطَ بِشَيْئَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمَّا فَسَّرَ الْمُشْرِكِينَ بِشَيْئَيْنِ رَأَى إِعَادَةَ ذِكْرِ الْمُسْلِمِينَ تَأْكِيدًا، وَلَوْ كَانَ قَالَ: لَا هُنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ مَا احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ، وَإِطْلَاقُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْيَهُودِ؛ لِكَوْنِهِمْ يُضَاهُونَ قَوْلَهُمْ وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُوَافِقُونَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَمُعَادَاتِهِ وَقِتَالِهِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَعَطَفَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: (عَجَاجَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَجِيمَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، أَيْ: غُبَارُهَا، وَقَوْلُهُ: خَمَّرَ أَيْ: غَطَّى، وَقَوْلُهُ: أَنْفَهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَجْهَهُ.
قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ كُفَّارٌ، وَيَنْوِي حِينَئِذٍ بِالسَّلَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَلَّمَ بِهِ عَلَيْهِمْ صِيغَةُ عُمُومٍ فِيهَا تَخْصِيصٌ، كَقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ) عَبَّرَ عَنِ انْتِهَاءِ مَسِيرِهِ بِالْوُقُوفِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ) بِنَصْبِ أَحْسَنَ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَيَجُوزُ فِي أَحْسَنَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَا وَالِاسْمُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّ النُّونِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَأَحْسَنُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ لَكِنْ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ تَقْعُدَ فِي بَيْتِكِ، حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي عَلِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ تَشْدِيدَ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ نُونٍ مِنَ الْحِسِّ، أَيْ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (يَتَثَاوَرُونَ) بِمُثَلَّثَةٍ، أَيْ: يَتَوَاثَبُونَ، أَيْ: قَارَبُوا أَنْ يَثِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَيَقْتَتِلُوا، يُقَالُ: ثَارَ إِذَا قَامَ بِسُرْعَةٍ وَانْزِعَاجٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى سَكَنُوا) بِالنُّونِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُثَنَّاةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ نَزَلَ فِي ذَلِكَ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الْآيَةَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ وَجَوَابَهُ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
قَوْلُهُ: (أَيَا سَعْدُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَيْ سَعْدُ.
قَوْلُهُ: (أَبُو حُبَابٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَهِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَكَنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ مَشْهُورًا بِهَا أَوْ لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّفِ.
قَوْلُهُ: (وَلَقَدِ اصْطَلَحَ) بِثُبُوتِ الْوَاوِ لِلْأَكْثَرِ، وَبِحَذْفِهَا لِبَعْضِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ الْبُحَيْرَةِ بِالتَّصْغِيرِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَرْيَةِ وَعَلَى الْبَلَدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَنَقَلَ يَاقُوتٌ أَنَّ الْبَحْرَةَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ) يَعْنِي: يُرَئِّسُوهُ عَلَيْهِمْ وَيُسَوِّدُوهُ، وَسُمِّيَ الرَّئِيسُ مُعَصَّبًا؛ لِمَا يَعْصِبُ بِرَأْسِهِ مِنَ الْأُمُورِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يُعَصِّبُونَ رُءُوسَهُمْ بِعِصَابَةٍ لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِهِمْ، يَمْتَازُونَ بِهَا، وَوَقَعَ فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: فَيُعَصِّبُونَهُ وَالتَّقْدِيرُ فَهُمْ يُعَصِّبُونَهُ، أَوْ فَإِذَا هُمْ يُعَصِّبُونَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: لَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّا لَنَنْظِمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوِّجَهُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (شَرِقَ بِذَلِكَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: غُصَّ بِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَسَدِ، يُقَالُ: غُصَّ بِالطَّعَامِ وَشَجِيَ بِالْعَظْمِ وَشَرِقَ بِالْمَاءِ إِذَا اعْتَرَضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَلْقِ فَمَنَعَهُ الْإِسَاغَةَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ أَفْرَدَهُ ابْنُ حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْنَادُ مُتَّحِدًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَرِّجْ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) سَاقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ الْآيَةَ، وَبِمَا بَعْدَ مَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا تَتَبَيَّنُ الْمُنَاسَبَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ) أَيْ: فِي قِتَالِهِمْ، أَيْ: فَتَرَكَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَرَكَهُ أَصْلًا بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ أَوَّلًا وَوُقُوعِهِ آخِرًا، وَإِلَّا فَعَفْوُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ
بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَصَفْحُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ مَشْهُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ وَالسِّيَرِ.
قَوْلُهُ: (صَنَادِيدَ) بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ نُونٍ خَفِيفَةٍ، جَمْعُ: صِنْدِيدٍ، بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهُوَ: الْكَبِيرُ فِي قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ) أَيْ: ظَهَرَ وَجْهُهُ.
قَوْلُهُ: (فَبَايَعُوا) بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}
4567 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الْآيَةَ.
4568 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَعملْ مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} سَقَطَ لَفْظُ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ) هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ يَعْتَذِرُ عَنِ التَّخَلُّفِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَجَابَ مِنَ الْيَهُودِ بِغَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ وَكَتَمُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَبِهَذَا أَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ: نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ:{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوَ ذَلِكَ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ نَزَلَتْ فِي أَشْيَاءَ خَاصَّةٍ، وَعُمُومُهَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أَتَى بِحَسَنَةٍ فَفَرِحَ بِهَا فَرَحَ إِعْجَابٍ، وَأَحَبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ، بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَسَيَأْتِي، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ) هُوَ اللَّيْثِيُّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً. وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ عَنْ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ مَرْوَانَ) هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ) رَافِعٌ هَذَا لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي كِتَابِ الرُّوَاةِ إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَانَ بِالْجَوَابِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُعْتَمَدٌ عِنْدَ مَرْوَانَ مَا قَنَعَ بِرِسَالَتِهِ، لَكِنْ قَدْ أَلْزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، الْبُخَارِيَّ أَنْ يُصَحِّحَ حَدِيثَ يسْرَةَ بْنِ صَفْوَانَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ؛ فَإِنَّ عُرْوَةَ، وَمَرْوَانَ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ. فَبَعَثَ مَرْوَانُ حَرَسِيَّهُ إِلَى يسْرَةَ فَعَادَ إِلَيْهِ بِالْجَوَابِ عَنْهَا، فَصَارَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ رَسُولِ مَرْوَانَ، عَنْ يسْرَةَ، وَرَسُولُ مَرْوَانَ مَجْهُولُ الْحَالِ، فَتَوَقَّفَ عَنِ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ لِذَلِكَ، فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ شَبِيهَةٌ بِحَدِيثِ يسْرَةَ، فَإِنْ كَانَ رَسُولُ مَرْوَانَ مُعْتَمَدًا فِي هَذِهِ فَلْيُعْتَمَدْ فِي الْأُخْرَى؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سَمَّى رَافِعًا وَلَمْ يُسَمِّ الْحَرَسِيَّ، قَالَ: وَمَعَ هَذَا، فَاخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فِي شَيْخِ شَيْخِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَهِشَامٌ عَنْهُ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ:، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَصَارَ لِهِشَامٍ مُتَابِعٌ وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلِحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ مُتَابِعٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ لِي مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَجَابَ، فَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا قَصَّ عَلْقَمَةُ سَبَبَ تَحْدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ فَقَطْ، وَكَذَا أَقُولُ فِي حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَكَأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ حَمَلَهُ عَنْ كُلِّ مِنْهُمَا، وَحَدَّثَ بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ كُلِّ مِنْهُمَا، فَحَدَّثَ بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ إِرْسَالِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عِنْدَ مَرْوَانَ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ - فَذَكَرَ الْآيَةَ - فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَاكَ، إِنَّمَا ذَاكَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ - فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ - فَإِنْ كَانَ لَهُمْ نَصْرٌ وَفَتْحٌ حَلَفُوا لَهُمْ عَلَى سُرُورِهِمْ بِذَلِكَ؛ لِيَحْمَدُوهُمْ عَلَى فَرَحِهِمْ وَسُرُورِهِمْ، فَكَأَنَّ مَرْوَانَ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: هَذَا يُعْلَمُ بِهَذَا، فَقَالَ: أَكَذَلِكَ يَا زَيْدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، صَدَقَ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ مَرْوَانَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِنَحْوِ مَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، فَكَأَنَّ مَرْوَانَ أَرَادَ زِيَادَةَ الِاسْتِظْهَارِ، فَأَرْسَلَ بَوَّابَهُ رَافِعًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ الْحَدِيثَ: تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَيُرِيدُ أَنَّهُ تَابَعَ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ عَلَى رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَصَلَهَا فِي التَّفْسِيرِ وَأَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ إِسْنَادَ حَجَّاجٍ عَقِبَ هَذَا، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ، بَلْ قَالَ: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بِهَذَا، وَسَاقَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: إِنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعِينَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودًا فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ
الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ: فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَهَذَا أَوْضَحُ.
قَوْلُهُ: (بِمَا أَتَوْا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْقَصْرِ، بِمَعْنَى جَاءُوا، أَيْ بِالَّذِي فَعَلُوهُ، وَلِلْحَمَوِيِّ: بِمَا أُوتُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ، أَيْ: أُعْطُوا، أَيْ: مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَتَمُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ التِّلَاوَةَ الْمَشْهُورَةَ، عَلَى أَنَّ الْأُخْرَى قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُوَافَقَةُ الْمَشْهُورَةِ أَوْلَى مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِتَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَنَّ اللَّهَ ذَمَّهَمْ بِكِتْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوهُ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
(تَنْبِيهٌ) الشَّيْءُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ الْيَهُودَ لَمْ أَرَهُ مُفَسَّرًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ صِفَتِهِ عِنْدَهُمْ بِأَمْرٍ وَاضِحٍ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْهُ بِأَمْرٍ مُجْمَلٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} قَالَ: مُحَمَّدٌ. وَفِي قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} قَالَ: بِكِتْمَانِهِمْ مُحَمَّدًا. وَفِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قَالَ: قَوْلِهِمْ: نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
17 - بَاب {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
4569 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} سَاقَ إِلَى {الأَلْبَابِ} وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ. وَوَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ فَقَالُوا: أَيُّمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى؟ قَالُوا: الْعَصَا وَيَدُهُ، الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا الْحِمَّانِيَّ؛ فَإِنَّهُ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَقَدْ خَالَفَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى فَرَوَاهُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَهُوَ أَشْبَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَحْفُوظًا وَصْلُهُ، فَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَقُرَيْشٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ.
18 - بَاب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
4570 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطُرِحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِسَادَةٌ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طُولِهَا، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، فثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ، ثُمَّ أَتَى سقاء مُعَلَّقًا فَأَخَذَهُ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَمَا صَنَعَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي فَجَعَلَ يَفْتِلُهَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} الْآيَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْهُ مُطَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ أَيْضًا. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَقَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ آلِ عِمْرَانَ حَتَّى خَتَمَ فَلِهَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَاسْتُفِيدَ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّ أَوَّلَ الْمَقْرُوءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
19 - بَاب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
4571 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عن مَالِك، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ - قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ - أَوْ: قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ: بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَغْيِيرُ شَيْخِ شَيْخِهِ فَقَطْ، وَسِيَاقُ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَتَمُّ مِنْ تِلْكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا: وَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى وَهُوَ وَهَمٌ، وَالصَّوَابُ: بِأُذُنِي كَمَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ.
20 - بَاب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الْآيَةَ
4572 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ خَالَتُهُ - قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ - أَوْ: قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ: بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ - اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعل يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ شَيْخٍ لَهُ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ، وَسَاقَهُ أَيْضًا بِتَمَامِهِ.
4 - سُورَةُ النِّسَاءِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَنْكِفُ: يَسْتَكْبِرُ، قِوَامًا: قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ، {لَهُنَّ سَبِيلا} يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ:{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَلَا تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ النِّسَاءِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَنْكِفَ: يَسْتَكْبِرَ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ حَسْبُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قَالَ: يَسْتَكْبِرْ، وَهُوَ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ فِي الْآيَةِ عَطْفَ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى الِاسْتِنْكَافِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى يَسْتَنْكِفُ: يَأْنَفُ، وَأَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَحْتَشِمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ النَّكَفِ وَهُوَ الْأَنَفَةُ، وَالْمُرَادُ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَمِنْهُ نَكَفْتُ الدَّمْعَ بِالْإِصْبَعِ إِذَا مَنَعْتَهُ مِنَ الْجَرْيِ عَلَى الْخَدِّ.
قَوْلُهُ: (قِوَامًا: قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ) هَكَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} يَعْنِي: قِوَامَكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ، يَقُولُ: لَا تَعْمِدْ إِلَى مَالِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ مَعِيشَةً فَتُعْطِيَهُ امْرَأَتَكَ وَنَحْوَهَا، وَقَوْلُهُ:{قِيَامًا} الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ بَدَلَ الْوَاوِ، لَكِنْهُمَا بِمَعْنًى، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: قِيَامُ أَمْرِكُمْ، وَقِوَامُ أَمْرِكُمْ، وَالْأَصْلُ بِالْوَاوِ فَأَبْدَلُوهَا يَاءً؛ لِكَسْرَةِ الْقَافِ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: فَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْأَصْلِ. قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لَهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَيْضًا قِرَاءَةُ ابْنِ عُمَرَ أَعْنِي بِالْوَاوِ، وَقَدْ قُرِئَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا: قِيَمًا بِلَا أَلِفٍ، وَفِي
الشَّوَاذِّ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ قَوْلُهُ: قِوَامُكُمْ إِنَّمَا قَالَهُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: (قِيَامًا) عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى. قُلْتُ: وَمِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ يَحْصُلُ جَوَابُهُ.
قَوْلُهُ: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَلَا تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، فَأَوْهَمَ أَنَّهُ ع نِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَثْنَى إِلَخْ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُرْوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: لَا تَنْوِينَ فِي مَثْنَى لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ حَدِّهِ، وَالْحَدُّ أَنْ يَقُولُوا: اثْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ ثُلَاثُ وَرُبَاعُ؛ لِأَنَّهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ، ثُمَّ أَنْشَدَ شَوَاهِدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ، غَيْرَ أَنَّ الْكُمَيْتَ قَالَ:
فَلَمْ يَسْتَرْيِثُوكَ حَتَّى رَمَيْـ
…
تَ فَوْقَ الرِّجَالِ خِصَالًا عُشَارَا
انْتَهَى. وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ إِلَى سُدَاسَ، وَقِيلَ: إِلَى عُشَارَ. قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ: غَلِطَ الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ: أُحَادٌ أَمْ سُدَاسٌ فِي أُحَادٍ لَمْ يُسْمَعْ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا مَثْنَى وَثُلَاثُ وَرُبَاعُ، وَالْخِلَافُ فِي خُمَاسَ إِلَى عُشَارَ. وَيُحْكَى عَنْ خَلَفٍ الْأَحْمَرِ أَنَّهُ أَنْشَدَ أَبْيَاتًا مِنْ خُمَاسَ إِلَى عُشَارَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ، هَلْ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى السَّمَاعِ أَوْ يُقَاسُ عَلَيْهَا؟ قَوْلَانِ أَشْهُرُهُمَا الِاقْتِصَارُ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. كَذَا قَالَ. قُلْتُ: وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ بَيْتُ الْكُمَيْتِ، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ:
ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ
…
أَرَادَ سُدَاسُ أَنْ لَا تَسْتَقِيمَا
وَهَذِهِ الْمَعْدُولَاتُ لَا تَقَعُ إِلَّا أَحْوَالًا كَهَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ أَوْصَافًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أَوْ إِخْبَارًا كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: وَصَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى وَلَا يُقَالُ فِيهَا: مَثْنَاةٌ وَثَلَاثَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا، وَهَلْ يُقَالُ: مَوْحَدُ كَمَا يُقَالُ مَثْنَى؟ الْفَصِيحُ لَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَكَذَا مَثْلَثُ إِلَخْ. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ مَعْنَى مَثْنَى اثْنَتَيْنِ فِيهِ اخْتِصَارٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٌ ثَلَاثٌ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، أَوْ كَانَ لَا يَرَى التَّكْرَارَ فِيهِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ مَا يُنْكَحُ مِنَ النِّسَاءِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: {لَهُنَّ سَبِيلا} يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ) ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ حَسْبُ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلثَّيِّبِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
1 - بَاب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
4573 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا، وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ، وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ فِيهِ:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ
وَفِي مَالِهِ.
4574 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ "أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَنْ مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَال"
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَمَعْنَى (خِفْتُمْ): ظَنَنْتُمْ، وَمَعْنَى (تُقْسِطُوا): تَعْدِلُوا، وَهُوَ مِنْ أَقْسَطَ، يُقَالُ: قَسَطَ إِذَا جَارَ، وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ، وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ أَيْ: أَزَالَ الْقِسْطَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ التِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ فِي أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ لَا تَكُونُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ، نَعَمْ حَكَى السِّيرَافِيُّ فِي جَوَازِ التَّعَجُّبِ بِالرُّبَاعِيِّ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ أَقْسَطَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ لَطَائِفِ أَنْوَاعِ الْإِسْنَادِ، وَهِيَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَهِشَامٌ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَالْأَدْنَى ابْنُ يُوسُفَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا) هَكَذَا قَالَ هِشَامُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَأَوْهَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ التَّعْمِيمُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَلَفْظُهُ: أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ إِلَخْ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَفِيهِ شَيْءٌ آخَرُ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَكَانَ لَهَا عَذْقٌ فَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الَّتِي يَرْغَبُ عَنْ نِكَاحِهَا، وَأَمَّا الَّتِي يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا فَهِيَ الَّتِي يُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَلَا يُزَوِّجُهَا لِغَيْرِهِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْقِصَّتَيْنِ، وَرِوَايَةُ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: أُنْزِلَتْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ إِلَخْ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَفِي النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (عَذْقٌ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ: النَّخْلَةُ، وَبِالْكَسْرِ الْكُبَاسَةُ وَالْقِنْوُ، وَهُوَ مِنَ النَّخْلَةِ كَالْعُنْقُودِ مِنَ الْكَرْمَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَفَسَّرَ الْعَذْقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا بِالْحَائِطِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَيُمْسِكُ بِسَبَبِهِ
قَوْلُهُ: (أَحْسَبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتُهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ) هُوَ شَكٌّ مِنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَوَقَعَ مُبَيَّنًا مَجْزُومًا بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَلَفْظُهُ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ
عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا وَشَرِيكَتُهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ فَيَعْضُلُهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَرِوَايَةُ ابْنِ شِهَابٍ شَامِلَةٌ لِلْقِصَّتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْوَصَايَا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (الْيَتِيمَةُ) أَيِ: الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا.
قَوْلُهُ: (فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا) أَيِ: الَّذِي يَلِي مَالَهَا.
قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا) فِي النِّكَاحِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا.
قَوْلُهُ: (فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ بِغَيْرِ، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهَا، مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، أَيْ: مِمَّنْ يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا سِوَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِلَفْظِ: بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ) أَيْ بِأَيِّ مَهْرٍ تَوَافَقُوا عَلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ عَائِشَةَ هَذَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ في مُنَاسَبَةِ تَرَتُّبِ قَوْلِهِ:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} عَلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} شَيْءٌ آخَرُ، قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ تَخَافُونَ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي مَالِ الْيَتَامَى، فَتَحَرَّجْتُمْ أَنْ لَا تَلُوهَا، فَتَحَرَّجُوا مِنَ الزِّنَا، وَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَلَى تَأْوِيلِ عَائِشَةَ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَشُعَيْبٍ الْمَذْكُورَيْنِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَفْتَى النَّاسُ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ: بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَعُقَيْلٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ شَيْءٌ اقْتَضَى هَذَا الْخَطَأَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَذَكَرَ اللَّهُ أَنْ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ، إِلَخْ، كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَتَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَقْرُونًا بِطَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، فَوَضَحَ بِهَذَا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ أَنَّ فِي الْبَابِ اخْتِصَارًا، وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي آيَةٍ أُخْرَى أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ} وَمَا أَوْرَدْنَاهُ أَوْضَحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ عَزْوَ هَذِهِ الطَّرِيقِ، أَيْ طَرِيقِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ إِلَى كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَزْوِهَا إِلَى كِتَابِ الشَّرِكَةِ.
قَوْلُهُ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ) فِيهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: (وَتَرْغَبُونَ) لِأَنَّ رَغِبَ يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِمُتَعَلَّقِهِ؛ يُقَالُ: رَغِبَ فِيهِ إِذَا أَرَادَهُ، وَرَغِبَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرِدْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُحْذَفَ فِي، وَأَنْ تُحْذَفَ عَنْ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي الْغَنِيَّةِ وَالْمُعْدَمَةِ، وَالْمَرْوِيُّ هُنَا عَنْ عَائِشَةَ أَوْضَحُ فِي أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي الْغَنِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُعْدِمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَنُهُوا) أَيْ: نُهُوا
عَنْ نِكَاحِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا؛ لِأَجْلِ زُهْدِهِمْ فِيهَا إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْيَتِيمَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْعَدْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِبَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمَحْجُورَاتِ، وَأَنَّ غَيْرَهُنَّ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ تَحْتَ حِجْرِهِ، لَكِنْ يَكُونُ الْعَاقِدُ غَيْرَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي النِّكَاحِ، وَفِيهِ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْيَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقَالُ لَهُنَّ يَتِيمَاتٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِنَّ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
2 - بَاب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} الآية
{وَبِدَارًا} مُبَادَرَةً، {أَعْتَدْنَا} أَعْدَدْنَا؛ أَفْعَلْنَا مِنْ الْعَتَادِ
4575 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مال الْيَتِيمِ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} سَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: (حَسِيبًا).
قَوْلُهُ: (وَبِدَارًا: مُبَادَرَةً) هُوَ تَفْسِيرُ أَوَّلِ الْآيَةِ الْمُتَرْجَمِ بِهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} الْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ، وَبِدَارًا: مُبَادَرَةً، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الْمَصْدَرَ بِأَشْهَرَ مِنْهُ، يُقَالُ: بَادَرْتُ بِدَارًا وَمُبَادَرَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَعْنِي يَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ، وَيُبَادِرُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ.
قَوْلُهُ: (أَعْتَدْنَا: أَعْدَدْنَا، أَفَعَلْنَا مِنَ الْعَتَادِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: اعْتَدَدْنَا: افْتَعَلْنَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَعْتَدْنَا وَأَعْدَدْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَتِيدَ هُوَ الشَّيْءُ الْمُعَدُّ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سَهْوًا مِنْ بَعْضِ نُسَّاخِ الْكِتَابِ، وَمَحَلُّهَا بَعْدَ هَذَا قَبْلَ بَابِ {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} .
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ رَاهْوَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: (فِي مَالِ الْيَتِيمِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي وَالِي الْيَتِيمِ، وَالْمُرَادُ بِوَالِي الْيَتِيمِ الْمُتَصَرِّفُ فِي مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَنْصَرِفُ إِلَى مَصْرِفِ الْمَالِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَوَقَعَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ فَرْقَدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ مَالَهُ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، أَفَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَ فَقِيرًا) مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْأُجْرَةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْفَقْرِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ: بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: يَأْكُلُ وَلَا يَكْتَسِي، وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَوَارَى الْعَوْرَةَ، وَقَدْ مَضَى بَقِيَّةُ نَقْلِ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْوَصَايَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ: يَأْكُلُ وَصِيُّ الْأَب بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا قَيِّمُ الْحَاكِمِ فَلَهُ أُجْرَةٌ فَلَا يَأْكُلُ شَيْئًا، وَأَغْرَبَ رَبِيعَةُ فَقَالَ:
الْمُرَادُ خِطَابُ الْوَلِيِّ بِمَا يَصْنَعُ بِالْيَتِيمِ؛ إِنْ كَانَ غَنِيًّا وَسَّعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ، وَهَذَا أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِبَعْضِ الشُّرَّاحِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، التِّلَاوَةُ: وَمَنْ كَانَ بِالْوَاوِ انْتَهَى، وَأَنَا مَا رَأَيْتُهُ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْوَاوِ.
3 - بَاب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الْآيَةَ
4576 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} ؛ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. تَابَعَهُ سَعِيدُ بن جبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الْآيَةَ) سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ) هُوَ الْقُرَشِيُّ الْكُوفِيُّ صِهْرُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، يُقَالُ لَهُ: دَارُ أُمِّ سَلَمَةَ، لُقِّبَ بِذَلِكَ لِجَمْعِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ وَتَتَبُّعِهِ لِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ لَهُ اتِّصَالٌ بِأُمِّ سَلَمَةَ يَعْنِي زَوْجَ السَّفَّاحِ الْخَلِيفَةِ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ، وَوَهِمَ الْحَاكِمُ فَقَالَ: يُلَقَّبُ جَارَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَثَّقَهُ مُطَيَّنٌ، وَقَالَ: كَانَ يُعَدُّ فِي حُفَّاظِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَشَيْخُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ هُوَ ابْنُ عُبَيْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، وَأَبُوهُ فَرْدٌ فِي الْأَسْمَاءِ مَشْهُورٌ فِي أَصْحَابِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى عِكْرِمَةَ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَشْجَعِيِّ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا وَلِيَ رَضَخَ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَالِ قِلَّةٌ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، فَذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْمَعْرُوفِ.
وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تَرْضَخُ لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ تَقْصِيرٌ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَصَلَهُ فِي الْوَصَايَا بِلَفْظِ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ وَذَلِكَ الَّذِي يُرْزَقُ، وَوَالٍ لَا يَرِثُ وَذَلِكَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ، وَهَذَانِ الْإِسْنَادَانِ الصَّحِيحَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُمَا الْمُعْتَمَدَانِ، وَجَاءَتْ عَنْهُ رِوَايَاتٌ مِنْ أَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَسَمَ مِيرَاثَ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَيَاةِ عَائِشَةَ، فَلَمْ يَدَعْ فِي الدَّارِ ذَا قَرَابَةٍ وَلَا مِسْكِينًا إِلَّا أَعْطَاهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ وَتَلَا الْآيَةَ، قَالَ الْقَاسِمُ: فَذَكَرْتُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا أَصَابَ، لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْوَصِيِّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْعَصَبَةِ أَيْ نُدِبَ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُوصِيَ لَهُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُنَافِي حَدِيثَ الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ قَرَابَةُ الْمَيِّتِ مِمَّنْ لَا يَرِثُ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ تَتَشَوَّفُ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ جَزِيلًا، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرْضَخَ لَهُمْ بِشَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ هَلِ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ: هِيَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعْطِيَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي
الْقَرَابَةِ مَنْ لَا يَرِثُ، وَأَنَّ مَعْنَى {فَارْزُقُوهُمْ} أَعْطُوهُمْ مِنَ الْمَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَطْعِمُوهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لَاقْتَضَى اسْتِحْقَاقًا فِي التَّرِكَةِ وَمُشَارَكَةً فِي الْمِيرَاثِ بِجِهَةٍ مَجْهُولَةٍ، فَيُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّقَاطُعِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالنَّدْبِ فَقَدْ قِيلَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْمَحْجُورِ، وَقِيلَ: لَا بَلْ يَقُولُ: لَيْسَ الْمَالُ لِي وَإِنَّمَا هُوَ لِلْيَتِيمِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: (وَقُولُوا) لِلتَّقْسِيمِ، وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَطَائِفَةٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} اصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ، وَأَنَّهَا عَلَى الْعُمُومِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
4577 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أخبرنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ مَاشِيَيْنِ، فَوَجَدَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا أَعْقِلُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
قَوْلُهُ: (بَابُ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} سَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بَابُ وَ: فِي أَوْلَادِكُمْ وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ هُنَا بَيَانُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ هُوَ مُحَمَّدٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: سَمِعْتُ جَابِرًا وَتَقَدَّمَتْ فِي الطَّهَارَةِ.
قَوْلُهُ: (عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَرْضَى قُبَيْلَ كِتَابِ الطِّبِّ.
قَوْلُهُ: (فِي بَنِي سَلِمَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ هُمْ قَوْمُ جَابِرٍ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ.
قَوْلُهُ: (لَا أَعْقِلُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ) بَيَّنْتُ فِي الطَّهَارَةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَشَّ عَلَيْهِ مِنَ الَّذِي فَضَلَ، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِ نَفْسَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنِ الْمِيرَاثُ، إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلَالَةٌ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَهِيَ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ؛ لِأَنَّ جَابِرًا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ؟ قَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ وَقَدْ تَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ فَتَرْجَمَ فِي أَوَّلِ الْفَرَائِضِ قَوْلَهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَفِي آخِرِهِ: حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا زَادَهُ النَّاقِدُ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُ مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ النَّاقِدِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: كَانَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أَخَوَاتٌ وَهَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِيهِ فَأَخْرَجَهُ
ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْهُ بِلَفْظِ: حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، وَقَالَ مَرَّةً: حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ: حَتَّى نَزَلَتْ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ عَنْهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ، فَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مُرَادَ جَابِرٍ مِنْ آيَةِ الْمِيرَاثِ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، فَكَأَنَّ الْكَلَالَةَ لَمَّا كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ اسْتَفْتَوْا عَنْهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ.
وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ جُرَيْجٍ بِتَعْيِينِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ وَعَنِ الْجُعْفِيِّ مِثْلَ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: آيَةُ الْمِيرَاثِ أَوْ آيَةُ الْفَرَائِضِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَهَا إِنَّهَا {يَسْتَفْتُونَكَ} فَعُمْدَتُهُ أَنَّ جَابِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِينَئِذٍ وَلَدٌ، وَإِنَّمَا يُورَثُ كَلَالَةً، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِقِصَّتِهِ نُزُولَ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَالَةَ مُخْتَلَفٌ فِي تَفْسِيرِهَا: فَقِيلَ: هِيَ اسْمُ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْإِرْثِ، وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ تَفْسِيرَهَا بِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ لِمَا قَدَّمْتُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَآيَةُ الْمَوَارِيثِ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا.
قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ. فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَا سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقَدُّمِ نُزُولِهَا. نَعَمْ وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ ابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ تَنْزِلَ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ أَوَّلِهَا فِي قِصَّةِ الْبِنْتَيْنِ، وَآخِرِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} فِي قِصَّةِ جَابِرٍ، وَيَكُونَ مُرَادُ جَابِرٍ فَنَزَلَتْ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَيْ ذِكْرُ الْكَلَالَةِ الْمُتَّصِلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَهِمْ كَمَا جَزَمَ بِهِ الدِّمْيَاطِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَأَنَّ مَنْ وَهَّمَهُ هُوَ الْوَاهِمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْفَرَائِضِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
5 - بَاب {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
4578 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ؛ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَالثُّلُثَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَللزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} سَقَطَ قَوْلُهُ: بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَ قَوْلُهُ: قَوْلُهُ لِلْمُسْتَمْلِيِّ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ) يُشِيرُ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُعْطِي الْجَارِيَةَ الصَّغِيرَةَ نِصْفَ الْمِيرَاثِ وَهِيَ لَا تَرْكَبُ الْفَرَسَ وَلَا تُدَافِعُ الْعَدُوِّ؟ قَالَ: وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا لِمَنْ قَاتَلَ الْقَوْمَ.
قَوْلُهُ: (فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ اسْتَمَرَّ إِلَى نُزُولِ الْآيَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ النَّسْخَ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ النَّسْخَ مُطْلَقًا، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الشَّرَائِعَ الْمَاضِيَةَ مُسْتَقِرَّةُ الْحُكْمِ إِلَى ظُهُورِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، قَالَ: فَسُمِّيَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا يَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَمِّيهِ نَسْخًا كَانَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَالثُّلُثَ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: قَوْلُهُ: وَالثُّلُثَ زِيَادَةٌ هُنَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، قُلْتُ: اخْتَصَرَهَا هُنَاكَ، وَلَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ شَيْخِهِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ فِي حَالٍ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ فِي حَالٍ، وَوِزَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَالٍ.
6 - بَاب {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ.
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} لَا تَقْهَرُونَ، {حُوبًا} إِثْمًا، {تَعُولُوا} تَمِيلُوا، {نِحْلَةً} النِّحْلَةُ: الْمَهْرُ
4579 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أخبرنا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: وَذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلَا أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
[الحديث 4579 - طرفه في: 6948]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ) سَقَطَ بَابُ وَمَا بَعْدَ كَرْهًا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَوْلُهُ: كَرْهًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَرَأَهَا حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَعْضُلُوهُنَّ: لَا تَقْهَرُوهُنَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: تَنْتَهِرُوهُنَّ بِنُونٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مِنَ الِانْتِهَارِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ أَيْضًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهَمٌ، وَالصَّوَابُ مَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْضُلُوهُنَّ (لَا تَقْهَرُوهُنَّ) لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ، يَعْنِي الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ كَارِهٌ لِصُحْبَتِهَا، وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ فَيَضُرُّهَا لِتَفْتَدِيَ، وَأَسْنَدَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ نَحْوَهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ، كَالْعَضْلِ الْمَذْكُورِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ ضَعَّفَ ذَلِكَ وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (حُوبًا: إِثْمًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا} قَالَ: إِثْمًا عَظِيمًا. وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الْحَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ بِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: (تَعُولُوا: تَمِيلُوا) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} قَالَ: أَنْ لَا تَمِيلُوا. وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ صَحِيحٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِثْلَهُ، وَأَنْشَدَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ أَبْيَاتٍ:
بِمِيزَانِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
وَجَاءَ مِثْلُهُ مَرْفُوعًا، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنْ لَا تَعُولُوا: أَنْ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَابْنُ دَاوُدَ، وَالثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْهَرَ، وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ مَا شَاءَ الرَّجُلُ بِلَا عَدَدٍ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْعِيَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النِّسَاءَ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ، فَالْجَوْرُ وَالْعَدْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَكَانَ أَعَالَ يُعِيلُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَأَمَّا تَعُولُوا فَمِنَ الثُّلَاثِيِّ، لَكِنْ نَقَلَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الدُّورِيِّ - قَالَ: وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ - قَالَ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرَ. وَنُقِلَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْ لَا تُعِيلُوا.
قَوْلُهُ: (نِحْلَةً فَالنِّحْلَةُ الْمَهْرُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِغَيْرِ فَاءٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبُخَارِيِّ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَقْرَبُ الْوُجُوِهِ أَنَّ النِّحْلَةَ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نِحْلَةٌ يَنْتَحِلُونَهَا، أَيْ: يَتَدَيَّنُونَ بِهَا وَيَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ قَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) قَالَ: النِّحْلَةُ: الْمَهْرُ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نِحْلَةً أَيْ: فَرِيضَةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: النِّحْلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْوَاجِبُ، قَالَ: لَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا بِصَدَاقٍ. كَذَا قَالَ. وَالنِّحْلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَطِيَّةُ، لَا كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ أَوْلِيَاءُ النِّسَاءِ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا زَوَّجَ امْرَأَةً أَخَذَ صَدَاقَهَا دُونَهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ إِلَى سَيَّارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِذَلِكَ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ.
(تَنْبِيهٌ): مَحَلُّ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: (حُوبًا) إِلَى آخِرِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَعْضِ نُسَّاخِ الْكِتَابِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَفِي التَّفْسِيرِ فِي غَالِبِ السُّوَرِ أَشْبَاهُ هَذَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ الدُّورِيُّ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: كَانَ يُخْطِئُ عَنْ سُفْيَانَ، فَذَكَرَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الضُّعَفَاءِ، لَكِنْ قَالَ: كَانَ ثَبْتًا فِيمَا يَرْوِي عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَمُطَرِّفٍ. وَذَكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَقَالَ: رُبَّمَا وَهِمَ فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ مِائَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الشَّيْبَانِيُّ) سَمَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ سُلَيْمَانَ بْنَ فَيْرُوزٍ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ، وَلَا أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) حَاصِلُهُ أَنَّ لِلشَّيْبَانِيِّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ إِحْدَاهُمَا: مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأُخْرَى: مَشْكُوكٌ فِي وَصْلِهَا، وَهِيَ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالسُّوَائِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ وَاسْمُهُ عَطَاءٌ، وَلَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى ذِكْرٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ) فِي رِوَايَةِ السُّدِّيِّ تَقْيِيدُ
ذَلِكَ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ اسْتَمَرَّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَدْ جَزَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقَ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّعْبِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي اسْمِ ابْنِ أَبِي قَيْسٍ، فَالْأَوَّلُ قَالَ: قَيْسٌ، وَمُقَاتِلٌ قَالَ: حُصَيْنٌ، رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ خَاصَّةٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي وَلَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَحْدَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمِنْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَةِ: حَبَسَهَا عَصَبَتُهُ أَنْ تَنْكِحَ أَحَدًا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثُوهَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ أَسْبَاطٍ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ تَنْكِحَ إِلَّا مِنْهُمْ أَوْ بِإِذْنِهِمْ، نَعَمْ هِيَ مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي التَّخْصِيصِ السَّابِقِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً أَلْقَى عَلَيْهَا حَمِيمُهُ ثَوْبًا، فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ وَيَرِثَهَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا: كَانَ الرَّجُلُ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ الصَّدَاقَ وَزَادَ السُّدِّيُّ: إِنْ سَبَقَ الْوَارِثُ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبَهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْ هِيَ إِلَى أَهْلِهَا فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا.
7 - بَاب وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا الآية
وَقَالَ مَعْمَرٌ: مَوَالِي: أَوْلِيَاءُ وَرَثَةٌ، عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ هُوَ مَوْلَى الْيَمِينِ وَهْوَ الْحَلِيفُ
وَالْمَوْلَى أَيْضًا ابْنُ الْعَمِّ، وَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ، وَالْمَوْلَى الْمُعْتَقُ، وَالْمَوْلَى الْمَلِيكُ، وَالْمَوْلَى مَوْلًى فِي الدِّينِ
4580 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ: وَرَثَةً، وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ. سَمِعَ أَبُو أُسَامَةَ، إِدْرِيسَ، سَمِعَ إِدْرِيسُ، طَلْحَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} سَاقَ إِلَى قَوْلِهِ شَهِيدًا وَسَقَطَ ذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي
ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَوْلِيَاءُ. {مَوَالِيَ} أَوْلِيَاءُ وَرَثَةٌ (عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) هُوَ مَوْلَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْحَلِيفُ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا ابْنُ الْعَمِّ، وَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ) أَيْ: بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ. (وَالْمَوْلَى الْمُعْتَقُ) أَيْ: بِفَتْحِهَا (وَالْمَوْلَى الْمَلِيكُ، وَالْمَوْلَى مَوْلًى فِي الدِّينِ) انْتَهَى. وَمَعْمَرٌ هَذَا بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَكُنْتُ أَظُنُّهُ مَعْمَرَ بْنَ رَاشِدٍ إِلَى أَنْ رَأَيْتُ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْمُهُ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَلَمْ أَرَهُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ قَالَ: الْمَوَالِي الْأَوْلِيَاءُ؛ الْأَبُ وَالْأَخُ وَالِابْنُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَصَبَةِ.
وَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ: أَوْلِيَاءَ وَرَثَةً (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) فَالْمَوْلَى: ابْنُ الْعَمِّ. وَسَاقَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَنْشَدَ فِي الْمَوْلَى ابْنِ الْعَمِّ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا
وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْمَوْلَى: الْمُحِبُّ، وَالْمَوْلَى: الْجَارُ، وَالْمَوْلَى: النَّاصِرُ، وَالْمَوْلَى: الصِّهْرُ، وَالْمَوْلَى: التَّابِعُ، وَالْمَوْلَى: الْقَرَارُ، وَالْمَوْلَى: الْوَلِيُّ، وَالْمَوْلَى: الْمُوَازِي. وَذَكَرُوا أَيْضًا الْعَمَّ وَالْعَبْدَ وَابْنَ الْأَخِ وَالشَّرِيكَ وَالنَّدِيمَ، وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ مُعَلِّمُ الْقُرْآنِ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ: مَنْ عَلَّمَ عَبْدًا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ مَوْلَاهُ الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ شُعْبَةَ: مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ حَدِيثًا فَأَنَا لَهُ عَبْدٌ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَنْ يَلِيكَ أَوْ وَالَاكَ فَهُوَ مَوْلًى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي الْكَفَالَةِ، وَأُحِيلَ بِشَرْحِهِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ إِدْرِيسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَوْدِيُّ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْفَقِيهِ الْكُوفِيِّ، وَإِدْرِيسُ ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ) وَقَعَ فِي الْفَرَائِضِ: عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ.
قَوْلُهُ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ)، قَالَ: وَرَثَةً) هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنَ السَّلَفِ، أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلِكُلِّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا عَصَبَةً يَرِثُونَهُ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَهُ وَأَقْرَبُوهُ مِنْ مِيرَاثِهِمْ لَهُ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْآيَةَ تَقْدِيرًا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ جَعَلْنَا لِكُلِّ مَيِّتٍ وَرَثَةً، تَرِثُ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ مَالٍ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ جَعَلْنَا وَرَثَةً يَحُوزُونَهُ. فَعَلَى هَذَا كُلٍّ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلَ وَ: مِمَّا تَرَكَ صِفَةٌ لِكُلٍّ وَ: الْوَالِدَانِ فَاعِلُ تَرَكَ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ، وَقَدْ سُمِعَ كَثِيرًا، وَفِي الْقُرْآنِ:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} ؛ فَإِنَّ فَاطِرَ صِفَةُ اللَّهِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ جَعَلْنَاهُمْ مَوْلًى - أَيْ: وَرَثَةً - نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُمْ وَأَقْرَبُوهُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَ: نَصِيبٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَ: (جَعَلْنَاهُمْ) صِفَةٌ لِقَوْمِ وَ: {مِمَّا تَرَكَ} صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي حُذِفَ وَ: (نَصِيبٌ) صِفَتُهُ، وَكَذَا حُذِفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ كُلٌّ وَبَقِيَتْ صِفَتُهُ، وَكَذَا حُذِفَ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْرِبُونَ، وَذَكَرُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ظَاهِرُهُ التَّكَلُّفُ.
وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ثُمَّ قَالَ (وَلِكُلٍّ) أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (جَعَلْنَا) أَيْ: قَدَّرْنَا (نَصِيبًا) أَيْ: مِيرَاثًا {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) أَيْ: بِالْحَلِفِ أَوِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُؤَاخَاةِ، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خِطَابٌ لِمَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ، أَيْ: مَنْ وَلِيَ عَلَى مِيرَاثِ أَحَدٍ فَلْيُعْطِ لِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ نَصِيبَهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَّضِحِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْإِعْرَابُ وَيُتْرَكَ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّعَسُّفِ.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ
الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ) هَكَذَا حَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَنْ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، وَحَمَلَهَا غَيْرُهُ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ نَسَبٌ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَرِثُهُ، وَعَاقَدَ أَبُو بَكْرٍ مَوْلًى فَوَرِثَهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَاسِخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ هَذِهِ الْآيَةُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ، فَإِذَا مَاتَ وَرِثَهُ الْآخَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا، يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تُوصُوا لِأَوْلِيَائِكُمُ الَّذِينَ عَاقَدْتُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ السُّدُسُ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْمِيرَاثِ فَقَالَ:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، وَمِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى: حَيْثُ كَانَ الْمُعَاقِدُ يَرِثُ وَحْدَهُ دُونَ الْعَصَبَةِ، فَنَزَلَتْ (وَلِكُلٍّ) وَهِيَ آيَةُ الْبَابِ، فَصَارُوا جَمِيعًا يَرِثُونَ، وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آيَةُ الْأَحْزَابِ، وَخُصَّ الْمِيرَاثُ بِالْعَصَبَةِ، وَبَقِيَ لِلْمُعَاقِدِ النَّصْرُ وَالْإِرْفَادُ وَنَحْوُهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ بَقِيَّةُ الْآثَارِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ أَيْضًا، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ النَّاسِخَ الثَّانِيَ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ) كَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ بَيَّنَهُ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ قَالَ (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) مِنَ النَّصْرِ إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: مِنَ النَّصْرِ يَتَعَلَّقُ بِآتُوهُمْ لَا بِعَاقَدَتْ وَلَا بِأَيْمَانِكُمْ، وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ، وَالرِّفَادَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ خَفِيفَةٌ: الْإِعَانَةُ بِالْعَطِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَ أَبُو أُسَامَةَ، إِدْرِيسَ. وَسَمِعَ إِدْرِيسُ، طَلْحَةَ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ التَّنْبِيهَ عَلَى مَنْ وَقَعَ عِنْدَهُ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ لِأَبِي أُسَامَةَ مِنْ إِدْرِيسَ، وَلِإِدْرِيسَ مِنْ طَلْحَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - بَاب {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي: زِنَةَ ذَرَّةٍ
4581 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ أُنَاسًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ، ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهِ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهِ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: تَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ فَقَالُوا: عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الْأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا لَمْ
يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، فَيُقَالُ: مَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي: زِنَةَ ذَرَّةٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أَيْ: زِنَةَ ذَرَّةٍ، وَيُقَالُ: هَذَا مِثْقَالُ هَذَا، أَيْ: وَزْنُهُ، وَهُوَ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ، وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَيُقَالُ: وَاحِدَةُ الْهَبَاءِ، وَالذَّرَّةُ يُقَالُ: زِنَتُهَا رُبُعُ وَرَقَةِ نُخَالَةٍ، وَوَرَقَةُ النُّخَالَةِ وَزْنُ رُبُعِ خَرْدَلَةٍ، وَزِنَةُ الْخَرْدَلَةِ رُبُعُ سِمْسِمَةٍ. وَيُقَالُ: الذَّرَّةُ لَا وَزْنَ لَهَا، وَإِنَّ شَخْصًا تَرَكَ رَغِيفًا حَتَّى عَلَاهُ الذَّرُّ فَوَزَنَهُ، فَلَمْ يَزِدْ شَيْئًا، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي الشَّفَاعَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ، وَهُوَ بِطُولِهِ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُهُمَا بِتَمَامِهِمَا مُتَوَالِيَيْنِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ. وَشَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُوَ الرَّمْلِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ الْوَاسِطِيِّ، وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَلَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الِاعْتِصَامِ.
9 - بَاب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}
الْمُخْتَالُ وَالْخَتَّالُ وَاحِدٌ، {نَطْمِسَ وُجُوهًا} نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ كَأَقْفَائِهِمْ، طَمَسَ الْكِتَابَ: مَحَاهُ، جَهَنَّمَ {سَعِيرًا} وُقُودًا
4582 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ يَحْيَى: بَعْضُ الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
[الحديث 4582 - أطرافه في: 5049، 5050، 5055، 5056]
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} وَقَعَ فِي الْبَابِ تَفَاسِيرُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الِاعْتِذَارَ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (الْمُخْتَالُ وَالْخَتَّالُ وَاحِدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: الْمُخْتَالُ وَالْخَالُ وَاحِدٌ وَصَوَّبَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مُخْتَالا فَخُورًا} الْمُخْتَالُ ذُو الْخُيَلَاءِ وَالْخَالُ وَاحِدٌ. قَالَ: وَيَجِيءُ مَصْدَرًا، قَالَ الْعَجَّاجُ وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجِبَالِ. قُلْتُ: وَالْخَالُ يُطْلَقُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي قَصِيدَةٍ فَبَلَغَ نَحْوًا مِنَ الْعِشْرِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُجِدَتْ قَصِيدَةٌ، تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ عِشْرِينَ أُخْرَى، وَكَلَامُ عِيَاضٍ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ لَا الْفَوْقَانِيَّةِ،
وَلِهَذَا قَالَ: كُلُّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي الْخَاءِ وَالتَّاءِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْخَتَّالُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ لَا مَعْنَى لَهُ هُنَا كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَعَّالٌ مِنَ الْخَتْلِ وَهُوَ الْعُذْرُ، وَلِأَنَّ عَيْنَهُ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ لَا فَوْقَانِيَّةٌ، وَالِاسْمُ الْخَلَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْتِلُ فِي صُورَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّكْبِيرِ وَالتَّعَاظُمِ.
قَوْلُهُ: {نَطْمِسَ وُجُوهًا} نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ كَأَقْفَائِهِمْ، طَمَسَ الْكِتَابَ مَحَاهُ) هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} أَيْ: نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ كَأَقْفَائِهِمْ، يُقَالُ لِلرِّيحِ: طَمَسَتِ الْآثَارَ، أَيْ: مَحَتْهَا، وَطَمَسَ الْكِتَابَ، أَيْ: مَحَاهُ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ: الْمُرَادُ أَنْ تَعُودَ الْأَوْجُهُ فِي الْأَقْفِيَةِ. وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ حِسًّا.
قَوْلُهُ: (بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا: وَقُودًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أَيْ: وَقُودًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِثْلَهُ.
تَنْبِيهٌ: هَذِهِ التَّفَاسِيرُ لَيْسَتْ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنَ النُّسَّاخِ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ، وَيَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ سِوَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَشَيْخِهِ كُوفِيُّونَ، فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، أَوَّلُهُمُ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (بَعْضُ الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ) أَيْ: مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ بَعْدَهُ: قَالَ الْأَعْمَشُ: وَبَعْضُ الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ، وَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِسْنَادُ عَمْرٍو مَقْطُوعٌ، وَبَعْضُ الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ. قُلْتُ: عَبَّرَ عَنِ الْمُقَتطِعِ بِالْمَقْطُوعِ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِ بِمُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مَجْهُولٌ، فَيُرِيدُ مَا حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْبَعْضَ عَنْ هَذَا وَالْبَعْضَ عَنْ هَذَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ كُلُّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَبَعْضُهُ فِي أَثْنَائِهِ أَيْضًا.
10 - بَاب {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
* صَعِيدًا} وَجْهَ الْأَرْضِ. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَتْ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا؛ فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ عُمَرُ: الْجِبْتُ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ. الشَّيْطَانُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: شَيْطَانٌ، وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ.
4583 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: هَلَكَتْ قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهَا رِجَالًا، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً، فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - يَعْنِي - آيَةَ التَّيَمُّمِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} هَذَا الْقَدرُ مُشْتَرَكٌ فِي آيَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ لَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ يُشْعِرُ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ.
قَوْلُهُ: (صَعِيدًا: وَجْهَ الْأَرْضِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} : تَيَمَّمُوا، أَيْ:
تَعَمَّدُوا. قَالَ: وَالصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّعِيدَ وَجْهُ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهَا تُرَابٌ أَمْ لَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{صَعِيدًا جُرُزًا} وَ: {صَعِيدًا زَلَقًا} وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا؛ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَى مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قَالَ: الصَّعِيدُ التُّرَابُ. وَمَنْ طَرِيقِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ. الصَّوَابُ أَنَّ الصَّعِيدَ وَجْهُ الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْغَرْسِ وَالنَّبَاتِ وَالْبِنَاءِ، وَأَمَّا الطَّيِّبُ فَهُوَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ مَنِ اشْتَرَطَ فِي التَّيَمُّمِ التُّرَابَ؛ لِأَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ: الْحَرْثُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَتِ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الطَّوَاغِيتِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَفِي هِلَالٍ وَاحِدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُ جُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَأَمَّا هِلَالٌ فَقَبِيلَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، مِنْهُمْ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: (الْجِبْتُ: السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رُسْتَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ مِنْ حَسَّانَ، وَسَمَاعِ حَسَّانَ مِنْ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ رُسْتَةَ. وَحَسَّانُ بْنُ فَائِدٍ بِالْفَاءِ عَبْسِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ، وَزَادَ: وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ فِي صُورَةُ إِنْسَانٍ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الْجِبْتُ: السَّاحِرُ، وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ، وَهَذَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِالتَّأْوِيلِ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: شَيْطَانٌ، وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلَهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْحَبَشَةِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْجِبْتَ الشَّيْطَانُ، وَالطَّاغُوتَ الْكَاهِنُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ، وَالطَّوَاغِيتُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِالْكَذِبِ. قَالَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ أَنَّ الْجِبْتَ الْكَاهِنُ، وَالطَّاغُوتَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُدْعَى كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجِبْتُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَالطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ جِنْسُ مِنْ كَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ صَنَمًا أَوْ شَيْطَانًا جِنِّيًّا أَوْ آدَمِيًّا، فَيَدْخُلُ فِيهِ السَّاحِرُ وَالْكَاهِنُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: إِنَّ الْجِبْتَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الشَّيْطَانُ، فَقَدْ وَافَقَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّاحِرِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْجِبْتُ السَّاحِرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ.
وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُمَا إِلَى وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ اللُّغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ، فَحَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَوَارُدِ اللُّغَتَيْنِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِوُقُوعِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فِيهِ كَإِبْرَاهِيمَ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ جُمْلَةٌ مِنْ هَذَا، وَتَتَبَّعَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ وَنَظَمَهُ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ يَجْمَعُهَا هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فَذَكَرَهَا، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ بَعْدَهُ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى ذَلِكَ تَقْرُبُ مِنْ عِدَّةِ مَا أَوْرَدَ، وَنَظَمْتُهَا أَيْضًا، وَلَيْسَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ هُوَ مُتَّفَقًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنِ اكْتَفَى بِإِيرَادِ مَا نُقِلَ فِي الْجُمْلَةِ فَتَبِعْتُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ إِيرَادَ الْجَمِيعِ لِلْفَائِدَةِ، فَأَوَّلُ بَيْتٍ مِنْهَا مِنْ نَظْمِي وَالْخَمْسَةُ الَّتِي تَلِيهِ لَهُ وَبَاقِيهَا لِي أَيْضًا، فَقُلْتُ:
مِنَ الْمُعَرَّبِ عَدَّ التَّاجُ (كَزَّ) وَقَدْ
…
أَلْحَقْتُ (كَدَّ) وَضَمَّتْهَا الْأَسَاطِيرُ
السَّلْسَبِيلُ وَطَهَ كُوِّرَتْ بِيَعٌ
…
رُومٌ وَطُوبَى وَسِجِّيلٌ وَكَافُورُ
وَالزَّنْجَبِيلُ وَمِشْكَاةٌ سُرَادِقُ مَعْ
…
اسْتَبْرَقٍ صَلَوَاتٌ سُنْدُسٌ طُورُ
كَذَا قَرَاطِيسُ رَبَّانِيِّهِمْ وَغَسَّا
…
قُ ثُمَّ دِينَارُ الْقِسْطَاسِ مَشْهُورُ
كَذَاكَ قَسْوَرَةٌ وَالْيَمُّ نَاشِئَةٌ
…
وَيُؤْتِ كِفْلَيْنِ مَذْكُورٌ وَمَسْطُورُ
لَهُ مَقَالِيدُ فِرْدَوْسٍ يُعَدُّ كَذَا
…
فِيمَا حَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ مِنْهُ تَنُّورُ
وَزِدْتُ حِرْمَ وَمُهْلَ وَالسِّجِلَّ كَذَا
…
السَّرِيُّ وَالْأَبُّ ثُمَّ الْجِبْتُ مَذْكُورُ
وَقِطَّنَا وَأَنَاهُ ثُمَّ مُتَّكَأً
…
دَارَسْتَ يُصْهَرُ مِنْهُ فَهْوَ مَصْهُورُ
وَهَيْتَ وَالسَّكْرَ الْأَوَّاهُ مَعْ حَصَبٍ
…
وَأَوِّبِي مَعْهُ وَالطَّاغُوتُ مَنْظُورُ
صُرُّهُنَّ اصْرِي وَغِيضَ الْمَاءُ مَعْ وَزَرَ
…
ثُمَّ الرَّقِيمُ مَنَاصٌ وَالسَّنَا النُّورُ
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِي: (كَزَّ) أَنَّ عِدَّةَ مَا ذَكَرَهُ التَّاجُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَبِقَوْلِي:(كَدَّ) أَنَّ عِدَّةَ مَا ذَكَرْتُهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَأَنَا مُعْتَرِفٌ أَنَّنِي لَمْ أَسْتَوْعِبْ مَا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ، فَقَدْ ظَفِرْتُ بَعْدَ نَظْمِي هَذَا بِأَشْيَاءَ تَقَدَّمَ مِنْهَا فِي هَذَا الشَّرْحِ الرَّحْمَنُ وَرَاعِنَا، وَقَدْ عَزَمْتُ أَنِّي إِذَا أَتَيْتُ عَلَى آخِرِ شَرْحِ هَذَا التَّفْسِيرِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أُلْحِقُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةٍ فِي ذَلِكَ مَنْظُومًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي سُقُوطِ عِقْدِهَا، وَنُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ.
11 - بَاب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذَوِي الْأَمْرِ
4584 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذَوِي الْأَمْرِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ: أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، ذَوِي الْأَمْرِ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَزَادَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ وَاحِدَهَا ذُو أَيْ: وَاحِدٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَحْدَهُ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا سُنَيْدٌ وَهُوَ ابْنُ دَاوُدَ الْمِصِّيصِيُّ وَاسْمُهُ الْحُسَيْنُ، وَسُنَيْدٌ لَقَبٌ، وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَلَهُ تَفْسِيرٌ مَشْهُورٌ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ كَانَ ابْنُ السَّكَنِ حَفِظَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَاقْتَصَرَ الْأَكْثَرُ عَلَى صَدَقَةَ لِإِتْقَانِهِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ السَّكَنِ عَلَى سُنَيْدٍ بِقَرِينَةِ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ سُنَيْدًا أَلْزَمَ حَجَّاجًا - يَعْنِي حَجَّاجَ بْنَ مُحَمَّدٍ شَيْخَهُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى تَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ، وَعَابَهُ بِذَلِكَ وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبَ فِي تَضْعِيفِ مَنْ ضَعَّفَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ) كَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَالْمَعْنَى نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، أَيِ: الْمَقْصُودُ مِنْهَا فِي قِصَّتِهِ قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الْآيَةَ، وَقَدْ غَفَلَ الدَّاوُدِيُّ عَنْ هَذَا الْمُرَادِ فَقَالَ: هَذَا وَهَمٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ خَرَجَ عَلَى جَيْشٍ فَغَضِبَ فَأَوْقَدُوا نَارًا، وَقَالَ: اقْتَحِمُوهَا فَامْتَنَعَ بَعْضٌ، وَهَمَّ بَعْضٌ أَنْ يَفْعَلَ. قَالَ: فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلُ فَكَيْفَ يُخَصُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ بِالطَّاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدُ فَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَمَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَ لَمْ تُطِيعُوا؟ انْتَهَى. وَبِالْحَمْلِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ، وَيَنْتَفِي الْإِشْكَالُ الَّذِي أَبْدَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يُطِيعُوهُ وَقَفُوا عِنْدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالَّذِينَ امْتَنَعُوا عَارَضَهُ عِنْدَهُمُ الْفِرَارُ مِنَ النَّارِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْزِلَ فِي ذَلِكَ مَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَهُوَ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَيْ: إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي جَوَازِ الشَّيْءِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ فَارْجِعُوا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ جَرَتْ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ خَالِدٌ أَمِيرًا، فَأَجَارَ عَمَّارٌ رَجُلًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَتَخَاص مَا فَنَزَلَتْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ وَالِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ أَمِيرِهَا فِي الْمَغَازِي بَعْدَ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِقَلِيلٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِأُولِي الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَغَيْرِهِ نَحْوَهُ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَصَحَّ مِنْهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمُ الصَّحَابَةُ، وَهَذَا أَخَصُّ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَارَةَ وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى أَمِيرٍ، فَأُمِرُوا بِالطَّاعَةِ لِمَنْ وَلِيَ الْأَمْرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ حَمْلَهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
4585 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنْ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُه، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
قَوْلُهُ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} سَقَطَ (بَابُ) لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الزُّبَيْرِ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي خَاصَمَهُ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشِّرْبِ، بَيَّنْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ عَلَى
عُرْوَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ هُنَا: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكِ بِفَتْحِ أَنْ لِلْجَمِيعِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ: وَأَنْ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: آنَ بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَهِيَ الِاسْتِفْهَامُ.
13 - بَاب {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}
4586 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَوْلُهُ: فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الَّتِي قُبِضَ فِيهَا.
14 - بَاب {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} - إلى - الظالم أهلها
4587 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ.
4588 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلَا:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:{حَصِرَتْ} ضَاقَتْ، {تَلْوُوا} أَلْسِنَتَكُمْ: بِالشَّهَادَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَاغَمُ: الْمُهَاجَرُ، رَاغَمْتُ: هَاجَرْتُ قَوْمِي، {مَوْقُوتًا} مُوَقَّتًا وَقْتَهُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} - إِلَى - {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} وَلِأَبِي ذَرٍّ: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الْآيَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، أَيْ: وَفِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ: عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: وَفِي خَلَاصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ: مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَأَرَادَ حِكَايَةَ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأُمُّهُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الرِّجَالِ أَحَدًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ: أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَلَا.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ) أَيْ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ قُلْتُ: وَاسْمُ أُمِّهِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، أُمُّ الْفَضْلِ، أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ مِنْ أَبَوَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَصِرَتْ: ضَاقَتْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ؛ قَالَ: ضَاقَتْ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ: (حَصِرَت صُدُورُهُمْ) بِالرَّفْعِ، حَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَيْ: أَحْصَرَ اللَّهُ صُدُورَهُمْ، كَذَا قَالَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ، وَقَصَدَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ.
قَوْلُهُ: (تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} قَالَ: تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِشَهَادَةٍ، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَنْ تُدَخِلَ فِي شَهَادَتِكِ مَا يُبْطِلُهَا أَوْ تُعْرِضَ عَنْهَا فَلَا تَشْهَدُهَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ: وَأَنْ تَلُوا بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ، وَصَوَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْبَاقِينَ، وَاحْتَجَّ بِتَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلْوِلَايَةِ هُنَا مَعْنًى. وَأَجَابَ الْفَرَّاءُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى اللَّيِّ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةَ قُلِبَتْ هَمْزَةً ثُمَّ سُهِّلَتْ. وَأَجَابَ الْفَارِسِيُّ بِأَنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنَ الْوِلَايَةِ، وَالْمُرَادُ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ إِقَامَةَ الشَّهَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَاغِمُ: الْمُهَاجَرُ، رَاغَمْتُ هَاجَرْتُ قَوْمِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} وَالْمُرَاغَمُ: الْمُهَاجَرُ وَاحِدٌ تَقُولُ: هَاجَرْتُ قَوْمِي، وَرَاغَمْتُ قَوْمِي، قَالَ الْجَعْدِيُّ: عَزِيزُ الْمُرَاغَمِ وَالْمَهْرَبِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{مُرَاغَمًا} قَالَ: مُتَحَوَّلًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (مَوْقُوتًا مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ) لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ؛ أَيْ: مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(مَوْقُوتًا) قَالَ: مَفْرُوضًا.
15 - بَاب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَدَّدَهُمْ، فِئَةٌ: جَمَاعَةٌ
4589 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ؛ فَرِيقٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُمْ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: لَا، فَنَزَلَتْ:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وَقَالَ: إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ.
أَذَاعُوا بِهِ أَفْشَوْهُ. يَسْتَنْبِطُونَهُ: يَسْتَخْرِجُونَهُ. حَسِيبًا: كَافِيًا. إِلَّا إِنَاثًا: يَعْنِي الْمَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا وَمَا أَشْبَهَهُ. مَرِيدًا: مُتَمَرِّدًا. فَلَيُبَتِّكُنَّ: بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ. قِيلًا وَقَوْلًا وَاحِدٌ. طَبَعَ: خَتَمَ
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَدَّدَهُمْ)، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا قَالَ: بَدَّدَهُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْقَعَهُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: أَهْلَكَهُمْ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ؛ لِأَنَّ الرِّكْسَ الرُّجُوعُ، فَكَأَنَّهُ
رَدَّهُمْ إِلَى حُكْمِهِمُ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (فِئَةٌ: جَمَاعَةٌ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} قَالَ: الْأُخْرَى كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} قَالَ: الْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَدِيٍّ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) هُوَ الْخَطْمِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ سُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ.
قَوْلُهُ: (رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أُحُدٍ) هُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي مُسْتَوْفًى، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ:(خَبَثَ الْفِضَّةِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ: خَبَثَ الْحَدِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: تَنْفِي الْخَبَثَ، فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أَيْ: أَفْشَوْهُ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(أَذَاعُوا بِهِ) أَيْ: أَفْشَوْهُ.
قَوْلُهُ: (يَسْتَنْبِطُونَهُ: يَسْتَخْرِجُونَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: يَسْتَخْرِجُونَهُ، يُقَالُ لِلرَّكِيَّةِ إِذَا اسْتُخْرِجَ مَاؤُهَا هِيَ نَبَطٌ إِذَا أَمَاهَهَا.
قَوْلُهُ: (حَسِيبًا: كَافِيًا) وَقَعَ هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا إِنَاثًا يَعْنِي الْمَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا أَوْ مَا أَشْبَهَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} ؛ إِلَّا الْمَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوَاتِ ضِدُّ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ لَهَا إِنَاثٌ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهَا مَنَاةَ وَاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَإِسَافَ وَنَائِلَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّافَّاتِ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَوْلُهُ: (مَرِيدًا مُتَمَرِّدًا) وَقَعَ هَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَمَعْنَاهُ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَرِيدًا قَالَ: مُتَمَرِّدًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: {فَلَيُبَتِّكُنَّ} بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} يُقَالُ: بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كَانُوا يُبَتِّكُونَ آذَانَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ.
قَوْلُهُ: (قِيلَا وَقَوْلًا وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} ؛ وَقِيلًا وَقَوْلًا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (طَبَعَ: خَتَمَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ؛ أَيْ: خَتَمَ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ آثَارًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَدِيثًا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَجَرَ نِسَاءَهُ وَشَاعَ أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ، وَأَنَّ عُمَرَ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، لَكِنْ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهَا بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
16 - بَاب وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
4590 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ؛ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} يُقَالُ: نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ ضبَابَةَ. وَكَانَ أَسْلَمَ هُوَ وَأَخُوهُ هِشَامٌ، فَقَتَلَ هِشَامًا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غِيلَةً فَلَمْ يُعْرَفْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَى مِقْيَسٍ دِيَةَ أَخِيهِ فَفَعَلُوا، فَأَخَذَ الدِّيَةَ وَقَتَلَ الرَّسُولَ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا، فَنَزَلَتْ فِيهِ، وَهُوَ مِمَّنْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) لِشُعْبَةَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ وَهُوَ مَنْصُورٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
قَوْلُهُ: (آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا) سَقَطَ لَفْظُ آيَةٍ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِيهِ فِي الْفُرْقَانِ، وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْفُرْقَانِ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَرَحَلْتُ بِالرَّاءِ وَالْمُهْمَلَةِ وَهِيَ أَصْوَبُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ أَيْ: فِي شَأْنِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا بِالنِّسْبَةِ لِآيَةِ الْفُرْقَانِ.
17 - بَاب {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ؛ السَّلَمُ وَالسَّلَامُ وَالسِّلْمُ وَاحِدٌ
4591 -
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ:{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ. قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّلَامَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} السَّلَمُ وَالسَّلَامُ وَالسِّلْمُ وَاحِدٌ) يَعْنِي أَنَّ الْأَوَّلَ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالثَّالِثَ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ، فَالْأَوَّلُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَالثَّانِي قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَالثَّالِثُ قِرَاءَةٌ رُوِيَتْ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ، فَأَمَّا الثَّانِي فَمِنَ التَّحِيَّةِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمِنَ الِانْقِيَادِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ كَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَقَتَلُوهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ: وَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا.
قَوْلُهُ: (وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ) فِي رِوَايَةِ سِمَاكٍ: وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةً أُخْرَى قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ، فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا، وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا تَسْمِيَةُ الْقَاتِلِ، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ وَاللَّفْظُ لِلْكَلْبِيِّ، أَنَّ اسْمَ الْمَقْتُولِ مِرْدَاسُ بْنُ نَهَيْكٍ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَأَنَّ اسْمَ الْقَاتِلِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ اسْمَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةِ اللَّيْثِيُّ، وَأَنَّ قَوْمَ مِرْدَاسٍ لَمَّا انْهَزَمُوا بَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ، وَكَانَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ بِجَبَلٍ، فَلَمَّا لَحِقُوهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَكَذَا
أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ، وَفِي آخِرِ رِوَايَةِ قَتَادَةَ: لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ السَّلَامُ بِهَا يَتَعَارَفُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} فِي مِرْدَاسٍ وَهَذَا شَاهِدٌ حَسَنٌ.
وَوَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْءٌ آخَرُ، فَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، فَمَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ أَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ هَذَا، وَزَادَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَامِرٍ، وَمُحَلِّمٍ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذِهِ عِنْدِي قِصَّةٌ أُخْرَى، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا. قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:(قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّلَامَ) هُوَ مَقُولُ عَطَاءٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ شَيْئًا مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَحِلَّ دَمُهُ حَتَّى يُخْتَبَرَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَتْ هَذِهِ عَلَامَةً. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ السَّلَمِ عَلَى اخْتِلَافِ ضَبْطِهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ، وَهُوَ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ فِي اللُّغَةِ الِانْقِيَادُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى تَفَاصِيلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
18 - بَاب {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
4592 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهْوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ - وَكَانَ أَعْمَى - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
4593 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا فَكَتَبَهَا فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} "
4594 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوا فُلَانًا فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ أَوْ الْكَتِفُ فَقَالَ اكْتُبْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَخَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "
4595 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْر"
قَوْلُهُ: (بَابُ {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ:{وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَاخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَةُ فِي: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْقَاعِدُونَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ) كَذَا قَالَ صَالِحٌ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَخَالَفَهُمَا مَعْمَرٌ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ) أَيِ ابْنِ أَبِي الْعَاصِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ خَلِيفَةً.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَةُ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمُ الصُّحبَةِ، وَالْأَوْلَى مَا قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ عَامِ أُحُدٍ، وَقِيلَ: عَامَ الْخَنْدَقِ، وَثَبَتَ عَنْ مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا طَلَبَ الْخِلَافَةَ فَذَكَرُوا لَهُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَيْسَ ابْنُ عُمَرَ بِأَفْقَهَ مِنِّي، وَلَكِنَّهُ أَسَنُّ مِنِّي، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ. فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِعَدَمِ صُحْبَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْهُ مُمْكِنًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى أَبَاهُ إِلَى الطَّائِفِ فَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا عُثْمَانُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ مَقْرُونَةً بِالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَنَبَّهْتُ هُنَاكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فِي رِوَايَةِ قَبِيصَةَ الْمَذْكُورَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنِّي لَقَاعِدٌ إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ، فَوَضَعَ فَخِذَهُ عَلَى فَخِذِي، قَالَ زَيْدٌ: فَلَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَطُّ أَثْقَلَ مِنْهَا، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَ هَذَا: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لِي فُلَانًا، فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ وَالْكَتِفُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي الْبَابِ أَيْضًا: دَعَا زَيْدًا فَكَتَبَهَا فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ كَادَتْ أَنْ تَنْزِلَ لِتَصْرِيحِ رِوَايَةِ خَارِجَةَ بِأَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بِحَضْرَةِ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) فِي رِوَايَةِ قَبِيصَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَقَدْ نَبَّهَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَمْرٌو، وَأَنَّ اسْمَ أَبِيهِ زَائِدَةُ وَأَنَّ أُمَّ مَكْتُومٍ أُمُّهُ. قُلْتُ: وَاسْمُهَا عَاتِكَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يُمِلُّهَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُوَ مِثْلُ يُمْلِيهَا، يُمْلِي وَيُمْلِلْ بِمَعْنًى، وَلَعَلَّ الْيَاءَ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مَعَكَ لَجَاهَدْتُ) أَيْ: لَوِ اسْتَطَعْتُ، وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِمْرَارِ وَاسْتِحْضَارًا
لِصُورَةِ الْحَالِ، قَالَ: وَكَانَ أَعْمَى، هَذَا يُفَسِّرُ مَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: فَشَكَا ضَرَارَتَهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ: فَقَالَ: أَنَا ضَرِيرٌ وَفِي رِوَايَةِ خَارِجَةَ: فَقَامَ حِينَ سَمِعَهَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - وَكَانَ أَعْمَى - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِمَّنْ هُوَ أَعْمَى وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ قَبِيصَةَ: فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنْ بِي مِنَ الزَّمَانَةِ مَا تَرَى؛ ذَهَبَ بَصَرِي.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي) أَيْ: تَدُقَّهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ سُرِّيَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ: كُشِفَ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فِي رِوَايَةِ قَبِيصَةَ: ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَزَادَ فِي رِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فَوَاللَّهِ، لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ كَانَ فِي الْكَتِفِ.
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأَبُو سِنَانٍ اسْمُهُ ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ إِلَّا أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ كَذَا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَأَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشِ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَمِسْعَرٍ ثَمَانِيَّتُهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (ادْعُوا فُلَانًا) كَذَا أَبْهَمَهُ إِسْرَائِيلُ فِي رِوَايَتِهِ وَسَمَّاهُ غَيْرُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (وَخَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الَّتِي قَبْلَهَا: دَعَا زَيْدًا فَكَتَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَاءَ أَنَّهُ قَامَ مِنْ مَقَامِهِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ مُوَاجِهَهُ فَخَاطَبَهُ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُقَالُ: إِنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ وَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ الْقَلَمُ.
قَوْلُهُ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَقْتَصِرِ الرَّاوِي فِي الْحَالِ الثَّانِي عَلَى ذِكْرِ الْكَلِمَةِ الزَّائِدَةِ، وَهِيَ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فَقَطْ، فَكَأَنَّهُ رَأَى إِعَادَةَ الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى يَتَّصِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ نَزَلَ بِإِعَادَةِ الْآيَةِ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِدُونِهَا، فَقَدْ حَكَى الرَّاوِي صُورَةَ ال حَالِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ فَفِيهَا: ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ:{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَفِي حَدِيثِ الْفَلَتَانِ - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَبِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ - ابْنِ عَاصِمٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَقَالَ الْأَعْمَى: مَا ذَنْبُنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَخَافَ أَنْ يَنْزِلَ فِي أَمْرِهِ شَيْءٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَوَقَعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِيَ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
الْحَدِيثُ الْثَالِثُ: قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَأَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثُمَّ رَأَيْتُ فِي أَصْلِ النَّسَفِيِّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، لِأَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ حَدَّثَنَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنَّهُ الْجَزَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ) أَمَّا مِقْسَمٌ فَتَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ فَهُوَ ابْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَبِيهِ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ وَلَهُ هُوَ رُؤْيَةٌ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بَبَّةَ بِمُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ الثَّانِيَةُ ثَقِيلَةٌ.
قَوْلُهُ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَظَنَّ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِحَدِيثَيْ سَهْلِ وَالْبَرَاءِ فَقَالَ: الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِي الشَّيْءِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا مِثْلَهُ، وَزَادَ: لَمَّا نَزَلَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَيَانِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَنَا رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ:{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} فَهَؤُلَاءِ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ} عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا، وَمِنْ قَوْلِهِ: دَرَجَةً إِلَخْ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بَيَّنَهُ الطَّبَرِيُّ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: دَرَجَةً وَوَقَعَ عِنْدَهُ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ وَهُوَ الصَّوَابُ فِي ابْنِ جَحْشٍ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخُوهُ، وَأَمَّا هُوَ فَاسْمُهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ.
ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ} قَالَ: عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَحَاصِلُ تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَأَمَّا أُولُو الضَّرَرِ فَمُلْحَقُونَ فِي الْفَضْلِ بِأَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً؛ أَيْ: مِنْ أُولِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ} أَيْ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَنَسٍ، وَلَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنِ اسْتِوَاءِ أُولِي الضَّرَرِ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ؛ لِأَنَّهَا اسْتَثْنَتْ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، فَأَفْهَمَتْ إِدْخَالَهُمْ فِي الِاسْتِوَاءِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ لَا فِي؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْجِهَادِ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا اتِّخَاذُ الْكَاتِبِ، وَتَقْرِيبُهُ، وَتَقْيِيدُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابَةِ.
4596 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْأَسْوَدِ قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْتِي السَّهْمُ يرمى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ. رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ.
[الحديث 4596 - طرفه في: 7085]
قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى:{فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَلَيْسَ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَفْظُ: بَابُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَيْوَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيُّ، يُكَنَّى أَبَا زُرْعَةَ.
قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُ) هُوَ ابْنُ لَهِيعَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنِ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ وَحْدَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِسْحَاقَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْمُقْرِئِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ الْأَسَدِيُّ يَتِيمُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (قُطِعَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (بَعْثَ) أَيْ: جَيْشَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُلْزِمُوا بِإِخْرَاجِ جَيْشٍ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (فَاكْتُتِبْتُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ عَلَى ال بِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ) سُمِّيَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَةِ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:، قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَذَكَرَ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَهُمْ شَكٌّ، وَقَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ فِيهِمُ الْحَارِثَ بْنَ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَكَذَا ذَكَرَهُمَا ابْنُ إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (يُرْمَى بِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) هَكَذَا جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرِيِّ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ، فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَحَزِنُوا، فَنَزَلَتْ:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ، فَنَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ بِدُونِ قِصَّةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ إِلَّا اللَّيْثُ، وَابْنُ لَهِيعَةَ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَيْوَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ لَهِيعَةَ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ عِكْرِمَةَ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ؛ لِأَنَّهُ بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْثِيرِ سَوَادِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ. وَغَرَضُ عِكْرِمَةَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُرِيدُونَ بِقُلُوبِهِمْ مُوَافَقَتَهُمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ أَنْتَ، لَا تُكَثِّرُ سَوَادَ هَذَا الْجَيْشِ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ مُوَافَقَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ:{فِيمَ كُنْتُمْ} سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وَاسْتَنْبَطَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبَ الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْمَعْصِيَةِ.
4597 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ: كَانَتْ أُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الْآيَةَ) فِيهِ مَعْذِرَةُ مَنِ اتَّصَفَ بِالِاسْتِضْعَافِ مِنَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سِيَاقِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ عَنْهُمْ.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
21 - بَاب {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
4598 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ: اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ:(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَهُوَ خَطَأٌ مِنَ النُّسَّاخِ بِدَلِيلِ وُقُوعِهِ عَلَى الصَّوَابِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ} وَهِيَ التِّلَاوَةُ. وَوَقَعَ فِي تَنْقِيحِ الزَّرَكْشِيِّ هُنَا: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا. قُلْتُ: لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ.
ثُمَّ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الِاسْتِسْقَاءِ.
4599 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ جَرِيحًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي: بَابُ قَوْلِهِ: وَلَا جُنَاحَ، إِلَخْ وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ بَابُ وَزَادُوا:{أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}
قَوْلُهُ: (حَجَّاجُ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، وَيَعْلَى هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ جَرِيحًا) فِي رِوَايَةٍ: كَانَ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ مُخْتَصَرًا، وَمَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ: كَانَ جَرِيحًا أَيْ: فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ هَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولُ: مَنْ كَانَ جَرِيحًا فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، فَكَانَ عَطْفُ الْجَرِيحِ عَلَى الْمَرِيضِ إِلْحَاقًا بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، أَوْ لِأَنَّ الْجَرْحَ نَوْعٌ مِنَ الْمَرَضِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ مَقُولَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ جَرِيحًا وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} رَخَّصَ لَهُمْ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ لِثِقَلِهَا عَلَيْهِمْ
بِسَبَبِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَطَرِ أَوِ الْمَرَضِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَخْذِ الْحَذَرِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْفُلُوا فَيَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ.
4600 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عن أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا، فَأَشْرَكَتْهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا، فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَهُ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَمْلِي: بَابُ يَسْتَفْتُونَكَ وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ: بَابُ وَقَوْلُهُ: يَسْتَفْتُونَكَ أَيْ: يَطْلُبُونَ الْفُتْيَا، أَوِ الْفَتْوَى، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: جَوَابُ السُّؤَالِ عَنِ الْحَادِثَةِ الَّتِي تُشْكِلُ عَلَى السَّائِلِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَتْيِ، وَمِنْهُ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْقَوِيُّ.
ثم ذكر حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فَتُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ لِجَابِرِ بِنْتُ عَمٍّ دَمِيمَةٌ وَلَهَا مَالٌ وَرِثَتْهُ عَنْ أَبِيهَا، وَكَانَ جَابِرٌ يَرْغَبُ عَنْ نِكَاحِهَا وَلَا يُنْكِحُهَا خَشْيَةَ أَنْ يَذْهَبَ الزَّوْجُ بِمَالِهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ.
24 - بَاب {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِقَاقٌ: تَفَاسُدٌ، {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} قال: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ، {كَالْمُعَلَّقَةِ} لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ، {نُشُوزًا} بُغْضًا
4601 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِقَاقٌ: تَفَاسُدٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الشِّقَاقُ: الْعَدَاوَةُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ فِي شِقٍّ خِلَافَ شِقِّ صَاحِبِهِ.
قَوْلُهُ: {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} قَالَ: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {كَالْمُعَلَّقَةِ} لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} قَالَ: لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ، انْتَهَى، وَالْأَيِّمُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هِيَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا.
قَوْلُهُ: {نُشُوزًا} بُغْضًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} قَالَ: يَعْنِي الْبُغْضَ،
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النُّشُوزُ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَهُوَ هُنَا مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا) أَيْ: فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُلَازَمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ) أَيْ: وَتَتْرُكُنِي مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَمْلِي: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الْآيَةَ، وَعَنْ عَلِيٍّ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ تَكْرَهُ مُفَارَقَتَهُ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَى أَنْ يَجِيئَهَا كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً، فَآثَرَ الْبِكْرَ عَلَيْهَا، فَنَازَعَتْهُ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ شِئْتِ رَاجَعْتُكِ وَصَبَرْتِ، فَقَالَتْ: رَاجِعْنِي، فَرَاجَعَهَا، ثُمَّ لَمْ تَصْبِرْ فَطَلَّقَهَا قَالَ: فَذَلِكَ الصُّلْحُ الَّذِي بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تُطَلِّقْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قُلْتُ: وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِدُونِ ذِكْرِ نُزُولِ الْآيَةِ.
25 - بَاب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْفَلَ النَّارِ. {نَفَقًا} سَرَبًا
4602 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ، قَالَ الْأَسْوَدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَرَمَانِي بِالْحَصَا، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ، لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ: بَابُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْفَلُ النَّارِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ: أَسْفَلَ النَّارِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: عَذَابُ الْمُنَافِقِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الْكَافِرِ؛ لِاسْتِهْزَائِهِ بِالدِّينِ.
قَوْلُهُ: {نَفَقًا} سَرَبًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَيْسَتْ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِهَا هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى اشْتِقَاقِ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ إِظْهَارُ غَيْرِ مَا يُبْطِنُ، كَذَا وَجَّهَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِمَّا قَالُوهُ فِي اشْتِقَاقِ النِّفَاقِ أَنَّهُ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبِ، حَكَاهُ فِي النِّهَايَةِ.
قَوْلُهُ: (إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ خَالُهُ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ حُذَيْفَةُ) هُوَ ابْنُ الْيَمَانِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ) أَيِ: ابْتُلُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ طَبَقَةِ الصَّحَابَةِ، فَهُمْ خَيْرٌ مِنْ طَبَقَةِ التَّابِعِينَ، لَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ فَارْتَدُّوا وَنَافَقُوا فَذَهَبَتِ الْخَيْرِيَّةُ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَابَ فَعَادَتْ لَهُ الْخَيْرِيَّةُ، فَكَأَنَّ حُذَيْفَةَ حَذَّرَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ وَأَشَارَ لَهُمْ أَنْ لَا يَغْتَرُّوا؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ، فَحَذَّرَهُمْ مِنَ
الْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَاتِمَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْوُثُوقِ بِإِيمَانِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْمَنُوا مَكْرَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الطَّبَقَةَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الصَّحَابَةُ كَانُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ وُجِدَ بَيْنَهُمْ مَنِ ارْتَدَّ وَنَافَقَ، فَالطَّبَقَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَمْكَنُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنَّهُ تَبَسَّمَ تَعَجُّبًا مِنْ صِدْقِ مَقَالَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَرَمَانِي) أَيْ: حُذَيْفَةُ رَمَى الْأَسْوَدَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ) أَيْ: مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ، أَيْ: فَهِمَ مُرَادِي وَعَرَفَ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: رَجَعُوا عَنِ النِّفَاقِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَالنِّفَاقَ كُلٌّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} صِحَّةُ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَقَبُولُهَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
26 - بَاب {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ}
4603 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
4604 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ:{وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، لَكِنْ سَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بَابُ.
قَوْلُهُ: (مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ: لِعَبْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ) يَحْتَمِلُ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَبْدَ الْقَائِلَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَهُ تَوَاضُعًا، وَدَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِيَ حَدِيثَيِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ كَذَبَ) أَيْ: إِذَا قَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ أَوْ ابْنٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ
4605 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ:{يَسْتَفْتُونَكَ}
قَوْلُهُ: (بَابُ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} سَاقُوا الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وَسَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَسْتَفْتُونَكَ) أَيْ: عَنْ مَوَارِيثِ الْكَلَالَةِ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}
قَوْلُهُ: (وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ وَلَا ابْنٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: مَا رَأَيْتُهُمْ إِلَّا تَوَاطَئُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ هُوَ أَبُو مَيْسَرَةَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ) أَيْ: تَعَطَّفَ النَّسَبُ عَلَيْهِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: كَأَنَّهُ أَخَذَ طَرَفَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمَا أَحَدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، قَالُوا: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ، كَأَنَّ الْوَرَثَةَ أَحَاطُوا بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا ابْنٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَّ يَكِلُّ، يُقَالُ: كَلَّتِ الرَّحِمُ إِذَا تَبَاعَدَتْ وَطَالَ انْتِسَابُهَا. وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ، وَزَادَ الدَّاوُدِيُّ: وَوَلَدُ الْوَلَدِ، وَقِيلَ: مَنْ سِوَى الْوَالِدِ، وَقِيلَ: هُمُ الْإِخْوَةُ، وَقِيلَ: مِنَ الْأُمِّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ كَلَالَةً، وَسُمِّيَ الْوَارِثُ كَلَالَةً، وَسُمِّيَ الْإِرْثُ كَلَالَةً. وَعَنْ عَطَاءٍ: الْكَلَالَةُ هِيَ الْمَالُ، وَقِيلَ: الْفَرِيضَةُ، وَقِيلَ: الْوَرَثَةُ وَالْمَالُ، وَقِيلَ: بَنُو الْعَمِّ وَنَحْوُهُمْ، وَقِيلَ: الْعَصَبَاتُ وَإِنْ بَعُدُوا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَقُلْ فِي الْكَلَالَةِ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَخِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَآخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ فَذَكَرَهَا. وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَيْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ: أَحْسِنْ. قُلْتُ: بِالشَّطْرِ. قَالَ: أَحْسِنْ. ثُمَّ خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: لَا أُرَاكَ تَمُوتُ مِنْ وَجَعِكَ هَذَا، إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ وَبَيَّنَ مَا لِأَخَوَاتِكَ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} قُلْتُ: وَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى لِجَابِرٍ غَيْرُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْمُسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ: لَا تَرِثُ الْأُخْتُ إِلَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} قَالَ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ، {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [8/ 118] كَذَا قَالَ، وَسَأَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْفَرَائِضِ.
5 -
الْمَائِدَةِ
1 - بَاب {حُرُمٌ} واحِدُهَا: حَرَامٌ، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} بِنَقْضِهِمْ، {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} جَعَلَ اللَّهُ،
تَبُوءُ: تَحْمِلُ، {دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْإِغْرَاءُ: التَّسْلِيطُ، {أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ، {الْمُهَيْمِنُ} الْأَمِينُ، الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُورَةُ الْمَائِدَةِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْمَائِدَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ: مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَقِيلَ عَلَى بَابِهَا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ مُبَيَّنًا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَاحِدُهَا: حَرَامٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: حَرَامٌ بِمَعْنَى مُحْرِمٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابِ بِإِسْكَانِهَا وَهِيَ لُغَةٌ كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ.
قَوْلُهُ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} : بِنَقْضِهِمْ) هُوَ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أَيْ: فَبِنَقْضِهِمْ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ مَا فِي كَلَامِهِمْ تَوْكِيدًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَبْلَهَا يُجَرُّ أَوْ يُرْفَعُ أَوْ يُنْصَبُ
عَمِلَ فِيمَا بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَا قَوْمِ ادْخُلُوا {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ وَقَضَى، وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَتَبَ لَكُمْ، أَيْ: وَهَبَ لَكُمْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَدَّرَهَا لِسُكْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ لَمْ يَسْكُنُوهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُهُمْ، بَلْ قَدْ سَكَنَهَا بَعْضُ أُولَئِكَ كَيُوشَعَ وَهُوَ مِمَّنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ قَطْعًا.
قَوْلُهُ: {تَبُوءَ} تَحْمِلَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أَيْ: تَحْمِلَ إِثْمِي وَإِثْمَكَ. قَالَ: وَلَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ: تَبُوءَ، أَيْ: تُقِرَّ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ} أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتُكَ وَدَمِي، قَالَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِثْمِي، أَيْ: إِثْمُ قَتْلِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَتْلَ يَمْحُوَ خَطَايَا الْمَقْتُولِ، وَتُحْمَلُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يُوَفَّى مِنْهَا الْمَقْتُولُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْإِغْرَاءُ: التَّسْلِيطُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَلَمْ أَعْرِفِ الْغَيْرَ وَلَا مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِنَقْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحَدٍ، نَعَمْ سَقَطَ: وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَأَنَّهُ أَصْوَبُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَقَالَ غَيْرُ مَنْ فَسَّرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ بِالْإِجَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَخْمَصَةٌ: مَجَاعَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْإِغْرَاءُ: التَّسْلِيطُ. وَهَذَا أَوْجَهُ. وَتَفْسِيرُ الْمَخْمَصَةِ وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْأُخْرَى بَعْدَ هَذَا، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي وَضْعِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ وَقَعَ مِمَّنْ نَسَخَ كِتَابَ الْبُخَارِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ غَالِبًا. وَتَفْسِيرُ الْإِغْرَاءِ بِالتَّسْلِيطِ يُلَازِمُ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ. لأن حَقِيقَةُ الْإِغْرَاءِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّهْيِيجُ لِلْإِفْسَادِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(وأَغْرَيْنَا) قَالَ: أَلْقَيْنَا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِمَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: {أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (الْمُهَيْمِنُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ) أَوْرَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَرْبَدَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ: {وَمُهَيْمِنًا} مُفَيْعِلٌ مِنْ أَيْمَنَ قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ هَاءً، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ثَعْلَبٌ فَبَالَغَ حَتَّى نَسَبَ قَائِلَهُ إِلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُهَيْمِنَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُصَغَّرُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مُبْدَلًا مِنْ شَيْءٍ، وَأَصْلُ الْهَيْمَنَةِ الْحِفْظُ وَالِارْتِقَابُ تَقُولُ: هَيْمَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا صَارَ رَقِيبًا عَلَيْهِ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ إِلَّا أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: مُبَيْطِرٌ وَمُسَيْطِرٌ وَمُهَيْمِنٌ وَمُبَيْقِرٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ فَقَدْ أَخَلَّ بِالْجَمِيعِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَطْلَقَ كَوْنَهَا أَشَدَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا كَانَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْإِصْرِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ، فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَحْبَارِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَتُؤْمِنُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنَّهَا حَقٌّ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ كَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ بِبَيَانِهِ، فَأَنَا أَبْرَأُ مِمَّا أَحْدَثْتُمُوهُ. قَالُوا: فَإِنَّا نَتَمَسَّكُ بِمَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ أَيِ الْقُرْآنُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} الْآيَةَ.
(تَنْبِيهٌ): سُفْيَانُ الْمَذْكُورُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ الثَّوْرِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ لِي إِلَى الْآنَ مَوْصُولًا.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} يَعْنِي مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقِّ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سَبِيلًا وَسُنَّةً) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أَيْ: سُنَّةً {وَمِنْهَاجًا} أَيْ: سَبِيلًا بَيِّنًا وَاضِحًا.
قَوْلُهُ: {عُثِرَ} ظَهَرَ. {الأَوْلَيَانِ} وَاحَدُهَمَا أَوْلَى) أَيْ: أَحَقُّ بِهِ طَعَامُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، كَذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَصَايَا إِلَّا الْأَخِيرَ فَسَيَأْتِي فِي الذَّبَائِحِ.
2 - بَاب {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقال ابن عباس: {مَخْمَصَةٍ} مجاعة
4606 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: قَالَتْ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَتْ؛ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَخْمَصَةٍ: مَجَاعَةٍ) كَذَا ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ قَيْسٍ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَتِ الْيَهُودُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ قَيْسٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُ هُنَاكَ وَأَنَّهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي حَيْثُ أَفْرَدَ السَّائِلَ أَرَادَ تَعْيِينَهُ، وَحَيْثُ جَمَعَ أَرَادَ بِاعْتِبَارِ مَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى كَعْبٍ هَذِهِ الصِّفَةَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ سُؤَالَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ) وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ: فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ آيَةٍ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (حَيْثُ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ حَيْثُ أُنْزِلَتْ وَأَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ. وَبِهَا يَظْهَرُ أَنْ لَا تَكْرَارَ فِي قَوْلِهِ حَيْثُ وَأَيْنَ، بَلْ أَرَادَ بِإِحْدَاهُمَا الْمَكَانَ وَبِالْأُخْرَى الزَّمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ: حِينَ بَدَلَ حَيْثُ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَتْ، أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ بِتَكْرَارِ: أُنْزِلَتْ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ. وَبُنْدَارٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا) قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجَزْمُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَسَيَأْتِي الْجَزْمُ بِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، عَنْ قَيْسٍ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ مُطَابَقَةِ جَوَابِ عُمَرَ لِلسُّؤَالِ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ اتِّخَاذِهِ عِيدًا، فَأَجَابَ بِنُزُولِهَا بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَكِلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَجَابَ بِأَنَّ النُّزُولَ كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَ عَرَفَةَ هُوَ عِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
جَعَلْنَاهُ عِيدًا بَعْدَ إِدْرَاكِنَا اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ يَوْمَ النُّزُولِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعِيدُ إِلَّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ نَهَارًا تَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، انْتَهَى. وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمُ عِيدٍ يُغْنِي عَنْ هَذَا التَّكَلُّفِ؛ فَإِنَّ الْعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُلِّ عَامٍ. وَقَدْ نَقَلَ الْكَرْمَانِيُّ، عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْعِيدَ هُوَ السُّرُورُ الْعَائِدُ وَأَقَرَّ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ شُرِعَ تَعْظِيمُهُ يُسَمَّى عِيدًا انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ عِيدٌ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ لِلْحُجَّاجِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُمْ صَوْمُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَيُسْتَحَبُّ، وَيَوْمُ الْعِيدِ لَا يُصَامُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ مَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ الْبَابِ، أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ عِيدٍ، وَأَنَّهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ لِتَرْكِ جَعْلِهِ عِيدًا بِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُتَّخَذَ عِيدًا، وَيُعَظَّمُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ لِوُقُوعِ مُوجَبِ التَّعْظِيمِ فِي أَثْنَائِهِ، وَالتَّنْظِيرُ الَّذِي نَظَّرَ بِهِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ سَيْرِ الْهِلَالِ، وَإِنِّي لَأَتَعَجَّبُ مِنْ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ ضَعْفِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَضَعَّفَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَوْمَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَعَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرُوحُوا إِلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِهَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدِيثُ عُمَرَ أَوْلَى، هُوَ كَمَا قَالَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَزِيَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْتَارُ لِرَسُولِهِ الْأَفْضَلَ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ تَشْرُفُ بِشَرَفِ الْأَزْمِنَةِ كَالْأَمْكِنَةِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّاعَةَ الْمُسْتَجَابَ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ رَزِينٌ فِي جَامِعِهِ مَرْفُوعًا: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَافَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةٍ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ صَحَابِيَّهُ وَلَا مَنْ أَخْرَجَهُ، بَلْ أَدْرَجَهُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَلَيْسَتِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُوَطَّآتِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِينَ التَّحْدِيدُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَثَبَتَتِ الْمَزِيَّةُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
تَيَمَّمُوا: تَعَمَّدُوا، {آمِّينَ} عَامِدِينَ، أَمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَسْتُمْ وَ {تَمَسُّوهُنَّ} ، {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَالْإِفْضَاءُ: النِّكَاحُ
4607 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ - أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ - انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالنَّاسِ؟ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، لَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ
يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا الْعِقْدُ تَحْتَهُ.
4608 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ - وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ - فَأَنَاخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَ، فَثَنَى رَأْسَهُ فِي حَجْرِي رَاقِدًا، أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ؟ فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَوْجَعَنِي، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتْ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الْآيَةَ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَرَكَةٌ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ التِّلَاوَةَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (تَيَمَّمُوا: تَعَمَّدُوا، آمِّينَ: عَامِدِينَ، أَمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} أَيْ: فَتَعَمَّدُوا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أَيْ: وَلَا عَامِدِينَ، وَيُقَالُ: أَمَّمْتُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَيَمَّمْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي كَذَاكَ إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ
…
يَمَّمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} بِإِثْبَاتِ النُّونِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِحَذْفِ النُّونِ مُضَافًا كَقَوْلِهِ: مُحِلِّي الصَّيْدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَسْتُمْ وَ {تَمَسُّوهُنَّ} وَ {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَالْإِفْضَاءُ: النِّكَاحُ) أَمَّا قَوْلُهُ: لَمَسْتُمْ فَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قَالَ: هُوَ الْجِمَاعُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْجِمَاعُ، وَلَكِنِ اللَّهَ يَعْفُو وَيَكُنِّي. وَأَمَّا قَوْلُهُ:{تَمَسُّوهُنَّ} فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أَيْ: تَنْكِحُوهُنَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قَالَ: الدُّخُولُ النِّكَاحُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْإِفْضَاءُ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قَالَ: الْإِفْضَاءُ الْجِمَاعُ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُلَامَسَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَالْإِفْضَاءُ وَالرَّفَثُ وَالْغَشَيَانُ وَالْجِمَاعُ كُلُّهُ النِّكَاحُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي عَمَّا شَاءَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. لَكِنْ قَالَ: التَّغَشِّي بَدَلَ الْغَشَيَانِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَرَادَ بِالتَّغَشِّي، قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي النِّكَاحِ.
وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِالْبَابِ قَوْلُهُ: لَمَسْتُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ؛ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْأَعْمَشِ، وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَخَالَفَهُمْ عَاصِمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ فَوَافَقَ أَهْلَ الْحِجَازِ فَقَرَءُوا:(أَوْ لَامَسْتُمْ) بِالْأَلِفِ وَوَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ.
ثم ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم صَلَّى أَوَّلَ مَا نَزَلَ ثُمَّ نَامَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّهَجُّدَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ هَجْعَةٍ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ هَجَعَ فَلَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَنَامُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ثُمَّ نَامَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
4609 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ ح.
وَحَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْأَشْجَعُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ، فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ فَاذْهَبْ إِلَخْ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {وَرَبُّكَ} أَخُوهُ هَارُونُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ كُلِّهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ) هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَحَمْدَانُ لَقَبُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِهِ، وَعَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ سَنَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ إِلَخْ) يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ سِيَاقِهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، بِخِلَافِ سِيَاقِ الْأَشْجَعِيِّ، لَكِنِ اسْتَظْهَرَ الْمُصَنِّفُ لِرِوَايَةِ الْأَشْجَعِيِّ الْمَوْصُولَةِ بِرِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلُ. وَطَرِيقُ وَكِيعٍ هَذِهِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِهِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ قَوْلُهُ: وَرَوَاهُ وَكِيعٌ إِلَخْ مُقَدَّمًا فِي الْبَابِ عَلَى بَقِيَّةِ مَا فِيهِ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، مُؤَخَّرًا عِنْدَ الْبَاقِينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.
5 - بَاب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} الآية،
الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ: الْكُفْرُ بِهِ
4610 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا، فَقَالُوا، وَقَالُوا: قَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي قِلَابَةَ وَهْوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ؟ - أَوْ قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ؟ - قُلْتُ: مَا عَلِمْتُ نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا
بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عَنْبَسَةُ:، حَدَّثَنَا أَنَسٌ بِكَذَا وَكَذَا، قُلْتُ: إِيَّايَ حَدَّثَ أَنَسٌ، قَالَ: قَدِمَ قَوْمٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: قَدْ اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا تَخْرُجُ لترعى، فَاخْرُجُوا فِيهَا، فَاشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا فِيهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، وَاسْتَصَحُّوا، وَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ، وَاطَّرَدُوا النَّعَمَ. فَمَا يُسْتَبْطَأُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ قَتَلُوا النَّفْسَ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَوَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: تَتَّهِمُنِي؟ قَالَ: حَدَّثَنَا بِهَذَا أَنَسٌ. قَالَ: وَقَالَ: يَا أَهْلَ كَذَا، إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أُبْقِيَ هَذَا فِيكُمْ ومِثْلُ هَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَاقَهَا غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ: الْكُفْرُ بِهِ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا، وَفَسَّرَهُ الْجُمْهُورُ هُنَا بِالَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَرِ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَكَانِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ هُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَهَذَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سَلْمَانُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالسُّكُونِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّصْغِيرِ، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ رِوَايَةَ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُهُ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمَةِ: اخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَنَا تَجَوُّزًا سَوَّغَهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا، أَوْ كَانَتْ لَهُ نَعَمٌ تَرْعَى مَعَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَفِي سِيَاقِ بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْأَخِيرَ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا تَخْرُجُ فَاخْرُجُوا فِيهَا وَكَأَنَّ نَعَمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يُرِيدُ إِرْسَالَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ إِبِلُ الصَّدَقَةِ، فَخَرَجُوا صُحْبَةَ النَّعَمِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا) أَيِ: الْقَسَامَةَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: وَاسْتَصَحُّوا بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ، أَيْ: حَصَلَتْ لَهُمُ الصِّحَّةُ، وَقَوْلُهُ: وَاطَّرَدُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَخْرَجُوهَا طَرْدًا، أَيْ: سَوْقًا، وَقَوْلُهُ: فَمَا يُسْتَبْطَأُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْبُطْءِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِالْقَافِ بَدَلَ الطَّاءِ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ بِكَذَا وَكَذَا أَيْ: بِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ: يَا أَهْلَ كَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي الدِّيَاتِ: يَا أَهْلَ الشَّامِ.
قَوْلُهُ: (مَا أُبْقِيَ مِثْلُ هَذَا فِيكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنْ أَبْقَى، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا أَبْقَى اللَّهُ مِثْلَ هَذَا فَأَبْرَزَ الْفَاعِلَ.
6 - بَاب {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
4611 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ - وَهْيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ - عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -: لَا وَاللَّهِ، لَا تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ، الْقِصَاصُ. فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.
وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ أَيْ: بِالتَّشْدِيدِ، عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الدِّيَاتِ.
(تَنْبِيهٌ): الْفَزَارِيُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَبُو إِسْحَاقَ.
7 - بَاب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
4612 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ؛ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَعَ كَمَالِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَاب {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
4613 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ.
[الحديث 4613 - طرفه في: 6663]
4614 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَبَاهَا كَانَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا أَرَى يَمِينًا أُرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ قَبِلْتُ رُخْصَةَ اللَّهِ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر"
[الحديث 4616 - طرفه في: 6631]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} سَقَطَ: بَابُ قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ لَغْوَ الْيَمِينِ بِمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْمُكَلَّفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقِيلَ: فِي الْغَضَبِ، وَقِيلَ: فِي الْمَعْصِيَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ آخَرُ، سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهَا: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا قَالَهَا لَغْوٌ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ الْكَلِمَتَيْنِ مَعًا فَالْأُولَى لَغْوٌ وَالثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ مَقْصُودَةٌ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ، وَلَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَاقِينَ إِلَّا النَّسَفِيَّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ فَلَمْ يَنْسُبْهُ، وَعَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ هَذَا يُقَالُ لَهُ: اللَّبَقِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا قَافٌ خَفِيفَةٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ عِنْدَهُ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي الشُّفْعَةِ، وَيَأْتِي آخَرُ فِي الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ، ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: صَدُوقٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ فِي الدَّعَوَاتِ، وَأَبُوهُ هُوَ ابْنُ الْخِمْسِ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ.
قَوْلُهُ: (فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ) وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ لَمْ يَحْنَثْ إِلَخْ، وَالْمَحْفُوظُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ يُفَسِّرُ الْأَوَّلَ، وَتَعَقَّبَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي تَفْسِيرِ لَغْوِ الْيَمِينِ، وَالثَّانِيَ فِي تَفْسِيرِ عَقْدِ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَرَى يَمِينًا أَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ، وَفِي الثَّانِي بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي أَوَّلِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا قَبِلْتُ رُخْصَةَ اللَّهِ) أَيْ: فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
9 - بَاب لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
4615 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
[الحديث 4615 - طرفه في: 5071، 5075]
قوله: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) سَقَطَ: بَابُ قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مُحَسَّنًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا أَكَلْتُ مِنْ هَذَا اللَّحْمِ انْتَشَرْتُ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ قَالُوا: نَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
10 - بَاب {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَزْلَامُ: الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ، وَالنُّصُبُ: أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الزَّلَمُ: الْقِدْحُ لَا رِيشَ لَهُ، وَهُوَ وَاحِدُ الْأَزْلَامِ، وَالِاسْتِقْسَامُ: أَنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ؛ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى، وَإِنْ أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ، وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدَاحَ أَعْلَامًا بِضُرُوبٍ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ، وَالْقُسُومُ الْمَصْدَرُ.
4616 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَإِنَّ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا
شَرَابُ الْعِنَبِ.
[الحديث 4616 - طرفيه في: 5579]
4617 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ فَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلَانًا وَفُلَانًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ وَهَلْ بَلَغَكُمْ الْخَبَرُ فَقَالُوا وَمَا ذَاكَ قَالَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ قَالُوا أَهْرِقْ هَذِهِ الْقِلَالَ يَا أَنَسُ قَالَ فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُل"
4618 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ صَبَّحَ أُنَاسٌ غَدَاةَ أُحُدٍ الْخَمْرَ فَقُتِلُوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا"
4619 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْل"
[الحديث 4619 - أطرافه في: 5581، 5588، 5586، 7337]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} - سَاقَ إِلَى - {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وَسَقَطَ: بَابُ قَوْلِهِ: لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي سِيَاقِ مَا قَبْلَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَزْلَامُ: الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ قَوْلُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا تَتَبَّعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ قَالَ: اسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ هَلْ أَضَرُّهُمْ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمِدُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ سِهَامٍ عَلَى أَحَدِهَا مَكْتُوبٌ: افْعَلْ وَعَلَى الثَّانِي: لَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ عَلَى الْوَاحِدِ: أَمَرَنِي رَبِّي وَعَلَى الثَّانِي: نَهَانِي رَبِّي وَعَلَى الثَّالِثِ غُفْلٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْأَمْرَ أَخْرَجَ وَاحِدًا فَإِنْ طَلَعَ الْآمِرُ؛ فَعَلَ، أَوِ النَّاهِي؛ تَرَكَ، أَوِ الْغُفْلُ؛ أَعَادَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ كَانَ هُبَلَ، وَكَانَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْأَزْلَامُ عِنْدَهُ، يَتَحَاكَمُونَ عِنْدَهُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا رَجَعُوا إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ آحَادُهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهَا مُنْفَرِدِينَ كَمَا فِي قِصَّةِ سُرَاقَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْأَزْلَامُ حَصًى بِيضٌ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: حِجَارَةٌ مكْتُوبٌ عَلَيْهَا، وَعَنْهُ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا لِكُلِّ سَفَرٍ وَغَزْوٍ وَتِجَارَةٍ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ النَّقْلِ أَنَّ الْأَزْلَامَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: أَحَدُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَثَانِيهَا لِلْأَحْكَامِ، وَهِيَ الَّتِي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ وَحَاكِمٍ لِلْعَرَبِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ سَبْعَةً مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: فَوَاحِدٌ عَلَيْهِ مِنْكُمْ وَآخَرُ مُلْصَقٌ وَآخَرُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالدِّيَاتُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا، وَثَالِثُهَا قِدَاحُ الْمَيْسِرِ وَهِيَ عَشَرَةٌ: سَبْعَةٌ مُخَطَّطَةٌ وَثَلَاثَةٌ غُفْلٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا مُقَامَرَةً، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يُتَقَامَرُ بِهِ كَالنَّرْدِ وَالْكِعَابِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَالنُّصُبُ: أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النُّصُبُ وَاحِدُ
الْأَنْصَابِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَنْصِبُونَهَا وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا فَيَنْصَبُّ عَلَيْهَا دِمَاءُ الذَّبَائِحِ. وَالْأَنْصَابُ أَيْضًا جَمْعُ نَصْبٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ سُكُونٍ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الزَّلَمُ: الْقِدْحُ لَا رِيشَ لَهُ وَهُوَ وَاحِدُ الْأَزْلَامِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَاحِدُ الْأَزْلَامِ: زَلَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَزُلَمٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ لُغَتَانِ، وَهُوَ الْقِدْحُ أَيْ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ.
قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِقْسَامُ أَنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى، وَإِنْ أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاسْتِقْسَامُ مِنْ قَسَمْتُ أَمْرِي، بِأَنْ أُجِيلَ الْقِدَاحَ؛ لِتَقْسِمَ لِي أَمْرِي؛ أَأُسَافِرُ أَمْ أُقِيمُ، وَأَغْزُو أَمْ لَا أَغْزُو، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هِيَ الَّتِي تَأْمُرُنِي وَتَنْهَانِي، وَلِكُلِّ ذَلِكَ قِدْحٌ مَعْرُوفٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَحْسَبُنِي الْقَسُومَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِقْسَامَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْقِسْمِ بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيِ: اسْتِدْعَاءُ ظُهُورِ الْقِسْمِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ طَلَبُ وُقُوعِ السَّقْيِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَزْلَامُ سِهَامٌ كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ يَقْسِمُونَ بِهَا فِي أُمُورِهِمْ.
قَوْلُهُ: (يُجِيلُ يُدِيرُ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَهُوَ شَرْحٌ لِقَوْلِهِ: يُجِيلُ الْقِدْحَ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدْحَ أَعْلَامًا بِضُرُوبٍ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا) بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ، وَالْقُسُومُ الْمَصْدَرُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} هُوَ اسْتَفْعَلْتُ مِنْ قَسَمْتُ أَمْرِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ.
قَوْلُهُ: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ) يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمَاءِ الْعِنَبِ.
ثم أيد ذلك بقول أنس: ما كان لنا خمر غير فضيخكم.
ثم ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الَّذِينَ صَبَّحُوا الْخَمْرَ ثُمَّ قُتِلُوا بِأُحُدٍ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
ثم ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ أَنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْعِنَبَ، وَظَاهِرُهُ يُعَارِضُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَسَنَذْكُرُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مَعَ شَرْحِ أَحَادِيثِ الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أُهْرِيقَتْ أَنْكَرَهُ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: الصَّوَابُ: هُرِيقَتْ بِالْهَاءِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ مَا أَنْكَرَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا، فَدَعَانَا فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ حَتَّى سَكِرْنَا، فَتَفَاخَرْنَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَنَزَلَتْ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
11 - بَاب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} - إِلَى قَوْلِهِ: - {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
4620 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: إِنَّ الْخَمْرَ الَّتِي أُهْرِيقَتْ الْفَضِيخُ. وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ الْبِيكَنْدِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ، فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
قَوْلُهُ: (بَابُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي هُرِيقَتِ الْفَضِيخُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ. وَقَوْلُهُ: وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ الْبِيكَنْدِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ: الْبِيكَنْدِيُّ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْبِيكَنْدِيَّ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِمَا أَبِي النُّعْمَانِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَزَادَهُ فِيهِ زِيَادَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي النُّعْمَانِ مُخْتَصَرًا، وَمِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيِّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ مُطَوَّلًا، وَتَصَرَّفَ الزَّرَكْشِيُّ فِيهِ غَافِلًا عَنْ زِيَادَةِ أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ: الْقَائِلُ وَزَادَنِي هُوَ الْفَرَبْرِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ رحمه الله، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَدَّمْتُهُ.
قَوْلُهُ: فَنَزَلَتْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَأَمَرَ مُنَادِيًا الْآمِرُ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُنَادِي لَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِاسْمِهِ، وَالْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَ ذَلِكَ فِيهِ زَعَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ عَقِبَ قَوْلِ حَمْزَةَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِأَبِي، وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ - أَوْ دَوْسٍ - فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ، فَقَالَ: بِعْهَا. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَعْلَةَ نَحْوَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْوَقْتِ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ كَيْسَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ بِشَرَابٍ جَيِّدٍ، فَقَالَ: يَا كَيْسَانُ إِنَّهَا حُرِّمَتْ بَعْدَكَ، قَالَ: فَأَبِيعُهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا حُرِّمَتْ وَحُرِّمَ ثَمَنُهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ عَامٍ روايَةَ خَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ حُرِّمَتْ جَاءَ بِرَاوِيَةٍ فَقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَنَهَاهُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ كَيْسَانَ تَسْمِيَةُ الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ تَأْيِيدُ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ إِسْلَامَ تَمِيمٍ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، إِلَخْ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْقَائِلِ.
(فَائِدَةٌ):
فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ ابْنِ نَاجِيَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ حَمَّادٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ حَمَّادٌ: فَلَا أَدْرِي هَذَا فِي الْحَدِيثِ - أَيْ عَنْ أَنَسٍ - أَوْ قَالَهُ ثَابِتٌ أَيْ مُرْسَلًا، يَعْنِي قَوْلَهُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ نَحْوُ هَذَا. وَتَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَظَالِمِ عَنْ أَنَسٍ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِطُولِهِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي نَاسٍ شَرِبُوا، فَلَمَّا ثَمِلُوا عَبَثُوا، فَلَمَّا صَحَوْا جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَرَى الْأَثَرَ بِوَجْهِ الْآخَرِ فَنَزَلَتْ، فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتكَلَّفِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ وَقَدْ قُتِلَ بِأُحُدٍ، فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إِلَى آخِرِهَا.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ: فَاجْتَنِبُوهُ - إِلَى قَوْلِهِ - مُنْتَهُونَ، فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا وَصَحَّحَهُ عَلِيٌّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ دُونَ قِصَّةِ عُمَرَ، لَكِنْ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ النَّاسُ: مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا، فَكَانُوا
يَشْرَبُونَ، حَتَّى أَمَّ رَجُلٌ أَصْحَابَهُ فِي الْمَغْرِبِ فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَشْرَبُونَ وَلَا يَقْرَبُ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُفِيقَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ وَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الْآيَةَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَتَرَكُوهُ كَمَا تَرَكْتُمُوهُ، وَفِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قِيلَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: دَعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْتَفِعْ بِهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: لَا، إِنَّا لَا نَشْرَبُهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلِ بِهِ فِي النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ عَدَمُ مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَمَا أَرَاقُوهَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْأَشْرِبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ):
فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ فَقَالُوا: أَرِقْ يَا أَنَسُ وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْمُنَادِيَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ يَا أَنَسُ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ وَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ شَافَهَهُمْ، وَالثَّانِيَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي نَقَلَ لَهُمْ ذَلِكَ غَيْرُ أَنَسٍ، فَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَنَّ الْآتِيَ أَخْبَرَ أَنَسًا، وَأَنَسٌ أَخْبَرَ الْقَوْمَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ نَصَّ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْآتِيَ أَخْبَرَ الْقَوْمَ مُشَافَهَةً بِذَلِكَ. قُلْتُ: فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُنَادِيَ غَيْرُ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ، أَوْ أَنَّ أَنَسًا لَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنِ الْمُنَادِي جَاءَ الْمُنَادِي أَيْضًا فِي أَثَرِهِ فَشَافَهَهُمْ.
12 - بَاب: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
4621 -
حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ حنِينٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أبوك فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ شُعْبَةَ.
4622 -
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} سَقَطَ بَابُ قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَا النَّهْيِ مَنْ كَرِهَ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ كِتَابِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ مَنْعَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَمَسَائِلُ النَّوَازِلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ فِي قَوْلِهِ الْغَافِلِينَ عَلَى
عَادَتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ: أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ، ولَيْسَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنِ حَبِيبِ بْنِ عَلْيَاءَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْجَارُودِ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ الْجَارُودِيُّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ الْأَعْلَى، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ فِي كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ، وَأَبُوهُ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا رَأَيْتُ عَنْهُ رَاوِيًا إِلَّا وَلَدَهُ، وَحَدِيثُهُ هَذَا فِي الْمُتَابَعَاتِ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَهُ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي عَلِيِّ الْغَسَّانِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدٍ غَيْرَ مَنْسُوبٍ عَنْ مُنْذِرٍ هَذَا وَأَنَّ مُحَمَّدًا الْمَذْكُورَ هُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي عِنْدَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَأَظُنُّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ وَظَنُّوهُ شَيْخًا لِلْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ شُعْبَةَ فِي الِاعْتِصَامِ أَخْبَرَنِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ شُعْبَةَ فِي أَوَّلِهِ زِيَادَةٌ يَظْهَرُ مِنْهَا سَبَبُ الْخُطْبَةِ وَلَفْظُهُ: بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ، فَخَطَبَ فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالَ فَغَطَّى) فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ.
قَوْلُهُ: (لَهُمْ حَنِينٌ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْأَوَّلُ الصَّوْتُ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِالْبُكَاءِ مِنَ الصَّدْرِ، وَالثَّانِي مِنَ الْأَنْفِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحَنِينُ بُكَاءٌ دُونَ الِانْتِحَابِ، وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْحَنِينَ وَالْخَنِينَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْحَنِينَ مِنَ الصَّدْرِ أَيِ الْمُهْمَلَةَ وَالْخَنِينَ مِنَ الْأَنْفِ بِالْمُعْجَمَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ
(1)
.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ فُلَانٌ) تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْعَسْكَرِيِّ نَزَلَتْ فِي قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَكُلُّهُمْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ أَيْضًا زِيَادَةٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَأَحدث بِشَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ الِاعْتِصَامِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَاقْتَصَرَ هُنَا عَلَى بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) هَكَذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ مَعَ أَنَّهُ أَشْبَعُ سِيَاقًا مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْمَوَاقِيتِ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَوَقَعَ فِي الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ مُطَوَّلًا قَالَ فَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ ثَوْبَهُ بِرَأْسِهِ يَبْكِي، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَقَوْلُ عُمَرَ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضْبَانَ، مُحْمَارٌّ وَجْهُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: حُذَافَةُ. فَقَامَ عُمَرُ - فَذَكَرَ كَلَامَهُ وَزَادَ فِيهِ - وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهَذَا شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ
(1)
بياض في الأصل.
الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ.
ثُمَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا} فَهَذَا لَا يُنَافِي حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلَعَلَّ مُرَاجَعَتَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ هِيَ سَبَبُ غَضَبِهِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَ حَدِيثِ عَلَيٍّ هَذَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَمِنْ آخَرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ عَقِبَ هَذَا وَهُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ سَبَبَ نُزُولِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ آخَرَانِ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَشْيَاءِ الْبَحِيرَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامُ. قَالَ: فَكَانَ عِكْرِمَةُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْآيَاتِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ نَحْوُ سُؤَالِ قُرَيْشٍ أَنْ يَجْعَلَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، وَسُؤَالِ الْيَهُودِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِي سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الْبَحِيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ مِقْسَمٍ فِيمَا سَأَلَ الْأُمَمُ أَنْبِيَاءَهَا عَنِ الْآيَاتِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ قَالَ نُهُوا أَنْ يَسْأَلُوا مِثْلَ مَا سَأَلَ النَّصَارَى مِنَ الْمَائِدَةِ فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ وَقَدْ رَجَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَكَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; لِوُقُوعِ قِصَّةِ الْمَائِدَةِ فِي السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَبْعَدَ نُزُولَهَا فِي قِصَّةِ مَنْ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنِ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ، وَهُوَ إِغْفَالٌ مِنْهُ لِمَا فِي الصَّحِيحِ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْمُنِيرِ نُزُولَهَا فِي النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا كَانَ وَعَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَاسْتَنَدَ إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ تَتَعَدَّدَ الْأَسْبَابُ، وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ. وَفِي الْحَدِيثِ إِيثَارُ السَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَرَاهَةُ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ التَّنْقِيبِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَتَكَلُّفُ الْأَجْوِبَةِ لِمَنْ يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّمَرُّنَ عَلَى التَّفَقُّهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ (وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ شُعْبَةَ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ، وَرِوَايَةُ النَّضْرِ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَرِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ) هُوَ الْبَغْدَادِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَشَيْءٌ تَقَدَّمَ الصَّلَاةِ، وَأَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ هُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو الْجُوَيْرِيَةِ بِالْجِيمِ مُصَغَّرٌ اسْمُهُ حِطَّانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ ابْنُ خُفَافٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَاءَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، ثِقَةٌ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ وَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ لَهُ ثَالِثٌ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ، سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَأَلَهُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِهْزَاءً) قَدْ تَقَدَّمَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوِ الِامْتِحَانِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَوْ لَمْ يسْأَلْ عَنْهُ لَكَانَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَفِي أَوَّلِ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: هَلْ تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَذَكَرَهُ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضَّالَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَكَلَ الضَّالَّةَ فَهُوَ ضَالٌّ.
13 - بَاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} ،
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: وَإِذْ، هاهُنَا صِلَةٌ، الْمَائِدَةُ: أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ، وَالْمَعْنَى: مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ، مَادَنِي يَمِيدُنِي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{مُتَوَفِّيكَ} مُمِيتُكَ.
4623 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ بأنثى ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، وَالْحَامِ: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ، وقَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ:، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدًا يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
4624 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب"
قَوْلُهُ: بَابُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} أَيْ مَا حَرَّمَ، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْجَعْلِ لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُهُ وَتَقْدِيرُهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ ابْتِدَاعِهِمْ مَا صَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ، وَإِذْ هَاهُنَا صِلَةٌ) كَذَا ثَبَتَ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ هُنَا، وَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهِ وَهُوَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَرْتِيبِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قَالَ مَجَازُهُ يَقُولُ اللَّهُ، وَإِذْ مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ، أَيْ وَعَلَّمْتُكَ.
قَوْلُهُ: (الْمَائِدَةُ أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ، وَالْمَعْنَى مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ مَادَنِي يُمِيدُنِي) قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ مِنْ مَادَ يَمْتَدُّ إِذَا تَحَرَّكَ، وَقِيلَ مِنْ مَادَ يَمْتَدُّ إِذَا أَطْعَمَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَوْلُهُ: تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ غَيْرُ وَاضِحٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الزَّوْجَ أَبَانَ الْمَرْأَةَ بِهَا، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَهِيَ فَاعِلٌ عَلَى بَابِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مُتَوَفِّيكَ} مُمِيتُكَ) هَكَذَا ثَبَتَ هَذَا هُنَا، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ظَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَكَتَبَهَا فِيهَا، أَوْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ
شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي تَفْسِيرِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَالِاخْتِلَافَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ.
قَوْلُهُ: (الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ) وَهِيَ الْأَصْنَامُ، فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالْبَحِيرَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ الَّتِي بُحِرَتْ أُذُنُهَا أَيْ خرِّمَتْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَعَلَهَا قَوْمٌ مِنَ الشَّاةِ خَاصَّةً إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوا أُذُنَهَا أَيْ شَقُّوهَا وَتُرِكَتْ فَلَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ كَذَلِكَ، وَخَلَّوْا عَنْهَا فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ يَضْرِبْهَا فَحْلٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَهَكَذَا أَطْلَقَ نَفْيَ الْحَلْبِ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ إِنَّمَا هُوَ الشُّرْبُ الْخَاصُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانُوا يُحَرِّمُونَ وَبَرَهَا وَلَحْمَهَا وَظَهْرَهَا وَلَبَنَهَا عَلَى النِّسَاءَ وَيُحِلُّونَ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ، وَمَا وَلَدَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا، وَإِنْ مَاتَتِ اشْتَرَكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي أَكْلِ لَحْمِهَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْبَحِيرَةُ مِنَ الْإِبِلِ كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَ بُطُونٍ فَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا كَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى بُتِكَتْ أُذُنُهَا ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَلَمْ يَجُزُّوا لَهَا وَبَرًا وَلَمْ يَشْرَبُوا لَهَا لَبَنًا وَلَمْ يَرْكَبُوا لَهَا ظَهْرًا، وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَنَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْبَحِيرَةِ هَيْئَاتٍ أُخْرَى تَزِيدُ بِمَا ذَكَرْتُ عَلَى الْعَشْرِ. وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَالْبَحْرُ شَقُّ الْأُذُنِ، كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهَا.
قَوْلُهُ: (وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَتِ السَّائِبَةُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْعَامِ، وَتَكُونُ مِنَ النُّذُورِ لِلْأَصْنَامِ فَتُسَيَّبُ فَلَا تُحْبَسُ عَنْ مَرْعًى وَلَا عَنْ مَاءٍ وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ، قَالَ: وَقِيلَ السَّائِبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ، كَانَ الرَّجُلُ يَنْذُرُ إِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ لَيُسَيِّبَنَّ بَعِيرًا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: السَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَ بَعْضَ إِبِلِهِمْ فَلَا تُمْنَعُ حَوْضًا أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ عمْر بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ، إِلَخْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ إِيرَادُ الْقَدْرِ الْمَرْفُوعِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ الْمَوْقُوفِ، وَسَأُبَيِّنُ مَا فِيهِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ بِأُنْثَى، ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بَقِيَّةُ تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَقَطْ، وَتَفْسِيرُ الْبَحِيرَةِ وَسَائِرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلِ رِوَايَةِ الْبَابِ، إِلَّا أَنَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ الْمَرْفُوعِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ إِلَخْ فَأَوْضَحَ أَنَّ التَّفْسِيرَ جَمِيعُهُ مَوْقُوفٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُفَصَّلًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ وَصَلَتْ) أَيْ مِنْ أَجْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَتِ السَّائِبَةُ مَهْمَا وَلَدَتْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهَا إِلَى سِتَّةِ أَوْلَادٍ، فَإِنْ وَلَدَتِ السَّابِعَ أُنْثَيَيْنِ تُرِكَتَا فَلَمْ تُذْبَحَا، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا ذُبِحَ وَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَكَذَا إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ، وَإِنْ أَتَتْ بِتَوْأَمٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى سَمَّوُا الذَّكَرَ وَصِيلَةً فَلَا يُذْبَحُ لِأَجْلِ أُخْتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ لَمْ تَلِدْ مَيِّتًا، فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْبَطْنِ السَّابِعِ مَيِّتًا أَكَلَهُ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْوَصِيلَةُ: الشَّاةُ كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةً فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ وَأُكِلَ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَتُرِكَ وَلَمْ يُذْبَحْ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَامِ فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ إِلَخْ) وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَامِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ وَلَدِ السَّائِبَةِ. وَقَالَ أَيْضًا: كَانُوا إِذَا ضَرَبَ فَحْلٌ مِنْ وَلَدِ الْبَحِيرَةِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ حَامٍ، وَقَالَ أَيْضًا: الْحَامُ مِنْ فُحُولِ الْإِبِلِ خَاصَّةً إِذَا نَتَجُوا مِنْهُ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ قَالُوا: قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ، فَأحْمَوْا ظَهْرَهُ وَوَبَرَهُ وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمْ يُرْكَبْ وَلَمْ يُطْرَقْ، وَعُرِفَ بِهَذَا بَيَانُ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ. وَقِيلَ الْحَامِ فَحْلُ الْإِبِلِ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي غَيْرِ مُلْكِهِ
…
كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ الْفَحْلَا
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اخْتُلِفَ فِي السَّائِبَةِ فَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى السَّدَنَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى الْأَصْنَامِ. وَقِيلَ: السَّائِبَةُ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ كُلُّهُنَّ إِنَاثٌ سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ يُجَزَّ لَهَا وَبَرٌ وَلَمْ يُشْرَبْ لَهَا لَبَنٌ، وَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتُهَا بُحِرَتْ أَيْ شُقَّتْ أُذُنُهَا، فَالْبَحِيرَةُ ابْنَةُ السَّائِبَةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهَا، وَالْوَصِيلَةُ مِنَ الشَّاةِ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ إِذَا وَلَدَتْ فِي آخِرِهَا ذَكَرًا وَأُنْثَى قِيلَ وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَا تَشْرَبُ النِّسَاءُ لَبَنَ الْأُمِّ وَتَشْرَبُهُ الرِّجَالُ وَجَرَتْ مَجْرَى السَّائِبَةِ إِلَّا فِي هَذَا، وَأَمَّا الْحَامِ فَهُوَ فَحْلُ الْإِبِلِ كَانَ إِذَا لَقَّحَ وَلَدُ وَلَدِهِ قِيلَ حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُجَزُّ لَهُ وَبَرٌ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَرْعًى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ) عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ بِغَيْرِ مُجَاوَرَةٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سَعِيدًا يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ) هَكَذَا لِلْأَكْثَرِ يُخْبِرُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْخَبَرِ مُتَّصِلٍ بِهَاءِ الضَّمِيرِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: بَحِيرَةٌ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِ الْبَحِيرَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ عَمْرُو ابْنُ عَامِرٍ حَسْبُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَهُ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا إِلَخْ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ بِاخْتِصَارٍ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا طَرِيقُ ابْنِ الْهَادِ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ - وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ - بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانَتْ تُسَيَّبُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، إِلَى آخِرِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَوَائِلِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طرقٍ عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ بِالْمَرْفُوعِ فَقَطْ، وَظَهَرَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ حُمَيْدٍ إِدْرَاجًا وَأَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقَوْلُهُ فِي الْمَرْفُوعِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبِ زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةِ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَأَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ جَدَعَ أُذُنَ نَاقَتِهِ وَحَرَّمَ شُرْبَ أَلْبَانِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ: رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، هَكَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ، عَنْ زَيْدٍ مُطَوَّلًا وَأَوَّلُهُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، الْحَدِيثَ وَفِيهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ، وَفِيهِ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَأَوْرَدَهُ فِي أَبْوَابِ الْكُسُوفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، وَكَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَغْيِيرِهِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَنَصْبُهُ الْأَصْنَامَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
4625 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَالَ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً، الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ أُصَيْحَابِي، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّصْغِيرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِغَيْرِ تَصْغِيرٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ عَدَدِ مَنْ وَقَعَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ لِبَعْضِ جُفَاةِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ.
15 - بَاب: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
4626 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ، وَإِنَّ نَاسًا يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ قَبْلُ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا.
6 - سُورَةُ الْأَنْعَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} مَعْذِرَتُهُمْ، {مَعْرُوشَاتٍ} مَا يُعْرَشُ مِنْ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {حَمُولَةً} مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، {وَلَلَبَسْنَا} لَشَبَّهْنَا، {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ مَكَّةَ، {وَيَنْأَوْنَ} يَتَبَاعَدُونَ، تُبْسَلُ: تُفْضَحُ، {أُبْسِلُوا} أُفْضِحُوا، {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْبَسْطُ الضَّرْبُ، {اسْتَكْثَرْتُمْ} أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا، {مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ نَصِيبًا، {أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَانٌ، {أَمَّا اشْتَمَلَتْ} يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا؟ {مَسْفُوحًا} مُهْرَاقًا، {وَصَدَفَ} أَعْرَضَ، أُبْلِسُوا: أُويِسُوا، أُبْلسوا: أويسوا، {سَرْمَدًا} دَائِمًا، {اسْتَهْوَتْهُ} أَضَلَّتْهُ، {يَمْتَرُونَ} يشركونَ، {وَقْرٌ} صَمَمٌ، وَأَمَّا الْوِقْرُ فَهُو الْحِمْلُ، {أَسَاطِيرُ} وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ وَهْيَ
التُّرَّهَاتُ، {الْبَأْسَاءِ} مِنْ الْبَأْسِ، وَيَكُونُ مِنْ الْبُؤْسِ، {جَهْرَةً} مُعَايَنَةً، الصُّوَرُ: جَمَاعَةُ صُورَةٍ كَقَوْلِهِ سُورَةٌ وَسُوَرٌ، مَلَكُوتٌ ومُلْكٌ مِثْلُ رَهَبُوتٍ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، وَيَقُولُ: تُرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُرْحَمَ، {جَنَّ} أَظْلَمَ، {تَعَالَى} عَلَا، وَإِنْ تَعْدِلْ: تُقْسِطْ، لَا يُقْبَلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، يُقَالُ: عَلَى اللَّهِ حُسْبَانُهُ أَيْ حِسَابُهُ، وَيُقَالُ:{حُسْبَانًا} مَرَامِيَ {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} مُسْتَقِرٌّ: فِي الصُّلْبِ، {وَمُسْتَوْدَعٌ} فِي الرَّحِمِ، الْقِنْوُ: الْعِذْقُ وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا {قِنْوَانٌ} مِثْلُ صِنْوٍ وصِنْوَانٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْأَنْعَامِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} مَعْذِرَتُهُمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ:{فِتْنَتُهُمْ} مَقَالَتُهُمْ، قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ مَعْذِرَتُهُمْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} قَالَ: مَعْذِرَتُهُمْ.
قَوْلُهُ: {مَعْرُوشَاتٍ} مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) كَذَا ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} قَالَ: مَا يُعَرِّشُ مِنَ الْكُرُومِ، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} مَا لَا يُعَرِّشُ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوشُ مَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ، وَغَيْرُ الْمَعْرُوشِ مَا يُبْسَطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: {حَمُولَةً} مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{حَمُولَةً وَفَرْشًا} فَأَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَرْشُ صِغَارُ الْإِبِلِ الَّتِي لَمْ تُدِرُّ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهَا. وَقَالَ مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: الْحَمُولَةُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَالْفَرْشُ حَوَاشِيهَا يَعْنِي صِغَارَهَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ غَيْرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ، أَحْسِبُهُ ذَكَرَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْحَمُولَةُ مَا حُمِلَ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ الصِّغَارُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: {وَلَلَبَسْنَا} لَشَبَّهْنَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} يَقُولُ: لَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ مَكَّةَ) هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَا ثَبَتَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ:{وَمَنْ بَلَغَ} قَالَ: وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ مِنَ النَّاس فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ.
قَوْلُهُ: {وَيَنْأَوْنَ} يَتَبَاعَدُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} قَالَ: يَتَبَاعَدُونَ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:{وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أَيْ يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَتَبَاعَدُ عَمَّا جَاءَ بِهِ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: {تُبْسَلَ} تُفْضَحُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} يَعْنِي أَنْ تُفْضَحَ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ {أَنْ تُبْسَلَ} أَيْ تُسْلَمَ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ تُحْبَسُ.
قَوْلُهُ: {أُبْسِلُوا} أُفْضِحُوا) كَذَا فِيهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: فَضَحَ وَأَفْضَحَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ {الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} يَعْنِي فُضِحُوا، وَقَدْ
مَضَى كَمَا تَرَى لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْبَسْطُ الضَّرْبُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْبَسْطُ الضَّرْبُ. صلى الله عليه وسلم {اسْتَكْثَرْتُمْ} أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا، وَلِلشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ نَصِيبًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} الْآيَةَ، قَالَ: جَعَلُوا لِلَّهِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ فَإِنْ سَقَطَ مِنْ ثَمَرَةِ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ تَرَكُوهُ، وَإِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوا لِلشَّيْطَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ لَقَطُوهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانُوا يُسَمُّونَ لِلَّهِ جُزْءًا مِنَ الْحَرْثِ وَلِشُرَكَائِهِمْ جُزْءًا، فَمَا ذَهَبَتْ بِهِ الرِّيحُ مِمَّا سَمَّوْا لِلَّهِ إِلَى جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ تَرَكُوهُ وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا، وَمَا ذَهَبَتْ بِهِ الرِّيحُ مِنْ جُزْءِ أَوْثَانِهِمْ إِلَى جُزْءِ اللَّهِ أَخَذُوهُ. وَالْأَنْعَامُ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْمَائِدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَأَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: {أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَانٌ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} وَاحِدُهَا كِنَانٌ أَيْ أَغْطِيَةٌ، وَمِثْلُهُ أَعِنَّةٌ وَعِنَانٌ وَأَسِنَّةٌ وَسِنَانٌ.
قَوْلُهُ: {سَرْمَدًا} دَائِمًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} سَرْمَدًا أَيْ دَائِمًا، قَالَ: وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَنْقَطِعُ فَهُوَ سَرْمَدٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَأَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ (وَجَاعِل اللَّيْلَ سَكَنًا).
قَوْلُهُ: {وَقْرًا} صَمَمٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أَيِ الثِّقَلَ وَالصَّمَمَ وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ، لَكِنَّهُمْ صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} قَالَ: يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ وَلَا يَعُونَ مِنْهَا شَيْئًا كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تَسْمَعُ الْقَوْلَ وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِكَسْرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْوِقْرُ) أَيْ بِكَسْرِ الْوَاوِ (فَإِنَّهُ الْحِمْلُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقَالَ: الْوِقْرُ الْحِمْلُ إِذَا كَسَرْتَهُ. وَأَفَادَ الرَّاغِبُ الْوِقْرُ حِمْلُ الْحِمَارِ، وَالْوَسْقُ حِمْلُ الْجَمَلِ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ أَنَّ فِي آذَانِهِمْ شَيْئًا يَسُدُّهَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ ثَقِيلًا كَوِقْرِ الْبَعِيرِ.
قَوْلُهُ: (أَسَاطِيرٌ وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَأسْطَارَةٌ وَهِيَ التُّرَّهَاتُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَأسْطَارَةٌ وَمَجَازُهَا التُّرَّهَاتُ انْتَهَى. وَالتُّرَّهَاتُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَصْلُهَا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ، وَقِيلَ إِنَّ تَاءَهَا مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ وَأَصْلُهَا الْوَرَهُ وَهُوَ الْحُمْقُ.
قَوْلُهُ: (الْبَأْسَاءُ مِنَ الْبَأْسِ وَيَكُونُ مِنَ الْبُؤْسِ) هُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} هِيَ الْبَأْسُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْبُؤْسُ، انْتَهَى. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْبُؤْسُ الْفَقْرُ، وَقِيلَ الْبَأْسُ الْقَتْلُ وَالْبُؤْسُ الضُّرُّ.
قَوْلُهُ: {جَهْرَةً} مُعَايَنَةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} أَيْ فَجْأَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، أَوْ جَهْرَةً، أَيْ عَلَانِيَةً وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
قَوْلُهُ: (الصُّوَرُ جَمَاعَةُ صُورَةٍ كَقَوْلِكَ سُورَةٌ وَسُوَرٌ) بِالصَّادِ أَوَّلًا وَبِالسِّينِ ثَانِيًا كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ فَفِيهَا كَقَوْلِهِ صُورَةٌ وَصُوَرٌ بِالصَّادِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي سُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يُقَالُ إِنَّهَا جَمْعُ صُورَةٍ يُنْفَخُ فِيهَا رُوحُهَا فَتَحْيَا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَاحِدُهَا سُورَةٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً
…
يُرَى كُلُّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
انْتَهَى.
وَالثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الصُّورَ قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لَا اسْمَ جَمْعٍ، وَحَكَى الْفِرَاءُ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ النَّفْخُ فِي الْمَوْتَى، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسَبَقَ النُّحَاسُ فَقَالَ: لَيْسَتْ بِقِرَاءَةٍ، وَأَثْبَتَهَا أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ قِرَاءَةً فِي كِتَابِهِ إِعْرَابِ الشَّوَاذِّ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ عَلَى اللَّهِ حُسْبَانُهُ) أَيْ حِسَابُهُ، تَقَدَّمَ هَذَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} قَالَ: يَدُورَانِ فِي حِسَابٍ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ قَالَ: حُسْبَانٌ جَمْعُ حِسَابٍ مِثْلُ شُهْبَانٍ جَمْعُ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (تَعَالَى: عَلَا) وَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ تَعَالَى اللَّهُ عَلَا اللَّهُ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {حُسْبَانًا} مَرَامِيَ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {جَنَّ} أَظْلَمَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَيْ غَطَّى عَلَيْهِ وَأَظْلَمَ، وَمَا جَنَّكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جِنَانٌ لَكَ أَيْ غِطَاءٌ.
قَوْلُهُ: {مُسْتَقَرٌّ} فِي الصُّلْبِ {وَمُسْتَوْدَعٌ} فِي الرَّحِمِ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَقَدْ قَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قَالَ: مُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الصُّلْبِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُسْتَقَرٌّ فِي صُلْبِ الْأَبِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، وَكَذَا أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا فِي الدُّنْيَا وَمُسْتَوْدَعُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ: الْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ وَالْمُسْتَوْدَعُ الْأَرْضُ.
(تَنْبِيهٌ):
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ (فَمُسْتَقِرٌّ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ الْجَمِيعُ (مُسْتَوْدَعٌ) بِفَتْحِ الدَّالِ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي عَمْرٍو فَبِكَسْرِهَا.
قَوْلُهُ: (الْقِنْوُ: الْعِذْقُ، وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا مِثْلُ صِنْوان وَصِنْوَانٍ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ تَكْرِيرُ صِنْوَانٍ الْأُولَى مَجْرُورَةَ النُّونِ وَالثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةٌ، وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَيُوَضِّحُ الْمُرَادَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ الَّذِي هُوَ مَنْقُولٌ مِنْهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} قَالَ: الْقِنْوُ هُوَ الْعِذْقُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَعْنِي الْعُنْقُودَ، وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمْعُ قِنْوَانٌ كَلَفْظِ الِاثْنَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الِاثْنَيْنِ مَجْرُورَةٌ وَنُونُ الْجَمْعِ يَدْخُلُهُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْجَرُّ، وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَهُ غَيْرَ صِنْوٍ وَصِنْوَانِ وَالْجَمْعُ صِنْوَانٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى قِنْوَانٍ وَصِنْوَانٍ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيِّ فِي إِرَادَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَإِذَا وَصَلَ ظَهَرَ الْفَرْقُ، فَيَقَعُ الْإِعْرَابُ عَلَى النُّونِ فِي الْجَمْعِ دُونَ التَّثْنِيَةِ فَإِنَّهَا مَكْسُورَةُ النُّونِ خَاصَّةً، وَيَقَعُ الْفَرْقُ أَيْضًا بِانْقِلَابِ الْأَلِفِ فِي التَّثْنِيَةِ حَالَ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِخِلَافِهَا فِي الْجَمْعِ، وَكَذَا بِحَذْفِ نُونِ التَّثْنِيَةِ فِي الْإِضَافَةِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ.
(تَنْبِيهٌ):
قَرَأَ الْجُمْهُورُ (قِنْوَانٌ) بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَالْأَعْرَجُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو - بِضَمِّهَا وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو رِوَايَةٌ أَيْضًا بِفَتْحِ الْقَافِ، وَخَرَّجَهَا ابْنُ جِنِّيِّ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِقِنْوٍ لَا جَمْعٌ، وَفِي الشَّوَاذِّ قِرَاءَةٌ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (مَلَكُوتٌ وَمُلْكٌ رَهَبُوتٌ رَحَمُوتٌ، وَتَقُولُ تُرْهِبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْحَمَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِيهِ تَشْوِيشٌ، وَلِغَيْرِهِ مَلَكُوتٌ مُلْكٌ، مِثْلُ رَهَبُوتٌ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوتٍ، وَتَقُولُ تُرْهِبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْحَمَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. فَسَّرَ مَعْنَى مَلَكُوتٍ بِمُلْكٍ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ رَهَبُوتٌ وَرَحَمُوتٌ، وَيُوَضِّحُهُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ، خَرَجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِ فِي الْمَثْلِ رَهَبُوتٌ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، أَيْ رَهْبَةٌ
خَيْرٌ مِنْ رَحْمَةٍ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكُوتٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ بِسُكُونِهَا، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ مَلْكُوثَا أَيْ بِسُكُونِ اللَّامِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُعَرَّبَةً وَالْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُلْكٍ كما وَرَدَ مِثْلُهُ فِي رَهَبُوتٍ وَجَبَرُوتٍ.
قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْدِلْ} تُقْسِطُ، لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ) وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ، وَفَسَّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْعَدْلَ بِالتَّوْبَةِ، قَالَ: لِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَنْفَعُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْمَشْهُورُ مَا رَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أَيْ لَوْ جَاءَتْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ، فَجَعَلَهُ مِنَ الْعِدْلِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} يَعْنِي هَلْ تَشْمَلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَلِغَيْرِهِ فِي أَوَائِلِ التَّفَاسِيرِ وَهُوَ أَصْوَبُ، وَهُوَ إِرْدَافُهُ عَلَى تَفَاسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ فَلِمَ تُحَرِّمُوا وَلِمَ تُحَلِّلُوا بِغَيْرِ نُونٍ فِيهِمَا، وَحَذْفُ النُّونِ بِغَيْرِ نَاصِبٍ وَلَا جَازِمٍ لُغَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ:{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} يَقُولُ أَجَاءَكُمُ التَّحْرِيمُ فِيمَا حَرَّمْتُمْ مِنَ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ مِنْ قِبَلِ الذَّكَرَيْنِ أَمْ مِنَ الْأُنْثَيَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا مِنْ قِبَلِ الذَّكَرِ لَزِمَ تَحْرِيمَ كُلِّ ذَكَرِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَى فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قَالُوا مِنْ قِبَلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الرَّحِمِ لَزِمَ تَحْرِيمَ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الرَّحِمَ لَا يَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأِ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، يَعْنِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ.
قَوْلُهُ: {مَسْفُوحًا} مِهْرَاقًا) وَقَعَ هَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} أَيْ مِهْرَاقًا مَصْبُوبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سَفَحَ الدَّمْعُ أَيْ سَالَ.
قَوْلُهُ: (صَدَفَ: أَعْرَضَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أَيْ يُعْرِضُونَ، يُقَالُ صَدَفَ عَنِّي بِوَجْهِهِ أَيْ أَعْرَضَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{يَصْدِفُونَ} أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا.
قَوْلُهُ: (أُبْلِسُوا: أُويِسُوا) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ أَيِسُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} الْمُبْلِسُ الْحَزِينُ النَّادِمُ، قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلَاسٌ أَيِ اكْتِئَابٌ وَحُزْنٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} الْمُبْلِسُ الْبَائِسُ الْمُنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ الَّذِي يَسْكُتُ عِنْدَ انْقِطَاعِ حُجَّتِهِ فَلَا يُجِيبُ: قَدْ أَبْلَسَ، قَالَ الْعَجَّاجُ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا دَارِسًا قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وَتَفْسِيرُ الْمُلبسِ بِالْحَزِينِ بِالْبَائِسِ مُتَقَارِبٌ.
قَوْلُهُ: {أُبْسِلُوا} أُسْلِمُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أَيْ أُسْلِمُوا، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} أَيْ تُرْتَهَنَ وَتُسْلَمَ، قَالَ عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ
وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ
وَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} قَالَ تُحْبَسُ، قَالَ قَتَادَةُ وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ تُسْلَمُ أَيْ إِلَى الْهَلَاكِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
قَوْلُهُ: {اسْتَهْوَتْهُ} أَضَلَّتْهُ) هُوَ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} هُوَ الَّذِي تُشَبِّهُ لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَتْبَعَهَا حَتَّى يَهْوِيَ فِي الْأَرْضِ فَيَضِلُّ.
قَوْلُهُ: {تَمْتَرُونَ} تَشُكُّونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أَيْ تَشُكُّونَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ عَنِ
السُّدِّيِّ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ عَلَى اللَّهِ حُسْبَانُهُ) أَيْ حِسَابُهُ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، أَعَادَهُ هُنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ.
1 - بَاب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}
4627 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خَمْسٌ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْآلَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا، مِثْلُ مِنْجَلٍ وَمَنَاجِلٍ، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْآلَةِ، وَالْمَشْهُورُ مِفْتَاحٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَجَمْعُهُ مَفَاتِيحُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهَا فِي الشَّوَاذِّ، قَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ) وَقِيلَ: بَلْ هُوَ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْمَكَانُ. وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَزَائِنُ الْغَيْبِ، وَجَوَّزَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَتْحِ، أَيْ وَعِنْدَهُ فُتُوحُ الْغَيْبِ أَيْ يَفْتَحُ الْغَيْبَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَأَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ سبحانه وتعالى. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الْغَيْبِ، وَيُطْلَقُ الْمِفْتَاحُ عَلَى مَا كَانَ مَحْسُوسًا مِمَّا يَحِلُّ غَلْقًا كَالْقُفْلِ، وَعَلَى مَا كَانَ مَعْنَوِيًّا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، الْحَدِيثَ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ مُطَوَّلًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الْآيَةَ،
{يَلْبِسَكُمْ} يَخْلِطَكُمْ مِنْ الِالْتِبَاسِ، {يَلْبِسُوا} يَخْلِطُوا، {شِيَعًا} فِرَقًا
4628 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ:{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ.
[الحديث 4628 - طرفاه في: 7313، 7406]
قَوْلُهُ: بَابُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الْآيَةَ، يَلْبِسَكُمْ: يَخْلِطَكُمْ مِنَ الِالْتِبَاسِ، يَلْبِسُوا: يَخْلِطُوا، هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: (شِيَعًا فِرَقًا) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَزَادَ: وَاحِدَتُهَا شِيعَةٌ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {شِيَعًا} قَالَ: الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) وَقَعَ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرًا، وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو الْكَرِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَخِيرِ. وَوَقَعَ فِي الِاعْتِصَامِ هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ أَيْ خَصْلَةُ الِالْتِبَاسِ وَخَصْلَةُ إِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفَسِّرُ بِهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَلَفْظُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ عَنْهُمْ ثِنْتَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ: دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقُ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ، وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْأُخْرَيَيْنِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:{مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وَوَقَعَ أَصَرْحُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: الرَّجْمُ، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: الْخَسْفُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ شُيُوخِهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقُ: الرَّجْمُ، وَمِنْ تَحْتُ: الْخَسْفُ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ: أَئِمَّةُ السُّوءِ، وَبِالتَّحْتِ: خَدَمُ السُّوءِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِ: حَبْسُ الْمَطَرِ، وَبِالتَّحْتِ: مَنْعُ الثَّمَرَاتِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ لَا يَقَعَانِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، رَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: هُنَّ أَرْبَعٌ، وَكُلُّهُنَّ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَضَتِ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِمْ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً أُلْبِسُوا شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ الْخَسْفُ وَالرَّجْمُ وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لَمْ يُدْرِكْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ فَكَأَنَّ حَدِيثَهُ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ وَالْبَاقِي مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَأُعِلَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَنَّ الْإِعَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ وُجُودِ الصَّحَابَةِ وَالْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُخَالِفَ حَدِيثَ جَابِرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَأْوِيلِهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِتَنِ وَنَحْوَهَا.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ من حَدِيثُ صُحَارٍ - بِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ مَعَ التَّخْفِيفِ - الْعَبْدِيِّ رَفَعَهُ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةَ حَتَّى يُخْسَفَ بِقَبَائِلِ، الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ذِكْرُ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ أَيْضًا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، وَلِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ الْغَازِي بْنِ رَبِيعَةَ الْجَرْشِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: يَكُونُ فِي أُمَّتِي الْخَسْفُ وَالْمَسْخُ وَالْقَذْفُ، الْحَدِيثَ. وَوَرَدَ فِيهِ أَيْضًا عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ
(1)
وَعَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ
(1)
.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ وَلَدَهُ، وَعَنْ
(1)
بياض بالأصل.
أَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ فِي الصَّغِيرِ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ غَالِبًا لَكِنْ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَيَحْتَمِلُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لِجَمِيعِهِمْ وَإِنْ وَقَعَ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ كَمَا فِي خَصْلَةِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ وَالسَّنَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانِ رَفَعَهُ فِي حَدِيثِ بِأَوَّلِهِ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكِ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكَ بَعْضًا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادٍ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَلَمَّا كَانَ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ قَدْ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عُمُومًا فَكَذَلِكَ الْخَسْفُ وَالْقَذْفُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعُ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} الْآيَةَ، سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَرْبَعًا فَأَعْطَاكَ اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَكَ اثْنَتَيْنِ: أَنْ يَأْتِيهِمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَيَسْتَأْصِلُهُمْ كَمَا اسْتَأْصَلَ الْأُمَمَ الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَلْبِسُهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَهَذَانِ عَذَابَانِ لِأَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى. وَكَأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ وَهَذَانِ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ.
وَقَدْ وَرَدَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ خِصَالٍ أُخْرَى: مِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا: سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي اثْنَتَيْنِ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُمَا، الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوَهُ لَكِنْ بِلَفْظِ أَنْ لَا يَهْلِكُوا جُوعًا وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَيْضًا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ، فَإِنَّ الْغَرَقَ وَالْجُوعَ قَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ دُونَ بَعْضٍ، لَكِنِ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ الْأَمَانُ أَنْ يَقَعَ عَامَّا، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ خَبَّابٍ نَحْوَهُ وَفِيهِ: وَأَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ بِالْبَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ بَدَلَ خَصْلَةِ الْإِهْلَاكِ: أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَكَذَا لِلطَّبَرِيِّ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَ أُمَّتِي جُمْلَةً فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِمَا عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ
فَمَنَعَنِيهَا، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ بِمَا عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ الْغَرَقُ كَقَوْمِ نُوحٍ وَفِرْعَوْنَ، وَالْهَلَاكُ بِالرِّيحِ كَعَادٍ، وَالْخَسْفُ كَقَوْمِ لُوطٍ وَقَارُونَ، وَالصَّيْحَةُ كَثَمُودَ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَالرَّجْمُ كَأَصْحَابِ الْفِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ عُمُومًا. وَإِذَا جَمَعْتَ الْخِصَالَ الْمُسْتَعَاذُ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سُقْتُهَا بَلَغَتْ نَحْو الْعَشَرَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَيْضًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ رَفْعَ الْخَصْلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَأُخْبِرَ بِأَنْ ذَلِكَ قَدْ قُدِّرَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَأَمَّا مَا زَادَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ لَيْسَ هَذَا قَالَ وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لَأَعَاذَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ جَابِرًا لَمْ يَسْمَعْ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَحَفِظَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ إِلَخْ بَعْضَ رُوَاتِهِ دُونَ جَابِرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
4629 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَمْ {يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَنَزَلَتْ: إِنَّ {الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَهُوَ ابْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ أَيْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
4 - بَاب: {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
4630 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
4631 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: وَيُونُسَ وَلُوطًا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
5 - بَاب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}
4632 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي ص سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ثُمَّ قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ، زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ مُجَاهِدٍ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّجُودِ فِي ص، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ ص.
قَوْلُهُ: (زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْعَوَّامِ) هُوَ ابْنُ حَوْشَبٍ (عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يقْتدي بِهِمْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَفْظِيَّةً، وَإِلَّا فَالْكَلَامُ
الْمَذْكُورُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ مِنْهُمْ أَيْ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَطَرِيقُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَطَرِيقُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ ص. وَطَرِيقُ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ: هَلْ كَانَ عليه الصلاة والسلام مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ نَاسِخُهُ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، وَحُجَّتُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا. وَقِيلَ لَا، وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وِفَاقُهُ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ فَيَتْبَعُهُمْ فِي التَّفْصِيلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الْآيَةَ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ، {الْحَوَايَا} الْمَبْعَرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ:{هَادُوا} صَارُوا يَهُودًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ {هُدْنَا} تُبْنَا، هَائِدٌ: تَائِبٌ.
4633 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ عَطَاءٌ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوها ثُمَّ بَاعُوها فَأَكَلُوهَا.
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ.
قَوْلُهُ: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُلُّ ذِي ظُفُرٍ هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ، يَعْنِي لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الْأَصَابِعِ، مِنْهَا الْإِبِلُ وَالنَّعَامُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ مُفَرَّقًا وَلَيْسَ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ وَأَشْبَاهُهُ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْحِيتَانِ.
قَوْلُهُ: (الْحَوَايَا الْمَبْعَرُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ الْمَبَاعِرُ، وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْحَوَايَا هُوَ الْمَبْعَرُ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْحَوَايَا الْمَبَاعِرُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: الْحَوَايَا جَمْعُ حَوِيَّةٍ وَهِيَ مَا تَحَوَّى وَاجْتَمَعَ وَاسْتَدَارَ مِنَ الْبَطْنِ، وَهِيَ نَبَاتُ اللَّبَنِ وَهِيَ الْمَبَاعِرُ وَفِيهَا الْأَمْعَاءُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا وَإِلَّا مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا، أَيْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ.
(تَنْبِيهٌ):
الْمَبْعَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُهَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا بَيَانُ مَنْ وَصَلَ رِوَايَةَ أَبِي عَاصِمٍ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَنَبَّهَ ابْنُ التِّينِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ هُنَا لُحُومُهَا قَالَ: وَالصَّوَابُ شُحُومُهَا.
قَوْلُهُ: (هَادُوا تَابُوا، هُدْنَا تُبْنَا، هَائِدٌ تَائِبٌ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ.
7 - بَاب: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4634 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:
لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، قُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَرَفَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
[الحديث 4634 - أطرافه في: 4637، 2550، 7403]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - {وَكِيلٌ} : حَفِيظٌ وَمُحِيطٌ بِهِ، {قُبُلا}: جَمْعُ قَبِيلٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ لِلْعَذَابِ كُلُّ ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ، {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}: كُلُّ شَيْءٍ حَسَّنْتَهُ وَوَشَّيْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ، {وَحَرْثٌ حِجْرٌ}: حَرَامٌ، وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ،
وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ حِجْرٌ، وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ حجا وحِجْرٌ، وَأَمَّا الْحِجْرُ فَمَوْضِعُ ثَمُودَ، وَمَا حَجَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا كَأَنَّه مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ، وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ فَهْوَ مَنْزِلٌ.
قَوْلُهُ: {وَكِيلٌ} : حَفِيظٌ مُحِيطٌ بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، أَيْ حَفِيظٌ مُحِيطٌ.
قَوْلُهُ: (قُبُلًا جَمْعُ قَبِيلٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ لِلْعَذَابِ كُلُّ ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ) انْتَهَى. هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا لَكِنْ بِمَعْنَاهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا} ، قَالَ: فَمَعْنَى حَشَرْنَا جَمَعْنَا، وَقُبُلًا جَمْعُ قَبِيلٍ أَيْ صِنْفٍ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:{قُبُلا} أَيْ أَفْوَاجًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَبِيلَةً قَبِيلَةً صِنْفًا صِنْفًا وَجَمَاعَةً جَمَاعَةً، فَيَكُونُ الْقُبُلُ جَمْعُ قَبِيلٍ الَّذِي هو جَمْعُ قَبِيلَةٍ، فَيَكُونُ الْقُبُلُ جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَمَنْ قَرَأَهَا قِبَلًا أَيْ بِكَسْرِ الْقَافِ فَإِنَّهُ يَقُولُ مَعْنَاهَا عِيَانًا انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى نَاحِيَةٍ يَقُولُ: لِي قِبَلَ فُلَانُ كَذَا، أَيْ مِنْ جِهَتِهِ، فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: قُبُلًا أَيْ مُقَابِلًا انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا} ، أَيْ مُعَايَنَةً، فَكَأَنَّهُ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَامِرٍ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالضَّمِّ وَمَعْنَاهُ الْمُعَايَنَةُ، يَقُولُ: رَأَيْتُهُ قُبُلًا لَا دُبُرًا إِذَا أَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ وَتَسْتَوِي عَلَى هَذَا الْقِرَاءَتَانِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقُبُلُ جَمْعُ قَبِيلٍ وَهُوَ الضَّمِينُ وَالْكَفِيلُ، أَيْ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ كَفِيلًا يَكْفُلُونَ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي نَعِدُهُمْ حَقٌّ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} ، انْتَهَى، وَلَمْ أَرَ مَنْ فَسَّرَ بِأَصْنَافِ الْعَذَابِ، فَلْيُحَرَّرْ هَذَا.
(تَنْبِيهٌ):
ثَبَتَ هَذَا وَالَّذِي بَعْدَهُ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ حَسْبُ.
قَوْلِهِ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} : كُلَّ شَيْءٍ حَسَنَتُهُ وَزِينَتُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: يُقَالُ زَخْرَفَ فُلَانٌ كَلَامَهُ وَشَهَادَتَهُ. وَقِيلَ أَصْلُ الزُّخْرُفِ فِي اللُّغَةِ التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ، وَلِذَلِكَ سَمَّوْا الذَّهَبَ زُخْرُفًا.
قَوْلُهُ: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حَرَامٌ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَوْفًى، وَسَقَطَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَهُوَ أَوْلَى.
9 - بَاب: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمعِ
4635 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} قَوْلُهُ:(بَابُ قَوْلِهِ: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِزِيَادَةٍ: وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ لِلْوَاحِدِ: هَلُمَّ، وَلِلْمَرْأَةِ: هَلُمِّي، وَلِلِاثْنَيْنِ: هَلُمَّا، وَلِلْقَوْمِ هَلُمُّوا، وَلِلنِّسَاءِ: هَلْمُمْنَ، يَجْعَلُونَهَا مِنْ هَلْمَمَتْ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْإِحْضَارِ، وَشُهَدَاءَكُمْ مَفْعُولٌ بِهِ، الْمِيمُ فِي هَلُمَّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ الْأُولَى، وَاخْتُلِفَ هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ، وَلِبَسْطِ ذَلِكَ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
10 - بَاب: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}
4636 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِسْحَاقُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى جَزَمَ خَلَفٌ بِأَنَّهُ ابْنُ نَصْرٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَقَوْلُ خَلَفٍ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - سُورَةُ الْأَعْرَافِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرِيشًا: الْمَالُ، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ، {عَفَوْا} كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، {الْفَتَّاحُ} الْقَاضِي، {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ بَيْنَنَا، {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا، انْبَجَسَتْ: انْفَجَرَتْ، {مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ، {آسَى} أَحْزَنُ، {تَأْسَ} تَحْزَنْ، وَقَالَ غَيْرُهُ:{مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} يَقُولُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافَ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، {سَوْآتِهِمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هُوَ هاهُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهَا، الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ: وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّبَاسِ، {وَقَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ، {ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا، وَمَشَاقُّ الْإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا يُسَمَّى سُمُومًا وَاحِدُهَا سَمٌّ، وَهِيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ، {غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ، {نَشْرًا} مُتَفَرِّقَةً، {نَكِدًا} قَلِيلًا: يَغْنَوْ يَعِيشُوا، حَقِيقٌ حَقٌّ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ مِنْ الرَّهْبَةِ، تَلَقَّفُ: تَلْقَمُ، طَائِرُهُمْ حَظُّهُمْ، طُوفَانٌ مِنْ السَّيْلِ، وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ، الْقُمَّلُ: الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ، عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ: بِنَاءٌ، سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ، الْأَسْبَاطُ: قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ لَهُ، يُجَاوِزُونَ، تعْدَ تَجَاوُزٍ {شُرَّعًا} شَوَارِعَ، {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ، {أَخْلَدَ} قَعَدَ
وَتَقَاعَسَ، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} ، {مِنْ جِنَّةٍ} مِنْ جُنُونٍ، {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَتَى
خُرُوجُهَا، {فَمَرَّتْ بِهِ} اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ، {يَنْزَغَنَّكَ} يَسْتَخِفَّنَّكَ، طَيْفٌ مُلِمٌّ بِهِ لَمَمٌ، يُقَالُ {طَائِفٌ} وَهُوَ وَاحِدٌ، {يَمُدُّونَهُمْ} يُزَيِّنُونَ، {وَخِيفَةً} خَوْفًا، {وَخُفْيَةً} مِنْ الْإِخْفَاءِ، وَالْآصَالُ: وَاحِدُهَا أَصِيلٌ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ كَقَوْلِهِ: {بُكْرَةً وَأَصِيلا}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْأَعْرَافِ) اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} فَقَالَ. . .
(1)
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ هُمْ مَلَائِكَةٌ وُكِّلُوا بِالصُّورِ لِيُمَيِّزُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلَا إِنَاثًا فَلَا يُقَالُ لَهُمْ رِجَالٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَقِّ الْجِنِّ:{الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} كَذَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِأَنَّ الْجِنَّ يَتَوَالَدُونَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَرِيشًا} الْمَالُ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ (وَرِيَاشًا) قَالَ: مَالًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ فَرَّقَهُمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَرِيشًا} قَالَ الْمَالُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرِّيَاشُ اللِّبَاسُ وَالْعَيْشُ وَالنَّعِيمُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْبَدِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: الرِّيَاشُ الْمَعَاشُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيَاشُ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ وَالسِّتَارَةِ، وَالرِّيَاشُ أَيْضًا الْخِصْبُ فِي الْمَعَاشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
(تَنْبِيهٌ)
قَرَأَ (وَرِيَاشًا) عَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْبَاقُونَ {وَرِيشًا} .
قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ وَفِي غَيْرِهِ وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَكَذَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ جَاءَ نَحْوَ هَذَا مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو فَقَالَ: إِنَى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَالُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ يَقَعُ بِزِيَادَةِ الرَّفْعِ فَوْقَ الْحَاجَةِ أَوْ بِطَلَبِ مَا يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ شَرْعًا أَوْ بِطَلَبِ مَعْصِيَةٍ أَوْ يَدْعُو بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ، خُصُوصًا مَا وَرَدَتْ كَرَاهَتُهُ كَالسَّجْعِ الْمُتَكَلَّفِ وَتَرْكِ الْمَأْمُورِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا، انْبَجَسَتِ: انْفَجَرَتْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ، يَقُولُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ غَيْرُهُ مَا مَنَعَكَ إِلَخْ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ هَذَا كَلَامَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْمَنْعَ هُنَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ قَالَ لَكَ أَلا تَسْجُدَ. قَالَ: وَأُدْخِلَتْ أَنْ قَبْلَ لَا كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ نَادَيْتُ أَنْ لَا تَقُمْ، وَحَلَفْتُ أَنْ لَا تَجْلِسَ. ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ وَحَمَلَكَ عَلَى أَلا تَسْجُدَ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ) كَذَا لِأَبِي عُبَيْدَةَ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَطَفِقَا
(1)
بياض بالأصل
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قَالَ: جَعَلَا يَأْخُذَانِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فَيَجْعَلَانِ عَلَى سَوْآتِهِمَا، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {يَخْصِفَانِ} قَالَ: يُرَقِّعَانِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ ظُفْرًا كُلَّهُ، فَلَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ كُشِطَ عَنْهُ وَبَدَتْ سَوْأَتُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ النُّورَ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَرَى عَوْرَةَ الْآخَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {سَوْآتِهِمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ، وَيُقَالُ تَدَارَكَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ أَيِ اجْتَمَعَ، وَالتَّاءُ مُدْغَمَةٌ فِي الدَّالِ، انْتَهَى. وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَالْأَصْلُ تَدَارَكُوا، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (الْفَتَّاحُ الْقَاضِي، {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَالْفَتَّاحُ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا تَوْطِئَةً لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} وَلَعَلَّهُ وَقَعَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مِنَ النُّسَّاخِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَصْمٍ رَسُولَا
…
فَإِنِّي عَنْ فِتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
الْفَتَّاحُ الْقَاضِي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِنْهُ يَنْقُلُ الْبُخَارِيُّ كَثِيرًا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {افْتَحْ بَيْنَنَا} حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: انْطَلِقْ أُفَاتِحْكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (افْتَحْ بَيْنَنَا) أَيِ اقْضِ بَيْنَنَا، وَمَنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ إِلَخْ) تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكِسَائِيِّ، أَيْ قَالَ: الرِّيشُ وَالرِّيَاشُ اللِّبَاسُ.
قَوْلُهُ: (قَبِيلُهُ جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(قَبِيلُهُ) قَالَ: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَمَشَاقُّ الْإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا تُسَمَّى سُمُومًا وَاحِدُهَا سَمٌّ، وَهِيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أَيْ ثُقْبِ الْإِبْرَةِ، وَكُلُّ ثُقْبٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ سَمٌّ وَالْجَمْعُ سُمُومٌ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَسَامُّ الْإِنْسَانِ بَدَلَ مَشَاقِّ وَهِيَ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: {غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وَاحِدَتُهَا غَاشِيَةٌ وَهِيَ مَا غَشَّاهُمْ فَغَطَّاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمِهَادُ لَهُمْ كَهَيْئَةِ الْفِرَاشِ. وَالْغَوَاشِ يَتَغَشَّاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَمَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الْمِهَادُ الْفُرُشُ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ قَالَ: اللُّحُفُ.
قَوْلُهُ: (نَكِدًا قَلِيلًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} أَيْ قَلِيلًا عَسِرًا فِي شِدَّةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تُنْجِزِ الْوَعْدَ إِنْ وَعَدْتَ
…
وَإِنْ أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نَكِدَا
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: النَّكِدُ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ.
قَوْلُهُ: {طَائِرُهُمْ} حَظُّهُمْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} قَالَ: حَظُّهُمْ وَنَصِيبُهُمْ.
قَوْلُهُ: (طُوفَانُ مِنَ السَّيْلِ، وَيُقَالُ
لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطُّوفَانُ مِنَ السَّيْلِ وَمِنَ الْمَوْتِ الْبَالِغِ الذَّرِيعِ، كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَطَافَ بِهِ إِذَا عَمَّهُ بِالْهَلَاكِ. وَعَنِ الْأَخْفَشِ: الطُّوفَانُ وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا وَاحِدَ لَهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ حَتَّى خَافُوا الْهَلَاكَ، فَأَتَوْا مُوسَى فَدَعَا اللَّهَ فَرَفَعَ ثُمَّ عَادُوا. وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ.
قَوْلُهُ: {وَالْقُمَّلَ} الْحُمْنَانُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ (شْبه صِغَارَ الْحَلَمِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقُمَّلُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الْحُمْنَانُ وَالْحُمْنَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ وَاحِدَتُهَا حَمْنَانَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْقُمَّلِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا: قِيلَ: السُّوسُ، وَقِيلَ: الدَّبَا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفٌ وَهُوَ صِغَارُ الْجَرَادِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَقِيلَ دَوَابٌّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقِيلَ صِغَارُ الذَّرِّ، وَقِيلَ هُوَ الْقَمْلُ الْمَعْرُوفُ، وَقِيلَ دَابَّةٌ أَصْغَرُ مِنَ الطَّيْرِ لَهَا جَنَاحٌ أَحْمَرُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمُصَّ الْحَبَّ مِنَ السُّنْبُلَةِ فَتَكْبَرُ السُّنْبُلَةُ وَلَا حَبَّ فِيهَا، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أَيْ يَبْنُونَ، وَعُرُشُ مَكَّةَ خِيَامُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ تَفْسِيرُ {مَعْرُوشَاتٍ} .
قَوْلُهُ: {سُقِطَ} كُلُ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَدِمَ وَعَجَزَ عَنْ شَيْءٍ سُقِطَ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {مُتَبَّرٌ} خُسْرَانٌ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {آسَى} أَحْزَنُ، تَأْسَ تَحْزَنْ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ تَفْسِيرِ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا، وَالْأُولَى فِي الْأَعْرَافِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَائِدَةِ ذَكَرَهَا اسْتِطْرَادًا.
قَوْلُهُ: {عَفَوْا} كَثُرُوا) زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} أَيْ كَثُرُوا، وَكَذَلِكَ كُلُّ نَبَاتٍ وَقَوْمٍ وَغَيْرِهِ إِذَا كَثُرُوا فَقَدْ عَفَوْا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَكِنَّا نَعَضُّ السَّيْفَ مِنْهَا بِأَسْوُقٍ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{حَتَّى عَفَوْا} أَيْ حَتَّى سُرُّوا بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {نَشْرًا} مُتَفَرِّقَةً) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَيْ يَنْزِلُوهَا وَلَمْ يَعِيشُوا فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَغَانِي الدِّيَارِ وَاحِدَتُهَا مَغْنًى، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَعْرِفُ مَغْنَى دِمْنَةٍ وَرُسُومِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَيْ كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا، أَوْ كَأَنْ لَمْ يَتَنَعَّمُوا.
قَوْلُهُ: {حَقِيقٌ} حَقٌّ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (اسْتَرْهَبُوهُمْ مِنَ الرَّهْبَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} هُوَ مِنَ الرَّهْبَةِ أَيْ خَوَّفُوهُمْ.
قَوْلُهُ: (تَلَقَّفُ تَلْقَمُ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (الْأَسْبَاطُ قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَاحِدُهَا سِبْطٌ، تَقُولُ مِنْ أَيِّ سِبْطٍ أَنْتَ؟ أَيْ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ وَجِنْسٍ؟ انْتَهَى. وَالْأَسْبَاطُ فِي وَلَدِ يَعْقُوبَ كَالْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، وَقِيلَ مِنَ السَّبَطِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَقِيلَ لِلْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِانْتِشَارِ ذُرِّيَّتِهِمَا، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ ابْنِ بِنْتٍ سِبْطٍ.
قَوْلُهُ: {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَدَلَ قَوْلِهِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَ تَجَاوُزًا بَعْدَ تَجَاوُزٍ وَهُوَ بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: {شُرَّعًا} شَوَارِعَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أَيْ شَوَارِعَ انْتَهَى. وَشُرَّعٌ وَشَوَارِعُ جَمْعُ شَارِعٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أَيْ بِيضًا سِمَانًا فَتَنْبَطِحُ بِأَفْنِيَتِهِمْ ظُهُورُهَا لِبُطُونِهَا.
قَوْلُهُ: {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أَيْ شَدِيدٍ، وَبَئِيسٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْمَشْهُورَةِ وَالشَّاذَّةِ لَا نُطِيلُ بِهَا.
قَوْلُهُ: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} قَعَدَ وَتَقَاعَسَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أَيْ لَزِمَهَا وَتَقَاعَسَ وَأَبْطَأَ، يُقَالُ فُلَانٌ مُخْلِدٌ أَيْ بَطِيءُ الشَّبَابِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} مَالَ إِلَى الدُّنْيَا، انْتَهَى. وَأَصْلُ الْإِخْلَادِ اللُّزُومُ، فَالْمَعْنَى لَزِمَ الْمَيْلَ إِلَى الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} الِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ وَمِنْ حَيْثُ يَتَلَطَّفُ بِهِ حَتَّى يُغَيِّرَهُ انْتَهَى. وَأَصْلُ الِاسْتِدْرَاجِ التَّقْرِيبُ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً مِنَ الدَّرْجِ، لِأَنَّ الصَّاعِدَ يَرْقَى دَرَجَةً دَرَجَةً.
قَوْلُهُ: {مِنْ جِنَّةٍ} مِنْ جُنُونِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أَيْ جُنُونٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْجِنَّةِ الْجِنُّ كَقَوْلِهِ:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَعَلَى هَذَا فَيُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَسُّ جِنَّةٍ.
قَوْلُهُ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَتَى خُرُوجُهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مُرْسَاهَا} أَيْ مُنْتَهَاهَا، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: قِيَامُهَا.
قَوْلُهُ: {فَمَرَّتْ بِهِ} اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَقَعْ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {يَنْزَغَنَّكَ} يَسْتَخِفَّنَّكَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: مِنْهُ قَوْلُهُ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ أَيْ أَفْسَدَ.
قَوْلُهُ: (طَيْفٌ مُلِمٌّ بِهِ لَمَمٌ، وَيُقَالُ طَائِفٌ وَهُوَ وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} أَيْ لَمَمٌ انْتَهَى. وَاللَّمَمُ يُطْلَقُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْجُنُونِ وَعَلَى صِغَارِ الذُّنُوبِ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ {طَائِفٌ} وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ طَيْفٌ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْأُولَى وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى الْغَضَبِ أَوِ الزَّلَّةِ، وَأَمَّا الطَّيْفُ فَهُو الْخَيَالُ، ثُمَّ حَكَى بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الطَّيْفَ وَالطَّائِفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَسْنَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الطَّائِفُ اللَّمَّةُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
قَوْلُهُ: {يَمُدُّونَهُمْ} يُزَيِّنُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} أَيْ يُزَيِّنُونَ لَهُمُ الْغَيَّ وَالْكُفْرَ.
قَوْلُهُ: {وَخُفْيَةً} خَوْفًا، وَخِيفَةً مِنَ الْإِخْفَاءِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أَيْ خَوْفًا، وَذَهَبَتِ الْوَاوُ لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أَيْ سِرًّا، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَوْلُهُ مِنَ الْإِخْفَاءِ فِيهِ تَجَوُّزٌ وَالْمَعْرُوفُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الصَّرْفِ مِنَ الْخَفَاءِ لِأَنَّ الْمَزِيدَ مُشْتَقٌّ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَيُوَجَّهُ الَّذِي هُنَا بِأَنَّهُ أَرَادَ انْتِظَامَ الصِّفَتَيْنِ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: {وَالآصَالِ} وَاحِدُهَا أَصِيلٌ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمُغْرِبِ كَقَوْلِكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةِ أَيْضًا بِلَفْظِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضُبِطَ فِي نُسْخَةٍ أُصُلٌ بِضَمَّتَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا أَصِيلٌ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، وَلَيْسَ يبَيِّنٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْآصَالَ جَمْعُ أَصِيلٍ فَيَصِحُّ. قُلْتُ: وَهُوَ وَاضِحٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْآصَالُ الْعَشِيُّ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْأَصِيلُ وَاحِدُ الْأُصُلُ وَجَمْعُ الْأُصُلِ آصَالٌ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَالْأَصَائِلُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{بُكْرَةً وَأَصِيلا} .
1 - بَاب {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4637 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَرَفَعَهُ، قَالَ: لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ؛ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ؛ فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْفَوَاحِشِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْعُمُومِ وَسَاقَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْمُرَادُ سِرُّ الْفَوَاحِشِ وَعَلَانِيَتُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمْلَهَا عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ وَسَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بِالزِّنَا بَأْسًا فِي السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ: مَا ظَهَرَ: نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَا بَطَنَ: الزِّنَا. ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَلَيْسَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِمَدْفُوعٍ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرِنِي أَعْطِنِي.
4638 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الْأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي، قَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، قَالَ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَقُلْتُ: وَعَلَى مُحَمَّدٍ؟ وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ، قَالَ: لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} .
قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرِنِي: أَعْطِنِي). وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قَالَ: أَعْطِنِي. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}
(تَكْمِلَةٌ):
تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} نَفَاةُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: لَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى التَّأْيِيدِ. وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ التَّعْمِيمَ فِي الْوَقْتِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، سَلَّمْنَا لَكِنْ خُصَّ بِحَالَةِ الدُّنْيَا الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخِطَابُ، وَجَازَ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ أَبْصَارَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بَاقِيَةٌ فَلَا اسْتِحَالَةَ أَنْ يُرَى الْبَاقِي بِالْبَاقِي. بِخِلَافِ حَالَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا فَانِيَةٌ فَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ بِوُقُوعِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ وَبِإِكْرَامِهِمْ بِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهَا فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ حَيْثُ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ) الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَمْ جُزِيَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ،
عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي جُوزِيَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
المن والسلوى
* 4639 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْنِ.
قَوْلُهُ {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْكَمْأَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الطِّبِّ، وَقَوْلُهُ شِفَاءٌ مِنَ الْعَيْنِ أَيْ وَجَعُ الْعَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ تَقَدَّمَ شَرْحَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي غَيْرِ هَذِهِ. وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
4640 -
حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ، عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَنَحْنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ، قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْرِ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِيمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ كَذَا وَقَعَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْكِلَابَاذِيُّ وَطَائِفَةٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ هَذَا هُوَ الْآمُلِيُّ بِالْمَدِّ وَضَمِّ الْمِيمِ الْخَفِيفَةِ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ الْأَصِيلِيُّ: هُوَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ يُوَرِّقُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قُلْتُ: وَقَدْ شَارَكَهُ فِي كَثِيرِ مِنْ شُيُوخِهِ، وَكَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ، مَاتَ قَبْلَ السَّبْعِينَ، أَوْ بَعْدَهَا، فَقَالَ غُنْجَارُ فِي تَارِيخِ بُخَارَى مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا مُوسَى بْنُ هَارُونَ فَهُوَ البنيِّ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ. وَالْبُرْدِيُّ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، كُوفِيٌّ قَدِمَ مِصْرَ ثُمَّ سَكَنَ الْفَيُّومَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَا لَهُ فِي
الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ: غَامِرٌ سَبَقَ بِالْخَيْرِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ.
4 - بَاب: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}
4641 -
حَدَّثَني إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ {حِطَّةٌ}. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ ابْنُ رَاهْوَيْهِ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} قَالَ الْحَسَنُ: أَيِ احْطُطْ عَنَّا خَطَايَانَا، وَهَذَا يَلِيقُ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ حِطَّةً بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ، وَقِيلَ أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّصْبُ حَرَكَةَ الْحِكَايَةِ، وَقِيلَ رُفِعَتْ لِتُعْطِي مَعْنَى الثَّبَاتِ كَقَوْلِهِ سَلَامٌ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ مِنَ الْحَطِّ كَالْجِلْسَةِ، وَقِيلَ هِيَ التَّوْبَةُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي صَيَّرَ اللَّهُ
…
بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورَا
وَقِيلَ لَا يُدْرَى مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا تَعَبَّدُوا بِهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: قِيلَ لَهُمْ قُولُوا مَغْفِرَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَبَدَّلُوا) أَيْ غَيَّرُوا، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التَّقْدِيرُ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالَّذِي قِيلَ لَهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ بَدَّلَ مَعْنَى قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمَذْكُورَةِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي شَعِيرَةٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ عِنْدَ انْتِهَائِهِمْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَبِقَوْلِهِمْ حِطَّةٌ، فَبَدَّلُوا السُّجُودَ بِالزَّحْفِ وَقَالُوا حِنْطَةٌ بَدَلَ حِطَّةٌ، أَوْ قَالُوا حِطَّةٌ وَزَادُوا فِيهَا حَبَّةً فِي شَعِيرَةٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالُوا هطى سمقا وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ قَوِيَّةٌ فِيهَا شَعِيرَةٌ سَوْدَاءُ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَةُ إِذَا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا وَلَوْ وَافَقَ الْمَعْنَى. وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَسْأَلَةَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى بَلْ هِيَ مُتَفَرِّعَةٌ مِنْهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الْجَوَازِ، أَعْنِي يُزَادُ فِي الشَّرْطِ أَنْ لَا يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ فَكَلَامُهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ.
5 - بَاب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ: الْمَعْرُوفُ
4642 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ
الْحُرُّ، لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.
[الحديث 4642 - طرفه في: 7286]]
4643 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ فِي أَخْلَاقِ النَّاس"
[الحديث 4643 - طرفه في: 4644]
4644 -
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قال هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، أَوْ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ (بَابُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ: الْمَعْرُوفُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ شُبَّانًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى) نَسَبَهُ ابْنُ السَّكَنِ فَقَالَ: يَحْيَى ابْنُ مُوسَى، وَنَسَبَهُ الْمُسْتَمْلِي فَقَالَ: يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَشْبَهُ مَا قَالَ الْمُسْتَمْلِي.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) أَيْ هَذِهِ الْآيَةَ (إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ) كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ وَكِيعٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ بَرَّادٍ) بِمُوَحَّدَةٍ وَتَثْقِيلِ الرَّاءِ، وَبَرَّادُ اسْمُ جَدِّهِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ بَرَّادِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ، أَوْ كَمَا قَالَ) وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَوَصَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ، وَتَابَعَهُمْ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّفَاوِيُّ، عَنْ هِشَامِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَخَالَفَهُمْ مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ قَوْلِهِ مَوْقُوفًا، وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَكَذَا رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَشَاذَّةٌ أَيْضًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِهِشَامٍ فِيهِ شَيْخَانِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَمَرْجُوحَةٌ بِأَنَّ زِيَادَةَ مَنْ خَالَفَهُمَا مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِهِمْ حُفَّاظًا، وَإِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ قَالَ {خُذِ الْعَفْوَ} يَعْنِي خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَيْ مَا فَضَلَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ
فَرْضِ الزَّكَاةِ، وَبِذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ وَزَادَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ الْأَوَّلَ، وَاحْتَجَّ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْأَخْلَاقَ ثَلَاثَةٌ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: عَقْلِيَّةٌ وَشَهْوِيَّةٌ وَغَضَبِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ الْحِكْمَةُ وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالشَّهْوِيَّةُ الْعِفَّةُ وَمِنْهَا أَخْذُ الْعَفْوِ، وَالْغَضَبِيَّةُ الشَّجَاعَةُ وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مُرْسَلًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ لَمَّا نَزَلَتْ:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} سَأَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ حَتَّى أَسْأَلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
8 - سُورَةُ الْأَنْفَالِ
1 - بَاب قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ، قَالَ قَتَادَةُ:{رِيحُكُمْ} الْحَرْبُ، يُقَالُ: نَافِلَةٌ عَطِيَّةٌ
4645 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سُورَةُ الْأَنْفَالِ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. الشَّوْكَةُ: الْحَدُّ، {مُرْدِفِينَ} فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، رَدِفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي، ذُوقُوا: بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ، {فَيَرْكُمَهُ} تجْمَعَهُ، شَرِّدْ: فَرِّقْ، {وَإِنْ جَنَحُوا} طَلَبُوا، السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَالسَّلَامُ وَاحِدٌ، {يُثْخِنَ} يَغْلِبَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{مُكَاءً} إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، {وَتَصْدِيَةً} الصَّفِيرُ، {لِيُثْبِتُوكَ} لِيَحْبِسُوكَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْأَنْفَالِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ، كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِصَةً لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْءٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَنَعَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، الْحَدِيثَ فَنَزَلَتْ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}
قَوْلُهُ: (نَافِلَةٌ عَطِيَّةٌ) قَالَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ يُقَالُ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَيْ غَنِيمَةً.
قَوْلُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا} طَلَبُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} أَيْ رَجَعُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَطَلَبُوا الصُّلْحَ.
قَوْلُهُ: (السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَالسَّلَامُ وَاحِدٌ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (يُثْخِنَ) أَيْ يَغْلِبَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يُثْخِنُ أَيْ يُبَالِغُ وَيَغْلِبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُكَاءً} إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) وَصَلَهُ عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: {وَتَصْدِيَةً} الصَّفِيرُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا كَذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مُتَرَاخِيًا عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ بِعَقِبِهِ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً} قَالَ: إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتَصْدِيَةً الصَّفِيرُ، يَخْلِطُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ وَالتَّصْدِيَةُ صَفْقُ الْأَكُفِّ،
وَوَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: رِيحُكُمُ الْحَرْبُ) تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (الشَّوْكَةُ الْحَدُّ) ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} مَجَازٌ الشَّوْكَةُ الْحَدُّ، يُقَالُ: مَا أَشَدَّ شَوْكَةَ بَنِي فُلَانٍ أَيْ حَدَّهُمْ.
قَوْلُهُ: {مُرْدِفِينَ} فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، يُقَالُ رَدَفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{مُرْدِفِينَ} بِكَسْرِ الدَّالِ فَاعِلِينَ مِنْ أَرْدَفُوا أَيْ جَاءُوا بَعْدَ قَوْمٍ قَبْلَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: رَدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الدَّالِ فَهُوَ مِنْ أَرْدَفَهُمُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ مَنْ قَبْلَهُمُ انْتَهَى. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ الدَّالِ وَنَافِعٍ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: بَنُو فُلَانٍ يُرْدِفُونَنَا أَيْ يَجِيئُونَ بَعْدَنَا.
قَوْلُهُ: {فَيَرْكُمَهُ} يَجْمَعَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أَيْ فَيَجْمَعَهُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: (شَرِّدْ: فَرِّقْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {لِيُثْبِتُوكَ} يَحْبِسُوكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ مُحَمَّدٌ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (ذُوقُوا: بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ}
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) كَذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي آخِرِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ فِي أَثْنَائِهَا وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ سَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْهُ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي.
1 - بَاب: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}
4646 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} قَالَ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ لَا يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْقِلُونَ: لَا يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ، قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا، لِمَا يُحْيِيكُمْ: لما يُصْلِحُكُمْ.
4647 -
حَدَّثَنا إِسْحَاقُ، قال:، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجَ، فَذَكَرْتُ لَهُ. وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ حَفْصًا، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَقَالَ: هِيَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، السَّبْعُ الْمَثَانِي.
قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا. {لِمَا يُحْيِيكُمْ} لِمَا يُصْلِحُكُمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ} أَيْ أَجِيبُوا لِلَّهِ، يُقَالُ اسْتَجَبْتُ لَهُ وَاسْتَجَبْتُهُ بِمَعْنًى وَقَوْلِهِ:{لِمَا يُحْيِيكُمْ} أَيْ لِمَا يَهْدِيكُمْ وَيُصْلِحُكُمُ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاذٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ، وَفَائِدَةُ إِيرَادِهِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ تَصْرِيحِ حَفْصٍ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا سَمَّى اللَّهُ مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَذَابًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}
4648 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ - هُوَ ابْنُ كُرْدِيدٍ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ - سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ.
[الحديث 4648 - طرفه في: 4649]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِن دِكَ فَأَمْطِرْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَخْ) كَذَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ قَالَ: وَيَقُولُ نَاسٌ مَا سَمَّى اللَّهُ الْمَطَرَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَذَابًا، وَلَكِنْ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} كَذَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ {حم * عسق} وَقَدْ تُعُقِّبَ كَلَامُ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِوُرُودِ الْمَطَرِ بِمَعْنَى الْغَيْثِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} فَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْغَيْثُ قَطْعًا، مَعْنَى التَّأَذِّي بِهِ الْبَلَلُ الْحَاصِلُ مِنْهُ لِلثَّوْبِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ أُمْطِرَتْ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مُطِرَتْ. وَفِيهِ مُطِرَتْ. وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرِ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ الْحَاكِمَانِ أَبُو أَحْمَدَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ ابْنُ النَّضِرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ بِعَيْنِهِ عَقِبَ هَذَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضِرِ أَخِي أَحْمَدَ هَذَا، قَالَ الْحَاكِمُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمَا وَيُكْثِرُ الْكُمُونَ عِنْدَهُمَا إِذَا قَدِمَ نَيْسَابُورَ. قُلْتُ: وَهُمَا مِنْ طَبَقَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْبُخَارِيِّ وَإِنْ شَارَكُوهُ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ عَنْ شَيْخِهِمَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ نَفْسِهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورُ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، فَنَزَلَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْكَثِيرَ عَنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ بِوَاسِطَةِ وَاحِدَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعْبَةَ، قَالَ الْحَاكِمُ: أَحْمَدُ بْنُ النَّضِرِ يُكَنَّى أَبَا
الْفَضْلِ وَكَانَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَا لِأَخِيهِ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ وَنَسَبَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ) هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ دِينَارٍ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَيُقَالٌ لَهُ ابْنُ كُرْدِيدٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ دَالٍ أُخْرَى، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَالزِّيَادِيُّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِ زِيَادٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا إِلَخْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ الْقَائِلُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ نُسِبَ إِلَى جَمَاعَةٍ فَلَعَلَّهُ بَدَأَ بِهِ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا قَالَاهُ، وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ سَفَهَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَهَلَتُهَا.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوْا نَدِمُوا فَقَالُوا غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أَيْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو مَالِكٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَكَانَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ يَسْتَغْفِرُونَ، فَلَمَّا خَرَجُوا أَنْزَلَ اللَّهُ:{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَفْعَهُ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي أَمَانَيْنِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ، وَهُوَ يُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَذَابَ حَلَّ بِهِمْ لَمَّا تَرَكُوا النَّدَمَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَبَالَغُوا فِي مُعَانَدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَارَبَتِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4649 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
5 - بَاب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
4650 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ لَا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أعير بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أعير بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} إِلَى آخِرِهَا، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ: إِمَّا يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا يُوثِقُوهُ، حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ فِيمَا يُرِيدُ قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا قَوْلِي فِي عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ؟ أَمَّا عُثْمَانُ فَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ فَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنُهُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ - وَهَذِهِ ابْنَتُهُ أَوْ بِنْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
4651 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا بَيَانٌ أَنَّ وَبَرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا أَوْ إِلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ رَجُلٌ كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ فَقَالَ وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْك"
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى) هُوَ الْبُرُلُّسِيُّ يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، صَدُوقٌ، أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَكِنْ رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ هُنَا، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَالِ بَقِيَّةِ الْإِسْنَادِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ حَيَّانُ صَاحِبُ الدِّثِنِّيَّةِ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ فِي فَوَائِدِهِ أَنَّهُ الْهَيْثَمُ بْنُ حَنَشٍ وَقِيلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَسَأَذْكُرُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ قَوْلًا آخَرَ، وَلَعَلَّ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، أَوْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ.
قَوْلُهُ: (فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ لَا تُقَاتِلَ) لَا زَائِدَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} قَوْلُهُ: (أُعَيرُ) بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِغَيْرِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ يَرَى قِتَالَ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَقِدُ طَاعَتُهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى تَرْكَ الْقِتَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُلْكِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا يُوثِقُوهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، فَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّهُ غَلَطٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ بِإِثْبَاتِ النُّونِ فِيهِمَا لِأَنَّ إِمَّا الَّتِي تَجْزِمُ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ وَلَيْسَتْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. قُلْتُ: وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَوُجِّهَتْ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ بِأَنَّ النُّونَ قَدْ تُحْذَفُ بِغَيْرِ نَاصِبٍ وَلَا جَازِمَ فِي لُغَةٍ شَهِيرَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ بِلَفْظِ إِمَّا تُعَذِّبُوهُ وَإِمَّا تَقْتُلُوهُ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ هُنَاكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ فَيُؤَيِّدُ أَنَّ السَّائِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْخَيْنِ وَيَحُطُّونَ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ بِذِكْرِ مَنَاقِبِهِمَا وَمَنْزِلَتِهِمَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالِاعْتِذَارُ عَمَّا عَابُوا بِهِ عُثْمَانَ مِنَ الْفِرَارِ يَوْمَ أُحُدٍ فَإِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ سُؤَالُ السَّائِلِ لِابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَابَ عَنْ بَدْرٍ وَعَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَبَيَانُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ عُذْرُ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّائِلَ هُنَا،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَاكَ لِذِكْرِ عَلِيٍّ وَكَأَنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا، وَأَمَّا عَدَمُ ذِكْرِهِ لِلْقِتَالِ فَلَا يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي بَعْدَهَا قَدْ ذَكَرَ فِيهَا الْقِتَالَ وَلَمْ يَذْكُرُ قِصَّةَ عُثْمَانَ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّدِ لِاخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ فِي تَسْمِيَةِ السَّائِلِينَ وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَسْئُولُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَمَضَى فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ بِلَفْظِ أَنْ يَعْفُوَا بِالتَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلُهُ وَالْإِفْرَادُ أَيِ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ وَهَذِهِ ابْنَتُهُ أَوْ بِنْتُهُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالشَّكِّ وَوَافَقَهُمُ الْكُشْمِيهَنِيُّ لَكِنْ قَالَ أَوْ أَبْيُتُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ فِي الْبَيْتِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ فَقَالَ هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَيْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ بَيْتُهُ بِبِنْتِهِ فَقَرَأَهَا بِنْتَهُ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ طَرَأَ لَهُ الشَّكُّ فَقَالَ بِنْتُهُ أَوْ بَيْتُهُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ الْبَيْتُ فَقَطْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِبَيْتِ عَلِيٍّ وَاخْتِصَاصِهِ بِكَوْنِهِ بَيْنَ بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَشَيْخُهُ زُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَشَيْخُهُ بَيَانٌ هُوَ ابْنُ بِشْرٍ، وَشَيْخُهُ وَبَرَةٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُخْتَصَرٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، أَوْ هُمَا وَاقِعَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
4652 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَتْ:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الْآيَةَ، فَكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَزَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً: نَزَلَتْ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: وَأُرَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا.
[الحديث 4652 - طرفه في: 4653]
قَوْلُهُ: بَابُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الْآيَةَ، سَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ الْآيَةَ إِلَى {يَفْقَهُونَ} وَسَقَطَ عِنْدَهُمْ بَابُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنِ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ) أَيْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَالسِّيَاقُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا لَلَزِمَ وُقُوعُ خِلَافِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، وَالثَّانِي لِقَرِينَةِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّخْفِيفِ هُنَا التَّكْلِيفُ بِالْأَخَفِّ لَا رَفْعُ الْحُكْمِ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ) أَيْ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَرْوِيهِ بِالْمَعْنَى، فَتَارَةً يَقُولُ بِاللَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مُحَافَظَةً عَلَى التِّلَاوَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَتَارَةً يَرْوِيهِ بِالْمَعْنَى
وَهُوَ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ بِاللَّفْظَيْنِ وَيَكُونَ التَّأْوِيلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الطَّرِيقُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ عَشَرَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ خُفِّفَ عَنْهُمْ فَجُعِلَ عَلَى الرَّجُلِ رَجُلَانِ وَرَوَى أَيْضًا الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ سُفْيَانُ) كَأَنَّهُ حَدَّثَ مَرَّةً بِالزِّيَادَةِ وَمَرَّةً بِدُونِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الْآيَةَ، فَجُعِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنِ اثْنَيْنِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِاللَّفْظَيْنِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ قَالَ سُفْيَانُ فَذَكَرْتُهُ لِابْنِ شُبْرُمَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَرَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا) أَيْ أَنَّهُ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ، لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْبَاطِلِ.
7 - بَاب: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
4653 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الخِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الْآيَةَ) زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ. وَلِجَرِيرِ بْنِ حَازِمِ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ لِجَرِيرٍ فِيهِ طَرِيقِينَ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ عَطَاءٍ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ الْوَاحِدُ عَشَرَةً، فَشَقَ عَلَيْهِمْ، فَوَضَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ الْوَاحِدُ الرَّجُلَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ وَزَادَ بَعْدَهَا ثُمَّ قَالَ:{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} فَذَكَرَ تَفْسِيرَهَا ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} ، فَذَكَرَ قَوْلَ الْعَبَّاسِ فِي الْعِشْرِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَعْطَانِي عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ قَدْ تَاجَرَ بِمَالِي مَعَ مَا أَرْجُوهُ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَفِي سَنَدِ طَرِيقِ عَطَاءٍ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَهُ مُسْنَدَةٌ بَلْ مُعْضَلَةٌ، وَصَنِيعُ ابْنِ إِسْحَاقَ - وَتَبِعَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ - يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ:
(شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ جَهِدَ النَّاسَ ذَلِكَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ التَّخْفِيفُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى - وَزَادَ - فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَا قَوْمٌ مِنْ مِثْلِهِمْ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ إِذَا قَاوَمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَحْرِيمِ الْفِرَارِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ طَلَبُهُ أَوْ طَلَبُهُمَا، سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ مَعَ الْعَسْكَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَسْكَرٌ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِوُجُودِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ وَلَفْظُهُ وَمِنْ نُسْخَةٍ عَلَيْهَا خَطُّ الرَّبِيعِ نُقِلَتْ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لِلْآيَةِ آيَاتٍ فِي كِتَابِهِ: أَنَّهُ وُضِعَ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الْعَشَرَةِ وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ طَلَبَاهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ جَازَ لَهُ التَّوَلِّي عَنْهُمَا جَزْمًا، وَإِنْ طَلَبَهُمَا فَهَلْ يَحْرُمُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا، لَكِنْ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَضَافِرَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْبَاهُ وَهُوَ تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ وَأَعْرَفُ النَّاسُ بِالْمُرَادِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَطْلَقَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَاوَمَ الْوَاحِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّفِّ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ، أَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَحْدَهُ بِغَيْرِ
الْعَسْكَرِ فَلَا، لِأَنَّ الْجِهَادَ إِنَّمَا عُهِدَ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الشَّخْصِ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ سَرِيَّةً وَحْدَهُ. وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي غَالِبِهَا التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ تَوَلِّي الْوَاحِدِ عَنْ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ}
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعُدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ نَقَصَ مِنَ النَّصْرِ وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ تَوْقِيفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاءِ.
9 - سُورَةُ بَرَاءَةٍ
مَرْصَدٌ: طَرِيقٌ، إِلَّا: الْإِلُّ الْقِرْابَةُ وَالذِّمَّةُ وَالْعَهْدُ، وَلِيجَةَ: كُلِّ شَيْءٍ أَدْخَلْتُهُ فِي شَيْءٍ، الشَّقَّةُ: السَّفَرُ، الْخَبَالُ: الْفَسَادُ، وَالْخَبَالُ الْمَوْتُ، وَلَا تَفْتِنِّي: لَا تُوَبِّخُنِي، كَرَهًا وَكُرْهًا وَاحِدٌ، مُدْخَلًا: يَدْخُلُونَ فِيهِ، يَجْمَحُونَ: يُسْرِعُونَ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ: ائُتُفِكَتِ انْقَلَبَتْ بِهَا الْأَرْضُ، أَهْوَى: أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ، عَدْنٍ: خُلْدٍ، عَدَنْتَ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتَ، وَمِنْهُ مَعْدِنٌ وَيُقَالُ فِي مَعْدِنٍ صِدْقٍ فِي مَنْبِتٍ صِدْقٍ، الْخَوَالِفُ: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَّفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي، وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغابرين وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الْخَالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمَعِهِ إِلَّا حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالَكٌ وَهَوَالِكُ، الْخَيِّرَاتُ: وَاحِدُهَا خِيرَةٌ، وَهِيَ الْفَوَاضِلُ، مُرْجَوْنَ: مُؤَخَّرُونَ، الشَّفَا: الشَّفِيرُ وَهُوَ حَدُّهُ، وَالْجُرْفُ: مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالْأَوديَةِ، هَارٍ: هَائِرٍ، لَأَوَاهٌ: شَفَقًا وَفَرَقًا، وَقَالَ:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ
…
تَأَوُّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
قَوْلُهُ: (سُورَةُ بَرَاءَةِ) هِيَ سُورَةُ التَّوْبَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا، وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَهَا فَقِيلَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ وَالْبَسْمَلَةُ أَمَانٌ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنَ شَكُّوا هَلْ هِيَ وَالْأَنْفَالُ وَاحِدَةٌ أَوْ ثِنْتَانِ فَفَصَلُوا بَيْنَهُمَا بِسَطْرٍ لَا كِتَابَةَ فِيهِ وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ الْبَسْمَلَةَ. وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُثْمَانَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ.
قَوْلُهُ: (مَرْصَدٍ طَرِيقٍ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَسَقَطَ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ قَوْلُ، أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أَيْ كُلُّ طَرِيقٍ، وَالْمَرَاصِدُ الطُّرُقُ.
قَوْلُهُ: (إِلًّا: الْإِلُّ الْقَرَابَةُ وَالذِّمَّةُ وَالْعَهْدُ) تَقَدَّمَ فِي الْجِزْيَةِ.
قَوْلُهُ: {وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَسَقَطَ هُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (الشُّقَّةُ: السَّفَرُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ الْبَعِيدُ وَقِيلَ الشُّقَّةُ الْأَرْضُ الَّتِي يَشُقُّ سُلُوكُهَا.
قَوْلُهُ: (الْخَبَالُ: الْفَسَادُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} الْخَبَالُ الْفَسَادُ.
قَوْلُهُ: (وَالْخَبَالُ الْمَوْتُ) كَذَا لَهُمْ وَالصَّوَابُ الْمُوتَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَفْتِنِّي} لَا تُوَبِّخْنِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْخَاءُ الْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ، وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ تُوَهِّنِّي بِالْهَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ الْوَهَنِ وَهُوَ الضَّعْفُ، وَلِابْنِ السَّكَنِ تُؤَثِّمْنِي بِمُثَلَّثَةٍ ثَقِيلَةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الْإِثْمِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ الَّذِي يُكْثِرُ الْمُصَنِّفُ النَّقْلَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَفْتِنِّي} قَالَ: لَا تُؤَثِّمْنِي: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أَلَا فِي الْإِثْمِ سَقَطُوا.
قَوْلُهُ: (كَرْهًا وَكُرْهًا وَاحِدٌ) أَيْ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَبِالضَّمِّ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ حَمْزَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: {مُدَّخَلا} يَدْخُلُونَ فِيهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَلْجَأً} يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) يَدْخُلُونَ فِيهِ وَيَتَغَيَّبُونَ انْتَهَى، وَأَصْلُ مُدَّخَلًا مُدْتَخَلًا فَأُدْغِمَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ أَيْضًا، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ مَدْخَلًا بِفَتْحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا سُكُونٌ {يَجْمَحُونَ} يُسْرِعُونَ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: لَا يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ شَيْءٌ، وَمِنْهُ فَرَسٌ جَمُوحٌ.
قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} ائْتَفَكَتِ انْقَلَبَتْ بِهَا الْأَرْضُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} هُمْ قَوْمُ لُوطٍ ائْتَفَكَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ أَيِ انْقَلَبَتْ بِهِمْ.
قَوْلُهُ: {أَهْوَى} أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ) هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ تَقَعْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا اسْتِطْرَادًا مِنْ قَوْلِهِ:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}
قَوْلُهُ: (عَدْنٍ: خُلْدٍ إِلَخْ) وَاقْتَصَرَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى مَا هُنَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ خُلْدٍ، يُقَالُ: عَدَنَ فُلَانُ بِأَرْضِ كَذَا أَيْ أَقَامَ، وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ، عَدَنْتُ بِأَرْضِ أَقَمْتُ، وَيُقَالُ فِي مَعْدِنٍ صِدْقٍ.
قَوْلُهُ: (الْخَوَالِفُ: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي، وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَعَ الْخَالِفِينَ} الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَ بَعْدَ شَاخِصٍ فَقَعَدَ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْقَوْمِ، وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ اخْلُفْنِي فِي وَلَدِي. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ إِلَى حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ.
قَوْلُهُ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الْخَالِفَةِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إِلَّا حَرْفَانِ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَوَالِفُ هَاهُنَا النِّسَاءُ، وَلَا يَكَادُونَ يَجْمَعُونَ الرِّجَالَ عَلَى فَوَاعِلَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فَارِسٌ وَفَوَارِسُ وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ شَاهِقٌ وَشَوَاهِقُ وَنَاكِسٌ وَنَوَاكِسُ وَدَاجِنٌ وَدَوَاجِنُ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَعَ الِاثْنَيْنِ جَمْعُ فَاعِلٍ وَهُوَ شَاذٌّ، وَالْمَشْهُورُ فِي فَوَاعِلَ جَمْعُ فَاعِلَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ فَوَاضِحُ وَقَدْ تُحْذَفُ الْهَاءُ فِي صِفَةِ الْمُفْرَدِ
مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الرِّجَالِ فَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَالِفَةٌ لَا خَيْرَ فِيهِ: وَالْأَصْلُ فِي جَمْعِهِ بِالنُّونِ. وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَاهِلٌ وَكَوَاهِلُ وَجَائِحٌ وَجَوَائِحُ وَغَارِبٌ وَغَوَارِبُ وَغَاشٍ وَغَوَاشٍ، وَلَا يَرِدُ شَيْءٌ مِنْهَا لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ لَيْسَا مِنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْآخَرَانِ جَمْعُ غَارِبٍ وَغَاشِيَةٌ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ إِنْ وُصِفَ بِهَا الْمُذَكَّرُ، وَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: وَإِذَا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتُهُمْ
…
خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الْأَذْقَانِ
احْتَاجَ الْفَرَزْدَقُ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَأَجْرَى نَوَاكِسَ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا أَبَدًا إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، وَلَا تَجْمَعُ النُّحَاةُ مَا كَانَ مِنْ فَاعِلٍ نَعْتًا عَلَى فَوَاعِلَ لِئَلَّا يَلْتَبِسُ بِالْمُؤَنَّثِ، وَلَمْ يَأْتِ ذَا إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ فَارِسٍ وَفَوَارِسَ، وَهَالِكٍ وَهَوَالِكَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرْدِ فَأُمِنَ فِيهِ اللَّبْسُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمِثْلِ يَقُولُونَ هَالِكٌ فِي الْهَوَالِكِ فَأَجْرَوْهُ عَلَى أَصْلِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. قُلْتُ: فَظَهَرَ أَنَّ الضَّابِطَ فِي هَذَا أَنْ يُؤْمَنَ اللَّبْسُ أَوْ يَكْثُرَ الِاسْتِعْمَالُ أَوْ تَكُونُ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ يَكُونُ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْخَوَالِفُ النِّسَاءُ، وَيُقَالُ خِسَاسُ النِّسَاءِ وَرَذَالَتُهُمْ، وَيُقَالُ فُلَانٌ خَالفَه أَهْلِهِ إِذَا كَانَ دَيِّنًا فِيهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَوَالِفِ فِي الْآيَةِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ الْعَاجِزُونَ وَالصِّبْيَانُ، فَجُمِعَ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِنَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:{مَعَ الْخَالِفِينَ} فَجُمِعَ جَمْعَ الذُّكُورِ تَغْلِيبًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.
قَوْلُهُ: (الْخَيْرَاتُ وَاحِدُهَا خَيْرَةٌ وَهِيَ الْفَوَاضِلُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} جَمْعُ خَيْرَةٍ وَمَعْنَاهَا الْفَاضِلَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: {مُرْجَوْنَ} مُؤَخَّرُونَ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (الشَّفَا: الشَّفِيرُ وَهُوَ حَدُّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهُوَ حَرْفُهُ.
قَوْلُهُ: (وَالْجُرُفُ مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالْأَوْدِيَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} الشَّفَا الشَّفِيرُ، وَالْجُرُفُ مَا لَمْ يُبْنَ مِنَ الرَّكَايَا، قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى التَّمْثِيلِ لِأَنَّ الَّذِي يَبْنِي عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ وَهُوَ مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالْأَوْدِيَةِ وَلَا يَثْبُتُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {هَارٍ} هَائِرٍ، تَهَوَّرَتِ الْبِئْرُ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَانْهَارَ مِثْلُهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَارٍ} أَيْ هَائِرٍ: وَالْعَرَبُ تَنْزِعُ الْيَاءَ الَّتِي فِي الْفَاعِلِ، وَقِيلَ لَا قَلْبَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى سَاقِطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ.
قَوْلُهُ: {لأَوَّاهٌ} شَفَقًا وَفَرَقًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ
…
تَأَوَّهَ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} هُوَ فَعَّالٌ مِنَ التَّأَوُّهِ وَمَعْنَاهُ مُتَضَرِّعٌ شَفَقًا وَفَرَقًا لِطَاعَةِ رَبِّهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ أَرْحَلُهَا هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَوْلُهُ آهَةَ بِالْمَدِّ لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ بِلَا مَدٍّ.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا الشِّعْرُ لِلْمُثَقِّبِ الْعَبْدِيِّ وَاسْمُهُ جِحَاشُ بْنُ عَائِذٍ، وَقِيلَ ابْنُ نَهَارٍ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا:
أَفَاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي
…
وَمَنْعِكِ مَا سَأَلْتُ كأَنْ تَبِينِي
وَلَا تَعِدِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ
…
تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي
فَإِنِّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي
…
لَمَا أَتْبَعْتُهَا أَبَدًا يَمِينِي
وَيَقُولُ فِيهَا:
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ
…
فَأَعْرِفُ مِنْكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي
وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي
…
عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي
وَهِيَ كَثِيرَةُ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ. وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الشِّعْرُ مِثْلُهَا وَجَبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَتَعَلَّمُوهُ.
1 - بَاب: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
أَذَانٌ: إِعْلَامٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{أُذُنٌ} يُصَدِّقُ، {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ، وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ، {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُضَاهُونَ: يُشَبِّهُونَ.
4654 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: بَرَاءَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إِلَى - {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَذَانٌ: إِعْلَامٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ: عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكِ أَذَنْتُهُمْ أَيْ أَعْلَمْتُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُذُنٌ يُصَدِّقُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يَعْنِي أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يَعْنِي يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَظَهَرَ أَنَّ يُصَدِّقُ تَفْسِيرُ يُؤْمِنُ لَا تَفْسِيرُ أُذُنٍ كَمَا يَفْهَمُهُ صَنِيعُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ اخْتَصَرَهُ.
قَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ أَيْ فِي الْقُرْآنِ، وَيُقَالُ التَّزْكِيَةُ (وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} قَالَ: الزَّكَاةُ طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ.
قَوْلُهُ: (لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ: لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَفْسِيرِ فُصِّلَتْ ذَكَرَهَا هُنَا اسْتِطْرَادًا. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الزَّكَاةُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ دَفْعٌ لِاحْتِجَاجِ مَنِ احْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
قَوْلِهِ: (يُضَاهُونَ: يُشَبِّهُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضَاهونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ يُشَبِّهُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُضَاهَاةُ التَّشْبِيهُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي آخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ وَآخِرِ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَنْقُلَاهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَاهُ عَنِ اسْتِقْرَاءِ بِحَسَبِ مَا اطَّلَعَا عَلَيْهِ، وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَرَادَ آخِرِيَّةً مَخْصُوصَةً، وَأَمَّا السُّورَةُ فَالْمُرَادُ بَعْضُهَا أَوْ مُعْظَمُهَا وَإِلَّا فَفِيهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ بَرَاءَةٍ نَزَلَ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ عَامَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ نَزَلَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَهِيَ فِي الْمَائِدَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُعْظَمُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ غَالِبَهَا نَزَلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَأَذْكُرُ الْجَمْعَ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قِيلَ فِي آخِرِيَّةِ نُزُولِ بَرَاءَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهَا، فَقِيلَ قَوْلُهُ:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} الْآيَةَ وَقِيلَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَأَصَحُّ
الْأَقْوَالِ فِي آخِرِيَّةِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ، فَعَاشَ بَعْدَهَا خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} سِيحُوا: سِيرُوا.
4655 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عن عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ، وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} سَاقَ إِلَى {الْكَافِرِينَ * فَسِيحُوا} سِيرُوا) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِزِيَادَةٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} قَالَ: سِيرُوا وَأَقْبِلُوا وَأَدْبِرُوا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَلِلَّيْثِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: بِوَاوِ الْعَطْفِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ. قُلْتُ: لَمْ أَرَ فِي طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ زِيَادَةً إِلَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُوَافُونَ بِالتِّجَارَةِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قُطِعَ عَنْهُمْ مِنَ التِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الْآيَةَ ثُمَّ أَحَلَّ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْجِزْيَةَ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي) فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ.
آذَنَهُمْ: أَعْلَمَهُمْ.
4656 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قال:، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ، وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {الْمُشْرِكِينَ} أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ) فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي مُؤَذِّنِينَ أَيْ فِي جَمَاعَةِ مُؤَذِّنِينَ، وَالْمُرَادُ بِالتَّأْذِينِ الْإِعْلَامُ، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ إِعْلَامٌ. وَقَدْ وَقَفْتُ مِمَّنْ سُمِّيَ مِمَّنْ كَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ عَلَى أَسْمَاءِ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى ضَجْنَانَ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا. وَمِنْهُمْ جَابِرٌ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَحُجَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِدْغَامِ النُّونِ فِي اللَّامِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ هَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ بِذَلِكَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَكَيْفَ يَبْعَثُ أَبُو بَكْرٍ، أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَنْ مَعَهُ لِلتَّأْذِينِ مَعَ صَرْفِ الْأَمْرِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَعْلَى؟ ثُمَّ أَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالتَّأْذِينِ بِذَلِكَ، وَكَأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُطِقِ التَّأْذِينَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ وَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، أَبَا هُرَيْرَةَ وَغَيْرَهُ لِيُسَاعِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَرَاءَةٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةِ، فَكُنْتُ أُنَادِي مَعَهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَصْحَلَ صَوْتِي، وَكَانَ هُوَ يُنَادِي قَبْلِي حَتَّى يُعْيِيَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُبَاشَرَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ كَانَتْ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ يُنَادِي بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ عَلِيٌّ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ بَعْدَ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَطُوفَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ عَطْفًا عَلَى الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ حُمَيْدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ (ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَلِيٍّ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٍ) هَذَا الْقَدرُ مِنَ الْحَدِيثِ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ حُمَيْدًا لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ وَلَا صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ إِرْسَالُ عَلِيٍّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ بِبَرَاءَةٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعَثَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ، ثُمَّ بَعَثَنِي فِي أَثَرِهِ، فَأَدْرَكْتُهُ فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا لِي؟ قَالَ: خَيْرٌ، أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي، أَوْ رَجُلٌ مِنِّي، وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ مُطَوَّلًا وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَرَاءَةً مَعَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي، وَهَذَا يُوَضِّحُ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا
يُبَلِّغُ عَنِّي وَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَا مُطْلَقُ التَّبْلِيغِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ سَأَلْتُ عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ مَعَ مُشْرِكٍ فِي الْحَجِّ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْكَلَامِ الْأَخِيرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يَخْتَصُّ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أَصْلًا، وَأَمَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: هُمْ صِنْفَانِ، صِنْفٌ كَانَ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأُمْهِلَ إِلَى تَمَامِ أَربَعَةِ أَشْهُرٍ، وَصِنْفٌ كَانَتْ لَهُ عَهْدُهُ بِغَيْرِ أَجَلٍ فَقُصِرَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ أَجَلُ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ بِقَدْرِهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ فَانْقِضَاؤُهُ إِلَى سَلْخِ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَمِنْ طَرِيقِ عَبِيدَةَ بْنِ سَلْمَانَ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَاهَدَ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، فَنَبَذَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ عَهْدَهُ وَأَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ فَأَجَلُهُ انْقِضَاءُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٍ فِي شَوَّالٍ، فَكَانَ آخِرُهَا آخَرَ الْمُحَرَّمِ.
فَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَاسْتَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بُلُوغَهُمُ الْخَبَرَ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا وَقَعَ النِّدَاءُ بِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ سِيحُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا دُونَ الشَّهْرَيْنِ؟ ثُمَّ أُسْنِدَ عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَمَامَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٍ) يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ وَبِالْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةُ الْجَرِّ فَتْحَةً وَهُوَ الثَّابِتُ فِي الرِّوَايَاتِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَذَّنَ مَعَنَا وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَطْعًا، فَهُوَ الَّذِي كَانَ يُؤَذِّنُ بِذَلِكَ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ أَكْثَرَ رُوَاةِ الْفَرَبْرِيِّ وَافَقُوا الْكُشْمِيهَنِيَّ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَأَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَمَلَ قِصَّةَ تَوَجُّهِ عَلِيٍّ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ لَحِقَ أَبَا بَكْرٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَمَلَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ كُلَّهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَوْلُهُ: (فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ إِلَخْ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٍ، فَكَيْفَ يُؤَذِّنُ بِأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ أَذَّنَ بِبَرَاءَةٍ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٍ وَبِمَا أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذِّنَ بِهِ أَيْضًا. قُلْتُ: وَفِي قَوْلِهِ يُؤَذِّنُ بِبَرَاءَةٍ تَجَوُّزٌ، لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبِضْعٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً مُنْتَهَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٍ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٍ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ بَرَاءَةٍ، ثُمَّ صَدَرْنَا حَتَّى رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ، فَطَفِقْتُ
أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ) هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَنْعِهِمْ دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدُوا الْحَجَّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحَجُّ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ صَرَّحَ لَهُمْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ فَيَكُونُ مَا وَرَاءَهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ، النَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ كِلَاهُمَا عَنْهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ، فَسَمِعَ رَغْوَةَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ: أَمِيرٌ أَوْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: بَلْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَرَاءَةٍ أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرَوِّيَةِ بِيَوْمٍ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ بِمَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةً حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَوْمُ النَّفَرِ كَذَلِكَ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا كُلَّهَا فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ إِلَخْ، وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ فِي
الْأَذَانِ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي بِهَا، فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِبَرَاءَةٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ بَرَاءَةٍ بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي بَكْرٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ - أَوْ لَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: لَا يُؤَدِّي - عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ، قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ، قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}
4 - بَاب: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
4657 -
حَدَّثَني إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ
ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ، فَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ، وَسِيَاقُهُ عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ عُقَيْلٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ صَالِحٍ فَوَقَعَ فِي آخِرِهَا فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ أَدْرَجَهَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجِزْيَةِ، وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ انْتَهَى وَقَوْلُهُ وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} وَمِنْ مُنَادَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ النَّحْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَادَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُنَادِي بِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ
مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ شَيْئَانِ: مَنْعُ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعُ طَوَافِ الْعُرْيَانِ، وَأَنَّ عَلِيًّا أَيْضًا كَانَ يُنَادِي بِهِمَا، وَكَانَ يَزِيدُ: مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ كَالتَّوْطِئَةِ لِأَنْ لَا يَحُجَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ، وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتُصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ بِبَرَاءَةٍ، فَكُنَّا نُنَادِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولَهُ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرِ إِلَخْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَأَصْلُهُ فِي هَذَا الصَّحِيحِ رَفْعُهُ أَيْ يَوْمُ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْعُمْرَةَ، وَصَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ،
وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ وَالْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ لِأَنَّ فِيهِ تَتَكَمَّلُ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: أَيَّامُ الْحَجِّ تُسَمَّى يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْفَتْحِ. وَأَيَّدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا. وَقِيلَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا كَانَتْ صَبِيحَةُ النَّحْرِ وَقَفَ الْجَمِيعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقِيلَ لَهُ الْأَكْبَرُ لِاجْتِمَاعِ الْكُلِّ فِيهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ حَجِّ جَمِيعِ الْمِلَلِ فِيهِ: وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَغَيْرِهِ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ النَّحْرُ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْيَوْمَ التَّاسِعَ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفُتِ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَاشِرِ فَإِنَّ اللَّيْلَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَاتَ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ، وَقَوْلُهُ فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ مِنْ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْصَحَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَبْلِيغِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِبَرَاءَةٍ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ قَائِلِهِ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ بَرَاءَةٍ كُلِّهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهَا أَوَائِلِهَا فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا حَتَّى خَتَمَهَا وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى خِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ النَّقْلَ عَنْهُمَا بِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ إِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْوُقُوفِ سَوَاءً كَانَ الْوُقُوفُ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
نَعَمْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَامًا شَهْرًا وَعَامًا شَهْرَيْنِ يَعْنِي يَحُجُّونَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ ثُمَّ يَحُجُّونَ فِي الثَّالِثِ فِي شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِهِ، قَالَ: فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِلَّا فِي كُلِّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ حَجُّ أَبِي بَكْرٍ وَافَقَ ذَلِكَ الْعَامَ شَهْرَ الْحَجِّ فَسَمَّاهُ اللَّهُ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ.
(تَنْبِيهٌ)
اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثٍ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ لَمَّا كَانَ زَمَنُ خَيْبَرَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْجِعِرَّانَةِ. ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى تِلْكَ الْحَجَّةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٍ، ثُمَّ أَتْبَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، الْحَدِيثَ. قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ: هَذَا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ فِي سَنَةِ عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ كَانَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَأَمَّا حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، قُلْتُ: يُمْكِنُ رَفْعُ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ يَعْنِي بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَطَوَى ذَلِكَ مَنْ وَلِيَ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ فَأَصْبَحَ بِهَا تَوَجَّهَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ جَاءَ أَوَانُ الْحَجِّ فَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا عُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ. وَقَوْلُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَجَّةِ يُرِيدُ الْآتِيَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.
5 - بَاب: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}
4658 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تُخْبِرُوننَا فَلَا نَدْرِي، فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلَاقَنَا؟ قَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ، أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ.
4659 -
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ).
قَوْلُهُ: (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، وَزَادَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيَطْلُبُهُ، أَنَا كَنْزُكَ، فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُلْقِمَهُ إِصْبَعَهُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ.
4660 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالَ: كُنَّا بِالشَّامِ فَقَرَأْتُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا هَذِهِ فِينَا، مَا هَذِهِ إِلَّا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَيْمَانَ، أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أَيْ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.
قَوْلُهُ: (مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ) هَكَذَا وَقَعَ مُبْهَمًا وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ بِلَفْظِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَشَيْخٌ كَبِيرٌ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مَا ذُكِرَ فِي خَبَرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَحَقُّ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَخْرُجَ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ انْتَهَى. وَقَدْ وَافَقَ الْبُخَارِيُّ - عَلَى إِخْرَاجِهَا عِنْدَ آيَةِ بَرَاءَةٍ - النَّسَائِيَّ، وَابْنَ مَرْدَوَيْهِ، فَأَخْرَجَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَعْيِينُ الْآيَةِ، وَانْفَرَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِتَعْيِينِهَا، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَعْنِي الَّذِينَ كَاتَبُوا الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ مَنْ أَخْرَجَهَا فِي آيَةِ بَرَاءَةٍ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} قَالَ: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْن وَهْبٍ نَحْوَهُ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ لَمْ يُقَاتَلُوا أَنَّ قِتَالَهُمْ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ وُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا} فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ نَكْثٌ وَلَا طَعْنٌ لَمْ يُقَاتَلُوا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْمُرَادُ بِأَئِمَّةِ الْكُفْرِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ رُءُوسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا ثَلَاثَةٌ) سُمِّيَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ قُتِلَا بِبَدْرٍ وَإِنَّمَا يَنْطَبِقُ التَّفْسِيرُ عَلَى مَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهُوَ حَيٌّ، فَيَصِحُّ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ أَسْلَمَا جَمِيعًا.
قَوْلُهُ: (وَلَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) بِنَصْبِ أَصْحَابٍ عَلَى النِّدَاءِ مَعَ حَذْفِ، الْأَدَاةِ أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِنَّكُمْ.
قَوْلُهُ: (تُخْبِرُونَنَا فَلَا نَدْرِي) كَذَا وَقَعَ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تُخْبِرُونَنَا عَنْ أَشْيَاءَ.
قَوْلُهُ: (يَبْقُرُونَ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ قَافٍ أَيْ يَنْقُبُونَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ النَّقْرُ فِي الْخَشَبِ وَالصُّخُورِ يَعْنِي بِالنُّونِ.
قَوْلُهُ: (أَعَلَاقَنَا) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ أَيْ نَفَائِسَ أَمْوَالِنَا، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَضْبُوطًا بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَلَا وَجْهَ لَهُ انْتَهَى. وَوُجِدَ فِي نُسْخَةِ الدِّمْيَاطِيِّ بِخَطِّهِ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْضًا، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ الْأَغْلَاقَ جَمْعُ غَلَقٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يُغْلَقُ عَلَى الْبَيْتِ وَيُفْتَحُ بِالْمِفْتَاحِ، وَيُطْلَقُ الْغَلَقُ عَلَى الْحَدِيدَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْبَابِ وَيُعْمَلُ فِيهَا الْقُفْلُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَيَسْرِقُوا أَغْلَاقَنَا إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ سَرِقَةِ الْغَلَقِ تَوَصَّلَ إِلَى فَتْحِ الْبَابِ، أَوْ فِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ أَيْ يَسْرِقُونَ مَا فِي أَغْلَاقِنَا.
قَوْلُهُ: (أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ) أَيِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ وَيَسْرِقُونَ، لَا الْكُفَّارُ وَلَا الْمُنَافِقُونَ.
قَوْلُهُ: (أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (لَوْ شَرِبَ
الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ) أَيْ لِذَهَابِ شَهْوَتِهِ وَفَسَادِ مَعِدَتِهِ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَلْوَانِ وَلَا الطُّعُومِ.
4661 -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ.
ثم ذكر حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي قِصَّتِهِ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا مَعَ شَرْحِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا} الْآيَةَ) قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ شَرْحِهِ.
القيم هُوَ الْقَائِمُ
4662 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا ابْتَدَأَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ السَّنَةَ اثَّنَى عَشَرَ شَهْرًا.
قَوْلُهُ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} مَجَازُة الْقَائِمُ أَيِ الْمُسْتَقِيمُ، فَخَرَجَ مَخْرَجَ سَيِّدٍ، مِنْ سَادَ يَسُودُ كَقَامَ يَقُومُ.
قَوْلُهُ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ فِي الْأَرْبَعَةِ بِاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّمَانِ السَّنَةُ.
وَقَوْلُهُ كَهَيْئَتِهِ أَيِ اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ. وَلَفْظُ الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَالْمُرَادُ بِاسْتِدَارَتِهِ وُقُوعُ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ حَيْثُ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
قَوْلُهُ: (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) أَيِ السَّنَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْهِلَالِيَّةُ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي سَبَبِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ اثَّنَى عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَتَدُورُ الْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ) هُوَ تَفْسِيرُ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّوَابُ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، يَعْنِي لِأَنَّ الْمُمَيَّزَ الشَّهْرُ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَعَادَهُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ ثَلَاثُ مُدَدٍ مُتَوَالِيَاتٍ، انْتَهَى. أَوْ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّ الَّذِي لَا يُذْكَرُ التَّمْيِيزُ مَعَهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَذِكْرَهَا مِنْ سَنَتَيْنِ لِمَصْلَحَةِ التَّوَالِي بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِلَّا فَلَوْ بَدَأَ بِالْمُحَرَّمِ لَفَاتَ مَقْصُودُ التَّوَالِي. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَقِيلَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَجْعَلُونَ صَفَرًا الْمُحَرَّمَ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لَا يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا الْقِتَالَ، فَلِذَلِكَ قَالَ مُتَوَالِيَاتٌ وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُحَرَّمَ صَفَرًا فَيُحِلُّ فِيهِ الْقِتَالَ، وَيُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي صَفَرٍ وَيُسَمِّيهِ الْمُحَرَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَنَةً هَكَذَا وَسَنَةً هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ سَنَتَيْنِ هَكَذَا وَسَنَتَيْنِ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ صَفَرًا إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَرَبِيعًا إِلَى مَا يَلِيهِ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَوَّالٌ ذَا الْقَعْدَةِ وَذُو الْقَعْدَةِ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ الْعَدَدُ عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ: (وَرَجَبٌ مضر) أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْظِيمِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَيُقَالُ إِنَّ رَبِيعَةَ كَانُوا يَجْعَلُونَ بَدَلَهُ رَمَضَانَ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ فَيُحِلُّونَ رَجَبًا وَيُحَرِّمُونَ شَعْبَانَ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ تَأْكِيدًا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ نَسَئُوا بَعْضَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَيْ أَخَّرُوهَا، فَيُحِلُّونَ شَهْرًا حَرَامًا وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ آخَرَ بَدَلَهُ حَتَّى رَفَضَ تَخْصِيصَ الْأَرْبَعَةِ بِالتَّحْرِيمِ أَحْيَانًا، وَوَقَعَ تَحْرِيمُ أَرْبَعَةٍ مُطْلَقَةٍ مِنَ السَّنَةِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَشْهُرَ رَجَعَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَبَطَلَ النَّسِيءُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا يُخَالِفُونَ بَيْنَ أَشْهُرِ السَّنَةِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُمْ، مِنْهَا اسْتِعْجَالُ الْحَرْبِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ثُمَّ يُحَرِّمُونَ بَدَلَهُ شَهْرًا غَيْرَهُ فَتَتَحَوَّلُ فِي ذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ وَتَتَبَدَّلُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ السِّنِينَ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، فَاتَّفَقَ وُقُوعُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ):
أَبْدَى بَعْضُهُمْ لِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُنَاسَبَةً لَطِيفَةً حَاصِلُهَا أَنَّ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَزِيَّةً عَلَى مَا عَدَاهَا فَنَاسَبَ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا الْعَامُ وَأَنْ تَتَوَسَّطَهُ وَأَنْ تُخْتَمَ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَتْمُ بِشَهْرَيْنِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ خِتَامَ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى عَمَلِ مَالٍ مَحْضٍ وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَعَمَلِ بَدَنٍ مَحْضٍ، وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَتَارَةً بِالْقَلْبِ وَهُوَ الصَّوْمُ، لِأَنَّهُ كَفٌّ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ. وَتَارَةً عَمَلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَالٍ وَبَدَنٍ وَهُوَ الْحَجُّ. فَلَمَّا جَمَعَهُمَا نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِعْفُ مَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ شَهْرَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} معنا: نَاصِرُنَا، السَّكِينَةُ: فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ
4663 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.
4664 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ أَبُوهُ الزُّبَيْرُ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ. فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِسْنَادُهُ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا، فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ: ابْنُ جُرَيْجٍ.
[الحديث 4664 - طرفه في: 4665، 4666]
4665 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُحِلُّهُ أَبَدًا قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الزُّبَيْرَ وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَأُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ عَائِشَةَ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ خَدِيجَةَ وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي رَبُّونِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ وَالأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْر"
4666 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلَا تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لَاحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَانْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُم"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أَيْ نَاصِرُنَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أَيْ نَاصِرُنَا وَحَافِظُنَا.
قَوْلُهُ: (السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَّا الطَّرِيقَ الْأَخِيرَ، وَفِي شُيُوخِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَكِنْ حَيْثُ يُطْلَقُ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجُعْفِيُّ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ وَإِكْثَارِهِ عَنْهُ. وَحَبَّانُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ هُوَ ابْنُ هِلَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَعَ شَرْحِهِ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ) أَيْ بِسَبَبِ الْبَيْعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ مَاتَ مُعَاوِيَةُ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ
لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَغْرَى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُسْلِمَ بْنَ عقبة بِالْمَدِينَةِ فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ الْجَيْشُ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ أَمِيرُهُمْ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ وَقَامَ بِأَمْرِ الْجَيْشِ الشَّامِيِّ أَبَانُ بْنُ نُمَيْرٍ فَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَرَمَوُا الْكَعْبَةَ بِالْمَنْجَنِيقِ حَتَّى احْتَرَقَتْ.
فَفَجَأَهُمُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعُوا إِلَى الشَّامِ، وَقَامَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ وَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ غَلَبَ مَرْوَانُ عَلَى الشَّامِ وَقُتِلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْأَمِيرُ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، وَمَضَى مَرْوَانُ إِلَى مِصْرَ وَغَلَبَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَمَّلَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، ثُمَّ مَاتَ مَرْوَانُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُهُ مَقَامَهُ، وَغَلَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَى الْكُوفَةِ فَفَرَّ مِنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مُقِيمَيْنِ بِمَكَّةَ مُنْذُ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، فَدَعَاهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ فَامْتَنَعَا وَقَالَا: لَا نُبَايِعُ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ، وَتَبِعَهُمَا جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَشَدَّدَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَحَصَرَهُمْ، فَبَلَغَ الْمُخْتَارَ فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَخْرَجُوهُمَا وَاسْتَأْذَنُوهُمَا فِي قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَا، وَخَرَجَا إِلَى الطَّائِفِ فَأَقَامَا بِهَا حَتَّى مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَرَحْلَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَهُ إِلَى جِهَةِ رَضْوَى جَبَلِ بِيَنْبُعَ فَأَقَامَ هُنَاكَ، ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ الشَّامِ فَتَوَجَّهَ إِلَى نَحْوِ أَيْلَةَ فَمَاتَ فِي آخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَذَلِكَ عَقِبَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِينَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَزَعَمَتِ الْكَيْسَانِيَّةُ أَنَّهُ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلِكَ الْأَرْضَ، فِي خُرَافَاتٍ لَهُمْ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَإِنَّمَا لَخَّصْتُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ وَتَارِيخِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِ مُلَيْكَةَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ؟ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّاسُ: بَايِعْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْهُ أَيْ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنَ الْمَنَاقِبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنِ امْتَنَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْمُبَايَعَةِ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ سَكَنَا مَكَّةَ، وَطَلَبَ مِنْهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ الْبَيْعَةَ فَأَبَيَا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمَا فَبَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْعِرَاقِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا جَيْشٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَوَجَدُوهُمَا مَحْصُورَيْنِ، وَقَدْ أُحْضِرَ الْحَطَبُ فَجُعِلَ عَلَى الْبَابِ يُخَوِّفُهُمَا بِذَلِكَ، فَأَخْرَجُوهُمَا إِلَى الطَّائِفِ وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ.
قَوْلُهُ: (وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ) أَيْ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَوْلُهُ وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ أَيْ بِنْتُ عَبْدِ المطلب، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ خَدِيجَةَ أَطْلَقَ عَلَيْهَا عَمَّتَهُ تَجَوُّزًا وَإِنَّمَا هِيَ عَمَّةُ أَبِيهِ لِأَنَّهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَيِ ابْنُ أَسَدٍ، وَالزُّبَيْرُ هُوَ ابْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَذَا تَجَوَّزَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ حَيْثُ قَالَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ: وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ بِنْتِهِ، وَحَيْثُ قَالَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ ابْنِ أَخِيهَا الْعَوَّامِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ إِسْنَادَهُ) بِالنَّصْبِ أَيِ اذْكُرْ إِسْنَادَهُ، أَوْ بِالرَّفْعِ أَيْ مَا إِسْنَادُهُ. فَقَالَ:(حَدَّثَنَا فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلِ ابْنُ جُرَيْجٍ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِالتَّحْدِيثِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقُلِ ابْنُ جُرَيْجٍ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَاحْتَمَلَ عَدَمَ الْوَاسِطَةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَظْهَرَ الْبُخَارِيُّ بِإِخْرَاجِ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثُمَّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شَيْخِهِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ الْمِصِّيصِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ) كَذَا أَعَادَ الضَّمِيرَ بِالتَّثْنِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ اخْتِصَارًا
وَمُرَادُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (فَتَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أَيْ مِنَ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ.
قَوْلُهُ: (كَتَبَ) أَيْ قَدَّرَ.
قَوْلُهُ: (مُحِلِّينَ) أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبِيحُونَ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ وَحَصَرُوهُ وَإِنَّمَا بَدَأَ مِنْهُ أَوَّلًا دَفْعُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَدَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ حَصَرَ بَنِي هَاشِمٍ لِيُبَايِعُوهُ، فَشَرَعَ فِيمَا يُؤْذِنُ بِإِبَاحَتِهِ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ، وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي ابْنَ الزُّبَيْرِ الْمُحِلُّ لِذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ يَتَغَزَّلُ فِي أُخْتِهِ رَمْلَةَ:
أَلَا مَنْ لِقَلْبِ مَعْنَى غَزَلٍ
…
بِحُبِّ الْمُحِلَّةِ أُخْتِ الْمُحِلّ
وَقَوْلُهُ لَا أُحِلُّهُ أَبَدًا أَيْ لَا أُبِيحُ الْقِتَالَ فِيهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ وَلَوْ قُوتِلَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ النَّاسُ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَاقِلُ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَوْلُهُ بَايِعْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَيِ الْخِلَافَةِ، أَيْ لَيْسَتْ بَعِيدَةً عَنْهُ لِمَا لَهُ مِنَ الشَّرَفِ بِأَسْلَافِهِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ثُمَّ صِفَتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ عَوَانَةَ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ بَايِعْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَيْنَ الْمَذْهَبُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ) أَيْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ رَبُّونِي) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ مِنَ التَّرْبِيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَبُّونِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَبَّنِي بِالْإِفْرَادِ، وَقَوْلُهُ أَكْفَاءٌ أَيْ أَمْثَالٌ وَاحِدُهَا كُفْءٌ، وَقَوْلُهُ كِرَامٌ أَيْ فِي أَحْسَابِهِمْ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَذْكُورِينَ بَنُو أَسَدٍ رَهْطُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَلَامُ أَبِي مِخْنَفٍ الْإخْبَارِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالطَّائِفِ جَمَعَ بَنِيهِ فَقَالَ يَا بَنِيَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا خَرَجَ بِمَكَّةَ شَدَدْتُ أَزْرَهُ وَدَعَوْتُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ إِنْ قَبِلُونَا قَبِلُونَا أَكْفَاءً، وَإِنْ رَبُّونَا رَبُّونَا كِرَامًا. فَلَمَّا أَصَابَ مَا أَصَابَ جَفَانِي وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ حَيْثُ قَالَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَأَنْ يُرَبنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبنِي غَيْرُهُمْ فَإِنَّ بَنِي عَمّه هُمْ بَنُو أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدٍ مناف لِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ المطلب بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَعَبْدُ المطلب جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب ابْنِ عَمِّ أُمَيَّةَ جَدِّ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ هَاشِمٌ، وَعَبْدُ شَمْسٍ شَقِيقَيْنِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يَتْلُو هَاشِمًا
…
وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبٍ
وأصرح مِنْ ذَلِكَ مَا فِي خَبَرِ أَبِي مِخْنَفٍ فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِبَنِيهِ: فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَالْحَقُوا بِبَنِي عَمِّكُمْ بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ رَأَيْتُ بَيَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّي إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي عَنْ قَرِيبٍ أَيْ أَذْعَنْتُ لَهُ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّي فَآثَرَ عَلَي غَيْرِي، وَبِهَذَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِابْنِهِ عَلِيٍّ الْحَقْ بِابْنِ عَمِّكِ، فَإِنَّ أَنْفَكَ مِنْكَ وَإِنْ كَانَ أَجْدَعٌ، فَلَحِقَ عَلِيٌّ بِعَبْدِ الْمَلِكِ فَكَانَ آثَرَ النَّاسِ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَآثَرَ عَلِيًّ) بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْأَثَرَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَيْنَ بِتَحْتَانِيَّةِ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَهُوَ
تَصْحِيفٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ فَشَدَدْتُ عَلَى عَضُدِهِ فَآثَرَ عَلِيًّ فَلَمْ أَرْضَ بِالْهَوَانِ.
قَوْلُهُ: (التُّوَيْتَاتِ وَالْأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أبطنا مِنْ بَنِي أَسَدٍ) أَمَّا التُّوَيْتَاتُ فَنِسْبَةٌ إِلَى بَنِي تُوَيْتِ بْنِ أَسَدٍ وَيُقَالُ تُوَيْتُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ، وَأَمَّا الْأُسَامَاتُ فَنِسْبَةٌ إِلَى بَنِي أُسَامَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَمَّا الْحُمَيْدَاتُ فَنِسْبَةٌ إِلَى بَنِي حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ فِي آخَرِينَ أَنَّ زُهَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ قَالَ: كَانَ حُمَيْدُ بْنُ زُهَيْرٍ أَوَّلَ مَنْ بَنَى بِمَكَّةَ بَيْتًا مُرَبَّعًا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَكْرَهُ ذَلِكَ لِمُضَاهَاةِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَنَى حُمَيْدٌ بَيْتَهُ قَالَ قَائِلِهِمْ:
الْيَوْمُ يُبْنَى لِحُمَيْدٍ بَيْتَهُ
…
إِمَّا حَيَاتَهُ وَإِمَّا مَوْتَهُ
فَلَمَّا لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ تَابَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَتَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأَبْطُنُ مَعَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ جَدِّ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا دَعَا النَّاسَ فِي الْإِذْنِ بَدَأَ بِبَنِي أَسَدٍ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَآثَرَ عَلَى التُّوَيْتَاتِ إِلَخْ قَالَ: فَلَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَدَّمَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب وَبَنِي نَوْفَلٍ ثُمَّ أَعْطَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ قَبْلَ بَنِي أَسَدٍ وَقَالَ: لَأُقَدِّمَنَّ عَلَيْهِمْ أَبْعَدَ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي مُخَالَفَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَجَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبُطُونَ الْمَذْكُورَةَ جَمْعَ الْقِلَّةِ تَحْقِيرًا لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ تُوَيْتٍ) كَذَا وَقَعَ، وَصَوَابُهُ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي تُوَيْتِ بْنِ أَسَدٍ إِلَخْ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ. قُلْتُ: وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ الْمَذْكُورَةِ أَفْخَاذًا صِغَارًا مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهَذَا صَوَابٌ.
قَوْلُهُ: (إنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ) يَعْنِي عَبْدَ الْمُطَلِبِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ.
قَوْلُهُ: (بَرَزَ) أَيْ ظَهَرَ.
قَوْلُهُ: (يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَقَدْ تُضَمُّ أَيْضًا وَقَدْ تُسَكَّنُ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهَا التَّبَخْتُرُ، وَهُوَ مَثَلُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَرَزَ يَطْلُبُ مَعَالِيَ الْأُمُورَ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ الْقُدَمِيَّةُ وَهِيَ التَّقَدُّمَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْغَرِيبِ الْيَقْدَمِيَّةُ بِزِيَادَةِ تَحْتَانِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ وَمَعْنَاهَا التَّقَدُّمَةُ فِي الشَّرَفِ، وَقِيلَ التَّقَدُّمُ بِالْهِمَّةِ وَالْفِعْلِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ لوى ذَنَبِهِ) يَعْنِي ابْنِ الزُّبَيْرِ، لَوَّى بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبِتَخْفِيفِهَا أَيْ ثَنَاهُ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ تَأَخُّرِهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْ مَعَالِي الْأُمُورِ، وَقِيلَ كَنَّى بِهِ عَنِ الْجُبْنِ وَإِيثَارِ الدَّعَةِ كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ إِذَا أَرَادَتِ النَّوْمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَشَى ابْنُ الزُّبَيْرِ الْقَهْقَرَى وَتَقَدَّمَتْ
…
أُمَيَّةُ حَتَّى أَحْرَزُوا الْقَصَبَاتِ
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَفَ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ، وَلَا وَضَعَ مَوَاضِعَهَا فَأَدْنَى النَّاصِحُ وَأَقْصَى الْكَاشِحُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ، مَعْنَى لَوَّى ذَنَبَهُ لَمْ يَتِمُّ لَهُ مَا أَرَادَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ الْمَذْكُورَةِ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَمْشِي الْقَهْقَرَى وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ، يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمْ يزل فِي تَقَدُّمِ مِنْ أَمْرَهُ إِلَى أَنِ اسْتَنْقَذَ الْعِرَاقَ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتَلَ أَخَاهُ مصعبا، ثُمَّ جَهَّزَ الْعَسَاكِرَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ مَا كَانَ، وَلَمْ يَزُلْ أَمْرُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي تَأَخُّرِ إِلَى أَنْ قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ (عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنِ الْمَكِّيِّ، وَقَوْلُهُ لَأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي أَيْ لَأُنَاقِشَنَّهَا فِي مَعُونَتِهِ وَنُصْحِهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ لَأَذْكُرَنَّ مِنْ مَنَاقِبِهِ مَا لَمْ أَذْكُرْ مِنْ مَنَاقِبِهِمَا، وَإِنَّمَا صَنَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ لَاشْتَرَاكِ
النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، بِخِلَافِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَتْ مَنَاقِبُهُ فِي الشُّهْرَةِ كَمَنَاقِبِهِمَا فَأَظْهَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ إِنْصَافًا مِنْهُ لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يُنْصِفْهُ هُوَ رَجَعَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي) أَيْ يَتَرَفَّعُ عَلَيَّ مُتَنَحِّيًا عَنِّي.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ) أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مِنْ خَاصَّتِهِ. وَقَوْلُهُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي أَيْ أَبْدَؤُهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَلَا يَرْضَى مِنِّي بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَمَا أَرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ بِي خَيْرًا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَإِنَّمَا أَرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَيُوَضِّحُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ لَأَنْ يُرَبِّنِي أَيْ يَكُونُ عَلَيَّ رَبًّا أَيْ أَمِيرًا، أَوْ رَبَّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَقَامَ بِأَمْرِهِ وَمَلَكَ تَدْبِيرِهِ، قَالَ التَّيْمِيُّ: مَعْنَاهُ لَأَنْ أَكُونَ فِي طَاعَةِ بَنِي أُمَيَّةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي طَاعَةِ بَنِي أَسَدٍ، لِأَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ أَقْرَبُ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
10 - بَاب: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ
4667 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ، فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، وَقَالَ: أَتَأَلَّفُهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا عَدَلْتَ، فَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ:{وَفِي الرِّقَابِ} مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ أَوْجَهُ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّقَابِ.
ثم ذكر حَدِيثُ أبي سَعِيدِ إِلَى: بُعِثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ أَتَأَلَّفُهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا وَأَبْهَمَ الْبَاعِثُ وَالْمَبْعُوثُ وَتَسْمِيَةَ الْأَرْبَعَةِ وَالرَّجُلِ الْقَائِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنَ الْمَغَازِي.
11 - بَاب: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ * يَلْمِزُونَ} يَعِيبُونَ، {جُهْدَهُمْ} وَجَهْدَهُمْ: طَاقَتَهُمْ
4668 -
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ، فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِئَاءً، فَنَزَلَتْ:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ.
4669 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ لأَحَدِهِمْ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِه"
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} يَلْمِزُونَ: يَعِيبُونَ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: (جُهْدُهُمْ وَجَهْدُهُمْ: طَاقَتُهُمْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} مَضْمُومٌ وَمَفْتُوحٌ سَوَاءٌ وَمَعْنَاهُ طَاقَتُهُمْ، يُقَالُ جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلُغَةُ غَيْرِهِمُ الْفَتْحُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ: قِيلَ بِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ وَبِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَدْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ) تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَتَحَامَلُ) أَيْ يَحْمِلُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِالْأُجْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ نُحَامِلُ أَيْ نُؤَاجِرُ أَنْفُسَنَا فِي الْحَمْلِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ضَبْطِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ تَحَامَلَ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَكَلَّفَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَمِنْهُ تَحَامَلَ عَلَى فُلَانٍ أَيْ كَلَّفَهُ مَا لَا يُطِيقُ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ) اسْمُ أَبِي عَقِيلٍ هَذَا وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ حَبْحَابٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ مِثْلُهَا، ذَكَرَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْحَبْحَابُ أَبُو عَقِيلٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِتُّ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمَّا صَاعٌ فَأَمْسَكْتُهُ لِأَهْلِي وَأَمَّا صَاعٌ فَهَا هُوَ ذَا، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ، فَنَزَلَتْ وَهَذَا هُوَ مُرْسَلٌ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَارُودِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا، وَلَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رَآهُ بِخَطِّ بَعْضِ الْحُفَّاظِ مَضْبُوطًا بِجِيمَيْنِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَلَوِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ بِنْتِ عَدِيٍّ أَنَّ أُمَّهَا عُمَيْرَةَ بِنْتَ سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ صَاحِبِ الصَّاعِ الَّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ خَرَجَ بِزَكَاتِهِ صَاعِ تَمْرٍ وَبِابْنَتِهِ عُمَيْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ سَهْلَ بْنَ رَافِعٍ هُوَ صَاحِبُ الصَّاعِ الَّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ سَهْلٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ رِفَاعَةُ بْنُ سَعْدٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَصْحِيفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ أَبِي عَقِيلٍ سَهْل وَلَقَبُهُ حَبْحَابٌ، أَوْ هُمَا اثْنَانِ. وَفِي الصَّحَابَةِ أَبُو عَقِيلِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْبَلَوِيِّ بَدْرِيٌّ لَمْ يُسَمِّهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَسَمَّاهُ الْوَاقِدِيُّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ، وَكَلَامُ الطَّبَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الصَّاعِ عِنْدَهُ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمْحَانَ
(1)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ. وَهُوَ صَاحِبُ الصَّاعِ الَّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، وَاسْمُ أَبِي خَيْثَمَةَ هَذَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَيْثَمَةَ مِنْ بَنِي سَالِمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدُ مَنْ جَاءَ بِالصَّاعِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا أَنَّهُ جَاءَ بِصَاعٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الزَّكَاةِ فَجَاءَ رَجُلُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلَةَ بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَزَمَ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ هُوَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْعَجْلَانِيُّ، وَالَّذِي جَاءَ بِالصَّاعِ هُوَ عُلَيَّةُ بْنُ زَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَسُمِّيَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ هَذَا مِرَاءٌ وَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا: مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَأَوْرَدَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَبْتَلٍ وَهُوَ بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ لَامٍ بِوَزْنِ
(1)
في هامش طبعة بولاق: كذا في بعض النسخ، وفي بعضها "سحان" بغير ميم
جَعْفَرٍ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ مَنْ جَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ) تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ بِلَفْظِ وَجَاءَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ: أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي، وَأَلْفَيْنِ أُمْسِكُهُمَا لِعِيَالِي، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ، قَالَ: وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، الْحَدِيثَ.
قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَّا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كَامِلٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَوَانَةَ مُرْسَلًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ قَالَ: وَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ - يَعْنِي فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ جِئْتُكُ بِنِصْفِهَا وَأَمْسَكْتُ نِصْفُهَا، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ، وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ. الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ بِمَعْنَاهُ.
وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَمَانَمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَمِثْلُهُ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَحَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَئِذٍ بِتِسْعِمِائَةِ
(1)
بَعِيرٍ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ فِي الْقَدرِ الَّذِي أَحْضَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَصَحُّ الطُّرُقِ فِيهِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي مَعَانِي الْفَرَّاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ عُمَرُ بِصَدَقَةٍ، وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ صَدَقَاتِهِمْ إِلَّا رِيَاءً، وَأَمَّا أَبُو عَقِيلٍ فَإِنَّمَا جَاءَ بِصَاعِهِ لِيَذْكُرَ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَتْ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِصَدَقَتِهِ، وَجَاءَ الْمُطَّوِّعُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْوَاوِ وَأَصْلُهُ الْمُتَطَوِّعِينَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَغْزُونَ بِغَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِرِزْقٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَيْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} لِاسْتِلْزَامِهِ فَسَادُ الْمَعْنَى، وَكَذَا مَنْ قَالَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، فَكَأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ مُطَّوِّعُونَ مُؤْمِنُونَ وَالثَّانِي مُطَّوِّعُونَ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ التَّنْوِيهُ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنَ الْمُقِلِّ أَشَدُّ مِنَ الْمُكْثِرِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ في الحديث الثاني: (فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا
(1)
في هامش طبعة بولاق: في نسخة "بسبعمائة".
حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ) يَعْنِي فَيَتَصَدَّقَ بِهِ، فِي رِوَايَةِ الزَّكَاةِ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَأَفَادَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَحْتَالُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِأَحَدِهِمُ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ) فِي رِوَايَةِ الزَّكَاةِ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ وَمِائَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ إِنَّ وَالْخَبَرُ لِأَحَدِهِمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ وَالْيَوْمُ ظَرْفٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُمَيَّزُ الْمِائَةِ أَلْفٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الدَّرَاهِمَ أَوِ الدَّنَانِيرَ أَوِ الْأَمْدَادَ.
قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِهِ) هُوَ كَلَامُ شَقِيقِ الرَّاوِي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، بَيَّنَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْحَاقَ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ وَإِنَّ لِأَحَدِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ شَقِيقٌ: كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِهِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ الْأَعْمَشُ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ قَدْ كَثُرَ مَالُهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ يُرِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ يَتَصَدَّقُونَ بِمَا يَجِدُونَ، وَهَؤُلَاءِ مُكْثِرُونَ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ، كَذَا قَالَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُرَادُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مَعَ قِلَّةِ الشَّيْءِ وَيَتَكَلَّفُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْ يُسْرٍ وَمَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ عُسْرٍ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الصَّدَقَةِ الْآنَ لِسُهُولَةِ مَأْخَذِهَا بِالتَّوَسُّعِ الَّذِي وُسِّعَ عَلَيْهِمْ أَوْلَى مِنَ الْحِرْصِ عَلَيْهَا مَعَ تَكَلُّفِهِمْ، أَوْ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى ضِيقِ الْعَيْشِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْفُتُوحِ وَالْغَنَائِمِ فِي زَمَانِهِ، وَإِلَى سَعَةِ عَيْشِهِمْ بَعْدَهُ لِكَثْرَةِ الْفُتُوحِ وَالْغَنَائِمِ.
4670 -
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4671 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ و قَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ" إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَم"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ مُخْتَصَرَةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ ثُمَّ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِمْ مِنْ تَبُوكَ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا ابْتِدَاؤُهَا مِنْ لَيَالٍ بَقِيَتْ مِنْ شَوَّالٍ، قَالُوا: وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ ابْنِ التِّينِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ اللَّهِ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَبِي قَدِ احْتُضِرَ فَأُحِبُّ أَنْ تَشْهَدَهُ وَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ، قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: الْحُبَابُ - يَعْنِي بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُخَفَّفًا - قَالَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ، الْحُبَابُ اسْمُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذَا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ بَعْضُ مَقَالَاتِ أَبِيهِ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِهِ، قَالَ: بَلْ أَحْسِنْ صُحْبَتَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ نَحْوَهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ أَمْرَ أَبِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ؛ فَلِذَلِكَ الْتَمَسَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَهْدِ مِنْ أَبِيهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ
لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُوَبِّخَنِي، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفَّنَ فِيهِ فَأَجَابَهُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ مَعَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: قَدْ فَهِمْتُ مَا تَقُولُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ فَكَفِّنِّي فِي قَمِيصِكَ وَصَلِّ عَلَيَّ فَفَعَلَ، وَكَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ أَرَادَ بِذَلِكَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ وَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَتْ إِجَابَتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ إِلَى أَنْ كَشَفَ اللَّهُ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ ثَانِي حَدِيثِ الْبَابِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَامَ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَثَبَتَ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وَإِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُنَافِقِينَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ جِدًّا حَتَّى أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هَذَا وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَعَاكَسَهُ غَيْرُهُ فَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى نَهْيٍ خَاصٍّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي خَاطِرِ عُمَرَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
قُلْتُ: الثَّانِي يَعْنِي مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ
قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ تَجَوُّزًا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ فَقَالَ: تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهَذَا، لَقَدْ قَالَ:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَيْنَ؟ قَالَ قَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الْآيَةَ، وَهَذَا مِثْلُ رِوَايَةِ الْبَابِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ قَدْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ أَوْ لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ فِي عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أَيْ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ وَعَدَمَ الِاسْتِغْفَارِ سَوَاءٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لَكِنِ الثَّانِيَةَ أَصْرَحُ، وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَفَهِمَ عُمَرُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ:{سَبْعِينَ مَرَّةً} أَنَّهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَأَنَّ الْعَدَدَ الْمُعَيَّنَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ
الْمُرَادُ نَفْيُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ وَلَوْ كَثُرَ الِاسْتِغْفَارُ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ فَأَطْلَقَهُ، وَفَهِمَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ فَلِذَلِكَ اسْتَلْزَمَ عِنْدَهُ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ تَرْكَ الصَّلَاةِ، فَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِطْلَاقُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اسْتَنْكَرَ إِرَادَةَ الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. هَذَا تَقْرِيرُ مَا صَدَرَ عَنْ عُمَرَ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ شِدَّةِ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَكَثْرَةِ بُغْضِهِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ مَعَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ كَشُهُودِهِ بَدْرًا وَغَيْرِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَاتَبَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْفَتْحِ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ نَافَقَ فَلِذَلِكَ أَقْدَمَ عَلَى كَلَامِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى احْتِمَالِ إِجْرَاءِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَابَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ الزّبير بْنُ الْمُنِيرِ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ حِرْصًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَشُورَةً لَا إِلْزَامًا، وَلَهُ عَوَائِدٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَلْزِمُ مَا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ اجْتَهَدَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ كَمَا تَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِالَّذِي ظَهَرَ لَهُ فَقَطْ، وَلِهَذَا احْتَمَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهُ بِثَوْبِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، حَتَّى الْتَفَتَ إِلَيْهِ مُتَبَسِّمًا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، أَيْ خُيِّرْتُ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ ذَكَرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ جَازِمٌ بِقِصَّةِ الزِّيَادَةِ، وَآكَدُ مِنْهُ مَا رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَوَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ طُرُقٌ وَإِنْ كَانَتْ مَرَاسِيلُ فَإِنَّ بَعْضَهَا يُعَضِّدُ بَعْضًا.
وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى مَنْ خَرَّجَ أَحَادِيثَ الْمُخْتَصَرِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَاقْتَصَرُوا عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَطَالَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُجَمِّعَ بْنَ جَارِيَةَ قَالَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطَالَ عَلَى جِنَازَةٍ قَطُّ مَا أَطَالَ عَلَى جِنَازَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مِنَ الْوُقُوفِ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْ جَعَلَ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةً، وَكَذَا مَفْهُومُ الصِّفَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ بِخِلَافِ السَّبْعِينَ فَقَالَ: سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ، وَأَجَابَ مَنْ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ بِمَا وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَافِعٍ لِلْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّبْعِينَ الْمُبَالَغَةُ لَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَفْهُومِ بَاقِيًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) أَمَّا جَزْمُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ فَجَرَى عَلَى مَا كَانَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ إِجْرَاءً لَهُ عَلَى ظَاهِرِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَاسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ وَلَدِهِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ صَلَاحِيَتُهُ، وَمَصْلَحَةُ الِاسْتِئْلَافِ لِقَوْمِهِ وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، ثُمَّ أُمِرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَاسْتَمَرَّ صَفْحُهُ وَعَفْوُهُ عَمَّا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَلَوْ كَانَ بَاطِنُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الِاسْتِئْلَافِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ الْفَتْحُ وَدَخَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَقَلَّ أَهْلُ الْكُفْرِ وَذَلُّوا أُمِرَ بِمُجَاهَرَةِ الْمُنَافِقِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى حُكْمِ مُرِّ الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرَ فِيهِ بِمُجَاهِرَتِهِمْ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا فَعَلَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِطَرَفٍ مِنَ الدِّينِ، وَلِتَطْيِيبِ قَلْبِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَلِتَأَلُّفِ قَوْمِهِ مِنَ الْخَزْرَجِ لِرِيَاسَتِهِ فِيهِمْ، فَلَوْ لَمْ يُجِبْ سُؤَالَ ابْنِهِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ لَكَانَ سُبَّةً عَلَى ابْنِهِ وَعَارًا عَلَى قَوْمِهِ، فَاسْتَعْمَلَ أَحْسَنَ الْأَمْرَيْنِ فِي السِّيَاسَةِ إِلَى أَنْ نُهِيَ فَانْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: وَرَجَا أَنْ يَكُونَ مُعْتَقَدًا لِبَعْضِ مَا كَانَ يَظْهَرُ فِي الْإِسْلَامِ. وَتَعَقَّبَهُ وَابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ مُرَادُ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ إِيمَانَهُ كَانَ ضَعِيفًا. قُلْتُ: وَقَدْ مَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى تَصْحِيحِ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهِ، وَذَهَلَ عَنِ الْوَارِدِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ فِي حَقِّهِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى جَوَابٍ شَافٍ فِي ذَلِكَ، فَأَقْدَمَ عَلَى الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةِ. وَهُوَ مَحْجُوجٍ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى نَقِيضِ مَا قَالَ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ فِي كُتُبِ الصَّحَابَةِ مَعَ شُهْرَتِهِ وَذِكْرُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ وَالشُّهْرَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قَالَ: فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللَّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِذَلِكَ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} زَادَ عَنْ مُسَدَّدٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي آخِرِهِ فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ يَحْيَى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجَنَائِزِ عَنْ مُسَدَّدٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ بِسَنَدِهِ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ قَالَ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُنَافِقٍ بَعْدَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَزَادَ فِيهِ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ مَعًا نَزَلَتَا فِي ذَلِكَ.
الحديث الثاني: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَقِيلٌ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَالْغَيْرُ الْمَذْكُورِ هُوَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ مُعَاذٍ عَنْهُ عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا لَامٌ هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ، وَهِيَ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ وَهِيَ خُزَاعِيَّةٌ، وَأَمَّا هُوَ فَمِنَ الْخَزْرَجِ أَحَدُ قَبِيلَتَيْ الْأَنْصَارِ، وَابْنُ سَلُولَ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ صِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ لَا صِفَةَ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي) أَيْ كَلَامَكُ، وَاسْتَشْكَلَ الدَّاوُدِيُّ تَبَسُّمُهُ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّ ضَحِكَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَبَسُّمًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ شُهُودِ الْجَنَائِزِ يَسْتَعْمَلُ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ طَلَاقَةِ وَجْهِهِ بِذَلِكَ تَأْنِيسًا لِعُمَرَ وَتَطْبِيقًا لِقَلْبِهِ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ تَرْكِ قَبُولِ كَلَامِهِ وَمَشُورَتِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ زِدْتَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ يُغْفَرْ بِسُكُونِ الرَّاءِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَغُفِرَ لَهُ بِفَاءِ وَبِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَضَمِّ أَوَّلِهِ وَالرَّاءُ مَفْتُوحَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهٌ.
قَوْلُهُ: (فَعَجِبْتُ بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ (مِنْ جُرْأَتِي) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ إِقْدَامِي عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ، وَمَا خَادَعَ مُحَمَّدٌ أَحَدًا قَطُّ وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَ نَاسِيًا لِمَا صَدَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَتُعُقِّبَ بِمَا فِي السِّيَاقِ مِنْ تَكْرِيرِ الْمُرَاجَعَةِ فَهِيَ دَافِعَةٌ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا.
13 - بَاب: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4672 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؟ قَالَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ - أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ - فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَقَالَ: سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَوْلُهُ: بَابُ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ سِرًّا فَلَا تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ، إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ رَهْطٌ ذَوِي عَدَدٍ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ ; قَالَ: فَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ اسْتَتْبَعَ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ مَشَى مَعَهُ وَإِلَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ أَنَّهُمُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَرِيبًا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِصَاصِ الْمَذْكُورِينَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّهُمْ تَابُوا.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ، كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ، وَالْأَوَّلِ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مِنَ التَّخْيِيرِ، وَالثَّانِي بِمُوَحَّدَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ أَيْ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتُشْكِلَ فَهْمُ التَّخْيِيرِ مِنَ الْآيَةِ حَتَّى أَقْدَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ وَاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ الَّذِينَ خَرَّجُوا الصَّحِيحَ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى مُنْكِرِي صِحَّتِهِ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى طُرُقِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَفْهُومُ الْآيَةِ زَلَّتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ، حَتَّى أَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ انْتَهَى.
وَلَفْظُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي التَّقْرِيبِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ ثُبُوتِهَا، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُخَرَّجٍ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ: لَا يُصَحِّحُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَالسَّبَبُ فِي إِنْكَارِهِمْ صِحَّتِهِ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ حَمْلِ أَوْ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ، وَحَمْلَ السَّبْعِينَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ تَرَدُّدٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ غَيْرُ مُرَادٍ انْتَهَى. وَأَيْضًا فَشَرْطُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَكَذَا الْعَدَدُ عِنْدَهُمْ مُمَاثَلَةُ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَعَدَمُ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فَائِدَةٌ وَاضِحَةٌ، فَأَشْكَلَ قَوْلُهُ سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ مَعَ أَنَّ حُكْمُ مَا زَادَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ، اسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِ عَشِيرَتِهِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرَدُّدُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ، لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ سَأَزِيدُ وَوَعْدُهُ صَادِقٌ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ لَأَزِيدَنَّ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْمُبَالَغَةِ لَا يَتَنَافَيَانِ، فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ لَا أَنَّهُ جَازِمٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقِيلَ إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الدُّعَاءِ، وَالْعَبْدُ إِذَا سَأَلَ رَبَّهُ حَاجَةً فَسُؤَالُهُ إِيَّاهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الذِّكْرِ لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ طَلَبَ تَعْجِيلَ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ لَيْسَ عِبَادَةً، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَالْمَغْفِرَةُ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ، وَتَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ طَلَبُهَا لَا لِغَرَضِ حُصُولِهَا بَلْ لِتَعْظِيمِ الْمَدْعُوِّ فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْمَغْفِرَةُ عُوِّضَ الدَّاعِي عَنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعِ السُّوءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَنِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ.
هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَسْتَحِيلُ الْمَغْفِرَةُ لَهُ شَرْعًا وَقَدْ وَرَدَ إِنْكَارُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَوَقَعَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشْكَالٌ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وَأَخَذَ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ مِنَ السَّبْعِينَ فَقَالَ: سَأَزِيدُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ قَرِيبًا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ هَذِهِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُنَافِقَيْنِ مَعَ الْجَزْمِ بِكُفْرِهِمْ فِي نَفْسِ الْآيَةِ؟ وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى جَوَابٍ لِبَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِغْفَارٌ تُرْجَى إِجَابَتُهُ حَتَّى يَكُونَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ، بِخِلَافِ الِاسْتِغْفَارِ لِمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ اسْتِغْفَارٌ لِقَصْدِ تَطْيِيبِ قُلُوبِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ عِنْدِي.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتُ كَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَفْصَحِ الْخَلْقِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَلَوْ كَثُرَ لَا يُجْدِي، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَلَاهُ قَوْلُهُ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ، فَبَيَّنَ الصَّارِفُ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؟ قُلْتُ: لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ وَقَالَ مَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتُهُ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَفِي إِظْهَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّأْفَةَ الْمَذْكُورَةَ لُطْفٌ بِأُمَّتِهِ، وَبَاعِثٌ عَلَى رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا انْتَهَى. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ مَا قَالَهُ إِلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْكُفَّارِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ مُسْتَحِيلٌ، وَطَلَبُ الْمُسْتَحِيلِ لَا يَقَعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقَدُهُ صَحِيحًا، وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَحْثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
وَالتَّرْجِيحُ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ جِدًّا، وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي قِصَّتِهِ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وَحَرَّرْتُ دَلِيلَ ذَلِكَ هُنَاكَ، إِلَّا أَنَّ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْقِصَّةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا وَتَمَسَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إِلَى هُنَا خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ عُمَرَ عَلَى التَّخْيِيرِ وَعَلَى ذِكْرِ السَّبْعِينَ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ، وَفَضَحَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ، وَنَادَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَدرِ إِلَى قَوْلِهِ:{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ كِتَابِهِ تَكْمِيلُ الْآيَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ وَجَدَ الْحَامِلَ عَلَى مَنْ رَدَّ الْحَدِيثَ أَوْ تَعَسَّفَ فِي التَّأْوِيلِ ظَنَّهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أَيْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كَامِلَةً، لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُزُولُهَا كَامِلَةً لَاقْتَرَنَ بِالنَّهْيِ الْعِلَّةِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ قَلِيلَ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرِهِ لَا يُجْدِي، وَإِلَّا فَإِذَا فُرِضَ مَا حَرَّرْتُهُ أَنَّ هَذَا الْقَدرَ نَزَلَ مُتَرَاخِيًا عَنْ صَدْرِ الْآيَةِ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحُجَّةُ الْمُتَمَسِّكِ مِنَ الْقِصَّةِ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ صَحِيحٌ، وَكَوْنُ ذَلِكَ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَمَسِّكًا بِالظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَحْكَامِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ عَنْ ذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَلْهَمَ وَعَلَّمَ.
وَقَدْ وَقَفْتُ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ صَاحِبِ حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى جُزْءٍ جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِيهِ فَلَخَّصْتُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ فِي قَوْلِ عُمَرَ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنِ
الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَحَلَّ النَّهْيِ، فَوَقَعَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنِ الْعُمَرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَلَفْظُهُ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَ: وَفِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْنَا مَعَهُ أَنَّ عُمَرَ تَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَتَابَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهَا عَنْ عُمَرَ إِذْ لَمْ يَشْهَدْهَا.
قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِ عُمَرَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مُنَافِقٌ وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ، وَيُؤْخَذُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ مَا قُصِدَ بِهِ الشَّتْمُ لَا التَّعْرِيفُ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ، وَأَنَّ الْإِعْلَامَ بِوَفَاةِ الْمَيِّتِ مُجَرَّدًا لَا يَدْخُلُ فِي النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الْمُوسِرِ مِنَ الْمَالِ مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ، وَفِيهِ رِعَايَةُ الْحَيِّ الْمُطِيعِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَيِّتِ الْعَاصِي، وَفِيهِ التَّكْفِينُ بِالْمَخِيطِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ إِذَا كَانَ النَّصُّ مُحْتَمِلًا، وَفِيهِ جَوَازُ تَنْبِيهِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ عَلَى مَا يَظُنُّ أَنَّهُ سَهَا عَنْهُ، وَتَنْبِيهُ الْفَاضِلِ الْمَفْضُولَ عَلَى مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ اسْتِفْسَارِ السَّائِلِ الْمَسْئُولَ وَعَكْسُهُ عَمَّا يَحْتَمِلُ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَسُّمُ فِي حُضُورِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ عَدَمَ التَّبَسُّمِ مِنْ أَجْلِ تَمَامِ الْخُشُوعِ، فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
4673 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ، وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إِلَى: {الْفَاسِقِينَ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} الْآيَةَ) سَقَطَ (لَكُمْ) مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.
باب - {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} - إلى قوله - {الْفَاسِقِينَ}
قوله: (باب قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} - إلى قوله - {الْفَاسِقِينَ} كذا ثبت لأبي ذر وحده الترجمة بغير حديث، وسقطت للباقين. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت في المنافقين.
4674 -
حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنَا: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قَالَا: أَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى {رَحِيمٌ} وَذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي الْمَنَامِ الطَّوِيلِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ مَعَ شَرْحِهِ فِي التَّعْبِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ هُوَ ابْنُ هِشَامٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ قِيلَ الصَّوَابُ حَسَنًا لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَخَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَشَطْرٌ وَحَسَنٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ.
16 - بَاب: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
4675 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ذَكِرَ فِيهِ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْقَصَصِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4676 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ ح.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا
عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى {رَحِيمٌ} ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبٍ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالْقَدرُ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ هُنَا أَيْضًا فِي الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ هُنَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ مُرَادُهُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخَيْنِ عَنْ يُونُسَ، لَكِنْ فَرَّقَهُمَا لِاخْتِلَافِ الصِّيغَةِ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ السَّنَدَ عَنْهُمَا مُتَّحِدٌ، لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ شَيْخَ ابْنِ شِهَابٍ هُنَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَنْبَسَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمَهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ نُسِبَ لِجَدِّهِ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيِّ الصَّدَفِيِّ فِيمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ بِهَامِشِ نُسْخَتِهِ. قُلْتُ: قَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي النَّذْرِ، فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بَعْضَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ الْحَدِيثِ أَيْضًا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دُوَادَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ كَمَا فِي النَّسَائِيِّ، وَعَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ كَذَلِكَ.
4677 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ فَأَجْمَعْتُ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ إِلاَّ ضُحًى وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِي وَكَلَامِ صَاحِبَيَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلَامَنَا فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكُونَ مِنْ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُصَلِّي وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمَّ
سَلَمَةَ، تِيبَ عَلَى كَعْبٍ، قَالَتْ: أَفَلَا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟ قَالَ: إِذًا يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا، وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ، وَكُنَّا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا التَّوْبَةَ، فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ فاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، سَاقَ غَيْرَهُ إِلَى {الرَّحِيمُ} .
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ مُحَمَّدٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ فَصَارَ لِلْبُخَارِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أبِي شُعَيْبٍ بِلَا وَاسِطَةً، وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فَاخْتُلِفَ فِي مُحَمَّدٍ، فَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ النَّيْسَابُورِيُّ، يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ، وَقَالَ مَرَّةٌ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ لَهُ مِنْ طَرِيقِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ: هُوَ الذُّهْلِيُّ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي عِلَلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ لِلذُّهْلِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ، وَالْبُخَارِيُّ يُسْتَمَدُّ مِنْهُ كَثِيرًا، وَهُوَ يُهْمِلُ نَسَبَهُ غَالِبًا. وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ فَهُوَ الْحَرَّانِيُّ نَسَبَهُ الْمُؤَلِّفُ إِلَى جَدِّهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، وَأَبُو شُعَيْبٍ كُنْيَةُ مُسْلِمٍ لَا كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكُنْيَةُ أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قَطْعًا مِنْ قِصَّةِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي. وَقَوْلُهُ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا يُسَلِّمُ وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُسَلِّمُنِي وَاسْتَبْعَدَهُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنْ يَكُونَ اتِّبَاعًا، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ السَّلَامَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتَ مُسْلِمٌ مِنِّي.
وَقَوْلُهُ: وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ مِنَ الِاعْتِنَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُعَيَّنَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ مِنَ الْعَوْنِ. وَالْأَوَّلُ أُنْسَبُ. وَقَوْلُهُ يَحْطِمُكُمْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي يَخْطَفُكُمْ
19 - بَاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
4678 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} ، إِلَى قَوْلِهِ، {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
قَوْلُهُ: بَابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مُخْتَصَرًا مِنْ قِصَّةِ تَوْبَةِ كَعْبٍ أَيْضًا.
20 - بَاب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مِنْ الرَّأْفَةِ
4679 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ:، وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، وَلَا نَتَّهِمُكَ، وكُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، وَاللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ: مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَالَ مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ: مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
قَوْلُهُ: (مِنَ الرَّأْفَةِ) ثَبَتَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} هُوَ فَعُولٌ مِنَ الرَّأْفَةِ، وَهِيَ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ) بِمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، اسْمُهُ عُبَيْدٌ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ التَّنْبِيهُ عَلَى اخْتِلَافِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي تَعْيِينِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أَمَّا مُتَابَعَةُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَفِي التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ: مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ) يُرِيدُ أَنَّ اللَّيْثَ فِيهِ شَيْخًا آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ خَالَفَ فِي قَوْلِهِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ) أَمَّا مُوسَى فَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَيَعْقُوبُ هُوَ وَلَدُهُ، وَمُتَابَعَةُ مُوسَى وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي آيَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَفِي آيَةِ الْأَحْزَابِ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمِمَّا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ التَّوْبَةِ وَجَدَهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَمَّا جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ وَجَدَهَا لَمَّا نَسَخَ الْمَصَاحِفَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَوَصَلَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو يَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَرَوَاهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْهُ لَكِنْ قَالَ مَعَ خُزَيْمَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ) فَأَمَّا أَبُو ثَابِتٍ فَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ أَصْحَابَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَ خُزَيْمَةَ وَشَكَّ بَعْضُهُمْ، وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ آيَةَ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ آيَةُ الْأَحْزَابِ مَعَ خُزَيْمَةَ، وَسَتَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرِوَايَةُ أَبِي ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَحْكَامِ بِالشَّكِّ كَمَا قَالَ.
10 - سُورَةُ يُونُسَ
1 - بَاب وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَاخْتَلَطَ} فَنَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ. {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَيْرٌ. يُقَالُ: {تِلْكَ آيَاتُ} يَعْنِي هَذِهِ أَعْلَامُ الْقُرْآنِ. وَمِثْلُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الْمَعْنَى: بِكُمْ. {دَعْوَاهُمْ} دُعَاؤُهُمْ. {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنْ الْهَلَكَةِ، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ. {وَعَدْوًا} مِنْ الْعُدْوَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ. {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لَأُهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مِثْلُهَا حُسْنَى. {وَزِيَادَةٌ} مَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ. {الْكِبْرِيَاءُ} الْمُلْكُ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - سُورَةُ يُونُسَ) أَخَّرَ أَبُو ذَرٍّ الْبَسْمَلَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاخْتَلَطَ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} قَالَ: اخْتَلَطَ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ كُلُّ لَوْنٍ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ حُبُوبِ الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} كَذَا ثَبَتَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ تَرْجَمَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخَرِّجَ فِيهَا طَرِيقًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِي التَّوْحِيدِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَمِّ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَبَيَّضَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَيْرٌ) أَمَّا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَوَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَخْبَرْتُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَفِيعٌ لَهُمْ وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قَالَ: خَيْرٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدَمَ صِدْقٍ} قَالَ: صَلَاتَهُمْ وَصَوْمَهُمْ وَصَدَقَتَهُمْ وَتَسْبِيحَهُمْ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ {قَدَمَ صِدْقٍ} أَيْ ثَوَابَ صِدْقٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قَالَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ الْعَرَبِ: لِفُلَانِ قَدَمَ صِدْقٍ فِي كَذَا أَيْ قَدَمٌ فِيهِ خَيْرٌ، أَوْ قَدَمَ سُوءٍ فِي كَذَا أَيْ قَدَمٌ فِيهِ شَرٌّ. وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَمِ السَّابِقَةِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ:{قَدَمَ صِدْقٍ} قَالَ: سَلَفُ صِدْقٍ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
(تَنْبِيهٌ):
ذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ. قُلْتُ لَمْ أَرَهُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَلَى الصَّوَابِ كَمَا قَدَّمْتُهُ، ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا وَقَعَتْ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ، وَمُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّهُ فَسَّرَ الْقَدَمَ بِالْخَيْرِ وَلَوْ كَانَ وَقَعَ بِزِيَادَةِ ابْنِ مَعَ التَّصْحِيفِ لَكَانَ عَارِيًا عَنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ الْمَنْسُوبِ لِمُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْقَدَمِ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ تِلْكَ آيَاتٌ يَعْنِي هَذِهِ أَعْلَامَ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الْمَعْنَى بِكُمْ) هَذَا وَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي لِلْجَمِيعِ فِي التَّوْحِيدِ. وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْمُثَنَّى، وَفِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ آيَاتُ الْكِتَابِ الْأَعْلَامُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي كُلِّ مِنْهُمَا صَرْفُ الْخِطَابِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَعَكْسِهِ.
قَوْلُهُ: (دَعْوَاهُمْ دُعَاؤُهُمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} قَالَ: إِذَا أَرَادُوا الشَّيْءَ قَالُوا اللَّهُمَّ فَيَأْتِيهِمْ مَا دَعَوْا بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرْتُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَسِيَاقَهُ أَتَمُّ، وَكُلُّ هَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى {دَعْوَاهُمْ} دُعَاؤُهُمْ لِأَنَّ اللَّهُمَّ مَعْنَاهَا يَا اللَّهُ أَوْ مَعْنَى الدَّعْوَى الْعِبَادَةِ أَيْ كَلَامُهُمْ فِي الْجَنَّةِ هَذَا اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ.
قَوْلُهُ: {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنَ الْهَلَكَةِ، أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أَيْ دَنَوْا لِلْهَلَكَةِ، يُقَالُ قَدْ أُحِيطَ بِهِ أَيْ أنَّهُ لَهَالِكٌ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالْقَوْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ غَالِبًا لِجَعْلِهِ كِنَايَةً عَنْهُ، وَلَهَا أَرْدَفَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قَوْلُهُ الْإِنْسَانُ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكَ فِيهِ وَالْعَنْهُ) وَقَوْلُهُ: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أَيْ لَأَهْلَكَ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ) هَكَذَا وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِلَفْظٍ مُخْتَصَرٍ قَالَ: فَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُمُ الِاسْتِجَابَةَ فِي ذَلِكَ كَمَا يُسْتَجَابُ فِي الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ
ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَثْنَاءَ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأَفْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ.
قَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مِثْلُهَا حُسْنَى وَزِيَادَةُ مَغْفِرَةٍ وَرِضْوَانٍ، هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ بِالْغَيْرِ هُنَا فِيمَا أَظُنُّ قَتَادَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ قَالَ: الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ. الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ فِيمَا بَلَغَنَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا. وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، {الْحُسْنَى} الْجَنَّةُ، {وَزِيَادَةٌ} النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعْدًا فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُبَيِّضُ وُجُوهَنَا وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ قَالَ فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ ثُمَّ قَرَأَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا أَسْنَدَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغَيِّرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ مَعْمَرٌ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْف، وَمِنْ تَحْدِيثِ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِثْلِهِ وَصَلَهُ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَإِسْرَائِيلُ عَنْهُ، وَوَقَفَهُ سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، وَشَرِيكٌ عَلَى عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ. وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ الزِّيَادَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ: مِنْهَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالْحَسَنِ إِنَّ الزِّيَادَةَ التَّضْعِيفُ، وَمِنْهَا قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنَّ الزِّيَادَةَ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ لَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ. أَخْرَجَ جَمِيعُ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ رِوَايَةَ حُذَيْفَةَ وَرِوَايَةَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا، وَأَشَارَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {الْكِبْرِيَاءُ} الْمُلْكُ) هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ قَوْلُهُ {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا صَدَقَ صَارَتْ مَقَالِيدُ أُمَّتِهِ وَمُلْكِهِمْ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ) يَعْنِي بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَبِالثَّانِي قَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَأَتْبَعَهُمْ مِثْلُ تَبِعَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ كَرَدَفْتُهُ وَأَرْدَفْتُهُ بِمَعْنًى، وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى أَدْرَكَ، وَغَيْرُ الْمَهْمُوزِ بِمَعْنَى مَضَى وَرَاءَهُ أَدْرَكَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكُهُ، وَقِيلَ اتَّبَعَهُ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَمْرِ اقْتَدَى بِهِ وَأَتْبَعَهُ بِالْهَمْزِ تَلَاهُ.
قَوْلُهُ: (عَدْوًا مِنَ الْعُدْوَانِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَهُوَ وَمَا قَبْلَهُ نَعْتَانِ مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ أَوْ عَلَى الْحَالِ أَيْ بَاغِينَ مُتَعَدِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ أَيْ لِأَجْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَضَمِّ أَوَّلِهِ.
{نُنَجِّيكَ} نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَهُوَ النَّشَزُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ
4680 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصُومُوا.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} سَقَطَ لِلْأَكْثَرِ بَابُ وَسَاقُوا الْآيَةَ إِلَى {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
قَوْلُهُ: {نُنَجِّيكَ} نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ النَّشَزُ، الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أَيْ نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ أَيِ ارْتِفَاعٍ اهـ، وَالنَّجْوَةُ هِيَ الرَّبْوَةُ الْمُرْتَفِعَةُ وَجَمْعُهَا نِجًى بِكَسْرِ النُّونِ وَالْقَصْرُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ نُنَجِّيكَ مِنَ النَّجَاةِ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ بِمَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ قَوْمُكُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، وَقِيلَ هُوَ
(1)
وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَغَيْرُهُمَا (نُنَحِّيكَ) بِالتَّشْدِيدِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيكَ بِنَاحِيَةٍ، وَوَرَدَ سَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمُتْ فِرْعَوْنُ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَالثَّوْرِ الْأَحْمَرِ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ لَمْ يُصَدِّقْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ لِيَكُونَ لَهُمْ عِظَةٌ وَآيَةٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ قَالَ مِنْ تَخَلَّفَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنِ: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنَّهُمْ فِي جَزَائِرِ الْبَحْرِ يَتَصَيَّدُونَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنِ الْفِظْ فِرْعَوْنَ عُرْيَانًا، فَلَفَظَهُ عُرْيَانًا أَصْلَعَ أَخْنَسَ قَصِيرًا، فَهُوَ قَوْلُهُ:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {بِبَدَنِكَ} قَالَ بِجَسَدِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي صَخْرٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: الْبَدَنُ الدِّرْعُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصِّيَامِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: ذَاكَ يَوْمٌ نُجِّيَ فِيهِ مُوسَى وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ.
11 - سُورَةُ هُودٍ
وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: الْأَوَّاهُ: الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِبَدَنِكَ} مَا ظَهَرَ لَنَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ: جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {بِبَدَنِكَ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِبَدَنِكَ} أَمْسِكِي. {بِبَدَنِكَ} شَدِيدٌ. {بِبَدَنِكَ} بَلَى. {بِبَدَنِكَ} نَبَعَ الْمَاءُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ هُودٍ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قوله: (وقال أبو ميسرة: الأواه: الرحيم بالحبشية) تقدم في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وسقط هنا من رواية أبي ذر.
قوله: (وقال ابن عباس: {بَادِيَ الرَّأْيِ} ما ظهر لنا، وقال مجاهد:{الْجُودِيِّ} جبل بالجزيرة. وقال الحسن: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يستهزئون به. وقال ابن عباس: أقلعي: أمسكي، وفار التنور: نبع الماء. وقال عكرمة: وجه الأرض. تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء، وسقط هنا لأبي ذر.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {عَصِيبٌ} شَدِيدٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قَالَ: شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا مِثْلَهُ، وَقَالَ: وَمِنْهُ قَوْلِ الرَّاجِزِ: يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الْأَبْطَالَا وَيَقُولُونَ: عَصَبَ يَوْمُنَا يَعْصِبُ عَصَبًا أَيِ اشْتَدَّ.
قَوْلُهُ: (لَا جَرَمَ بَلَى) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ
(1)
بياض في الأصل.
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ} قَالَ أَيْ بَلَى إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَعْنَى جَرَمَ أَيْ كَسْبَ الذَّنْبُ ثُمَّ كُثْرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا بُدَّ كَقَوْلِهِمْ لَا جَرَمَ أَنَّكَ ذَاهِبٌ، وَفِي مَوْضِعٍ حَقًّا كَقَوْلِكَ لَا جَرَمَ لَتَقُومَنَّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ {وَحَاقَ} نَزَلَ يَحِيقُ يَنْزِلُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ نَزَلَ بِهِمْ وَأَصَابَهُمْ.
قَوْلُهُ: (يَئُوسٌ فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} هُوَ فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَبْتَئِسُ تَحْزَنُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ {فَلا تَبْتَئِسْ} قَالَ: لَا تَحْزَنْ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} مِنَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا) وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قَالَ شَكُّ وَامْتِرَاءُ فِي الْحَقِّ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَخْفَى مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِذَا أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا بِثَوْبِهِ، وَاللَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الشَّاكُّ فِي اللَّهِ وَعَامِلُ السَّيِّئَاتِ يَسْتَغْشِي بِثِيَابِهِ وَيَسْتَكِنُّ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَرَاهُ وَيَعْلَمُ مَا يُسِرُّ وَمَا يُعْلِنُ. وَالثَّنْيُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الشَّكِّ فِي الْحَقِّ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَنَى صَدْرَهُ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَتَغَشَّى بِثَوْبِهِ لِئَلَّا يَرَاهُ، أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، لَكِنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ.
(تَنْبِيهٌ):
قَدَّمْتُ هَذِهِ التَّفَاسِيرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهِيَ عِنْدَ الْبَاقِينَ مُؤَخَّرَةٌ عَمَّا سَيَأْتِي إِلَى قَوْلِهِ أَقْلِعِي أَمْسِكِي.
1 - باب أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَحَاقَ} نَزَلَ. {يَحِيقُ} يَنْزِلُ. يَئُوسٌ: فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَبْتَئِسْ} تَحْزَنْ. {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ، {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} مِنْ اللَّهِ إِنْ اسْتَطَاعُوا.
4681 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ. قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ.
[الحديث 4681 - طرفاه في: 4682، 4683]
4682 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ: أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ. قُلْتُ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، مَا تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُجَامِعُ
امْرَأَتَهُ فَيَسْتَحِي، أَوْ يَتَخَلَّى فَيَسْتَحِي، فَنَزَلَتْ: أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ.
4683 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَسْتَغْشُونَ} يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ. {سِيءَ بِهِمْ} سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ. {وَضَاقَ بِهِمْ} بِأَضْيَافِهِ. {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بِسَوَادٍ. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَرْجِعُ.
قوله: (باب {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} سقط باب للأكثر.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ) هَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَتَابَعَهُ حَجَّاجٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} يَعْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِتَحْتَانِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ بِفَوْقَانِيَّةٍ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا يَاءٌ عَلَى وَزْنِ تُفْعَوْعَلٍ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٌ كَاعْشَوْشَبَ، لَكِنْ جُعِلَ الْفِعْلُ لِلصُّدُورِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ، لِعَنْتَرَةَ:
وَقَوْلُكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ
…
إِذَا مَا هُوَ احْلَوْلى أَلَا لَيْتَ ذَا لِيَا
وَحَكَى أَهْلُ الْقِرَاءَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِرَاءَاتٍ أُخْرَى وَهِيَ يَثْنَوِنَّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ الثَّنْيِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ مَا هَشَّ وَضَعُفَ مِنَ النَّبَاتِ، وَقِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ عَنْهُ أَيْضًا بِوَزْنِ يَرْعَوِي، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ غَلَطٌ إِذْ لَا يُقَالُ ثَنَوْتُهُ فَانْثَوَى كَرَعَوْتُهُ فَارْعَوَى. قُلْتُ: وَفِي الشَّوَاذِّ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطَهَا.
قَوْلُهُ: (أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا) أَيْ أَنْ يَقْضُوا الْحَاجَةَ فِي الْخَلَاءِ وَهُمْ عُرَاةٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رَوَى يَتَحَلَّوْا بِالْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ أَنَّهُ أَحْسَنَ أَيْ يَرْقُدُ عَلَى حَلَاوَةِ قَفَاهُ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: كَانُوا لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْغَائِطَ إِلَّا وَقَدْ تَغَشَّوْا بِثِيَابِهِمْ كَرَاهَةَ أَنْ يُفْضُوا بِفُرُوجِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ: (فِي رِوَايَةِ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ (قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ضَبْطَ أَوَّلِهِ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِنُونِ آخِرِهِ وَصُدُورَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِأَبِي ذَرٍّ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ يَثْنُونِي أَوَّلُهُ تَحْتَانِيَّةٌ وَآخِرُهُ تَحْتَانِيَّةٌ أَيْضًا، وَزَادَ وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (يَسْتَغْشُونَ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ) الضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ يَعُودُ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُ التَّغَشِّي بِالتَّغْطِيَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالرَّأْسِ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ، وَهَذَا مَقْبُولٌ مِنْ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُقَالُ مِنْهُ اسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ وَتَغَشَّاهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي
قَوْلُهُ: {سِيءَ بِهِمْ} سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ وَضَاقَ بِهِمْ بِأَضْيَافِهِ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} سَاءَ ظَنًّا بِقَوْمِهِ وَضَاقَ ذَرْعًا بِأَضْيَافِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَافُ الضَّمِيرَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اتِّحَادِهِمَا. وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: سَاءَهُ مَكَانُهُمْ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْجَمَالِ.
قَوْلُهُ: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بِسَوَادٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ بِبَعْضٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِعُ)
وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ نِسْبَتُهُ إِلَى مُجَاهِدٍ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ: بَابٌ {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، قوله سِجِّيلٌ: الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ، سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ واحد، وَاللَّامُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً
…
ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا.
هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِمَعْنَاهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} هُوَ الشَّدِيدُ مِنَ الْحِجَارَةِ الصَّلْبِ، وَمِنَ الضَّرْبِ أَيْضًا قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ، فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَقَوْلُهُ سِجِّيلًا أَيْ شَدِيدًا، وَبَعْضُهُمْ يُحَوِّلُ اللَّامَ نُونًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: السِّجِّيلُ الشَّدِيدُ الْكَثِيرُ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ قُتَيْبَةٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى السِّجِّيلُ الشَّدِيدُ لَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَكَانَ يَقُولُ حِجَارَةً سِجِّيلًا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ حِجَارَةٌ مِنْ شَدِيدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ حُذِفَ. وَأَنْشَدَ غَيْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ فَأَبْدَلَ قَوْلَهُ ضَاحِيَةً بِقَوْلِهِ عَنْ عُرُضٍ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَسَيَأْتِي قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ فَارِسِيَّةٌ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ، وَقَدْ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا فَارِسِيَّةٌ فَقَدْ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ فَصَارَتْ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ بَحْرٌ مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ نَزَلَتْ مِنْهُ الْحِجَارَةُ، وَقِيلَ هِيَ جِبَالٌ فِي السَّمَاءِ.
(تَنْبِيهٌ):
تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ هُوَ ابْنُ خُبَيْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْعَامِرِيُّ ثُمَّ الْعَجْلَانِيُّ، شَاعِرٌ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ أَعْرَابِيًّا جَافِيًا، وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ عُمَرَ، ذَكَرَهُ الْمَرْزُبَانِيُّ وَرَجْلَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي رِجْلَةٍ وَالْجِيمُ سَاكِنَةٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فِي هَذَا الْحَاءَ الْمُهْمَلَةَ، وَالْبَيْضُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ بَيْضَةٍ وَهِيَ الْخُوذَةُ، أَوْ بِكَسْرِهَا جَمْعُ أَبْيَضَ وَهُوَ السَّيْفُ فَعَلَى الْأَوَّلُ الْمُرَادُ مَوَاضِعُ الْبِيضِ وَهِيَ الرُّءُوسُ، وَعَلَى الثَّانِي الْمُرَادُ يَضْرِبُونَ بِالْبِيضِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَضَاحِيَةٌ أَيْ ظَاهِرَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ. وَتَوَاصَى أَصْلُهُ تَتَوَاصَى فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَرُوِيَ تَوَاصَتْ بِمُثَنَّاةِ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ فِي آخِرِهِ، وَقَوْلُهُ سِجِّينًا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْمُظَفَّرِ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ السَّجْنِ كَأَنَّهُ يُثَبِّتُ مَنْ وَقَعَ فِيهِ فَلَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ، وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْجِيمِ أَيْ ضَرْبًا حَارًّا.
قَوْلُهُ: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} جَعَلَكُمْ عُمَّارًا، أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى) سَقَطَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.
قَوْلُهُ: {نَكِرَهُمْ} وَأَنْكَرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنْشَدَ:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ
قَوْلُهُ: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٍ مِنْ حَمِدَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَالَّذِي فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ أَيْ مَحْمُودٌ مَاجِدٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْحَمِيدُ فَعِيلٌ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ حَامِدٌ أَيْ يَحْمَدُ مَنْ يُطِيعُهُ، أَوْ هُوَ حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٌ، وَالْمَجِيدُ فَعِيلٌ مِنْ مَجُدَ بِضَمِّ الْجِيمِ يَمْجُدُ كَشَرُفَ يَشْرُفُ وَأَصْلُهُ الرِّفْعَةُ.
قَوْلُهُ: (إِجْرَامِيٌّ مَصْدَرُ أَجْرَمَتْ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ جَرَمْتُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنْشَدَ:
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ
…
بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي
وَجَرَمَتْ بِمَعْنَى كَسَبَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (الْفُلْكُ وَالْفَلَكُ وَاحِدٌ وَهِيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ) كَذَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْفَاءِ فِيهِمَا وَسُكُونِ اللَّامِ فِي الْأُولَى وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَلِآخَرِينَ بِفَتْحَتَيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَبِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ فِي الثَّانِيَةِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: الْأَوَّلُ وَاحِدٌ وَالثَّانِي جَمْعٌ مِثْلُ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، قالَ عِيَاضٌ: وَلِبَعْضِهِمْ بِضَمِّ ثُمَّ سُكُونٍ فِيهِمَا
جَمِيعًا وَهُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجَمْعَ وَالْوَاحِدَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ قَالَ فِي الْوَاحِدِ:{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وَقَالَ فِي الْجَمْعِ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وَالَّذِي فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ وَهِيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ، وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ.
قَوْلُهُ: (مُجْرَاهَا مَدْفَعُهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ أَجْرَيْتُ، وَأَرْسَيْتُ حَبَسْتُ وَيُقْرَأُ مَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ وَمُرْساهَا مِنْ رَسَتْ، وَمُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا مِنْ فُعِلَ بِهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} أَيْ مَسِيرُهَا وَهِيَ مِنْ جَرَتْ بِهِمْ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ فَهُوَ مِنْ أَجْرَيْتُهَا أَنَا، وَمُرْسَاهَا أَيْ وَقْفَهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْ أَرْسَيْتُهَا أَنَا انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: مَجْرَاهَا مَوْقِفُهَا بِوَاوٍ وَقَافٍ وَفَاءٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ. ثُمَّ وَجَدْتُ ابْنَ التِّينِ حَكَاهَا عَنْ رِوَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي الْقَابِسِيَّ قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ فَاسِدُ الْمَعْنَى، وَالصَّوَابُ مَا فِي الْأَصْلِ بِدَالٍ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ عَيْنٍ.
(تَنْبِيهٌ):
الَّذِي قَرَأَ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي مُجْرَاهَا الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَرَءُوا كُلُّهُمْ فِي الْمَشْهُورِ بِالضَّمِّ فِي مُرْسَاهَا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَتْحَهَا أَيْضًا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَفِي قِرَاءَةِ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالسِّينِ أَيِ اللَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (رَاسِيَاتٍ ثَابِتَاتٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أَيْ ثِقَالٍ ثَابِتَاتٍ عِظَامٍ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَهَا اسْتِطْرَادًا لَمَّا ذَكَرَ مُرْسَاهَا.
قَوْلُهُ: (عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ، هُوَ تَأْكِيدُ التَّجَبُّرِ) هُوَ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِمَعْنَاهُ، لَكِنْ قَالَ: وَهُوَ الْعَادِلُ عَنِ الْحَقِّ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُعَارِضُ الْمُخَالِفُ.
قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ وَاحِدُهُ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ هُنَا فَقِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا أَعَمُّ، وَعَنْ قَتَادَةَ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْخَلَائِقُ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْجَمِيعِ.
2 - بَاب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
4684 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ. {اعْتَرَاكَ} افْتَعَلَت مِنْ عَرَوْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي. {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أَيْ فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ. عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ، هُوَ تَأْكِيدُ التَّجَبُّرِ. . {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} جَعَلَكُمْ عُمَّارًا، أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ. {نَكِرَهُمْ} وَأَنْكَرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ. {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ، مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ. سِجِّيلٌ: الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ، سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ واحد، وَاللَّامُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً
…
ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا.
[الحديث 4684 - أطرافه في: 5352، 7411، 7419، 7496]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ قَوْلُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ لَا يَغِيضُهَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ السَّاقِطَةِ أَيْ لَا يَنْقُصُهَا، وَسَحَّاءُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُثَقَّلًا مَمْدُودٌ أَيْ دَائِمَةٌ، وَيَرْوِى سَحًّا بِالتَّنْوِينِ فَكَأَنَّهَا لِشِدَّةِ امْتِلَائِهَا تَغِيضُ أَبَدًا، (وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمِيزَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدْلِ.
3 - باب {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} :
إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ؛ لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ، وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. وَاسْأَلْ الْعِيرَ: يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَأَصْحَابَ الْعِيرِ. {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}: يَقُولُ: لَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي، وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا، وَالظِّهْرِيُّ هَا هُنَا أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ. {أَرَاذِلُنَا}: سُقَّاطُنَا. إِجْرَامِي: هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَجْرَمْتُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: جَرَمْتُ.
الْفُلْكَ وَالْفَلَكُ وَاحِدٌ، وَهْيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ. مُجْرَاهَا: مَدْفَعُهَا، وَهُوَ مَصْدَرُ أَجْرَيْتُ. وَأَرْسَيْتُ: حَبَسْتُ. وَيُقْرَأُ: مَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ، مُرْسِاهَا من رست. ومجريها ومرسيها مِنْ فُعِلَ بِهَا. الرَاسِيَاتٌ: ثَابِتَاتٌ.
4 - بَاب {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وَاحِدُ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ
4685 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ قَالَا: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْ قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ، هل سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ. وَقَالَ هِشَامٌ: يَدْنُو الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ: تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ يَقُولُ: أَعْرِفُ، يَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ. فَيَقُولُ: سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ، أَوْ الْكُفَّارُ، فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ:{هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.
وَقَوْلُهُ حَدَّثَنَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أَيْ مَا تَجَبَّرُوا وَتَكَبَّرُوا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَصَدَرُوا عَنْهُ.
قَوْلُهُ: {اعْتَرَاكَ} افْتَعَلَكَ مِنْ عَرَوْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ، وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَرْضِ الْخَمْسِ، وَثَبَتَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ
النُّسَخِ اعْتَرَاكَ افْتَعَلْتُ بِمُثَنَّاةٍ فِي آخِرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاعْتَرَى افْتَعَلَ مِنْ عَرَاهُ يَعْرُوهُ إِذَا أَصَابَهُ، وَقَوْلُهُ:{إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ} مَا بَعْدَ إِلَّا مَفْعُولٌ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ كَمَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، أَيْ مَا نَقُولُ إِلَّا هَذَا اللَّفْظَ، فَالْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ، نَحْوَ مَا قُلْتُ إِلَّا زَيْدٌ قَائِمٌ.
قَوْلُهُ: {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَثَبَتَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ} أَيْ لِأَهْلِ مَدْيَنَ، لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ. وَمِثْلُهُ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ * وَالْعِيرَ} أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَصْحَابَ الْعِيرِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} مَدْيَنَ لَا يَنْصَرِفُ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ بَلَدٍ مُؤَنَّثٍ، وَمَجَازُهُ مَجَازُ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي فِيهِ ضَمِيرٌ، أَيْ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَمِثْلُهُ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَالْعِيرَ أَيْ مَنْ فِي الْعِيرِ.
قَوْلُهُ: {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} يَقُولُ لَمْ يَتَلَفَّتُوا إِلَيْهِ، وَيُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ ظَهَرَتْ لِحَاجَتِي إِلَخْ) ثَبَتَ هَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {أَرَاذِلُنَا} سُقَّاطُنَا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَالْأَرَاذِلُ جَمْعُ أَرْذَالِ إِمَّا عَلَى بَابِهِ كَمَا جَاءَ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا أَوْ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالْأَبْطَحِ، وَقِيلَ أَرَاذِلُ جَمْعُ أَرْذُلُ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ جَمْعُ رَذْلٍ مِثْلُ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ وَأَكَالِبَ.
5 - بَاب {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ،
{الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الْعَوْنُ الْمُعِينُ. رَفَدْتُهُ: أَعَنْتُهُ. {تَرْكَنُوا} تَمِيلُوا. {فَلَوْلا كَانَ} فَهَلَّا كَانَ. {أُتْرِفُوا} أُهْلِكُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ
4686 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ: ثُمَّ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
قوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد
قوله باب قوله {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} الكاف في ذلك لتشبيه الأخذ المستقبل بالأخذ الماضي وأتى باللفظ الماضي موضع المضارعة على قراءة طلحة بن مصرف وأخذ بفتحتين في الأول كالثاني مبالغة في تحققه قوله الرفد المرفود العون المعين رفدته أعنته كذا وقع فيه وقال أبو عبيدة الرفد المرفود العون المعين يقال رفدته ثم الأمير أي أعنته قال الكرماني وقع في النسخة التي عندنا العون المعين والذي يدل عليه التفسير المعان فأما أن يكون الفاعل بمعنى المفعول أو المعنى ذو إعانة قوله تركنوا تميلوا قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تعدلوا إليهم ولا تميلوا يقال ركنت إلى قولك أي أردته وقبلته وروى عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس لا تركنوا إلى الذين ظلموا لا ترضوا أعمالهم قوله: {فَلَوْلا كَانَ} فهلا كان سقط هذا والذي قبله من رواية أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} مجازه فهلا كان من القرون وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: فلولا قال في حرف بن مسعود فهلا قوله أترفوا أهلكوا هو تفسير باللازم أي كان الترف سببا لاهلاكهم وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي ما تجبروا وتكبروا
عن أمر الله وصدوا قَوْلُهُ: (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا بَرِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ وَوَقَعَ لِغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بَدَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّ بَرِيدَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، فَأَبُو بُرْدَةَ جَدُّهُ لَا أَبُوهُ، لَكِنْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْأَبَ عَلَيْهِ مَجَازًا.
قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ أَيْ: يُمْهِلُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي وَرُبَّمَا قَالَ يُمْهِلُ وَرَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ قَالَ يُمْلِي وَلَمْ يَشُكَّ. قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ يُمْلِي وَلَمْ يَشُكَّ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْ لَمْ يُخَلِّصْهُ، أَيْ إِذَا أَهْلَكَهُ لَمْ يَرْفَعْ عَنْهُ الْهَلَاكَ، وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ الظُّلْمِ بِالشِّرْكِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا هُوَ أَعَمُّ فَيُحْمَلُ كُلٌّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ مَعْنَى لَمْ يُفْلِتْهُ لَمْ يُؤَخِّرْهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا صُرِفَ عَنْ مَنْصِبِهِ وَأُهِينَ لَا يَعُودُ إِلَى عِزِّهِ، وَالْمُشَاهَدُ فِي بَعْضِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزُلَفًا: سَاعَاتٍ بَعْدَ سَاعَاتٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ، الزُّلَفُ: مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَأَمَّا {زُلْفَى} فَمَصْدَرٌ مِنْ الْقُرْبَى. ازْدَلَفُوا: اجْتَمَعُوا. أَزْلَفْنَا: جَمَعْنَا.
4687 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَكْمَلَ غَيْرُهُ الْآيَةَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِطَرَفَيِ النَّهَارِ فَقِيلَ: الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ، وَقِيلَ: الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ حَبِيبٍ: الصُّبْحُ طَرَفٌ وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ طَرَفٌ.
قَوْلُهُ: {وَزُلَفًا} سَاعَاتٌ بَعْدَ سَاعَاتٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ، الزُّلَفُ مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنَ الْقُرْبَى، ازْدَلَفُوا اجْتَمَعُوا، أَزْلَفْنَا جَمَعْنَا) انْتَهَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} سَاعَاتٌ وَاحِدَتُهَا زُلْفَةٌ أَيْ سَاعَةٌ وَمَنْزِلَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَمِنْهَا سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
نَاجٍ طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا
…
طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ، وَلَهُ عِنْدِي زُلْفَى أَيْ قُرْبَى، وَفِي قَوْلِهِ:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أَيْ جَمَعْنَا، وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالزُّلَفِ، فَعَنْ مَالِكٍ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبَ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ زُلَفًا جَمْعٌ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَيُضَافُ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْوِتْرُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهَا قَالَ قَتَادَةُ: طَرَفَيِ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ) كَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى،
عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَكَانَ لِمُسَدَّدٍ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) هُوَ النَّهْدِيُّ، فِي رِوَايَةٍ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً أَوْ مَسًّا بِيَدٍ أَوْ شَيْئًا، كَأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ كَفَّارَةِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سُلَيْمَانِ التَّيْمِيِّ بِإِسْنَادِهِ ضَرَبَ رَجُلٌ عَلَى كَفَلِ امْرَأَةٍ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، قَبَّلْتُهَا وَلَزِمْتُهَا، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتُ الْحَدِيثَ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: جَاءَ فُلَانٌ بْنُ مُعْتَبٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَخَلْتُ عَلَى امْرَأَةٍ فَنِلْتُ مِنْهَا مَا يَنَالُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ إِلَّا أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ لَكِنْ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُعْتَبٌ وَقَدْ جَاءَ أَنَّ اسْمَهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو الْيَسَرِ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ الْأَنْصَارِيُّ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا قَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ، فَقَالَتْ لَهُ: بِعْنِي تَمْرًا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا وَأَعْجَبَتْنِي: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْ هَذَا، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ فَغَمَزَهَا وَقَبَّلَهَا ثُمَّ فَرَغَ، فَخَرَجَ فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ تُبْ وَلَا تَعُدْ. ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَنَزَلَتْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى رَجُلٍ يَبِيعُ التَّمْرَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ حَسْنَاءَ جَمِيلَةً، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا أَعْجَبَتْهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ وَلَا الْمَرْأَةَ وَلَا زَوْجَهَا، وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ بيهان التَّمَّارِ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ غُزِّيَّةَ، وَقِيلَ أَبُو عَمْرٍو زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ غُزِّيَّةَ، وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ، وَقِيلَ عَبَّادُ.
قُلْتُ: وَقِصَّةُ نَبْهَانُ التَّمَّارِ ذَكَرَهَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدِ الثَّقَفِيُّ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبْهَانًا التَّمَّارَ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءَ جَمِيلَةً تَبْتَاعُ مِنْهُ تَمْرًا، فَضَرَبَ عَلَى عَجِيزَتِهَا ثُمَّ نَدِمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةَ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَهَبَ يَبْكِي وَيَصُومُ وَيَقُومُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} الْآيَةَ، فَأَخْبَرَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ تَوْبَتِي قُبِلَتْ، فَكَيْفَ لِي بِأَنْ يُتَقَبَّلَ شُكْرِي؟ فَنَزَلَتْ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الْآيَةَ، قُلْتُ: وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى وَاقِعَةٍ أُخْرَى، لِمَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ. وَأَمَّا قِصَّةُ ابْنِ غُزِّيَّةَ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قَالَ:
نَزَلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ غُزِّيَّةَ وَكَانَ يَبِيعُ التَّمْرَ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَأَعْجَبَتْهُ. الْحَدِيثَ. وَالْكَلْبِيُّ ضَعِيفٌ. فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ أَيْضًا عَلَى التَّعَدُّدِ. وَظَنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ غُزِّيَّةَ اسْمُ أَبِي الْيَسَرِ فَجَزَمَ بِهِ فَوَهِمَ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَدَعَا الرَّجُلَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكِ أَلَسْتَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. فَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى ظَاهِرُ سِيَاقِهَا أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ خَطِيئَةٍ فِيهَا حَدٌّ، فَأَطْلَقَ عَلَى مَا فَعَلَ حَدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قِصَّةُ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ
فَذَكَرَهَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ عَبَّادِ فَحَكَاهَا الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يَعْزُهَا، وَعَبَّادُ اسْمُ جَدِّ أَبِي الْيَسَرِ، فَلَعَلَّهُ نَسَبَ ثُمَّ سَقَطَ شَيْءٌ. وَأَقْوَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ أَبُو الْيَسَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَيْضًا، وَقَالَ فِيهَا فَكُلُّ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ كَفَّارَةِ ذَلِكَ قَالَ: أَمُعْزِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا أَدْرِي. حَتَّى أَنْزَلَ. فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِمَعْنَاهُ دُونَ قَوْلِهِ لَا أَدْرِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ)؟ أَيِ الْآيَةُ يَعْنِي خَاصَّةً بِي بِأَنَّ صَلَاتِي مُذْهِبَةٌ لِمَعْصِيَتِي. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ هُوَ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ. وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ خَاصَّةٌ أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ؟ فَضَرَبَ عُمَرُ صَدْرَهُ وَقَالَ: لَا، وَلَا نِعْمَةُ عَيْنٍ، بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ عُمَرُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ فَقَالَ إِنْسَانٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ خَاصَّةٌ وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةٌ وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ نَفْسِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ أَلِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ اسْتِفْهَامًا، وَقَوْلُهُ هَذَا مُبْتَدَأٌ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ عَلَيْهِ، وَفَائِدَتُهُ التَّخْصِيصُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي) تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ. وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الْمُرْجِئَةُ وَقَالُوا: إِنَّ الْحَسَنَاتَ تُكَفِّرُ كُلِّ سَيِّئَةٍ كَبِيرَةٍ كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةٍ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَقَالَ طَائِفَةٌ: إِنِ اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ كَانَتِ الْحَسَنَاتُ كَفَّارَةً لِمَا عَدَا الْكَبَائِرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبُ الْكَبَائِرُ لَمْ تَحُطَّ الْحَسَنَاتُ شَيْئًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ لَمْ تُجْتَنَبِ الْكَبَائِرُ لَمْ تَحُطَّ الْحَسَنَاتُ شَيْئًا مِنْهَا وَتَحُطُّ الصَّغَائِرُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْحَسَنَاتَ تَكُونُ سَبَبًا فِي تَرْكِ السَّيِّئَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لَا أَنَّهَا تُكَفِّرُ شَيْئًا حَقِيقَةً، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ إِلَى أَنَّ الْحَسَنَاتَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الظَّاهِرَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَيَرِدُ الْحَثُّ عَلَى التَّوْبَةِ فِي أَيِّ كَبِيرَةٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْحَسَنَاتُ تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّوْبَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَنَحْوِهِمَا، وَعَلَى سُقُوطِ التَّعْزِيرِ عَمَّنْ أَتَى شَيْئًا مِنْهَا وَجَاءَ تَائِبًا نَادِمًا. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
12 - سُورَةُ يُوسُفَ
وَقَالَ فَضِيلٌ، عَنْ حَصِينِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: مُتَّكَأً: الْأُتْرُجُّ. بِالْحَبَشِيَّةِ مُتَكَا. وقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: مُتَّكَأً: كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَذُو عِلْمٍ: عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: صُوَاعَ: مَكُّوكُ الْفَارِسِيَّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الْأَعَاجِمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُفَنِّدُونَ: تَجْهَلُونَ وَقَالَ غَيْرُهُ: غَيَابَةُ الْجُبِّ: كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ، وَالْجُبُّ: الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَطْوِ. بِمُؤْمِنٍ لَنَا: بِمُصَدِّقٍ. أَشُدُّهُ: قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ في النُّقْصَانِ، يُقَالُ: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهَا شَدَّ. وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأَتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ. وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الْأُتْرُجُّ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
الْأُتْرُجُّ، فَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرِّ مِنْهُ فَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ الْمَتْكُ سَاكِنَةُ التَّاءِ، وَإِنَّمَا الْمَتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا: مَتْكَاءُ فَإِنْ كَانَ ثُمَّ أَتُرَجُّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَأِ. شَغَفُهَا يُقَالُ: بَلَغَ إِلَى شَغَفِهَا وَهُوَ غِلَافُ قَلْبِهَا، وَأَمَّا شَعفُهَا فَمِنَ الْمَشْعوفِ. أَصُبُّ إِلَيْهِنَّ: أَمِيلُ إِلَيْهِنَّ حُبًّا. أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ: مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ، وَالضَّغْثُ: مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمِنْهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} لَا مِنْ قَوْلِهِ (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) وَاحِدُهَا: ضِغْثٌ. (نَمِيرُ): مِنَ الْمِيرَةِ. {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مَا يَحْمِلُ بِعِيرٌ. {آوَى إِلَيْهِ} ضُمَّ إِلَيْهِ. السِّقَايَةُ: مِكْيَالٌ. تَفْتَأُ: لَا تَزَالُ. اسْتَيْأَسُوا: يَئِسُوا. وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللَّهِ مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ.
خَلَصُوا نَجَّيَا: اعتزلوا نَجَّيَا، وَالْجَمْعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ، الْوَاحِدُ نُجِّيَ، وَالْاثْنَانُ وَالْجَمْعُ نُجِّيَ وَأَنْجِيَةٌ. حَرَضًا: مُحَرَضًا يُذِيبَكَ الْهَمُّ. (تَحَسَّسُوا) تُخْبِرُوا. مُزْجَاةٍ: قَلِيلَةٌ. غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ: عَامَّةٌ مُجَلَّلَةٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ يُوسُفَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ فُضَيْلٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُتَّكَأً الْأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: مُتْكًا الْأُتْرُجُّ. قَالَ فُضَيْلٌ: الْأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا. وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنْ حُصَيْنٍ فَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ رِوَايَةُ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} قَالَ: أُتْرُجٌّ. وَرَوَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَزَادَ فِيهِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} قَالَ: طَعَامًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ) هَكَذَا رَوَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ بِهَذَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْمُتَّكَأُ بِالتَّثْقِيلِ الطَّعَامُ وَبِالتَّخْفِيفِ الْأُتْرُجُّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْهُ أَعَمُّ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ بَلَغَ أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ. وَيُقَالُ بَلَغُوا أَشُدَّهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهَا شَدٌّ. وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الْأُتْرُجُّ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأُتْرُجُّ، فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمُتَّكَأَ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ وَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةُ التَّاءِ، وَإِنَّمَا الْمُتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكَاءَ وَابْنِ الْمَتْكَاءِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أَتَرَجَّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَأِ) قُلْتُ: وَقَعَ هَذَا مُتَرَاخِيًا عَمَّا قَبْلَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَالصَّوَابُ إِيرَادُهُ تِلْوَهُ، فَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْأَشُدِّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْآحَادِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَاحِدُهُ شِدَّةٌ، وَكَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ لَكِنْ بِلَا هَاءٍ.
وَاخْتَلَفَ النَّقَلَةُ فِي قَدْرِ الْأَشَدِّ الَّذِي بَلَغَهُ يُوسُفُ فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ الْحُلُمُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَقِيلَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ عِشْرُونَ وَقِيلَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقِيلَ مَا بَيْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ إِلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي غَيْرِهِ قِيلَ الْأَكْثَرُ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ ثَلَاثُونَ وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَقِيلَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ وَقِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ سِتُّونَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} وَكَانَ النَّبِيُّ لَا يُنَبَّأُ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عِيسَى عليه السلام نُبِّئَ لِدُونِ أَرْبَعِينَ وَيَحْيَى كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وَسُلَيْمَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَشُدِّ بُلُوغُ سِنِّ الْحُلُمِ.
فَفِي حَقِّ يُوسُفَ عليه السلام ظَاهِرٌ وَلِهَذَا جَاءَ بَعْدَهُ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} وَفِي حَقِّ مُوسَى عليه السلام لَعَلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَبُلُوغِ الْأَرْبَعِينَ وَلِهَذَا جَاءَ بَعْدَهُ {وَاسْتَوَى} وَوَقَعَ فِي قَوْلِهِ {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْسَتْ حَدًّا لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَّكَأُ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَعْتَدَتْ أَفْعَلَتْ مِنَ الْعَتَادِ وَمَعْنَاهُ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أَيْ نُمْرُقًا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ التُّرُنْجُ وَهَذَا أَبْطَلُ بَاطِلٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُتَّكَأِ تُرُنْجٌ يَأْكُلُونَهُ، وَيُقَالُ أَلْقَى لَهُ مُتَّكَأً يَجْلِسُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأُتْرُجُّ يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَفْسِيرُ الْمُتَّكَأِ بِالْأُتْرُجِّ، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَفِي الْأُتْرُجِّ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ثَانِيهَا بِالنُّونِ وَثَالِثُهَا مِثْلُهَا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَفِي الْمُفْرَدِ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ الْبِطِّيخَ وَالْمَوْزَ، وَقِيلَ كَانَ مَعَ الْأُتْرُجِّ عَسَلٌ، وَقِيلَ كَانَ لِلطَّعَامِ الْمَذْكُورِ بَزْمَاوَرْدُ، لَكِنْ مَا نَفَاهُ الْمُؤَلِّفُ رحمه الله تَبَعًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ قَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ. قَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَوْفِ الْأَعْرَابِيِّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهَا مُتْكًا مُخَفَّفَةً وَيُقَالُ هُوَ الْأُتْرُجُّ، وَقَدْ حَكَاهَا الْفَرَّاءُ وَتَبِعَهُ الْأَخْفَشُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ، وَالْقَالِيُّ، وَابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُمْ كَصَاحِبِ الْمُحْكَمِ وَالْجَامِعِ وَالصِّحَاحِ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا: أَهْلُ عُمَانِ يُسَمُّونَ السَّوْسَنَ الْمُتَّكَأَ، وَقِيلَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ الْأُتْرُجُّ وَبِفَتْحِهِ السَّوْسَنُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُتَّكَأُ مَا تُبْقِيهِ الْخَاتِنَةُ بَعْدَ الْخِتَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَتْكَاءُ الَّتِي لَمْ تُخْتَنْ، وَعَنِ الْأَخْفَشِ الْمُتَّكَأُ الْأُتْرُجُّ.
(تَنْبِيهٌ):
مُتْكًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِالتَّنْوِينِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ هُوَ الَّذِي فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ بِالْأُتْرُجِّ أَوْ غَيْرِهِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَهُوَ مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ مِنْ وِسَادَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَكَابِرِ عِنْدَ الضِّيَافَةِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ تَعَارُضٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا مُثَقَّلَةً قَالَ الطَّعَامُ، وَمَنْ قَرَأَهَا مُخَفَّفَةً قَالَ الْأُتْرُجُّ، ثُمَّ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّكَأُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأُتْرُجِّ وَطَرَفِ الْبَظْرِ، وَالْبَظْرُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الظَّاءِ الْمُشَالَةُ مَوْضِعُ الْخِتَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ الْبَظْرَاءُ الَّتِي لَا تَحْبِسُ بَوْلَهَا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْمُتَّكَأَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاتِّكَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ مُتَّكَأٌ بِمَعْنَى الْأُتْرُجُّ وَلَا بِمَعْنَى طَرَفِ الْبَظْرِ، فَجَاءَ فِيهَا بِعِبَارَاتٍ مُعَجْرَفَةٍ. كَذَا قَالَ فَوَقَعَ فِي أَشَدَّ مِمَّا أَنْكَرَهُ فَإِنَّهَا إِسَاءَةٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ الَّذِي لَا يَلِيقُ لِمَنْ يَتَصَدَّى لِشَرْحِ كَلَامِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْبَظْرَ فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَهُ طَرَفٌ مِنَ الْجَسَدِ كَالثَّدْيِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَتْ تَشْرَبُ الْأَعَاجِمُ بِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{صُوَاعَ الْمَلِكِ} قَالَ: كَانَ كَهَيْئَةِ الْمَكُّوكِ مِنْ فِضَّةِ يَشْرَبُونَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَالْمَكُّوكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَافَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ثَقِيلَةٌ بَيْنَهُمَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ هُوَ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ.
(تَنْبِيهٌ):
قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ {صُوَاعَ} ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ صَاعَ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ وَصَوْعَ الْمَلِكِ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ مِثْلَهُ لَكِنْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ حَكَاهَا الطَّبَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُفَنِّدُونِ} تُجَهِّلُونُ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلا أَنْ
تُفَنِّدُونِ} أَيْ تُسَفِّهُونَ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ أَيْضًا أَتَمَّ مِنْهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قَالَ لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ هَاجَتْ رِيحٌ فَأَتَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ يُوسُفَ فَقَالَ {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قَالَ لَوْلَا أَنْ تُسَفِّهُونَ، قَالَ فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَوْلُهُ (تُفَنِّدُونَ) مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَنَدِ مُحَرَّكًا وَهُوَ الْهَرَمُ.
قَوْلُهُ: {غَيَابَتِ الْجُبِّ} كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ فَهُوَ غَيَابَةٌ، وَالْجُبُّ الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ كَمَا هُوَ سَأَذْكُرُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ غَيْرُهُ غَيَابَةُ إِلَخْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
قَوْلُهُ: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بِمُصَدِّقٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أَيْ بِمُصَدِّقٍ.
قَوْلُهُ: {شَغَفَهَا حُبًّا} يُقَالُ بَلَغَ شِغَافَهَا وَهُوَ غِلَافُ قَلْبِهَا، وَأَمَّا شَعَفَهَا يَعْنِي بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَمِنَ الشُّعُوفِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أَيْ وَصَلَ الْحُبُّ إِلَى شِغَافِ قَلْبِهَا وَهُوَ غِلَافُهُ، قَالَ وَيَقْرَأُهُ قَوْمٌ شَعَفَهَا أَيْ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مِنَ الشُّعُوفِ انْتَهَى. وَالَّذِي قَرَأَهَا بِالْمُهْمَلَةِ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَعَوْفٌ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ وَالْجُمْهُورِ بِالْمُعْجَمَةِ، يُقَالُ مَشْغُوفٌ بِفُلَانٍ إِذَا بَلَغَ الْحُبُّ أَقْصَى الْمَذَاهِبِ، وَشِعَافُ الْجِبَالِ أَعْلَاهَا، وَالشِّغَافُ بِالْمُعْجَمَةِ حَبَّةُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ فِي صَمِيمِهِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الشَّغَفُ - يَعْنِي بِالْمُعْجَمَةِ - أَنْ يَكُونَ قُذِفَ فِي بَطْنِهَا حُبُّهُ، وَالشَّعَفُ يَعْنِي بِالْمُهْمَلَةِ أَنْ يَكُونَ مَشْعُوفًا بِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الشَّعَفَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْبُغْضُ وَبِالْمُعْجَمَةِ الْحُبُّ، وَغَلَّطَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الشَّعَفَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى عُمُومِ الْحُبِّ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَجْهَلَهُ ذُو عِلْمٍ بِكَلَامِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَمِيلُ إِلَيْهِنَّ حُبًّا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أَيْ أَهْوَاهُنَّ وَأَمِيلُ إِلَيْهِنَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي
…
وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبَى
أَيْ يُمَالُ.
قَوْلُهُ: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ، الضِّغْثُ مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمِنْهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} لَا مِنْ قَوْلِهِ {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وَاحِدُهَا ضِغْثٌ) كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ ضِغْثًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} بِمَعْنَى مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الْحَشِيشِ لَا بِمَعْنَى مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وَاحِدُهَا ضِغْثٌ بِالْكَسْرِ وَهِيَ مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ مِنَ الرُّؤْيَا، وَأَرَاهُ جَمَاعَاتٌ تُجْمَعُ مِنَ الرُّؤْيَا كَمَا يُجْمَعُ الْحَشِيشُ فَيَقُولُ ضِغْثٌ أَيْ مِلْءُ كَفٍّ مِنْهُ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قَالَ: أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قَالَ: هِيَ الْأَحْلَامُ الْكَاذِبَةُ.
قَوْلُهُ: (نَمِيرُ مِنَ الْمِيرَةِ، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} مِنْ مِرْتُ تَمِيرُ مَيْرًا وَهِيَ الْمِيرَةُ نَأْتِيهِمْ وَنَشْتَرِي لَهُمُ الطَّعَامَ، وَقَوْلُهُ:{كَيْلَ بَعِيرٍ} أَيْ حِمْلَ بَعِيرٍ يُكَالُ لَهُ مَا حَمَلَ بَعِيرُهُ. وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أَيْ كَيْلَ حِمَارٍ، وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ لَيْسَ: هَذَا حَرْفٌ نَادِرٌ، ذَكَرَ مُقَاتِلٌ عَنِ الزَّبُورِ الْبَعِيرِ كُلِّ مَا يَحْمِلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ وَلَيْسَ بِهَا إِبِلٌ. كَذَا
قَالَ.
قَوْلُهُ: {آوَى إِلَيْهِ} ضَمَّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أَيْ ضَمَّهُ، آوَاهُ فَهُوَ يُؤْوِي إِلَيْهِ إِيوَاءً.
قَوْلُهُ: (السِّقَايَةُ مِكْيَالٌ) هِيَ الْإِنَاءُ الَّذِي كَانَ يُشْرِبُ بِهِ، قِيلَ جَعَلَهُ يُوسُفُ عليه السلام مِكْيَالًا لِئَلَّا يَكْتَالُوا بِغَيْرِهِ فَيَظْلِمُوا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{جَعَلَ السِّقَايَةَ} قَالَ إِنَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي يَشْرَبُ بِهِ.
قَوْلُهُ: {تَفْتَأُ} لَا تَزَالُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أَيْ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {تَفْتَأُ} أَيْ لَا تَفْتُرُ عَنْ حُبِّهِ. وَقِيلَ مَعْنَى (تَفْتَأُ) تَزَالُ فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ.
قَوْلُهُ: (تَحَسَّسُوا تَخَبَّرُوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} يَقُولُ تَخَبَّرُوا وَالْتَمِسُوا فِي الْمَظَانِّ.
قَوْلُهُ: {مُزْجَاةٍ} قَلِيلَةٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أَيْ يَسِيرَةٍ قَلِيلَةٍ، قِيلَ فَاسِدَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ {مُزْجَاةٍ} قَالَ: يَسِيرَةٌ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ {مُزْجَاةٍ} قَالَ: قَلِيلَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي بِضَاعَتِهِمْ فَقِيلَ: كَانَتْ مِنْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ:{بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} قَالَ: رَثَّةُ الْحَبْلِ وَالْغِرَارَةِ وَالشَّنِّ.
قَوْلُهُ: {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} عَامَّةٌ مُجَلَّلَةٌ) بِالْجِيمِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: عَامَّةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} مُجَلَّلَةٌ، وَهِيَ بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَعُمُّهُمْ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} أَيْ وَقِيعَةٌ تَغْشَاهُمْ.
قَوْلُهُ: (حَرَضًا مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} الْحَرِضُ الَّذِي أَذَابَهُ الْحُزْنُ أَوِ الْحُبُّ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُحَرَّضٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُزْنٌ فَأَحْرَضَنِي.
أَيْ أَذَابَنِي.
قَوْلُهُ: (اسْتَيْأَسُوا يَئِسُوا {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {خَلَصُوا نَجِيًّا} أَيِ اعْتَزَلُوا نَجِيًّا وَالْجَمْعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الْوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي اعْتَرَفُوا بَدَلَ اعْتَزَلُوا وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَصُوا نَجِيًّا} أَيِ اعْتَزَلُوا نَجِيًّا يَتَنَاجَوْنَ، وَالنَّجِيُّ يَقَعُ لَفْظُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ أَيْضًا، وَقَدْ يُجْمَعُ فَيُقَالُ أَنْجِيَةٌ.
4688 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِهِ: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى فَضِيلَةٍ خَاصَّةٍ وَقَعَتْ لِيُوسُفَ عليه السلام لَمْ يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَمَعْنَى قَوْلُهُ أَكْرَمُ النَّاسِ أَيْ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ شَيْخُهُ الْمَشْهُورُ، وَوَقَعَ فِي أَطْرَافِ خَلَفٍ هُنَا: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
2 - بَاب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
4689 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا.
تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَسْمَاءُ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَهُمْ: رُوبِيلُ، وَشَمْعُونُ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَريالونُ، وَيشجرُ، وَدَانٌ، وَنيالُ، وَجَادٌ، وَأشرُ، وَبِنْيَامِينُ، وَأَكْبَرُهُمْ أَوَّلُهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَبْدُهُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ الْعُمَرِيُّ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِ يَعْقُوبَ {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ:{وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} غُمُوضٌ، لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالِاجْتِبَاءِ، وَظَاهِرُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، فَكَيْفَ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ أَكْلُ جَمِيعِهِ بِحَيْثُ يَمُوتُ. ثَانِيهَا أَرَادَ بِذَلِكَ دَفْعَ إِخْوَتِهِ عَنِ التَّوَجُّهِ بِهِ فَخَاطَبَهُمْ بِمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ لَا عَلَى مَا هُوَ فِي مُعْتَقَدِهِ. ثَالِثُهَا أَنَّ قَوْلَهُ يَجْتَبِيكَ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَرْحَمُهُ اللَّهُ فَلَا يُنَافِي وُقُوعَ هَلَاكِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
رَابِعُهَا أَنَّ الِاجْتِبَاءَ الَّذِي ذَكَرَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ سَيَحْصُلُ لَهُ كَانَ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ إِخْوَتُهُ أَبَاهُمْ أَنْ يُوَجِّهَهُ مَعَهُمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤْتَى النُّبُوَّةَ فِي ذَلِكَ السِّنِّ فَقَدْ قَالَ فِي قِصَّةِ يَحْيَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِيَحْيَى فَقَدْ قَالَ عِيسَى وَهُوَ فِي الْمَهْدِ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} وَإِذَا حَصَلَ الِاجْتِبَاءُ الْمَوْعُودُ بِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ. خَامِسُهَا أَنَّ يَعْقُوبَ أَخْبَرَ بِالِاجْتِبَاءِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا أَوْحَي إِلَيْهِ بِهِ، وَالْخَبَرُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ عِنْدَ قَوْمٍ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} تَجْوِيزًا لَا وُقُوعًا، وَقَرِيبٌ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَنَا بِأَشْيَاءَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ كَالدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَزَعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَقَوْلُهُ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ
3 - باب {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * سَوَّلَتْ} زَيَّنَتْ.
4690 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. ح. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ
لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، قُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَجِدُ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ.
4691 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ، وَهْيَ أُمُّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا وَعَائِشَةُ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَقَعَدَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * سَوَّلَتْ} زَيَّنَتْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} أَيْ زَيَّنَتْ وَحَسَّنَتْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ.
وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ فَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ طَرَفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ سِيَاقًا مِنْ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا قِيلَ فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ مُسْتَوْفًى، وَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4 - بَاب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {هَيْتَ لَكَ} بِالْحَوْرَانِيَّةِ: هَلُمَّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: تَعَالَهْ
4692 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:{هَيْتَ لَكَ} قَالَ: وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا. {مَثْوَاهُ} مُقَامُهُ. {وَأَلْفَيَا} وَجَدَا. {أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} ، {أَلْفَيْنَا} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ:{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}
4693 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالإِسْلَامِ قَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُون} أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَة"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} اسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَشْهُورِ زُلَيْخَا، وَقِيلَ رَاعِيلُ، وَاسْمُ سَيِّدِهَا الْعَزِيزُ قِطْفِيرُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَقِيلَ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْقَافِ.
قَوْلُهُ: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ
هَيْتَ بِالْحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: تَعَالَهْ) أَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ هُيِّئْتُ لَكَ يَعْنِي بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا أُخْرَى مَهْمُوزَةٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {هَيْتَ لَكَ} يَعْنِي هَلُمَّ لَكَ وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَعْنَاهَا تَهَيَّأْتُ لَكَ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ هَلُمَّ لَكَ. وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أَيْ هَلُمَّ، وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:
إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ
…
عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهِيتَ هِيتًا
قَالَ وَلَفْظُ هَيْتَ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَدَدَ فِيمَا بَعْدُ، تَقُولُ هَيْتَ لَكَ وَهَيْتَ لَكُمَا. قَالَ وَشَهِدْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَمَّنْ قَرَأَ هِئْتُ لَكَ أَيْ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مَهْمُوزًا. فَقَالَ: بَاطِلٌ، لَا يَعْرِفُ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ، وَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ النَّقْلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وَقَالَ: إِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظٍ: إِنِّي سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ فَسَمِعَتهُمْ مُتَقَارِبَيْنِ، فَاقْرَءُوا كَمَا عَلِمْتُمْ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعُ وَالِاخْتِلَافُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: هَلُمَّ وَتَعَالَ، ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فَقُلْتُ: إِنَّ نَاسًا يَقْرَءُونَهَا (هِيتَ لَكَ) قَالَ: لَا، لَأَنْ أَقْرَأَهَا كَمَا عَلِمْتُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، وَزَائِدَةٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَهَا (هَيْتَ لَكَ بِالْفَتْحِ)، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ. بِإِسْنَادِهِ لَكِنْ قَالَ بِالضَّمِّ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَرَأَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِالْفَتْحِ، قُلْتُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقْرَءُونَهَا بِالضَّمِّ فَذَكَرَهُ. وَهَذَا أَقْوَى.
قُلْتُ: وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، لَكِنْ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِنْكَارُ أَبِي عَمْرٍو ذَلِكَ، لَكِنْ ثَبَتَ مَا أَنْكَرَهُ فِي قِرَاءَةِ هِشَامٍ فِي السَّبْعَةِ، وَجَاءَ عَنْهُ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ أَيْضًا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِالضَّمِّ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذِكْوَانَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ آخِرِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ آخِرِهِ وَهِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَحَدُ مَشَايِخِ النَّحْوِ بِالْبَصْرَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ آخِرِهِ، وَحَكَى النَّحَّاسُ أَنَّهُ قَرَأَ بِكَسْرِهِمَا. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا بِالْحَوْرَانِيَّةِ فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا لُغَةٌ قِبْطِيَّةٌ مَعْنَاهَا هَلُمَّ لَكَ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِيَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَأَصْلُهَا هت لج أَيْ تَعَالَهْ فَعُرِّبَتْ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ عَرَبِيَّةٌ مَعْنَاهَا الْحَثُّ عَلَى الْإِقْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَثْوَاهُ مَقَامُهُ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أَيْ مَقَامَهُ الَّذِي ثَوَّاهُ، وَيُقَالُ لِمَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّخْصُ ضَيْفًا: أَبُو مَثْوَاهُ.
قَوْلُهُ: {وَأَلْفَيَا} وَجَدَا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ وَأَلْفَى)
(1)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أَيْ وَجَدَاهُ، وَفِي قَوْلِهِ:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} أَيْ
(1)
الذي في المتن "وألفينا".
وَجَدُوا. وَفِي قَوْلِهِ: (أَلْفَى) أَيْ وَجَدَ.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْطُوفًا عَلَى الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا، وَقَدْ أَشْكَلَتْ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهَا مِنْ سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ مَعْنَاهَا شَيْءٌ. لَكِنْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ. الْحَدِيثَ.
وَلَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا لِلتَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِهِ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهَا أَبُو الْإِصْبَعِ عِيسَى بْنُ سَهْلٍ فِي شَرْحِهِ فِيمَا نَقَلْتُهُ مِنْ رِحْلَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيدٍ عَنْهُ مَا مُلَخَّصُهُ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بَابُ قَوْلِهِ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} وَأَدْخَلَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا الْحَدِيثَ وَأَوْرَدَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قَالَ فَانْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْفَائِدَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ مُنَاسَبَةَ التَّبْوِيبِ الْمَذْكُورَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَبَّهَ مَا عَرَضَ لِيُوسُفَ عليه السلام مَعَ إِخْوَتِهِ وَمَعَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِمَا عَرَضَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ حِينَ أَخْرَجُوهُ مِنْ وَطَنِهِ كَمَا أَخْرَجَ يُوسُفَ إِخْوَتُهُ وَبَاعُوهُ لِمَنِ اسْتَعْبَدَهُ فَلَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ كَمَا لَمْ يُعَنِّفْ يُوسُفُ إِخْوَتَهُ حِينَ قَالُوا لَهُ {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَطَرِ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ كَمَا دَعَا يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ لَمَّا جَاءُوهُ نَادِمِينَ فَقَالَ:{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} قَالَ: فَمَعْنَى الْآيَةِ بَلْ عَجِبْتَ مِنْ حِلْمِي عَنْهُمْ مَعَ سُخْرِيَتِهِمْ بِكَ وَتَمَادِيهِمْ عَلَى غَيِّهِمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالضَّمِّ بَلْ عَجِبْتُ مِنْ حِلْمِكَ عَنْ قَوْمِكِ إِذْ أَتَوْكَ مُتَوَسِّلِينَ
بِكَ فَدَعَوْتَ فَكُشِفَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ كَحِلْمِ يُوسُفَ عَنْ إِخْوَتِهِ إِذْ أَتَوْهُ مُحْتَاجِينَ، وَكَحِلْمِهِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ حَيْثُ أَغْرَتْ بِهِ سَيِّدَهَا وَكَذَبَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ سَجَنَتْهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُؤَاخِذْهَا. قَالَ: فَظَهَرَ تَنَاسُبُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى مَعَ بُعْدِ الظَّاهِرِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِهِ - مِمَّا عَابَهُ بِهِ مَنْ لَمْ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْهِ - وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} فَإِنَّ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَمَادِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَغَيِّهِمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَعَنِ بْنِ مَسْعُودٍ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ قِرَاءَةَ (عَجِبْتُ) بِالضَّمِّ وَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ وَإِنَّمَا يَعْجَبُ مَنْ لَا يَعْلَمُ، قَالَ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا كَانَ مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ، وَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِالضَّمِّ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّافَّاتِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِالضَّمِّ كَمَا يَقْرَأُ هِيتُ بِالضَّمِّ انْتَهَى. وَهِيَ مُنَاسَبَةٌ لَا بَأْسَ بِهَا إِلَّا أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ سَهْلٍ أَدَقُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَرَأَ بِالضَّمِّ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّسُولِ، وَبِهِ صَرَّحَ قَتَادَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَحِكَايَةُ شُرَيْحٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ سبحانه وتعالى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا لِلسَّامِعِ أَيْ قُلْ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ أَقَرَّهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ اللَّهُ عَجِبَ، وَمِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ {بَلْ عَجِبْتَ} بِالرَّفْعِ وَيَقُولُ نَظِيرُهَا {وَإِنْ
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَجَبٌ. وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيِّ وَلَقَبُهُ مَتٌّ قَالَ وَكَانَ يَفْضُلُ عَلَى الْكِسَائِيِّ فِي الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ قَالَ: يُعْجِبُنِي أَنْ أَقْرَأَ بَلْ عَجِبْتَ بِالضَّمِّ خِلَافًا لِلْجَهْمِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ) وَهُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ أَبُو الضُّحَى، وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ أَخْبَرَنِي الْأَعْمَشُ - أَوْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ - عَنْ مُسْلِمٍ كَذَا عِنْدَهُ بِالشَّكِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ مِنَ الْأَعْمَشِ أَوْ أَخْبَرْتُهُ عَنْهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ وَهَذَا الشَّكُّ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ مَعْدُودَةٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَاشَ وَحَاشَى: تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ. {حَصْحَصَ} وَضَحَ
4694 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ، وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَكَأَنَّ التَّرْجَمَةُ انْقَضَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ رَبِّكَ، ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلُهُ {حَاشَ لِلَّهِ} وَسَاقَ غَيْرُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ {عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}
قَوْلُهُ: (حَاشَ وَحَاشَا تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {حَاشَ لِلَّهِ} الشِّينُ مَفْتُوحَةٌ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَبَعْضُهُمْ يُدْخِلُهَا فِي آخِرِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَاشَى أَبِي ثَوْبَانَ إِنَّ بِهِ.
وَمَعْنَاهُ التَّنْزِيهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَنِ الشَّرِّ، تَقُولُ حَاشَيْتُهُ أَيِ اسْتَثْنَيْتُهُ، وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ الشِّينِ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِهَا فِي الْوَصْلِ، وَفِي حَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ الْحَاءِ لُغَةٌ وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا حَرْفٌ أَوِ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ وَشَرْحُ ذَلِكَ يَطُولُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ حَذَفَهَا رَجَّحَ فِعْلِيَّتَهَا بِخِلَافِ مَنْ نَفَاهَا، وَيُؤَيِّدُ فِعْلِيَّتَهَا قَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَلَا أُحَاشِي مِنَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَحَدٍ
فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ فِعْلِيَّتِهَا، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ وَحَذْفَهَا سَوَاءٌ لُغَةً، وَقِيلَ إِنَّ حَذْفَ الْأَلِفِ الْأَخِيرَةِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
(تَنْبِيهٌ):
قَوْلُهُ تَنْزِيهٌ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَاءٌ وَفِي رِوَايَةِ حَكَاهَا عِيَاضٌ مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ مَهْمُوزَةٌ ثُمَّ تَاءُ تَأْنِيثٍ.
قَوْلُهُ: (حَصْحَصَ وَضَحَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أَيِ السَّاعَةُ وَضَحَ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَاهُ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ بَعْدَ خَفَاءٍ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصَّةِ أَيْ ظَهَرَتْ حِصَّةُ الْحَقِّ
مِنْ حِصَّةِ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ مِنْ حَصَّهُ إِذَا قَطَعَهُ، وَمِنْهُ أَحَصَّ الشَّعْرَ وَحَصَّ وَحَصْحَصَ مِثْلُ كَفَّ وَكَفْكَفَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عِيسَى بْنِ تَلِيدٍ، مِصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، نَسَبَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَى جَدِّهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) هُوَ الْعُتَقِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا قَافٌ الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَرَاوِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ عِلْمِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَ الْمَوْضِعِ. وَالْإِسْنَادُ مُسَلْسَلٌ بِالْمِصْرِيِّينَ إِلَى يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَالْبَاقُونَ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ الْمِصْرِيَّ الْفَقِيهَ الْمَشْهُورَ مِنْ أَقْرَانِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ فِي تَرْجَمَتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
6 - بَاب {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ}
4695 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} قَالَ: قُلْتُ: أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبُوا. قُلْتُ: فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ. قَالَتْ: أَجَلْ، لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهَا: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ. جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ.
4696 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ نَحْوَه"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} اسْتَيْأَسَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْيَأْسِ ضِدُّ الرَّجَاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} اسْتَفْعَلُوا مِنْ يَئِسْتُ، وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِاسْتَفْعَلَ إِلَّا الْوَزْنَ خَاصَّةً وَإِلَّا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ، وَاسْتَيْأَسَ بِمَعْنَى يَئِسَ كَاسْتَعْجَبَ وَعَجِبَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْغَايَةُ مِنْ قَوْلِهِ:(حَتَّى) فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} فَتَرَاخَى النَّصْرُ عَنْهُمْ (حَتَّى إِذَا) وَقِيلَ التَّقْدِيرُ فَلَمْ تُعَاقَبْ أُمَمُهُمْ حَتَّى إِذَا، وَقِيلَ فَدَعَوْا قَوْمَهُمْ فَكَذَّبُوهُمْ فَطَالَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ كُذِّبُوا أَمْ كُذِبُوا) أَيْ مُثَقَّلَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ؟ وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا) أَيْ بِالتَّثْقِيلِ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مُثَقَّلَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ أَجَلْ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قُلْتُ فَهِيَ مُخَفَّفَةٌ، قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا
أَنْكَرَتِ الْقِرَاءَةَ بِالتَّخْفِيفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلرُّسُلِ، وَلَيْسَ الضَّمِيرُ لِلرُّسُلِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ وَلَا لِإِنْكَارِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِهَا. وَلَعَلَّهَا لَمْ يَبْلُغُهَا مِمَّنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَئِمَّةُ الْكُوفَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَاصِمٌ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَوَافَقَهُمْ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ الْقُرَظِيِّ فِي آخَرِينَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَمْ تُنْكِرْ عَائِشَةُ الْقِرَاءَةَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ. كَذَا قَالَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يُوَافِقُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَائِشَةَ، ثُمَّ لَا يَدْرى رَجَعَ إِلَيْهَا أَمْ لَا. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ لَهُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقْرَأُ (كُذِبُوا) بِالتَّخْفِيفِ فَقَالَ: أَخْبِرْهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ (كُذِّبُوا) مُثَقَّلَةٌ أَيْ كَذَّبَتْهُمْ أَتْبَاعُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خَفِيفَةٌ قَالَ ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِمَا هُنَالِكَ بِمِيمٍ بَدَلَ الْهَاءِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ ذَهَبَ هَاهُنَا - وَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ - وَتَلَا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا بَشَرًا ضَعُفُوا وَأَيِسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مَقُولُ الرَّسُولِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ الْجَمِيعُ مَقُولُ الْجَمِيعِ، وَقِيلَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مَقُولُ الْجَمِيعِ وَالْأَخِيرَةُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهِيَ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وَالْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ وَهِيَ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} مَقُولُ الرَّسُولِ، وَقُدِّمَ الرَّسُولُ فِي الذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَهَذَا أَوْلَى، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَ قَوْلُ الرَّسُولِ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} شَكًّا بَلِ اسْتِبْطَاءً لِلنَّصْرِ وَطَلَبًا لَهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يُجِيزُ عَلَى الرُّسُلِ أَنَّهَا تُكَذِّبُ بِالْوَحْيِ، وَلَا يُشَكُّ فِي صِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُم لِطُولِ الْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَاءِ النَّصْرِ وَشِدَّةِ اسْتِنْجَازِ مَنْ وَعَدُوهُ بِهِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ الْوَحْيِ كَانَ حُسْبَانًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَظَنُّوا عَلَيْهَا الْغَلَطَ فِي تَلَقِّي مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الَّذِي بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ أَنْفُسُهُمْ لَا الْآتِي بِالْوَحْيِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَذِبِ الْغَلَطُ لَا حَقِيقَةُ الْكَذِبِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٌ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْ غَلِطُوا، وَيَكُونُ فَاعِلُ {وَظَنُّوا} الرُّسُلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدَ مُتَنَوِّعَةٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الضُّحَى، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيِّ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَيِسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَيَهْجِسُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ، وَأَمَّا الظَّنُّ وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِ فَضْلًا عَنِ الرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَرَ بِقَلْبِ الرُّسُلِ فَصَرَفُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى قَرَّبُوا مِنَ الظَّنِّ كَمَا يُقَالُ بَلَغْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا قَرُبَتْ مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَجْهُهُ أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَخَافُ بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ أَنْ يَتَخَلَّفُ النَّصْرُ، لَا مِنْ تُهْمَةٍ بِوَعْدِ اللَّهِ بَلْ لِتُهْمَةِ النُّفُوسِ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَحْدَثَتْ حَدَثًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الشَّرْطَ، فَكَانَ الْأَمْرُ إِذَا طَالَ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ دَخَلَهُمُ الظَّنُّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قُلْتُ: وَلَا يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُجَوِّزُ عَلَى الرَّسُولِ أَنَّ نَفْسَهُ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّ اللَّهَ
يُخْلِفُ وَعْدَهُ، بَلِ الَّذِي يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كَانُوا بَشَرًا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لَا نَفْسِ الرُّسُلِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي عَنْهُ ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ أَيْ إِلَى السَّمَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ ظَنُّوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ عَلَى لِسَانِ الْمَلِكِ تَخَلَّفَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي خَوَاطِرِ بَعْضِ الْأَتْبَاعِ. وَعَجَبٌ لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ فِي جَزْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوَقُّفِهِ عَنْ صِحَّةِ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ، لَكِنْ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الرُّسُلَ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوا ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ، بَلِ الضَّمِيرُ فِي وَظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَفِي وَكُذِبُوا عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ أَيْ وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كُذِبُوا، أَوِ الضَّمَائِرُ لِلرُّسُلِ وَالْمَعْنَى يَئِسَ الرُّسُلُ مِنَ النَّصْرِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ كَذَبَتْهُمْ حِينَ حَدَّثَتْهُمْ بِقُرْبِ النَّصْرِ، أَوْ كَذَبَهُمْ رَجَاؤُهُمْ. أَوِ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ أَيْ يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ، وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَّبُوهُمْ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعُوهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ لِمَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا وَجَبَ تَنْزِيهَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَيُحْمَلُ إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَى ظَاهِرِ مَسَاقِهِمْ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ، وَظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ لَمَّا سَمِعَهُ: لَوْ رَحَلْتُ إِلَى الْيَمَنِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَكَانَ قَلِيلًا. فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْعَارِفِينَ بِكَلَامِهِ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ.
وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: آيَةٌ بَلَغَتْ مِنِّي كُلَّ مَبْلَغٍ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالتَّخْفِيفِ، قَالَ فِي هَذَا أَلَوْتَ أَنْ تَظُنَّ الرُّسُلُ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ اللَّهُ عَنْكَ، وَقَامَ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ. وَجَاءَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ، فَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{قَدْ كُذِبُوا} قَالَ: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. فَلْيَكُنْ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي تَأْوِيلِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{قَدْ كُذِبُوا} خَفِيفَةٌ أَيْ أَخْلَفُوا، إِلَّا أَنَّا إِذَا قَرَّرْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَمْ يَضُرَّ تَفْسِيرَ كُذِبُوا بِأَخْلَفُوا، أَيْ ظَنَّ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ أَخْلَفُوا مَا وَعَدُوا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ. سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَيْءٌ مُوهِمٌ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مُخَفَّفَةٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي يُكْرَهُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا أَيْضًا مَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَرَادَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلرُّسُلِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عِنْدَهُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، فَإِنَّ صُدُورَ ذَلِكَ مِمَّنْ آمَنَ مِمَّا يُكْرَهُ سَمَاعُهُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّسُلَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ جَازَ أَنْ يَرْتَابَ الرُّسُلُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَيَشُكُّوا فِي حَقِيقَةِ خَبَرِهِ لَكَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَوْلَى بِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَقَدِ اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ وَوَجَّهَهَا بِمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ هَذَا لِأَنَّ الْآيَةَ وَقَعَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ يَأْسَ الرُّسُلِ كَانَ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ فَهَلَكُوا، أَوْ أَنَّ الْمُضْمَرُ فِي قَوْلِهِ:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} إِنَّمَا هُوَ لِلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ
الْهَالِكَةِ. وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا أَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ الْخَبَرَ عَنِ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَنُنَجِّي مَنْ نَشَاءُ أَيِ الَّذِينَ هَلَكُوا هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كُذِبُوا فَكَذَّبُوهُمْ، وَالرُّسُلُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَجَوْا، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ أَجَلْ) أَيْ نَعَمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَتْ يَا عُرَيَّةُ وَهُوَ بِالتَّصْغِيرِ وَأَصْلُهُ عُرَيْوَةٌ فَاجْتَمَعَ حَرْفَا عِلَّةٍ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: (لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِحَمْلِ عُرْوَةَ الظَّنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَوَافَقَتْهُ عَائِشَةُ. لَكِنْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّنِّ هُنَا الْيَقِينُ. وَنَقَلَهُ نَفْطَوَيْهِ هُنَا عَنْ أَكْثَرَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الظَّنَّ لَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي مَوْضِعِ الْعِلْمِ إِلَّا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ غَيْرَ الْمُعَايَنَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةَ فَلَا، فَإِنَّهَا لَا تَقُولُ أَظُنُّنِي إِنْسَانًا وَلَا أَظُنُّنِي حَيًّا بِمَعْنَى إِنْسَانًا أَوْ حَيًّا.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةٌ قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ. نَحْوَهُ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِتَمَامِهِ وَلَفْظُهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ.
(فَائِدَةٌ):
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ (فَنُنْجِي مَنْ نَشَاءُ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنُونَيْنِ الثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ وَالْجِيمُ خَفِيفَةٌ وَسُكُونُ آخِرِهِ مُضَارِعُ أَنْجَى، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وَفَتْحِ آخِرِهِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَمَنْ قَائِمَةٌ مَقَامُ الْفَاعِلِ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: كُلُّ مَنْ قَرَأَ بِذَلِكَ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِقِرَاءَتِهِ وَالْحُجَّةُ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
13 - سُورَةُ الرَّعْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلَا يَقْدِرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَخَّرَ ذَلَّلَ. {مُتَجَاوِرَاتٌ} مُتَدَانِيَاتٌ. {الْمَثُلاتُ} وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ، وَهِيَ الْأَشْبَاهُ وَالْأَمْثَالُ. وَقَالَ:{إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} ، {بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ. {مُعَقِّبَاتٌ} مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الْأُولَى مِنْهَا الْأُخْرَى. وَمِنْهُ قِيلَ: الْعَقِيبُ، يقال: عَقَّبْتُ فِي إِثْرِهِ. {الْمِحَالِ} الْعُقُوبَةُ. {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ. {رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو. {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ} الْمَتَاعُ: مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ. {جُفَاءً} أَجْفَأَتْ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ فَعَلَاهَا الزَّبَدُ، ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلَا مَنْفَعَةٍ، فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ. {الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ. يَدْرَءُونَ: يَدْفَعُونَ، دَرَأْتُهُ: دَفَعْتُهُ. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} تَوْبَتِي. أَفَلَمْ يَيْئَسْ: لَمْ يَتَبَيَّنْ. {قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ. {فَأَمْلَيْتُ} أَطَلْتُ، مِنْ الْمَلِيِّ وَالْمِلَاوَةِ، وَمِنْهُ:{مَلِيًّا} وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنْ الْأَرْضِ: مَلًى مِنْ الْأَرْضِ. {أَشَقُّ} أَشَدُّ، مِنْ الْمَشَقَّةِ. {مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ. {صِنْوَانٌ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وَحْدَهَا. {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ
وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ. السَّحَابُ الثِّقَالُ: الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ. {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا.
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلَأُ بَطْنَ وَادٍ. {زَبَدًا رَابِيًا} زَبَدُ السَّيْلِ. {زَبَدٌ مِثْلُهُ} خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الرَّعْدِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلَا يَقْدِرُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} الْآيَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ فَلَا يَقْدِرُ بِالرَّاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْقَابِسِيِّ يَقْدَمُ بِالْمِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ مَثَلُ الْأَوْثَانِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلِ قَدْ بَلَغَهُ الْعَطَشُ حَتَّى كَرَبَهُ الْمَوْتُ وَكَفَّاهُ فِي الْمَاءِ قَدْ وَضَعَهُمَا لَا يَبْلُغَانِ فَاهُ، يَقُولُ اللَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ الْأَوْثَانُ وَلَا تَنْفَعُهُ حَتَّى تَبْلُغَ كَفَّا هَذَا فَاهُ وَمَا هُمَا بِبَالِغَتَيْنِ فَاهُ أَبَدًا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَالرَّجُلِ الْعَطْشَانِ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْبِئْرِ لِيَرْتَفِعَ الْمَاءُ إِلَيْهِ وَمَا هُوَ بِمُرْتَفِعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: الَّذِي يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَهًا لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي بَسَطَ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَلَا يَصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَمُوتُ عَطَشًا. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ وَلَكِنْ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَاءُ بِبَالِغٍ فَاهُ مَا دَامَ بَاسِطًا كَفَّيْهِ لَا يَقْبِضُهُمَا، وَسَيَأْتِي قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: مُتَجَاوِرَاتٌ مُتَدَانِيَاتٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَثُلَاتُ وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ الْأَمْثَالُ وَالْأَشْبَاهُ، وَقَالَ:{إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ غَيْرُهُ: سَخَّرَ ذَلَّلَ، مُتَجَاوِرَاتٍ: مُتَدَانِيَاتٍ، الْمُثُلَاتُ وَاحِدُهَا مُثْلَةٌ إِلَى آخِرِهِ، فَجَعَلَ الْكُلَّ لِقَاتِلٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ وَسَخَّرَ هُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. وَذَلَّلَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ تَفْسِيرُ سَخَّرَ، وَكُلُّ هَذَا كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أَيْ ذَلَّلَهُمَا فَانْطَاعَا، قَالَ: وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فَلَمْ يَعْمَلُ فِيهِ وَسَخَّرَ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أَيْ مُتَدَانِيَاتٌ مُتَقَارِبَاتٌ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} قَالَ: الْأَمْثَالُ وَالْأَشْبَاهُ وَالنَّظِيرُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{الْمَثُلاتُ} قَالَ: الْأَمْثَالُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قال:{الْمَثُلاتُ} الْعُقُوبَاتُ. وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {الْمَثُلاتُ} مَا مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ جَمْعُ مَثُلَةٍ كَقَطْعِ الْأُذُنِ وَالْأَنْفِ.
(تَنْبِيهٌ):
الْمَثُلَاتُ وَالْمَثُلَةُ كِلَاهُمَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ مِثْلُ سَمُرَةٍ وَسَمُرَاتٍ، وَسَكَّنَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ الْمُثَلَّثَةَ فِي قِرَاءَتِهِ وَضَمَّ الْمِيمَ، وَكَذَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ لَكِنْ فَتَحَ أَوَّلَهُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِفَتْحِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِضَمِّهِمَا، وَبِهِمَا قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (بِمِقْدَارٍ بِقَدَرٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَزَادَ: مِفْعَالٌ مِنَ الْقَدرِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَيْ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا مَعْلُومًا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ مُعَقِّبَاتٌ مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الْأُولَى مِنْهَا الْأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ أَيْ عَقَّبْتُ فِي أَثَرِهِ) سَقَطَ لَفْظُ يُقَالُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ أَوْلَى فَإِنَّهُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أَيْ مَلَائِكَةٌ تُعَقِّبُ بَعْدَ مَلَائِكَةٍ،
حَفَظَةٌ بِاللَّيْلِ تُعَقِّبُ بَعْدَ حَفَظَةِ النَّهَارِ وَحَفَظَةُ النَّهَارِ تُعَقِّبُ بَعْدَ حَفَظَةِ اللَّيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ عَقَّبَنِي وَقَوْلُهُمْ عَقَّبْتُ فِي أَثَرِهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُهُ خَلَوْا عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يَقُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالْمُعَقِّبَاتُ هُنَّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: حِفْظُهُمْ إِيَّاهُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ. وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ لَتُخُطِّفْتُمْ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ كِنَانَةِ الْعَدَوِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِالْآدَمِيِّ فَقَالَ: لِكُلِّ آدَمِيٌّ عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ وَاثْنَانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَاثْنَانِ عَلَى جَنْبَيْهِ وَآخَرُ قَابِضٌ عَلَى نَاصِيَتِهِ فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ وَإِنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ وَاثْنَانِ عَلَى شَفَتَيْهِ لَيْسَ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْعَاشِرُ يَحْرُسُهُ مِنَ الْحَيَّةِ أَنْ تَدْخُلَ فَاهُ يَعْنِي إِذَا نَامَ. وَجَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلٍ آخَرَ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} قَالَ: ذَلِكَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا لَهُ حَرَسٌ وَمِنْ دُونِهِ حَرَسٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: (مُعَقِّبَاتٌ) قَالَ: الْمَرَاكِبُ.
(تَنْبِيهٌ): عَقَّبْتُ يَجُوزُ فِيهِ تَخْفِيفُ الْقَافِ وَتَشْدِيدِهَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ كَسْرُ الْقَافِ مَعَ التَّخْفِيفِ فَيَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لُغَةً.
قَوْلُهُ: {الْمِحَالِ} الْعُقُوبَةُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{شَدِيدُ الْمِحَالِ} قَالَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ، وَمِثْلَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَنَحْوَهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: شَدِيدُ الِانْتِقَامِ، وَأَصْلُ الْمِحَالِ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْقُوَّةُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْمَحْلُ وَهُوَ الْمَكْرُ، وَقِيلَ الْحِيلَةُ وَالْمِيمُ مَزِيدَةٌ وَغَلَّطُوا قَائِلُهُ، وَيُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي سَارَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُ - الْحَدِيثَ وَفِيهِ - فَأَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً فَذَهَبَتْ بِقَحْفِ رَأْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ ثَابِتٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ: {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} أَيْ أَنَّ الَّذِي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إِلَى فَمِهِ لَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا تَجْمَعُهُ أَنَامِلُهُ، قَالَ صَابِئُ بْنُ الْحَارِثِ:
وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُمْ
…
كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تُسِقْهُ أَنَامِلُهُ
تُسِقْهُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ لَمْ تَجْمَعْهُ.
قَوْلُهُ: (رَابِيًا مِنْ رَبَا يَرْبُو) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو أَيْ يَنْتَفِخُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ قَتَادَةَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} الْمَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (جُفَاءً يُقَالُ أَجْفَأَتِ الْقِدْرَ إِذَا غَلَتْ فَعَلَاهَا الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلَا مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: يُقَالُ أَجْفَأَتِ الْقِدْرَ وَذَلِكَ إِذَا غَلَتْ وَانْتَصَبَ زَبَدُهَا، فَإِذَا سَكَنَتْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{فَيَذْهَبُ جُفَاءً} تُنَشِّفُهُ
الْأَرْضُ، يُقَالُ جَفَا الْوَادِي وَأَجْفَى فِي مَعْنَى نَشَفَ، وَقَرَأَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ فَيَذْهَبُ جُفَالًا بِاللَّامِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ وَهِيَ مِنْ أَجَفَلَتِ الرِّيحُ الْغَيْمَ إِذَا قَطَعَتْهُ.
قَوْلُهُ: (الْمِهَادُ الْفِرَاشُ) ثَبَتَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (يَدْرَءُونَ يَدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا غَلٌّ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْأَعْنَاقِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ} قَالَ: مَجَازُهُ مَجَازُ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي فِيهِ ضَمِيرٌ، تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: حُذِفَتْ يَقُولُونَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} وَالْأَوْلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَدْخُلُونَ، أَيْ يَدْخُلُونَ قَائِلِينَ. وَقَوْلُهُ:{بِمَا صَبَرْتُمْ} يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَتَابُ إِلَيْهِ تَوْبَتِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَتَابُ مَصْدَرٌ تُبْتُ إِلَيْهِ وَتَوْبَتِي، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِلَيْهِ مَتَابِ} قَالَ: تَوْبَتِي.
قَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمُ وَيَتَبَيَّنُ قَالَ سُحَيْمُ الْيَرْبُوعِيُّ:
"أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسٍ زَهْدَمٍ " أَيْ لَمْ تُبَيِّنُوا.
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَمْ يَيْأَسِ الْأَقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ
…
وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيًا
وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهَا لُغَةُ هَوَازِنٍ تَقُولُ: يَئِسْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُهُ، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ - يَعْنِي الْفَرَّاءُ - لَكِنَّهُ سَلَّمَ أَنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْيَأْسَ إِنَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْآيِسَ عَنِ الشَّيْءِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمْ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كُلِّهِمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ وَيَقُولُ: كَتَبَهَا الْكَاتِبُ وَهُوَ نَاعِسٌ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ جَاءَتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ مُلَيْكَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ بَدِيمَةَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ زَيْدٍ وَحَفِيدِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي آخِرِ مَنْ قَرَءُوا كُلُّهُمْ أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ وَأَمَّا مَا أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالرِّجَالِ صِحَّتِهِ، وَبَالَغَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ كَعَادَتِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَهِيَ وَاللَّهِ فِرْيَةٌ مَا فِيهَا مِرْيَةٌ. وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} قَالَ وَوَصَّى الْتَزَقَتِ الْوَاوُ فِي الصَّادِ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ تَكْذِيبُ الْمَنْقُولِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ التَّحْصِيلِ، فَلْيُنْظَرْ فِي تَأْوِيلِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.
قَوْلُهُ: {قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أَيْ دَاهِيَةٌ مُهْلِكَةٌ. تَقُولُ قَرَعْتُ عَظْمَهُ أَيْ صَدَعْتُهُ، وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ: فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قَالَ سَرِيَّةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ قَالَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: {فَأَمْلَيْتُ} أَطَلْتُ، مِنَ الْمَلِيِّ وَالْمِلَاوَةِ. وَمِنْهُ مَلِيًّا، وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنَ الْأَرْضِ مَلًى) كَذَا فِيهِ، وَالَّذِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ أَطَلْتُ لَهُمْ، وَمِنْهُ الْمَلِيُّ وَالْمِلَاوَةُ مِنَ الدَّهْرِ، وَيُقَالُ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَلَوَانِ لِطُولِهِمَا، وَيُقَالُ لِلْخِرَقِ الْوَاسِعِ مِنَ الْأَرْضِ مَلًى، قَالَ الشَّاعِرُ:
مَلًى لَا تَخَطَّاهُ
الْعُيُونُ رَغِيبُ
انْتَهَى. وَالْمَلِيُّ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ ثُمَّ تَشْدِيدٍ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ.
قَوْلُهُ: (أَشُقُّ أَشَدُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ.
قَوْلُهُ: (مُعَقِّبٌ مُغَيِّرٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أَيْ لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُغَيِّرَ لَهُ عَنِ الْحَقِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ:{لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أَيْ لَا يَتَعَقَّبُ أَحَدٌ حُكْمَهُ فَيَرُدَّهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُتَجَاوِرَاتٌ طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَسَقَطَ خَبَرُ طَيِّبِهَا وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قَالَ: طَيُّبهَا عَذْبُهَا، وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْقِطَعُ الْمُتَجَاوِرَاتُ الْعَذْبَةُ وَالسَّبِخَةُ وَالْمَالِحُ وَالطَّيِّبُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلِهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلِهِ وَزَادَ: تُنْبِتُ هَذِهِ وَهَذِهِ إِلَى جَنْبِهَا لَا تُنْبِتُ. وَمِنْ طَرِيقِ أُخْرَى مُتَّصِلَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَكُونُ هَذِهِ حُلْوَةٌ وَهَذِهِ حَامِضَةٌ وَتُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَهُنَّ مُتَجَاوِرَاتٌ.
قَوْلُهُ: {صِنْوَانٌ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ وَحْدُهَا تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلِهِ، لَكِنْ قَالَ: تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مُجْتَمِعٌ وَغَيْرُ مُجْتَمِعٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: الصِّنْوَانُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا وَاحِدًا وَرُءُوسُهَا مُتَفَرِّقَةٌ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ أَنْ تَكُونَ النَّخْلَةُ مُنْفَرِدَةً لَيْسَ عِنْدَهَا شَيْءٌ انْتَهَى. وَأَصْلُ الصِّنْوِ الْمِثْلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا فَرْعٌ يَجْمَعُهُ وَفَرْعًا آخَرَ أَوْ أَكْثَرَ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ لِأَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (السَّحَابَ الثِّقَالَ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ غَيْرِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلَأُ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ زَبَدًا رَابِيًا. الزَّبَدُ السَّيْلُ، زَبَدٌ مِثْلُهُ خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{زَبَدًا رَابِيًا} قَالَ: الزَّبَدُ السَّيْلُ. وَفِي قَوْلِهِ: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} قَالَ: خَبَثُ الْحِلْيَةِ وَالْحَدِيدِ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قَالَ: بِمِلْئِهَا {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} قَالَ: الزَّبَدُ السَّيْلُ {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} قَالَ: خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} قَالَ جُمُودًا فِي الْأَرْضِ {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} قَالَ الْمَاءُ، وَهُمَا مَثَلَانِ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِينِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَوَجْهُ الْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ:{زَبَدٌ مِثْلُهُ} أَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّبَدَيْنِ نَاشِئٌ عَنِ الْأَكْدَارِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (بِقَدَرِهَا) قَالَ: الصَّغِيرُ بِصِغَرِهِ وَالْكَبِيرُ بِكِبَرِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: (رَابِيًا) أَيْ عَالِيًا. وَفِي قَوْلِهِ {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ مَتَاعٌ الْحَدِيدُ وَالصُّفْرُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ.
وَالْجُفَاءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّجَرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللَّهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ يَقُولُ: كَمَا اضْمَحَلَّ هَذَا الزَّبَدُ فَصَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَكَمَا مَكَثَ هَذَا الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ فَأَمْرَعَتْ وَأَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا كَذَلِكَ يَبْقَى الْحَقُّ لِأَهْلِهِ. وَنَظِيرُهُ بَقَاءُ خَالِصِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا دَخَلَ النَّارَ وَذَهَبَ خَبَثُهُ وَبَقِيَ صَفْوُهُ، كَذَلِكَ يَبْقَى الْحَقُّ لِأَهْلِهِ وَيَذْهَبُ الْبَاطِلُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ يَمْلَأُ بَطْنَ وَادٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ يَمْلَأُ كُلَّ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْبَهَ، ويروى مَاءَ بَطْنِ وَادٍ.
1 - بَاب {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غِيضَ: نُقِصَ
4697 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غِيضَ نَقَصَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {وَغِيضَ الْمَاءُ} أَيْ ذَهَبَ وَقَلَّ. وَهَذَا تَفْسِيرُ سُورَةِ هُودٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ، تَغِيضُ الْأَرْحَامُ، فَإِنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قَالَ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ نُقْصَانًا مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ تَمَامًا لِمَا نَقَصَ مِنْ وَلَدِهَا. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْغِيضُ مَا دُونَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالزِّيَادَةُ مَا زَادَتْ عَلَيْهَا يَعْنِي فِي الْوَضْعِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ وَيُشْرَحُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٍ، عَنْ مَالِكٍ) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ غَرَبُ عَنْ مَالِكٍ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ مَعْنٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَوَهِمَ فِيهِ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.
14 - سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَادٍ: دَاعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَدِيدٌ: قَيْحٌ وَدَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ. {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} تلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ، آذَنَكُمْ. فَرَدُّوا {أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مَثَلٌ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ. {مَقَامِي} حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. {مِنْ وَرَائِهِ} قُدَّامَهُ جَهَنَّمُ. {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا تَابِعٌ، مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ. {بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي، {يَسْتَصْرِخُهُ} مِنْ الصُّرَاخِ. {وَلا خِلالٌ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلَالًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلَالٍ. {اجْتُثَّتْ} اسْتُؤْصِلَتْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَادٍ دَاعٍ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنْذِرِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ دَاعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْهَادِي اللَّهُ. وَهَذَا بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ كَأَنَّهُ لَحَظَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: الْهَادِي الْقَائِدُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ أَيْضًا: الْهَادِي نَبِيٌّ. وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَيُحْمَلُ الْقَوْمُ فِي الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْعُمُومِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي الضُّحَى، وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: الْهَادِي مُحَمَّدٌ. وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الْجَمِيعِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ عَلَى هَذَا الْخُصُوصِ أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْمُسْتَغْرَبُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ. وَأَوْمَأَ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ: أَنْتَ الْهَادِي بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ بَعْدِي فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَيْ بَنِي هَاشِمٍ مَثَلًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْهَادِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. قَالَ بَعْضُ رُوَاتِهِ: هُوَ عَلِيٌّ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ الشِّيعَةِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا مَا تَخَالَفَتْ رُوَاتُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَدِيدٌ قَيْحٌ وَدَمٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قَالَ: قَيْحٌ وَدَمٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْهُ، وَكَذَا رَوَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَالنَّسَائِيُّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} قَالَ: نِعَمِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فَلَمْ يَقُلْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قَالَ: رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا تَلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ قَبْلَ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَصَنِيعِهِمْ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فَذِكْرُهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ تَفَاسِيرِهِ أَوْلَى، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قَالَ تَلْتَمِسُونَ لَهَا الزَّيْغَ، وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ أَنَّ الْعِوَجَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْأَرْضِ وَالدِّينِ، وَبِفَتْحِهَا فِي الْعَوْدِ وَنَحْوَهُ مِمَّا كَانَ مُنْتَصِبًا.
قَوْلُهُ: {وَلا خِلالٌ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلَالًا، وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلَالِ) كَذَا وَقَعَ فِيهِ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أَيْ لَا مُخَالَّةَ خَلِيلٍ، قَالَ: وَلَهُ مَعْنَى آخَرَ جَمْعُ خُلَّةٍ مِثْلُ حُلَّةٍ وَالْجَمْعُ خِلَالٌ وَقُلَّةٍ وَالْجَمْعُ قِلَالٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا بُيُوعًا وَخِلَالًا يَتَخَالَوْنَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ يُخَالِلُ اللَّهَ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَسَيَنْقَطِعُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَنْ جَعَلَ الْخِلَالَ فِي الْآيَةِ جَمْعُ خُلَّةٍ.
قَوْلُهُ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ أَعْلَمَكُمْ رَبُّكُمْ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} إِذْ زَائِدَةٌ، وَتَأَذَّنَ تَفَعَّلَ مِنْ آذَنَ أَيْ أَعْلَمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أنَّ تَأَذَّنَ مِنَ الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَمَعْنَى تَفَعَّلَ عَزَمَ عَزْمًا جَازِمًا، وَلِهَذَا أُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ. وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَجْعَلُ أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ تَعَلَّمَ مَوْضِعَ أَعْلَمَ وَأَوْعَدَ وَتَوَعَّدَ وَقِيلَ إِنَّ إِذْ زَائِدَةٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى اذْكُرُوا حِينَ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: {أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مِثْلُ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} مَجَازُهُ مَجَازُ الْمَثَلِ وَمَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ عَمَّا أُمِرُوا بِقَبُولِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ يُقَالُ: رَدَّ يَدَهُ فِي فَمِهِ إِذَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُجِبْ. وَقَدْ تَعَقَّبُوا كَلَامَ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقِيلَ: لَمْ يُسْمَعْ مِنَ
الْعَرَبِ رَدَّ يَدِهِ فِي فِيهِ إِذَا تَرَكَ الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَضُّوا عَلَى أَصَابِعِهِمْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَرُدُّونَ فِي فِيهِ غَيْظِ الْحَسُودِ
أَيْ يَغِيظُونَ الْحَسُودَ حَتَّى يَعَضَّ عَلَى أَصَابِعِهِ وَقِيلَ الْمَعْنَى رَدَّ الْكُفَّارَ أَيْدِي الرُّسُلَ فِي أَفَوَاهِمِ بِمَعْنَى أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ كَلَامِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَيْدِي النِّعَمُ أَيْ رَدُّوا نِعْمَةَ الرُّسُلِ وَهِيَ نَصَائِحُهُمْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَبُوهَا كَأَنَّهُمْ رَدُّوهَا مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ.
قَوْلُهُ: (مَقَامِي حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} قَالَ: حَيْثُ أُقِيمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ لِلْحِسَابِ. قُلْتُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرَ قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا إِنَّهُ مَصْدَرٌ لَكِنْ قَالَ إِنَّهُ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ أَيْ قِيَامِي عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ.
قَوْلُهُ: مِنْ وَرَائِهِ قُدَّامَهُ جَهَنَّمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} مَجَازَهُ قُدَّامَهُ وَأَمَامَهُ يُقَالُ: الْمَوْتُ مِنْ وَرَائِكَ أَيْ قُدَّامَكَ وَهُوَ اسْمُ لِكُلِّ مَا تَوَارَى عَنِ الشَّخْصِ، نَقَلَهُ ثَعْلَبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مُنْيَتِي
…
لُزُومُ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَلَيْسَ وَرَاءُ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ
أَيْ بَعْدَ اللَّهِ. وَنَقَلَ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَأَنْكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ نَفْطَوَيْهِ وَقَالَ: لَا يَقَعُ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ إِلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ.
قَوْلُهُ: {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا تَابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَغَيَبُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ.
قَوْلُهُ: {بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي، يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ الصُّرَاخِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أَيْ مَا أَنَا بِمُغِيثِكمْ، وَيُقَالُ اسْتَصْرَخَنِي فَأَصْرَخْتُهُ أَيِ اسْتَغَاثَنِي فَأَغَثْتُهُ.
قَوْلُهُ: (اجْتُثَّتِ اسْتُؤْصِلَتْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا أَيْ قُطِعَتْ جُثَثُهَا بِكَمَالِهَا. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ بِمَثَلِ الْكَافِرِ، يَقُولُ: الْكَافِرُ لَا يُقْبَلُ عَمَلَهُ وَلَا يَصْعَدُ، فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ فِي قَوْلِهِ {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أَيْ مَا لَهَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ وَلَا ثَمَرَةٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ يَعْمَلُ خَيْرًا وَلَا يَقُولُ خَيْرًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ بَرَكَةً وَلَا مَنْفَعَةً.
1 - بَاب {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}
4698 -
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلَا وَلَا وَلَا، تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ. فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ، فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى (حِينٍ) وَسَقَطَ عِنْدَهُمْ
بَابُ قَوْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ) شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْهَا الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ تُشْبِهُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ وَلَمْ يَشُكَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّخْلَةُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا شَجَرَةُ الْجَوْزِ الْهِنْدِيِّ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ فِي قَوْلِهِ:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ جَوْزِ الْهِنْدِ لَا تَتَعَطَّلُ مِنْ ثَمَرَةٍ تَحْمِلُ كُلَّ شَهْرٍ، وَمَعْنَى قَوْلُهُ:(طَيِّبَةٌ) أَيْ لَذِيذَةُ الثَّمَرِ أَوْ حَسَنَةُ الشَّكْلِ أَوْ نَافِعَةٌ، فَتَكُونُ طَيِّبَةٌ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ نَفْعُهَا. وَقَوْلُهُ:{أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أَيْ لَا يَنْقَطِعُ، وَقَوْلُهُ:{وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أَيْ هِيَ نِهَايَةٌ فِي الْكَمَالِ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُرْتَفِعَةٌ بَعُدَتْ عَنْ عُفُونَاتِ الْأَرْضِ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ النَّخْلَةُ وَالشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ الْحَنْظَلَةُ.
2 - بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
4699 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}
قَوْلُهُ بَابُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ أَتَمَّ سِيَاقًا وَاسْتَوْفَيْتُ شَرْحَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ.
3 - بَاب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} أَلَمْ تَرَ: أَلَمْ تَعْلَمْ
كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} ، {الْبَوَارِ} الْهَلَاكُ، بَارَ يَبُورُ بورا. {قَوْمًا بُورًا} هَالِكِينَ.
4700 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} قَالَ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} أَلَمْ تَرَ: أَلَمْ تَعْلَمْ، كَقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (الْبَوَارُ الْهَلَاكُ، بَارَ يَبُورُ بَوْرًا، قَوْمًا بُورًا: هَالِكِينَ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى مَعَ شَرْحِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ أَخْوَالِي وَأَعْمَامِكِ، فَأَمَّا أَخْوَالِي فَاسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا أَعْمَامُكُ فَأَمْلَى اللَّهُ لَهُمْ إِلَى حِينٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ قَالَ: هُمُ الْأَفْجَرَانِ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةَ، فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةَ فَقَطَعَ اللَّهُ دَابِرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَيْضًا وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. قُلْتُ: الْمُرَادُ بَعْضُهُمْ لَا جَمِيعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي مَخْزُومٍ لَمْ يُسْتَأْصَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، بَلِ الْمُرَادُ بَعْضُهُمْ كَأَبِي جَهْلٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَأَبِي سُفْيَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
15 - سُورَةُ الْحِجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ. {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ. {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ. {لَوْ مَا تَأْتِينَا} هَلَّا تَأْتِينَا. شِيَعٌ: أُمَمٌ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا شِيَعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينَ. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ. {سُكِّرَتْ} غُشِّيَتْ. {بُرُوجًا} مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. {لَوَاقِحَ} مَلَاقِحَ مُلْقَحَةً. حَمَأ: جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ. وَالْمَسْنُونُ: الْمَصْبُوبُ. {تَوْجَلْ} تَخَفْ. {دَابِرَ} آخِرَ. {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الْإِمَامُ كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ. {الصَّيْحَةُ} الْهَلَكَةُ.
قَوْلُهُ: (تَفْسِير سُورَةِ الْحِجْرِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِدُونِ لَفْظِ تَفْسِيرِ وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْبَاقِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ مِثْلَهُ وَزَادَ لَا يَعْرِضُ عَلَيَّ شَيْءٌ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَرَءُوا عَلَيَّ بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلصِّرَاطِ أَيْ رَفِيعٌ. قُلْتُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ.
قَوْلُهُ: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ) وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} قَالَ: بِطَرِيقٍ مُعَلَّمٍ. وَمِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ. طَرِيقٌ وَاضِحٌ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ.
(تَنْبِيهٌ):
سَقَطَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَنِ الْمُسْتَمْلِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَبِي ذَرٍّ
قَوْلُهُ: {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ غَيْرُهُ كِتَابٌ مَعْلُومٌ أَجَلٌ، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَيْ أَجَلٌ وَمُدَّةٌ، مَعْلُومٌ أَيْ مُؤَقَّتٌ.
قَوْلُهُ: (لَوْمَا هَلَّا تَأْتِينَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَا تَأْتِينَا} مَجَازُهَا هَلَّا تَأْتِينَا.
قَوْلُهُ: (شِيَعٌ أُمَمٌ وَالْأَوْلِيَاءُ أَيْضًا شِيَعٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أَيْ أُمَمُ الْأَوَّلِينَ وَاحِدَتُهَا شِيعَةٌ، وَالْأَوْلِيَاءُ أَيْضًا شِيَعٌ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ شِيَعٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} يَقُولُ: أُمَمُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ لِأَوْلِيَاءِ الرَّجُلِ أَيْضًا شِيعَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينَ) كَذَا أَوْرَدَهَا هُنَا، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ لِأَبِي ذَرٍّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (سُكِّرَتْ غُشِّيَتْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنَّهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ
(1)
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ غَشِيَ أَبْصَارَنَا
(1)
بمهملة أي في سكرت، ثم معجمة أي في غشيت. ا هـ من هامش الأصل
مِثْلَ السُّكْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَوْلُهُ {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قَالَ سُدَّتْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: سُحِرَتْ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُكِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ سُدِّدَتْ وَبِالتَّخْفِيفِ سُحِرَتِ انْتَهَى. وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، فَقَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ الْجُمْهُورُ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ بِالتَّخْفِيفِ، لَكِنْ بَنَاهَا لِلْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ: (لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ) كَذَا ثَبَتَ هُنَا لِبَعْضِهِمْ، وَسَيَأْتِي لَهُمْ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَعَ شَرْحِهِ.
قَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ عِنْدَنَا) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: {بُرُوجًا} مَنَازِلٌ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، {لَوَاقِحَ} مَلَاقِحٌ، حَمَأٍ جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ، وَالْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ) كَذَا ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَوْجَلُ لَا تَخَفْ، دَابِرَ آخِرَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَوَّلِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَشَرْحُ الثَّانِي فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا.
قَوْلُهُ: {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الْإِمَامُ مَا ائْتَمَمْتُ بِهِ وَاهْتَدَيْتُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (الصَّيْحَةُ الْهَلَكَةُ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
1 - بَاب {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}
4701 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ، قَالَ عَلِيٌّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ. فَإِذَا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا} لِلَّذِي قَالَ: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ، هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ. وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ، فَتُلْقَى عَلَى فَمْ السَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُصَدَّقُ، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا؟ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنْ السَّمَاءِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ، وَزَادَ: وَالْكَاهِنِ.
وَحَدَّثَنَا، سُفْيَانُ فَقَالَ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ. وَقَالَ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ:، إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْكَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ: فُزغَ. قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو، فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا. قَالَ سُفْيَانُ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا.
[الحديث 4701 - طرفه في: 4800، 7481]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ،
أَوْرَدَهُ أَوَّلًا مُعَنْعَنًا ثُمَّ سَاقَهُ بِالْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ مُصَرِّحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَبِالسَّمَاعِ فِي جَمِيعِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ فِي {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِهِ فِي أَوَاخِرِ الطِّبِّ وَفِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}
4702 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُعَذَّبِينَ، وَقَوْلُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ بَائِينَ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْكَافِ، قَالَ: وَلَا وَجْهَ لَهُ.
3 - بَاب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
4703 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ؟ فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ؟ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجَ فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
4704 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي ذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ مَشْرُوحًا. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ (أُمِّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمٌّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَفْعُهُ أَتَمُّ مِنْ هَذَا، وَلِلطَّبَرَيْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمُقْبِرِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ (الرَّكْعَةَ الَّتِي لَا يَقْرَأُ فِيهَا كَالْخِدَاجِ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعِي إِلَّا أُمُّ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: هِيَ حَسْبُكَ، هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ سَيْرَيْنَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْفَاتِحَةَ لَا يُقَالُ لَهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: أُمُّ الْكِتَابِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَالَ: وَأَمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ، وَسُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا أَصْلُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ كَأَنَّهَا تَؤُمُّهُ.
قَوْلُهُ: (هِيَ السَّبْعُ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَمُّ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَا عَدَاهَا، وَلَيْسَ هُوَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ السَّبْعُ الْمَثَانِي لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَإِنَّمَا جَازَ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ الْقُرْآنَ كُلَّهَ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ لَكِنْ بِلَفْظِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أُعْطِيتُمُوهُ أَيْ هُوَ الَّذِي أُعْطِيتُمُوهُ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْخَبَرُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ عَلِيٍّ قَالَ السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ زَادَ عَنْ عُمَرَ تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَبِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ قَالَ {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ، وَمِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. قُلْتُ لِلرَّبِيعِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ، قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا نَزَلَ مِنَ الطِّوَالِ شَيْءٌ.
وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلٌ آخَرُ مَشْهُورٌ فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَفِي لَفْظٍ لِلطَّبَرِيِّ: الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ، قَالَ الرَّاوِي: ذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسُ. وَعِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهَا الْكَهْفُ، وَزَادَ: قِيلَ لَهُ مَا الْمَثَانِي؟ قَالَ: تُثَنَّى فِيهِنَّ الْقَصَصُ. وَمِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ خُضَيْفٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قَالَ مُرْ وَانْهَ وَبَشِّرْ وَأَنْذِرْ وَاضْرِبِ الْأَمْثَالَ وَاعْدُدِ النِّعَمَ وَالْأَنْبَاءَ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ.
4 - بَاب قَوْلِهِ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} ،
{الْمُقْتَسِمِينَ} الَّذِينَ حَلَفُوا. وَمِنْهُ: لَا أُقْسِمُ: أَيْ أُقْسِمُ، وَتُقْرَأُ: لَأُقْسِمُ. قَاسَمَهُمَا: حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{تَقَاسَمُوا} تَحَالَفُوا.
4705 -
حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ.
4706 -
حَدَّثَني عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} قَالَ: آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قِيلَ إِنَّ {عِضِينَ} جَمْعُ عُضْوٍ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أَيْ جَعَلُوهُ أَعْضَاءً كَأَعْضَاءِ الْجَزُورِ، وَقِيلَ هِيَ جَمْعُ عِضَةٍ وَأَصْلُهَا عِضْهَةٌ فَحُذِفَتِ الْهَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنَ الشَّفَةِ وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ وَجُمِعَتْ بَعْدَ الْحَذْفِ عَلَى عِضِينَ مِثْلُ بِرَةٍ وَبِرِينَ وَكِرَةٍ كِرِينِ، وَرَوَى
الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: عِضِينَ عَضَهُوهُ وَبَهَتُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْعَضْهُ السِّحْرُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، تَقُولُ لِلسَّاحِرَةِ الْعَاضِهَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ مِثْلُ قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَلَفْظُهُ: عَضُّوا الْقُرْآنَ أَعْضَاءً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَاحِرٌ وَقَالَ آخَرُ مَجْنُونٌ وَقَالَ آخَرُ كَاهِنٌ، فَذَلِكَ الْعِضِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَسَّمُوا الْقُرْآنَ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ فَقَالُوا: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْبَعُوضَ وَالذُّبَابَ وَالنَّمْلَ وَالْعَنْكَبُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا صَاحِبُ الْبَعُوضِ وَقَالَ آخَرُ أَنَا صَاحِبُ النَّمْلِ وَقَالَ آخَرُ أَنَا صَاحِبُ الْعَنْكَبُوتِ، وَكَانَ الْمُسْتَهْزِئُونَ خَمْسَةً: الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَالْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ وَالْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ فِي عَدِّ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ وَزَادَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَلَاكِهِمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
قَوْلُهُ: {الْمُقْتَسِمِينَ} الَّذِينَ حَلَفُوا، وَمِنْهُ لَا أُقْسِمُ أَيْ أُقْسِمُ، وَتُقْرَأُ لَأُقْسِمُ، {وَقَاسَمَهُمَا} حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{تَقَاسَمُوا} تَحَالَفُوا) قُلْتُ هَكَذَا جَعَلَ الْمُقْتَسِمِينَ مِنَ الْقَسَمِ بِمَعْنَى الْحَلِفِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ مِنَ الْقِسْمَةِ وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:{الَّذِينَ جَعَلُوا} هُوَ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ قَسَمُوهُ وَفَرَّقُوهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{وَقَاسَمَهُمَا} حَلَفَ لَهُمَا، وَقَالَ أَيْضًا أَبُو عُبَيْدَةَ الَّذِي يُكْثِرُ الْمُصَنِّفُ نَقْلَ كَلَامِهِ: مِنَ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا وَفَرَّقُوا، قَالَ: وَقَوْلُهُ عِضِينَ أَيْ فَرَّقُوهُ عَضُّوهُ أَعْضَاءً. قَالَ رُؤْبَةُ:
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمُعَضَّى
أَيْ بِالْمُفَرَّقِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمِنْهُ لَا أُقْسِمُ إِلَخْ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَيْ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاقْتِسَامِ بَلْ هُوَ مِنَ الْقَسَمِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ مِنَ الْقَسْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} مَجَازُهَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي لَا فَقِيلَ زَائِدَةٌ وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَا تُزَادُ إِلَّا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ هُوَ جَوَابُ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، وَقِيلَ نَفْيٌ عَلَى بَابِهَا وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى لَا أُقْسِمُ بِكَذَا بَلْ بِكَذَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ لَأُقْسِمُ بِغَيْرِ أَلِفٍ فَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اللَّامِ فَقِيلَ هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَقِيلَ لَامُ التَّأْكِيدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الَّتِي بَعْدَهَا {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} وَعَلَى إِثْبَاتِهَا فِي {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ {تَقَاسَمُوا} تَحَالَفُوا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} قَالَ تَحَالَفُوا عَلَى هَلَاكِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكُوا جَمِيعًا، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدْخُلُ فِي الْمُقْتَسِمِينَ إِلَّا عَلَى رَأْيِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّ الطَّبَرِيَّ رَوَى عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ الْمُقْتَسِمِينَ قَوْمُ صَالِحٍ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا عَلَى هَلَاكِهِ فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} يَعْنِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قِيلَ فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهَا أَوَّلَ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ) فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَوْلُهُ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ) بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ هُوَ حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
5 - بَاب {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
قَالَ سَالِمٌ: الْيَقِينُ: الْمَوْتُ قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قَالَ سَالِمٌ: الْيَقِينُ الْمَوْتُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ بِهَذَا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ
وَغَيْرِهِمَا مِثْلِهِ، وَاسْتَشْهَدَ الطَّبَرِيُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ مَشْرُوحًا، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الْبُخَارِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَرِّجْ هُنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: كَانَ ذِكْرُهُ أَلْيَقَ مِنْ هَذَا ; قَالَ وَلِأَنَّ الْيَقِينَ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْتِ. قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ حَدِيثَ بَعْجَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ خَيْرُ مَا عَاشَ النَّاسُ بِهِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ هُوَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْرٍ فَهَذَا شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِقَوْلِ سَالِمٍ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وَإِطْلَاقُ الْيَقِينِ عَلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُشَكُّ فِيهِ.
16 - سُورَةُ النَّحْلِ
{رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ، {فِي ضَيْقٍ} يُقَالُ: أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ، مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} تَتَهَيَّأُ. {سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} اخْتِلَافِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَمِيدُ: تَكَفَّأُ. {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَمَعْنَاهَا الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{تُسِيمُونَ} تَرْعَوْنَ. {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ. {قَصْدُ السَّبِيلِ} الْبَيَانُ. الدِّفْءُ: مَا اسْتَدْفَأْتَ به. {تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ. وَ {تَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ. {بِشِقِّ} يَعْنِي الْمَشَقَّةَ. {عَلَى تَخَوُّفٍ} تَنَقُّصٍ. {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} وَهِيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ، وَكَذَلِكَ النَّعَمُ. الْأَنْعَامُ: جَمَاعَةُ النَّعَمِ. أَكْنَانا: وَاحِدُهَا كِنٌّ، مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ. {سَرَابِيلَ} قُمُصٌ. {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَأَمَّا سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ: فَإِنَّهَا الدُّرُوعُ. {دَخَلا بَيْنَكُمْ} كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ دَخَلٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَفَدَةً: مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ. السَّكَرُ: مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتِهَا. وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ: {أَنْكَاثًا} هِيَ خَرْقَاءُ، كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأُمَّةُ: مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - سُورَةُ النَّحْلِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أَمَّا قَوْلُهُ {رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} فَذَكَرَهُ اسْتِشْهَادًا لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِبْرِيلُ اتِّفَاقًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رَدِّ مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{رُوحُ الْقُدُسِ} الِاسْمُ الَّذِي كَانَ عِيسَى يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} فِي اخْتِلَافِهِمْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَقَلُّبِهِمْ يَقُولُ فِي أَسْفَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَمِيدُ تَكَفَّأُ) هُوَ بِالْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَهْمُوزٌ، وَقِيلَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ الْكَافِ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلُهُ:{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} قَالَ: تَكَفَّأُ بِكُمْ، وَمَعْنَى تَكَفَّأُ تُقَلَّبُ. وَرَوَى
الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَوْقُوفًا قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ، قَالَ فَأَرْسَى اللَّهُ فِيهَا الْجِبَالَ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعٍ.
قَوْلُهُ: {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قَالَ: مَنْسِيُّونَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مُفْرَطُونَ أَيْ مَتْرُوكُونَ فِي النَّارِ مَنْسِيُّونَ فِيهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مُعَجَّلُونَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَفْرَطْنَا فُلَانًا إِذَا قَدَّمُوهُ فَهُوَ مُفْرَطٌ وَمِنْهُ أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ قُلْتُ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَقَرَأَهَا نَافِعٌ بِكَسْرِهَا وَهُوَ مِنَ الْإِفْرَاطِ، وَقَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَكْسُورَةٍ أَيْ مُقَصِّرُونَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُبَالِغُونَ فِي الْإِسَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (فِي ضَيْقٍ يُقَالُ أَمْرٌ ضَيْقٌ وَأَمْرٌ ضَيِّقٌ مِثْلُ هَيْنٌ وَهَيِّنٌ وَلَيْنٌ وَلَيِّنٌ وَمَيْتٌ وَمَيِّتٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ ضَيْقٍ كَمَيْتٍ وَهَيْنٍ وَلَيْنٍ فَإِذَا خَفَّفْتُهَا قُلْتُ مَيْتٌ وَهَيْنٌ وَلَيْنٌ فَإِذَا كَسَرْتَ أَوَّلِهِ فَهُوَ مَصْدَرُ ضَيَّقَ انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا وَفِي النَّمْلِ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، فَقِيلَ عَلَى لُغَتَيْنِ، وَقِيلَ الْمَفْتُوحُ مُخَفَّفٌ مِنْ ضَيْقٍ أَيْ فِي أَمْرِ ضَيِّقٍ. وَاعْتَرَضَهُ الْفَارِسِيُّ بِأَنَّ الصِّفَةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالْمَوْصُوفِ فَلَا يُدَّعَى الْحَذْفُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَفَيَّأُ ظِلَالَهُ تَتَهَيَّأُ) كَذَا فِيهِ وَالصَّوَابُ تَتَمَيَّلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: {سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكْتُهُ) رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلِهِ، وَيَتَوَعَّرُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذُلُلًا حَالٌ فِي السُّبُلِ أَيْ ذَلَّلَهَا اللَّهُ لَهَا، وَهُوَ جَمْعُ ذَلُولٍ قَالَ تَعَالَى {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا} وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (ذُلُلًا) أَيْ مُطِيعَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ ذُلُلًا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ اسْلُكِي، وَانْتِصَابُ سُبُلٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ.
قَوْلُهُ: (الْقَانِتُ الْمُطِيعُ) سَيَأْتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ) الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنَّ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ، وَقَرَّرَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ إِذَا وَصَلَهُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَخَذْتُ فِي الْقِرَاءَةِ فَاسْتَعِذْ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَكِنْ فِيهِ إِضْمَار، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ عِنْدَ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ابْنُ سِيرِينَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ فَكَانُوا يَسْتَعِيذُونَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَمَعْنَاهَا) أَيْ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ (الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُسِيمُونَ تَرْعَوْنَ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ فِيهِ أَنْعَامَكُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُسِيمُونَ أَيْ تَرْعَوْنَ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَسَمْتُ الْإِبِلَ رَعَيْتُهَا، وَسَامَتْ هِيَ رَعَتْ.
قَوْلُهُ: (شَاكِلَتُهُ نَاحِيَتُهُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَقَدْ أَعَادَهُ فِيهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ نِيَّتُهُ بَدَلَ نَاحِيَتُهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (قَصْدُ السَّبِيلِ الْبَيَانُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: الْبَيَانُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلِهِ وَزَادَ: الْبَيَانُ بَيَانُ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى.
قَوْلُهُ: (الدِّفْءُ مَا اسْتَدْفَأْتُ بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الدِّفْءُ مَا اسْتَدْفَأْتُ بِهِ مِنْ أَوْبَارِهَا وَمَنَافِعٌ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قَالَ: الثِّيَابُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: لِبَاسٌ يُنْسَجُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (تَخَوُّفُ تَنَقُّصُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قَالَ: عَلَى تَنَقُّصٍ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُجَبْ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا رَأَى إِلَّا أَنَّهُ عَلَى مَا يُنْتَقَصُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، قَالَ فَخَرَجَ رَجُلٌ فَلَقِيَ أَعْرَابِيًّا فَقَالَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ تَخَوَّفْتُهُ - أَيْ تَنَقَّصْتُهُ - فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ عُمَرُ، فَأَعْجَبَهُ وَفِي شِعْرِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَلَى تَخَوُّفٍ} قَالَ: عَلَى تَنَقُّصٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقِيلَ التَّخَوُّفُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَوْفِ.
قَوْلُهُ: (تُرِيحُونَ بِالْعَشِيِّ وَتَسْرَحُونَ بِالْغَدَاةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أَيْ بِالْعَشِيِّ، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أَيْ بِالْغَدَاةِ.
قَوْلُهُ: {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} هِيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ، وَكَذَلِكَ النَّعَمُ الْأَنْعَامُ جَمَاعَةُ النَّعَمِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} فَذَكَّرَ وَأَنَّثَ، فَقِيلَ الْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى عَلَى النَّعَمِ فَهِيَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَالْعَرَبُ تُظْهِرُ الشَّيْءَ ثُمَّ تُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بِسَبَبٍ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَبَائِلُنَا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ
…
وَلَلسَّبْعُ أَوْلَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَطْيَبُ
أَيْ ثَلَاثَةٍ أَحْيَاءٍ، ثُمَّ قَالَ مِنْ ثَلَاثٍ أَيْ قَبَائِلَ انْتَهَى. وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ تَأْنِيثَ النَّعَمِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَالُ: هَذَا نَعَمٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى نُعْمَانَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِثْلُ حَمَلٍ وَحَمَلَانِ.
قَوْلُهُ: (أَكْنَانًا وَاحِدُهَا كِنُّ، مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَكْنَانًا} قَالَ: غِيرَانًا مِنَ الْجِبَالِ يُسْكَنُ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (بِشِقٍّ يَعْنِي الْمَشَقَّةُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ} أَيْ بِمَشَقَّةِ الْأَنْفُسُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} قَالَ: الْمَشَقَّةُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ عَنْ قَتَادَةَ {إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} إِلَّا بِجَهْدِ الْأَنْفُسِ. (تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الشِّينِ مِنْ شِقِّ، وَقَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ بِفَتْحِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَأَنْشَدَ:
وَذُو إِبِلٍ تَسْعَى وَيَحْبِسُهَا لَهُ
…
أَخُو نَصَبٍ مِنْ شِقِّهَا وَذَءُوبٍ
قَالَ الْأَثْرَمُ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَبِالْكَسْرِ مَعْنَاهُ ذَابَتْ حَتَّى صَارَتْ عَلَى نِصْفِ مَا كَانَتْ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ انْتَهَى. وَكَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يُسَاعِدُ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (سَرَابِيلُ قُمُصٌ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وَأَمَّا سَرَابِيلُ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ فَإِنَّهَا الدُّرُوعٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أَيْ قُمُصًا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أَيْ دُرُوعًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قَالَ الْقُطْنُ وَالْكَتَّانُ {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} قَالَ: دُرُوعٌ مِنْ حَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: (دَخَلًا بَيْنَكُمْ، كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ دَخَلٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ (دَخَلًا) خِيَانَةً، وَقِيلَ الدَّخَلُ الدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَيْسَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَفَدَةُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قَالَ: الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: هُمْ بَنُو امْرَأَةِ الرَّجُلِ. وَفِيهِ عَنْهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَفَدَةُ وَالْأَصْهَارُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَخْتَانِ. وَأُخْرِجَ هَذَا الْأَخِيرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِهِ، وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ حَدِيثَ
ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْحَفَدَةُ الْخُدَّامُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: الْحَفَدَةُ الْبَنُونَ وَبَنُو الْبَنِينَ، وَمَنْ أَعَانَكَ مِنْ أَهْلٍ أَوْ خَادِمٍ فَقَدْ حَفَدَكَ. وَهَذَا أَجْمَعُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَأَصْلُ الْحَفَدِ مُدَارَكَةُ الْخَطْوِ وَالْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ، فَأُطْلِقَ عَلَى مَنْ يَسْعَى فِي خِدْمَةِ الشَّخْصِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتِهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أُحِلَّ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلِهِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ قَالَ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ الْحَلَالُ، وَالسَّكَرُ الْحَرَامُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ سُورَةُ النَّحْلِ مَكِّيَّةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: السَّكَرُ خَمْرُ الْأَعَاجِمِ. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ وَقِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} أَهُوَ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُ النَّبَطُ؟ قَالَ لَا، هَذَا خَمْرٌ، وَإِنَّمَا السَّكَرُ نَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَانْتَصَرَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ (أَنْكَاثًا) هِيَ خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَتْ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ تُسَمَّى خَرْقَاءُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ أَنَّ اسْمَهَا بَطَّةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ ابْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةِ بْنِ تَمِيمٍ، وَعِنْدَ الْبَلَاذُرِيِّ أَنَّهَا وَالِدَةُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ، وَأَنَّهَا بِنْتُ سَعْدِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ. وَفِي غُرَرِ التِّبْيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ بِنَقْضِ ذَلِكَ، هَذَا دَأْبُهَا لَا تَكُفُّ عَنِ الْغَزْلِ وَلَا تُبْقِي مَا غَزَلَتْ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرِ مِثْلُ رِوَايَةِ صَدَقَةِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ نَكَثَ عَهْدَهُ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ زُفَرٍ الْآتِي ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصَدَقَةُ هَذَا لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَقْدَمَ الْكَرْمَانِيُّ فَقَالَ: صَدَقَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُنَا رَوَى عَنْهُ سُفْيَانُ، وَلَا سَلَفَ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ صَدَقَةَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ، فَإِنَّ صَدَقَةَ بْنَ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيَّ مَا أَدْرَكَ السُّدِّيُّ وَلَا أَصْحَابُ السُّدِّيِّ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ صَدَقَةَ هَذَا هُوَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ قَاضِي الْأَهْوَازِ لِأَنَّ لِابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ رِوَايَةٌ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ صَدَقَةَ أَبُو الْهُذَيْلِ، ورَوَى عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانِ فِي الثِّقَاتِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَكَذَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ لَكِنْ قَالَ: صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرِ الْقَارِئُ صَاحِبُ مُجَاهِدٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ، وَوَضَّحَ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا، فَيَسْتَدِرْكُ عَلَى مَنْ صَنَّفَ فِي رِجَالِهِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَغْفَلُوهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ ; وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُرِئَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةٌ قَانِتًا لِلَّهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْأُمَّةُ؟ الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
1 - بَاب {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}
4707 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو: أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ، وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الدُّعَاءِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الدَّعَوَاتِ، شُعَيْبٌ الرَّاوِي، عَنْ أَنَسٍ هُوَ ابْنُ الْحَبْحَابِ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ هُوَ الْخَرِفُ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ مِائَةُ سَنَةٍ.
17 - سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
1 - باب
4708 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَهُزُّونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نَغَضَتْ سِنُّكَ أَيْ تَحَرَّكَتْ.
[الحديث 4708 - طرفاه في: 4739، 4994]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ: جَمْعُ عَتِيقٍ وَهُوَ الْقَدِيمُ، أَوْ هُوَ كُلُّ مَا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْجَوْدَةِ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ جَمَاعَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْأُوَلِ جَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ. وَقَوْلُهُ: هُنَّ مِنْ تِلَادِي بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ أَيْ مِمَّا حُفِظَ قَدِيمًا، وَالتِّلَادُ قَدِيمُ الْمِلْكِ وَهُوَ بِخِلَافِ الطَّارِفِ، وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا تُعُلِّمَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ لَهُنَّ فَضْلًا لِمَا فِيهِنَّ مِنَ الْقَصَصِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَهُزُّونَ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ نَغَضَتْ سِنَّكَ أَيْ تَحَرَّكَتْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} أَيْ يُحَرِّكُونَهَا اسْتِهْزَاءً، يُقَالُ نَغَضَتْ سِنُّهُ أَيْ تَحَرَّكَتْ وَارْتَفَعَتْ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُحَرِّكُونَ رُءُوسَهُمُ اسْتِبْعَادًا، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ:{فَسَيُنْغِضُونَ} قَالَ: يُحَرِّكُونَ.
2 - باب {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} :
أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ. وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ: {وَقَضَى رَبُّكَ} أَمَرَ رَبُّكَ. الْحُكْمُ: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} وَمِنْهُ الْخَلْقُ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} خَلَقَهُنَّ. {نَفِيرًا} مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ. {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا. {مَا عَلَوْا * حَصِيرًا} مَحْبِسًا مَحْصَرًا. حَقَّ: وَجَبَ {مَيْسُورًا} لَيِّنًا. {خِطْئًا} إِثْمًا. وَهُوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتَ. وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ ومِنْ الْإِثْمِ. خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ. {تَخْرِقَ} تَقْطَعَ. {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ، فَوَصَفَهُمْ بِهَا، وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ. رُفَاتًا:
حُطَامًا. {وَاسْتَفْزِزْ} اسْتَخِفَّ. {بِخَيْلِكَ} الْفُرْسَانِ. وَالرَّجْلُ وَالرِّجَالُ الرَّجَّالَةُ وَاحِدُهَا رَاجِلٌ، مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ. {حَاصِبًا} الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَالْحَاصِبُ أَيْضًا مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ وَهُوَ حَصَبُهَا، وَيُقَالُ: حَصَبَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ. وَالْحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْبَاءِ وَالْحِجَارَةِ. {تَارَةً} مَرَّةً، وَجَمَاعَتُهُ تِيَرَةٌ وَتَارَاتٌ. {لأَحْتَنِكَنَّ} لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ، يُقَالُ: احْتَنَكَ فُلَانٌ مَا عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ عِلْمٍ: اسْتَقْصَاهُ. {طَائِرَهُ} حَظَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ. {وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا.
قَوْلُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ، وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ: قَضَى رَبُّكَ أَمَرَ، وَمِنْهُ الْحُكْمُ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} وَمِنْهُ الْخَلْقُ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} خَلَقَهُنَّ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَخْبَرْنَاهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ:{وَقَضَى رَبُّكَ} أَيْ أَمَرَ، وَفِي قَوْلِهِ:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أَيْ يَحْكُمُ، وَفِي قَوْلِهِ:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أَيْ خَلَقَهُنَّ. وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَرِدُ بِهَا لَفْظُ الْقَضَاءِ وَأَغْفَلَ كَثِيرًا مِنْهَا، وَاسْتَوْعَبَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ فَقَالَ لَفْظَةُ (قَضَى) فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ جَاءَتْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا: الْفَرَاغُ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} وَالْأَمْرُ {إِذَا قَضَى أَمْرًا} وَالْأَجَلُ {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى} نَحْبَهُ. وَالْفَصْلُ {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَالْمُضِيُّ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} وَالْهَلَاكُ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَالْوُجُوبُ {لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} وَالْإِبْرَامُ {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وَالْإِعْلَامُ {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَالْوَصِيَّةُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} وَالْمَوْتُ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} وَالنُّزُولُ {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} وَالْخَلْقُ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وَالْفِعْلُ {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} يَعْنِي حَقًّا لَمْ يَفْعَلْ.
وَالْعَهْدُ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْقَدرَ الْمَكْتُوبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} وَالْفِعْلَ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} وَالْوُجُوبَ {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} أَيْ وَجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَالْوَفَاءُ كَفَائِتِ الْعِبَادَةِ
(1)
. وَالْكِفَايَةُ وَلَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَحَدِ مِنْ بَعْدِكِ انْتَهَى. وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مُتَدَاخِلٌ، وَأَغْفَلَ أَنَّهُ يَرِدُ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} وَبِمَعْنَى الْإِتْمَامِ {ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} وَبِمَعْنَى كَتَبَ {إِذَا قَضَى أَمْرًا} وَبِمَعْنَى الْأَدَاءِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ. وَمِنْهُ قَضَى دَيْنَهُ. وَتَفْسِيرُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا} بِمَعْنَى وَصَّى مَنْقُولٌ مِنْ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَوَصَّى، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَضَى} قَالَ: وَأَوْصَى وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ وَوَصَّى وَقَالَ: أُلْصِقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ فَصَارَتْ قَافًا فَقُرِئَتْ وَقَضَى، كَذَا قَالَ وَاسْتَنْكَرُوهُ مِنْهُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالْأَمْرِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ضَمْرَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ وَلَوْ قَضَى لَمَضَى، يَعْنِي لَوْ حَكَمَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ. وَيُمْكِنُ رَدُّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْضًا: كُلُّ مَا أَحْكَمَ عَمَلَهُ أَوْ خَتَمَ أَوْ
(1)
في هامش طبعة بولاق: كذا في النسخ، ولعله سقط بعده لفظ "يقضى" كما هو ظاهر.
أَكْمَلَ أَوْ وَجَبَ أَوْ أَلْهَمَ أَوْ أَنْفَذَ أَوْ مَضَى فَقَدْ قَضَى.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ عِلْمًا قَاطِعًا، انْتَهَى. وَالْقَضَاءُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَعَدَّى بِالْحَرْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى أَوْحَيْنَا.
قَوْلُهُ: (نَفِيرًا مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَكْثَرَ نَفِيرًا} قَالَ: الَّذِينَ يَنْفِرُونَ مَعَهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} أَيْ عَدَدًا، وَمِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: (مَيْسُورًا لَيِّنًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} أَيْ لَيِّنًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} أَيْ لَصَامَ تَعِدُهُمْ
(1)
وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: عَدَّهُمْ عِدَةً حَسَنَةً. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا} قَالَ: الْعِدَةُ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: تَقُولُ نَعَمْ وَكَرَامَةٌ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ: تَقُولُ: سَيَكُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (خِطْأ إِثْمًا وَهُوَ اسْمُ مِنْ خَطِئْتَ، وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ مِنَ الْإِثْمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أَيْ إِثْمًا، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتُ، فَإِذَا فَتَحْتَهُ فَهُوَ مَصْدَرٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعِينِي إِنَّمَا خَطِّئِي وَصَوِّبِي
…
عَلَيَّ وَإِنَّمَا أَهلَكْتُ مَالِي
ثُمَّ قَالَ: وَخَطِئْتُ وَأَخْطَأْتُ لُغَتَانِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَطِئْتُ إِذَا أَذْنَبْتُ عَمْدًا، وَأَخْطَأْتُ إِذَا أَذْنَبْتُ عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(خِطْئًا) قَالَ: خَطِيئَةٌ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى عَمْدٍ لَا خَطَأً فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ فَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ ذِكْوَانَ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِبْعَادِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ قَتْلَهُمْ - كَانَ غَيْرُ صَوَابٍ، تَقُولُ: أَخْطَأَ يُخْطِئُ خَطَأً إِذَا لَمْ يُصِبْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ الَّذِي تَبِعَهُ فِيهِ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ خَطِئَ بِمَعْنَى أَثِمَ، وَأَخْطَأَ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَوْ إِذَا لَمْ يُصِبْ.
قَوْلُهُ: {حَصِيرًا} مَحْبِسًا مَحْصِرًا) أَمَّا مَحْبِسًا فَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} قَالَ: مَحْبِسًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {حَصِيرًا} قَالَ: مَحْصِرًا.
قَوْلِهِ: (تَخْرِقُ تَقْطَعُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} قَالَ: لَنْ تَقْطَعَ.
قَوْلُهُ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا، وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ) كَذَا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} هُوَ مَصْدَرُ نَاجَيْتُ، أَوِ اسْمٌ مِنْهَا فَوَصَفَ بِهَا الْقَوْمَ، كَقَوْلِهِمْ هُمْ عَذَابٌ، فَجَاءَتْ نَجْوَى فِي مَوْضِعِ مُتَنَاجِينَ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَهُمْ ذَوُو نَجْوَى، أَوْ هُوَ جَمْعُ نَجِيٍّ كَقَتِيلٍ وَقَتْلَى.
قَوْلُهُ: (رُفَاتًا حُطَامًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (رُفَاتًا) أَيْ حُطَامًا أَيْ عِظَامًا مُحَطَّمَةً، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} قَالَ: تُرَابًا.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَفْزِزِ اسْتَخِفَّ، بِخَيْلِكَ الْفُرْسَانُ، وَالرَّجْلُ وَالرِّجَالُ وَالرَّجَّالَةُ وَاحِدُهَا رَاجِلٌ، مِثْلُ صَاحِبِ وَصَحْبٍ وَتَاجِرِ وَتَجْرٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِنَصِّهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَاسْتَفْزِزْ} قَالَ اسْتَنْزِلْ.
قَوْلُهُ: {حَاصِبًا} الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَالْحَاصِبُ أَيْضًا مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ وَهُمْ حَصَبُهَا ; وَيُقَالُ حَصَبَ فِي الْأَرْضِ ذَهَبَ وَالْحَاصِبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصْبَاءِ الْحِجَارَةِ) تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
(1)
في هامش طبعة بولاق: كذا في النسخ، ولعل فيه تحريفا
حَاصِبًا} أَيْ رِيحًا عَاصِفًا تَحْصِبُ، وَيَكُونُ الْحَاصِبُ مِنَ الْجَلِيدِ أَيْضًا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورٍ
وَفِي قَوْلِهِ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} كُلُّ شَيْءٍ أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ فَقَدْ حَصَبْتَهَا بِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قَالَ: حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: رَامِيًا يَرْمِيكُمْ بِحِجَارَةٍ.
قَوْلُهُ: {تَارَةً} أَيْ مَرَّةً، وَالْجَمْعُ تِيَرٌ وَتَارَاتٌ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَالْجَمْعُ تِيَرٌ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي {تَارَةً أُخْرَى} قَالَ: مَرَّةُ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: {لأَحْتَنِكَنَّ} لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ، يُقَالُ احْتَنَكَ فُلَانٌ مَا عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ عِلْمٍ اسْتَقْصَاهُ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{لأَحْتَنِكَنَّ} قَالَ: لَأَحْتَوِيَنَ قَالَ: يَعْنِي شِبْهَ الزِّنَاقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حُجَّةٌ) وَصَلَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَرَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ وَكُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ صَلَاةٌ.
قَوْلُهُ: (وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا) وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} قَالَ: لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا.
3 - بَاب {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
4709 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ. ح. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ. قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.
4710 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. . نَحْوَهُ. {قَاصِفًا} رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ فِي (أَسْرَى) بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ {فَأَسْرِ} فَقُرِئَتْ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ أَسْرَى وَسَرَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: السُّرَى مِنْ سَرَيْتُ إِذَا سِرْتُ لَيْلًا يَعْنِي فَهُوَ لَازِمٌ، وَالْإِسْرَاءُ يَتَعَدَّى فِي الْمَعْنَى لَكِنْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَتَّى ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَى {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (جَعَلَ الْبُرَاقَ يُسْرِي بِهِ كَمَا تَقُولُ أَمْضَيْتُ كَذَا بِمَعْنَى جَعَلْتُهُ يَمْضِي، لَكِنْ حَسُنَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ الْمُصْطَفَى لَا الدَّابَّةُ الَّتِي سَارَتْ بِهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ لُوطٍ فَالْمَعْنَى سِرْ بِهِمْ عَلَى مَا يَتَحَمَّلُونَ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ وَنَحْوِهَا، هَذَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالْقَطْعِ، وَمَعْنَى الْوَصْلُ سِرْ بِهِمْ لَيْلًا، وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِسْرَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَرَى بِعَبْدِهِ بِوَجْهٍ مِنَ
الْوُجُوهِ انْتَهَى. وَالنَّفْيُ جَزَمَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّهُ سَارَ لَيْلًا عَلَى الْبُرَاقِ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: سِرْتُ بِزَيْدٍ بِمَعْنَى صَاحَبْتُهُ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ.
وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا حَدِيثَ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ كَذَّبَنِي بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ.
قَوْلُهُ: فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ تَقَدَّمَ شَرْحِهِ أَيْضًا فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي اقْتَرَحَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْرَجَهُ أَبُو يُعْلَى مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُطَوَّلَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَتْ طَرَفًا مِنْهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَعْزُوًّا إِلَى أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ لِمَا كَانَ لَيْلَةُ أُسَرِيَّ بِي ثُمَّ أَصْبَحَتْ بِمَكَّةَ قَطَعَتْ بِأَمْرِي وَعَرَفَتْ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِي، فَقَعَدَتْ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمْ يَرَ أَنْ يُكَذِّبَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَ مَا قَالَ إِنَّ دَعَا قَوْمَهُ، قَالَ: إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ لَكَ تُحَدِّثُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعَّبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمَّ، قَالَ: فَانْقَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، فَجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَحَدَّثَهُمْ، قَالَ فَمِنْ مُصَفِّقٍ وَمِنْ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَذَهَبَتْ أَنْعَتُ لَهُمْ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ حَتَّى وُضِعَ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ أَصَابَ.
قَوْلُهُ: (زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ يَعْقُوبَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَفْظِهِ (جَاءَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ صَدَقَ) وَرَوَى الذُّهْلِيُّ أيْضًا وَأَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ) الْحَدِيثَ، فَلَعَلَّهُ دَخَلَ إِسْنَادٌ فِي إِسْنَادٍ، أَوْ لَمَّا كَانَ الْحَدِيثَانِ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ أَدْخَلَ ذَلِكَ.
4 - بَاب {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ. {ضِعْفَ الْحَيَاةِ * وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عذاب الحياة وعَذَابَ الْمَمَاتِ. {خِلافَكَ} وَخَلْفَكَ سَوَاءٌ. {وَنَأَى} تَبَاعَدَ. {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ، وَهِيَ مِنْ شَكْلِهِ. {صَرَّفْنَا} وَجَّهْنَا. {قَبِيلا} مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً، وَقِيلَ: الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا. {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} أَنْفَقَ الرَّجُلُ: أَمْلَقَ، وَنَفِقَ الشَّيْءُ: ذَهَبَ. {قَتُورًا} مُقَتِّرًا. {لِلأَذْقَانِ} مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَالْوَاحِدُ ذَقَنٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْفُورًا} وَافِرًا. {تَبِيعًا} ثَائِرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصِيرًا. {خَبَتْ} طَفِئَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُبَذِّرْ: لَا تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ. {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} رِزْقٍ. {مَثْبُورًا} مَلْعُونًا. لَا تَقْفُ: لَا تَقُلْ. {فَجَاسُوا} تَيَمَّمُوا. {يُزْجِي} الْفُلْكَ: يُجْرِي الْفُلْكَ. {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} لِلْوُجُوهِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ) أَيْ فِي الْأَصْلِ، وَإِلَّا فَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَرَّمْنَا أَيْ أَكْرَمْنَا إِلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الْكَرَامَةِ انْتَهَى. وَهِيَ مِنْ كَرُمَ بِضَمِّ الرَّاءِ مِثْلُ شَرُفَ وَلَيْسَ مِنَ الْكَرَمِ الَّذِي هُوَ فِي الْمَالِ.
قَوْلُهُ: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عَذَابُ الْحَيَاةِ وَعَذَابُ الْمَمَاتِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} مُخْتَصَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{ضِعْفَ الْحَيَاةِ} قَالَ: عَذَابُهَا {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} قَالَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضِعْفَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ أَنَّ عَذَابَ النَّارِ يُوصَفُ بِالضِّعْفِ، قَالَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} أَيْ عَذَابًا مُضَاعَفًا، فَكَأَنَّ الْأَصْلَ لَأَذَقْنَاكَ عَذَابًا ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ ثُمَّ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَهُ ثُمَّ أُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ ; فَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ أَلِيمُ الْحَيَاةِ مَثْلًا.
قَوْلُهُ: {خِلافَكَ} وَخَلْفَكَ سَوَاءٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا) أَيْ بَعْدَكَ قَالَ: خِلَافُكَ وَخَلْفُكَ سَوَاءٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى ; وَقُرِئَ بِهِمَا. قُلْتُ: وَالْقِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، فَقَرَأَ خَلْفَكَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ {خِلافَكَ} ابْنُ عَامِرٍ وَالْإِخْوَانِ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: (وَنَأَى تَبَاعَدَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أَيْ تَبَاعَدَ.
قَوْلُهُ: (شَاكِلَتُهُ نَاحِيَتُهُ وَهِيَ مِنْ شَكَلْتُهُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ: عَلَى نَاحِيَتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَلَى طَبِيعَتِهِ وَعَلَى حِدَتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَقُولُ عَلَى نَاحِيَتِهِ وَعَلَى مَا يَنْوِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أَيْ عَلَى نَاحِيَتِهِ وَخِلْقَتِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ شَكْلُ هَذَا.
قَوْلُهُ: {صَرَّفْنَا} وَجَّهْنَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أَيْ وَجَّهْنَا وَبَيَّنَّا.
قَوْلُهُ: (حَصِيرًا مَحْبِسًا)
(1)
هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{حَصِيرًا} أَيْ سِجْنًا.
قَوْلُهُ: (قَبِيلًا مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً. وَقِيلَ الْقَابِلَةُ لِأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} مَجَازُ مُقَابَلَةٍ أَيْ مُعَايَنَةٍ، قَالَ الْأَعْشَى:
كَصَرْخَةِ حُبْلَى بَشَّرَتْهَا قَبِيلُهَا
أَيْ قَابِلَتُهَا، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطَ بَعْضُهُمْ تَقْبُلُ وَلَدَهَا بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {قَبِيلا} أَيْ جُنْدًا تُعَايِنُهُمْ مُعَايَنَةً.
قَوْلُهُ: {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} يُقَالُ أَنْفَقَ الرَّجُلُ أَمْلَقَ وَنَفَقَ الشَّيْءِ ذَهَبَ) كَذَا ذَكَرَهُ هُنَا، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أَيْ مِنْ ذَهَابِ مَالٍ، يُقَالُ أَمْلَقَ فُلَانٌ ذَهَبَ مَالُهُ، وَفِي قَوْلِهِ:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أَيْ فَقْرٍ، وَقَوْلُهُ: نَفَقَ الشَّيْءَ ذَهَبَ هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ:{خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} أَيْ خَشْيَةَ أَنْ يُنْفِقُوا فَيَفْتَقِرُوا.
قَوْلُهُ: {قَتُورًا} مُقْتِرًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {لِلأَذْقَانِ} مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ، الْوَاحِدُ ذَقَنٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ قَرِيبًا، وَاللَّحْيَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَيَجُوزِ كَسْرُهَا تَثْنِيَةُ لِحْيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْفُورًا} وَافِرًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: {تَبِيعًا} ثَائِرًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصِيرًا) أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا
(1)
في هامش طبعة بولاق: تقدم ذلك وكتب عليه الشارح، وليس بالمتن الذي بأيدينا.
بِهِ تَبِيعًا} أَيْ ثَائِرًا ; وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثَّأْرِ، يُقَالُ لِكُلِّ طَالِبِ بثَأْرٍ وَغَيْرِهِ تَبِيعٌ وَتَابِعٌ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَيْ لَا تَخَافُ أَنْ تُتْبَعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{تَبِيعًا} قَالَ: نَصِيرًا.
قَوْلُهُ: (لَا تُبَذِّرْ لَا تُنْفِقُ فِي الْبَاطِلِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُبَذِّرْ} لَا تُنْفِقُ فِي الْبَاطِلِ، وَالتَّبْذِيرُ السَّرَفُ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْمُبَذِّرُ الْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ - وَهُوَ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ وَالتَّثْنِيَةِ - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ وَزَادَ فِي بَعْضِهَا كُنَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ التَّبْذِيرَ النَّفَقَةُ فِي غَيْرِ حَقٍّ.
قَوْلُهُ: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ رِزْقٍ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قَالَ: ابْتِغَاءَ رِزْقٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ:{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قَالَ فَضْلًا.
قَوْلُهُ: {مَثْبُورًا} مَلْعُونًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: مَغْلُوبًا، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَالِكًا، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: مُهْلِكًا، وَمِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ قَالَ: مُغَيِّرًا مُبَدِّلًا ; وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَخْبُولًا لَا عَقْلَ لَهُ.
قَوْلُهُ: {فَجَاسُوا} تَيَمَّمُوا) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قَوْلُهُ: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أَيْ فَمَشَوْا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَاسَ يَجُوسُ أَيْ نَقَّبَ، وَقِيلَ: نَزَلَ وَقِيلَ قَتَلَ وَقِيلَ تَرَدَّدَ وَقِيلَ هُوَ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ وَهُوَ بِمَعْنَى نَقَّبَ.
قَوْلُهُ: (يُزْجِي الْفُلْكَ يَجْرِي الْفُلْكَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ (يُزْجِي الْفُلْكَ) أَيْ يُسَيِّرُهَا فِي الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} لِلْوُجُوهِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ لِلْحَيِّ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمَاضِي، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْمَجَازِ.
بَاب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}
4711 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ. حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ: أَمَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الْآيَةَ)
ذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ يَعْنِي بِسَنَدِهِ قَالَ: أَمَرَ، فَالْأَوْلَى بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالثَّانِيَةُ بِفَتْحِهَا وَكِلَاهُمَا لُغَتَانِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ التِّينِ فَتْحَ الْمِيمِ فِي أَمَرَ بِمَعْنَى كَثُرَ، وَغَفَلَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ حَفِظَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ، وَضَبَطَ الْكَرْمَانِيُّ أَحَدُهُمَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَأَثْبَتَهَا أَبُو زَيْدٍ لُغَةً وَأَنْكَرَهَا الْفَرَّاءُ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ فِي آخَرِينَ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِمَا وَاخْتَارَهَا يَعْقُوبُ وَوَجَّهَهَا الْفَرَّاءُ بِمَا وَرَدَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ أَمَرْنَا بِمَعْنَى كَثَّرْنَا إِلَّا بِالْمَدِّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ حَدِيثِ أَفْضَلُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ فَإِنَّهَا ذُكِرَتْ لِلْمُزَاوَجَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَقَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْأمَارَةِ، وَاسْتَشْهَدَ الطَّبَرِيُّ بِمَا أَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قَالَ: سَلَّطْنَا
شِرَارَهَا.
ثُمَّ سَاقَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْأَصْلُ أَمَرْنَا بِالتَّخْفِيفِ أَيْ كَثَّرْنَا كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ النِّتَاجِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَيُقَالُ أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ أَيْ كَثُرُوا وَأَمَّرَهُمُ اللَّهُ كَثَّرَهُمْ وَأَمِرُوا أَيْ كَثُرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ أَمَرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ أَيْ عَظُمَ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَ فِي تَأْوِيلِهَا حَمْلُهَا عَلَى الظَّاهِرِ وَقَالَ: الْمَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، ثُمَّ أَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وَبَالَغَ كَعَادَتِهِ، وَعُمْدَةُ إِنْكَارِهِ أَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي أَيْ أَمَرْتُهُ بِطَاعَتِي فَعَصَانِي، وَكَذَا أَمَرْتُهُ فَامْتَثَلَ.
5 - باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
4712 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أتي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ النَّاسَ، الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عز وجل قَدْ غَضِبَ الْيَوْم غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ، فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيثِ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى.
قَوْلُهُ: بَابُ {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الشَّفَاعَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي شَرْحِهِ فِي الرِّقَاقِ ; وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِيهِ: يَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِي كَوْنِهِ أَوَّلَ الرُّسُلِ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيثِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ دُونَ أَبِي حَيَّانَ اخْتَصَرَ ذَلِكَ، وَأَبُو حَيَّانَ هُوَ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لِمُوسَى عليه السلام، وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ كَانَ نُوحٌ إِذَا طَعِمَ أَوْ لَبِسَ حَمِدَ اللَّهَ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، وَآخَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي فَاطِمَةَ. وَقَوْلُهُ: يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْفَاءِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ أَيْ يَخْرِقُهُمْ وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْفَاءِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْ يُحِيطُ بِهِمْ، وَالذَّالُ مُعْجَمَةٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهُ بِالْمُعْجَمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ، وَمَعْنَاهُ يَبْلُغُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى يُحِيطُ بِهِمُ الرَّائِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِاسْتِوَاءِ الْأَرْضِ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَا يَسْتَتِرُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرَّائِي، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بَصَرُ الرَّحْمَنِ إِذْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ الصَّعِيدُ الْمُسْتَوِي وَغَيْرِهِ، وَيُقَالُ نَفَذَهُ الْبَصَرُ إِذَا بَلَغَهُ وَجَاوَزَهُ، وَالنَّفَاذُ الْجَوَازُ وَالْخُلُوصُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ نَفَذَ السَّهْمُ إِذَا خَرَقَ الرَّمِيَّةَ وَخَرَجَ مِنْهَا.
6 - بَاب {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}
4713 -
حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ القرآن، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ. يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} . ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ لِأَبِي ذَرٍّ الْقِرَاءَةُ وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ مَصْدَرُ الْقِرَاءَةِ لَا الْقُرْآنِ الْمَعْهُودِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِشْبَاعُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
4714 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ:{إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنْ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ، وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِينِهِمْ. زَادَ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}
[الحديث 4714 - طرفه في: 4717]
قَوْلُهُ: بَابُ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى {تَحْوِيلا} .
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ إِلَخْ، وَالْمُرَادُ بِالْوَسِيلَةِ الْقُرْبَةِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ قَتَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِدِينِهِمْ) أَيِ اسْتَمَرَّ الْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ عَلَى عِبَادَةِ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ أَسْلَمُوا، وَهُمُ الَّذِينَ صَارُوا يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَزَادَ فِيهِ وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ قَبَائِلُ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَيَقُولُونَ هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَّا فَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا رَاضِينَ بِعِبَادَتِهِمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا.
(تَنْبِيهٌ): اسْتَشْكَلَ ابْنُ التِّينِ قَوْلُهُ: نَاسًا مِنَ الْجِنِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّاسَ ضِدُّ الْجِنِّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ نَاسٍ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ ذُكِرَ لِلتَّقَابُلِ حَيْثُ قَالَ: نَاسٌ مِنَ الْإِنْسِ وَنَاسًا مِنَ الْجِنِّ، وَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَلَى مَنْ يَعْتَرِضُ.
قَوْلُهُ: (زَادَ الْأَشْجَعِيُّ) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ الرَّحْمَنِ بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَيْ رَوَى الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ
وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَقُولُونَ: نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهُمُ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ.
8 - بَاب {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} الْآيَةَ
4715 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه فِي هَذِهِ الْآيَةِ {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْجِنِّ يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} الْآيَةَ. ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ مُخْتَصَرًا، وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ آلِهَةً يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَدْعُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَوْلُهُ:{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ أَقْرَبُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ بيَدْعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَدْعُونَ. كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فَاعِلَ يَدْعُونَ وَيَبْتَغُونَ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
4716 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَرْئِيِّ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: هُوَ مَا أُرِيَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (أُرِيَهَا لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ وَقَوْلُهُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ جَاءَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، فَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُرِيَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ، وَجَاءَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: فَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَفْعَهُ: إِنِّي أُرِيتُ كَأَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يَتَعَاوَرُونَ مِنْبَرِي هَذَا، فَقِيلَ هِيَ دُنْيَا تَنَالُهُمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَمِنْ مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ وَأَسَانِيدُ الْكُلِّ ضَعِيفَةٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الرُّؤْيَا عَلَى مَا يُرَى بِالْعَيْنِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَقَالُوا: إِنَّمَا يُقَالُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْيَقَظَةِ فَيُقَالُ رُؤْيَةٌ. وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ:
وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَرُدُّ
عَلَى مَنْ خَطَّأَهُ.
قَوْلُهُ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قَالَ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَوَلَدُهُ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الزَّقُّومُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ فِي كِتَابِ النَّبَاتِ: الزَّقُّومُ شَجَرَةٌ غَبْرَاءُ تَنْبُتُ فِي السَّهْلِ صَغِيرَةُ الْوَرَقِ مُدَوَّرَتُهُ لَا شَوْكَ لَهَا، زَفِرَةٌ مُرَّةٌ وَلَهَا نَوْرٌ أَبْيَضُ ضَعِيفٌ تُجَرِّسُهُ النَّحْلُ وَرُءُوسُهَا قِبَاحٌ جِدًّا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يُخْبِرُنَا مُحَمَّدٌ أَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً، وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ، فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الزَّقُّومُ فَعُّولٌ مِنَ الزَّقْمِ وَهُوَ اللَّقْمُ الشَّدِيدُ، وَفِي لُغَةٍ تَمِيمِيَّةٍ: كُلُّ طَعَامِ يُتَقَيَّأُ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ زَقُّومٌ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ طَعَامٍ ثَقِيلٍ.
10 - بَاب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: صَلَاةَ الْفَجْرِ
4717 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَضْلُ صَلَاةِ الجمع عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: صَلَاةُ الْفَجْرِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَزَادَ: يَجْتَمِعُ فيهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
11 - بَاب {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}
4718 -
حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.
4719 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة"، رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَأَوَّلُ مَدْعُوٍّ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ; الْمَهْدِيُّ
مَنْ هَدَيْتَ، عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ، وَبِكَ وَإِلَيْكَ، وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ. فَهَذَا قَوْلُهُ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَأَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الشَّفَاعَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْجَبَّارِ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ، فَيَغْبِطُهُ لِمَقَامِهِ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَمْعِ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ عِبَادُكُ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ. قَالَ: فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحَابِيًّا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ أَخْذُهُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ إِعْطَاؤُهُ لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَقِيلَ جُلُوسُهُ عَلَى الْعَرْشِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ شَفَاعَتُهُ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ هُوَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ) هُوَ الْعِجْلِيُّ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ بَعْضِ مَنْ أُبْهِمَ هُنَا بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَقَوْلُهُ: جُثًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّنْوِينِ جَمْعُ جُثْوَةٍ كَخُطْوَةٍ وَخُطًا، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ جِثِيٌّ بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ جَاثٍ وَهُوَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى رُكْبَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ الْخَشَّابِ: إِنَّمَا هُوَ جُثَّى بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِهَا جَمْعُ جَاثٍ مِثْلُ غَازٍ وَغُزَّى.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي الزَّكَاةِ فَيَشْفَعَ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4719 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عُمَرَ (عَنْ أَبِيهِ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ.
12 - بَاب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} يَزْهَقُ: يَهْلِكُ
4720 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}
قَوْلُهُ: بَابُ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ. يَزْهَقُ يَهْلَكُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَتَزْهَقُ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَارِهُونَ أَيْ تَخْرُجُ وَتَمُوتُ وَتَهْلَكُ، وَيُقَالُ: زَهَقَ مَا عِنْدَكَ أَيْ ذَهَبَ كُلُّهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أَيْ ذَاهِبًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ (زَهَقَ الْبَاطِلُ) أَيْ هَلَكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ) كَذَا لَهُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَأَوَّلُهُ فِي قِصَّةِ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِسِيَةِ الْقَوْسِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةٍ نُصُبٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ لَكِنْ بِلَفْظِ صَنَمٌ وَالْأَوْجَهُ نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ إِذْ لَوْ كَانَ مَرْفُوعًا لَكَانَ صِفَةً، وَالْوَاحِدُ لَا يَقَعُ صِفَةً لِلْجَمْعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ لَكِنَّهُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى بَعْضِ اللُّغَاتِ.
13 - بَاب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}
4721 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَقَالَ: مَا رَابكُمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}
قَوْلُهُ: بَابُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ إِبْرَاهِيمَ - وَهُوَ النَّخَعِيُّ - عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (فِي حَرْثٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَضَبَطُوهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَبِالْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ وكَانَ فِي نَخْلٍ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي حَرْثٍ لِلْأَنْصَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ، لَكِنْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلْ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . وَرِجَالُهُ رِجَالُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَتَعَدَّدَ النُّزُولُ بِحَمْلِ سُكُوتِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى تَوَقُّعِ مَزِيدِ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ سَاغَ هَذَا وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (يَتَوَكَّأُ) أَيْ يَعْتَمِدُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى عَسِيبٍ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَهِيَ الْجَرِيدَةُ الَّتِي لَا خُوصَ فِيهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ وَمَعَهُ جَرِيدَةٌ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعُسْبَانُ مِنَ النَّخْلِ كَالْقُضْبَانِ مِنْ غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ) كَذَا فِيهِ الْيَهُودُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِصَامِ وَالتَّوْحِيدِ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ إِذْ مَرَرْنَا عَلَى يَهُودَ وَيُحْمَلُ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ تَلَاقَوْا فَيَصْدُقُ أَنَّ كُلًّا مَرَّ بِالْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: يَهُودَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرِفَةٌ تَدْخُلُهُ اللَّامُ تَارَةً وَتَارَةً يَتَجَرَّدُ، وَحَذَفُوا مِنْهُ يَاءَ النِّسْبَةِ فَفَرَّقُوا بَيْنَ مُفْرَدِهِ وَجَمْعِهِ كَمَا قَالُوا زِنْجٌ وَزِنْجِيٌّ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ.
قَوْلُهُ: (مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الرَّيْبِ، وَيُقَالُ فِيهِ رَابَهُ كَذَا وَأَرَابَهُ كَذَا بِمَعْنًى، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَابَهُ إِذَا عَلِمَ
مِنْهُ الرَّيْبَ، وَأَرَابَهُ إِذَا ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ. وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ بِهَمْزَةٍ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الرَّأْبِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ، يُقَالُ فِيهِ رَأَبَ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُمْ. وَفِي تَوْجِيهِهِ هُنَا بُعْدٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّوَابُ مَا أَرَبَكُمْ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحَتَيْنِ مِنَ الْأَرَبِ وَهُوَ الْحَاجَةُ، وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى لَوْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ. نَعَمْ رَأَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ الْمَسْعُودِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَابِسِيِّ كَرِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، لَكِنْ بِتَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الرَّأْيِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ) فِي رِوَايَةِ الْعِلْمِ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ وَفِي الِاعْتِصَامِ لَا يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ وَهِيَ بِمَعْنًى، وَكُلُّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَيَجُوزُ السُّكُونُ وَكَذَا النَّصْبُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا سَلُوهُ) فِي رِوَايَةِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنسْأَلَنَّهُ وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ.
قَوْلُهُ: (فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ) فِي رِوَايَةِ التَّوْحِيدِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ وَفِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ رُوحُ الْإِنْسَانِ، الثَّانِي رُوحُ الْحَيَوَانِ، الثَّالِثُ جِبْرِيلُ، الرَّابِعُ عِيسَى، الْخَامِسُ الْقُرْآنُ، السَّادِسُ الْوَحْيُ، السَّابِعُ مَلَكٌ يَقُومُ وَحْدَهُ صَفًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الثَّامِنُ مَلَكٌ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ وَوَجْهٍ وَقِيلَ مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، وَقِيلَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ فِي كُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ لِكُلِّ لِسَانٍ أَلْفُ لُغَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، يَخْلُقُ اللَّهُ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ مَلَكٌ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى وَرَأْسُهُ عِنْدَ قَائِمَةِ الْعَرْشِ، التَّاسِعُ خَلْقٌ كَخَلْقِ بَنِي آدَمَ يُقَالُ لَهُمُ الرُّوحُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا نَزَلَ مَعَهُ، وَقِيلَ بَلْ هُمْ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا بِزِيَادَاتٍ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا اجْتَمَعَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى لَفْظِ الرُّوحِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ، لَا خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ.
فَمِنَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} ، {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} ، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} فَالْأَوَّلُ جِبْرِيلُ، وَالثَّانِي الْقُرْآنُ، وَالثَّالِثُ الْوَحْيُ، وَالرَّابِعُ الْقُوَّةُ، وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ مُحْتَمِلٌ لِجِبْرِيلَ وَلِغَيْرِهِ. وَوَقَعَ إِطْلَاقُ رُوحِ اللَّهِ عَلَى عِيسَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرُّوحُ مِنَ اللَّهِ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَصُوَرٌ كَبَنِي آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرُّوحِ. وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَسِّرُ الرُّوحَ، أَيْ لَا يُعَيِّنُ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَكَوْا فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا: قِيلَ سَأَلُوهُ عَنْ جِبْرِيلَ، وَقِيلَ عَنْ مَلَكٍ لَهُ أَلْسِنَةٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ. وَقَالَ أَهْلُ النَّظَرِ: سَأَلُوهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَسْلَكِ الرُّوحِ فِي الْبَدَنِ وَامْتِزَاجِهِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّاجِحُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ رُوحِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا تَعْتَرِفُ بِأَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَلَا تَجْهَلُ أَنَّ جِبْرِيلَ مَلَكٌ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الرُّوحِ يَحْتَمِلُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَهَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ أَمْ لَا، وَهَلْ هِيَ حَالَّةٌ فِي مُتَحَيِّزٍ أَمْ لَا، وَهَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ، وَهَلْ تَبْقَى بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الْجَسَدِ أَوْ تَفْنَى، وَمَا حَقِيقَةُ تَعْذِيبِهَا وَتَنْعِيمِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا. قَالَ: وَلَيْسَ فِي السُّؤَالِ مَا يُخَصِّصُ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي، إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَهَلِ الرُّوحُ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ وَالْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُغَايِرٌ لِلطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاطِ وَتَرْكِيبِهَا، فَهُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِمُحْدِثٍ
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُنْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَوْجُودَةٌ مُحْدَثَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ، وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِي إِفَادَةِ الْحَيَاةِ لِلْجَسَدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا الْمَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الْفِعْلَ، كَقَوْلِهِ:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أَيْ فِعْلُهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ الرُّوحَ مِنْ فِعْلِ رَبِّي، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ سَكَتَ السَّلَفُ عَنِ الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّعَمُّقِ فِيهَا اهـ.
وَقَدْ تَنَطَّعَ قَوْمٌ فَتَبَايَنَتْ أَقْوَالُهُمْ، فَقِيلَ: هِيَ النَّفَسُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ، وَقِيلَ الْحَيَاةُ، وَقِيلَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَحِلُّ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ، وَقِيلَ هِيَ عَرَضٌ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ الْأَقْوَالَ فِيهَا بَلَغَتْ مِائَةً. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ، وَأَنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ثَلَاثَةً، وَلِكُلِّ حَيٍّ وَاحِدَةً. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ وَالنَّفْسِ، فَقِيلَ مُتَغَايِرَانِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقِيلَ هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالرُّوحِ عَنِ النَّفْسِ وَبِالْعَكْسِ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنِ النَّفْسِ بِالْقَلْبِ وَبِالْعَكْسِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الرُّوحِ بِالْحَيَاةِ حَتَّى يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بَلْ إِلَى الْجَمَادِ مَجَازًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ جَعْلُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ وَلَوْلَا التَّغَايُرُ لَسَاغَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَيْهِ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَةِ الْعِلْمِ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ وَأَنَا خَلْفَهُ.
قَوْلُهُ: (فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ التَّوْحِيدِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَفِي الِاعْتِصَامِ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ، وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الظَّنِّ مَشْهُورٌ، وَكَذَا إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَامَ وَحَنَى مِنْ رَأْسِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَقُمْتُ مَقَامِي) فِي رِوَايَةِ الِاعْتِصَامِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ أَيْ أَدَبًا مَعَهُ لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ بِقُرْبِي مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ) فِي رِوَايَةِ الِاعْتِصَامِ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ فَقَالَ وَفِي رِوَايَةِ الْعِلْمِ فَقُمْتُ فَلَمَّا انْجَلَى.
قَوْلُهُ: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَأَنَّ الرُّوحَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّ بِعِلْمِهِ وَلَا سُؤَالَ لِأَحَدٍ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، وَالْأَمْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَأْمُورِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمِنْهُ {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الرُّوحِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بِدَلِيلِ هَذَا الْخَبَرِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي إِبْهَامِهِ اخْتِبَارُ الْخَلْقِ لِيُعَرِّفَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنْ عِلْمِ مَا لَا يُدْرِكُونَهُ حَتَّى يَضْطَرَّهُمْ إِلَى رَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إِظْهَارُ عَجْزِ الْمَرْءِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ نَفْسِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِوُجُودِهِ كَانَ عَجْزُهُ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَجَنَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ إِلَى تَرْجِيحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} قَالَ: وَأَمَّا أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَقَعْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا نَفْسًا. كَذَا قَالَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا رَجَّحَهُ، بَلِ الرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا عَنِ الرُّوحِ: وَكَيْفُ يُعَذَّبُ الرُّوحُ الَّذِي فِي الْجَسَدِ، وَإِنَّمَا الرُّوحُ مِنَ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْلِعْ نَبِيَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ الرُّوحِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَعَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنَّهُ يُطْلِعُهُمْ، وَقَدْ قَالُوا فِي عِلْمِ السَّاعَةِ نَحْوَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ رَأَى الْإِمْسَاكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الرُّوحِ أُسْتَاذُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ فَقَالَ فِيمَا نَقَلَهُ فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلَامَ النَّاسِ فِي الرُّوحِ: وَكَانَ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْجُنَيْدِ
أَنَّهُ قَالَ: الرُّوحُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْجُودٍ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَجَمْعٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَأَجَابَ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْهَا سُؤَالَ تَعْجِيزٍ وَتَغْلِيطٍ لِكَوْنِهِ يُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ فَأَضْمَرُوا أَنَّهُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَجَابَ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا الْمُرَادَ، فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُمْ، وَأَجَابَهُمْ جَوَابًا مُجْمَلًا مُطَابِقًا لِسُؤَالِهِمُ الْمُجْمَلِ.
وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي الْعَوَارِفِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَاضَ فِيهَا سَلَكَ سَبِيلَ التَّأْوِيلِ لَا التَّفْسِيرِ، إِذْ لَا يَسُوغُ التَّفْسِيرُ إِلَّا نَقْلًا، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَتَمْتَدُّ الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِالْبَاعِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ ذِكْرُ مَا لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا بِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، فَمِنْ ثَمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ، قَالَ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْمَنْعُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهَا لِخَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} أَيِ اجْعَلُوا حُكْمَ الرُّوحِ مِنَ الْكَثِيرِ الَّذِي لَمْ تُؤْتَوْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَسْرَارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْرُ رَبِّي كَوْنُ الرُّوحِ مِنْ عَالِمِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَالَمُ الْمَلَكُوتِ، لَا عَالَمُ الْخَلْقِ الَّذِي هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَدْ خَالَفَ الْجُنَيْدَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ فَأَكْثَرُوا مِنَ الْقَوْلِ فِي الرُّوحِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَعَابَ مَنْ أَمْسَكَ عَنْهَا. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الرُّوحِ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْإِمَامِ الْمُطَّلِعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَهْدِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ الْقَوْلُ بِقِدَمِهَا عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ تَفْنَى عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ قَبْلَ الْبَعْثِ أَوْ تَسْتَمِرُّ بَاقِيَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ أَنَّ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ رُوحَ بَنِي آدَمَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، فَقَالُوا: نَسْأَلُهُ، فَإِنْ فَسَّرَهَا فَهُوَ نَبِيٌّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يَجِيءُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَالُوا: هَكَذَا نَجِدُهُ عِنْدَنَا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْإِسْنَادِ عَلْقَمَةُ.
قَوْلُهُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا، وَكَذَا لَهُمْ فِي الِاعْتِصَامِ، وَلِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا وَمَا أُوتُوا وَكَذَا لَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَزَادَ قَالَ الْأَعْمَشُ: هَكَذَا قِرَاءَتُنَا وَبَيَّنَ مُسْلِمٌ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ عَنِ الْأَعْمَشِ فِيهَا، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَعْنِي بِلَفْظِ وَمَا أُوتُوا وَلَا مَانِعَ أَنْ يَذْكُرَهَا بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ (وَمَا أُوتِيتُمْ) وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْيَهُودُ فَتَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ. نَعَمْ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ عِلْمِ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْبَابِ إنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَمِعُوا مَا قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا فَنَزَلَتْ:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا قَلِيلًا) هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ إِلَّا عِلْمًا قَلِيلًا، أَوْ مِنَ الْإِعْطَاءِ قَلِيلًا، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ أَوِ الْغَائِبِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْكُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا سَبَقَ جَوَازُ سُؤَالِ الْعَالِمِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَمَشْيِهِ إِذَا كَانَ لَا يُثْقِلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَأَدَبُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَمَلُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَالتَّوَقُّفُ عَنِ الْجَوَابِ بِالِاجْتِهَادِ لِمَنْ يَتَوَقَّعُ النَّصَّ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعْلُومَاتِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْأَمْرَ يَرِدُ لِغَيْرِ الطَّلَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
14 - بَاب {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا}
4722 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ،
كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} .
4723 -
حَدَّثَنِي طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاء"
[الحديث 4723 - طرفاه في: 6327، 7526]
قَوْلُهُ: بَابُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، وَذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ يُونُسُ بَدَلَ قَوْلِهِ أَبُو بِشْرٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: لَمْ يُخَرِّجْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ إِلَّا مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ. قُلْتُ: يُرِيدُ فِي الْأُصُولِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هُشَيْمًا مَذْكُورٌ بِتَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا وَصَلَهُ هُشَيْمٌ وَأَرْسَلَهُ شُعْبَةُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُشَيْمٍ مُفَصَّلًا.
قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَأَسْمَعَ الْمُشْرِكِينَ فَآذَوْهُ وَفَسَّرَتْ رِوَايَةُ الْبَابِ الْأَذَى بِقَوْلِهِ: سَبُّوا الْقُرْآنَ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالُوا لَهُ: لَا تَجْهَرْ فَتُؤْذِيَ آلِهَتَنَا فَنَهْجُوَ إِلَهَكَ وَمِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِذَا خَفَضَ صَوْتَهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ قِرَاءَتَهُ فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ) وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ (لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أَيْ لَا تُعْلِنْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِعْلَانًا شَدِيدًا فَيَسْمَعَكَ الْمُشْرِكُونَ فَيُؤْذُونَكَ، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أَيْ لَا تَخْفِضْ صَوْتَكَ حَتَّى لَا تُسْمِعَ أُذُنَيْكَ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} أَيْ طَرِيقًا وَسَطًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا طَلْقٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ (ابْنُ غَنَّامٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَهُوَ النَّخَعِيُّ، مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَلِيلَةٌ. وَشَيْخُهُ زَائِدَةُ هُوَ ابْنُ قُدَامَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) تَابَعَهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَرْسَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الإسْكَنْدَرَانِي، عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَلِكَ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ.
قَوْلُهُ: (أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ) هَكَذَا أَطْلَقَتْ عَائِشَةُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْعُمَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ فَزَادَ فِي الْحَدِيثِ فِي التَّشَهُّدِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ قَالَ: كَانَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِذَا سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مَالًا وَوَلَدًا وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَخْرَجًا.
ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّهَا فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْمٌ إِنَّهَا فِي الدُّعَاءِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ بْنِ سِوَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدٍ، وَمَكْحُولٍ مِثْلَهُ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرَهُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، لَكِنْ
يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عِنْدَ الْبَيْتِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ، فَنَزَلَتْ وَجَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ، مِنْهَا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ صَحَابِيٍّ لَمْ يُسَمِّ رَفْعُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي دُعَائِكَ فَتَذْكُرُ ذُنُوبَكَ فَتُعَيَّرُ بِهَا وَمِنْهَا مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ لَا تُصَلِّ مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أَيْ لَا تَتْرُكْهَا مَخَافَةً مِنْهُمْ. وَمِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْلَا أَنَّنَا لَا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ نَهَارًا {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أَيْ لَيْلًا، وَكَانَ ذَلِكَ وَجْهًا لَا يَبْعُدُ مِنَ الصِّحَّةِ، انْتَهَى. وَقَدْ أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا. وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الدُّعَاءِ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْكَهْفِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
18 - سُورَةُ الْكَهْفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ، {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمَاعَةُ الثَّمَرِ، {بَاخِعٌ} مُهْلِكٌ، {أَسَفًا} نَدَمًا، الْكَهْفُ: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ: الْكِتَابُ، {مَرْقُومٌ} مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ، {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا، {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ، {شَطَطًا} إِفْرَاطًا، الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ، جَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ، {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ، آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ. {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ، {أَزْكَى} أَكْثَرُ، وَيُقَالُ: أَحَلُّ، وَيُقَالُ: أَكْثَرُ رَيْعًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} لَمْ تَنْقُصْ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ: اللَّوْحُ مِنْ رَصَاصٍ، كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ فِي خِزَانَتِهِ. فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ: فَنَامُوا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَأَلَتْ تَئِلُ: تَنْجُو. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْئِلا} مَحْرِزًا، {لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لَا يَعْقِلُونَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ (تَقْرِضُهُمْ) تَتْرُكُهُمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَسَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَ الْفَرَّاءُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ ثُمُرٌ ثم بِالضَّمِّ فَهُوَ الْمَالُ، وَمَا كَانَ بِالْفَتْحِ فَهُوَ النَّبَاتُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمَاعَةُ الثَّمَرُ) كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ قَتَادَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الثَّمَرُ الْمَالُ كُلُّهُ، وَكُلُّ مَالٍ إِذَا اجْتَمَعَ فَهُوَ ثَمَرٌ إِذَا كَانَ مِنْ لَوْنِ الثَّمَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ (ثَمَرً) يَعْنِي بِفَتْحَتَيْنِ وَقَالَ: يُرِيدُ أَنْوَاعَ الْمَالِ، انْتَهَى. وَالَّذِي قَرَأَ هُنَا بِفَتْحَتَيْنِ عَاصِمٌ، وَبِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ أَبُو عَمْرٍو، وَالْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: جَمَاعَةُ الثَّمَرِ أَنَّ ثَمَرَةً يُجْمَعُ عَلَى ثِمَارٍ، وَثِمَارٌ عَلَى ثُمُرٍ.
قَوْلُهُ: (بَاخِعٌ مُهْلِكٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَنْشَدَ لِذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ.
قَوْلُهُ: (أَسِفًا نَدَمًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَزِنًا.
قَوْلُهُ: (الْكَهْفُ الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ الْكِتَابُ، مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ) تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مَشْرُوحًا.
قَوْلُهُ: (أَمَدًا غَايَةً، طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:(أَمَدًا) قَالَ: عَدَدًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعِيدُ - يَعْنِي ابْنَ جُبَيْرٍ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ فِي خِزَانَتِهِ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُطَوَّلًا، وَقَدْ لَخَّصْتُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَعْرِفُ الرَّقِيمَ، ثُمَّ سَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ لِي هِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أَيْ وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ هَذَا الْمَوْضِعُ، ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا وَإِنَّمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:{لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بِالْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (مِرْفَقًا كُلُّ شَيْءٍ ارْتَفَقْتُ بِهِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَيَقْرَؤهُ قَوْمٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ انْتَهَى. وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ عَامِرٍ. وَاخْتُلِفَ هَلْ هُمَا بِمَعْنًى أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ لِلْجَارِحَةِ وَبِفَتْحِهَا لِلْأَمْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَقِيلَ لُغَتَانِ فِيمَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَأَمَّا الْجَارِحَةُ فَبِالْكَسْرِ فَقَطْ وَقِيلَ لُغَتَانِ فِي الْجَارِحَةِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَوْضِعُ كَالْمَسْجِدِ، وَبِكَسْرِهَا الْجَارِحَةُ.
قَوْلُهُ: (تَزَّاوَرُ مِنَ الزُّورِ، وَالْأَزْوَرُ الْأَمْيَلُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (فَجْوَةٌ مُتَّسِعٌ وَالْجَمْعُ فَجَوَاتٍ وَفِجًى، كَقَوْلِكَ زَكَوَاتٌ وَزَكَاةٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (شَطَطًا إِفْرَاطًا، الْوَصِيدُ الْفِنَاءُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ كُلُّهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (بَعَثْنَاهُمْ أَحْيَيْنَاهُمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَوْلَادُ مُلُوكٍ اعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ فِي الْكَهْفِ فَاخْتَلَفُوا فِي بَعْثِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَقَالَ قَائِلٌ يُبْعَثَانِ، وَقَالَ قَائِلٌ: تُبْعَثُ الرُّوحُ فَقَطْ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الْأَرْضُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
قَوْلُهُ: (أَزْكَى أَكْثَرُ، وَيُقَالُ أَحَلُّ، وَيُقَالُ أَكْثَرُ رِيعًا) تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحَلُّ ذَبِيحَةٍ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ مِنْ قَوْلِهِ: الْكَهْفُ الْفَتْحُ إِلَى هُنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِتَقْدِيمِ جُلِّ ذَلِكَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَظْلِمْ لَمْ يَنْقُصْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَوْئِلًا مُحْرِزًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:(مَوْئِلًا) قَالَ: مَلْجَأً، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: هُوَ مِنْ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ، وَأَصْلُ الْمَوْئِلِ الْمَرْجِعُ.
قَوْلُهُ: (وَأَلَتْ تَئِلُ تَنْجُو) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (مَوْئِلًا): مَلْجَأٌ ومَنْجَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا وَأَلَتْ نَفْسٌ عَلَيْهَا تُحَاذِرُ
أَيْ لَا نَجَتْ.
قَوْلُهُ: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أَيْ (لَا يَعْقِلُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.
1 - بَاب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا}
4724 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ،
قَالَ: أَلَا تُصَلِّيَانِ. {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ. {فُرُطًا} نَدَمًا. {سُرَادِقُهَا} مِثْلُ السُّرَادِقِ، وَالْحُجْرَةِ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفَسَاطِيطِ، {يُحَاوِرُهُ} مِنْ الْمُحَاوَرَةِ، {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ لَكِنْ أَنَا {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ وَأَدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى، {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} تقُولُ بَيْنَهُمَا نهرا، {زَلَقًا} لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ، {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ} مَصْدَرُ ولي الْوَلِيِّ ولاء، {عُقْبًا} عَاقِبَةً، وَعُقْبَى وَعُقْبَةً وَاحِدٌ وَهِيَ الْآخِرَةُ، {قُبُلا} وَقُبُلًا وَقَبَلًا: اسْتِئْنَافًا، {لِيُدْحِضُوا} لِيُزِيلُوا، الدَّحْضُ الزَّلَقُ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ مُخْتَصَرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَقْصُودَ الْبَابِ عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّعْمِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: أَلَا تُصَلِّيَانِ زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَالْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ أَكْثَرُ شَيْءٍ جَدَلًا.
قَوْلُهُ: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ: لَمْ يَسْتَبِنْ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلِقَتَادَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) قَالَ: قَذْفًا بِالظَّنِّ.
قَوْلُهُ: (فُرُطًا نَدَمًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ فِي قَوْلِهِ: (فُرُطًا) قَالَ: نَدَامَةً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أَيْ تَضْيِيعًا وَإِسْرَافًا. وَلِلطَّبَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ضَيَاعًا. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِهْلَاكًا. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
قَوْلُهُ: (سُرَادِقُهَا مِثْلُ السُّرَادِقِ وَالْحُجْرَةِ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفَسَاطِيطِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَكِنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} كَسُرَادِقِ الْفُسْطَاطِ، وَهِيَ الْحُجْرَةُ الَّتِي تَطُوفُ بِالْفُسْطَاطِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودٌ
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ قَالَ: سُرَادِقُهَا حَائِطٌ مِنْ نَارٍ.
قَوْلُهُ: (يُحَاوِرُهُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُحَاوِرُهُ أَيْ يُكَلِّمُهُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ أَيِ الْمُرَاجَعَةِ.
قَوْلُهُ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، ثُمَّ حُذِفَ الْأَلِفُ وَأُدْغِمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَرْكَ الْأَلِفَ مِنْ أَنَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ ثُمَّ أُدْغِمَتْ نُونُ أَنَا فِي نُونِ لَكِنْ، وَأَنْشَدَ:
وَتَرْمُقُنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ
…
وَتَقْلِينَنِي لَكِنْ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي
أَيْ لَكِنْ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْلِي. قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُشْبِعُ أَلِفَ أَنَا فَجَاءَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ.
قَوْلُهُ: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} تَقُولُ بَيْنَهُمَا) ثَبَتَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ، وَيَعْقُوبَ، وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ مَصْدَرُ وَلِيَ الْوَلِيُّ وَلَاءً) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ مَصْدَرُ الْوَلْيِ وَهُوَ أَصْوَبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْأَخَوَانِ بِكَسْرِهَا، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَصْمَعِيُّ لِأَنَّ الَّذِي بِالْكَسْرِ الْإِمَارَةُ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْكَسْرُ لُغَةٌ بِمَعْنَى الْفَتْحِ، كَالدَّلَالَةِ بِفَتْحِ دَالِهَا وَكَسْرِهَا بِمَعْنًى.
(تَنْبِيهٌ): يَأْتِي قَوْلُهُ: (خَيْرٌ عُقْبًا) فِي الدَّعَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (قِبَلًا وَقُبُلًا وَقَبَلًا اسْتِئْنَافًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} أَيْ أَوَّلًا، فَإِنْ فَتَحُوا أَوَّلُهَا فَالْمَعْنَى اسْتِئْنَافًا، وَغَفَلَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لِلِاسْتِئْنَافِ هُنَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِقْبَالًا، وَهُوَ يَعُودُ عَلَى قَبْلًا بِفَتْحِ الْقَافِ، انْتَهَى. وَالْمُؤْتَنَفُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُقْبِلِ فَلَا مَعْنَى لِادِّعَاءِ تَفْسِيرِهِ.
قَوْلُهُ:
(لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلُوا، الدَّحْضُ الزَّلَقُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أَيْ لِيُزِيلُوا، يُقَالُ: مَكَانٌ دَحَضٌ أَيْ مُزِلٌّ مُزْلِقٌ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خُفٌّ وَلَا حَافِرٌ.
2 - بَاب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} زَمَانًا وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ
4725 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ.
فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ، قَالَ مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا. فَقَالَ مُوسَى:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا. قَالَ:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ.
فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ. فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي
بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا؟ قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى.
{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قَالَ: مَائِلٌ - فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} إِلَى قَوْلِهِ:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ - صَالِحَةٍ - غَصْبًا، وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ - كَافِرًا وَكَانَ - أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ. قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} اخْتُلِفَ فِي مَكَانِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَحْرُ فَارِسٍ وَالرُّومِ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُمَا الْكَرُّ وَالرَّسُّ حَيْثُ يَصُبَّانِ فِي الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ ذِرَاعٌ فِي أَرْضِ فَارِسٍ مِنْ جِهَةِ أَذْرَبِيجَانَ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شِمَالَيْهِ إِلَى جَنُوبَيْهِ وَطَرَفَيْهِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ. وَقِيلَ هُمَا بَحْرُ الْأُرْدُنِّ وَالْقَلْزَمِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ بِطَنْجَةَ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ بَعْضُهُمْ: بَحْرُ أَرْمِينِيَّةَ.
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بِإِفْرِيقِيَةَ. أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ لَكِنِ السَّنَدَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ضَعِيفٌ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُرَادُ الْبَحْرَيْنِ اجْتِمَاعُ مُوسَى وَالْخَضِرِ لِأَنَّهُمَا بَحْرَا عِلْمٍ، وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ يُذْكَرَ فِي مُنَاسَبَةِ اجْتِمَاعِهِمَا بِهَذَا الْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ، كَمَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ: اجْتَمَعَ الْبَحْرَانِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} زَمَانًا، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا حِقْبَةٌ أَيْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَالْجَمْعُ حِقَبٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْحِقَبُ الزَّمَانُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحِقَبُ الدَّهْرُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْحِقَبُ الْحِينُ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَجَاءَ تَقْدِيرُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَبْعُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
3 - بَاب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} مَذْهَبًا يَسْرُبُ: يَسْلُكُ، وَمِنْهُ {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}
4726 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ، إِذْ قَالَ: سَلُونِي. قُلْتُ: أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ: نَوْفٌ، يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي: قَالَ: قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:، حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام. قَالَ: ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا، حَتَّى إِذَا فَاضَتْ الْعُيُونُ وَرَقَّتْ الْقُلُوبُ وَلَّى، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا. فَعَتَبَ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ. قِيلَ: بَلَى. قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَأَيْنَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، اجْعَلْ لِي عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ منه. فَقَالَ لِي عَمْرٌو: قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ. وَقَالَ لِي يَعْلَى: قَالَ: خُذْ نُونًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ. قَالَ: مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونٍ - لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ - قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ، حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ. قَالَ لِي عَمْرٌو: هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ - وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا - {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ: قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ - لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ - أَخْبَرَهُ، فَرَجَعَا، فَوَجَدَا خَضِرًا، قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا. أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى؟ إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ. فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ، فقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ.
حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ - قَالَ: قُلْنَا لِسَعِيدٍ:، خَضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ - لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ، فَخَرَقَهَا، وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا. قَالَ مُوسَى:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} - قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكَرًا - قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ؟ كَانَتْ
الْأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا. قَالَ:{لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي} عُسْرًا. لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ. قَالَ يَعْلَى: قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ. قَالَ:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً، كَقَوْلِكَ غُلَامًا زَكِيًّا، فَانْطَلَقَا، فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ، قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ، قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتَقَامَ. {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} وَكَانَ أَمَامَهُمْ - قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ - مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ، وَالْغُلَامُ الْمَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ حيْسُورٌ. {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْقَارِ.
كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} لِقَوْلِهِ:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} ، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ، وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً، وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ. قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ (فَلَمَّا بَلَغَ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتِّلَاوَةِ.
قَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} سَرَبًا: مَذْهَبًا، يَسْرَبُ يَسْلُكُ. وَمِنْهُ:{وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أَيْ مَسْلَكًا وَمَذْهَبًا يَسْرَبُ فِيهِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ:(وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ): سَالِكٌ فِي سَرَبِهِ أَيْ مَذْهَبِهِ، وَمِنْهُ أَصْبَحَ فُلَانٌ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، وَمِنْهُ انْسَرَبَ فُلَانٌ إِذَا مَضَى.
قَوْلُهُ: (يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ) يُسْتَفَادُ بَيَانُ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنَ الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَطْ وَهُوَ أَحَدُ شَيْخَيِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ) أَيْ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَعَدَّاهُ بِغَيْرِ الْبَاءِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُحَدِّثُ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَقَدْ عَيَّنَ ابْنُ جُرَيْجٍ بَعْضَ مَنْ أَبْهَمَهُ كَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرَوَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ مَشَايِخِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُرْمُزَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَرِوَايَتُهُ فِي السِّيرَةِ الْكُبْرَى لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَسَأَذْكُرُ بَيَانَ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِذْ قَالَ: سَلُونِي) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الْعَالِمِ ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ إِذَا أُمِنَ الْعُجْبُ أَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ كَخَشْيَةِ نِسْيَانِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ) هِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ: (جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ بِالْكُوفَةِ رَجُلًا قَاصًّا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ بِحَذْفِ إِنَّ مِنْ أَوَّلِهِ، وَالْقَاصُّ بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ الَّذِي يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ
بَعْدَهَا فَاءٌ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ إنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مُخَفَّفًا وَبَعْدَ الْأَلِفِ لَامٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَاسْمُ أَبِيهِ فَضَالَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي بِكَالِ بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفٍ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقِيلَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَدُوقٌ. وَفِي التَّابِعِينَ جَبْرٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ابْنُ نَوْفِ الْبَكِيلِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُخَفَّفًا بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ بَعْدَهَا لَامٌ مَنْسُوبٌ إِلَى بَكِيلِ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، وَيُكَنَّى أَبَا الْوَدَّاكِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَلَدُ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ فَقَدْ وَهِمَ.
قَوْلُهُ: (يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ مُوسَى الَّذِي طَلَبَ الْعِلْمَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا أَيِ ابْنُ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ عليه السلام، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنْهُ يَا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَعَارُضٌ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ سَعِيدًا أَبْهَمَ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، لَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: أَكَذَاكَ يَا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا سَمِعْتُهُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأِ: كَانَ مُوسَى بْنُ مِيشَا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ الَّذِي صَحِبَ الْخَضِرَ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا عَمْرٌو) ابْنُ دِينَارٍ (قَالَ لِي: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ) أَرَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ دُونَ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ سُفْيَانَ رَوَاهَا أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ كَمَا مَضَى، وَسَقَطَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ. وَقَوْلُهُ: كَذَبَ، وَقَوْلُهُ: عَدُوُّ اللَّهِ مَحْمُولَانِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ تَصْدِيقِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَارَتْ أَوَّلًا بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ الْفَزَارِيِّ وَسَأَلَا عَنْ ذَلِكَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، لَكِنْ لَمْ يُفْصِحْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِبَيَانِ مَا تَنَازَعَا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (قَالَ: ذَكَّرَ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ وَعَظَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (فَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ). وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَآلَاءُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ) يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا الْقَدرَ مِنْ زِيَادَةِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو وَهُوَ أَثْبَتُ النَّاسِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَاعِظَ إِذَا أَثَّرَ وَعْظُهُ فِي السَّامِعِينَ فَخَشَعُوا وَبَكَوْا يَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ لِئَلَّا يَمَلُّوا.
قَوْلُهُ: (فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ وَتَوَجَّهَ، وَرِوَايَةُ سُفْيَانَ تُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْخُطْبَةِ، لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: قَامَ خَطِيبًا فَخَطَبَ فَفَرَغَ فَتَوَجَّهَ فَسُئِلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ وَمُوسَى بَعْدُ لَمْ يُفَارِقِ الْمَجْلِسَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُنَازَعَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا وَبَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَرْقٌ،
لِأَنَّ رِوَايَةَ سُفْيَانَ تَقْتَضِي الْجَزْمَ بِالْأَعْلَمِيَّةِ لَهُ وَرِوَايَةَ الْبَابِ تَنْفِي الْأَعْلَمِيَّةَ عَنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى احْتِمَالُ الْمُسَاوَاةِ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْبَابِ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا وَأَعْلَمَ مِنِّي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ عِنْدَ مَنْ هُوَ، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ الْبَحْثُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْعِلْمِ، وَوَقَعَ هُنَا فَعُتِبَ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: قِيلَ بَلَى وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَفِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ إنَّ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، قَالَ: مَنْ هُوَ وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: الْخَضِرُ، تَلْقَاهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَذَكَرَ لَهُ حِلْيَتَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَكَانَ مُوسَى حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ فَضْلِ عِلْمِهِ أَوْ ذَكَرَهُ عَلَى مِنْبَرِهِ وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ شَرْحُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَبَيَانُ مَا فِيهَا مِنْ إِشْكَالٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَوْفًى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ إنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ آتَيْتُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ أُوتِكَ وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ أَيْضًا. وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ وَلَفْظُهُ لَمَّا أُوتِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ أَنْ قَالَ مَنْ أَعْلَمُ مِنِّي وَنَحْوَهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَلَفْظُهُ قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَبْلَغَ فِي الْخُطْبَةِ، فَعَرَضَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ مَا أُوتِيَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ قَالَ: يَا رَبُّ فَكَيْفَ لِي بِهِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: فَادْلُلْنِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى أَتَعَلَّمَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (اجْعَلْ لِي عَلَمًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ أَيْ عَلَامَةً، وَفِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ: فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَكَيْفَ لِي بِهِ وَفِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ.
قَوْلُهُ: (أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ) أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي أَطْلُبُ فِيهِ.
قَو لُهُ: (فَقَالَ لِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَالْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ) يَعْنِي فَهُوَ ثَمَّ، وَقَعَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ مَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ وَنَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَلَفْظُهُ وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي يَعْلَى) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَالْقَائِلُ أَيْضًا هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: خُذْ حُوتًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نُونًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقِيلَ لَهُ تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا، فَإِنَّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُوتَ كَانَ مَيِّتًا لِأَنَّهُ لَا يُمَلَّحُ وَهُوَ حَيٌّ، وَمِنْهُ تُعْلَمُ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْحُوتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُؤْكَلُ مَيِّتًا، وَلَا يَرِدُ الْجَرَادُ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْقَدُ وُجُودُهُ لَا سِيَّمَا بِمِصْرَ.
قَوْلُهُ: (حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى: حَيْثُ تَفْقِدُهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ) فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُمَا اصْطَادَاهُ، يَعْنِي مُوسَى وَفَتَاهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِفَتَاهُ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ ثُمَّ انْطَلَقَ
وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ.
قَوْلُهُ: (مَا كُلِّفْتُ كَثِيرًا) لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلِذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ) الْقَائِلُ لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْفَتَى لَيْسَتْ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَاهُ صُورَةَ السِّيَاقِ لَا التَّسْمِيَةَ فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَلَفْظُهُ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَسَبِ يُوشَعَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ الَّذِي قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى، وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَقَلَهُ نَوْفُ بْنُ فَضَالَةَ مِنْ أَنَّ مُوسَى صَاحِبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَيْسَ هُوَ ابْنُ عِمْرَانَ فَلَا يَكُونُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حِينَ لَقِيَ الْخَضِرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْفَتَى شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ الْحُوتُ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا فَلَيْسَ هُوَ يُوشَعُ. قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ، فَإِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَتَى لَيْسَ هُوَ يُوشَعُ، وَكَأَنَّهُ أخذَه مِنْ لَفْظِ الْفَتَى أَوْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالرَّقِيقِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْفَتَى مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَتِيِّ وَهُوَ الشَّبَابُ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَخْدُمُ الْمَرْءَ سَوَاءٌ كَانَ شَابًّا أَوْ شَيْخًا، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الْخَدَمَ تَكُونُ شُبَّانًا.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا.
قَوْلُهُ: (فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ) بِمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ أَيْ مَبْلُولٍ.
قَوْلُهُ: (إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدٍ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ اضْطَرَبَ أَوَّلًا فِي الْمِكْتَلِ، فَلَمَّا سَقَطَ فِي الْمَاءِ اضْطَرَبَ أَيْضًا، فَاضْطِرَابُهُ الْأَوَّلُ فِيمَا فِي مَبْدَأِ مَا حَيِيَ، وَالثَّانِي فِي سَيْرِهِ فِي الْبَحْرِ حَيْثُ اتَّخَذَ فِيهِ مَسْلَكًا.
وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي غَيْرِ حَدِيثِ عَمْرٍو وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ فِي الْبُخَارِيِّ الْحَيَا بِغَيْرِ هَاءٍ قَالَ: وَهُوَ مَا يَحْيَى بِهِ النَّاسُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهَا فِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَدْ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُفْيَانَ مُدْرَجَةً فِي حَدِيثِ عَمْرٍو وَلَفْظُهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَقَالَ مُوسَى عِنْدَهَا - أَيْ نَامَ - قَالَ: وَكَانَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ عَيْنُ مَاءٍ يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مَيِّتٌ إِلَّا عَاشَ، فَقُطِرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ عَلَى الْحُوتِ قَطْرَةٌ فَعَاشَ، وَخَرَجَ مِنَ الْمِكْتَلِ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: فَأَتَى عَلَى عَيْنٍ فِي الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ، فَلَمَّا أَصَابَ تِلْكَ الْعَيْنَ رَدَّ اللَّهُ رُوحَ الْحُوتِ إِلَيْهِ وَقَدْ أَنْكَرَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ: لَا أَرَى هَذَا يَثْبُتُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. قَالَ: لَكِنْ فِي دُخُولِ الْحُوتِ الْعَيْنَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيِيَ قَبْلَ دُخُولِهِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْعَيْنِ. قَالَ: وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَهُ بِغَيْرِ الْعَيْنِ انْتَهَى.
قَالَ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ كَلَامِهِ دَعْوَى وَاسْتِدْلَالًا، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْحُوتُ هُوَ مَاءُ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْأَخْبَارُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَهِيَ غَيْرُ الْبَحْرِ وَكَأَنَّ الَّذِي أَصَابَ الْحُوتَ مِنَ الْمَاءِ كَانَ شَيْئًا مِنْ رَشَاشٍ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْعَيْنَ إِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ فِيهَا مُسْتَنَدُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَضِرَ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ فَخُلِّدَ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُنَادِي فِي ذَلِكَ كِتَابًا وَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِالنَّقْلِ فِيمَا يُوجَدُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: (وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ فَنَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ سَارَ فَنَسِيَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} فَقِيلَ نُسِبَ
النِّسْيَانُ إِلَيْهِمَا تَغْلِيبًا، وَالنَّاسِي هُوَ الْفَتَى، نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَ مُوسَى كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْفَتَى نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَ مُوسَى بِقِصَّةِ الْحُوتِ، وَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَسْتَخْبِرَهُ عَنْ شَأْنِ الْحُوتِ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ، وَكَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَسْأَلَهُ أَيْنَ هُوَ فَنَسِيَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (نَسِيَا) أَخَّرَا، مَأْخُوذٌ مِنَ النِّسْيِ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا أَخَّرَا افْتِقَادَهُ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا احْتَاجَا إِلَيْهِ ذَكَرَاهُ. وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ صَرِيحُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ صَرِيحِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ الْفَتَى اطَّلَعَ عَلَى مَا جَرَى لِلْحُوتِ وَنَسِيَ أَنْ يُخْبِرَ مُوسَى بِذَلِكَ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ مُوسَى تَقَدَّمَ فَتَاهُ لَمَّا اسْتَيْقَظَ فَسَارَ، فَقَالَ فَتَاهُ: أَلَا أَلْحَقُ نَبِيَّ اللَّهِ فَأُخْبِرُهُ، قَالَ: فَنَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ رَأَى سَمَكَةً أَحَدُ جَانِبَيْهَا شَوْكٌ وَعَظْمٌ وَجِلْدٌ رَقِيقٌ عَلَى أَحْشَائِهَا وَنِصْفُهَا الثَّانِي صَحِيحٌ، وَيَذْكُرُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَنَّهَا مِنْ نَسْلِ حُوتِ مُوسَى، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمَّا حَيِيَ بَعْدَ أَنْ أَكَلَ مِنْهُ اسْتَمَرَّتْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ ثُمَّ فِي نَسْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَانَ أَثَرُهُ فِي حَجَرٍ) كَذَا فِيهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ جُحْرٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي عَمْرٌو) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ (كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَالَّتِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا يَعْنِي السَّبَّابَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ وَهُوَ يُفَسِّرُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ فَجَعَلَ لَا يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، صَارَ مِثْلَ الْكُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهَمٌ. وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْفَتَى لَمْ يُخْبِرْ مُوسَى إِلَّا بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ يَوْمِ خَرَجَا لِطَلَبِهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَلَمَّا تَجَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ: وَلَمْ يُصِبْهُ نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ، لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ.
قَوْلُهُ: (أَخَّرَهُ) كَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بِهَمْزَةٍ وَمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَهَاءٍ، ثُمَّ فِي نُسْخَةٍ مِنْهُ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَاءُ ضَمِيرٍ أَيْ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ وَأَحَالَ ذَلِكَ عَلَى سِيَاقِ الْآيَةِ، وَفِي أُخْرَى بِفَتَحَاتٍ وَتَاءِ تَأْنِيثٍ مُنَوَّنَةٍ مَنْصُوبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ أَخْبَرَهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ، أَيْ أَخْبَرَ الْفَتَى مُوسَى بِالْقِصَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} فَسَاقَ الْآيَةَ إِلَى {عَجَبًا} قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى عَجَبًا وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: عَجَبُ مُوسَى أَنْ تَسَرَّبَ حُوتٌ مُمَلَّحٌ فِي مِكْتَلٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَقَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أَيْ نَطْلُبُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ هَذِهِ حَاجَتُنَا وَذَكَرَ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْنِي فِي أَمْرِ الْحُوتِ.
قَوْلُهُ: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا) أَيْ آثَارَ سَيْرِهِمَا (حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ)
(1)
زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ الَّتِي فَعَلَ فِيهَا الْحُوتُ مَا فَعَلَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتَى لَمْ يُخْبِرْ مُوسَى حَتَّى سَارَا زَمَانًا، إِذْ لَوْ أَخْبَرَهُ أَوَّلَ مَا اسْتَيْقَظَ مَا احْتَاجَا إِلَى اقْتِصَاصِ آثَارِهِمَا.
قَوْلُهُ:
(1)
في هامش طبعة بولاق: هكذا بالنسخ، وليست بالمتن هنا.
(فَوَجَدَا خَضِرًا) تَقَدَّمَ ذِكْرُ نَسَبِهِ وَشَرْحُ حَالِهِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهَمٌ وَأَنَّهُمَا إِنَّمَا وَجَدَاهُ فِي جَزِيرَةِ الْبَحْرِ. قُلْتُ: وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا لَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ تَتَبَّعَاهُ إِلَى أَنْ وَجَدَاهُ فِي الْجَزِيرَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ فَقَالَ: هَهُنَا وُصِفَ لِي، فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: انْجَابَ الْمَاءُ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ فَصَارَ كُوَّةً، فَدَخَلَهَا مُوسَى عَلَى أَثَرِ الْحُوتِ فَإِذَا هُوَ، بِالْخَضِرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَجَعَ مُوسَى حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ الْمَاءَ وَيَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَصِيرَ صَخْرَةً، فَجَعَلَ مُوسَى يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ فَلَقِيَ الْخَضِرَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُوسَى دَعَا رَبَّهُ وَمَعَهُ مَاءٌ فِي سِقَاءٍ يَصُبُّ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ فَيَصِيرُ حَجَرًا فَيَأْخُذُ فِيهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَخْرَةٍ فَصَعِدَهَا وَهُوَ يَتَشَوَّفُ هَلْ يَرَى الرَّجُلَ، ثُمَّ رَآهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: رَأَى مُوسَى الْخَضِرَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ انْتَهَى. وَالطِّنْفِسَةُ فُرُشٌ صَغِيرٌ وَهِيَ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْفَاءِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ وَبِضَمِّ الطَّاءِ وَالْفَاءِ وَبِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِفَتْحِ الْفَاءِ لُغَاتٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَجًّى بِثَوْبِهِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُسَجًّى ثَوْبًا مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ مُلْتَفًّا بِكِسَاءٍ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ السُّدِّيِّ فَرَأَى الْخَضِرَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ وَكِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ وَمَعَهُ عَصًا قَدْ أَلْقَى عَلَيْهَا طَعَامَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقَامَ فِي مَكَانٍ نَبَتَ الْعُشْبُ حَوْلَهُ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ وَالْمُرَادُ بِالْفَرْوَةِ وَجْهُ الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِأَرْضٍ بِالتَّنْوِينِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ قَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ وَهِيَ بِمَعْنَى أَيْنَ أَوْ كَيْفَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِبْعَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُونُوا إِذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُ اسْتَفْهَمَهُ بَعْدَ أَنْ رَدَّ عليه السلام.
قَوْلُهُ: (مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ) وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ قَوْلُهُ: مَنْ أَنْتَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مُوسَى. قَالَ: مَنْ مُوسَى؟ قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْخَضِرَ أَعَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. فَقَالَ مُوسَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَضِرُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا مُوسَى، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنِّي مُوسَى؟ قَالَ: أَدْرَانِي بِكَ الَّذِي أَدْرَاكَ بِي، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ، لَكِنْ يُبْعِدُ ثُبُوتَهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟
قَوْلُهُ: (جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ كُلُّهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا
بِمَعْنًى كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلُ، وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ: الدِّينُ، وَبِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ: صَلَاحُ النَّظَرِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُعَلِّمَنِي، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لِقَوْلِهِ: عُلِّمْتَ.
قَوْلُهُ: (أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ) سَقَطَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ) أَيْ جَمِيعَهُ (وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ) أَيْ جَمِيعَهُ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْرِفُ مِنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ مَا لَا غِنَى بِالْمُكَلَّفِ عَنْهُ، وَمُوسَى كَانَ يَعْرِفُ مِنَ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ مَا يَأْتِيهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ (قَالَ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} كَذَا أُطْلِقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ مُوسَى لَا يَصْبِرُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ إِذَا رَأَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ عِصْمَتِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ مُوسَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ بَلْ مَشَى مَعَهُ لِيُشَاهِدَ مِنْهُ مَا اطَّلَعَ بِهِ عَلَى مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ. وَقَوْلُهُ:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ} اسْتِفْهَامٌ عَنْ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: لِمَ قُلْتَ إِنِّي لَا أَصْبِرُ وَأَنَا سَأَصْبِرُ، قَالَ: كَيْفَ تَصْبِرُ؟ وَقَوْلُهُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ} قِيلَ: اسْتَثْنَى فِي الصَّبْرِ فَصَبَرَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْعِصْيَانِ فَعَصَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبْرِ أَنَّهُ صَبْرٌ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِيمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ:{فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّائِرَ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ عَقِبَ قَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِهِمَا، وَرِوَايَةُ سُفْيَانَ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ مَا خَرَقَ السَّفِينَةَ، وَلَفْظُهُ كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ إِلَخْ فَيُجْمَعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مُعَقَّبٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ رُكُوبُهُمَا السَّفِينَةَ لِتَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِذِكْرِ السَّفِينَةِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ هَذَا الطَّائِرُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: يَقُولُ: مَا عِلْمُكُمَا الَّذِي تَعْلَمَانِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا أَنْقُصُ بِمِنْقَارِي مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْرِ وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: أَرْسَلَ رَبُّكَ الْخَطَّافَ فَجَعَلَ يَأْخُذُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْمَاءِ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْخَطَّافُ وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: رَأَى هَذَا الطَّائِرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ النّمْرُ، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ الصُّرَدُ.
قَوْلُهُ: (وَجَدَا مَعَابِرَ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: (رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ) لَا أَنَّ قَوْلَهُ: (وَجَدَا) جَوَابُ (إِذَا) لِأَنَّ وُجُودَهُمَا الْمَعَابِرَ كَانَ قَبْلَ رُكُوبِهِمَا السَّفِينَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّا فِي سَفِينَةٍ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ وَالْمَعَابِرُ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ جَمْعُ مَعْبَرٍ وَهِيَ السُّفُنُ الصِّغَارُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّتْ بِهِمْ سَفِينَةُ ذَاهِبٍ فَنَادَاهُمْ خَضِرٌ.
قَوْلُهُ: (عَرَفُوهُ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ، قَالَ: قُلْنَا لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خَضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ) الْقَائِلُ فِيمَا أَظُنُّ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوا.
قَوْلُهُ: (بِأَجْرٍ) أَيْ أُجْرَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَحَمَلُوا بِغَيْرِ نَوْلٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَنَادَاهُمْ خَضِرٌ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ ضِعْفَ مَا حَمَلُوا بِهِ غَيْرَهُمْ، فَقَالُوا لِصَاحِبِهِمْ: إِنَّا نَرَى رِجَالًا فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ نَخْشَى أَنْ يَكُونُوا لُصُوصًا، فَقَالَ: لَأَحْمِلَنَّهُمْ، فَإِنِّي أَرَى عَلَى وُجُوهِهِمُ النُّورَ، فَحَمَلَهُمْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ
كَانُوا سَبْعَةً بِكُلِّ وَاحِدٍ زَمَانَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَقَهَا وَوَتَّدَ فِيهَا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ جَعَلَ فِيهَا وَتَدًا، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَلَمَّا رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يُفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقُدُومِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ قَلَعَ اللَّوْحَ وَجَعَلَ مَكَانَهُ وَتَدًا، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ جَاءَ بِوَدٍّ حِينَ خَرَقَهَا وَالْوَدُّ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ لُغَةٌ فِي الْوَتَدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَالِيَةِ: فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إِلَّا مُوسَى، وَلَوْ رَآهُ الْقَوْمُ لَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} . قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكَرًا) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقِيلَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:(إِمْرًا) قَالَ: عَجَبًا وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي صَخْرٍ فِي قَوْلِهِ: (إِمْرًا) قَالَ: عَظِيمًا. وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَأَى ذَلِكَ امْتَلَأَ غَضَبًا وَشَدَّ ثِيَابَهُ وَقَالَ: أَرَدْتَ إِهْلَاكَهُمْ، سَتَعْلَمُ أَنَّكَ أَوَّلُ هَالِكٍ. فَقَالَ لَهُ يُوشَعُ: أَلَا تَذْكُرُ الْعَهْدَ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْخَضِرُ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَأَدْرَكَ مُوسَى الْحِلْمُ فَقَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي. وَإِنَّ الْخَضِرَ لَمَّا خَلَصُوا قَالَ لِصَاحِبِ السَّفِينَةِ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْخَيْرَ، فَحَمِدُوا رَأْيَهُ، وَأَصْلَحَهَا اللَّهُ عَلَى يَدِهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَاقِيَ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: الْأُولَى نِسْيَانٌ وَالثَّانِيَةُ عُذْرٌ وَالثَّالِثَةُ فِرَاقٌ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إِنْ عَجِلْتَ عَلَيَّ فِي ثَلَاثٍ فَذَلِكَ حِينَ أُفَارِقُكَ وَرَوَى الْفَرَّاءُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمْ يَنْسَ مُوسَى، وَلَكِنَّهُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَاعْتَذَرَ مُوسَى عَنِ الثَّانِيَةِ وَعَنِ الثَّالِثَةِ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {لَقِيَا غُلامًا} فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا.
قَوْلُهُ: (فَقَتَلَهُ) الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى لَقِيَا، وَجَزَاءُ الشَّرْطِ قَالَ: أَقَتَلْتَ، وَالْقَتْلُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قَتْلَ الْغُلَامِ يَعْقُبُ لِقَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، وَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} فَإِنَّ الْخَرْقَ وَقَعَ جَوَابَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ تَرَاخَى عَنِ الرُّكُوبِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يَعْلَى) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (قَالَ سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ (وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا) فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ غُلَامًا وَضِيءَ الْوَجْهِ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ وَفِي رِوَايَتِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَطَعَهُ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ ذَبَحَهُ ثُمَّ اقْتَلَعَ رَأْسَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَأَخَذَ صَخْرَةً فَثَلَغَ رَأْسَهُ وَهِيَ بِمُثَلَّثَةٍ مُعْجَمَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالصَّخْرَةِ ثُمَّ ذَبَحَهُ وَقَطَعَ رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لَمْ تَعْمَلِ الْحِنْثَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تَعْمَلْ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ زَكِيَّةً وَالتَّقْدِيرُ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً لَمْ تَعْمَلِ الْحِنْثَ بِغَيْرِ نَفْسٍ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُهَا زَكِيَّةً وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً، وَالْأُولَى أَبْلَغُ لِأَنَّ فَعِيلَةً مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ.
قَوْلُهُ: (زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلَامًا زَاكِيًا) هُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَيُشِيرُ إِلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَالْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى مُسْلِمَةٍ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِ حَالِ الْغُلَامِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ مُسْلِمَةً فَالْأَكْثَرُ بِسُكُونِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِفَتْحِ السِّينِ
وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، وَزَادَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ هُنَا {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: رَحْمَتُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْلَا أَنَّهُ عَجِلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ ذَمَامَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ فَقَالَ:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَاسْتَحْيَا عِنْدَ ذَلِكَ مُوسَى وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَقَعَ مِثْلُهَا فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ أَكْثَرَ مِمَّا قَصَّ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا. فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا قِيلَ هِيَ الْأُبُلَّةُ، وَقِيلَ إِنْطَاكِيَةُ، وَقِيلَ أَذْرَبِيجَانُ، وَقِيلَ بُرْقَةُ، وَقِيلَ نَاصِرَةُ، وَقِيلَ جَزِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَشِدَّةُ الْمُبَايَنَةِ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُوثَقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: يَعْلَى هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ (فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) - قَالَ مَائِلٌ - فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ عُرْضَ ذَلِكَ الْجِدَارِ كَانَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا فِي مِائَةِ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِهِمْ.
قَوْلُهُ: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ) زَادَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} فَأَخَذَ مُوسَى بِطَرَفِ ثَوْبِهِ فَقَالَ: حَدِّثْنِي وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى: أَتَلُومُنِي عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ، وَنَسِيتَ نَفْسَكَ حِينَ أُلْقِيتَ فِي الْبَحْرِ، وَحِينَ قَتَلْتَ الْقِبْطِيَّ، وَحِينَ سَقَيْتَ أَغْنَامَ ابْنَتَيْ شُعَيْبٍ احْتِسَابًا.
قَوْلُهُ: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} وَكَانَ أَمَامَهُمْ، قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ) وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَرَاءَ فِي تَفْسِيرِ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: (يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بَدَدٍ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ السُّفُنَ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ. قُلْتُ: وَقَدْ عَزَاهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابٍ لَيْسَ لِمُجَاهِدٍ ; قَالَ: وَزَعَمَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنَّ هُدَدَ اسْمُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ زَوَّجَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بِلْقِيسَ. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا حُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ مُدَّةِ مُوسَى وَسُلَيْمَانَ، وَهُدَدُ فِي الرِّوَايَاتِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ فَتْحَهَا وَالدَّالُ مَفْتُوحَةٍ اتِّفَاقًا، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ بِالْمِيمِ بَدَلَ الْهَاءِ، وَأَبُوهُ بَدَدٌ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ أَنَّ اسْمَهُ مَنُولَةُ بْنُ الْجَلَنْدِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَلَنْدِيُّ وَكَانَ بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ.
قَوْلُهُ: (الْغُلَامُ الْمَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ حيْسُورُ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَيْسُورُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ أَوَّلِهِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ بِجِيمٍ أَوَّلِهِ، وَعِنْدَ الْقَابِسِيِّ بِنُونٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَعِنْدَ عَبْدُوسٍ بِنُونٍ بَدَلَ الرَّاءِ، وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رَآهُ فِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَنُونَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ بَيْنَهُمَا الْوَاوُ السَّاكِنَةُ، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ، كَالْقَابِسِيِّ، وَفِي تَفْسِيرِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ اسْمُهُ حَشْرَدُ، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ اسْمُ الْغُلَامِ شَمْعُونُ.
قَوْلُهُ: {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَكَانَ
أُبَيٌّ يَقْرَأُ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُفْيَانَ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا.
قَوْلُهُ: (فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَإِذَا جَاوَزُوهُ وقعُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا وَبَقِيَتْ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْقَارِ) أَمَّا الْقَارُ فَهُوَ بِالْقَافِ وَهُوَ الزِّفْتُ، وَأَمَّا قَارُورَةٌ فَضُبِطَتْ فِي الرِّوَايَاتِ بِالْقَافِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ ثَارُورَةٌ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ تَقَعُ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَلَا تَقَعُ بَدَلَ الْقَافِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ فَارَ فَوْرَةً مِثْلَ ثَارَ ثَوْرَةً، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ فَاعُولَةٌ مِنْ ثَوَرَانِ الْقِدْرِ الَّذِي يَغْلِي فِيهَا الْقَارُ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ وُجِّهَتْ رِوَايَةُ الْقَارُورَةِ بِالْقَافِ بِأَنَّهَا فَاعُولَةٌ مِنَ الْقَارِ، وَأَمَّا الَّتِي مِنَ الزُّجَاجِ فَلَا يُمْكِنُ السَّدُّ بِهَا، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ احْتِمَالَ أَنْ يُسْحَقَ الزُّجَاجُ وَيُلَتَّ بِشَيْءٍ وَيُلْصَقَ بِهِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا) يَعْنِي الْغُلَامَ الْمَقْتُولَ، فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ وَفِي الْمُبْتَدَأِ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ كَانَ اسْمُ أَبِيهِ مَلَّاسَ وَاسْمُ أُمِّهِ رَحْمَا، وَقِيلَ اسْمُ أَبِيهِ كَارِدِي وَاسْمُ أُمِّهِ سَهْوَى.
قَوْلُهُ: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ) هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:(يُرْهِقَهُمَا) أَيْ يَغْشَاهُمَا.
قَوْلُهُ: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} لِقَوْلِهِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ زَكَاةً ذُكِرَ لِلْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} قَالَ: إِسْلَامًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: دِينًا.
قَوْلُهُ: (وَأَقْرَبَ رُحْمًا هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ) وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: الرَّحِمُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْقَرَابَةُ، وَبِسُكُونِهَا فَرْجُ الْأُنْثَى، وَبِضَمِّ الرَّاءِ ثُمَّ السُّكُونِ الرَّحْمَةُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ: الرُّحْمُ وَالرَّحْمُ - يَعْنِي بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَعَ السُّكُونِ فِيهِمَا - بِمَعْنًى، وَهُوَ مِثْلُ الْعُمْرِ وَالْعَمْرِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ: رُحْمًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدِ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً) هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، وَقَالَ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ: وَيُقَالُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَبْدَلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً قَالَ: أَبْدَلَهُمَا جَارِيَةً فَوَلَدَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلِلطَّبَرَيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ نَحْوَهُ، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ بِسْطَامِ بْنِ جَمِيلٍ قَالَ: أَبْدَلَهُمَا مَكَانَ الْغُلَامِ جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيَّيْنِ، وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: وَلَدَتْ جَارِيَةً، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: وَلَدَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ نَبِيًّا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَعْدُ مُوسَى فَقَالُوا لَهُ:{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَاسْمُ هَذَا النَّبِيِّ شَمْعُونُ، وَاسْمُ أُمِّهِ حِنَةُ. وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهَا وَلَدَتْ غُلَامًا، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ: وَلَدَتْ جَارِيَةً وَلَدَتْ عِدَّةَ أَنْبِيَاءَ فَهَدَى اللَّهُ بِهِمْ أُمَمًا. وَقِيلَ عِدَّةُ مَنْ جَاءَ مِنْ وَلَدِهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَبْعُونَ نَبِيًّا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُصيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا جَارِيَةٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّهُ يَوْمَ قُتِلَ كَانَتْ حُبْلَى بِغُلَامٍ. وَيَعْقُوبُ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ أَخُو دَاوُدَ وَهُمَا ابْنَا عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ وَكُلٌّ مِنْهُمَا ثِقَةٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: اسْتِحْبَابُ الْحِرْصِ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْعِلْمِ، وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وَلِقَاءِ الْمَشَايِخِ وَتَجَشُّمِ الْمَشَاقِّ فِي ذَلِكَ، وَالِاسْتِعَانَةِ فِي ذَلِكَ بِالْأَتْبَاعِ، وَإِطْلَاقِ الْفَتَى عَلَى التَّابِعِ، وَاسْتِخْدَامِ الْحُرِّ، وَطَوَاعِيَةِ الْخَادِمِ لِمَخْدُومِهِ وَعُذْرِ النَّاسِي، وَقَبُولِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ لِعِدَّةِ مَعَانٍ قَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ كَقَوْلِهِ:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وَكَاتِّبَاعِ مُوسَى رَسُولِ اللَّهِ لَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ، وَكَإِطْلَاقِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَإِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ لِمَا شَرَحَهُ بَعْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ أَغْلَظِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَالْإِغْضَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ مَخَافَةَ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَشَدُّ، وَإِفْسَادِ بَعْضِ الْمَالِ لِإِصْلَاحِ مُعْظَمِهِ كَخِصَاءِ الْبَهِيمَةِ لِلسِّمَنِ وَقَطْعِ أُذُنِهَا لِتَتَمَيَّزَ، وَمِنْ هَذَا مُصَالَحَةُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ السُّلْطَانَ عَلَى بَعْضِ مَالِ الْيَتِيمِ خَشْيَةَ ذَهَابِهِ بِجَمِيعِهِ فَصَحِيحٌ، لَكِنْ فِيمَا لَا يُعَارِضُ مَنْصُوصَ الشَّرْعِ، فَلَا يَسُوغُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ أَنْ يَقْتُلَ أَنْفُسًا كَثِيرَةً قَبْلَ أَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَعَلَ الْخَضِرُ ذَلِكَ لِاطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُ الْخَضِرِ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ أَنْ لَوْ عَاشَ حَتَّى يَبْلُغَ، وَاسْتِحْبَابُ مِثْلِ هَذَا الْقَتْلِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلِلَّهِ أَنْ يَحْكُمَ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ.
وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ بِالتَّعَبِ وَيَلْحَقُ بِهِ الْأَلَمُ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ سَخَطٍ مِنَ الْمَقْدُورِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُتَوَجِّهَ إِلَى رَبِّهِ يُعَانُ فَلَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ النَّصَبُ وَالْجُوعُ، بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي تَوَجُّهِهِ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ وَذَلِكَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ تَعِبَ وَلَا طَلَبَ غَدَاءً وَلَا رَافَقَ أَحَدًا، وَأَمَّا فِي تَوَجُّهِهِ إِلَى مَدْيَنَ فَكَانَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فَأَصَابَهُ الْجُوعُ، وَفِي تَوَجُّهِهِ إِلَى الْخَضِرِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَيْضًا فَتَعِبَ وَجَاعَ. وَفِيهِ جَوَازُ طَلَبِ الْقُوتِ وَطَلَبِ الضِّيَافَةِ، وَفِيهِ قِيَامُ الْعُذْرِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِالثَّانِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلُ مَالِكٍ فِي ضَرْبِ الْآجَالِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي التَّلَوُّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَأَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ مَا يُسْتَهْجَنُ لَفْظُهُ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ بِتَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ لِقَوْلِ الْخَضِرِ عَنِ السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وَعَنِ الْجِدَارِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ} وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: وَالْخَيْرُ بِيَدِكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ.
4 - بَاب {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} إِلَى قَوْلِهِ: قصصا. {صُنْعًا}
عَمَلًا، {حِوَلا} تَحَوُّلًا، {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} إِمْرًا وَنُكْرًا: دَاهِيَةً، يَنْقَضَّ: يَنْقَاضُ كَمَا تَنْقَاضُ السِّنُّ، لَتَخِذْتَ وَاتَّخَذْتَ وَاحِدٌ، رُحْمًا مِنْ الرُّحْمِ وَهِيَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ الرَّحْمَةِ، وَيُظنُّ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِيمِ، وَتُدْعَى مَكَّةُ أُمَّ رُحْمٍ، أَيْ الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِهَا.
باب قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة
4727 -
حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ بِمُوسَى الْخَضِرِ، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ: بَلَى، عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَاتَّبِعْهُ. قَالَ: فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَمَعَهُمَا الْحُوتُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَنَزَلَا عِنْدَهَا. قَالَ: فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ، فَنَامَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَالَ: وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ، يُقَالُ لَهَا: الْحَيَاةُ، لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ. قَالَ: فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنْ الْمِكْتَلِ، فَدَخَلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى، قَالَ {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} الْآيَةَ. قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ. قَالَ لَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} الْآيَةَ. قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ فِي آثَارِهِمَا فَوَجَدَا فِي الْبَحْرِ كَالطَّاقِ مَمَرَّ الْحُوتِ، فَكَانَ لِفَتَاهُ عَجَبًا وَلِلْحُوتِ سَرَبًا. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ؛ إِذْ هُمَا بِرَجُلٍ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى.
قَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا؟ قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ. قَالَ: بَلْ أَتَّبِعُكَ، قَالَ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَمَرَّتْ بِهِما سَفِينَةٌ، فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمْ فِي سَفِينَتِهِمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ - يَقُولُ: بِغَيْرِ أَجْرٍ - فَرَكِبَا السَّفِينَةَ، قَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ. قَالَ: فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى؛ إِذْ عَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى قَدُومٍ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ} الْآيَةَ. فَانْطَلَقَا، إِذَا هُمَا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَطَعَهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا إِلَى قَوْلِهِ: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَقَامَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّا دَخَلْنَا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا.
قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ
حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} - إِلَى قَوْلِهِ - {قَصَصًا} سَاقَ فِيهِ قِصَّةَ مُوسَى عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ تَقَدَّمَ قَبْلَ ببَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: حَجَجْتُ حَجَّةً وَلَيْسَ لِي هِمَّةٌ إِلَّا أَنْ أَسْمَعَ مِنْ سُفْيَانَ الْخَبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُهُ بِالْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُ: (يَنْقَضُّ يَنْقَاضُ كَمَا يَنْقَاضُ السِّنُّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ الشَّيْءُ بِمُعْجَمَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أَيْ يَقَعَ، يُقَالُ: انْقَضَّتِ الدَّارُ إِذَا انْهَدَمَتْ، قَالَ: وَقَرَأَهُ قَوْمٌ يَنْقَاضُ أي يَنْقَلِعُ مِنْ أَصْلِهِ، كَقَوْلِكَ: انْقَاضَتِ السِّنُّ إِذَا انْقَلَعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ، وَقِرَاءَةُ يَنْقَاضُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَادِهَا فَقِيلَ بِالتَّشْدِيدِ بِوَزْنِ يَحْمَارُّ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَنْقَضُّ، وَيَنْقَضُّ بِوَزْنِ يَفْعَلُّ مِنِ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ إِذَا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ يَنْقَاصُ بِالْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يَقُولُونَ: انْقَاصَتِ السِّنُّ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا، وَقِيلَ: إِذَا تَصَدَّعَتْ كَيْفَ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: قِيلَ مَعْنَاهُ كَالَّذِي بِالْمُعْجَمَةِ وَقِيلَ الشَّقُّ طُولًا. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: انْقَاضَ بِالْمُعْجَمَةِ انْكَسَرَ، وَبِالْمُهْمَلَةِ انْصَدَعَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ تَبَعًا لِابْنِ مَسْعُودٍ يُرِيدُ لِيُنْقَضَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ مِنَ النَّقْضِ.
قَوْلُهُ: {نُكْرًا} دَاهِيَةً) كَذَا فِيهِ، وَالَّذِي عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} دَاهِيَةً، وَنُكْرًا أَيْ عَظِيمًا. وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَبْلَغُ فَقِيلَ إِمْرًا أَبْلَغُ مِنْ نُكْرًا لِأَنَّهُ قَالَهَا بِسَبَبِ الْخَرْقِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى هَلَاكِ عِدَّةِ أَنْفُسٍ، وَتِلْكَ بِسَبَبِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَقِيلَ نُكْرًا أَبْلَغُ لِكَوْنِ الضَّرَرِ فِيهَا نَاجِزًا بِخِلَافِ إِمْرًا لِكَوْنِ الضَّرَرِ فِيهَا مُتَوَقَّعًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي نُكْرًا:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} وَلَمْ يَقُلْهَا فِي إِمْرًا.
قَوْلُهُ: (لَتَخِذْتَ وَاتَّخَذْتَ وَاحِدٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَهَا لَتَخِذْتَ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ لَاتَّخَذْتَ.
قَوْلُهُ: (رُحْمًا مِنَ الرُّحْمِ وَهِيَ أَشَدُّ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الرَّحِيمِ، وَتُدْعَى مَكَّةَ أُمُّ رُحْمٍ أَيِ الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِهَا) هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ مُفَرَّقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ رُحْمًا مِنَ الرَّحِمِ الَّتِي هِيَ الْقَرَابَةُ، وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُهَا غَالِبًا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَقَوْلُهُ: وَيُظَنُّ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَقَوْلُهُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ أَيِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا الرَّحِيمُ، وَقَوْلُهُ: أُمُّ رُحْمٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالسُّكُونِ وَذَلِكَ لِتَنْزِلَ الرَّحْمَةُ بِهَا، فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الرُّحْمَ مِنَ الْقَرَابَةِ لَا مِنَ الرِّقَّةِ.
قوله: (باب قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} إلخ) ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر، وذكر فيه قصة موسى والخضر عن قتيبة عن سفيان بن عيينة، وقد تقدمت عن عبد الله بن محمد عن سفيان بن عيينة في كتاب العلم، وقوله في آخرها:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما) تقدم في العلم بلفظ (يرحم الله موسى لوددنا لو صبر) وتقدم في أحاديث الأنبياء عن علي بن عبد الله بن المديني عن سفيان كرواية قتيبة، لكن قال بعدها:(قال سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى إلخ) فهذا يحتمل أن تكون هذه الزيادة وهو (يرحم الله موسى) لم تكن عند ابن عيينة بهذا الإسناد، ولكنه أرسلها. ويحتمل أن يكون على سمعه منه مرتين
مرة بإثباتها ومرة بحذفها وهو أولى، فقد أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعمرو بن محمد الناقد وابن أبي عمر وعبيد الله بن سعيد والترمذي عن ابن أبي عمر والنسائي عن ابن أبي عمر كلهم عن سفيان بلفظ:(يرحم الله موسى إلخ) متصلا بالخبر، وأخرجه مسلم من طريق رقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير بزيادة ولفظه:(ولو صبر لرأى العجب) وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه (رحمة الله علينا وعلى أخي كذا) وأخرجه الترمذي والنسائي من طريق حمزة الزيات عن أبي إسحاق مختصرا، وأبو داود من هذا الوجه مطولا، ولفظه (وكان إذا دعا بدأ بنفسه وقال: رحمة الله علينا وعلى موسى). وقد ترجم المصنف في الدعوات من خص أخاه بالدعاء دون نفسه وذكر فيه عدة أحاديث، وكأنه أشار إلى أن هذه الزيادة وهي (كان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لم تثبت عنده، وقد سئل أبو حاتم الرازي عن زيادة وقعت في قصة موسى والخضر من رواية ابن إسحاق هذه عن سعيد بن جبير وهي قوله في صفة أهل القرية (أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجالس) فأنكرها وقال: هي مدرجة في الخبر، فقد يقال: وهذه الزيادة مدرجة فيه أيضًا، والمحفوظ رواية ابن عيينة المذكورة. والله أعلم.
5 - بَاب {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا}
4728 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو، عَنْ مُصْعَبِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} هُمْ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمْ الْفَاسِقِينَ.
قَوْلُهُ: بَابُ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ سَأَلْتُ أَبِي - يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نُنَبِّهُ عَلَى مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ سَأَلَ رَجُلٌ أَبِي فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ اسْمَ السَّائِلِ فَأَبْهَمَهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ أَنَّهُ مُصْعَبٌ رَاوِي الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (هُمْ الْحَرُورِيَّةُ)؟ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى حَرُورَاءَ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَ ابْتِدَاءُ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ مِنْهَا، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ لَمَّا خَرَجَتْ الْحَرُورِيَّةُ قُلْتُ لِأَبِي: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ؟ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَظُنُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ الْحَرُورِيَّةُ وَلِلْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مِنْهُمْ أَصْحَابُ النَّهْرَوَانِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا. وَأَصْلُهُ عِنْدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا؟ قَالَ: وَيْلَكَ، مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي سُؤَالِ مُصْعَبٍ أَبَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ عَلِيٌّ بِبَعِيدٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَخْصُوصًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) وَلِلْحَاكِمِ قَالَ: لَا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ مُصْعَبٍ هُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَمِيصَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: هُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَارِي.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ)
فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: هُمْ عُبَّادُ النَّصَارَى قَالُوا: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} - إِلَى - الْفَاسِقِينَ قَالَ يَزِيدُ: هَكَذَا حَفِظْتُ. قُلْتُ: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ حَفِظَهُ عَنْهُ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَالصَّوَابُ الْخَاسِرُونَ وَوَقَعَ عَلَى الصَّوَابِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ) لَعَلَّ هَذَا السَّبَبَ فِي الْغَلَطِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ الْخَوَارِجُ قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي آخِرُهَا الْفَاسِقِينَ فَلَعَلَّ الِاخْتِصَارَ اقْتَضَى ذَلِكَ الْغَلَطَ، وَكَأَنَّ سَعْدًا ذَكَرَ الْآيَتَيْنِ مَعًا الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَالَّتِي فِي الصَّفِّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوْنٍ عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: نَظَرَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى سَعْدٍ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: كَذَبْتَ، أَنَا قَاتَلْتَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. فَقَالَ لَهُ آخَرُ: هَذَا مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: كَذَبْتَ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَجْهُ خُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَابْتَدَعُوا، فَخَسِرُوا الْأَعْمَارَ وَالْأَعْمَالَ
6 - بَاب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الْآيَةَ
4729 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَقَالَ: اقْرَءُوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. . . مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} الْآيَةَ) تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الَّذِي قَبْلَهُ بَيَانُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الذُّهْلِيُّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، أَكْثَرَ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلُ الْعَظِيمُ الْأَكُولُ الشَّرُوبُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ: اقْرَءُوا {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} الْقَائِلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ، أَوْ هُوَ مَرْفُوعٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَالتَّقْدِيرُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَرُبَّمَا أُدْخِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ كَهَذَا، وَجَوَّزَ غَيْرُ أَبِي مَسْعُودٍ أَنْ تَكُونَ طَرِيقُ يَحْيَى هَذِهِ مُعَلَّقَةً، وَقَدْ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ عَنْهُ.
19 -
كهيعص
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} اللَّهُ يَقُولُهُ، وَهُمْ الْيَوْمَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ. {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يَعْنِي قَوْلَهُ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ. {لأَرْجُمَنَّكَ} لَأَشْتِمَنَّكَ، {وَرِئْيًا}
مَنْظَرًا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِدًّا} عِوَجًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وِرْدًا} عِطَاشًا. {أَثَاثًا} مَالًا. {إِدًّا} قَوْلًا عَظِيمًا. {رِكْزًا} صَوْتًا. {غَيًّا} خُسْرَانًا. بُكِيًّا: جَمَاعَةُ بَاكٍ. {صِلِيًّا} صَلِيَ يَصْلَى. {نَدِيًّا} وَالنَّادِي وَاحِدٌ: مَجْلِسًا.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - سُورَةُ كهيعص) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهِيَ لَهُ بَعْدَ التَّرْجَمَةِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَافُ مِنْ كَرِيمٍ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: يَمِينُ بَدَلَ حَكِيمٍ، وَعَزِيزٌ بَدَلَ عَلِيمٍ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ: الْكَافُ مِنَ كَبِيرِ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ من طَرِيقَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كهيعص قَسَمٌ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَمِنْ طَرِيقِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيٍّ قَالَتْ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: يَا كهيعص اغْفِرْ لِي وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} اللَّهُ يَقُولُهُ، وَهُمُ الْيَوْمُ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يَعْنِي قَوْله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ، وَأَبْصَرُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَصَرُ.
قَوْلُهُ: {لأَرْجُمَنَّكَ} لَأَشْتُمَنَّكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّجْمُ الْكَلَامُ.
قَوْلُهُ: (وَرِئْيًا مَنْظَرًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَثَاثُ الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ الْمَنْظَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: الثِّيَابُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الصُّوَرُ. وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا) كَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَمِثْلُهُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ قَالَ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً. وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ: تُطْغِيهِمْ طُغْيَانًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِدًّا} عِوَجًا) سَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وِرْدًا} عِطَاشًا) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {أَثَاثًا} مَالًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا قَالَ: أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَحْسَنُ صُوَرًا.
قَوْلُهُ: {إِدًّا} قَوْلًا عَظِيمًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {غَيًّا} خُسْرَانًا) ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالطَّبَرِيُّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ وَأَتَمَّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: {رِكْزًا} صَوْتًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الرِّكْزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: بُكِيًّا جَمَاعَةُ بَاكٍ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قِيَاسَ جَمْعِ بَاكٍ مِثْلُ قَاضٍ وَقُضَاةٍ، وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ أَصْلَهُ بُكُوًّا
بِالْوَاوِ الثَّقِيلَةِ مِثْلُ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ لِمَجِيئِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ مِثْلُ جَلَسَ جُلُوسًا، ثُمَّ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُكِيِّ نَفْسُ الْبُكَاءِ، ثُمَّ أُسْنِدَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ هَذَا السُّجُودُ فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟ كَذَا قَالَ، وَكَلَامُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْجَمَاعَةَ أَيْضًا أَيْ أَيْنَ الْقَوْمُ الْبُكِيُّ.
قَوْلُهُ: {صِلِيًّا} صَلِيَ يَصْلَى) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَالصِّلِيُّ فُعُولٌ، وَلَكِنِ انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ.
قَوْلُهُ: {نَدِيًّا} وَالنَّادِي وَاحِدٌ مَجْلِسًا) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قَالَ: مَجْلِسًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أَيْ مَجْلِسًا، وَالنَّدِيُّ وَالنَّادِي وَاحِدٌ وَالْجَمْعُ أَنْدِيَةٌ، وَقِيلَ أُخِذَ مِنَ النَّدَى وَهُوَ الْكَرْمُ لِأَنَّ الْكُرَمَاءُ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَجْلِسٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} النَّادِي الْمَجْلِسُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُلَسَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَلْيَمْدُدْ} فَلْيَدَعْهُ) هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ فَلْيَدَعْهُ اللَّهُ فِي طُغْيَانِهِ أَيْ يُمْهِلُهُ إِلَى مُدَّةٍ، وَهُوَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ فِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} فَإِنَّ اللَّهَ يَزِيدُهُ ضَلَالَةً.
1 - بَاب {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
4730 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ. وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ. ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ. وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا - {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَبْحِ الْمَوْتِ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مَشْرُوحًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَيَشْرَئِبُّونَ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءَ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثَقِيلَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَقَوْلُهُ: أَمْلَحُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ صِفَتَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنْذِرْهُمْ} فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْإِدْرَاجِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} فَقَالَ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ إِلَخْ.
2 - بَاب {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ}
4731 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ
رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا الْآخِرَةُ، وَمَا خَلْفَنَا الدُّنْيَا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ فِي النُّزُولِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا جِبْرِيلُ، مَا نَزَلْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، قَالَ: أَنَا كُنْتُ أَشْوَقَ إِلَيْكَ، وَلَكِنِّي مَأْمُورٌ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ قُلْ لَهُ:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي سَبَبِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْبِقَاعُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَأَيُّهَا أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَكَانَ قَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ قُرَيْشًا لَمَّا سَأَلُوا عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُحْدِثُ اللَّهَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ قَالَ لَهُ: أَبْطَأْتَ. فَذَكَرَهُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، لِلدَّاوُدِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلَامًا فِي اسْتِشْكَالِ نُزُولِ الْوَحْيِ فِي الْقَضَايَا الْحَادِثَةِ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ. وَجَوَابُهُ وَاضِحٌ فَلَمْ أَتَشَاغَلْ بِهِ هُنَا، لَكِنْ أَلْمَمْتُ بِهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
(تَنْبِيهٌ): الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَاهُ الْإِذْنُ بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ الْمَذْكُورِ، وَيَحْتَمِلُ الْحُكْمُ؛ أَيْ: نَتَنَزَّلُ مُصَاحِبِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ.
3 - بَاب {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا}
4732 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَبَّابًا قَالَ: جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: لَا، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} . رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَحَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْكُوفِيِّينَ سِوَى عَاصِمٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، لَكِنَّ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ أَشْمَلُ وَهِيَ أَعْجَبُ إِلَيَّ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى) كَذَا رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ مُوسَى وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ بَدَلَ أَبِي الضُّحَى وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَشَذَّ حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ فَقَالَ أَيْضًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ) هُوَ وَالِدُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ لَهُ قَدْرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يُوَفَّقْ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ مِنْ حُكَّامِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَجَارَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ أَسْلَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً وَفِيهَا أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ قَالَ: رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَا لَكُمْ وَلَهُ؟ فَرَدَّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَكَانَ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: عَاشَ أَبِي خَمْسًا وَثَمَانِينَ، وَإِنَّهُ لَيَرْكَبُ حِمَارًا إِلَى الطَّائِفِ فَيَمْشِي عَنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَرْكَبُ، وَيُقَالُ: إِنَّ حِمَارَهُ رَمَاهُ عَلَى شَوْكَةٍ أَصَابَتْ رِجْلَهُ فَانْتَفَخَتْ فَمَاتَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْد هَذِهِ أَنَّهُ أَجَّرَهُ سَيْفًا عَمِلَهُ لَهُ، وَقَالَ فِيهَا: كُنْتَ قَيْنًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٍ وَهُوَ الْحَدَّادُ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَاجْتَمَعَتْ لِي عِنْدَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لَا) أَيْ لَا أَكْفُرُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ حِينَئِذٍ لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَكْفُرُ أَبَدًا. وَالنُّكْتَةُ فِي تَعْبِيرِهِ بِالْبَعْثِ تَعْيِيرُ الْعَاصِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنِ اسْتَشْكَلَ قَوْلِهِ هَذَا فَقَالَ: عَلَّقَ الْكُفْرَ، وَمَنْ عَلَّقَ الْكُفْرَ كَفَرَ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَاصَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ فَعَلَّقَ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ بِزَعْمِهِ، وَالتَّقْرِيرُ الْأَوَّلُ يُغْنِي عَنْ هَذَا الْجَوَابِ.
قَوْلُهُ: (فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ) زَادَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ) أَمَّا رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ فَوَصَلَهَا بَعْدَ هَذَا، وَكَذَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ، وَوَكِيعٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ حَفْصٍ وَهُوَ ابْنُ غِيَاثٍ فَوَصَلَهَا فِي الْإِجَارَةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهِ - وَفِيهِ - قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
4 - بَاب {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا
4733 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ. قَالَ: إِذَا أَمَاتَنِي اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَنِي وَلِي مَالٌ وَوَلَدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا. لَمْ يَقُلْ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ سَيْفًا وَلَا مَوْثِقًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا) سَقَطَ قَوْلُهُ. (مَوْثِقًا) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ الْمُؤَلِّفُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ:{أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَقُلِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ سَيْفًا وَلَا مَوْثِقًا) هُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الثَّوْرِيِّ رِوَايَةُ الْأَشْجَعِيِّ عَنْهُ.
5 - بَاب {كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}
4734 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عن شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي دَيْنٌ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ. قَالَ: فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تبعث. قَالَ: فَذَرْنِي حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ أُبْعَثَ، فَسَوْفَ أُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} .
قَوْلُهُ: بَابُ {كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} سَاقَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ.
6 - بَاب قَوْلُهُ عز وجل {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْجِبَالُ هَدًّا} هَدْمًا
4735 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. قَالَ: قُلْتُ: لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} سَاقَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ كَسِيَاقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَيَحْيَى شَيْخِهِ هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ الْجَوَابُ عَنْ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ الْآيَاتَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَعَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةً، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَمَا وَافَقَهَا.
قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَدًّا} هَدْمًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ.
20 -
طه
قَالَ ابن جبير: بِالنَّبَطِيَّةِ طَهْ يَا رَجُلُ، يُقَالُ: كُلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ عُقْدَةٌ. {أَزْرِي} ظَهْرِي. {فَيُسْحِتَكُمْ} يُهْلِكَكُمْ. {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ. يَقُولُ: بِدِينِكُمْ. يُقَالُ: خُذْ الْمُثْلَى، خُذْ الْأَمْثَلَ. {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ: هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ؟ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ. فَأَوْجَسَ: أضمر خَوْفًا فَذَهَبَتْ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ. {فِي جُذُوعِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ. {خَطْبُكَ} بَالُكَ. {مِسَاسَ} مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا. {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنَذْرِيَنَّهُ. {قَاعًا} يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَوْزَارًا} أَثْقَالًا. {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} الْحُلِيُّ الذي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. فَقَذَفْتُهَا فَأَلْقَيْتُهَا. أَلْقَى صَنَعَ.
فَنَسِيَ مُوسَى هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبَّ. لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا الْعِجْلُ. {هَمْسًا} حِسُّ الْأَقْدَامِ. {حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عَنْ حُجَّتِي. {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِقَبَسٍ} ضَلُّوا الطَّرِيقَ وَكَانُوا شَاتِينَ. فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهَا مَنْ يَهْدِي الطَّرِيقَ آتِكُمْ بِنَارٍ تُوقِدُونَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {أَمْثَلُهُمْ} أَعْدَلُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَضْمًا} لَا يُظْلَمُ فَيُهْضَمُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. {عِوَجًا} وَادِيًا. {وَلا أَمْتًا} رَابِيَةً. {سِيرَتَهَا} حَالَتَهَا الْأُولَى. {النُّهَى} التُّقَى. {ضَنْكًا} الشَّقَاءُ. {هَوَى} شَقِيَ. بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ الْمُبَارَكِ. {طُوًى} اسْمُ الْوَادِي. {بِمَلْكِنَا} بِأَمْرِنَا. {مَكَانًا سُوًى} مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ. {يَبَسًا} يَابِسًا. {عَلَى قَدَرٍ} على مَوْعِدٍ. لَا تَنِيَا لا تَضْعُفَا. يفرط: عقوبة.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ طَهَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: بِالنَّبَطِيَّةِ أَيْ طَهَ يَا رَجُلُ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْ سَعِيدٍ، فَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فِي ذَلِكَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ طَهَ أَيْ طَهَ يَا رَجُلُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ طَهَ: قَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ طَهَ: قَالَ: يَا رَجُلُ بِالنَّبَطِيَّةِ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ: مَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: مَا طَهَ؟ قَالَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ يَا رَجُلُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى النَّبَطِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَرَوَيْنَاهُ فِي الْجَعْدِيَّاتِ لِلْبَغَوِيِّ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ الْأَفْطَسِ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الضَّحَّاكِ، وَزَادَ الْحَارِثُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَا فِي قَوْلِهِ طَهَ قَالَ: يَا رَجُلُ وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ مِثْلِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ أُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى طَهَ، أَيْ طَأِ الْأَرْضَ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَحْوَهُ بِزِيَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ لِطُولِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الصَّدَفِيِّ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ مُوسَى عليه السلام حِينَ كَلَّمَهُ اللَّهُ قَامَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ خَوْفًا، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل طَهَ أَيِ اطْمَئِنَّ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: مَنْ قَرَأَ طَهَ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ فَمَعْنَاهُ يَا رَجُلُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا لُغَةُ عَكٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِلَفْظِ الْحَرْفَيْنِ فَمَعْنَاهُ اطْمَئِنَّ أَوْ طَأِ الْأَرْضَ. قُلْتُ: جَاءَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِعَكِّيٍّ يَا رَجُلُ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ طَهَ.
وَقَرَأَ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ وَرْشٌ، وَقَدْ وَجَّهُوهَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْوَطْءِ إِمَّا بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا أَوْ بِإِبْدَالِهَا هَاءً، فَيُوَافِقُ مَا جَاءَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ قَدْ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا وَلَمْ يَحْذِفْهَا فِي الْأَمْرِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِهَا، لَكِنْ فِي قِرَاءَةِ وَرْشٍ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْبَتَّةَ، وَعَلَى مَا نَقَلَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ يَكُونُ الْمَفْعُولُ هُوَ الضَّمِيرُ وَهُوَ لِلْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ يَكُونُ اسْمًا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ طَهَ مِنْ أَسْمَاءِ السُّورَةِ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَلْقَى} صَنَعَ: {أَزْرِي} ظَهْرِي، {فَيُسْحِتَكُمْ} يُهْلِكَكُمْ) تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ إِلَخْ) وهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}
وَقَوْلُهُ: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَ {خَطْبُكَ} وَ {مِسَاسَ} وَ {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} وَكُلُّهُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: {قَاعًا} يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْقَاعُ الصَّفْصَفُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَاعُ مَا انْبَسَطَ مِنَ الْأَرْضِ وَيَكُونُ فِيهِ السَّرَابُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَالصَّفْصَفُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَوْزَارًا} أَثْقَالًا) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وَهُوَ الْأَثْقَالُ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: عَمَدَ السَّامِرِيُّ إِلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ فَضَرَبَهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى الْقَبْضَةَ فِي جَوْفِهِ فَإِذَا هُوَ عِجْلٌ لَهُ خُوَارٌ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَعَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ عَلَى شَفِيرِ الْمَاءِ فَمَا شَرِبَ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ عَبَدَ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ حَدِيثُ الْفُتُونِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ خَطَبَ هَارُونُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ وَدَائِعٌ وَعَوَارِيُّ، وَأَنَا أَرَى أَنْ نَحْفِرَ حَفِيرَةً وَنُلْقِيَ فِيهَا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ فَنُحْرِقَهُ، وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ وَكَانَ مِنْ جِيرَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاحْتَمَلَ مَعَهُمْ فَرَأَى أَثَرًا فَأَخَذَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بِهَارُونَ فَقَالَ لَهُ: أَلَا تُلْقِي مَا فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: لَا أُلْقِيهَا حَتَّى تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ مَا أُرِيدُ، فَدَعَا لَهُ فَأَلْقَاهَا فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا لَهُ جَوْفٌ يَخُورُ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَهُ رُوحٌ، كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَكَانَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ فِرَقًا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَذَفْتُهَا أَلْقَيْتُهَا، {أَلْقَى} صَنَعَ، فَنَسِيَ مُوسَى هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبُّ، لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا: الْعِجْلُ) تَقَدَّمَ كُلُّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى.
قَوْلُهُ: {هَمْسًا} حِسُّ الْأَقْدَامِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: صَوْتُ الْأَقْدَامِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَطْءُ الْأَقْدَامِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ هَمْسًا قَالَ: صَوْتًا خَفِيًّا.
قَوْلُهُ (حَشَرْتَنِي أَعْمَى عَنْ حُجَّتِي، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا فِي الدُّنْيَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَبَسٍ ضَلُّوا الطَّرِيقَ وَكَانُوا شَاتَيْنِ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ وَفِي آخِرِهِ آتِكُمْ بِنَارٍ تُوقِدُونَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ تَدَّفِئُونَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أَعْدَلُهُمْ) كَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَفِي رِوَايَةِ لِلطَّبَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَفِي أُخْرَى عَنْهُ أَعْلَمُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَضْمًا لَا يَظْلِمُ فَيَهْضِمُ مِنْ حَسَنَاتِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} قَالَ: لَا يَخَافُ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُظْلَمَ فَيُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِ وَلَا يُهْضَمُ فَيُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {عِوَجًا} وَادِيًا، {وَلا أَمْتًا} رَابِيَةً) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِوَجُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَا اعْوَجَّ مِنَ الْمَسَايِلِ وَالْأَوْدِيَةِ، وَالْأَمْتُ الِانْثِنَاءُ، يُقَالُ مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا تَرَكَ فِيهِ أَمْتًا.
قَوْلُهُ: {ضَنْكًا} الشَّقَاءُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلطَّبَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ فِي قَوْلِهِ {مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: رِزْقًا فِي مَعْصِيَةٍ، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ {مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا مُسْتَنِدًا إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَاتِ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وَفِي تَفْسِيرِ الضَّنْكِ أَقْوَالٌ أُخْرَى:
قِيلَ الضِّيقُ وَهَذَا أَشْهَرُهَا، وَيُقَالُ إِنَّهَا كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مَعْنَاهَا الضِّيقُ وَأَصْلُهَا التَّنْكُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ بَدَلَ الضَّادِ فَعُرِّبَتْ، وَقِيلَ الْحَرَامُ، وَقِيلَ الْكَسْبُ الْخَبِيثُ.
قَوْلُهُ: {هَوَى} شَقِيَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {سِيرَتَهَا} حَالَتَهَا الْأُولَى، وَقَوْلُهُ {النُّهَى} التُّقَى، {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} الْمُبَارَكُ، {طُوًى} اسْمُ الْوَادِي) تَقَدَّمَ كُلُّهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {بِمَلْكِنَا} بِأَمْرِنَا، {سُوًى} مُنَصَّفٌ بَيْنَهُمْ، {يَبَسًا} يَابِسًا. {عَلَى قَدَرٍ} عَلَى مَوْعِدٍ) سَقَطَ هَذَا كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (يَفْرُطُ: عُقُوبَةً) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فِي قَوْلِهِ:{أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قَالَ: يَقْدَمُ عَلَيْنَا بِعُقُوبَةٍ، وَكُلُّ مُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَعَجِّلٍ فَارِطٌ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَنِيَا} لَا تَضْعُفَا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَلا تَنِيَا} لَا تُبْطِئَا.
1 - بَاب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
4736 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: أنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ؟ قَالَ له آدَمُ: آنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى
قَوْلُهُ: بَابُ {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ وَاصْطَفَيْتُكَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَلَعَلَّهَا ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ.
وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى وَآدَمَ عليهما السلام وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ.
2 - بَاب {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
4737 -
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصُومُوهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} إِلَخْ) وَقَعَ عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَهُوَ خِلَافُ التِّلَاوَةِ.
قَوْلُهُ: (الْيَمُّ الْبَحْرُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ.
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مُسْتَوْفًى.
3 - بَاب {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}
4738 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَاجَّ مُوسَى آدَمَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ. قَالَ: قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى، أَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى وَآدَمَ عليهما السلام، وَسَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
21 - سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
4739 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي. وَقَالَ قَتَادَةُ:{جُذَاذًا} قَطَّعَهُنَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {فِي فَلَكٍ} مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، {يَسْبَحُونَ} يَدُورُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{نَفَشَتْ} رَعَتْ لَيْلًا، {يُصْحَبُونَ} يُمْنَعُونَ، {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {أَحَسُّوا} تَوَقَّعُوا، مِنْ أَحْسَسْتُ، {خَامِدِينَ} هَامِدِينَ، حصيد مُسْتَأْصَلٌ، يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجَمِيعِ {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لَا يُعْيُونَ، وَمِنْهُ {حَسِيرٌ} وَحَسَرْتُ بَعِيرِي، عَمِيقٌ: بَعِيدٌ، نُكِّسُوا: رُدُّوا، {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدُّرُوعُ، {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} اخْتَلَفُوا، الْحَسِيسُ وَالْحِسُّ وَالْجَرْسُ وَالْهَمْسُ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّوْت الْخَفِيّ، {آذَنَّاكَ} أَعْلَمْنَاكَ، {آذَنْتُكُمْ} إِذَا أَعْلَمْتَهُ، فَأَنْتَ وَهُوَ {عَلَى سَوَاءٍ} لَمْ تَغْدِرْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُفْهَمُونَ، {ارْتَضَى} رَضِيَ، {التَّمَاثِيلُ} الْأَصْنَامُ، السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَنِي إِسْرَائِيلَ كَذَا فِيهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ وَهَمٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَبَقِيَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَخْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يَذْكُرُهُ فِي تِلْكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ خَمْسَ سُوَرٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ آيَاتٍ مِنْهُنَّ أَمَّا فِي سُبْحَانَ فَقَوْلُهُ:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} - إِلَى - {تَحْوِيلا} وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الْآيَةَ. وَفِي الْكَهْفِ قَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ، وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى {أَحْسَنُ عَمَلا} وَفِي مَرْيَمَ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} الْآيَةَ. وَفِي طَهَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} الْآيَةَ، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا} الْآيَةَ، قِيلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مَكِّيَّاتٌ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: {جُذَاذًا} قَطَّعَهُنَّ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أَيْ قِطَعًا.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ {جُذَاذًا} بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَهُوَ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُكَسَّرِ كَالْحُطَامِ فِي الْمُحَطَّمِ، وَقِيلَ جَمْعُ جُذَاذَةٍ كَزُجَاجٍ وَزُجَاجَةٍ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ فَقِيلَ هُوَ جَمْعُ جَذِيذٍ كَكِرَامٍ وَكَرِيمٍ، فِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى فِي الشَّوَاذِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: {فِي فَلَكٍ} مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ) وَصَلَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مِثْلُ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ.
قَوْلُهُ: {يَسْبَحُونَ} يَدُورُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قَالَ: يَدُورُونَ حَوْلَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ {فِي فَلَكٍ} كَهَيْئَةِ حَدِيدَةِ الرَّحَى {يَسْبَحُونَ} يَجْرُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ يَسْبَحُونَ لِأَنَّ السِّبَاحَةَ مِنْ أَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ فَذُكِرَتْ بِالنُّونِ مِثْلُ {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نَفَشَتْ} رَعَتْ لَيْلًا) سَقَطَ لَيْلًا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ: نَفَشَتْ إِذَا رَعَتْ لَيْلًا بِلَا رَاعٍ، وَإِذَا رَعَتْ نَهَارًا بِلَا رَاعٍ قِيلَ هَمَلَتْ.
قَوْلُهُ: {يُصْحَبُونَ} يُمْنَعُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قَالَ: يُمْنَعُونَ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُمْنَعُونَ قَالَ: يُنْصَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ.
قَوْلُهُ: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ) قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} قَالَ: دِينُكُمْ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} حَطَبٌ بِالْحَبَشَةِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَرَوَى الْفَرَّاءُ بِإِسْنَادَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَرَآ حَطَبٌ بِالطَّاءِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ الْمَنْقُوطَةِ قَالَ وَهُوَ مَا هُيِّجَتْ بِهِ النَّارُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: أَحَسُّوا تَوَقَّعُوا مِنْ أَحْسَسْتُ) كَذَا لَهُمْ وَلِلنَّسَفِيِّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَحَسُّوا إِلَخْ، وَمَعْمَرٌ هَذَا هُوَ بِالسُّكُونِ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اللُّغَوِيُّ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ نَقْلَ كَلَامِهِ، فَتَارَةً يُصَرِّحُ بِعَزْوِهِ وَتَارَةً يُبْهِمُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} لَقُوهُ يُقَالُ هَلْ أَحْسَسْتُ فُلَانًا أَيْ هَلْ وَجَدْتُهُ، وَهَلْ أَحْسَسْتُ مِنْ نَفْسِكَ ضَعْفًا أَوْ شَرًّا.
قَوْلُهُ: {خَامِدِينَ} هَامِدِينَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلِهِ: {حَصِيدًا خَامِدِينَ} مَجَازُ خَامِدٍ أَيْ هَامِدٍ، كَمَا يُقَالُ لِلنَّارِ إِذَا طُفِّئَتْ خَمَدَتْ، قَالَ: وَالْحَصِيدُ الْمُسْتَأْصَلُ، وَهُوَ يُوصَفُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ كَأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَصْدَرِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ {كَانَتَا رَتْقًا} وَمِثْلُهُ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}
قَوْلُهُ: (وَالْحَصِيدُ مُسْتَأْصَلٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ حَصِيدًا مُسْتَأْصَلًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ كَمَا ذَكَرْتُهُ قَبْلُ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقِصَّةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ حَضُورٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، قَرْيَةٌ بِصَنْعَاءَ مِنْ الْيَمَنِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقِيلَ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنْ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ شُعَيْبٌ وَلَيْسَ صَاحِبُ مَدْيَنَ بَيْنَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى فَكَذَّبُوهُ فَقَصَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَدْ رَوَى قِصَّتَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ.
قَوْلُهُ: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لَا يَعِيبُونَ، وَمِنْهُ حَسِيرٌ وَحَسَرْتُ بَعِيرِي) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَكَذَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} قَالَ: لَا يَعِيبُونَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ يَعْيَوْنَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ ووهاه ابْنُ التِّينِ وَقَالَ: هُوَ مِنْ أُعْيِيَ أَيِ الصَّوَابُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: {عَمِيقٍ} بَعِيدٌ) كَذَا ذَكَرَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِجَاجًا وَجَاءَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} كَأَنَّهُ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذِهِ لِهَذِهِ أَوْ كَانَ فِي طُرَّةٍ فَنَقَلَهَا النَّاسِخُ إِلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
قَوْلُهُ: {نُكِسُوا} رُدُّوا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَيْ قُلِبُوا، وَتَقُولُ نَكَسْتُهُ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا قَهَرْتَهُ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: نُكِسُوا رَجَعُوا. وَتَعَقَّبَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَارُوا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ قُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ فَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (نَكَسُوا) بِالْفَتْحِ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ نَكَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ.
قَوْلُهُ: {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدُّرُوعُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اللَّبُوسُ السِّلَاحُ كُلُّهُ مِنْ دِرْعٍ إِلَى رُمْحٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: اللَّبُوسُ الدُّرُوعُ كَانَتْ صَفَائِحَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا دَاوُدُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ لِتُحْصِنَكُمْ بِالْمُثَنَّاةِ فَلِتَأْنِيثِ الدُّرُوعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ فَلِتَذْكِيرِ اللَّبُوسِ.
قَوْلُهُ (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمُ اخْتَلَفُوا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَتَفَرَّقُوا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِي الدِّينِ.
قَوْلُهُ: (الْحَسِيسُ وَالْحِسُّ وَالْجَرْسُ وَالْهَمْسُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنَ الصَّوْتِ الْخَفِيِّ) سَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ وَالْهَمْسُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ صَوْتَهَا، وَالْحَسِيسُ وَالْحِسُّ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ.
قَوْلُهُ: {آذَنَّاكَ} أَعْلَمْنَاكَ، {آذَنْتُكُمْ} إِذَا أَعْلَمْتُهُ فَأَنْتَ وَهُوَ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ تَغْدِرْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} إِذَا أَنْذَرْتُ عَدُوَّكَ وَأَعْلَمْتُهُ ذَلِكَ وَنَبَذْتُ إِلَيْهِ الْحَرْبَ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَهُوَ عَلَى سَوَاءٍ فَقَدْ أذَنْتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. وَقَوْلُهُ: (آذَنَّاكَ) هُوَ فِي سُورَةِ حم فُصِّلَتْ ذَكَرَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُفْهَمُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ تُفْقَهُونَ.
قَوْلُهُ: {ارْتَضَى} رَضِيَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ رَضِيَ عَنْهُ وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {التَّمَاثِيلُ} الْأَصْنَامُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {السِّجِلِّ} الصَّحِيفَةُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَجَزَمَ بِهِ الْفَرَّاءُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كَطَيِّ السِّجِلِّ} يَقُولُ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى الْكِتَابِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ كَطَيِّ السِّجِلِّ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ وَقِيلَ عَلَى بِمَعْنَى مِنْ أَيْ مِنْ أَجْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الصَّحِيفَةَ تَطْوِي حَسَنَاتَهُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابَةِ. وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ اسْمُ كَاتِبٍ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: وَالسِّجِلُّ الرَّجُلُ بِلِسَانِ الْحَبَشِ. وَعِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: السِّجِلُّ الْمَلَكُ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ مِثْلُهُ. وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ عَنِ النَّقَّاشِ أَنَّهُ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ تَرْفَعُ الْحَفَظَةُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالَ كُلَّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَعْضُ مَعْنَاهُ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ أَنَّ السِّجِلَّ اسْمُ الْكَاتِبِ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي أَصْحَابِهِ مَنِ اسْمُهُ السِّجِلُّ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَا وُجِدَ إِلَّا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ حَصْرٌ مَرْدُودٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَوْرَدَاه مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَاتِبٌ يُقَالُ لَهُ سِجِلٌّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
2 - بَاب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}
4740 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ - شَيْخٌ مِنْ النَّخَعِ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا،
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، ثم يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {شَهِيدٌ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حديث ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - سُورَةُ الْحَجِّ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {الْمُخْبِتِينَ} الْمُطْمَئِنِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ، وَيُقَالُ أُمْنِيَّتُهُ: قِرَاءَتُهُ، {إِلا أَمَانِيَّ} يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَشِيدٌ بِالْقَصَّةِ، جِصٌّ. وَقَالَ غَيْرُهُ {يَسْطُونَ} يَفْرُطُونَ مِنْ السَّطْوَةِ، وَيُقَالُ:{يَسْطُونَ} يَبْطِشُونَ {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا إِلَى الْقُرْآنِ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{بِسَبَبٍ} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ، {تَذْهَلُ} تُشْغَلُ.
قَوْلُهُ (سُورَةُ الْحَجِّ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {الْمُخْبِتِينَ} الْمُطْمَئِنِّينَ) هُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَكِنْ أَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمُصَلِّينَ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْمُتَوَاضِعِينَ. وَالْمُخْبِتُ مِنَ الْإِخْبَاتِ ; وَأَصْلُهُ الْخَبْتُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُقَطَّعًا.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ أُمْنِيَتُهُ قِرَاءَتُهُ، {إِلا أَمَانِيَّ} يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: التَّمَنِّي التِّلَاوَةُ قَالَ: وَقَوْلُهُ: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} قَالَ: الْأَمَانِيُّ أَنْ يَفْتَعِلَ الْأَحَادِيثَ، وَكَانَتْ أَحَادِيثُ يَسْمَعُونَهَا مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَلَيْسَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ
…
تَمَنِّي دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلٍ
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالتَّمَنِّي أَيْضًا حَدِيثُ النَّفْسِ انْتَهَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ بَعْدَ أَنْ سَاقَ رِوَايَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَأَعْلَاهُ وَأَجَلُّهُ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: بِمِصْرَ صَحِيفَةٌ فِي التَّفْسِيرِ رَوَاهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَوْ رَحَلَ رَجُلٌ فِيهَا إِلَى مِصْرَ قَاصِدًا مَا كَانَ كَثِيرًا انْتَهَى. وَهَذِهِ النُّسْخَةُ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ رَوَاهَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي صَحِيحِهِ هَذَا كَثِيرًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَمَاكِنِهِ وَهِيَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ بِوَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي صَالِحٍ انْتَهَى.
وَعَلَى تَأْوِيلِ ابْن عَبَّاسٍ هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَالنَّجْمُ، فَلَمَّا بَلَغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمَ، فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْتَهَى.
وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّحَّاسُ بِسَنَدٍ آخَرَ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مُطَوَّلًا، وَأَسْنَدَهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فِي السِّيرَةِ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرِيُّ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ ; وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، وَأَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيِّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْرَدَهَا الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْنَاهُمْ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَكُلُّهَا سِوَى طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِمَّا ضَعِيفٌ وَإِلَّا مُنْقَطِعٌ، لَكِنْ كَثْرَةُ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْقِصَّةِ أَصْلًا، مَعَ أَنَّ لَهَا طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ رِجَالُهُمَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَالثَّانِي مَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَرَّقَهُمَا عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَدْ تَجَرَّأَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ كَعَادَتِهِ فَقَالَ: ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَا قَوْلُ عِيَاضٍ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ وَلَا رَوَاهُ ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ مَعَ ضَعْفِ نَقَلَتِهِ وَاضْطِرَابِ رِوَايَاتِهِ وَانْقِطَاعِ إِسْنَادِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَمَنْ حُمِلَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ لَمْ يُسْنِدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا رَفَعَهَا إِلَى صَاحِبٍ، وَأَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَأَمَّا الْكَلْبِيُّ فَلَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ لِقُوَّةِ ضَعْفِهِ.
ثُمَّ رَدَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَارْتَدَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ انْتَهَى، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوَاعِدِ، فَإِنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَسَانِيدَ مِنْهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ وَكَذَا مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِمَّا يُسْتَنْكَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَزِيدَ فِي الْقُرْآنِ عَمْدًا مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَا سَهْوًا إِذَا كَانَ مُغَايِرًا لِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ - وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَسَالِكَ، فَقِيلَ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ حِينَ أَصَابَتْهُ سِنَةٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ أَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ. وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، وَرَدَّهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَلَا
وِلَايَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ، وَقِيلَ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْجَأَهُ إِلَى أَنْ قَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَرَدَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ:{وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الْآيَةَ قَالَ: فَلَوْ كَانَ لِلشَّيْطَانِ قُوَّةٌ عَلَى ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لِأَحَدٍ قُوَّةٌ فِي طَاعَةٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا ذَكَرُوا آلِهَتَهُمْ وَصَفُوهُمْ بِذَلِكَ، فَعَلَّقَ ذَلِكَ بِحِفْظِهِ صلى الله عليه وسلم فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمَّا ذَكَرَهُمْ سَهْوًا. وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عِيَاضٌ فَأَجَادَ. وَقِيلَ لَعَلَّهُ تَوْبِيخًا لِلْكُفَّارِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ جَائِزًا - وَإِلَى هَذَا نَحَا الْبَاقِلَّانِيُّ. وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} خَشِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا بِشَيْءٍ يَذُمُّ آلِهَتَهُمْ بِهِ فَبَادَرُوا إِلَى ذَلِكَ فَخَلَطُوهُ فِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَادَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وَنُسِبَ ذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ لِكَوْنِهِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ شَيْطَانُ الْإِنْسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغَرَانِيقِ الْعُلَى الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَيَعْبُدُونَهَا، فَسِيقَ ذِكْرُ الْكُلِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَقَالُوا: قَدْ عَظَّمَ آلِهَتَنَا، وَرَضُوا بِذَلِكَ، فَنَسَخَ اللَّهُ تِلْكَ الْكَلِمَتَيْنِ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ. وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ فَارْتَصَدَهُ الشَّيْطَانُ فِي سَكْتَةٍ مِنَ السَّكَتَاتِ وَنَطَقَ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُحَاكِيًا نَغْمَتَهُ بِحَيْثُ سَمِعَهُ مَنْ دَنَا إِلَيْهِ فَظَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِ وَأَشَاعَهَا. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَفْسِيرِ (تَمَنَّى) بِتَلَا.
وَكَذَا اسْتَحْسَنَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ هَذَا التَّأْوِيلُ وَقَالَ قَبْلَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ فِي مَذْهَبِنَا فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ - قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ إِذَا قَالُوا قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَهُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ قَالَ: وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ فِي النَّظَرِ فَصَوَّبَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَحَوَّمَ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا فَتَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مَكِّيَّةٌ، لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ فِيهَا أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَبِي ذَرٍّ فِي {هَذَانِ خَصْمَانِ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الْآيَةَ وَبَعْدَهَا {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهَا مَكِّيٌّ وَنَزَلَ مِنْهَا آيَاتٌ بِالْمَدِينَةِ وَلَهَا نَظَائِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَشِيدٌ بِالْقَصَّةِ، جِصٌّ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قَالَ: بِالْقَصَّةِ يَعْنِي الْجِصَّ وَالْقَصَّةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ هِيَ الْجِصُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْمَشِيدُ الْمُجَصَّصُ، قَالَ: وَالْجِصُّ فِي الْمَدِينَةِ يُسَمَّى الشَّيْدُ، وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ امْرِئِ الْقِيسِ:
وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ
…
وَلَا أُجُمًا إِلَّا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُهُ شَيَّدُوهُ وَحَصَّنُوهُ. وَقِصَّةُ الْقَصْرِ الْمَشِيدِ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ شَدَّادِ بْنِ عَادٍ فَصَارَ مُعَطَّلًا بَعْدَ الْعُمْرَانِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالٍ مِمَّا يُسْمَعُ فِيهِ مِنْ أَصْوَاتِ الْجِنِّ الْمُنْكَرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: (يَسْطُونَ) يَفْرُطُونَ مِنَ السَّطْوَةِ، وَيُقَالُ يَسْطُونَ يَبْطِشُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أَيْ يَفْرُطُونَ عَلَيْهِ مِنَ السَّطْوَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِذَا سَمِعُوا الْمُسْلِمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَادُوا يَبْطِشُونَ بِهِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ طَهَ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنِي شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{يَكَادُونَ}
أَيْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ {يَسْطُونَ} أَيْ يَبْطِشُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ الْقُرْآنَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{يَسْطُونَ} فَقَالَ: يَبْطِشُونَ.
قَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الْإِسْلَامِ، هَكَذَا لَهُمْ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِسَبَبٍ} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ بِحَبْلٍ إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ.
قَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{ثَانِيَ عِطْفِهِ} قَالَ: مُسْتَكْبِرٌ فِي نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا إِلَى الْقُرْآنِ سَقَطَ قَوْلُهُ: إِلَى الْقُرْآنِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ} أُلْهِمُوا وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ: إِلَى الْقُرْآنِ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الْإِسْلَامِ وَهَذَا هُوَ التَّحْرِيرُ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} قَالَ: أُلْهِمُوا. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلِهِ:{إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} قَالَ: الْقُرْآنُ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الْإِسْلَامُ.
قَوْلُهُ: {تَذْهَلُ} تُشْغَلُ) رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أَيْ تَسْلُو مِنْ شِدَّةِ خَوْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أَيْ تَسْلُو، قَالَ الشَّاعِرُ:
صَحَا قَلْبُهُ يَا عَزُّ أَوْ كَادَ يَذْهَلُ
وَقِيلَ: الذُّهُولُ الِاشْتِغَالُ عَنِ الشَّيْءِ مَعَ دَهَشٍ.
1 - بَاب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}
4741 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ! فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ - أُرَاهُ قَالَ - تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. قَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وَقَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} سَقَطَ الْبَابُ وَالتَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقُدِّمَ عِنْدَهُمُ الطَّرِيقُ الْمَوْصُولُ عَلَى
التَّعَالِيقِ، وَعُكِسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ الْمَوْصُولِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ:{سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} يَعْنِي أَنَّهُ وَافَقَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) أَيْ أَنَّهُ جَزَمَ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ حَفْصٍ فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ أَرَاهُ قَالَ فَذَكَرَهُ. وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ هَذِهِ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَرِيرٌ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ: (سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى) يَعْنِي أَنَّهُمْ رَوَوْهُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا وَمَتْنِهِ لَكِنَّهُمْ خَالَفُوا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ جَرِيرٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الرِّقَاقِ كَمَا قَالَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ فَوَصَلَهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَرَوَاهَا بِلَفْظِ سَكْرَى أَبُو بَكْرٍ بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَقَالَا فِي رِوَايَتِهِمَا:{سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْهُ مَقْرُونَةً بِرِوَايَةِ وَكِيعٍ وَأَحَالَ بِهِمَا عَلَى رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَاضِرٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَسْعُودِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ سَكْرَى وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى) قَالَ: وَهُوَ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ انْتَهَى. وَنَقْلَهُ الْإِجْمَاعُ عَجَبٌ، مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهُ الْكُوفِيِّينَ يَحْيَى بْنَ وَثَّابٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْأَعْمَشَ، وَالْكِسَائِيَّ قَرَءُوا وبِمِثْلِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَقَلَهَا أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي سَكْرَى هَلْ هِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ عَلَى فَعْلَى مِثْلُ مَرْضَى أَوْ صِيغَةُ مُفْرَدٍ فَاسْتُغْنِيَ بِهَا عَنْ وَصْفِ الْجَمَاعَةِ.
2 - بَاب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}
شَكٍّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أَتْرَفْنَاهُمْ: وَسَّعْنَاهُمْ.
4742 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شَكٍّ) سَقَطَ لَفْظُ شَكٍّ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: حَرْفٌ وَهُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَاكٍّ فِي شَيْءٍ فَهُوَ عَلَى حَرْفٍ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَدُومُ، وَزَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَ حَرْفٍ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}
قَوْلُهُ: (أَتْرَفْنَاهُمْ وَسَّعْنَاهُمْ) كَذَا وَقَعَ هُنَا عِنْدَهُمْ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} مَجَازُهُ وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ، وَأُتْرِفُوا بَغَوْا وَكَفَرُوا.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) هُوَ الْكَرْمَانِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ الْمِصْرِيِّ
يَلْتَبِسَانِ، لَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا النِّسْبَةُ، الثَّانِي أَبُو هَذَا فِيهِ أَدَاةُ الْكُنْيَةِ بِخِلَافِ الْمِصْرِيِّ، الثَّالِثُ وَلَا يَظْهَرُ غَالِبًا أَنَّ بُكَيْرًا جَدُّ الْمِصْرِيِّ وَأَبَا بُكَيْرٍ وَالِدُ الْكَرْمَانِيِّ، الرَّابِعُ الْمِصْرِيُّ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ وَالْكَرْمَانِيُّ شَيْخُ شَيْخِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ) كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْصُولًا، وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَلَمْ يُجَاوِزْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمِ الصَّائِغِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَذَكَرَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلَهُ: (كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَيُسْلِمُ) فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمُونَ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ) هُوَ بِضَمِّ نُونٍ نُتِجَتْ فَهِيَ مَنْتُوجَةٌ مِثْلُ نُفِسَتْ فَهِيَ مَنْفُوسَةٌ، زَادَ الْعُوفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ جِسْمُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَإِنْ صَحَّ جِسْمُهُ الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ خِصْبٍ وَغَيْثٍ وَوِلَادٍ وَقَوْلُهُ: قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ رَضِيَ وَاطْمَأَنَّ وَقَالَ: مَا أَصَبْتُ فِي دِينِي إِلَّا خَيْرًا وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَالَ: لَنِعْمَ الدِّينُ هَذَا وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لَصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ تَلِدْ إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ وَقَحْطٍ وَوِلَادِ سُوءٍ قَالُوا مَا فِي دِينِنَا هَذَا خَيْرٌ وَفِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ وَإِنْ أَصَابَهُ وَجَعُ الْمَدِينَةِ وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتَ عَلَى دِينِكَ هَذَا إِلَّا شَرًّا، وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَإِنْ سَقِمَ جِسْمُهُ وَحُبِسَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ وَأَصَابَتْهُ الْحَاجَةُ قَالَ: وَاللَّهِ لَيْسَ الدِّينُ هَذَا، مَا زِلْتُ أَتَعَرَّفُ النُّقْصَانَ فِي جِسْمِي وَحَالِي وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَعَارِيبَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ انْتَقَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِذَرَارِيِّهِمْ وَامْتَنُّوا بِذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَسْلَمَ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ: لَمْ أُصِبْ فِي دِينِي خَيْرًا.
3 - بَاب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
4743 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فيها قَسَمًا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ .. قَوْلَهُ
4744 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَيْسٌ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ هُمْ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ
عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
قوله: بَابُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الْخَصْمَانِ تَثْنِيَةُ خَصْمٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ الْمُخَاصَمَةُ.
قَوْلُهُ: (يُقْسِمُ قَسَمًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُقْسِمُ فِيهَا وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مُسْتَوْفًى، وَنَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ (عَنْ أَبِي هَاشِمٍ) أَيْ شَيْخُ هُشَيْمٍ فِيهِ، وَهُوَ الرُّمَّانِيُّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَلِسُفْيَانَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُجِيبٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ) أَيِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (عَنْ جَرِيرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ (عَنْ مَنْصُورٍ) أَيِ ابْنِ الْمُعْتَمِرِ (عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَوْلُهُ) أَيْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَيْسٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادٍ الرَّاوِي الْمَذْكُورُ (وَفِيهِمْ نَزَلَتْ)، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ عَلَى قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ فِي الصَّحَابِيِّ، بَلْ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ تَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ قَيْسٍ، عَنْ عَلِيٍّ هَذَا الْقَدرَ الْمَذْكُورَ هُنَا فَقَطْ، وَرِوَايَةُ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ تَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَا سَبَقَ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى عَلِيٍّ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِي مُبَارَزَتِنَا يَوْمَ بَدْرٍ: {هَذَانِ خَصْمَانِ} وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ مَا فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرِ الرَّازِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ كَهْمَسَ بْنَ الْحَسَنِ رَوَاهُ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَأَشَارَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مُدْرَجَةٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ مُعْتَمِرٍ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ مُسْعَدَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ كَرِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَنْ عَلِيٍّ مَعًا بِدَلِيلِ اخْتِلَافِ سِيَاقِهِمَا.
ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي إِرْسَالِهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَوَصْلَهُ، فَوَصَلَهُ عَنْهُ أَبُو هَاشِمٍ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَهُشَيْمٌ عَنْهُ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فَوَقَفَهُ عَلَى قَيْسٍ، وَأَمَّا مَنْصُورٌ فَوَقَفَهُ عَلَى أَبِي مِجْلَزٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْوَاصِلِ إِذَا كَانَ حَافِظًا، وَسُلَيْمَانُ، وَأَبُو هَاشِمٍ مُتَقَارِبَانِ فِي الْحِفْظِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ مَعَهُ زِيَادَةٌ، وَالثَّوْرِيُّ أَحْفَظُ مِنْ مَنْصُورٍ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَلَى أَنَّ الطَّبَرِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ مَوْصُولًا، فَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَرْتَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ كَمَا أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا أُعِيدُ مِثْلَ هَذَا لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: هُمُ الْكُفَّارُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ هُوَ اخْتِصَامُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الْبَعْثِ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي تَعْمِيمِ الْآيَةِ قَالَ: وَلَا يُخَالِفُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي ذَرٍّ لِأَنَّ الَّذِينَ تَبَارَزُوا بِبَدْرٍ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مُؤْمِنِينَ وَكُفَّارَ، إِلَّا أَنَّ الْآيَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي نَظِيرِ ذَلِكَ السَّبَبِ.
23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {سَبْعَ طَرَائِقَ} سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. {لَهَا سَابِقُونَ} سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ. {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}
خَائِفِينَ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بَعِيدٌ بَعِيدٌ. {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الْمَلَائِكَةَ. {لَنَاكِبُونَ} لَعَادِلُونَ. {كَالِحُونَ} عَابِسُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {مِنْ سُلالَةٍ} الْوَلَدُ، وَالنُّطْفَةُ: السُّلَالَةُ. وَالْجِنَّةُ وَالْجُنُونُ وَاحِدٌ. وَالْغُثَاءُ: الزَّبَدُ، وَمَا ارْتَفَعَ عَنْ الْمَاءِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. {يَجْأَرُونَ} يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ. {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ. {سَامِرًا} مِنْ السَّمَرِ، وَالْجَمعُ السُّمَّارُ، وَالسَّامِرُ هَا هُنَا فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ. {تُسْحَرُونَ} تَعْمَوْنَ مِنْ السِّحْرِ.
قَوْلُهُ (سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {سَبْعَ طَرَائِقَ} سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) هُوَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ رِوَايَةِ سَعيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَيْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَثَلَهُ.
قَوْلُهُ {سَابِقُونَ} سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ) ثَبَتَتْ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خَائِفِينَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ يَعْمَلُونَ خَائِفِينَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ خَائِفَةٌ. وَلِلطَّبَرَيْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدُ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَثَلَهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهْوَ الرَّجُلَ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بِعِيدٍ بَعِيدٍ) وَصَلَهُ الطَّبَرَيْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَثَلَهُ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ تَبَاعُدُ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ الْفِرَاءُ: إِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي لَمَّا تُوعِدُونَ لِأَنَّ هَيْهَاتَ أَدَاةً لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ فِعْلٍ بِمَنْزِلَةِ قَرِيبٍ وَبِعِيدٍ كَمَا تَقُولُ: هَلُمَّ لَكَ فَإِذَا قُلْتَ أَقْبَلُ لَمْ تَقُلْ لَكَ.
قَوْلُهُ {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الْمَلَائِكَةُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فَأُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسْفِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَاسْأَلْ إِلَخْ، وَهُوَ أَوْلَى، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ الْعَادِّينَ. قَالَ: الْحُسَّابُ أَيْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ.
قَوْلُهُ {تَنْكِصُونَ} تَسْتَأْخِرُونَ) ثَبَتَ عِنْدَ النَّسْفِي وَحَدَّهُ، وَوَصْلَهُ الطَّبَرَيْ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ. قَوْلُهُ {لَنَاكِبُونَ} لَعَادِلُونَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَنَاكِبُونَ إلَخْ وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ وَفِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَثَلُهُ زَادَ: وَيُقَالُ نَكَبَ عَنِ الطَّرِيقِ أَيْ عَدَلَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ {كَالِحُونَ} عَابِسُونَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلَيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مِثْلُ كُلُوحِ الرَّأْسِ النَّضِيخِ، وَكَشَّرَ عَنْ ثَغْرِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقْلُصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا وَتَسْتَرْخِي السُّفْلَى.
قَوْلُهُ (وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ سُلَالَةِ الْوَلَدَ، وَالنُّطْفَةُ السُّلَالَةُ) سَقَطَ وَقَالَ غَيْرُهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ} السُّلَالَةُ الْوَلَدُ، وَالنُّطْفَةُ السُّلَالَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ
…
سُلَالَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ
انْتَهَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {مِنْ سُلالَةٍ} اسْتُلَّ آدَمُ مِنْ طِينٍ وَخُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْكَرْمَانِيُّ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ لَا يَصْحُ تَفْسِيرُ السُّلَالَةِ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ مِنَ الْوَلَدِ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُفَسِّرِ السُّلَالَةَ بِالْوَلَدِ، بَلِ الْوَلَدُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ السُّلَالَةُ، وَالْمَعْنَى السُّلَالَةُ وَمَا يَسْتَلُّ مِنَ الشَّيْءِ كَالْوَلَدِ وَالنُّطْفَةِ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ مُمْكِنٌ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ يَأْبَاهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَبُو عُبَيْدَةَ تَفْسِيرَ السُّلَالَةِ بِالْوَلَدِ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ لَفْظَ السُّلَالَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالنُّطْفَةِ وَالشَّيْءِ الَّذِي يَسْتَلُّ مِنَ الشَّيْءِ وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا وَرَدَ فِيهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَ.
قَوْلُهُ (وَالْجَنَّةُ وَالْجُنُونُ وَاحِدٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ (وَالْغُثَاءُ الزَّبَدُ وَمَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} الْغُثَاءُ الزَّبَدُ، وَمَا ارْتَفَعَ عَلَى الْمَاءِ مِنَ الْجِيَفِ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي شَيْءٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ (غُثَاءً) قَالَ: هُوَ الشَّيْءُ الْبَالِيَ.
قَوْلُهُ (يَجْأَرُونَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الزَّكَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ (عَلَى أَعْقَابِكُمْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ (سَامِرًا مِنَ السَّمَرِ وَالْجَمْعِ السُّمَّارُ، وَالسَّامِرُ هَاهُنَا فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ) ثَبَتَ هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ.
قَوْلُهُ (تُسْحَرُونَ تَعْمَوْنَ مِنَ السِّحْرِ).
24 - سُورَةُ النُّورِ
{مِنْ خِلالِهِ} مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ. {سَنَا بَرْقِهِ} وَهُوَ الضِّيَاءُ، {مُذْعِنِينَ} يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ {أَشْتَاتًا} وَشَتَّى وَشَتَاتٌ وَشَتٌّ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتْ السُّورَةُ لِأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنْ الْأُخْرَى، فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ قُرْآنًا. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ مَا جُمِعَ فِيهِ، فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ، وَيُقَالُ لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ؛ أَيْ: تَأْلِيفٌ، وَسُمِّيَ الْفُرْقَانَ؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ أَيْ لَمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا. وقال فَرَّضْنَاهَا أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً، وَمَنْ قَرَأَ فَرَضْنَاهَا يَقُولُ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لَمْ يَدْرُوا، لِمَا بِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:{أُولِي الإِرْبَةِ} مَنْ لَيْسَ لَهُ أَرَبٌ.:. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُهِمُّهُ إِلَّا بَطْنُهُ، وَلَا يَخَافُ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْأَحْمَقُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ النُّورِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ){مِنْ خِلالِهِ} مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَفْظَةُ أَضْعَافٍ أَوْ بَيْنَ مَزِيدَةٌ، فَإِنَّ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ بِأَحَدِهِمَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ (يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ) قَالَ هَارُونُ أَحَدُ رُوَاتِهِ: فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّهَا لَحَسَنَةٌ وَلَكِنَّ خِلَالَهُ أَعَمُّ.
قَوْلُهُ: {سَنَا بَرْقِهِ} وَهُوَ الضِّيَاءُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} مَقْصُورٌ أَيْ ضِيَاءُ، وَالسَّنَاءُ مَمْدُودٌ فِي الْحَسَبِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يَقُولُ: ضَوْءُ بَرْقِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَعَانُ الْبَرْقِ.
قَوْلُهُ:
{مُذْعِنِينَ} يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أَيْ مُسْتَخْذِينَ، وَهُوَ بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{مُذْعِنِينَ} قَالَ: سِرَاعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِذْعَانُ الْإِسْرَاعُ فِي الطَّاعَةِ.
قَوْلُهُ: {أَشْتَاتًا} وَشَتَّى وَشَتَاتٍ وَشَتٍّ وَاحِدٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَشْتَاتٌ جَمْعٌ وَشت مُفْرَدٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِوَاذًا خِلَافًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَاللِّوَاذُ مَصْدَرُ لَاوَذْتُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ نِسْبَةً إِلَى ثُمَالَةَ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأَزْدِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ، ذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَلَمْ يَثْبُتْ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَلَهُ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَاتَ غَازِيًا بِأَرْضِ الرُّومِ.
قَوْلُهُ: (الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ) وَصَلَهُ ابْنُ شَاهِينٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ جَعْفَرٍ السَّرَّاجِ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ وَالْكُوَّةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَبِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهِيَ الطَّاقَةُ لِلضَّوْءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ فَمَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمِشْكَاةُ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{كَمِشْكَاةٍ} قَالَ: يَعْنِي الْكُوَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي النُّسَخِ وَالصَّوَابُ {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا، فَبَيَّنَّاهَا تَفْسِيرُ فَرَضْنَاهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: وَيُقَالُ فِي فَرَضْنَاهَا أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَفَرَضْنَاهَا} يَقُولُ بَيَّنَّاهَا، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ عِيَاضٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ لِأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنَ الْأُخْرَى. فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ قُرْآنًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي أَوَّلِ الْمَجَازِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُصَادِرِيِّ عَنْهُ: سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ، فَذِكْرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ - وَهِيَ لجَمَاعَة - وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَآخِرُهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَإِمَّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَآخِرُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ إِلَخْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: وَيُقَالُ لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أَيْ تَأْلِيفٌ هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ، أَيْ لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا قَالَهُ فِي الْمَجَازِ رِوَايَةَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُصَادِرِيِّ عَنْهُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ
هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ يَقْرَأْ جَنِينًا
وَالسَّلَا بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَهُ مِنْ قَرَأَ بِمَعْنَى جَمَعَ، لَا مِنْ قَرَأَ بِمَعْنَى تَلَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ فَرَّضْنَاهَا أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً، وَمَنْ قَرَأَ فَرَضْنَاهَا يَقُولُ فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ) فِيهَا كَذَا وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ فَرَضْنَاهَا يَقُولُ فَرَضْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً، وَإِنْ شِئْتَ فَرَضْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَالتَّشْدِيدُ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: فَرَضْنَاهَا حَدَّدْنَا فِيهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَفَرَضْنَا مِنَ الْفَرِيضَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَمَنْ خَفَّفَهَا جَعَلَهَا مِنَ الْفَرِيضَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: {أُولِي الإِرْبَةِ} مَنْ لَيْسَ لَهُ أَرَبٌ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَرَبُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَةِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُهِمُّهُ إِلَّا بَطْنُهُ وَلَا يَخَافُ عَلَى
النِّسَاءِ) {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لَمْ يَدْرُوا لِمَا بِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} قَالَ: الَّذِي يُرِيدُ الطَّعَامَ وَلَا يُرِيدُ النِّسَاءَ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: الَّذِينَ لَا يُهِمُّهُمْ إِلَّا بُطُونُهُمْ وَلَا يَخَافُونَ عَلَى النِّسَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قَالَ: لَمْ يَدْرُوا مَا هِيَ مِنَ الصِّغَرِ قَبْلَ الْحُلُمِ.
4745 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَجْلَانَ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ سَلْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ. فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُلَاعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَلَاعَنَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا، فَطَلَّقَهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْظُرُوا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ، كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مُطَوَّلًا وَفِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.
وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ. هُوَ الْفِرْيَابِيُّ وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ لَكِنْ رُبَّمَا أُدْخِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، وَإِسْحَاقُ الْمَذْكُورُ وَقَعَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ وَلَمْ يَنْسُبْهُ الْكَلَابَاذِيُّ أَيْضًا، وَعِنْدِي أَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ.
2 - بَاب {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
4746 -
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ التَّلَاعُنِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قُضِيَ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ. قَالَ: فَتَلَاعَنَا - وَأَنَا شَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَارَقَهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ. وَكَانَتْ حَامِلًا، فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا، ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمِيرَاثِ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا.
4747 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ؟ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.
قوله: (بَابُ {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَبَيْنَهُمَا فِي سِيَاقِهِ اخْتِلَافٌ سَأُبَيِّنُهُ هُنَاكَ، وَأَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَاتِ اللِّعَانِ دُونَ أَحْكَامِهِ فَأَذْكُرُهَا فِي بَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى، وَمَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أَعَلَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ لِهِشَامٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ طَرِيقَ عِكْرِمَةَ، وَمُسْلِمًا أَخْرَجَ طَرِيقَ ابْنِ سِيرِينَ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْحَمْلُ اخْتِلَافُ السِّيَاقَيْنِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: ضَبَطُوا الْبَيِّنَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ أَيْ أَحْضِرِ الْبَيِّنَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ إِمَّا الْبَيِّنَةُ وَإِمَّا حَدٌّ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ: أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حُذِفَ مِنْهُ فَاءُ الْجَوَابِ وَفِعْلُ الشَّرْطِ بَعْدَ إِلَّا وَالتَّقْدِيرُ وَإِلَّا تُحْضِرُهَا فَجَزَاؤُكَ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، قَالَ: وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا لَمْ يَذْكُرِ النُّحَاةُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وُرُودُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ آيَاتِ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمَاضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُوَيْمِرٍ وَلَفْظُهُ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَأَمَرَهُمَا بِالْمُلَاعَنَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُوَيْمِرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ هِلَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ هِلَالٌ وَصَادَفَ مَجِيءُ عُوَيْمِرٍ أَيْضًا فَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ جَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى هَذَا، وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: لَعَلَّهُمَا اتَّفَقَ كَوْنُهُمَا جَاءَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَيُؤَيِّدُ التَّعَدُّدَ أَنَّ الْقَائِلَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ، سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ لَمَّا نَزَلَتْ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ لُكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ حَتَّى آتِيَ بأَرْبَعَة شُهَدَاءَ، مَا كُنْتُ لِآتِي بِهِمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ، قَالَ: فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْحَدِيثَ.
وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا فِيهِ نَحْوَهُ وَزَادَ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَرَمَى امْرَأَتَهُ الْحَدِيثَ. وَالْقَائِلُ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ، عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: إِنْ أَنَا رَأَيْتُ فَتَكَلَّمْتُ جُلِدْتُ، وَإِنْ سَكَتُّ سَكَتُّ عَلَى غَيْظٍ الْحَدِيثَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَتَعَدَّدَ الْقِصَصُ وَيَتَّحِدَ النُّزُولُ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ تُبَيْعٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ رَأَيْتَ مَعَ أُمِّ رُومَانَ رَجُلًا مَا كُنْتَ فَاعِلًا بِهِ؟ قَالَ: كُنْتُ فَاعِلًا بِهِ شَرًّا. قَالَ: فَأَنْتَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ لَعَنَ اللَّهُ الْأَبْعَدَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النُّزُولَ سَبَقَ بِسَبَبِ هِلَالٍ، فَلَمَّا جَاءَ عُوَيْمِرٌ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِمَا وَقَعَ لِهِلَالٍ أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحُكْمِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَفِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ فَيُؤوَّلُ قَوْلُهُ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ أَيْ وَفِيمَنْ كَانَ مِثْلَكَ وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ قَالَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي هِلَالٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعُوَيْمِرٍ: وقَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَمَعْنَاهُ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى قَالَ: أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ الْحَدِيثَ، وَجَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى تَجْوِيزِ نُزُولِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ الرُّوَاةِ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ ذِكْرَ هِلَالٍ فِيمَنْ لَاعَنَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنْكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ أَخُو الْمُهَلَّبِ وَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُوَيْمِرٌ. وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ النَّاسُ: هُوَ وَهَمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَعَلَيْهِ دَارَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْسٍ بِذَلِكَ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ: كَذَا جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ لِعُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ، قَالَ: وَلَكِنْ وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي حَدِيثِ الْعَجْلَانِيِّ ذِكْرُ شَرِيكٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُبْهَمَاتِهِ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُلَاعَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ.
ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ أَنَّ أَظْهَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ عُوَيْمِرٌ. وَكَلَامُ الْجَمِيعِ مُتَعَقَّبٌ أَمَّا قَوْلُ ابْنُ أَبِي صُفْرَةَ فَدَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَكَيْفَ يُجْزَمُ بِخَطَأِ حَدِيثٍ ثَابِتٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ؟ وَمَا نَسَبَهُ إِلَى الطَّبَرِيِّ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِنَّ ذِكْرَ هِلَالٍ دَارَ عَلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَكَذَا جَزَمَ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ، فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، فَقَدْ وَافَقَهُ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَكَذَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَوْصُولًا قَالَ: لَمَّا قَذَفَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ امْرَأَتَهُ
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِلْوَاحِدِيِّ وَجُنُوحُهُ إِلَى التَّرْجِيحِ فَمَرْجُوحٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ مَعَ إِمْكَانِهِ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: وَقِيلَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِعَاصِمٍ فِيهِ قِصَّةُ أَنَّهُ الَّذِي لَاعَنَ امْرَأَتَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ عَاصِمٍ نَظِيرُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَلَمَّا رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ طَرِيقَ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ تَعَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: قَدْ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ. وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ الْقَاسِمَ سَمَّى الْمُلَاعِنَ عُوَيْمِرًا، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ مِنْ قَوْمِ عَاصِمٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَالْعَجْلَانِيُّ هُوَ عُوَيْمِرٌ.
4 - بَاب {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
4748 -
حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ - عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، حَدَّثَنَا مُقَدَّمٌ هُوَ بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَطَاءِ بْنِ مُقَدَّمٍ الْهِلَالِيُّ الْمُقَدَّمِيُّ الْوَاسِطِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي التَّوْحِيدِ وَكِلَاهُمَا فِي الْمُتَابَعَاتِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى) هُوَ ثِقَةٌ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيِّ وَالِدِ مُحَمَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِلْقَاسِمِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ) هُوَ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ غَيْرِ هَذَا صَرَّحَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى بِسَمَاعِهِ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ مُقَدَّمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُعَنْعَنًا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ مُفَصَّلًا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَفَّاكٌ كَذَّابٌ
4749 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} قَالَتْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلُولَ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الْبَابِ عَلَى تَفْسِيرِ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (أَفَّاكٌ كَذَّابٌ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مُطَوَّلًا فِي جُمْلَةِ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ مِنَ الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي الْقِصَّةِ الَّتِي دَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ
قَوْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أَيْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ) أَيْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَبِهِ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ قِصَّةِ الْإِفْكِ الْمُطَوَّلَةِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ بَيَانُ مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4750 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا - وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ - الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أظْفَارِ قَدْ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ.
وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يأكلن الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ، ولَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ
ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ، فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ - وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ - فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أكثرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَكَ، وَما نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟ قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، وأَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ - فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَتَساوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. قَالَتْ: فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَتْ: فَقُلْتُ - وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ -: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ - لَا تُصَدِّقُوننِي بِذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ - لَتُصَدِّقُنِّي. وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ عز وجل فَقَدْ بَرَّأَكِ. فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ.
قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عز وجل، وأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {الْكَاذِبُونَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ غَيْرِهِ سِيَاقُ آيَتَيْنِ غَيْرِ مُتَوَالِيَتَيْنِ: الْأُولَى قَوْلُهُ: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} - إِلَى قَوْلِهِ - عَظِيمٌ وَالْأُخْرَى قوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {الْكَاذِبُونَ} وَاقْتَصَرَ النَّسَفِيُّ عَلَى الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ. ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْإِفْكِ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ سَاقَهُ بِطُولِهِ أَيْضًا فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَفِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَوْرَدَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِاخْتِصَارٍ. فَأَوَّلُ مَا أَخْرَجَهُ فِي الْجِهَادِ ثُمَّ فِي الشَّهَادَاتِ ثُمَّ فِي التَّفْسِيرِ ثُمَّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ ثُمَّ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بِاخْتِصَارٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَأَخْرَجَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَعَلَّقَهُ فِي الشَّهَادَاتِ بِاخْتِصَارٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ بِاخْتِصَارٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ طَرَفًا مِنْهُ مُعَلَّقًا فِي الْمَغَازِي عَنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ طَرَفًا آخَرَ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ، وَصَالِحٍ بِإِسْنَادِهِمَا قَالَ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ بَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِي احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ أَوْ اجْتَهَلَتْهُ وَفِي مُوغِرِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ زِيَادَةً كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ، وَأَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى نَحْوِ نِصْفِ أَوَّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ وَذَكَرَ آخَرَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَأُسَامَةَ يَسْتَشِيرُهُمَا إِلَى قَوْلِهِ - فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ أَخْرَجَهُ فِي الْقَضَاءِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ طَرَفًا مِنْهُ فِي السُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ مُعَلَّقًا عَقِبَ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَهَذِهِ جَمِيعُ طُرُقِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ. وَقَدْ
جَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ، فَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعُقَيْلٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ طَرَفٌ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ هَذَا، وَالطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَصَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، وَأَفْلَحَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ كُلُّهُمْ وَعِدَّتُهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَفْسًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِنْهُمْ مَنْ طَوَّلَهُ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ، وَأَكْثَرُهُمْ يُقَدِّمُ عُرْوَةَ عَلَى سَعِيدٍ وَبَعْدَ سَعِيدٍ، عَلْقَمَةُ وَيَخْتِمُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وَقُدِّمَ مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، وَعُقَيْلٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ، وَزِيَادٌ، وَأَفْلَحُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَلَى عُرْوَةَ، وَقَدَّمَ ابْنُ وَهْبٍ، عَلْقَمَةَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَدَّمَ ابْنَ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ وَثَنَّى بِسَعِيدٍ وَثَلَّثَ بِعُرْوَةَ وَأَخَّرَ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَقَدَّمَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عُبَيْدَ اللَّهِ عَلَى عُرْوَةَ فِي رِوَايَةٍ وَحَذَفَ مِنْ أُخْرَى سَعِيدًا، وَكَذَا قَدَّمَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عُبَيْدَ اللَّهِ لَكِنْ ثَنَّى بِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَدَلَ سَعِيدٍ وَثَلَّثَ بِعَلْقَمَةَ وَخَتَمَ بِعُرْوَةَ، وَاقْتَصَرَ بَكْرٌ عَلَى سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ) أَيْ بَعْضَهُ هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِلَخْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: كُلٌّ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ كُلَّ الَّذِي حَدَّثُونِي وَلَمَّا ضَمَّ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ رِوَايَتَهُ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: دَخَلَ حَدِيثُ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ صَاحِبُهُ وَكُلٌّ كَانَ ثِقَةً، فَكُلٌّ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ قَالَ: فَذَكَرَهُ. قَالَ عِيَاضٌ: انْتَقَدُوا عَلَى الزُّهْرِيِّ مَا صَنَعَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُلَفَّقًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَالُوا: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْرِدَ حَدِيثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ انْتَهَى.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَهُ فَوَجَدْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَفِي سِيَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخَالَفَاتٌ وَنَقْصٌ وَبَعْضُ زِيَادَةٍ لِمَا فِي سِيَاقِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ عُرْوَةَ فَأَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عن هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَقِبَ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ، فَكَأَنَّ فُلَيْحًا تَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ: مِثْلَهُ وَقَدْ عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا لِأَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِتَمَامِهِ، وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، لِأَبِي أُسَامَةَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي أُوَيْسٍ، وَأَبِي عَوَانَةَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ من رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، وَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ بِاخْتِصَارٍ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ فَوَصَلَهَا الطَّبَرِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ فَلَمْ أَجِدْهُمَا إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَقَدْ سَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْقِ لَفْظَهُ أَخْرَجَهُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَكَذَا رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَقِبَ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمِقْسَمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عَائِشَةَ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَحَدِيثُهُ أَيْضًا عَقِبَ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الشَّهَادَاتِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَأُمُّ رُومَانَ قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَفِي الْمَغَازِي، وَيَأْتِي بِاخْتِصَارٍ قَرِيبًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَأَبُو الْيَسَرِ وَحَدِيثُهُ بِاخْتِصَارٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، فَجَمِيعُ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عَائِشَةَ سِتَّةٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَائِشَةَ عَشَرَةٌ ; وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا بِإِسْنَادٍ وَاهٍ ; وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ رِوَايَةِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ مُرْسَلًا أَيْضًا، وَسَأَذْكُرُ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا فِي رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا) كَأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: وَحَدِيثُ بَعْضِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَ حَدِيثِ كُلٍّ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّاوِي فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِهِ لِحُسْنِ سِيَاقِهِ وَجَوْدَةِ حِفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ) هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَمْيَزُ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ مَنْ جِهَةِ حِفْظِ أَكْثَرِهِ، لَا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَضْبَطُ مِنْ بَعْضٍ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا قَالَ: أَوْعَى لَهُ أَيْ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَاصَّةً، زَادَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ وَأَثْبَتُ اقْتِصَاصًا - أَيْ سِيَاقًا - وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ - أَيِ الْقَدرَ الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ - لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْحَدِيثِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا أَنَّ مَجْمُوعَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَفْلَحَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ أَحْسَنُ سِيَاقًا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ فَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكَ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ النُّمَيْرِيِّ فَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ يُونُسَ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ وَإِنَّمَا قَالُوا عَنْ عَائِشَةَ، فَاقْتَضَتْ رِوَايَةُ اللَّيْثِ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَنْ عُرْوَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوَّلَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ وَفِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَحْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ الْقُرْعَةُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَكَذَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ شُيُوخِ الزُّهْرِيِّ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي مُتَعَيِّنًا لَامْتَنَعَ تَقْدِيمُ غَيْرِ عُرْوَةَ عَلَى عُرْوَةَ وَلَأَشْعَرَ أَيْضًا أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يَرْوُوا عَنْ عَائِشَةَ قِصَّةَ الْقُرْعَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ قِصَّةَ الْقُرْعَةِ خَاصَّةً مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّةُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَحْدَهُ، وَفِي سِيَاقِهِ مُخَالَفَةٌ كَثِيرَةٌ لِلسِّيَاقِ الَّذِي هُنَا لِلزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَهُوَ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي عَنْ نَفْسِهَا، بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَنْ عَائِشَةَ أَيْ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. ثُمَّ شَرَعَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ فقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ وَالزَّعْمُ قَدْ يَقَعُ مَوْضِعَ الْقَوْلِ وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرَدُّدٌ، لَكِنْ لَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَشَايِخِ الزُّهْرِيِّ لَمْ يُصَرِّحُوا لَهُ بِذَلِكَ، كَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَرْمَانِيُّ.
قَوْلُهُ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) زَادَ مَعْمَرٌ سَفَرًا أَيْ إِلَى سَفَرٍ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ ضُمِّنَ يَخْرُجُ مَعْنَى يُنْشِئُ
فَيَكُونُ سَفَرًا نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا.
قَوْلُهُ: (أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ مَنَعَ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِهَا وَحُكْمُهَا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي بَابِ الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَأَيَّتُهُنَّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ فَأَيُّهُنَّ بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ وَالْأُولَى أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا) هِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ، وَكَذَا أَفْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ فَخَرَجَ سَهْمُ عَائِشَةَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَصَابَتْ عَائِشَةَ الْقُرْعَةُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَفِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْغَزْوَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ سَهْمِي) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَحْدَهَا، لَكِنْ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهَا أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ أَيْضًا أُمُّ سَلَمَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَقَعْ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ ذِكْرٌ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادٍ ظَاهِرَةٌ فِي تَفَرُّدِ عَائِشَةَ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ، فَخَرَجَ بِي مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ) أَيْ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْأَمْرُ بِالْحِجَابِ، وَالْمُرَادُ حِجَابُ النِّسَاءِ عَنْ رُؤْيَةِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، وَكُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعْنَ، وَهَذَا قَالَتْهُ كَالتَّوْطِئَةِ لِلسَّبَبِ فِي كَوْنِهَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً فِي الْهَوْدَجِ حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَحْمِيلِهِ وَهِيَ لَيْسَتْ فِيهِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِيهِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ، فَلَعَلَّ النِّسَاءَ حِينَئِذٍ كُنَّ يَرْكَبْنَ ظُهُورَ الرَّوَاحِلِ بِغَيْرِ هَوَادِجَ، أَوْ يَرْكَبْنَ الْهَوَادِجَ غَيْرَ مُسْتَتِرَاتٍ، فَمَا كَانَ يَقَعُ لَهَا الَّذِي يَقَعُ، بَلْ كَانَ يَعْرِفُ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُ بَعِيرَهَا إِنْ كَانَتْ رَكِبَتْ أَمْ لَا.
قَوْلُهُ: (فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَكُنْتُ إِذَا رَحَّلُوا بَعِيرِي جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِأَسْفَلِ الْهَوْدَجِ فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ وَالْهَوْدَجُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالدَّالِ بَيْنَهُمَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ جِيمٌ: مَحْمَلٌ لَهُ قُبَّةٌ تُسْتَرُ بِالثِّيَابِ وَنَحْوِهِ، يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ يَرْكَبُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُنَّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ بِلَفْظِ الْمِحَفَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ) كَذَا اقْتَصَرَتِ الْقِصَّةُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ سِيَاقُ قِصَّةِ الْإِفْكِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا أَرَادَتِ اقْتِصَاصَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ذَكَرَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْهَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَحَادِيثُ غَيْرُ هَذَا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبَّادٍ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ حَدِّثِينَا عَنْ قِصَّةِ الْإِفْكِ، قَالَتْ: نَعَمْ وَعِنْدَهُ فَخَرَجْنَا فَغَنَّمَهُ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَرَجَعْنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَفَلَ) بِقَافٍ وَفَاءٍ أَيْ رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ) أَيْ رَاجِعِينَ، أَيْ أَنَّ قِصَّتَهَا وَقَعَتْ حَالَ رُجُوعِهِمْ مِنَ الْغَزْوَةِ قُرْبَ دُخُولِهِمُ الْمَدِينَةَ.
قَوْلُهُ: (آذَنَ) بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ وَبِغَيْرِ مَدٍّ وَالتَّشْدِيدِ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ بِالرَّحِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ ثُمَّ آذَنَ بِالرَّحِيلِ.
قَوْلُهُ: (بِالرَّحِيلِ) فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرَّحِيلَ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ وَبِالنَّصْبِ، وَكَأَنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ: الرَّحِيلَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ) أَيْ لِتَقْضِيَ حَاجَتَهَا مُنْفَرِدَةً.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي) الَّذِي تَوَجَّهَتْ بِسَبَبِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّ سَبَبَ تَوَجُّهِهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا أَنَّ رَحْلَ أُمِّ سَلَمَةَ مَالَ فَأَنَاخُوا بَعِيرَهَا لِيُصْلِحُوا رَحْلَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: إِلَى أَنْ يُصْلِحُوا رَحْلَهَا قَضَيْتُ حَاجَتِي، فَتَوَجَّهْتُ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِي فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، فَانْقَطَعَتْ قِلَادَتِي فَأَقَمْتُ فِي جَمْعِهَا وَنِظَامِهَا، وَبَعَثَ الْقَوْمُ إِبِلَهُمْ وَمَضَوْا وَلَمْ يَعْلَمُوا بِنُزُولِي وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ.
قَوْلُهُ: (عِقْدٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ: قِلَادَةٌ تُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا.
قَوْلُهُ: (مِنْ جَزْعٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: خَرَزٌ مَعْرُوفٌ فِي سَوَادِهِ
بَيَاضٌ كَالْعُرُوقِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: هُوَ وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ وَاحِده جَزِعَةٌ وَهُوَ بِالْفَتْحِ، فَأَمَّا الْجِزْعُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ جَانِبُ الْوَادِي، وَنَقَلَ كُرَاعٌ أَنَّ جَانِبَ الْوَادِي بِالْكَسْرِ فَقَطْ، وَأَنَّ الْآخَرَ يُقَالُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَحَكَى فِيهِ الضَّمَّ، قَالَ التّيفَاشِيُّ: يُوجَدُ فِي مَعَادِنِ الْعَقِيقِ وَمِنْهُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنَ الصِّينِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحِجَارَةِ أَصْلَبُ جِسْمًا مِنْهُ، وَيَزْدَادُ حُسْنُهُ إِذَا طُبِخَ بِالزَّيْتِ لَكِنَّهُمْ لَا يَتَيَمَّنُونَ بِلُبْسِهِ وَيَقُولُونَ: مَنْ تَقَلَّدَهُ كَثُرَتْ هُمُومُهُ وَرَأَى مَنَامَاتٍ رَدِيئَةً، وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى طِفْلٍ سَالَ لُعَابُهُ. وَمِنْ مَنَافِعِهِ إِذَا أُمِرَّ عَلَى شَعْرِ الْمُطْلَقَةِ سَهُلَتْ وِلَادَتُهَا.
قَوْلُهُ: (جَزْعُ أَظْفَارٍ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَظْفَارٍ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ. لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ ظَفَارٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَصَالِحٍ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الرِّوَايَةُ أَظْفَارٍ بِأَلِفٍ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ بِأَلِفٍ وَيَقُولُونَ: ظَفَارٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: جَزْعٌ ظَفَارِيٌّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ أَظْفَارٍ وَهِيَ خَطَأٌ. قُلْتُ: لَكِنَّهَا فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، حَتَّى إِنَّ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ جَزْعُ الْأَظَافِيرِ فَأَمَّا ظَفَارٌ بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ فَاءٍ بَعْدَهَا رَاءٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ فَهِيَ مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ جَبَلٌ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ الْمَدِينَةُ وَهِيَ فِي أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى جِهَةِ الْهِنْدِ، وَفِي الْمَثَلِ مَنْ دَخَلَ ظَفَارَ حَمَّرَ أَيْ تَكَلَّمَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مِنْ حِمْيَرَ، وَإِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ جَزْعَ أَظْفَارٍ فَلَعَلَّ عِقْدَهَا كَانَ مِنَ الظُّفْرِ أَحَدِ أَنْوَاعِ الْقُسْطِ وَهُوَ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ يُتَبَخَّرُ بِهِ، فَلَعَلَّهُ عُمِلَ مِثْلَ الْخَرَزِ فَأَطْلَقَتْ عَلَيْهِ جَزْعًا تَشْبِيهًا بِهِ وَنَظَمَتْهُ قِلَادَةً إِمَّا لِحُسْنِ لَوْنِهِ أَوْ لِطِيبِ رِيحِهِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَيْسَ جَزَعًا ظَفَارِيًّا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ: فَكَانَ فِي عُنُقِي عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ كَانَتْ أُمِّي أَدْخَلَتْنِي بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي) أَيْ فَرَغْتُ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِي (أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي) أَيْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ نَازِلَةً فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا عِقْدٌ لِي) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي.
قَوْلُهُ: (قَدِ انْقَطَعَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَدِ انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَأَنَا لَا أَدْرِي.
قَوْلُهُ: (فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ أَيْ طَلَبُهُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْقَوْمَ لَوْ لَبِثُوا شَهْرًا لَمْ يَبْعَثُوا بَعِيرِي حَتَّى أَكُونَ فِي هَوْدَجِي.
قَوْلُهُ: (وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ) هُوَ عَدَدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ وَقِيلَ غير ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ الطَّوِيلِ. وَلَمْ أَعْرِفْ مِنْهُمْ هُنَا أَحَدًا إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَبُو مَوْهُوبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدِيثًا فِي مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَفَاتُهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْبَلَاذُرِيُّ: شَهِدَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ، وَكَانَ يَخْدُمُ بَعِيرَ عَائِشَةَ، وَكَانَ مِنْ مُوَلَّدِي بَنِي مُزَيْنَةَ. وَكَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَبُو مَوْهُوبَةَ وَيُصَغَّرُ فَيُقَالُ أَبُو مُوَيْهِبَةَ.
قَوْلُهُ: (يَرْحَلُونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّخْفِيفِ، رَحَلْتُ الْبَعِيرَ إِذَا شَدَدْتَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وهُنَا بِالتَّشْدِيدِ فِي هَذَا وَفِي فَرَحَلُوهُ.
قَوْلُهُ: (لِي) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِي وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَرْحَلُونَ لِي قَالَ: وَهُوَ أَجْوَدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِالْبَاءِ أَجْوَدُ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَضْعُهَا، وَهِيَ فِي الْهَوْدَجِ فَشَبَّهَتِ الْهَوْدَجَ الَّذِي هِيَ فِيهِ بِالرَّحْلِ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْبَعِيرِ.
قَوْلُهُ: (فَرَحَلُوهُ) أَيْ وَضَعُوهُ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَإِنَّمَا الرَّحْلُ هُوَ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ ثُمَّ يُوضَعُ الْهَوْدَجُ فَوْقَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا) قَالَتْ: هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهَا: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ لَمْ يُثْقِلْهُنَّ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ قَالَ ابْنُ أَبِي
جَمْرَةَ: لَيْسَ هَذَا تَكْرَارًا لِأَنَّ كُلَّ سَمِينٍ ثَقِيلٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، لِأَنَّ الْهَزِيلَ قَدْ يَمْتَلِئُ بَطْنُهُ طَعَامًا فَيَقِلُّ بَدَنُهُ، فَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُونَا فِي نِسَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهَا: لَمْ يَغْشَهُنَّ أَيْ لَمْ يَكْثُرْ عَلَيْهِنَّ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لَمْ يُهَبِّلْهُنَّ وَضَبَطَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ لَكِنْ قَالَ: وَضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: لِأَنَّ مَاضِيهِ بِفَتْحَتَيْنِ مُخَفَّفًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِهِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ أَيْضًا، وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، يُقَالُ هَبَّلَهُ اللَّحْمُ وَأَهْبَلَهُ إِذَا أَثْقَلَهُ، وَأَصْبَحَ فُلَانٌ مُهَبَّلًا أَيْ كَثِيرُ اللَّحْمِ أَوْ وَارِمَ الْوَجْهِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يُهَبِّلْهُنَّ اللَّحْمُ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا فِي رِوَايَةٍ لِابْنِ الْحَذَّاءِ فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَأَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ: الْمُهَبَّلُ: الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الثَّقِيلُ الْحَرَكَةِ مِنَ السِّمَنِ، وَفُلَانٌ مُهَبَّلٌ أَيْ مُهَيَّجٌ كَأَنَّ بِهِ وَرَمًا.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا يَأْكُلْنَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا إِنَّمَا نَأْكُلُ بِالنُّونِ أَوَّلِهِ وَبِاللَّامِ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (الْعُلْقَةُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ ثُمَّ قَافٍ أَيِ الْقَلِيلُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ الْمُرَادَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي يُسَكِّنُ الرَّمَقَ، كَذَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: الْعُلْقَةُ مَا فِيهِ بُلْغَةٌ مِنَ الطَّعَامِ إِلَى وَقْتِ الْغَدَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ قَالَ: وَأَصْلُهَا شَجَرٌ يَبْقَى فِي الشِّتَاءِ تَتَبَلَّغُ بِهِ الْإِبِلُ حَتَّى يَدْخُلَ زَمَنُ الرَّبِيعِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، وَمَعْمَرٍ ثِقَلُ الْهَوْدَجِ وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ مُرَادَهَا إِقَامَةُ عُذْرِهِمْ فِي تَحْمِيلِ هَوْدَجَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ فِيهِ فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: كَأَنَّهَا لِخِفَّةِ جِسْمِهَا بِحَيْثُ إِنَّ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ هَوْدَجَهَا لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ وُجُودِهَا فِيهِ وَعَدَمِهَا، وَلِهَذَا أَرْدَفَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا: وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ أَيْ أَنَّهَا مَعَ نَحَافَتِهَا صَغِيرَةُ السِّنِّ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي خِفَّتِهَا، وَقَدْ وُجِّهَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بِأَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَسْتَنْكِرُوا الثِّقَلَ الَّذِي اعْتَادُوهُ، لِأَنَّ ثِقَلَهُ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا هُوَ مِمَّا رَكِبَ الْهَوْدَجَ مِنْهُ مِنْ خَشَبٍ وَحِبَالٍ وَسُتُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا هِيَ فَلِشِدَّةِ نَحَافَتِهَا كَانَ لَا يَظْهَرُ بِوُجُودِهَا فِيهِ زِيَادَةُ ثِقَلٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الثِّقَلَ وَالْخِفَّةَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ فَيَتَفَاوَتَانِ بِالنِّسْبَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُرْحِلُونَ بَعِيرَهَا كَانُوا فِي غَايَةِ الْأَدَبِ مَعَهَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَرْكِ التَّنْقِيبِ عَمَّا فِي الْهَوْدَجِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِيهِ، وَكَأَنَّهُمْ جَوَّزُوا أَنَّهَا نَائِمَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ) هُوَ كَمَا قَالَتْ، لِأَنَّهَا أُدْخِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي شَوَّالٍ وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي الْمُرَيْسِيعِ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ كَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ فَتَكُونُ لَمْ تُكَمِّلْ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَكُونُ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى فَائِدَةِ ذِكْرِهَا ذَلِكَ قَبْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى بَيَانِ عُذْرِهَا فِيمَا فَعَلَتْهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْعِقْدِ الَّذِي انْقَطَعَ، وَمِنِ اسْتِقْلَالِهَا بِالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَتَرْكِ إِعْلَامِ أَهْلِهَا بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِصِغَرِ سِنِّهَا وَعَدَمِ تَجَارِبِهَا لِلْأُمُورِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ لَيْسَتْ صَغِيرَةً لَكَانَتْ تَتَفَطَّنُ لِعَاقِبَةِ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي ضَيَاعِ الْعِقْدِ أَيْضًا أَنَّهَا أَعْلَمَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ فَأَقَامَ بِالنَّاسِ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ حَتَّى وَجَدَتْهُ وَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَظَهَرَ تَفَاوُتُ حَالِ مَنْ جَرَّبَ الشَّيْءَ وَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ.
قَوْلُهُ: (فَبَعَثُوا الْجَمَلَ) أَيْ أَثَارُوهُ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ) أَيْ ذَهَبَ مَاضِيًا، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنْ مَرَّ.
قَوْلُهُ: (فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ تَسْتَصْحِبْ عَائِشَةُ مَعَهَا غَيْرَهَا فَكَانَ أَدْعَى لِأَمْنِهَا مِمَّا يَقَعُ لِلْمُنْفَرِدِ وَلَكَانَتْ لَمَّا تَأَخَّرَتْ لِلْبَحْثِ عَنِ الْعِقْدِ تُرْسِلُ مَنْ رَافَقَهَا لِيَنْتَظِرُوهَا إِنْ أَرَادُوا الرَّحِيلَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لِأَنَّهَا لَمْ يَقَعْ لَهَا
تَجْرِبَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَتِهَا تَسْتَصْحِبُ كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّتِهَا مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ، وَقَوْلُهُ: فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي بِالتَّخْفِيفِ أَيْ قَصَدْتُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْأُولَى، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ انْتَهَى. فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ فَتَيَمَّمْتُ.
قَوْلُهُ: (وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ سَيَفْقِدُونِي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا أَوْ هِيَ مُثَقَّلَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَيَرْجِعُوا بِغَيْرِ نُونٍ وَكَأَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَحْذِفُهَا مُطْلَقًا. قَالَ عِيَاضٌ: الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ وَلَا نُقِلَ أَنَّ أَحَدًا لَاقَاهَا فِي الطَّرِيقِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا اسْتَمَرُّوا فِي السَّيْرِ إِلَى قُرْبِ الظُّهْرِ، فَلَمَّا نَزَلُوا إِلَى أَنْ يَشْتَغِلُوا بِحَطِّ رِحَالِهِمْ وَرَبْطِ رَوَاحِلِهِمْ وَاسْتَصْحَبُوا حَالَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهَا فِي هَوْدَجِهَا لَمْ يَفْتَقِدُوهَا إِلَى أَنْ وَصَلَتْ عَلَى قُرْبٍ، وَلَوْ فَقَدُوهَا لَرَجَعُوا كَمَا ظَنَّتْهُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَعَرَفْتُ أَنْ لَوِ افْتَقَدُونِي لَرَجَعُوا إِلَيَّ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَمْ تَتَّبِعْهُمْ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ فَجِئْتُ فَاتَّبَعْتُهُمْ حَتَّى أَعْيَيْتُ، فَقُمْتُ عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِي صَفْوَانُ وَهَذَا السِّيَاقُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ وَأَنَّهَا أَقَامَتْ فِي مَنْزِلِهَا إِلَى أَنْ أَصْبَحَتْ، وَكَأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهَا أَنْ تَتْبَعَهُمْ فَلَا تَأْمَنُ أَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْهَا الطُّرُقُ فَتَهْلَكَ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ فِي اللَّيْلِ، أَوْ تُقِيمَ فِي مَنْزِلِهَا لَعَلَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا عَادُوا إِلَى مَكَانِهَا الَّذِي فَارَقُوهَا فِيهِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ فَقَدْ شَيْئًا أَنْ يَرْجِعَ بِفِكْرِهِ الْقَهْقَرَى إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ وُجُودَهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْ هُنَاكَ فِي التَّنْقِيبِ عَلَيْهِ.
وَأَرَادَتْ بِمَنْ يَفْقِدُهَا مَنْ هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ كَزَوْجِهَا أَوْ أَبِيهَا، وَالْغَالِبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَايِرَ بَعِيرَهَا وَيَتَحَدَّثُ مَعَهَا فَكَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَّفِقْ مَا تَوَقَّعَتْهُ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهَا سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَنْ حَمَلَهَا بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهَا وَلَا قُوَّةٍ.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ)، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّوْمِ شِدَّةُ الْغَمِّ الَّذِي حَصَلَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمِنْ شَأْنِ الْغَمِّ - وَهُوَ وُقُوعُ مَا يُكْرَهُ - غَلَبَةُ النَّوْمِ، بِخِلَافِ الْهَمِّ وَهُوَ تَوَقُّعُ مَا يُكْرَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي السَّهَرَ، أَوْ لِمَا وَقَعَ مِنْ بَرْدِ السَّحَرِ لَهَا مَعَ رُطُوبَةِ بَدَنِهَا وَصِغَرِ سِنِّهَا. وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَتَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي ثُمَّ اضْطَجَعْتُ فِي مَكَانِي أَوْ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَطَفَ بِهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا النَّوْمَ لِتَسْتَرِيحَ مِنْ وَحْشَةِ الِانْفِرَادِ فِي الْبَرِّيَّةِ بِاللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ (السُّلَمِيُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ (ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ) مَنْسُوبٌ إِلَى ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ - بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ - ابْنُ سُلَيْمٍ، وَذَكْوَانُ بَطْنٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَانَ صَحَابِيًّا فَاضِلًا أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ الْخَنْدَقُ وَعِنْدَ ابْنِ الْكَلْبِيِّ الْمُرَيْسِيعُ، وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَيَأْتِي أَيْضًا بَعْدَ خَمْسَةَ أَبْوَابٍ قَوْلُ عَائِشَةَ إِنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُرَادُهَا أَنَّهُ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي غَزَاةِ أَرْمِينِيَّةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِ وَخَمْسِينَ فَاسْتُشْهِدَ بِأَرْضِ الرُّومِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ وَعَرَّسَ بِمُهْمَلَاتٍ مُشَدَّدًا أَيْ نَزَلَ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: التَّعْرِيسُ: النُّزُولُ فِي السَّفَرِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ النُّزُولُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فِي السَّفَرِ لِلرَّاحَةِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ سَبَبِ تَأَخُّرِ صَفْوَانَ وَلَفْظُهُ سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى السَّاقَةِ فَكَانَ إِذَا رَحَلَ النَّاسُ قَامَ يُصَلِّي ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ فَمَنْ سَقَطَ لَهُ شَيْءٌ أَتَاهُ بِهِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ صَفْوَانُ يَتَخَلَّفُ عَنِ النَّاسِ فَيُصِيبُ الْقَدَحَ وَالْجِوابَ
وَالْإِدَاوَةَ وَفِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فَيَحْمِلُهُ فَيَقْدَمُ بِهِ فَيُعَرِّفُهُ فِي أَصْحَابِهِ وَكَذَا فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي) أَدْلَجَ بِسُكُونِ الدَّالِ فِي رِوَايَتِنَا وَهُوَ كَادَّلَجَ بِتَشْدِيدِهَا، وَقِيلَ بِالسُّكُونِ سَارَ مِنْ أَوَّلِهِ وَبِالتَّشْدِيدِ سَارَ مِنْ آخِرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الَّذِي هُنَا بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِي مَكَانِهِ حَتَّى قَرُبَ الصُّبْحُ فَرَكِبَ لِيَظْهَرَ لَهُ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْجَيْشِ مِمَّا يُخْفِيهِ اللَّيْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَأْخِيرِهِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ عَلَيْهِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ سَعْدٍ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِي يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ، وَيُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ، وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. قَالَ وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ فَإِنَّهَا تَقْرَأُ سُورَتِي وَقَدْ نَهَيْتُهَا عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ فَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ لَا أَصْبِرُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لَا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَأَنَّا أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَلِكَ فَلَا نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ الْحَدِيثَ. قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا الْحَدِيثُ كَلَامُهُ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّ الْأَعْمَشَ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَدَلَّسَهُ فَصَارَ ظَاهِرُ سَنَدِهِ الصِّحَّةَ، وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي أَصْلٌ انْتَهَى.
وَمَا أَعَلَّهُ بِهِ لَيْسَ بِقَادِحٍ، لِأَنَّ ابْنَ سَعْدٍ صَحَّ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ الْأَعْمَشِ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَأَمَّا رِجَالُهُ فَرِجَالُ الصَّحِيحِ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ بَعْدَهُ: رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ جَيِّدَةٌ تُؤْذِنُ بِأَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، وَغَفَلَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الثَّانِيَةَ عِلَّةً لِلطَّرِيقِ الْأُولَى. وَأَمَّا اسْتِنْكَارُ الْبَزَّارِ مَا وَقَعَ فِي مَتْنِهِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْآتِي قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ قَالَتْ: فَبَلَغَ الْأَمْرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَقَالَ: سُبْحَانُ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، أَيْ مَا جَامَعْتُهَا، وَالْكَنَفُ بِفَتْحَتَيْنِ الثَّوْبُ السَّاتِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنْتَ فِي كَنَفِ اللَّهِ أَيْ فِي سِتْرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ أَيْ بِزِنًا، قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ لَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ امْرَأَةً قَطُّ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَهَذَا الْجَمْعُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَتِ امْرَأَتُهُ تَشْكُوهُ وَمَعَهَا ابْنَانِ لَهَا مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا: أَشْبَهَ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدِ الْقُرْطُبِيِّ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَأُبَيِّنُ هُنَاكَ أَنَّ الْمَقُولَ فِيهِ ذَلِكَ غَيْرَ صَفْوَانَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ) السَّوَادُ بِلَفْظٍ ضِدُّ الْبَيَاضِ يُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ أَيُّ شَخْصٍ كَانَ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: رَأَى شَخْصَ آدَمِيٍّ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَهُوَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ وَجْهَهَا انْكَشَفَ لَمَّا نَامَتْ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَلَفَّفَتْ بِجِلْبَابِهَا وَنَامَتْ، فَلَمَّا انْتَبَهَتْ بِاسْتِرْجَاعِ صَفْوَانَ بَادَرَتْ إِلَى تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ) أَيْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ إِسْلَامِ صَفْوَانَ، فَإِنَّ الْحِجَابَ كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةُ ثَلَاثٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ فِيهَا سَنَةُ أَرْبَعٍ وَصَحَّحَهُ الدِّمْيَاطِيُّ، وَقِيلَ بَلْ كَانَ فِيهَا سَنَةُ خَمْسٍ، وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَيْسِيعَ كَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَأَنَّ الْحِجَابَ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا
مَعَ رِوَايَتِهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا وَتَصْرِيحِهَا فِيهِ بِأَنَّ قِصَّةَ الْإِفْكِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْمُرَيْسِيعِ كَانَتْ بَعْدَ الْحِجَابِ، وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّ الْمُرَيْسِيعَ عِنْدَهُ فِي شَعْبَانَ لَكِنْ سَنَةَ سِتٍّ، وَسَلِمَ الْوَاقِدِيُّ مِنَ التَّنَاقُضِ فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْآتِي ذِكْرُهَا، نَعَمْ وَسَلِمَ مِنْهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي الْقِصَّةِ أَصْلًا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ صِحَّةَ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحِجَابَ كَانَ قَبْلَ قِصَّةِ الْإِفْكِ قَوْلُ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْهَا وَفِيهِ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ كَانَتْ حِينَئِذٍ زَوْجَتُهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ نَزَلَتْ حِينَ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْحِجَابَ كَانَ قَبْلَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَقَدْ كُنْتُ أَمْلَيْتُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ أَنَّ قِصَّةَ الْإِفْكِ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ
الْحِجَابِ وَهُوَ سَهْوٌ، وَالصَّوَابُ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ فَلْيُصْلَحْ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي) أَيْ بِقَوْلِهِ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَصَرَّحَ بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ، وَكَأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِ مَا جَرَى لِعَائِشَةَ أَوْ خَشِيَ أَنْ يَقَعَ مَا وَقَعَ، أَوْ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالِاسْتِرْجَاعِ رَافِعًا بِهِ صَوْتَهُ عَنْ مُخَاطَبَتِهَا بِكَلَامٍ آخَرَ صِيَانَةً لَهَا عَنِ الْمُخَاطَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُ التَّكْبِيرَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِيقَاظِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فِطْنَةِ صَفْوَانَ وَحُسْنِ أَدَبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَخَمَّرْتُ) أَيْ غَطَّيْتُ (وَجْهِي بِجِلْبَابِي) أَيِ الثَّوْبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً) عَبَّرَتْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ مِنْهُ تَرْكُ الْمُخَاطَبَةِ لِئَلَّا يُفْهَمُ لَوْ عَبَّرَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي اخْتِصَاصُ النَّفْيِ بِحَالِ الِاسْتِيقَاظِ فَعَبَّرَتْ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ حَتَّى لِلْأَصِيلِيِّ وَحِينَ لِلْبَاقِينَ، وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ مَعْمَرٍ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ أَنَّهُ كَلَّمَهَا بِغَيْرِ الِاسْتِرْجَاعِ لِأَنَّ النَّفْيَ عَلَى رِوَايَةِ حِينَ مُقَيَّدٌ بِحَالِ إِنَاخَةِ الرَّاحِلَةِ فلَا يَمْنَعُ مَا قَبْلَ الْإِنَاخَةِ وَلَا مَا بَعْدَهَا، وَعَلَى رِوَايَةِ حَتَّى مَعْنَاهَا بِجَمِيعِ حَالَاتِهِ إِلَى أَنْ أَنَاخَ وَلَا يَمْنَعُ مَا بَعْدَ الْإِنَاخَةِ، وَقَدْ فَهِمَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ نَفْيُ الْمُكَالَمَةِ الْبَتَّةُ فَقَالُوا: اسْتَعْمَلَ مَعَهَا الصَّمْتُ اكْتِفَاءً بِقَرَائِنِ الْحَالِ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي الْأَدَبِ وَإِعْظَامًا لَهَا وَإِجْلَالًا انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: مَا خَلْفَكِ؟ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: ارْكَبِي وَأَسْتَأْخِرَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ فَاسْتَرْجَعَ وَأَعْظَمَ مَكَانِي - أَيْ حِينَ رَآنِي وَحْدِي - وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُنِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرِي فَسَتَرْتُ وَجْهِي عَنْهُ بِجِلْبَابِي وَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِي، فَقَرَّبَ بَعِيرَهُ فَوَطِئَ عَلَى ذِرَاعِهِ فَوَلَّانِي قَفَاهُ فَرَكِبْتُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَلَمَّا رَآنِي ظَنَّ أَنِّي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَوْمَانُ قُمْ فَقَدْ سَارَ النَّاسُ وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَاسْتَرْجَعَ وَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَقَالَ: مَا شَأْنُكِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَحَدَّثَتْهُ بِأَمْرِ الْقِلَادَةِ.
قَوْلُهُ: (فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا) أَيْ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِرُكُوبِهَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَسِّهَا عِنْدَ رُكُوبِهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَطَّى وَجْهَهُ عَنْهَا ثُمَّ أَدْنَى بَعِيرَهُ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا فِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ رَكِبَ مَعَهَا مُرْدِفًا لَهَا، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نَازِلِينَ فِي وَقْتِ الْوَغْرَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ لَمَّا تَكُونُ الشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ أُخِذَ وَغْرُ الصَّدْرِ وَهُوَ تَوَقُّدُهُ مِنَ الْغَيْظِ بِالْحِقْدِ وَأَوْغَرَ فُلَانٌ إِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عن عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: مَا قَوْلُهُ مُوغِرِينَ؟ قَالَ: الْوَغْرَةُ شِدَّةُ الْحَرِّ. وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
مُوعِزِينَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَزَايٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّهُ مِنْ وَعَزْتُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا أَيْ تَقَدَّمْتُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ: وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ غَلَطٌ. قُلْتُ: وَرُوِيَ مُغَوِّرِينَ بِتَقْدِيمِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَالتَّغْوِيرُ النُّزُولُ وَقْتَ الْقَائِلَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ مُعَرِّسِينَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ. وَالتَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي النُّزُولِ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: مُوغِرِينَ، فَإِنَّ نَحْرَ الظَّهِيرَةِ أَوَّلُهَا وَهُوَ وَقْتُ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَنَحْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ كَأَنَّ الشَّمْسَ لَمَّا بَلَغَتْ غَايَتَهَا فِي الِارْتِفَاعِ كَأَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الصَّدْرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَلَا افْتُقِدْتُ حَتَّى نَزَلُوا وَاطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُلُ يَقُودُنِي.
قَوْلُهُ: (فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ) زَادَ صَالِحٌ فِي رِوَايَتِهِ فِي شَأْنِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ فَهُنَالِكَ قَالَ فِيَّ وَفِيهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَأَبْهَمَتِ الْقَائِلَ وَمَا قَالَ. وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالْإِفْكِ وَخَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا أَسْمَاؤُهُمْ فَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ: لَمْ يُسَمِّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ أَيْضًا غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ إِلَّا حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحَ بْنَ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. انْتَهَى. وَالْعُصْبَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي عَدَدٍ، وَزَادَ أَبُو الرَّبِيعِ بْنِ سَالِمٍ فِيهِمْ تَبَعًا لِأَبِي الْخَطَّابِ بْنِ دِحْيَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا أَحْمَدَ ابْنَا جَحْشٍ، وَزَادَ فِيهِمُ الزَّمَخْشَرِيُّ، زَيْدَ بْنَ رِفَاعَةَ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى يَتِيمَيْنِ كَانَا عِنْدَهُ خَاضَا فِي أَمْرِ عَائِشَةَ أَحَدُهُمَا مِسْطَحٌ انْتَهَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ رَفِيقِ مِسْطَحٍ، وَأَمَّا الْقَوْلُ فَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: فَجَرَ بِهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَرِ. وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَقَذَفَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: مَا بَرِئَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَفْوَانَ، وَلَا بَرِئَ مِنْهَا وَخَاضَ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ أَعْجَبَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أَيْ تَصَدَّى لِذَلِكَ وَتَقَلَّدَهُ، وَكَبَّرَهُ أَيْ كَبَّرَ الْإِفْكَ وَكِبْرَ الشَّيْءَ مُعْظَمُهُ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ بِضَمِّهَا قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِي تَوَلَّى إِثْمَهُ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ، وَقَدْ بَيَّنْتُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ قِصَّةِ الْإِفْكِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ فِي الْآيَةِ، وَوَقَعَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيَتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ - بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْقَافِ - وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، أَيْ يَسْتَخْرِجُهُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ وَالتَّفْتِيشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ يقرَه بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْقَافِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ.
قَوْلُهُ: (فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَدِ انْتَهَى الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى أَبَوَيَّ وَلَا يَذْكُرُونَ لِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَفِيهَا أَنَّهَا مَرِضَتْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ ابْنِ حَيَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَكَانَ شَدِيدُ الْغَيْرَةِ قَالَ: لَا تَدْخُلُ عَائِشَةُ رَحْلِي، فَخَرَجَتْ تَبْكِي حَتَّى أَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ أُخْرِجَكِ فَانْطَلَقَتْ تَجُولُ لَا يُؤْوِيهَا أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ مَعَ ظُهُورِ نَكَارَتِهِ لِإِيرَادِ الْحَاكِمِ لَهُ فِي الْإِكْلِيلِ وَتَبِعَهُ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ غَيْرِ
مُتَأَمِّلٍ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّكَارَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَرِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَشَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَاشْتَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ: وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يَخُوضُونَ، مِنْ أَفَاضَ فِي قَوْلٍ إِذَا أَكْثَرَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الرَّيْبِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ مِنَ الرُّبَاعِيِّ يُقَالُ رَابَهُ وَأَرَابَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (اللُّطْفُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِفَتْحِهِمَا لُغَتَانِ، وَالْمُرَادُ الرِّفْقُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنْكَرَتْ بَعْضُ لُطْفِهِ.
قَوْلُهُ: (الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي) أَيْ حِينَ أَمْرَضُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ قَالَ لِأُمِّي وَهِيَ تُمَرِّضُنِي: كَيْفَ تِيكُمْ بِالْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ وَهِيَ لِلْمُؤَنَّثِ مِثْلُ ذَاكُمْ لِلْمُذَكَّرِ، وَاسْتَدَلَّتْ عَائِشَةُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهَا اسْتَشْعَرَتْ مِنْهُ بَعْضَ جَفَاءٍ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَدْرِي السَّبَبَ، وَلَمْ تُبَالِغْ فِي التَّنْقِيبِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى عَرَفَتْهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ وَهُوَ مَارٌّ: كَيْفَ تِيكُمْ وَلَا يَدْخُلُ عِنْدِي وَلَا يَعُودُنِي وَيَسْأَلُ عَنِّي أَهْلَ الْبَيْتِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَكُنْتُ أَرَى مِنْهُ جَفْوَةً وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (نَقَهْتُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالنَّاقِهُ بِكَسْرِ الْقَافِ الَّذِي أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ وَلَمْ تَتَكَامَلْ صِحَّتُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي بِكَسْرِ الْقَافِ بِمَعْنَى فَهِمْتُ لَكِنَّهُ هُنَا لَا يُتَوَجَّهُ لِأَنَّهَا مَا فَهِمَتْ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ فِي بَرَأَ مِنَ الْمَرَضِ وَهُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ كَمَالُ صِحَّتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ مِسْطَحٍ خُذِي الْإِدَاوَةَ فَامْلَئِيهَا مَاءً فَاذْهَبِي بِنَا إِلَى الْمَنَاصِعِ.
قَوْلُهُ: (قِبَلَ الْمَنَاصِعِ) أَيْ جِهَتَهَا، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ الْمَنَاصِعَ صَعِيدُ أَفْيَحٍ خَارِجَ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (مُتَبَرَّزُنَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ قَبْلَ الزَّايِ مَوْضِعُ التَّبَرُّزِ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْبِرَازِ وَهُوَ الْفَضَاءُ، وَكُلُّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَالْكُنُفُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ كَنِيفٍ وَهُوَ السَّاتِرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْكُنُفُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ.
قَوْلُهُ: (وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ صِفَةُ الْعَرَبِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ صِفَةُ الْأَمْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ تُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْعَجَمِ. قُلْتُ: ضَبَطَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالْوَجْهِ الثَّانِي، وَصَرَّحَ بِمَنْعِ وَصْفِ الْجَمْعِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ اسْمُ جَمْعٍ تَحْتَهُ جُمُوعٌ فَتَصِيرُ مُفْرَدَةً بِهَذَا التَّقْدِيرِ.
قَوْلُهُ: (فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ فِي الْبَرِّيَّةِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ثُمَّ التَّحْتَانِيَّةِ: أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ زَايٍ ثَقِيلَةٍ هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ، وَالتَّنَزُّهُ طَلَبُ النَّزَاهَةِ، وَالْمُرَادُ الْبُعْدُ عَنِ الْبُيُوتِ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَاتٍ، قِيلَ: اسْمُهَا سَلْمَى، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَلْمَى اسْمُ أُمِّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنْ لَا وَهْمَ فِيهِ؛ فَإِنَّ أُمَّ أَبِي بَكْرٍ خَالَتُهَا فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ) كَذَا هُنَا وَلَمْ يَنْسُبْهُ فُلَيْحٌ، وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَاسْمُ أَبِي رُهْمٍ أُنَيْسٌ.
قَوْلُهُ: (وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ) أَيِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ مِنْ رَهْطِ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) اسْمُهَا رَائِطَةُ حَكَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَمُثَلَّثَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ ابْنُ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ الْمُطَّلِبِيُّ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَالْمِسْطَحُ عُودٌ مِنْ أَعْوَادِ الْخِبَاءِ، وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَوْفٌ، وَقِيلَ: عَامِرٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ يُعَاتِبُ مِسْطَحًا فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ:
يَا عَوْفُ وَيْحَكَ هَلْ لَا قُلْتَ عَارِفَةً
…
مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ تَبْتَغِ بِهِ طَمَعًا
وَكَانَ هُوَ وَأُمُّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ أَبُوهُ مَاتَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَكَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ لِقَرَابَةِ أُمِّ مِسْطَحٍ مِنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاةُ مِسْطَحٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ. بَعْدَ أَنْ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنَنَا فَعَثَرَتْ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ (أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا وَطِئَتْ عَلَى عَظْمٍ أَوْ شَوْكَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا عَثَرَتْ بَعْدَ أَنْ قَضَتْ عَائِشَةُ حَاجَتَهَا ثُمَّ أَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا أَنَّهَا عَثَرَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ عَائِشَةُ حَاجَتَهَا، وَأَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ رَجَعَتْ كَأَنَّ الَّذِي خَرَجَتْ لَهُ لَا تَجِدُ مِنْهُ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا قَدَرْتُ أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أُوَيْسٍ: فَذَهَبَ عَنِّي مَا كُنْتُ أَجِدُ مِنَ الْغَائِطِ، وَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلَى بَدْئِي، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَأَخَذَتْنِي الْحُمَّى وَتَقَلَّصَ مَا كَانَ مِنِّي، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا أَيْ مِنْ شَأْنِ الْمَسِيرِ، لَا قَضَاءَ الْحَاجَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ، أَيْ: كُبَّ لِوَجْهِهِ أَوْ هَلَكَ وَلَزِمَهُ الشَّرُّ أَوْ بَعُدَ، أَقْوَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا أَيْضًا فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهَا عَثَرَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ تَقُولُ: تَعِسَ مِسْطَحُ، وَأَنَّ عَائِشَةَ تَقُولُ لَهَا: أَيْ أُمَّ أَتَسُبِّينَ ابْنَكِ وَأَنَّهَا انْتَهَرَتْهَا فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلَّا فِيكِ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَقُلْتُ: أَتَسُبِّينَ ابْنَكِ وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ: فَقُلْتُ: أَتَقُولِينَ هَذَا لِابْنِكِ وَهُوَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَفَعَلَتْ مَرَّتَيْنِ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهَا فَحَدَّثَتْنِي بِالْخَبَرِ، فَذَهَبَ عَنِّي الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ حَتَّى مَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أُمِّ مِسْطَحٍ هَذَا عَمْدًا لِتَتَوَصَّلَ إِلَى إِخْبَارِ عَائِشَةَ بِمَا قِيلَ فِيهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقًا أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهَا لِتَسْتَيْقِظَ عَائِشَةُ مِنْ غَفْلَتِهَا عَمَّا قِيلَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ) أَيْ حَرْفُ نِدَاءٍ لِلْبَعِيدِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْقَرِيبِ حَيْثُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ هُنَا أَنَّ أُمَّ مِسْطَحٍ نَسَبَتْ عَائِشَةَ إِلَى الْغَفْلَةِ عَمَّا قِيلَ فِيهَا لِإِنْكَارِهَا سَبَّ مِسْطَحٍ فَخَاطَبَتْهَا خِطَابَ الْبَعِيدِ، وَهَنْتَاهْ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ - النُّونِ وَقَدْ تُفْتَحُ - بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ وَآخِرُهُ هَاءٌ سَاكِنَةٌ - وَقَدْ تُضَمُّ - أَيْ هَذِهِ، وَقِيلَ امْرَأَةٌ وَقِيلَ بُلْهَى، كَأَنَّهَا نَسَبَتْهَا إِلَى قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمَكَائِدِ النَّاسِ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَخْتَصُّ بِالنِّدَاءِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَكِرَةٍ، وَإِذَا خُوطِبَ الْمُذَكَّرُ قِيلَ: يَا هَنَةُ، وَقَدْ تُشْبَعُ النُّونُ فَيُقَالُ: يَا هَنَاهُ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ تَشْدِيدُ النُّونِ فِيهِ وَأَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا قَالَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: فَقَالَتْ لَهَا: إِنَّكِ لَغَافِلَةٌ عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ، وَفِيهَا: أَنَّ مِسْطَحًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَتَحَدَّثُونَ عَنْكِ وَعَنْ صَفْوَانَ يَرْمُونَكِ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَشْهَدُ أَنَّكِ مِنَ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةِ: فَنَقَّرَتْ لِي الْحَدِيثَ وَهِيَ بِنُونٍ وَقَافٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ شَرَحَتْهُ، وَلِبَعْضِهِمْ بِمُوَحَّدَةٍ وَقَافٍ خَفِيفَةٍ أَيْ أَعْلَمَتْنِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي) عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي صَالِحٍ: فَقَالَتْ: وَمَا تَدْرِينَ مَا قَالَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَأَخْبَرَتْهَا بِمَا خَاضَ فِيهِ النَّاسُ، فَأَخَذَتْهَا الْحُمَّى. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَلَغَنِي مَا تَكَلَّمُوا بِهِ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ قَلِيبًا فَأَطْرَحَ نَفْسِي فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَدَخَلَ قِيلَ: الْفَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا دَخَلْتُ بَيْتِي اسْتَقْرَيْتُ فِيهِ فَدَخَلَ.
قَوْلُهُ:
(فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْمُعَلَّقَةِ فَقُلْتُ: أَرْسَلَنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي، فَأَرْسَلَ مَعِي الْغُلَامَ وَسَيَأْتِي نَحْوَهُ مَوْصُولًا فِي الِاعْتِصَامِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْغُلَامِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ خَفِّفِي عَلَيْكِ الشَّأْنَ.
قَوْلُهُ: (وَضِيئَةٌ) بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ، مِنَ الْوَضَاءَةِ أَيْ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ: حَظِيَّةٌ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مِنَ الْحَظْوَةِ أَيْ رَفِيعَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ: مَا كَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ.
قَوْلُهُ: (ضَرَائِرُ) جَمْعُ ضَرَّةٍ، وَقِيلَ لِلزَّوْجَاتِ: ضَرَائِرُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ يَحْصُلُ لَهَا الضَّرَرُ مِنَ الْأُخْرَى بِالْغَيْرَةِ.
قَوْلُهُ: (أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: كَثَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ الْقَوْلَ فِي عَيْبِهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: لَقَلَّمَا أَحَبَّ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ إِلَّا قَالُوا لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ: إِلَّا حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ فِطْنَةِ أُمِّهَا وَحُسْنِ تَأَتِّيهَا فِي تَرْبِيَتِهَا مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ ذَلِكَ يَعْظُمُ عَلَيْهَا فَهَوَّنَتْ عَلَيْهَا الْأَمْرَ بِإِعْلَامِهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يَتَأَسَّى بِغَيْرِهِ فِيمَا يَقَعُ لَهُ، وَأَدْمَجَتْ فِي ذَلِكَ مَا تُطَيِّبُ بِهِ خَاطِرَهَا مِنْ أَنَّهَا فَائِقَةٌ فِي الْجَمَالِ وَالْحَظْوَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعْجِبُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُوصَفَ بِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ عَائِشَةُ ضَرَّةَ أُخْتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهَا إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا مُتَّصِلٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدُ قِصَّتَهَا بِعَيْنِهَا بَلْ ذَكَرَتْ شَأْنَ الضَّرَائِرِ، وَأَمَّا ضَرَائِرُهَا هِيَ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُنَّ فِي حَقِّهَا شَيْءٌ مِمَّا يَصْدُرُ مِنَ الضَّرَائِرِ لَكِنْ لَمْ يُعْدَمُ ذَلِكَ مِمَّنْ هُوَ مِنْهُنَّ بِسَبِيلٍ كَمَا وَقَعَ مِنْ حَمْنَةَ لِأَنَّ وَرَعَ أُخْتِهَا مَنَعَهَا مِنَ الْقَوْلِ فِي عَائِشَةَ كَمَا مَنَعَ بَقِيَّةَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ زَيْنَبُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي كَانَتْ تُضَاهِي عَائِشَةَ فِي الْمَنْزِلَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا)؟ زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ: فَقُلْتُ: وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَرَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لِأُمِّي غَفَرَ اللَّهُ لَكِ، يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا وَلَا تَذْكُرِينَ لِي. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ: وَرَجَعْتُ إِلَى أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ: أَمَا اتَّقَيْتُمَا اللَّهَ فِيَّ، وَمَا وَصَلْتُمَا رَحِمِي، يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا وَلَمْ تُعْلِمَانِي؟ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَاسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ، فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهُوَ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ، فَقَالَ لِأُمِّي: مَا شَأْنُهَا؟ فَقَالَتْ: بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ يَا بُنَيَّةُ إِلَّا رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ، فَرَجَعَتْ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالَتْ أُمِّي: لَمْ تَكُنْ عَلِمْتُ مَا قِيلَ لَهَا، فَأَكَبَّتْ تَبْكِي سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: اسْكُتِي يَا بُنَيَّةُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ) اسْتَغَاثَتْ بِاللَّهِ مُتَعَجِّبَةً مِنْ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا مَعَ بَرَاءَتِهَا الْمُحَقَّقَةِ عِنْدَهَا.
قَوْلُهُ: (لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ) بِالْقَافِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) اسْتِعَارَةٌ لِلسَّهَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ كَمَا مَضَى فِي الْمَغَازِي: فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا اسْتَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: فَأَلْقَتْ عَلَيَّ أُمِّي كُلَّ ثَوْبٍ فِي الْبَيْتِ.
(تَنْبِيهٌ): طُرُقُ حَدِيثِ الْإِفْكِ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ بَلَغَهَا الْخَبَرَ مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلَانٍ وَفَعَلَ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتِ: ابْنِي وَمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ.
قَالَتْ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا، هَذَا لَفْظُ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي، وَلَفْظُهُ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: قَالَتْ: إِنَّهُ نَمَّى الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَيُّ حَدِيثٍ؟ فَأَخْبَرَتْهَا، قَالَتْ: فَسَمِعَهُ أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ أَوَّلًا مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ. ثُمَّ ذَهَبَتْ لِبَيْتِ أُمِّهَا لِتَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْهَا فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا بِالْأَمْرِ مُجْمَلًا كَمَا مَضَى مِنْ قَوْلِهَا: هَوِّنِي عَلَيْكِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْأَنْصَارِيَّةُ فَأَخْبَرَتْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ أُمِّهَا، فَقَوِيَ عِنْدَهَا الْقَطْعُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ، فَسَأَلَتْ: هَلْ سَمِعَهُ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا؟ تَرَجِّيًا مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَا سَمِعَا ذَلِكَ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهَا إِنَّهُمَا سَمِعَاهُ غُشِيَ عَلَيْهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْأَنْصَارِيَّةِ وَلَا عَلَى اسْمِ وَلَدِهَا.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بَعْدَمَا عَلِمَتْ بِالْقِصَّةِ لِأَنَّهَا عَقَّبَتْ بُكَاءَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِهَذَا ثُمَّ عَقَّبَتْ هَذَا بِالْخُطْبَةِ، وَرِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ السُّؤَالَ وَالْخُطْبَةَ وَقَعَا قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ عَائِشَةُ بِالْأَمْرِ، فَإِنَّ فِي أَوَّلِ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْخُطْبَةِ الْآتِيَةِ ; وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَدَعَا عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَ مَا قِيلَ فَدَعَا عَلِيَّ.
قَوْلُهُ: (عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشِيرَ أَحَدًا فِي أَمْرِ أَهْلِهِ لَمْ يَعُدَّ عَلِيًّا، وَأُسَامَةَ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْعَرَبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَشَارَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: دَعْهَا، فَلَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ لَكَ فِيهَا أَمْرًا، وَأَظُنُّ فِي قَوْلِهِ: ابْنَ ثَابِتٍ تَغْيِيرٌ وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ ابْنَ حَارِثَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ أَيْمَنَ فَبَرَّأَتْهَا، وَأُمُّ أَيْمَنَ هِيَ وَالِدَةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ) بِالرَّفْعِ أَيْ طَالَ لَبِثَ نُزُولَهُ، وَبِالنَّصْبِ أَيِ اسْتَبْطَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُزُولَهُ.
قَوْلُهُ: (فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ) عَدَلَتْ عَنْ قَوْلِهَا فِي فِرَاقِي إِلَى قَوْلِهَا: فِرَاقِ أَهْلِهِ، لِكَرَاهَتِهَا التَّصْرِيحُ بِإِضَافَةِ الْفِرَاقِ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (أَهْلُكَ) بِالرَّفْعِ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: هُمْ أَهْلُكَ، وَلَوْ لَمْ تَقَعْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَجَازَ النَّصْبُ أَيْ أَمْسِكْ، وَمَعْنَاهُ: هُمْ أَهْلُكُ أَيِ الْعَفِيفَةُ اللَّائِقَةُ بِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ مُتَبَرِّئًا مِنَ الْمَشُورَةِ وَوَكَّلَ الْأَمْرَ إِلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ: وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَإِطْلَاقُ الْأَهْلِ عَلَى الزَّوْجَةِ شَائِعٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَطْلَقَ عَلَيْهَا أَهْلًا وَذَكَرَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ حَيْثُ قَالَ: هُمْ أَهْلُكَ إِشَارَةً إِلَى تَعْمِيمِ الْأَزْوَاجِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَ لِإِرَادَةِ تَعْظِيمِهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ كَأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْسَ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ فَعِيلٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إِفْرَادًا وَجَمْعًا. وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وَأَطَابَ، طَلِّقْهَا وَانْكِحْ غَيْرَهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ عَلِيٌّ حَمَلَهُ عَلَيْهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى عِنْدَهُ مِنَ الْقَلَقِ وَالْغَمِّ بِسَبَبِ الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْغَيْرَةِ، فَرَأَى عَلِيٌّ أَنَّهُ إِذَا فَارَقَهَا سَكَنَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقَلَقِ بِسَبَبِهَا إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ بَرَاءَتُهَا فَيُمْكِنُ رَجْعَتُهَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ لِذَهَابِ أَشَدِّهِمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رَأَى عَلِيٌّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنِ انْزِعَاجِهِ، فَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي النَّصِيحَةِ لِإِرَادَةِ رَاحَةِ خَاطِرِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: لَمْ يَجْزِمْ عَلِيٌّ بِالْإِشَارَةِ بِفِرَاقِهَا لِأَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَفَوَّضَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ تَعْجِيلَ الرَّاحَةِ فَفَارِقْهَا، وَإِنْ أَرَدْتَ خِلَافَ ذَلِكَ فَابْحَثْ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ تَطَّلِعَ عَلَى بَرَاءَتِهَا. لِأَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ بَرِيرَةَ لَا تُخْبِرُهُ إِلَّا بِمَا عَلِمَتْهُ، وَهِيَ لَمْ تَعْلَمْ مِنْ عَائِشَةَ إِلَّا الْبَرَاءَةَ الْمَحْضَةَ.
وَالْعِلَّةُ فِي اخْتِصَاصِ عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ بِالْمُشَاوَرَةِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ عِنْدَهُ كَالْوَلَدِ لِأَنَّهُ رَبَّاهُ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ ثُمَّ لَمْ يُفَارِقْهُ، بَلْ وَازْدَادَ اتِّصَالُهُ بِتَزْوِيجِ فَاطِمَةُ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ لِمَزِيدِ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ ; وَكَانَ أَهْلُ
مَشُورَتِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ. وَأَمَّا أُسَامَةُ فَهُوَ كَعَلِيٍّ فِي طُولِ الْمُلَازَمَةِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; وَخَصَّهُ دُونَ أَبِيهِ وَأُمَّهُ لِكَوْنِهِ كَانَ شَابًّا كَعَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ أَسَنَّ مِنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ لِلشَّابِّ مِنْ صَفَاءِ الذِّهْنِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ جُرْأَةٍ عَلَى الْجَوَابِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْمُسِنِّ، لِأَنَّ الْمُسِنَّ غَالِبًا يَحْسُبُ الْعَاقِبَةَ فَرُبَّمَا أَخْفَى بَعْضَ مَا يَظْهَرُ لَهُ رِعَايَةً لِلْقَائِلِ تَارَةً وَالْمَسْئُولِ عَنْهُ أُخْرَى، مَعَ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ اسْتَشَارَ غَيْرَهُمَا.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ عَلِيٍّ نِسْبَةُ عَائِشَةَ إِيَّاهُ إِلَى الْإِسَاءَةِ فِي شَأْنِهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَغَازِي، وَمَا رَاجَعَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدْ وَضَحَ عُذْرُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ) فِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَرْسِلْ إِلَى بَرِيرَةَ خَادِمِهَا فَسَلْهَا، فَعَسَى أَنْ تَكُونَ قَدِ اطَّلَعَتْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي الْعِتْقِ، فِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ: فَأَرْسَلَ إِلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ لَهَا: أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي سَائِلُكِ عَنْ شَيْءٍ فَلَا تَكْتُمِينَهُ. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ رَأَيْتِ مِنْ عَائِشَةَ مَا تَكْرَهِينَهُ؟ قَالَتْ: لَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ تَسْمِيَتَهَا هُنَا وَهَمٌ، لِأَنَّ قِصَّتَهَا كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا لَمَّا خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ زَوْجُهَا يَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ؟ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ تَكُونَ بَرِيرَةُ كَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ وَهِيَ فِي رِقِّ مَوَالِيهَا، وَأَمَّا قِصَّتُهَا مَعَهَا فِي مُكَاتَبَتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، أَوْ أَنَّ اسْمَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَافَقَ اسْمَ بَرِيرَةَ الَّتِي وَقَعَ لَهَا التَّخْيِيرُ، وَجَزَمَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ فِيمَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِبَرِيرَةَ مُدْرَجَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ أُخْرَى، وَأَخَذَهُ مِنِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْحَنْبَلِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: تَسْمِيَتُهَا بِبَرِيرَةَ وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَمَّا كَاتَبَتْهَا عَقِبَ شِرَائِهَا وَعَتَقَتْ خُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ أَنَّهَا بَرِيرَةُ فَغَلِطَ، قَالَ: وَهَذَا نَوْعٌ غَامِضٌ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا الْحُذَّاقُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ بِالْأُجْرَةِ وَهِيَ فِي رِقِّ مَوَالِيهَا قَبْلَ وُقُوعِ قِصَّتِهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْإِدْرَاجِ وَتَغْلِيطِ الْحُفَّاظِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيٍّ: شَأْنُكَ بِالْجَارِيَةِ، فَسَأَلَهَا عَلِيٌّ وَتَوَعَّدَهَا فَلَمْ تُخْبِرْهُ إِلَّا بِخَيْرٍ، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَسَأَلَهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ سُوءًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَقَامَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا يَقُولُ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ يُقَالُ أَسْقَطَ الرَّجُلُ فِي الْقَوْلِ إِذَا أَتَى بِكَلَامٍ سَاقِطٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ لِلْحَدِيثِ أَوِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمُوهَا بِهِ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِي مُسْلِمٍ: حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَاتَهَا بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ وَزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَسْقَطُوا لَهَاتَهَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْكَلَامَ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا تَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالَ: لَسْتُ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكِ، قَالَتْ: فَعَمَّهْ؟ فَلَمَّا فَطِنَتْ قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ حَتَّى صَرَّحُوا لَهَا بِالْأَمْرِ، فَلِهَذَا تَعَجَّبَتْ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ، أَيْ صَرَّحُوا لَهَا بِالْأَمْرِ، وَقِيلَ: جَاءُوا فِي خِطَابِهَا بِسَقْطٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ
الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ عُرْوَةُ: فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَالَهُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَقَطَ إِلَيَّ الْخَبَرُ إِذَا عَلِمْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا هُنَّ سَاقَطْنَ الْحَدِيثَ وَقُلْنَ لِي،
قَالَ: فَمَعْنَاهُ ذَكَرُوا لَهَا الْحَدِيثَ وَشَرَحُوهُ.
قَوْلُهُ: (إِنْ رَأَيْتَ عَلَيْهَا أَمْرًا) أَيْ مَا رَأَيْتَ فِيهَا مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ شَيْئًا أَصْلًا، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهَا مَا ذَكَرْتُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ لِصِغَرِ سِنِّهَا وَرُطُوبَةِ بَدَنِهَا.
قَوْلُهُ: (أَغْمِصُهُ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ: أَعِيبُهُ.
قَوْلُهُ: (سِوَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ عَجِينِي وَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ فَتَنَامَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ: مَا رَأَيْتُ مِنْهَا مُذْ كُنْتُ عِنْدَهَا إِلَّا أَنِّي عَجَنْتُ عَجِينًا لِي فَقُلْتُ: احْفَظِي هَذِهِ الْعَجِينَةَ حَتَّى أَقْتَبِسَ نَارًا لِأَخْبِزَهَا، فَغَفَلَتْ، فَجَاءَتِ الشَّاةُ فَأَكَلَتْهَا، وَهُوَ يُفَسِّرُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ: حَتَّى تَأْتِي الدَّاجِنُ، وَهِيَ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ: الشَّاةُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبَيْتَ وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الْمَرْعَى، وَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ مُطْلَقًا شَاةً أَوْ طَيْرًا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْبَدِيعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْعَيْبِ، فَغَفَلْتُهَا عَنْ عَجِينِهَا أَبْعَدُ لَهَا مِنْ مِثْلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ وَأَقْرَبُ إِلَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. وَكَذَا فِي قَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: مَا عَلِمْتُ مِنْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، أَيْ كَمَا لَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ إِلَّا الْخُلُوصُ مِنَ الْعَيْبِ، فَكَذَلِكَ أَنَا لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْخُلُوصُ مِنَ الْعَيْبِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ: فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْحَبَشِيَّةُ: وَاللَّهِ لَعَائِشَةُ أَطْيَبُ مِنَ الذَّهَبِ، وَلَئِنْ كَانَتْ صَنَعْتِ مَا قَالَ النَّاسُ لَيُخْبِرَنَّكَ اللَّهُ. قَالَتْ: فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ فِقْهِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: ثُمَّ خَرَجَ حِينَ سَمِعَ مِنْ بَرِيرَةَ مَا قَالَتْ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، وَزَادَ عَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ هُنَا قَبْلَ قَوْلِهِ فَقَامَ: وَكَانَتْ أُمُّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّةُ قَالَتْ لِأَبِي أَيُّوبَ: أَمَا سَمِعْتَ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَحَدَّثَتْهُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَقَالَ:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} قُلْتُ: وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ مُخْتَصَرَةً وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَرْسَلَ مَعَهَا الْغُلَامُ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} فَيُسْتَفَادُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ هَذِهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ أُسَامَةُ: مَا يَحِلُّ لَنَا {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} الْآيَةَ. لَكِنَّ أُسَامَةَ مُهَاجِرِيٌّ ; فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى التَّوَارُدِ. وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ أَيُّوبَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، قَالَتْ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} الْآيَةَ.
وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ نَحْوَهُ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى قَالَ: قَالَتْ أُمُّ الطُّفَيْلِ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) أَيْ طَلَبَ مَنْ يَعْذِرُهُ مِنْهُ، أَيْ يُنْصِفُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَنْ يَقُومُ بِعُذْرِهِ فِيمَا رَمَى أَهْلِي بِهِ مِنَ الْمَكْرُوِهِ، وَمَنْ يَقُومُ بِعُذْرِي إِذَا عَاقَبْتُهُ عَلَى سُوءِ مَا صَدَرَ مِنْهُ؟ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الثَّانِي وَقِيلَ: مَعْنَى مَنْ يَعْذِرُنِي: مَنْ يَنْصُرُنِي، وَالْعَزِيرُ النَّاصِرُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ يَنْتَقِمُ لِي مِنْهُ؟ وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ سَعْدٍ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسِ أَبَنُوا أَهْلِي، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ
بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَمَعْنَاهُ: عَابُوا أَهْلِي أَوِ اتَّهَمُوا أَهْلِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ الْأَبَنَ بِفَتْحَتَيْنِ التُّهْمَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمُرَادُ: رَمَوْا أهلي بِالْقَبِيحِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الشَّمَائِلِ فِي ذِكْرِ مَجْلِسِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُؤَبَّنَ فِيهِ الْحُرَمُ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ بِتَقْدِيمِ النُّونِ الثَّقِيلَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّأْنِيبَ هُوَ اللَّوْمُ الشَّدِيدُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا، انْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَامُوهُمْ أَشَدُّ اللَّوْمِ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ صَنَعُوهُ وَهُمْ لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ صُورَةِ الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: التَّخْفِيفُ أَشْهَرُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مَا بَالُ أُنَاسٌ يُؤْذُونِي فِي أَهْلِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: مَنْ يَعْذُرُنِي فِيمَنْ يُؤْذِينِي فِي أَهْلِي، وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْغَسَّانِيِّ الْمَذْكُورَةِ: فِي قَوْمٍ يَسُبُّونَ أَهْلِي، وَزَادَ فِيهِ: مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ.
قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا) زَادَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: صَالِحًا، وَزَادَ أَبُو أُوَيْسٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ قَعَدَ لِحَسَّانٍ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَقُولُ:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ مِنِّي فَإِنَّنِي
…
غُلَامٌ إِذَا هُوجِئْتُ لَسْتُ بِشَاعِرٍ
فَصَاحَ حَسَّانُ، فَفَرَّ صَفْوَانُ، فَاسْتَوْهَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَسَّانَ ضَرْبَةَ صَفْوَانَ فَوَهَبَهَا لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: فَقَامَ سَعْدٌ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: فَقَامَ سَعْدٌ وَلَمْ يَنْسُبْهُ، وَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ؛ لِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ شَيْخِ شُيُوخِنَا الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ: وَقَعَ فِي نُسْخَةِ سَمَاعِنَا: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَقَامَ سَعْدُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آخَرَ غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَإِنَّ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُسَمَّى كُلٌّ مِنْهُمْ سَعْدًا، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ عَلَى سَبَايَا قُرَيْظَةَ الَّذِينَ بِيعُوا بِنَجْدٍ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ مِنْهَا فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ.
قُلْتُ: وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْإِشْكَالِ فِي ذِكْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَالَّذِي جَوَّزَهُ مَرْدُودٌ بِالتَّصْرِيحِ بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ، فَأَذْكُرُ كَلَامَ عِيَاضٍ وَمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْجَوَابِ عَنْهُ، قَالَ عِيَاضٌ: فِي ذِكْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ لَمْ يَتَكَلَّمِ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَنَا عَلَيْهِ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِفْكَ كَانَ فِي الْمُرَيْسِيعِ وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ ; وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَاتَ مِنَ الرَّمْيَةِ الَّتِي رُمِيَهَا بِالْخَنْدَقِ فَدَعَا اللَّهُ فَأَبْقَاهُ حَتَّى حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ انْفَجَرَ جُرْحُهُ فَمَاتَ مِنْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا مَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، قَالَ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ، وَجَعَلَ الْمُرَاجَعَةَ أَوَّلًا وَثَانِيًا بَيْنَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: وَقَالَ لِي بَعْضُ شُيُوخِنَا: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَعْدُ مَوْجُودًا فِي الْمُرَيْسِيعِ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَارِيخِ غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَكَذَلِكَ الْخَنْدَقُ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ، فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَيْسِيعَ كَانَتْ فِي شَعْبَانَ وَأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ، فَإِنْ كَانَا مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتَقَامَ أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَشْهَدَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ انْتَهَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَغَازِي أَنَّ الصَّحِيحَ فِي النَّقْلِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ الْمُرَيْسِيعَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ، وَأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّهَا سَنَةُ أَرْبَعٍ سَبْقَ قَلَمٍ، نَعَمْ وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْخَنْدَقَ أَيْضًا كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ خِلَافًا لِابْنِ إِسْحَاقَ فَيَصِحُّ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَيْسِيعَ
سَنَةَ خَمْسٍ الطَّبَرِيُّ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ أَصْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُوَ الْمُرَيْسِيعُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ فِي الْمَغَازِي، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ عُرِضَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَلَمْ يُجِزْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعُرِضَ فِي الْخَنْدَقِ فَأَجَازَهُ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ الْمُرَيْسِيعَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنْ يَكُونَ أُجِيزَ فِي الْقِتَالِ؛ فَقَدْ يَكُونُ صَحِبَ أَبَاهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ كَمَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَمْنَحُ الْمَاءَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا بِاتِّفَاقٍ.
وَقَدْ سَلَكَ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَصْلِ الْإِشْكَالِ جَوَابًا آخَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَنْدَقَ قَبْلَ الْمُرَيْسِيعِ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُرْحُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمْ يَنْفَجِرْ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، بَلْ تَأَخَّرَ زَمَانًا ثُمَّ انْفَجَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَكُونُ مُرَاجَعَتُهُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ لِمَرَضِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ أَنْ يُجِيبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ بِمَا أَجَابَهُ، وَأَمَّا دَعْوَى عِيَاضٌ أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ فَمَا أَدْرِي مَنِ الَّذِينَ عَنَاهُمْ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ مِنَ الْقُدَمَاءِ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فَقَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَ الْخَنْدَقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْخَنْدَقَ قَبْلَ الْمُرَيْسِيعِ، وَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رَاجَعَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهَمٌ وَخَطَأٌ، وَإِنَّمَا رَاجَعَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَاتَ فِي مُنْصَرَفِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُدْرِكْ الْمُرَيْسِيعَ وَلَا حَضَرَهَا. وَبَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى عَادَتِهِ فَقَالَ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ ابْنِ مُعَاذٍ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَهَمٌ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ الْقُرْطُبِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَعْذِرُكَ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: أَعْذِرُكَ مِنْهُ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ) يَعْنِي قَبِيلَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
قَوْلُهُ: (ضَرَبْنَا عُنُقَهُ) فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: ضَرَبْتُ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدَهُمْ، فَجَزَمَ بِأَنَّ حُكْمَهُ فِيهِمْ نَافِذٌ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ) مِنَ الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَالْأُخْرَى بَيَانِيَّةٌ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ.
قَوْلُهُ: (أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَتَيْنَاكَ بِهِ فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ) فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ بِنْتُ عَمِّهِ مِنْ فَخْذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ انْتَهَى. وَأُمُّ حَسَّانَ اسْمُهَا الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ خُنَيْسِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدُودِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ فَخْذِهِ، بَعْدَ قَوْلِهِ بِنْتُ عَمِّهِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَ عَمِّهِ لَحًّا، لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَجْتَمِعُ مَعَهَا فِي ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاقُ نَسَبِهِ فِي الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا) أَيْ كَامِلُ الصَّلَاحِ، فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ: وَكَانَ صَالِحًا لَكِنَّ الْغَضَبَ بَلَغَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَغْمِصْ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ: احْتَمَلَتْهُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ مِيمٍ أَيْ أَغْضَبَتْهُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَكَذَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: اجْتَهَلَتْهُ بِجِيمٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَصَوَّبَهَا الْوَقْشِيُّ، أَيْ حَمَلَتْهُ عَلَى الْجَهْلِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِسَعْدٍ) أَيِ ابْنُ مُعَاذٍ (كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ) الْعَمْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْبَقَاءُ، وَهُوَ الْعُمْرُ بِضَمِّهَا، لَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ إِلَّا بِالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ)
(1)
فَسَّرَ قَوْلِهِ: لَا تَقْتُلُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْمَهُ يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكِ فَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ
(1)
في هامش طبعة بولاق: "ولو كان من رهطك الخ" ليس في نسخ المتن التي بأيدينا.
قَوْلِهِ: كَذَبْتَ أَيْ فِي قَوْلِكِ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ فَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَأَنَّهُ جَزَمَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ رَهْطِهِ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ رَهْطِهِ إِنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بَلِ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا نَطَقْتَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ إِنْ كَانَ مِنْ رَهْطِكِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ رَهْطِكِ فَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ يُقْتَلَ، وَهَذَا بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَذَبْتَ لَا تَقْتُلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَجْعَلُ حُكْمَهُ إِلَيْكَ فَلِذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ حَمْلٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ بَيَّنَتِ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى السَّبَبَ الْحَامِلَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى مَا قَالَ، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: مَا قُلْتُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا أَنَّكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا بْنَ مُعَاذٍ وَاللَّهِ مَا بِكِ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهَا قَدْ كَانَتْ بَيْنَنَا ضَغَائِنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِحَنٌ لَمْ تَحْلُلْ لَنَا مِنْ صُدُورِكُمْ، فَقَالَ ابْنُ مُعَاذٍ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَدْتُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا طَلَبْتَ بِهِ دُخُولَ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُ ابْنِ مُعَاذٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْسَ قَوْمُهُ وَهُمْ بَنُو النَّجَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْخَزْرَجِ لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ التَّشَاحُنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ زَالَ بِالْإِسْلَامِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ بِحُكْمِ الْأَنَفَةِ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِحُكْمِ الْأَنَفَةِ وَنَفَى أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ: وَلَمْ يُرِدْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الرِّضَا بِمَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا أَيْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُقُوفِ مَعَ أَنَفَةِ الْحَمِيَّةِ، وَلَمْ تَرِدْ أَنَّهُ نَاضَلَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ بَنِي النَّجَّارِ قَوْمُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ رَهْطِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرٌ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ مَا دَارَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ فَارْتَكَبَ شَطَطًا، فَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: لَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، أَيْ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ مُعَاذٍ لَمْ يَقُلْ فِي الْخَزْرَجِيِّ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْأَوْسِيِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَمِيَّةً لِقَوْمِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ حَمِيَّةً لَمْ يُوَجِّهْهَا رَهْطَ غَيْرِهِ قَالَ: وَسَبَبُ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي خَاضَ فِي الْإِفْكِ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَأَرَادَ أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ يَمْنَعُونَهُ مِنْهُ إِذَا أَرَادَ قَتْلَهُ إِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرٌ بِقَتْلِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَلُ وَلَا تَعُدِّ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ بِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ مُنْزَعِجَةُ الْخَاطِرِ لِمَا دَهَمَهَا مِنَ الْأَمْرِ، فَقَدْ يَقَعُ فِي فَهْمِهَا مَا يَكُونُ أَرْجَحُ مِنْهُ، وَعَنْ قَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ الْآتِي بِأَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَ ابْنِ عُبَادَةَ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا سَائِغًا انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مُنْزَعِجَةُ الْخَاطِرِ مَرْدُودٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَتْ حَدَّثَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا إِنَّمَا حَدَّثَتْ بِهَا بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ حَتَّى سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهَا عُرْوَةُ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ كَمَا قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ الِانْزِعَاجُ زَالَ وَانْقَضَى، وَالْحَقُّ أَنَّهَا فَهِمَتْ ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ بِقَرَائِنِ الْحَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ مَعَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمْ يَقُلْ بِقَتْلِهِ كَمَا قَالَ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوْسِ، فَإِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَهِمَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مُعَاذٍ: أَمَرْتَنَا بِأَمْرِكَ أَيْ إِنْ أَمَرْتَنَا بِأَمْرِكَ أَيْ أَمَرْتَنَا بِقَتْلِهِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ أَمَرْتَ قَوْمُهُ بِقَتْلِهِ قَتَلُوهُ، فَنَفَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قُدْرَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى قَتْلِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْخَزْرَجِ لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَأْمُرُ غَيْرَ قَوْمِهِ بِقَتْلِهِ، فَكَأَنَّهُ أَيْأَسَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ قَتْلِهِ وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْحَمِيَّةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا عَائِشَةُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمَهُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَرُدُّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ وَلَا يَمْتَثِلُهُ، حَاشَا لِسَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدِ اعْتَذَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ قَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: إِنَّكَ مُنَافِقٌ أَنَّ ذَلِكَ
وَقَعَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي زَجْرِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنِ الْمُجَادَلَةِ عَنِ ابْنِ أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُرِدِ النِّفَاقَ الَّذِي هُوَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَسَأَذْكُرُ مَا فِي فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخِرِ شَرْحِهِ، زِيَادَةٌ فِي هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِ وَفِي أَبِيهِ، وَأَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فِي الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) أَيْ مِنْ رَهْطِهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عَمِّهِ لَحًّا، لِأَنَّهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ، إِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ فِي امْرِئِ الْقِيسِ وَهُمَا التعدد فِي التَّعَدُّدِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) أَيْ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْخَزْرَجِ إِذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَلَيْسَتْ لَكُمْ قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِنَا مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ) أَطْلَقَ أُسَيْدُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ أَيْ تَصْنَعُ صَنِيعَ الْمُنَافِقِينَ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَقَابَلَ قَوْلَهُ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَا تَقْتُلْهُ بِقَوْلِهِ هُوَ: كَذَبْتَ لَنَقْتُلَنَّهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إِطْلَاقُ أُسَيْدٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ نِفَاقَ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلْأَوْسِ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ضِدُّ ذَلِكَ فَأَشْبَهَ حَالَ الْمُنَافِقِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِظْهَارُ شَيْءٍ وَإِخْفَاءُ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَرْكِ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَثَاوَرَ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ: تَفَاعَلَ مِنَ الثَّوْرَةِ، وَالْحَيَّانِ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ تَثْنِيَةُ حَيٍّ وَالْحَيُّ كَالْقَبِيلَةِ، أَيْ نَهَضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الْغَضَبِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَسَلَّ سَيْفَهُ قَوْلُهُ: (حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ هُنَا: قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَوْعِدُكُمُ الْحِرَّةُ أَيْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لِتَتَقَاتَلُوا هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا) وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: فَلَمْ يَزَلْ يُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى النَّاسِ هَاهُنَا حَتَّى هَدَأَ الصَّوْتُ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَكَّتَهُمْ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا لِيُكْمِلَ تَسْكِيتَهُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَبَكَيْتُ، وَهِيَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي) أَيْ أَنَّهُمَا جَاءَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِهِمَا، لَا أَنَّهَا رَجَعَتْ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى بَيْتِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: وَأَنَا فِي بَيْتِ أَبَوَيَّ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا) أَيِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَخْبَرَتْهَا فِيهَا أُمُّ مِسْطَحٍ الْخَبَرَ وَالْيَوْمُ الَّذِي خَطَبَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَاللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتِي وَيَوْمًا، وَكَأَنَّ الْيَاءَ مُشَدَّدَةٌ وَنَسَبَتْها إِلَى نَفْسِهَا لِمَا وَقَعَ لَهَا فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا هُمَا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَبَيْنَمَا هُمَا.
قَوْلُهُ: (يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقِ كَبِدِي) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: حَتَّى أَظُنُّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا يَظُنُّونَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَأْذَنَتْ) كَذَا فِيهِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَاسْتَأْذَنَتْ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: إِذِ اسْتَأْذَنَتْ.
قَوْلُهُ: (امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ وَهِيَ رِوَايَةُ فُلَيْحٍ، وَالْأَوْلَى رِوَايَةُ صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ وَقَدِ اكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: وَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ وِجَاهِي، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ أَنَّ عَائِشَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانَتْ بِهَا الْحُمَّى النَّافِضُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَعَدَتْ
عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي) حَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّةَ كَانَتْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَلْغَى الْكَسْرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ: أَنَّ الْمُدَّةَ كَانَتْ خَمْسِينَ يَوْمًا أَوْ أَزْيَدَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُدُومِهِمْ الْمَدِينَةَ وَنُزُولُ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالشَّهْرِ فَهُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي أَوَّلُهَا إِتْيَانُ عَائِشَةَ إِلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا حِينَ بَلَغَهَا الْخَبَرَ.
قَوْلُهُ: (فَتَشَهَّدَ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا) هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ مِنَ الْإِفْكِ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ التَّصْرِيحَ، فَلَعَلَّ الْكِنَايَةَ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَا بَلَغَكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ، فَاتَّقِ اللَّهَ، وَإِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا فَتُوبِي.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ) أَيْ بِوَحْيٍ يُنَزِّلُهُ بِذَلِكَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ) أَيْ وَقَعَ مِنْكِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْإِلْمَامِ، وَمِنْهُ:
أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْلُ مُرْخٍ سُتُورَهُ
قَوْلُهُ: (فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: ثُمَّ تُوبِي إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ إِنْ كُنْتِ أَخْطَأْتِ فَتُوبِي.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَمَرَهَا بِالِاعْتِرَافِ وَلَمْ يَنْدُبْهَا إِلَى الْكِتْمَانِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِنَّ، فَيَجِبُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الِاعْتِرَافُ بِمَا يَقَعُ مِنْهُنَّ وَلَا يَكْتُمْنَهُ إِيَّاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِنَبِيٍّ إِمْسَاكُ مَنْ يَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ، بِخِلَافِ نِسَاءِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُنَّ نُدِبْنَ إِلَى السَّتْرِ. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالِاعْتِرَافِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَغْفِرَ اللَّهِ وَتَتُوبُ إِلَيْهِ، أَيْ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْأَمْرِ لَهَا بِأَنْ تَعْتَرِفَ عِنْدَ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَسِيَاقُ جَوَابِ عَائِشَةَ يُشْعِرُ بِمَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ، لَكِنَّ الْمُعْتَرِفُ عِنْدَهُ لَيْسَ إِطْلَاقُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ. وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ حَاطِبٍ قَالَتْ: فَقَالَ أَبِي: إِنْ كُنْتِ صَنَعْتِ شَيْئًا فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَإِلَّا فَأَخْبِرِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُذْرِكِ.
قَوْلُهُ: (قَلَصَ دَمْعِي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، أَيِ: اسْتَمْسَكَ نُزُولُهُ فَانْقَطَعَ، وَمِنْهُ قَلَصَ الظِّلُّ وَتَقَلَّصَ إِذَا شُمِّرَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُهُ أَنَّ الْحُزْنَ وَالْغَضَبَ إِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا فُقِدَ الدَّمْعُ لِفَرْطِ حَرَارَةِ الْمُصِيبَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى مَا أُحِسُّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: أَجِدُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ) قِيلَ: إِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَبِيهَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَمَّا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَهُوَ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَتْهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَمْ يَقَعْ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ هُوَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: بَرِّئْنِي بِمَا شِئْتَ وَأَنْتَ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الصِّدْقِ فِيمَا تَقُولُ، وَإِنَّمَا أَجَابَهَا أَبُو بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الِاتِّبَاعِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَجَابَ بِمَا يُطَابِقُ السُّؤَالَ فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتَحَقَّقُ بَرَاءَتَهَا لَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُزَكِّيَ وَلَدَهُ. وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أُمِّهَا: لَا أَدْرِي. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةُ: فَقَالَ: مَاذَا أَقُولُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: قُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ) قَالَتْ هَذَا تَوْطِئَةً لِعُذْرِهَا لِكَوْنِهَا لَمْ تَسْتَحْضِرِ اسْمَ يَعْقُوبَ عليه السلام كَمَا سَيَأْتِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْآتِيَةُ: فَلَمَّا لَمْ يُجِيبَاهُ تَشَهَّدْتُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا اسْتَعْجَمَا عَلَيَّ اسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتُوبُ مِمَّا ذَكَرُوا أَبَدًا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: وَقَرَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ ثَبَتَ وَزْنًا وَمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (وَصَدَقْتُمْ بِهِ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ، قَالَتْ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى
سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْقِيبِ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ كَانَتْ لِمَا تَحَقَّقَتْهُ مِنْ بَرَاءَةِ نَفْسِهَا وَمَنْزِلَتِهَا تَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ عَنْهَا ذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ بِكَذِبِهِ، لَكِنَّ الْعُذْرَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ نَفْيِ مَا قَالُوا وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ، بَلْ تَعَيَّنَ التَّنْقِيبُ عَلَيْهِ لِقَطْعِ شُبَهِهِمْ، أَوْ مُرَادِهَا بِمَنْ صَدَّقَ بِهِ أَصْحَابُ الْإِفْكِ، لَكِنْ ضَمَّتْ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ تَغْلِيبًا.
قَوْلُهُ: (لَا تُصَدِّقُونَنِي بِذَلِكَ) أَيْ لَا تَقْطَعُونَ بِصِدْقِي. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: مَا ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ، وَقَالَتْ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ: لَتُصَدِّقُنِّي، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَالْأَصْلُ: تُصَدِّقُونَنِي، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْءَ مُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ: لَئِنْ حَلَفْتَ لَا تُصَدِّقُونَنِي، وَلَئِنْ قُلْتَ لَا تَعْذِرُونَنِي.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا) فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَفُلَيْحٍ، وَمَعْمَرٍ: مَا أَجِدُ لَكُمْ وَلِي مَثَلًا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَاخْتَلَسَ مِنِّي اسْمُهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: نَسِيتُ اسْمَ يَعْقُوبَ لِمَا بِي مِنَ الْبُكَاءِ وَاحْتِرَاقِ الْجَوْفِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى لِلتَّصْرِيحِ فِي حَدِيثِ هِشَامِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحْضِرِ اسْمَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَوَلَّيْتُ وَجْهِي نَحْوَ الْجُدُرِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي) زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئُنِي بِنُونٍ قَبْلَ الْيَاءِ وَبَعْدِ الْهَمْزَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ؛ لِأَنَّ نُونَ الْوِقَايَةِ تَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ لِتَسْلَمَ مِنَ الْكَسْرِ، وَالْأَسْمَاءُ تُكْسَرُ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا انْتَهَى. وَالَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ مُبَرِّئِي بِغَيْرِ نُونٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ مَا ذُكِرَ فَقَدْ سُمِعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ) زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: يُتْلَى، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَيُصَلَّى بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فَارَقَ، وَمَصْدَرُهُ الرَّيْمُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ، بِخِلَافِ رَامَ بِمَعْنَى طَلَبَ فَمَصْدَرُهُ الرَّوْمُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْمُضَارِعِ: يُقَالُ رَامَ يَرُومُ رَوْمًا، وَرَامَ يَرِيمُ رَيْمًا. وَحُذِفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْفَاعِلُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَفُلَيْحٍ، وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمْ: مَجْلِسَهُ أَيْ مَا فَارَقَ مَجْلِسَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ) أَيِ الَّذِينَ كَانُوا حِينَئِذٍ حُضُورًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَاعَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مَدٍّ: هِيَ شِدَّةُ الْحُمَّى، وَقِيلَ: شِدَّةُ الْكَرْبِ، وَقِيلَ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَمِنْهُ بَرِحَ بِي الْهَمُّ إِذَا بَلَغَ مِنِّي غَايَتَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ: وَهُوَ الْعَرَقُ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ غَالِبًا لِأَنَّ الْبُرَحَاءَ شِدَّةُ الْكَرْبِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْعَرَقُ غَالِبًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: وَشَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّقْفِ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْحَاكِمُ: فَأَتَاهُ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ أَخَذَهُ السَّبَلُ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَسُجِّيَ بِثَوْبٍ وَوَضَعْتُ تَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً مِنْ أُدْمٍ
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ) الْجُمَانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: اللُّؤْلُؤُ، وَقِيلَ: حَبٌّ يُعْمَلُ مِنَ الْفِضَّةِ كَاللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: خَرَزٌ أَبْيَضُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَشُبِّهَتْ قَطَرَاتِ عَرَقِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجُمَانِ لِمُشَابَهَتِهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْحُسْنِ. وَزَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ مَا لَا مَرَدَّ لَهُ، وَأَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ مُنَبِّقٌ، فَيُطْمِعُنِي ذَلِكَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا فَزِعْتُ
قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ ظَالِمِي. وَأَمَّا أَبَوَايَ فَمَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنْفُسُهُمَا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقُ مَا يَقُولُ النَّاسُ وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا سُرِّيَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ كُشِفَ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَضْحَكُ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَرُفِعَ عَنْهُ وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ يَمْسَحُ جَبِينَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: فَوَالَّذِي أَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ مَا زَالَ يَضْحَكُ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَوَاجِذِهِ سُرُورًا، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عز وجل فَقَدْ بَرَّأَكِ) فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: قَالَ: يَا عَائِشَةُ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: أَنْ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكَ، زَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: أَبْشِرِي، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: الْبُشْرَى يَا عَائِشَةُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: فَقَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ) أَيْ: بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ أُمِّي: قَوْمِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قَوْمِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُهُ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَحْمَدُ اللَّهَ لَا إِيَّاكُمَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَذَمِّكُمَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ: نَحْمَدُ اللَّهَ وَلَا نَحْمَدُكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ أُمِّ رُومَانَ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَالَتْ: نَحْمَدُ اللَّهَ لَا نَحْمَدُكَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَكَذَا عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَاطِبٍ: وَاللَّهِ لَا نَحْمَدُكَ وَلَا نَحْمَدُ أَصْحَابَكَ، وَفِي رِوَايَةِ مِقْسَمٍ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا نَحْمَدُكَ وَلَا نَحْمَدُ أَصْحَابَكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَانْتَزَعْتُ يَدِي مِنْهُ، فَنَهَرَنِي أَبُو بَكْرٍ. وَعُذْرُهَا فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَتْهُ مِنَ الَّذِي خَامَرَهَا مِنَ الْغَضَبِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَمْ يُبَادِرُوا بِتَكْذِيبِ مَنْ قَالَ فِيهَا مَا قَالَ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ حُسْنُ طَرِيقَتِهَا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ إِدْلَالًا كَمَا يَدُلُّ الْحَبِيبُ عَلَى حَبِيبِهِ. وَقِيلَ: أَشَارَتْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهَا: فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَنَاسَبَ إِفْرَادُهُ بِالْحَمْدِ فِي الْحَالِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْحَمْدِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ تَمَسَّكَتْ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا: احْمَدِي اللَّهَ، فَفَهِمَتْ مِنْهُ أَمْرَهَا بِإِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَمْدِ فَقَالَتْ ذَلِكَ، وَمَا أَضَافَتْهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ مِنْ بَاعِثِ الْغَضَبِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرُهَا فَقَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَهَا فَقُلْتُ: أَلَا عَذَرْتَنِي؟ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ مَا لَا أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرُ الْآيَاتُ كُلُّهَا). قُلْتُ: آخِرُ الْعَشَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَعَدَدَ الْآيَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، فَلَعَلَّ فِي قَوْلِهَا الْعَشْرَ الْآيَاتِ مَجَازًا بِطَرِيقِ إِلْغَاءِ الْكَسْرِ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ مُرْسَلًا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: لَمَّا خَاضَ النَّاسُ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَفِي آخِرِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ سُورَةِ النُّورِ حَتَّى بَلَغَ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} ، وَهَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ، وَعِدَّةُ الْآيِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ سِتَّ عَشْرَةَ. وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ: فَنَزَلَتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ آيَةً مُتَوَالِيَةً كَذَّبَتْ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وَفِيهِ مَا فِيهِ أَيْضًا. وَتَحْرِيرُ الْعِدَّةِ سَبْعَ عَشْرَةَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّغْلِيظِ فِي مَعْصِيةٍ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَشْبَعِهَا، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْعِتَابِ الْبَلِيغِ
وَالزَّجْرِ الْعَنِيفِ، وَاسْتِعْظَامُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَاسْتِشْنَاعِهِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَسَالِيبٍ مُتْقَنَةٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَافٍ فِي بَابِهِ، بَلْ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنْ وَعِيدِ عبدةِ الْأَوْثَانِ إِلَّا بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِظْهَارِ عُلُوِّ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَطْهِيرِ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ عِنْدَ عَائِشَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ) يُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ مَا دَامَ احْتِمَالُ عَدَمِهِ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقْطَعْ نَفَقَةَ مِسْطَحٍ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ ذَنْبِهِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (وَفَقْرِهِ) عِلَّةٌ أُخْرَى لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ) أَيْ عَنْ عَائِشَةِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا
قَوْلُهُ: (وَلَا يَأْتَلِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ انْتَهَى، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِلُ:
فَإِنَّ قَدْرَ الذَّنْبِ مِنْ مِسْطَحٍ
…
يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفُقِهِ
وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الَّذِي قَدْ جَرَى
…
وَعُوتِبَ الصِّدِّيقُ فِي حَقِّهِ
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
قَوْلُهُ: (فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ) أَيْ رَدَّهَا إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَارَ يُعْطِيهِ ضِعْفَ مَا كَانَ يُعْطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) أَيْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. (أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي) أَيْ مِنَ الْحِمَايَةِ فَلَا أَنْسُبُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ أَسْمَعْ وَأُبْصِرْ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي) أَيْ تُعَالِينِي مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ؛ أَيْ: تُطْلَبُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَالْحَظْوَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَطْلُبُ، أَوْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي لَهَا عِنْدَهُ مِثْلُ الَّذِي لِي عِنْدَهُ. وَذَهِلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ سَوْمِ الْخَسْفِ، وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ، وَالْمَعْنَى تُغَايِظُنِي. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: سَامَ، وَلَكِنْ: سَاوَمَ.
قَوْلُهُ: (فَعَصَمَهَا اللَّهُ) أَيْ حَفِظَهَا وَمَنَعَهَا.
قَوْلُهُ: (بِالْوَرَعِ) أَيْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِينِهَا وَمُجَانَبَةِ مَا تَخْشَى سُوءِ عَاقِبَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَطَفِقَتْ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا، أَيْ جَعَلَتْ أَوْ شَرَعَتْ. وَحَمْنَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَكَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (تُحَارِبُ لَهَا) أَيْ تُجَادِلُ لَهَا وَتَتَعَصَّبُ وَتَحْكِي مَا قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ لِتَنْخَفِضَ مَنْزِلَةَ عَائِشَةَ وَتَعْلُو مَرْتَبَةُ أُخْتِهَا زَيْنَبَ.
قَوْلُهُ: (فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ) أَيْ حَدَّثَتْ فِيمَنْ حَدَّثَ، أَوْ أَثِمَتْ مَعَ مَنْ أَثِمَ، زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَفُلَيْحٌ، وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ، زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي سَنَةِ قَتْلِهِ، وَفِي الْغَزَاةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَوَقَعَ فِي آخِرِ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَكَانَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ مِسْطَحٌ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْشِيهِ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هُوَ وَحَمْنَةُ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ وَحَسَّانُ، وَكَانَ كِبْرُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالْإِفْكِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْهَدْيِ فَأَبْدَى الْحِكْمَةَ فِي تَرْكِ الْحَدِّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَفَاتَهُ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ أَيْضًا فِيمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدِّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَعَنْ حَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ؛ حَيْثُ صَحَّحَ أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّهُمْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ حَدَّهُمْ. وَمَا ضَعَّفَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: جَوَازُ الْحَدِيثِ عَنْ جَمَاعَةٍ مُلَفَّقًا مُجْمَلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةُ حَتَّى بَيْنَ النِّسَاءِ وَفِي الْمُسَافَرَةِ بِهِنَّ وَالسَّفَرُ بِالنِّسَاءِ حَتَّى فِي الْغَزْوِ، وَجَوَازُ حِكَايَةِ مَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ مِنَ الْفَضْلِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَدْحُ نَاسٍ وَذَمُّ نَاسٍ إِذَا تَضَمَّنَ بِذَلِكَ إِزَالَةَ تَوَهُّمِ النَّقْصِ عَنِ الْحَاكِي إِذَا كَانَ بَرِيئًا عِنْدَ قَصْدِ نُصْحِ مَنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ سَبْقٍ، وَأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِالسَّلَامَةِ مِنْ وُقُوعِ الْغَيْرِ فِي الْإِثْمِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ يَقَعُ فِي الْإِثْمِ وَتَحْصِيلُ الْأَجْرِ لِلْمَوْقُوعِ فِيهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّوْطِئَةِ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْهَوْدَجَ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيْتِ فِي حَجْبِ الْمَرْأَةِ، وَجَوَازُ رُكُوبِ الْمَرْأَةِ الْهَوْدَجَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ يَكُونُ مُطِيقًا لِذَلِكَ، وَفِيهِ خِدْمَةُ الْأَجَانِبِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَجَوَازُ تَسَتُّرُ الْمَرْأَةِ بِالشَّيْءِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الْبَدَنِ، وَتَوَجُّهُ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَحْدَهَا وَبِغَيْرِ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنْ زَوْجِهَا بَلِ اعْتِمَادًا عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَجَوَازُ تَحَلِّي الْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ بِالْقِلَادَةِ وَنَحْوِهَا، وَصِيَانَةُ الْمَالِ وَلَوْ قَلَّ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِنَّ عِقْدَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا جَوْهَرٍ، وَفِيهِ شُؤْمُ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُطِلْ فِي التَّفْتِيشِ لَرَجَعَتْ بِسُرْعَةٍ، فَلَمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ أَثَّرَ مَا جَرَى.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قِصَّةُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ؛ حَيْثُ رُفِعَ عِلْمُ لَيْلَةِ الْقَدرِ بِسَبَبِهِمَا؛ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَقْتَصِرَا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، بَلْ زَادَا فِي الْخِصَامِ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَأَثَّرَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ الْمَذْكُورِ، وَتَوَقُّفُ رَحِيلِ الْعَسْكَرِ عَلَى إِذْنِ الْأَمِيرِ، وَاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْجَيْشِ سَاقَةً يَكُونُ أَمِينًا لِيَحْمِلَ الضَّعِيفَ وَيَحْفَظَ مَا يَسْقُطُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَالِاسْتِرْجَاعُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَتَغْطِيَةِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا عَنْ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ وَإِطْلَاقِ الظَّنِّ عَلَى الْعِلْمِ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ قَدَّمْتُهُ.
وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَعَوْنِ الْمُنْقَطِعِ، وَإِنْقَاذِ الضَّائِعِ، وَإِكْرَامِ ذَوِي الْقَدرِ، وَإِيثَارِهِمْ بِالرُّكُوبِ وَتَجَشُّمُ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَجَانِبِ خُصُوصًا النِّسَاءَ لَا سِيَّمَا فِي الْخَلْوَةِ، وَالْمَشْيِ أَمَامَ الْمَرْأَةِ لِيَسْتَقِرَّ خَاطِرُهَا وَتَأْمَنَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ نَظَرِهِ لِمَا عَسَاهُ يَنْكَشِفُ مِنْهَا فِي حَرَكَةِ الْمَشْيِ، وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الزَّوْجَةِ وَحُسْنُ مُعَاشَرَتِهَا وَالتَّقْصِيرُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ إِشَاعَةِ مَا يَقْتَضِي النَّقْصَ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ تَتَفَطَّنَ لِتَغْيِيرِ الْحَالِ فَتَعْتَذِرُ أَوْ تَعْتَرِفُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَرِيضِ أَنْ يُعْلِمُوهُ بِمَا يُؤْذِي بَاطِنَهُ؛ لِئَلَّا يَزِيدُ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ، وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْمَرِيضِ وَإِشَارَةً إِلَى مَرَاتِبِ الْهِجْرَانِ بِالْكَلَامِ وَالْمُلَاطَفَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مُحَقَّقًا فَيُتْرَكُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَيُخَفَّفُ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مُحْتَمَلًا فَيَحْسُنُ التَّقْلِيلُ مِنْهُ لَا لِلْعَمَلِ بِمَا قِيلَ بَلْ لِئَلَّا يُظَنُّ بِصَاحِبِهِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ تَسْتَصْحِبُ مَنْ يُؤْنِسُهَا أَوْ يَخْدِمُهَا مِمَّنْ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا. وَفِيهِ ذَبُّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَرَدْعِ مَنْ يُؤْذِيهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ بِسَبِيلٍ، وَبَيَانُ مَزِيدِ
فَضِيلَةِ أَهْلِ بَدْرٍ وَإِطْلَاقِ السَّبِّ عَلَى لَفْظِ الدُّعَاءِ بِالسُّوءِ عَلَى الشَّخْصِ.
وَفِيهِ الْبَحْثُ عَنِ الْأَمْرِ الْقَبِيحِ إِذَا أُشِيعَ وَتُعْرَفُ صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ بِالتَّنْقِيبِ عَلَى مَنْ قِيلَ فِيهِ هَلْ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يَقْرَبُ مِنْهُ وَاسْتِصْحَابُ حَالِ مَنِ اتُّهِمَ بِسُوءٍ إِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ بِالْبَحْثِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ قَوِيَّةٌ لِأُمِّ مِسْطَحٍ لِأَنَّهَا لَمْ تُحَابِ وَلَدَهَا فِي وُقُوعِهِ فِي حَقِّ عَائِشَةَ، بَلْ تَعَمَّدَتْ سَبَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، وَأَنَّ الرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ تَقَعُ مِنْهُمْ لَكِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالْمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَمَرْجُوحِيَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُمْ فَلَا يَقَعُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْبِيحِ عِنْدَ سَمَاعَ مَا يَعْتَقِدُ السَّامِعُ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَتَوْجِيهُهُ هُنَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى يُنَزَّهُ أَنْ يَحْصُلَ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَدْنِيسٌ، فَيُشْرَعُ شُكْرَهُ بِالتَّنْزِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا، نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَفِيهِ تَوَقُّفُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا عَلَى إِذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا.
وَفِيهِ الْبَحْثُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَقُولِ مِمَّنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقُولُ فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا، وَطَلَبُ الِارْتِقَاءِ مِنْ مَرْتَبَةِ الظَّنِّ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَفَادَ الْقَطْعُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: لَأَسْتَيْقِنُ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ الْمَرْءُ أَهْلَ بِطَانَتِهِ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ بِقَرَابَةٍ وَغَيْرِهَا، وَتَخْصِيصُ مَنْ جُرِّبَتْ صِحَّةُ رَأْيِهِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ، وَالْبَحْثُ عَنْ حَالِ مَنِ اتُّهِمَ بِشَيْءٍ، وَحِكَايَةُ ذَلِكَ لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ غِيبَةً. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا فِي التَّزْكِيَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حَقِّ مَنْ سَبَقَتْ عَدَالَتُهُ مِمَّنْ يُطَّلَعُ عَلَى خَفِيِّ أَمْرِهِ، وَفِيهِ التَّثَبُّتُ فِي الشَّهَادَةِ، وَفِطْنَةُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْحَادِثِ الْمُهِمِّ، وَالِاسْتِنْصَارُ بِالْأَخِصَّاءِ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَتَوْطِئَةُ الْعُذْرِ لِمَنْ يُرَادُ إِيقَاعُ الْعِقَابِ بِهِ أَوِ الْعِتَابِ لَهُ، وَاسْتِشَارَةُ الْأَعْلَى لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَاسْتِخْدَامُ مَنْ لَيْسَ فِي الرِّقِّ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَفْسَرَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ فَأَرَادَ بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ فَلْيُقَدِّمْ ذِكْرَ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ كَمَا قَالَتْ بَرِيرَةُ فِي عَائِشَةَ حَيْثُ عَابَتْهَا بِالنَّوْمِ عَنِ الْعَجِينِ، فَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ. حَدِيثَةُ السِّنِّ.
وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْزِمْ فِي الْقِصَّةِ بِشَيْءٍ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ. وَأَنَّ الْحَمِيَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا تُذَمُّ. وَفِيهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ لِعَائِشَةَ وَلِأَبَوَيْهَا وَلِصَفْوَانَ، وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ. وَفِيهِ أَنَّ التَّعَصُّبَ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ يُخْرِجُ عَنِ اسْمِ الصَّلَاحِ، وَجَوَازُ سَبِّ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلْبَاطِلِ وَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا يَسُوءُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ فِيهِ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا لَهُ، وَإِطْلَاقُ الْكَذِبِ عَلَى الْخَطَأِ، وَالْقَسَمُ بِلَفْظِ لَعَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَتَسْكِينِ ثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةِ ذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ بِزَوَالِ أَغْلَظِهِمَا، وَفَضْلُ احْتِمَالُ الْأَذَى. وَفِيهِ مُبَاعَدَةُ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُقْتَلُ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ مُسَاعَدَةُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ بَلِيَّةٌ بِالتَّوَجُّعِ وَالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ.
وَفِيهِ تَثَبُّتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَعَ تَمَادِي الْحَالِ فِيهَا شَهْرًا كَلِمَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ. وَفِيهِ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ بِالتَّشَهُّدِ وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَقَوْلُ أَمَّا بَعْدُ، وَتَوْقِيفُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَنْبٌ عَلَى
مَا قِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَأَنَّ قَوْلَ كَذَا وَكَذَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْأَحْوَالِ كَمَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْأَعْدَادِ، وَلَا تَخْتَصُّ بِالْأَعْدَادِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُعْتَرِفِ الْمُقْلِعِ الْمُخْلِصِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِرَافِ لَا يُجْزِئُ فِيهَا، وَأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِمَا لَمْ يَقَعْ لَا يَجُوزُ وَلَوْ عُرِفَ أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اعْتِرَافِهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ أَوْ يَسْكُتُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ وَيُغْبَطُ صَاحِبُهُ. وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْكَبِيرِ فِي الْكَلَامِ وَتَوَقُّفُ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ فِي الْكَلَامِ. وَفِيهِ تَبْشِيرُ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَوِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَةٌ.
وَفِيهِ الضَّحِكُ وَالْفَرَحُ وَالِاسْتِبْشَارُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَعْذِرَةُ مَنِ انْزَعَجَ عِنْدَ وُقُوعِ الشِّدَّةِ لِصِغَرِ سِنٍّ وَنَحْوِهِ، وَإِدْلَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَأَبَوَيْهَا، وَتَدْرِيجُ مَنْ وَقَعَ فِي مُصِيبَةٍ فَزَالَتْ عَنْهُ لِئَلَّا يَهْجُمُ عَلَى قَلْبِهِ الْفَرَحُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَيُهْلِكُهُ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ بِالضَّحِكِ ثُمَّ تَبْشِيرِهَا ثُمَّ إِعْلَامِهَا بِبَرَاءَتِهَا مُجْمَلَةً ثُمَّ تِلَاوَتِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَجْهِهَا. وَقَدْ نَصَّ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الرَّيِّ فِي الْمَاءِ لِئَلَّا يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَكَةِ بَلْ يُجَرَّعُ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَفِيهِ أَنَّ الشِّدَّةَ إِذَا اشْتَدَّتْ أَعْقَبَهَا الْفَرَجُ، وَفُضِّلَ مَنْ يُفَوِّضُ الْأَمْرَ لِرَبِّهِ، وَأَنَّ مَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ خَفَّ عَنْهُ الْهَمُّ وَالْغَمُّ كَمَا وَقَعَ فِي حَالَتَيْ عَائِشَةَ قَبْلَ اسْتِفْسَارِهَا عَنْ حَالِهَا وَبَعْدَ جَوَابِهَا بِقَوْلِهَا: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ خُصُوصًا فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَوُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ أَوْ صَفَحَ عَنْهُ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ، وَجَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِآيِ الْقُرْآنِ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّأَسِّي بِمَا وَقَعَ لِلْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَاسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ، وَذَمُّ الْغِيبَةِ وَذَمُّ سَمَاعِهَا وَزَجْرُ مَنْ يَتَعَاطَاهَا لَا سِيَّمَا إِنْ تَضَمَّنَتْ تُهْمَةُ الْمُؤْمِنِ بِمَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ، وَذَمُّ إِشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ، وَتَحْرِيمِ الشَّكِّ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ.
وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْحَدِّ عَمَّنْ يُخْشَى مِنْ إِيقَاعِهِ بِهِ الْفِتْنَةُ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ مِمَّنْ قَذَفَ عَائِشَةَ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِمَّنْ حُدَّ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَذَفَ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخْرِجُهُ وَيَسْتَوْشِيهُ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي مُرْسَلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ بِلَفْظِ: فَرَمَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظٍ أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّنْ جُلِدَ الْحَدَّ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا مُرْسَلًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ، فَإِنْ ثَبَتَا سَقَطَ السُّؤَالُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا فَالْقَوْلُ مَا قَالَ عِيَاضٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتُ خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا ثُمَّ لَمْ يُحَدُّ، وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ إِنْكَارَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِالَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ أَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاعْتَلَّ قَائِلُهُ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إِلَّا بِقِيَامِ بَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ: أَوْ بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ يَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْعِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ لِمَا بَدَا مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حَالَةَ الْغَضَبِ حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ، قَالَ: فَإِنَّ الْغَضَبَ يُخْرِجُ الْحَلِيمَ الْمُتَّقِي إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْغَضَبُ قَوْمًا مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَا لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا مِنْهُمْ زَلَّةٌ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَلَمْ تَثْبُتْ. وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَمِيعُ قِصَّتِهَا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى بَرَاءَتِهَا بَيَانُ مَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ لِسِيَاقِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَتَسْمِيَةُ مَنْ يُعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِ الْقَصَصِ لِمَا فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْأَحْكَامِيَّةِ وَالْآدَابِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ قُصُورُ مَنْ قَالَ: بَرَاءَةُ عَائِشَةَ ثَابِتَةٌ بِصَرِيحِ الْقُرْآنِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِسِيَاقِ قِصَّتِهَا؟
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَلَقَّوْنَهُ} يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. تُفِيضُونَ: تَقُولُونَ
4751 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَ قَوْلِهِ: {أَفَضْتُمْ فِيهِ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: {أَفَضْتُمْ} قُلْتُمْ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَخْرَجِ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَفَضْتُمْ} أَيْ خُضْتُمْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: {تُفِيضُونَ فِيهِ} تَقُولُونَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَلَقَّوْنَهُ} يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ مِنَ التَّلَقِّي لِلشَّيْءِ، وَهُوَ أَخْذُهُ وَقَبُولُهُ، وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ. وَتَلَقَّوْنَهُ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِإِثْبَاتِهَا، وَقِرَاءَةُ عَائِشَةَ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ: تَلِقُونَهُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ مِنَ الْوَلْقِ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْكَذِبُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَلْقُ الِاسْتِمْرَارُ فِي السَّيْرِ وَفِي الْكَذِبِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي أَدْمَنَ الْكَذِبَ الْأَلْقُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهَا أَيْضًا، وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ الْوَلْقِ الْإِسْرَاعُ، وَمِنْهُ: جَاءَتِ الْإِبِلُ تَلِقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عَائِشَةَ قَرَأَتْهُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: هِيَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى إِسْنَادِ حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ رُومَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. إِلَّا أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا قِصَّةُ الْإِفْكِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ حُصَيْنٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخُو مُحَمَّدٍ الرَّاوِي عَنْهُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، سُفْيَانَ بَدَلَ سُلَيْمَانَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: هُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ: سُلَيْمَانُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ.
4752 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقْرَأُ: إِذْ تَلِقُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى عَظِيمٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
4753 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ - قبيلَ مَوْتِهَا - عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ، قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ ابْنُ
عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ. فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنْ اتَّقَيْتُ، قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنْ السَّمَاءِ. وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلَافَهُ فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
4754 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ عَلَى عَائِشَةَ .. نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: نِسْيًا مَنْسِيًّا.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى: عَظِيمٍ.
قَوْلُهُ: (لُجِّيٌّ، اللُّجَّةُ مُعْظَمُ الْبَحْرِ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: فِي {بَحْرٍ لُجِّيٍّ} يُضَافُ إِلَى اللُّجَّةِ وَهِيَ مُعْظَمُ الْبَحْرِ.
(تَنْبِيهٌ): يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي أَثْنَاءِ التَّفَاسِيرِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَأَمَّا خُصُوصُ هَذَا الْبَابِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ) أَيْ مِنْ شِدَّةِ كَرْبِ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ الْقَائِلَ فَهِمَ عَنْهَا أَنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُولِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَتْهُ فَذَكَّرَهَا بِمَنْزِلَتِهِ، وَالَّذِي رَاجَعَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ هُوَ ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالَّذِي اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ حِينَئِذٍ هُوَ ذَكْوَانُ مَوْلَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: يَا أُمَّتَاهُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِ بَيْتِكِ يُسَلِّمُ عَلَيْكِ وَيُوَدِّعُكِ، قَالَتِ: ائْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ، وَادَّعَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ مُرْسَلَةٌ، قَالَ: لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَشْهَدْ ذَلِكَ وَلَا سَمِعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَالَ قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ لِعَدَمِ حُضُورِهِ انْتَهَى. وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ الْجَزْمُ بِعَدَمِ حُضُورِهِ وَسَمَاعِهِ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَعَلَّهُ حَضَرَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَطَالَ عَهْدُهُ بِهِ فَذَكَّرَهُ بِهِ ذَكْوَانُ، أَوْ أَنَّ ذَكْوَانَ ضَبَطَ مِنْهُ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ هُوَ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ تَجِدِينَكِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ: فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: أَبْشِرِي. قَالَتْ: وَأَيْضًا.
قَالَ: مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقَيْ مُحَمَّدًا وَالْأَحِبَّةَ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ.
قَوْلُهُ: (بِخَيْرٍ إِنِ اتَّقَيْتُ) أَيْ: إِنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَبْقَيْتُ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ) فِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا.
قَوْلُهُ: (وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ) يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. جَاءَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدًا إِلَّا وَهُوَ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ، فَوَاللَّهِ إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِيهَا رَجُلٌ لَمْ يُسَمَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِنَّمَا سُمِّيتِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسْعَدِي، وَإِنَّهُ لَاسْمُكِ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلَافَهُ) أَيْ عَلَى عَائِشَةَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَخَالَفَا فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَافَقَ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجِيءَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (وَدِدْتُ إِلَخْ) هُوَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْوَرَعِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ أَنَّهَا قَالَتْ لِابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ وَلَفْظُهُ: فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنْكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ هُنَا خُصُوصَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي التَّرْجَمَةِ صَرِيحًا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِقَامَةِ عُذْرِهَا وَبَرَاءَتِهَا رضي الله عنها، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: سُبْحَانَكَ {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} الْآيَةَ، وَسَأَذْكُرُ تَسْمِيَتَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (عَنِ الْقَاسِمِ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ عَلَى عَائِشَةَ نَحْوَهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ، قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ يَعْنِي قَوْلَهُ: أَنْتِ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَنَزَلَ عُذْرُكِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَلَفْظُهُ: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اشْتَكَتْ. فَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهَا وَأَتَاهَا يَعُودُهَا فَقَالَتِ: الْآنَ يَدْخُلُ عَلَيَّ فَيُزَكِّيَنِي فَأَذِنَتْ لَهُ، فَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تُقْدِمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ، وَتُقْدِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُزَكِّيَنِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ عَائِشَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِسْنَادِ الْبَابِ بِلَفْظِ: أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَكَتْ فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تُقْدِمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَهَّابِ مُخْتَصَرَةٌ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَحْوَهُ وَمَعْنَاهُ بَعْضُ الْحَدِيثِ لَا جَمِيعُ تَفَاصِيلِهِ.
ثُمَّ رَاجَعْتُ مُسْتَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَظَهَرَ لِي أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى هُوَ الَّذِي اخْتَصَرَهُ لَا الْبُخَارِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ حَدِيثَ ابْنِ عَوْنٍ، وَأَنَّهُ كَانَ سَمِعَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ، فَكَانَ إِذَا حَدَّثَ بِهِ يَخْتَصِرُهُ، وَكَانَ يَتَحَقَّقُ قَوْلَهَا: نِسْيًا مَنْسِيًّا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ فَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ، فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُثَنَّى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَتَوَاضُعِ عَائِشَةَ وَفَضْلِهَا وَتَشْدِيدِهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا لَا يَدْخُلُونَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَمَشُورَةِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِذَا رَآهُ عَدْلَ إِلَى مَا الْأَوْلَى خِلَافُهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى رِعَايَةِ جَانِبِ الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمُعَارِضٍ دُونَ ذَلِكَ فِي الْمَصْلَحَةِ.
9 - بَاب: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} الآية
4755 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، قُلْتُ: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا؟ قَالَتْ: أَوَلَيْسَ قَدْ أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ؟ قَالَ سُفْيَانُ: تَعْنِي ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ.
قَالَتْ: لَكِنْ أَنْتَ.
قَوْلُهُ: بَابُ {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} الْآيَةَ.
سَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ لَفْظُ: الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا) فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ حَسَّانُ، فَأَمَرَتْ فَأُلْقِيَتْ لَهُ وِسَادَةٌ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا) فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} هُوَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَهُوَ مِمَّنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَخَفُّ إِشْكَالًا.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: أَوَلَيْسَ قَدْ أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: تَعْنِي ذَهَابَ بَصَرِهِ) زَادَ أَبُو حُذَيْفَةَ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ وَوَقَعَ بَعْدَ هَذَا الْبَابِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ تَصْرِيحُ عَائِشَةَ بِصِفَةِ الْعَذَابِ دُونَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَلِهَذَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ تَعْنِي. وَسُفْيَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَالرَّاوِي عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ فِيهِ هُوَ الْبِيكَنْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِخِلَافِ الَّذِي هُنَا. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُفْيَانَ هُنَا هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ.
10 - بَاب: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
4756 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: لَسْتَ كَذَاكَ، قُلْتُ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى؟ وَقَالَتْ: وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَشَبَّبَ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى ثَقِيلَةٌ أَيْ تَغَزَّلَ، يُقَالُ شَبَّبَ الشَّاعِرُ بِفُلَانَةَ أَيْ عَرَّضَ بِحُبِّهَا وَذَكَرَ حُسْنَهَا، وَالْمُرَادُ تَرْقِيقُ الشِّعْرِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى إِنْشَادِ الشِّعْرِ وَإِنْشَائِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ غَزَلٌ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ: فَلَمَّا سَمِعَ حَسَّانُ شِعْرَ الْهَاتِفِ شَبَّبَ بِجَارِيَةٍ: أَخَذَ فِي نَظْمِ جَوَابِهِ.
قَوْلُهُ: (حَصَانٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هَذَا الْوَزْنُ يَكْثُرُ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَنَّثِ، وَفِي الْأَعْلَامِ مِنْهَا كَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِتَوَالِي الْفَتَحَاتِ مُشَاكَلَةَ خِفَّةِ اللَّفْظِ لِخِفَّةِ الْمَعْنَى حَصَانٌ، مِنَ الْحَصِينِ وَالتَّحْصِينِ يُرَادُ بِهِ الِامْتِنَاعُ عَلَى الرِّجَالِ وَمِنْ نَظَرِهِمْ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: رَزَانٌ مِنَ الرَّزَانَةِ يُرَادُ قِلَّةُ الْحَرَكَةِ، وَتُزَنُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ زَايٌ ثُمَّ نُونٌ ثَقِيلَةٌ أَيْ تُرْمَى، وَقَوْلُهُ: غَرْثَى بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، أَيْ: خَمِيصَةُ الْبَطْنِ، أَيْ: لَا تَغْتَابُ أَحَدًا، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ فِيهَا تَلْمِيحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُغْتَابِ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} وَالْغَوَافِلُ جَمْعُ غَافِلَةٍ وَهِيَ الْعَفِيفَةُ الْغَافِلَةُ عَنِ الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ تَبْرِئَتُهَا مِنِ اغْتِيَابِ النَّاسِ بِأَكْلِ لُحُومِهِمْ مِنَ الْغِيبَةِ، وَمُنَاسَبَةُ تَسْمِيَةِ الْغِيبَةِ بِأَكْلِ اللَّحْمِ أَنَّ اللَّحْمَ سِتْرٌ عَلَى الْعَظْمِ، فَكَأَنَّ الْمُغْتَابَ يَكْشِفُ مَا عَلَى مَنِ اغْتَابَهُ مِنْ سِتْرٍ. وَزَادَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ فِي هَذَا الشِّعْرِ عَلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ:
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
…
كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَهَا
…
وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الَّذِي زَعَمُوا لَكُمْ
…
فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي
…
لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ
وَزَادَ فِيهِ الْحَاكِمُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
حَلِيلَةُ خَيْرِ الْخَلْقِ دِينًا وَمَنْصِبًا
…
نَبِيُّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتُ الْفَوَاضِلُ
رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللَّهُ حُرَّةً
…
مِنَ الْمُحْصَنَاتِ غَيْرِ ذَاتِ الْغَوَائِلِ
وَالْخِيمُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ: الْأَصْلُ الثَّابِتُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَيْمَةِ يُقَالُ: خَامَ يَخِيمُ إِذَا أَقَامَ بِالْمَكَانِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَسْتُ كَذَاكَ) ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ امْرَأَةً مَدَحَتْ بِنْتَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: حَصَانٌ رَزَانُ. الْبَيْتَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَكِنْ أَبُوهَا. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَمْكَنَ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ يُشَبِّبُ بِبِنْتٍ لَهُ، بِالنُّونِ لَا بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَيَكُونُ نَظْمُ حَسَّانَ فِي بِنْتِهِ لَا فِي عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا تَمَثَّلَ بِهِ، لَكِنْ بَقِيَّةُ الْأَبْيَاتِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا فِي عَائِشَةَ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِحَسَّانَ يَقُولُ فِيهَا:
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الَّذِي زَعَمُوا لَكُمْ
…
فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِقٍ
…
بِكِ الدَّهْرُ بَلْ قِيلَ امْرِئٍ مُتَمَاحِلِ
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: لَكِنْ أَنْتَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: قَالَتْ: لَسْتُ كَذَاكَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَقَالَتْ: قَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَلَّ قَوْلُ عَائِشَةَ: لَكِنْ أَنْتَ لَسْتَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَسَّانَ كَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْأَخِيرَةُ تَقَدَّمَتْ هُنَاكَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ الْإِفْكِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي
…
لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ذَكَرَ فِيهِ بَعْضَ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السَّنَدِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ
(1)
، كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَهُوَ
(1)
في هامش طبعة بولاق: هذه الجملة ليست في نسخ الصحيح التي بأيدينا، ولعلها رواية الشارح
سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ أَخُو مُحَمَّدٍ الرَّاوِي عَنْهُ صَرَّحَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ كَالْجَمَاعَةِ، وَعَنِ الْجُرْجَانِيِّ، سُفْيَانُ بَدَلَ سُلَيْمَانُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَسُلَيْمَانُ هُوَ الصَّوَابُ.
11 - بَاب: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
* وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4757 -
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيَّ خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي، وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَلَا يَدْخُلُ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا وَأَنَا حَاضِرٌ، وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا غَابَ مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ - وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذَلِكَ الرَّجُلِ - فَقَالَ: كَذَبْتَ، أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مِنْ الْأَوْسِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا عَلِمْتُ.
فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ فَعَثَرَتْ وَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ: أَيْ أُمِّ، تَسُبِّينَ ابْنَكِ؟ وَسَكَتَتْ، ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّانِيَةَ فَقَالَتْ: تَعَسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: تَسُبِّينَ ابْنَكِ؟ ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّالِثَةَ، فَقَالَتْ: تَعَسَ مِسْطَحٌ فَانْتَهَرْتُهَا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلَّا فِيكِ، فَقُلْتُ: فِي أَيِّ شَأْنِي؟ قَالَتْ: فَبَقَرَتْ لِي الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ: وَقَدْ كَانَ هَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ، فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي كَأَنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ لَا أَجِدُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَوُعِكْتُ فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي، فَأَرْسَلَ مَعِي الْغُلَامَ فَدَخَلْتُ الدَّارَ، فَوَجَدْتُ أُمَّ رُومَانَ فِي السُّفْلِ وَأَبَا بَكْرٍ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَقَالَتْ أُمِّي: مَا جَاءَ بِكِ يَا بُنَيَّةُ؟ فَأَخْبَرْتُهَا وَذَكَرْتُ لَهَا الْحَدِيثَ، وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنِّي، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ خَفِّضي عَلَيْكِ الشَّأْنَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قط حسناء عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا حَسَدْنَهَا، وَقِيلَ فِيهَا. وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنِّي. قُلْتُ: وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ، فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهُوَ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ، فَنَزَلَ فَقَالَ لِأُمِّي: مَا شَأْنُهَا؟ قَالَتْ: بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا، فَفَاضَتْ
عَيْنَاهُ.
قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ أَيْ بُنَيَّةُ إِلَّا رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ، وَلَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي فَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَ خَمِيرَهَا أَوْ عَجِينَهَا. فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ.
فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَدْ اكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، إِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا أَوْ ظَلَمْتِ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ، قَالَتْ: وَقَدْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَهِيَ جَالِسَةٌ بِالْبَابِ فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَحْيي مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا، فَوَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَالْتَفَتُّ إِلَى أَبِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَجِبْهُ، قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ؟ فَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ: أَجِيبِيهِ، فَقَالَتْ: أَقُولُ مَاذَا؟ فَلَمَّا لَمْ يُجِيبَاهُ، تَشَهَّدْتُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ وَاللَّهُ عز وجل يَشْهَدُ إِنِّي لَصَادِقَةٌ مَا ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ، لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ، وَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ لَتَقُولُنَّ: قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا - وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ - إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فَسَكَتْنَا فَرُفِعَ عَنْهُ، وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ، وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ، قَالَ: وَكُنْتُ أَشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَبًا فَقَالَ لِي أَبَوَايَ: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُهُ وَلَا أَحْمَدُكُمَا، وَلَكِنْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلَا غَيَّرْتُمُوهُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: أَمَّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا أُخْتُهَا حَمْنَةُ فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ - هُوَ وَحَمْنَةُ. قَالَتْ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - {وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} - يَعْنِي مِسْطَحًا إِلَى قَوْلِهِ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا، وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرَهُ إِلَى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
قَوْلُهُ: (تَشِيعَ: تَظْهَرَ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} تَظْهَرُ يُتَحَدَّثُ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:{أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} يَعْنِي أَنْ تَفْشُوَ وَتَظْهَرَ، وَالْفَاحِشَةُ الزِّنَا.
قَوْلُهُ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، فَصَارَتِ الْآيَاتُ مَوْصُولًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَلا يَأْتَلِ} فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ لَا يَفْتَعِلْ مِنْ آلَيْتَ أَيْ أَقْسَمْتَ، وَلَهُ مَعْنًى آخَرُ مِنْ أَلَوْتُ أَيْ قَصَّرْتُ، وَمِنْهُ:{لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الِائْتِلَاءُ الْحَلِفُ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَلَا يَتَأَلَّ بِتَأْخِيرِ الْهَمْزَةِ. وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهِيَ خِلَافُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا نُسِبَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْتَلِ، يَقُولُ: لَا يُقْسِمُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْقِرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
…
إِلَخْ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ قَرِيبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، فَظَنَّ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَصَلَهُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ.
12 - بَاب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
4758 -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ، عن ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ؛ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا
[الحديث 4758 - طرفه في: 4759]
4759 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} كَأَنَّ يَضْرِبْنَ ضُمِّنَ مَعْنَى يُلْقِينَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَلَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا أَنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ سَعِيدِ الدَّنْدَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ) أَيِ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: شَجَرُ الْأَرَاكِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: يَرْحَمُ اللَّهَ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ.
قَوْلُهُ: (الْأُوَلَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، جَمْعُ أُولَى، أَيِ السَّابِقَاتِ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ نِسَاءُ الْمُهَاجِرَاتِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ
ذَلِكَ فِي نِسَاءِ الْأَنْصَارِ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مُرُوطَهُنَّ) جَمْعُ مِرْطٍ وَهُوَ الْإِزَارُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أُزُرَهُنَّ، وَزَادَ: شَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي.
قَوْلُهُ: (فَاخْتَمَرْنَ) أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ ; وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَرْمِيَهُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْعَاتِقِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ التَّقَنُّعُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا وَتَكْشِفُ مَا قُدَّامَهَا، فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ، وَالْخِمَارُ لِلْمَرْأَةِ كَالْعِمَامَةِ لِلرَّجُلِ.
4759 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ بِلَفْظِ: أَخَذَ النِّسَاءُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ بِلَفْظِ: أَخَذَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: ذَكَرْنَا عِنْدَ عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ قُرَيْشٍ لَفُضَلَاءُ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ: أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ فِيهَا، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ بَادَرْنَ إِلَى ذَلِكَ.
25 - سُورَةُ الْفُرْقَانِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ، {مَدَّ الظِّلَّ} مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، {سَاكِنًا} دَائِمًا، {عَلَيْهِ دَلِيلا} طُلُوعُ الشَّمْسِ، {خِلْفَةً} مَنْ فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ:{هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُبُورًا: وَيْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ، وَالتَّسَعُّرُ وَالْاضْطِرَامُ: التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ، {تُمْلَى عَلَيْهِ} تُقْرَأُ عَلَيْهِ، مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ، الرَّسُّ: الْمَعْدِنُ، جَمْعُهُ رِسَاسٌ، {مَا يَعْبَأُ} يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا: لَا يُعْتَدُّ بِهِ، {غَرَامًا} هَلَاكًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَعَتَوْا: طَغَوْا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {عَاتِيَةٍ} عَتَتْ على الْخَزَّانِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْفُرْقَانِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَبَاءً مَنْثُورًا مَا يسْفِي بِهِ الرِّيحُ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَيَبُثُّهُ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
(1)
، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{هَبَاءً مَنْثُورًا} : هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ الْبَيْتَ مِنَ الْكُوَّةِ، يَدْخُلُ مِثْلَ الْغُبَارِ مَعَ الشَّمْسِ، وَلَيْسَ لَهُ مَسٌّ وَلَا يُرَى فِي الظِّلِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ وَزَادَ: لَوْ ذَهَبَ أَحَدُكُمْ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ: مَا يُنْثَرُ مِنَ الْكُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ
(1)
بياض يالأصل.
عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: {مَدَّ الظِّلَّ} مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَظَاهَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ بِهَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ لِهَذَا الْوَقْتِ بِذَلِكَ، بَلْ مِنْ بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يَبْقَى فِيهَا ظِلٌّ مَمْدُودٌ مَعَ أَنَّهُ فِي نَهَارٍ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّهَارِ فَفِيهِ ظِلَالٌ مُتَقَطِّعَةٌ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى اعْتِرَاضٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الظِّلَّ إِنَّمَا يُقَالُ لِمَا يَقَعُ بِالنَّهَارِ، قَالَ: وَالظِّلُّ الْمَوْجُودُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ مِنْ بَقَايَا اللَّيْلِ انْتَهَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ ذَكَرَ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَإِنَّ فِي بَقِيَّتِهَا:{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} وَالشَّمْسُ تَعْقُبُ الَّذِي يُوجَدُ قَبْلَ طُلُوعِهَا، فَيُزِيلُهُ، فَلِهَذَا جُعِلَتْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَظَهَرَ اخْتِصَاصُ الْوَقْتِ الَّذِي قَبْلَ الطُّلُوعِ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ دُونَ الَّذِي بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَسَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي نَقَلَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ ظِلٌّ ثِقَةٌ مُثْبِتٌ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النافي، حَتَّى وَلَوْ كَانَ قَوْلُ النَّافِي مُحَقَّقًا لَمَا امْتَنَعَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجَازًا.
قَوْلُهُ: {سَاكِنًا} دَائِمًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: {عَلَيْهِ دَلِيلا} طُلُوعُ الشَّمْسِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {خِلْفَةً} مَنْ فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ:{هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} : مَا الْقُرَّةُ، أَفِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ: بَلْ فِي الدُّنْيَا، هِيَ وَاللَّهِ أَنْ يَرَى الْعَبْدُ مِنْ وَلَدِهِ طَاعَةَ اللَّهِ
…
إِلَخْ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَنْ حَزْمِ الْقُطَعِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ السَّائِلُ: كَثِيرَ بْنَ زِيَادٍ.
قَوْلُهُ: (وَمَا شَيْءٌ أَقَرُّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنْ يَرَى حَمِيمَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُبُورًا: وَيْلًا) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالنَّسَفِيِّ فَقَطْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} ؛ أَيْ هَلَكَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَتَوْا: طَغَوْا، وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} قَالَ: طَغَوْا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} - ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ - {إِذَا رَأَتْهُمْ} وَالسَّعِيرُ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ مَا يُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ، ثُمَّ أَعَادَ الضَّمِيرَ لِلنَّارِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ تُظْهِرُ مُذَكَّرًا مِنْ سَبَبِ مُؤَنِّثٍ ثُمَّ يُؤَنِّثُونَ مَا بَعْدَ الْمُذَكَّرِ.
قَوْلُهُ: (وَالتَّسْعِيرُ وَالِاضْطِرَامُ التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَسَاطِيرُ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
قَوْلُهُ: {تُمْلَى عَلَيْهِ} تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ: أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَمْلَيْتُ عَلَيْهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْلَلْتُ عَلَيْهِ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}
قَوْلُهُ: (الرَّسُّ الْمَعْدِنُ، جَمْعُهُ: رِسَاسٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الرَّسِّ أَيِ الْمَعْدِنِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الرَّسُّ كُلُّ بِئْرٍ تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّسُّ الْبِئْرُ، وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَصْحَابُ الرَّسِّ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ كَانُوا بِالْيَمَامَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الرَّسِّ قَالَ: بِئْرٌ بِأَذْرَبِيجَانَ.
قَوْلُهُ: (مَا يَعْبَأُ، يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ
رَبِّي} هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا عَبَأْتُ بِكَ شَيْئًا أَيْ مَا عَدَدْتُكَ شَيْئًا. (تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ لِهَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَالْخَطْبُ فِيهَا سَهْلٌ.
قَوْلُهُ: (غَرَامًا هَلَاكًا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أَيْ: هَلَاكًا وَإِلْزَامًا لَهُمْ، وَمِنْهُ رَجُلٌ مُغْرَمٌ بِالْحُبِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَاتِيَةٌ عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ) كَذَا فِي تَفْسِيرِهِ، وَهَذَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ ; وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا لِمَا ذُكِرَ قَوْلُهُ:(عَتَوْا)، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا فِي قِصَّةِ هُودٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
1 - بَاب: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا}
4760 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} الْآيَةَ. كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{وَأَضَلُّ سَبِيلا}
قَوْلُهُ: (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ ; وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (يُحْشَرُ الْكَافِرُ) فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحْشَرُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ عَلَى الدَّوَابِّ، وَصِنْفٌ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ. فَقِيلَ: فَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ الْحَدِيثَ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ يُحْشَرُونَ رُكْبَانًا، وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا) هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَوْصُولَةٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، قَالَهَا قَتَادَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ.
2 - بَاب: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الْعُقُوبَةَ
4761 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، وَسُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ - أَوْ سُئِلَ - رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}
4762 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ
بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فَقَالَ سَعِيدٌ قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ فَقَالَ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاء"
4763 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَرَحَلْتُ فِيهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْء"
4764 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قَالَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ قَالَ كَانَتْ هَذِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} الْآيَةَ. كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:{أَثَامًا}
قَوْلُهُ: {يَلْقَ أَثَامًا} الْعُقُوبَةَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، أَيْ: عُقُوبَةً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{يَلْقَ أَثَامًا} قَالَ: نَكَالًا. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّهُ وَادٍ فِي النَّارِ. وَهَذَا الْأَخِيرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (وَسُلَيْمَانُ) هُوَ الْأَعْمَشُ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَحَدَّثَنِي وَاصِلٌ) هُوَ ابْنُ حِبَّانَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَالْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ: أَمَّا اثْنَانِ مِنْهُمَا فَأَدْخَلَا فِيهِ بَيْنَ أَبِي وَائِلٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَبَا مَيْسَرَةَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَاصِلٌ فَأَسْقَطَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَعَدُّوهُمَا، وَالصَّوَابُ إِسْقَاطُ أَبِي مَيْسَرَةَ مِنْ رِوَايَةِ وَاصِلٍ كَمَا فَصَّلَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ وَاصِلٍ بِإِسْقَاطِ أَبِي مَيْسَرَةَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَمَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ وَاصِلٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو شِهَابٍ، وَشَيْبَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِإِسْقَاطِ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ وَافَقَهُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْرِيُّ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ ابْنَ مَهْدِيٍّ فَجَمَعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةَ حَمَلَ رِوَايَةَ وَاصِلٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ وَقَعَدْتُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَاغْتَنَمْتُ خَلَوْتَهُ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذُّنُوبِ أَكْبَرُ؟ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ)؟ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَعْظَمُ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ضَبْطِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا فِي سُؤَالِهِ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ.
قَوْلُهُ: (نِدًّا) بِكَسْرِ النُّونِ، أَيْ: نَظِيرًا.
قَوْلُهُ: (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) أَيْ مِنْ
جِهَةِ إِيثَارِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يَكْفِي، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْبُخْلِ مَعَ الْوِجْدَانِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ وَالْمُرَادُ الزَّوْجَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحِلِّ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَقِيلَ: مِنَ الْحُلُولِ لِأَنَّهَا تَحِلُّ مَعَهُ وَيَحِلُّ مَعَهَا.
قَوْلُهُ: (وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} - إِلَى - {وَلا يَزْنُونَ} هَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَالْقَتْلُ وَالزِّنَا فِي الْآيَةِ مُطْلَقَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ مُقَيَّدَانِ: أَمَّا الْقَتْلُ فَبِالْوَلَدِ خَشْيَةَ الْأَكْلِ مَعَهُ، وَأَمَّا الزِّنَا فَبِزَوْجَةِ الْجَارِ. وَالِاسْتِدْلَالُ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ سَائِغٌ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي مُطْلَقِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ لَكِنْ قَتْلَ هَذَا وَالزِّنَا بِهَذِهِ أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَامٌ. قَالَ: لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشَرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَاسْمُ أَبِي بَزَّةَ نَافِعُ بْنُ يَسَارٍ، وَيُقَالُ: أَبُو بَزَّةَ جَدُّ الْقَاسِمِ لَا أَبُوهُ، مَكِّيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ وَالِدُ جَدِّ الْبَزِّيِّ الْمُقْرِئِ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَلَيْسَ لِلْقَاسِمِ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ.
قَوْلُهُ: (هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخِرِ الْبَابِ قَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ سَعِيدُ) أَيِ ابْنُ جُبَيْرٍ: (قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلْتُ فِيهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَرَحَلْتُ، بِرَاءٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَهِيَ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (هَذِهِ مَكِّيَّةٌ) يَعْنِي نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بَعْدَ سُورَةُ الْفُرْقَانِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ (اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَأَخْصَرُ مِنْهُ رِوَايَةُ آدَمَ فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِنْهُ عَنْ غُنْدَرٍ بِلَفْظِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهَا تَعْيِينُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فِي الْبَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَعَنْ قَوْلِهِ:{لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي الَّذِي يَلِيهِ أَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ.
3 - بَاب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
4765 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبْزَى: سُئِلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وَقَوْلِهِ: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} - حَتَّى بَلَغَ - {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ، وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} - إِلَى قَوْلِهِ - {غَفُورًا رَحِيمًا}
قَوْلُهُ: بَابُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَزْمِ فِي (يُضَاعَفْ وَيَخْلُدْ) بَدَلًا
مِنَ الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: {يَلْقَ أَثَامًا} بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ) هُوَ الطَّلْحِيُّ، وَشَيْبَانُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبْزَى) بِمُوَحَّدَةٍ وَزَايٍ مَقْصُورَةٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَمِثْلُهُ لِلنَّسَفِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ سَلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ سِيَاقِ الْآيَتَيْنِ: فَسَأَلْتُهُ؛ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: سَلْ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْآخَرُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِتَقْدِيرِ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ كَذَا، فَأَجَابَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ مَثَلًا، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ شُعْبَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ: قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ سل ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ
(1)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَمَرَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِغَيْرِهِ: أَمَرَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ سَقَطَ ابْنُ قَبْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَصَحَّفَ مِنْ: أَمَرَنِي، وَيَكُونُ الْأَصْلُ: أَمَرَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ لَا يُنْكَرُ سُؤَالُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاسْتِفَادَتِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَدْ سَأَلَهُ مَنْ كَانَ أَقْدَمُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ.
قُلْتُ: الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي زَادَ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوِ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
4766 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَعَنْ:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَعَنْ: {لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَسِيَاقُ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَتَمُّ، وَأَتَمُّ مِنْهُمَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَبْعَثِ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ بِلَفْظِ: هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمَرَهُمَا؟ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وَالَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو مَكَّةَ: قَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ وَدَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {إِلا مَنْ تَابَ} الْآيَةَ، قَالَ: فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ، قَالَ: وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَهُوَ الَّذِي قَدْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ لَا تَوْبَةَ
(1)
بياض بالأصل
لَهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ نَدِمَ. وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ تَارَةً يَجْعَلُ الْآيَتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ يَجْزِمُ بِنَسْخِ إِحْدَاهُمَا، وَتَارَةً يَجْعَلُ مَحَلَّهُمَا مُخْتَلِفًا.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ بِأَنَّ عُمُومَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ خَصَّ مِنْهَا مُبَاشَرَةَ الْمُؤْمِنَ الْقَتْلَ مُتَعَمِّدًا، وَكَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ النَّسْخَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ، وَأَوْلَى مِنْ دَعْوَى أَنَّهُ قَالَ بِالنَّسْخِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَرَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْجَابِرِ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ الذَّهَبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ قَالَ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وَسَاقَ الْآيَةَ إِلَى: {عَظِيمًا} قَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا نَزَلَ وَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَالْهُدَى؟ لَفْظُ يَحْيَى الْجَابِرِ، وَالْآخَرُ نَحْوَهُ.
وَجَاءَ عَلَى وَفْقِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ; إِلَّا الرَّجُلَ يَمُوتُ كَافِرًا، وَالرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، وَقَدْ حَمَلَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّغْلِيظِ، وَصَحَّحُوا تَوْبَةَ الْقَاتِلِ كَغَيْرِهِ، وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلُهُ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أَيْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُجَازِيَهُ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَمِنَ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ أَتَى تَمَامَ الْمِائَةِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَوْبَةَ، فَقَتَلَهُ فَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ جَاءَ آخَرَ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ. الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ وَاضِحًا. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ قُبِلَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَمِثْلُهُ لَهُمْ أَوْلَى لِمَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَثْقَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ.
5 - بَاب {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} هَلَكَةً
4767 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ:{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} هَلَكَةً) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ جَزَاءً يُلْزِمُ كُلَّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ، وَلَهُ مَعْنًى آخَرَ يَكُونُ هَلَاكًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ أَبُو الضُّحَى الْكُوفِيُّ.
26 - سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَعْبَثُونَ: تَبْنُونَ، هَضِيمٌ: يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ، مُسَحَّرِينَ: مَسْحُورِينَ، الليْكَةُ وَالْأَيْكَةُ: جَمْعُ أَيْكَةٍ وَهِيَ جَمْعُ الشَجَرٍ، يَوْمِ الظُّلَّةِ: إِظْلَالُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ، مَوْزُونٍ: مَعْلُومٍ. كَالطَّوْدِ: كَالْجَبَلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَشِرْذِمَةٌ الشِّرْذِمَةُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، فِي السَّاجِدِينَ: الْمُصَلِّينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ: كَأَنَّكُمْ، الرِّيعُ: الْأَيْفَاعُ مِنْ الْأَرْضِ، وَجَمْعُهُ: رِيَعَةٌ، وَأَرْيَاعٌ وَاحِدُهُ الرِّيعَةٌ،
مَصَانِعَ: كُلُّ بِنَاءٍ فَهُوَ مَصْنَعَةٌ، فَرِهِينَ: مَرِحِينَ، فَارِهِينَ: بِمَعْنَاهُ، وَيُقَالُ: فَارِهِينَ: حَاذِقِينَ، تَعْثَوْا: هُوَ أَشَدُّ الْفَسَادِ، وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا، الْجِبِلَّةَ: الْخَلْقُ، جُبِلَ: خُلِقَ، وَمِنْهُ: جُبُلًا وَجِبِلًا وَجُبْلًا: يَعْنِي الْخَلْقَ - قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ مُؤَخَّرَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَعْبَثُونَ} تَبْنُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} قَالَ: بِكُلِّ فَجٍّ. {آيَةً تَعْبَثُونَ} بُنْيَانًا، وَقِيلَ: كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الْأَسْفَارِ بِالنُّجُومِ، ثُمَّ اتَّخَذُوا أَعْلَامًا فِي أَمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ لِيَهْتَدُوا بِهَا، وَكَانُوا فِي غُنْيَةٍ عَنْهَا بِالنُّجُومِ، فَاتَّخَذُوا الْبُنْيَانَ عَبَثًا.
قَوْلُهُ: {هَضِيمٌ} يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ: يَتَهَشَّمُ هَشِيمًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الطَّلْعَةُ إِذَا مَسِسْتَهَا تَنَاثَرَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْهَضِيمُ الرَّطْبُ اللِّينُ، وَقِيلَ: الْمُذَنَّبُ.
قَوْلُهُ: (مُسَحَّرِينَ: مَسْحُورِينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أَيْ: مِنَ الْمَسْحُورِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَنْ أَكَلَ فَهُوَ مُسَحَّرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُ سِحْرًا يَفْرِي مَا أَكَلَ فِيهِ انْتَهَى. وَالسَّحْرُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ: الرِّئَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى: إنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَتَسْحَرُ بِهِ فَأَنْتَ بَشَرٌ مِثْلُنَا لَا تَفْضُلُنَا فِي شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: {فِي السَّاجِدِينَ} الْمُصَلِّينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى مَنْ خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (اللَّيْكَةُ وَالْأَيْكَةُ جَمْعُ أَيْكَةٍ، وَهِيَ جَمْعُ الشَّجَرِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: جَمْعُ شَجَرٍ، وَلِلْبَعْضِ: جَمَاعَةُ الشَّجَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مَعَ شَرْحِهِ، وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ: جَمْعُ أَيْكَةٍ
…
إِلَخْ هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَقَعَ فِيهِ سَهْوٌ؛ فَإِنَّ الليْكَةَ وَالْأَيْكَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالْمُسَهَّلُ الْهَمْزَةُ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَيْكَةِ اسْمُ الْقَرْيَةِ، وَالْأَيْكَةُ الْغَيْضَةُ وَهِيَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: جَمْعُ شَجَرٍ يُقَالُ: جَمْعُهَا لَيْكٌ وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ.
قَوْلُهُ: {يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلَالُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {مَوْزُونٍ} مَعْلُومٌ) كَذَا لَهُمْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} كَأَنَّكُمْ. لَيْكَةٌ الْأَيْكَةُ وَهِيَ الْغَيْضَةُ. مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ. فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْوَاحِدِيِّ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّ فَهُوَ لِلتَّعْلِيلِ، إِلَّا هَذَا الْحَرْفُ فَإِنَّهُ لِلتَّشْبِيهِ، كَذَا قَالَ: وَفِي الْحَصْرِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وَقَدْ قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَيْ تَخْلُدُوا، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْثِقُونَ مِنَ الْبِنَاءِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُحْصِنَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْحِجْرَ صَنِيعَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَخْلُدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَيْكَةٌ فَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ:{مَوْزُونٍ} فَمَحَلُّهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، وَوَقَعَ ذِكْرُهُ هُنَا غَلَطًا، وَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ بَعْضِ مَنْ نَسَخَ الْكِتَابَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} قَالَ: بِقَدَرٍ مَقْدُورٍ.
قَوْلُهُ: {كَالطَّوْدِ} كَالْجَبَلِ) وَقَعَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ مَنْسُوبًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِغَيْرِهِ مَنْسُوبًا إِلَى مُجَاهِدٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ {لَشِرْذِمَةٌ} الشِّرْذِمَةُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ ذِكْرُ ذَلِكَ فِيمَا نُسِبَ إِلَى مُجَاهِدٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أَيْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، وَذَهَبَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: قَلِيلُونَ، وَالَّذِي أَوْرَدَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} قَالَ: هُمْ يَوْمَئِذٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَطَعَ بِهِمْ مُوسَى الْبَحْرَ كَانُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَنِي عِشْرِينَ سَنَةٍ فَصَاعِدًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (الرِّيَعُ: الْأَيْفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وَأَرْيَاعٌ، وَاحِدُهُ رَيْعَةٌ) كَذَا فِيهِ، وَرَيْعَةُ الْأَوَّلِ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالثَّانِي بِسُكُونِهَا، وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: رِيعٌ وَاحِدٌ جَمْعُهُ أَرْيَاعٌ، وَرِيَعَةٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَرِيَعٌ أَيْضًا وَاحِدُهُ: رَيْعَةٌ بِالسُّكُونِ كَعِهْنٍ وَعِهْنَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} الرِّيعُ: الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجَمْعُ: أَرْيَاعٌ وَرِيَعَةٌ، وَالرَّيْعَةُ وَاحِدُه أَرْيَاعٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{بِكُلِّ رِيعٍ} أَيْ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
قَوْلُهُ: {مَصَانِعَ} كُلُّ بِنَاءٍ فَهُوَ مَصْنَعَةٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْمَصَانِعُ الْقُصُورُ وَالْحُصُونُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بِلُغَةِ الْيَمَنِ الْقُصُورُ الْعَادِيَّةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا يُتَّخَذُ فِيهِ الْمَاءُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَصَانِعُ الْقُصُورُ الْمُشَيَّدَةُ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: الْمَصَانِعُ بُرُوجُ الْحَمَامِ.
قَوْلُهُ: (فَرِهِينَ: مَرِحِينَ) كَذَا لَهُمْ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: فَرِحِينَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ لِقُرْبِ مَخْرَجِ الْحَاءِ مِنَ الْهَاءِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:(بُيُوتًا فَرِهِينَ) أَيْ مَرِحِينَ. وَلَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْفَرِحِينَ بِالْمَرِحِينَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
قَوْلُهُ: (فَارِهِينَ بِمَعْنَاهُ، وَيُقَالُ: فَارِهِينَ: حَاذِقِينَ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَأَنْشَدَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ:
لَا أَسْتَكِينُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ
…
وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فَارِهَ اللِّيثِ
وَاللِّيْثُ بِكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ: الْعُنُقُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيُّ فِي قَوْلِهِ:(فَرِهِينَ) قَالَ: مُعْجَبِينَ بِصَنِيعِكُمْ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: آمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: شَرِهِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادَ قَالَ أَحَدُهُمَا: حَاذِقِينَ، وَقَالَ الْآخَرُ: جَبَّارِينَ.
قَوْلُهُ: (تَعْثَوْا: هُوَ أَشَدُّ الْفَسَادُ، وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا) مُرَادُهُ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرِدْ أَنْ تَعْثَوْا مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَيْثِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} هُوَ مِنْ عَثِيَتْ تَعْثِي، وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ عَثَتْ تَعِيثُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ:{وَلا تَعْثَوْا} ؛ أَيْ: لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
قَوْلُهُ: (الْجِبِلَّةَ: الْخَلْقُ، جُبِلَ خُلِقَ، وَمِنْهُ جُبُلًا وَجِبِلًّا وَجُبْلًا يَعْنِي الْخَلْقُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوْلَى؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} أَيِ الْخَلْقُ، هُوَ مِنْ جُبِلَ عَلَى كَذَا أَيْ: تَخَلَّقَ. وَفِي الْقُرْآنِ: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا} مُثَقَّلٌ وَغَيْرُ مُثَقَّلٍ، وَمَعْنَاهُ: الْخَلْقُ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مُثَقَّلٌ وَغَيْرُ مُثَقَّلٍ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُمَا، وَفِيهِمَا قِرَاءَاتٌ: فَفِي الْمَشْهُورِ بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدُ اللَّامِ لِنَافِعٍ، وَعَاصِمٍ، وَبِضَمَّةٍ ثُمَّ سُكُونٍ لِأَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَبِكَسْرَتَيْنِ وَاللَّامُ خَفِيفَةٌ لِلْأَعْمَشِ، وَبِضَمَّتَيْنِ وَاللَّامُ خَفِيفَةٌ لِلْبَاقِينَ، وَفِي الشَّوَاذِّ بِضَمَّتَيْنِ ثُمَّ تَشْدِيدٌ، وَبِكَسْرَةٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَبِكَسْرَةٍ ثُمَّ فَتْحَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} قَالَ: خَلْقُ الْأَوَّلِينَ،
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: (الْجِبِلَّةُ) الْخَلْقُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا}
1 - بَاب: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
4768 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ، والْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَةُ.
4769 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَخِي، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ
…
إِلَخْ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الطَّرِيقَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا، وَأَشَارَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى الَّتِي زِيدَ فِيهَا بَيْنَ سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَجُلٌ فَذَكَرَهَا مُعَلَّقَةً، وَسَعِيدٌ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا وَمِنْ أَبِيهِ عَنْهُ تَامًّا، أَوْ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ ثَبَّتَهُ فِيهِ أَبُوهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وُجِدَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَشَاهِدُهُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ. وَالْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَةُ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: وَعَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ هَذَا فَعَصَيْتَنِي، قَالَ: لَكِنِّي لَا أَعْصِيكَ الْيَوْمَ، الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَةُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ:{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} الْقَتَرُ: الْغُبَارُ، وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ شَاهِدَيْنِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ: {غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، كَأَنَّهُ قَالَ: غَبَرَةٌ فَوْقَهَا غَبَرَةٌ. وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: الْقَتَرَةُ مَا يَغْشَى الْوَجْهَ مِنَ الْكَرْبِ، وَالْغَبَرَةُ مَا يَعْلُوهُ مِنَ الْغُبَارِ، وَأَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ. وَقِيلَ: الْقَتَرَةُ شِدَّةُ الْغَبَرَةِ بِحَيْثُ يَسْوَدُّ الْوَجْهُ. وَقِيلَ: الْقَتَرَةُ سَوَادُ الدُّخَانِ فَاسْتُعِيرَ هُنَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ تَامًّا.
قَوْلُهُ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ) هَذَا مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي تَسْمِيَةِ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ سَبَقَتْ نِسْبَتُهُ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ضَعِيفَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ آزَرَ اسْمُ الصَّنَمِ وَهُوَ شَاذٌّ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَى وَجْهٍ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ) هَذَا مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أَيْ: يَغْشَاهَا قَتَرَةٌ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْغَبَرَةَ الْغُبَارُ مِنَ التُّرَابِ، وَالْقَتَرَةُ السَّوَادُ الْكَائِنُ عَنِ الْكَآبَةِ.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمُ لَا أَعْصِيكَ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ هَذَا فَعَصَيْتَنِي، قَالَ: لَكِنِّي لَا أَعْصِيكَ وَاحِدَةً.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ) وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَبْعَدِ عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ فِي أَبِيهِ، وَقِيلَ: الْأَبْعَدُ صِفَةُ أَبِيهِ، أَيْ أَنَّهُ شَدِيدُ الْبُعْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ بَعِيدٌ مِنْهَا فَالْكَافِرٌ أَبْعَدٌ، وَقِيلَ: الْأَبْعَدُ بِمَعْنَى الْبَعِيدَ وَالْمُرَادُ الْهَالِكُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: وَإِنْ أَخْزَيْتَ أَبِي فَقَدْ أَخْزَيْتَ الْأَبْعَدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: يَلْقَى رَجُلٌ أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ: أَيُّ ابْنٍ كُنْتَ لَكَ؟ فَيَقُولُ: خَيْرُ ابْنٍ، فَيَقُولُ: هَلْ أَنْتَ مُطِيعِي الْيَوْمَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ خُذْ بَازَرتِي. فَيَأْخُذُ بَازَرتَهُ. ثُمَّ يَنْطَلِقُ حَتَّى يَأْتِيَ رَبَّهُ وَهُوَ يَعْرِضُ الْخَلْقَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَبِي مَعِي، فَإِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُنَادِي: إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمَ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ انْظُرْ، فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَيَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ مِنِّي، قَالَ: انْظُرْ أَسْفَلَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا ذِيخٌ يَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَيَمْسَخُ اللَّهُ أَبَاهُ ضَبُعًا، فَيَأْخُذُ بِأَنْفِهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي أَبُوكَ هُوَ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُحَوَّلُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ فِي صُورَةِ ضِبْعَانَ، زَادَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا رَآهُ كَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ قَالَ: لَسْتَ أَبِي، وَالذِّيخُ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَقِيلَ: لَا يُقَالُ لَهُ: ذِيخٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ. وَالضِّبْعَانُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ. وَقَوْلُهُ: مُتَلَطِّخٌ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ فِي رَجِيعٍ أَوْ دَمٍ أَوْ طِينٍ. وَقَدْ عَيَّنَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْمُرَادَ، وَأَنَّهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ؛ حَيْثُ قَالَ: فَيَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ لِتَنْفِرَ نَفْسُ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَبْقَى فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ فَيَكُونُ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ ضَبْعًا أَنَّ الضَّبْعَ مِنْ أَحْمَقِ الْحَيَوَانِ، وَآزَرَ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى مَاتَ.
وَاقْتَصَرَ فِي مَسْخِهِ عَلَى هَذَا الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ وَسَطٌ فِي التَّشْوِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهُ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ كَالْأَسَدِ مَثَلًا، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَالَغَ فِي الْخُضُوعِ لَهُ وَخَفْضَ الْجَنَاحَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ فَعُومِلَ بِصِفَةِ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ لِلضَّبْعِ عِوَجًا فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ آزَرَ لَمْ يَسْتَقِمْ فَيُؤْمِنُ بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى عِوَجِهِ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَصْلِهِ وَطَعَنَ فِي صِحَّتِهِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: هَذَا خَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ; فَكَيْفَ يَجْعَلُ مَا صَارَ لِأَبِيهِ خِزْيًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} انْتَهَى. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمَّا مَاتَ آزَرَ مُشْرِكًا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ قَالَ: اسْتَغْفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا فَلَمَّا مَاتَ أَمْسَكَ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
إِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا يَئِسَ مِنْهُ حِينَ مُسِخَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَهَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ وَالِدِي، رَبِّ وَالِدِي. فَإِذَا كَانَ الثَّالِثَةُ أُخِذَ بِيَدِهِ فَيَلْتَفِتَ إِلَيْهِ وَهُوَ ضِبْعَانُ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: إِنِّي كُنْتَ آمُرُكَ فِي الدُّنْيَا وَتَعْصِينِي، وَلَسْتُ تَارِكَكَ الْيَوْمَ فَخُذْ بِحَقْوِي، فَيَأْخُذُ بِضَبْعَيْهِ فَيُمْسَخُ ضَبْعًا، فَإِذَا رَآهُ إِبْرَاهِيمُ مُسِخَ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ، لَكِنْ لَمَّا رَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَتْهُ الرَّأْفَةُ وَالرِّقَّةُ فَسَأَلَ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُسِخَ يَئِسَ مِنْهُ حِينَئِذٍ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ تَبَرُّؤًا أَبَدِيًّا، وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آمَنَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَكُونُ تَبْرِئَتُهُ مِنْهُ حِينَئِذٍ بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا أَدْخَلَ اللَّهُ أَبَاهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ لِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وَخِزْيُ الْوَالِدِ خِزْيُ الْوَلَدِ فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَوْ لم يَدْخُلُ النَّارَ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْوَعِيدِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ) وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا مُسِخَ فِي صُورَةِ ضَبُعٍ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَبْقَ الصُّورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخِزْيِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَفَاءً بِمَا وَعَدَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَمَا قَدَّمْتُهُ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمُرَادَ مَعَ السَّلَامَةِ مِمَّا فِي اللَّفْظِ مِنَ الشَّنَاعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} أَلِنْ جَانِبَكَ
4770 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4771 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا" تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ
وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَاب"
قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} أَلِنْ جَانِبَكَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: وَكَلَامَكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ حِينَئِذٍ إِمَّا لَمْ يُولَدْ، وَإِمَّا طِفْلًا. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ نِدَاءُ فَاطِمَةَ؛ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ بِحَيْثُ تُخَاطَبُ بِالْأَحْكَامِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي بَابِ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ احْتِمَالَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَكْرَارِ النُّزُولِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ حِينَ نَزَلَتْ.
نَعَمْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي هَاشِمٍ وَنِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، وَاسْعَوْا فِي فِكَاكِ رِقَابِكُمْ، يَا عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا حَفْصَةُ بِنْتَ عُمَرَ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا، فَهَذَا إِنْ ثَبَتَ دَلَّ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ بِمَكَّةَ لِتَصْرِيحِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ صَعِدَ الصَّفَا، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عِنْدَهُ وَمِنْ أَزْوَاجِهِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْأُولَى فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْضُرَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: لَمَّا نَزَلَتْ جَمَعَ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا أَنَّ الْجَمْعَ وَقَعَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ نَزَلَ أَوَّلًا:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فَجَمَعَ قُرَيْشًا فَعَمَّ ثُمَّ خَصَّ كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ نَزَلَ ثَانِيًا: وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَخَصَّ بِذَلِكَ بَنِي هَاشِمٍ وَنِسَاءَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَعَقُّبٌ عَلَى النَّوَوِيِّ حَيْثُ قَالَ: فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْهَا أَعْنِي. وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَغْفَلَ كَوْنَهَا مَوْجُودَةً عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي سُورَةِ تَبَّتْ.
قَوْلُهُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} زَادَ فِي تَفْسِيرِ تَبَّتْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَصَلَهَا الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، قَالَ: الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا. ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِنْذَارُ الْكُفَّارِ، وَالْمُخْلَصُ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، فَقَوْلُهُ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} عَامٌّ فِيمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الرَّهْطَ الْمُخْلَصِينَ تَنْوِيهًا بِهِمْ وَتَأْكِيدًا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ؛ إِذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ يَتَحَمَّلُ عَنْهَا صلى الله عليه وسلم بِمَا يُخَلِّصُهَا، فَإِذَا كَانَ عَمَلُهُ لَا يَقَعُ نِيَابَةً عَنِ ابْنَتِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَشْفَعُ فِيمَنْ أَرَادَ وَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، حَتَّى يُدْخِلَ قَوْمًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَيُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا بِذُنُوبِهِ، أَوْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَضِّ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: لَا أُغْنِي شَيْئًا، إِضْمَارُ: إِلَّا إِنْ أَذِنَ اللَّهُ لِي بِالشَّفَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَلَاذُرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: يَا بَنِي فِهْرٍ، فَاجْتَمَعُوا. ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي غَالِبٍ، فَرَجَعَ بَنُو مُحَارِبٍ وَالْحَارِثُ ابْنَا فِهْرٍ. فَقَالَ: يَا بَنِي لُؤَيٍّ، فَرَجَعَ بَنُو الْأَدْرَمِ بْنِ غَالِبٍ. فَقَالَ: يَا آلَ كَعْبٍ، فَرَجَعَ بَنُو عَدِيٍّ وَسَهْمٍ وَجُمَحٍ فَقَالَ: يَا آلَ كِلَابٍ، فَرَجَعَ بَنُو مَخْزُومٍ وَتَيْمٍ. فَقَالَ: يَا آلَ قُصَيٍّ، فَرَجَعَ بَنُو زُهْرَةَ. فَقَالَ: يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، فَرَجَعَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَعَبْدِ الْعُزَّى. فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: هَؤُلَاءِ بَنُو
عَبْدِ مَنَافٍ عِنْدَكَ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَصَرَ الدَّعْوَةَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَفِيهِ عُمُومَتُهُ أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ غَيْرَ رَجُلٍ أَوْ أَرْبَعُونَ وَرَجُلٌ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ صَنَعَ لَهُمْ شَاةً عَلَى ثَرِيدٍ وَقَعْبِ لَبَنٍ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ أَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ وَشَرِبُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، وَقَدْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ
…
إِلَخْ) أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْرِيرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ إِذَا أَخْبَرَ عَنِ الْأَمْرِ الْغَائِبِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: مَا أَعْلَمُ شَابًّا مِنَ الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمُهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ) أَيْ مُنْذِرٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ، فَجَعَلَ يُنَادِي: إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، وَإِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهُ، يَعْنِي يُنْذِرُ قَوْمَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ: أَنَا النَّذِيرُ، وَالسَّاعَةُ الْمَوْعِدُ، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ مُرْسَلِ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ: يَا صَبَاحَاهُ، وَوَصَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ قَسَامَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ، وَزَادَ: هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ يَوْمَئِذٍ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِيمَا نَقَلَ الْفَرَّاءُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ قَرَأَهَا حَاكِيًا لَا قَارِئًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ: يَوْمَئِذٍ؛ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى قِرَاءَتِهَا كَذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ تَخْلِيصِهَا مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا مِنَ الْعَذَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الطَّاعَةَ ثَمَنَ النَّجَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فَهُنَاكَ الْمُؤْمِنُ بَائِعٌ بِاعْتِبَارِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَالثَّمَنُ الْجَنَّةُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النُّفُوسَ كُلَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ حَقَّ طَاعَتِهِ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وفي مَا عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
قَوْلُهُ: (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا عَبَّاسُ
…
إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيشًا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ كَذَلِكَ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ كَذَلِكَ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَذَلِكَ الْحَدِيثُ.
قَوْلُهُ: (يَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بِنَصْبِ عَمَّةٍ، وَيَجُوزُ فِي صَفِيَّةَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
…
إِلَخْ) سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْوَصَايَا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَقْرَبَ لِلرَّجُلِ مَنْ كَانَ يَجْمَعُهُ هُوَ وَجَدٌّ أَعْلَى، وَكُلُّ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي جَدٍّ دُونَ ذَلِكَ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَقْرَبِينَ وَالْأَقَارِبِ فِي الْوَصَايَا، وَالسِّرُّ فِي الْأَمْرِ بِإِنْذَارِ الْأَقْرَبِينَ أَوَّلًا أَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ تَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا فَكَانُوا عِلَّةً لِلْأَبْعَدِينَ فِي الِامْتِنَاعِ، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مَا يَأْخُذُ الْقَرِيبَ لِلْقَرِيبِ مِنَ الْعَطْفِ وَالرَّأْفَةِ فَيُحَابِيهِمْ فِي الدَّعْوَةِ وَالتَّخْوِيفِ، فَلِذَلِكَ نَصَّ لَهُ عَلَى إِنْذَارِهِمْ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْنِيَةِ الْكَافِرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كَذَا قِيلَ. وَفِي إِطْلَاقِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ حَيْثُ يَكُونُ السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا فِي هَذَا أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَئُولُ أَمْرُهُ إِلَيْهِ مِنْ لَهَبِ جَهَنَّمَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذِكْرَهُ بِاسْمِهِ لِقُبْحِ اسْمِهِ لِأَنَّ اسْمَهُ كَانَ عَبْدَ الْعُزَّى، وَيُمْكِنُ جَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْنِيَةَ لَا تَدُلُّ
بِمُجَرَّدِهَا عَلَى التَّعْظِيمِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ أَشْرَفُ مِنَ الْكُنْيَةِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ دُونَ كُنَاهُمْ.
27 - سُورَةُ النَّمْلِ
الْخَبْءُ: مَا خَبَّأْتَ. لَا قِبَلَ: لَا طَاقَةَ. الصَّرْحُ: كُلُّ مِلَاطٍ اتُّخِذَ مِنَ الْقَوَارِيرِ، وَالصَّرْحُ: الْقَصْرُ وَجَمَاعَتُهُ صُرُوحٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَهَا عَرْشٌ: سَرِيرٌ. كَرِيمٌ: حُسْنُ الصَّنْعَةِ وَغَلَاءُ الثَّمَنِ، مُسْلِمِينَ: طَائِعِينَ. رَدِفَ: اقْتَرَبَ. جَامِدَةٌ: قَائِمَةٌ. أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَكِّرُوا: غَيِّرُوا. وَالْقَبَسُ: مَا اقْتَبَسْتَ مِنْهُ النَّارَ، وَأُوتِينَا الْعَلَمَ: يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ، الصَّرْحَ: بِرْكَةُ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ قَوَارِيرَ أَلْبَسَهَا إِيَّاهُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ النَّمْلِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَ لِلنَّسَفِيِّ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْبَسْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (الْخَبْءُ: مَا خَبَأْتَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَالْخَبْءُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ قَالَ:{يُخْرِجُ الْخَبْءَ} يَعْلَمُ كُلَّ خَفِيَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ: الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} أَيِ الْغَيْثَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ: وَفِي هُنَا بِمَعْنَى مِنْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: لَيُسْتَخْرَجَنَّ الْعِلْمُ فِيكُمْ أَيِ الَّذِي مِنْكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ مِنْ بَدَلَ فِي، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْخَبْءُ السِّرُّ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْغَيْثُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْمَاءُ.
قَوْلُهُ: {لا قِبَلَ} لَا طَاقَةَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: (الصَّرْحُ كُلُّ مِلَاطٍ اتُّخِذَ مِنَ الْقَوَارِيرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ السَّكَنِ، وَكَتَبَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي نُسْخَتِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَلَيْسَتْ هِيَ رِوَايَتُهُ. وَالْمِلَاطُ بِالْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ الطِّينُ الَّذِي يُوضَعُ بَيْنَ سَافَتَيِ الْبِنَاءِ، وَقِيلَ: الصَّخْرُ، وَقِيلَ: كُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ مُنْفَرِدٍ. وَبِالْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ مَا كُسِيَتْ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ رُخَامٍ أَوْ كِلْسٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّرْحُ كُلُّ بَلَاطٍ اتُّخِذَ مِنْ قَوَارِيرَ، وَالصَّرْحُ: الْقَصْرُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَعَمِلَتْ لَهُ الصَّرْحَ مِنْ زُجَاجٍ كَأَنَّهُ الْمَاءُ بَيَاضًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ تَحْتَهُ وَوَضَعَ سَرِيرَهُ فِيهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ مِنْ مُلْكِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ بِلْقِيسُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لِتَخُوضَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَجَنَ سُلَيْمَانُ فِيهِ دَوَابَّ الْبَحْرِ الْحِيتَانَ وَالضَّفَادِعَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ سَاقَا وَقَدَمًا، فَأَمَرَهَا سُلَيْمَانُ فَاسْتَتَرَتْ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّرْحُ الْقَصْرُ، وَجَمَاعَتُهُ: صُرُوحٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلَهَا عَرْشٌ} سَرِيرٌ كَرِيمٌ حُسْنُ الصَّنْعَةِ وَغَلَاءُ الثَّمَنِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قَالَ: سَرِيرٌ كَرِيمٌ حَسَنُ الصَّنْعَةِ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ مِنْ جَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَسَنُ الصَّنْعَةِ غَالِيَ الثَّمَنِ، سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ وَصَفْحَتَاهُ مَرْمُولٌ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا فِي أَرْبَعِينَ.
قَوْلُهُ: {يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} طَائِعِينَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْ مُقِرِّينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ وَاسْتَدَلَّ لَهُ.
قَوْلُهُ: {رَدِفَ} اقْتَرَبَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} اقْتَرَبَ لَكُمْ. وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} أَيْ: جَاءَ بَعْدَكُمْ. وَدَعْوَى الْمُبَرِّدِ أَنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ وَأَنَّ الْأَصْلَ رَدِفَكُمْ قَالَهُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اقْتَرَبَ صَحَّ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}
قَوْلُهُ: {جَامِدَةً} قَائِمَةٌ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْزِعْنِي أَيْ: سَدِّدْنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَيْ: أَلْهِمْنِي، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْفَرَّاءُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: {نَكِّرُوا} غَيِّرُوا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَ بِالْعَرْشِ فَغُيِّرَ مَا كَانَ أَحْمَرَ جُعِلَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ أَخْضَرَ جُعِلَ أَصْفَرَ، غُيِّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَنْ حَالِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: زِيدُوا فِيهِ وَانْقِصُوا.
قَوْلُهُ: (وَالْقَبَسُ مَا اقْتُبِسَتْ مِنْهُ النَّارُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} ؛ أَيْ: بِشُعْلَةِ نَارٍ، وَمَعْنَى قَبَسٍ: مَا اقْتُبِسَ مِنَ النَّارِ وَمِنَ الْجَمْرِ.
قَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ بِلْقِيسَ، قَالَتْهُ مُقِرَّةً بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: {الصَّرْحَ} بِرْكَةُ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ قَوَارِيرَ وَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: إِيَّاهَا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:{الصَّرْحَ} بِرْكَةٌ مِنْ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ قَوَارِيرَ أَلْبَسَهَا، قَالَ: وَكَانَتْ هَلْبَاءَ شَقْرَاءَ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: كَشَفَتْ بِلْقِيسُ عَنْ سَاقَيْهَا فَإِذَا هُمَا شَعْرَاوَانِ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالنُّورَةِ فَصُنِعَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ. وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
28 - سُورَةُ الْقَصَصِ
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ: إِلَّا مُلْكَهُ، وَيُقَالُ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الْأَنْبَاءُ: الْحُجَجُ.
28 -
سُورَةُ الْقَصَصِ
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} إِلَا مُلْكَهُ. وَيُقَالُ: إِلَا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ: الْحُجَجُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْقَصَصِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا وَجْهَهُ: إِلَّا مُلْكَهُ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ فَذَكَرَهُ. وَمَعْمَرٌ هَذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْمُثَنَّى، وَهَذَا كَلَامُهُ فِي كِتَابِهِ مَجَازُ الْقُرْآنِ لَكِنْ بِلَفْظِ إِلَّا هُوَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ: ابْنُ التِّينِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَّا وَجْهَهُ؛ أَيْ جَلَالَهُ، وَقِيلَ: إِلَّا إِيَّاهُ، تَقُولُ: أَكْرَمَ اللَّهُ وَجْهَكَ؛ أَيْ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ) نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ انْتَهَى. وَيَتَخَرَّجُ هَذَانِ الْقَوْلَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ شَيْءٍ عَلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَازَهُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ بِالْأَشْرَفِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ إِطْلَاقَ شَيْءٍ عَلَى اللَّهِ قَالَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ هُوَ تَعَالَى لَمْ يَهْلِكْ، أَوْ مُتَّصِلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ مَا عُمِلَ لِأَجْلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ: الْحُجَجُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ.
1 - بَاب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
4772 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ} لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ، {لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ، {فَارِغًا} إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، {الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ، {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلَامَ، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} ، {عَنْ جُنُبٍ} عَنْ بُعْدٍ وَعَنْ جَنَابَةٍ وَاحِدٌ، وَعَنْ اجْتِنَابٍ أَيْضًا، وَيَبْطِشُ وَيَبْطُشُ،
{يَأْتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ، الْعُدْوَانُ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَاحِدٌ، {آنَسَ} أَبْصَرَ، الْجِذْوَةُ: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ، وَالشِّهَابُ فِيهِ لَهَبٌ، وَالْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي وَالْأَسَاوِدُ، {رِدْءًا} مُعِينًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{يُصَدِّقُنِي} وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُضا، مَقْبُوحِينَ: مُهْلَكِينَ، {وَصَّلْنَا} بَيَّنَّاهُ وَأَتْمَمْنَاهُ، {يُجْبَى} يُجْلَبُ، {بَطِرَتْ} أَشِرَتْ، {فِي أُمِّهَا رَسُولا} أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا، {تَكُنْ} تُخْفِي، أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ: أَخْفَيْتُهُ، وَكَنَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ} يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} لَمْ تَخْتَلِفِ النَّقَلَةُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمُتَعَلِّقِ: أَحْبَبْتَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ، وَقِيلَ: أَحْبَبْتَهُ هُوَ لِقَرَابَتِهِ مِنْكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ: حَضَرَتْ عَلَامَاتُ الْوَفَاةِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ انْتَهَى إِلَى الْمُعَايَنَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ لَوْ آمَنَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَكِنْ رَجَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَلَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ بِخُصُوصِهِ وَتَسُوغُ شَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: أُجَادِلُ لَكَ بِهَا وَأَشْفَعُ لَكَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَيُؤَيِّدُ الْخُصُوصِيَّةَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنَ
الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ هُوَ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكِ الشَّفَاعَةَ لَهُ، بَلْ شَفَعَ لَهُ حَتَّى خُفِّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَيَّبُ حَضَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَإِنَّ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَيْضًا، وَكَانَ الثَّلَاثَةُ يَوْمَئِذٍ كُفَّارًا، فَمَاتَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى كُفْرِهِ وَأَسْلَمَ الْآخَرَانِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْمُسَيَّبَ عَلَى قَوْلِ مُصْعَبٍ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَعَلَى قَوْلِ الْعَسْكَرِيِّ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَأَيًّا مَا كَانَ فَلَمْ يَشْهَدْ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ هُوَ وَخَدِيجَةُ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ نَحْوَ الْخَمْسِينَ انْتَهَى. وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُسَيَّبِ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَمَا شَهِدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَجَبٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلُ كَيْفَ يَعْزُو كَوْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِلَى الْعَسْكَرِيِّ وَيَغْفُلُ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ ثَابِتًا فِي هَذَا الصَّحِيحِ الَّذِي شَرَحَهُ كَمَا مَرَّ فِي الْمَغَازِي وَاضِحًا.
قَوْلُهُ: (أَيْ عَمِّ) أَمَّا أَيْ فَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ نِدَاءٍ، وَأَمَّا عَمِّ فَهُوَ مُنَادَى مُضَافٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا.
قَوْلُهُ: (كَلِمَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ الِاخْتِصَاصِ. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَوْلُهُ: (أُحَاجَّ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ الْمُحَاجَّةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ وَالْجِيمُ مَفْتُوحَةٌ عَلَى الْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ تَقُلْ أُحَاجَّ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْجَنَائِزِ: أَشْهَدُ بَدَلَ: أُحَاجَّ، وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: أُجَادِلُ عَنْكَ بِهَا، زَادَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنَّكَ أَعْظَمُ النَّاسِ عَلَيَّ حَقًّا، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدًا، فَقُلْ كَلِمَةً تَجِبُ لِي بِهَا الشَّفَاعَةُ فِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلْ يَعْرِضُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: فَقَالَ: لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا.
قَوْلُهُ: (وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ) أَيْ وَيُعِيدَانِهِ إِلَى الْكُفْرِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَارَبَ أَنْ يَقُولَهَا فَيَرُدَّانِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، قَالَ: الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: كَذَا فِي الْأُصُولِ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَكَرَّرَهَا عَلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَيُعِيدَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَالْمُرَادُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ وَرَفِيقُهُ لَهُ: تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَوْلُهُ: (آخِرُ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ: أَنَا فَغَيَّرَهَا الرَّاوِي أَنَفَةً أَنْ يَحْكِيَ كَلَامَ أَبِي طَالِبٍ اسْتِقْبَاحًا لِلَّفْظِ الْمَذْكُورِ؛ وَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْحَسَنَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةُ الْأَشْيَاخِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ عَارٌ لَمْ أُبَالِ أَنْ أَفْعَلَ، وَضَبْطُ جَزَعُ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ، وَلِبَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هُوَ تَأْكِيدٌ مِنَ الرَّاوِي فِي نَفْيِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَأَنَّهُ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ سَمَاعِهِ ذَلِكَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ إطْلَاعُهُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ الْمُرَادُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ وَالْمُسَامَحَةُ بِذَنْبِ الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا
الْمُرَادُ تَخْفِيفُ الْعَذَابِ عَنْهُ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ.
قُلْتُ: وَهِيَ غَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ لِأَبِي طَالِبٍ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ لَمْ تَرِدْ، وَطَلَبُهَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اقْتِدَاءً بِإِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ وَرَدَ نَسْخُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاضِحًا.
قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أَيْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لِعَمِّهِ، فَنَزَلَتْ: وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِ النُّزُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَاتَّبَعْنَاهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بَكَى، فَبَكَيْنَا لِبُكَائِهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي، وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَأَنْزَلَ عَلَيَّ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ وَفِيهِ: نَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى رَسْمَ قَبْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ: لَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عُسْفَانَ، وَفِيهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاصًّا بِالْأَحْيَاءِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ: مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ.
وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ مِنَ اسْتِغْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ. . . الْآيَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ أَلَا نَسْتَغْفِرُ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَنَزَلَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرْنَا لَهُ أَنَّ رِجَالًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا خُتِمَ عُمْرُهُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَارَنَ نُطْقُ لِسَانِهِ عَقْدَ قَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهَ تَعَالَى، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَصَلَ إِلَى حَدِّ انْقِطَاعِ الْأَمَلِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَعَجَزَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ وَهُوَ وَقْتُ الْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (الْعُدْوَانُ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَاحِدٌ) أَيْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ:{فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} وَالْعَدَاءُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَمْدُودٌ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} وَهُوَ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَالْعَدْوُ كُلُّهُ وَاحِدٌ، وَالْعَدْوُ
مِنْ قَوْلِهِ: عَدَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ} : لَا يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ، {لَتَنُوءُ} لَتَثْقُلُ، {فَارِغًا}: إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، {الْفَرِحِينَ}: الْمَرِحِينَ. قُصِّيهِ: اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلَامَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ. {عَنْ جُنُبٍ} عَنْ بُعْدٍ وَعَنْ جَنَابَةٍ وَاحِدٌ وَعَنِ اجْتِنَابٍ أَيْضًا. {نَبْطِشُ} وَنَبْطُشُ أَيْ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا. (يَأْتَمِرُونَ: يَتَشَاوَرُونَ) هَذَا جَمِيعُهُ سَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَثَبَتَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: ذِكْرُ مُوسَى، تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَكَذَا قَوْلُهُ: نَبْطِشُ
…
إِلَخْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ فَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَوْصُولٌ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ:{قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} قُصِّي أَثَرَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (قُصِّيهِ) اتَّبِعِي أَثَرَهُ، يُقَالُ: قَصَصْتُ آثَارَ الْقَوْمِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أَيْ: عَنْ بُعْدٍ وَتَجَنُّبٍ، وَيُقَالُ: مَا تَأْتِينَا إِلَّا عَنْ جَنَابَةٍ وَعَنْ جُنُبٍ.
قَوْلُهُ: {تَأْجُرَنِي} تَأْجُرُ فُلَانًا تُعْطِيهِ أَجْرًا، وَمِنْهُ التَّعْزِيَةُ آجَرَكَ اللَّهُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} مِنَ الْإِجَارَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ تَأَجَّرَ فُلَانًا، وَمِنْهُ: آجَرَكَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (الشَّاطِئُ وَالشَّطُّ وَاحِدٌ، وَهُمَا ضَفَّتَا وَعُدْوَتَا الْوَادِي) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} الشَّاطِئُ وَالشَّطُّ وَاحِدٌ وَهُمَا ضَفَّتَا الْوَادِي وَعُدْوَتَاهُ.
قَوْلُهُ: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَيَّةٌ تَسْعَى. وَالْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ. الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي وَالْأَسَاوِدُ، ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (مَقْبُوحِينَ: مُهْلَكِينَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {وَصَّلْنَا} بَيَّنَاهُ وَأَتْمَمْنَاهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ: بَيَّنَّا لَهُمُ الْقَوْلَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَتْبَعْنَا بَعْضَهُ بَعْضًا فَاتَّصَلَ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
قَوْلُهُ: {يُجْبَى} يُجْلَبُ) هُوَ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ، وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَةُ فِي قَوْلِهِ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: يُجْمَعُ كَمَا يُجْمَعُ الْمَاءُ فِي الْجَابِيَةِ فَيُجْمَعُ لِلْوَارِدِ.
قَوْلُهُ: {بَطِرَتْ} أَشِرَتْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ؛ أَيْ: أَشِرَتْ وَطَغَتْ وَبَغَتْ، وَالْمَعْنَى: بَطِرَتْ فِي مَعِيشَتِهَا. فَانْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَبْطَرَتْهَا مَعِيشَتُهَا.
قَوْلُهُ: {فِي أُمِّهَا رَسُولا} أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا) قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ: أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوُهُ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{فِي أُمِّهَا} قَالَ: فِي أَوَائِلِهَا.
قَوْلُهُ: {تُكِنُّ} تُخْفِي، أَكْنَنْتُ الشَّيْءُ: أَخْفَيْتُهُ، وَكَنَنْتُهُ: أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ: أَكْنَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ، وَكَنَنْتُهُ خَفَيْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: أَخْفَيْتُهُ: سَتَرْتُهُ، وَخَفَيْتُهُ: أَظْهَرْتُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} ؛ أَيْ: تُخْفِي، يُقَالُ: أَكْنَنْتُ ذَلِكَ فِي صَدْرِي بِأَلِفٍ، وَكَنَنْتُ الشَّيْءَ خَفَيْتُهُ وَهُوَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَكْنَنْتُ وَكَنَنْتُ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَكْنَنْتُهُ إِذَا أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.
قَوْلُهُ: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ) وَقَعَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} ؛ أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ، وَقَالَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أَيْ أَوَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ.
2 - بَاب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ
4773 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَرَادُّكَ
إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} سَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَعْلَى) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ التَّمَّارُ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى مَكَّةَ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يُحْيِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ مَعْمَرٍ: وَأَمَّا الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ فَقَالَا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ وَرَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعَادُهُ آخِرَتُهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
29 - سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَبْصِرِينَ: ضَلَلَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَيَوَانُ وَالْحَيُّ وَاحِدٌ. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ: عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ: لِيَمِيزُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ * لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} ضَلَلَةً) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مُعْجَبِينَ بِضَلَالَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَيَوَانُ وَالْحَيُّ وَاحِدٌ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَلِلْأَصِيلِيِّ: الْحَيَوَانُ وَالْحَيَاةُ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: الْحَيَوَانُ وَالْحَيَاةُ وَاحِدٌ وَزَادَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَهْرُ الْحَيَوَانِ أَيْ نَهْرُ الْحَيَاةِ، وَتَقُولُ: حَيِيتُ حَيًّا، وَالْحَيَوَانُ وَالْحَيَاةُ اسْمَانِ مِنْهُ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{لَهِيَ الْحَيَوَانُ} قَالَ: لَا مَوْتَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ: فَلَيَمِيزَ اللَّهُ. كَقَوْلِهِ: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ فَلَيَمِيزَنَّ اللَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: {وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِهِمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَنْ دَعَا قَوْمًا إِلَى ضَلَالَةٍ فَعَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أَيْ: أَوْزَارَهُمْ، {وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوا.
30 - سورة الروم
{فَلا يَرْبُو} مَنْ أَعْطَى يَبْتَغِي أَفْضَلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ:{يُحْبَرُونَ} يُنَعَّمُونَ، {يَمْهَدُونَ} يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ، الْوَدْقُ: الْمَطَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فِي الْآلِهَةِ، وَفِيهِ {تَخَافُونَهُمْ} أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {يَصَّدَّعُونَ} يَتَفَرَّقُونَ، {فَاصْدَعْ} وَقَالَ غَيْرُهُ: ضُعْفٌ وَضَعْف
لُغَتَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السُّوأَي: الْإِسَاءَةُ: جَزَاءُ الْمُسِيئِينَ
4774 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَالْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَفَزِعْنَا، فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ - وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَغَضِبَ فَجَلَسَ فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وَإِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنْ الْإِسْلَامِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ، فَقَرَأَ:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {عَائِدُونَ} أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ إِذَا جَاءَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يَوْمَ بَدْرٍ، وَ {لِزَامًا} يَوْمَ بَدْرٍ، {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} - إِلَى:{سَيَغْلِبُونَ} وَالرُّومُ قَدْ مَضَى.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الرُّومِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: {يُحْبَرُونَ} يُنَعَّمُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أَيْ: يُنَعَّمُونَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: لَذَّةُ السَّمَاعِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُحْبَرُونَ، قَالَ: يُكَرَّمُونَ.
قَوْلُهُ: {فَلا يَرْبُو} مِنْ أَعْطَى يَبْتَغِي أَفْضَلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نجيح، عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قَالَ: يُعْطِي مَالَهُ يَبْتَغِي أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا هُوَ الرِّبَا الْحَلَالُ يُهْدِي الشَّيْءَ لِيُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ، ذَاكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَزَادَ: وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ خَاصَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يُعْطِي الرَّجُلُ قَرَابَتَهُ الْمَالَ يُكْثِرُ بِهِ مَالَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي الْآخَرَ الشَّيْءَ لِيُكَافِئَهُ بِهِ وَيُزَادُ عَلَيْهِ، فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُلْصَقُ بِالرَّجُلِ يَخْدُمُهُ وَيُسَافِرُ مَعَهُ فَيَجْعَلُ لَهُ رِبْحَ بَعْضِ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ الْتِمَاسَ عَوْنِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: {يَمْهَدُونَ} يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} قَالَ: يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ.
قَوْلُهُ: (الْوَدْقُ: الْمَطَرُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فِي الْآلِهَةِ وَفِيهِ تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ فِي الْآلِهَةِ وَفِيهِ يَقُولُ: تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ لِلَّهِ
تَعَالَى، أَيْ أَنَّ الْمَثَلَ لِلَّهِ وَلِلْأَصْنَامِ، فَاللَّهُ الْمَالِكُ وَالْأَصْنَامُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمَمْلُوكُ لَا يُسَاوِي الْمَالِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَدَلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ يَقُولُ: أَكَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مُشَارِكًا مَمْلُوكَهُ فِي فِرَاشِهِ وَزَوْجَتِهِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يَرْضَى اللَّهُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ.
قَوْلُهُ: {يَصَّدَّعُونَ} يَتَفَرَّقُونَ، فَاصْدَعْ) أَمَّا قَوْلُهُ: يَتَفَرَّقُونَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{فَاصْدَعْ} فَيُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أَيِ: افْرُقْ وَأمْضِهِ، وَأَصْلُ الصَّدْعِ الشَّقُّ فِي الشَّيْءِ، وَخَصَّهُ الرَّاغِبُ بِالشَّيْءِ الصُّلْبِ كَالْحَدِيدِ تَقُولُ: صَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ بِالتَّخْفِيفِ، وَصَدَّعْتُهُ فَتَصَدَّعَ بِالتَّثْقِيلِ، وَمِنْهُ: صُدَاعُ الرَّأْسِ لِتَوَهُّمِ الِاشْتِقَاقِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: اصْدَعْ، أَيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِدُعَائِكَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَافْصِلْ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: غَيْرُهُ: ضَعْفٌ وَضُعْفٌ لُغَتَانِ) هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقُرِئَ بِهِمَا، فَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ: الْخَلِيلُ: الضُّعْفُ بِالضَّمِّ مَا كَانَ فِي الْجَسَدِ، وَبِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: السُّوآى: الْإِسَاءَةُ جَزَاءُ الْمُسِيئِينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ الْإِسَاءَةِ فَقِيلَ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ، وَجَوَّزَ ابْنُ التِّينِ فَتْحَ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا، وَهُوَ مِنْ آسَى أَيْ حَزِنَ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا} أَيِ: الَّذِينَ كَفَرُوا جَزَاؤُهُمُ الْعَذَابُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قُرَيْشٍ بِالسِّنِينَ، وَسُؤَالِهِمْ لَهُ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الْقَحْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالَّذِي وَقَعَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ مِنَ الدُّخَانِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ، أَيْ أَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَجْهُولِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا لَا يُعْلَمُ قِسْمٌ مِنَ التَّكَلُّفِ.
بَاب: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لِدِينِ اللَّهِ، خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: دِينُ الْأَوَّلِينَ، وَالْفِطْرَةُ: الْإِسْلَامُ.
4775 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
قَوْلُهُ: بَابُ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: لِدِينِ اللَّهِ، خُلُقُ الْأَوَّلِينَ: دِينُ الْأَوَّلِينَ) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. وَمِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ مِثْلَهُ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ قَالَ: الْإِحْصَاءُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} ؛ يَقُولُ: دِينُ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي قَوْلِهِ:{خُلُقُ الأَوَّلِينَ} قَالَ: اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَذِبُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: سِيرَتُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَالْفِطْرَةُ: الْإِسْلَامُ) هُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ.
31 - سُورَةُ لُقْمَانَ
1 - بَاب: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
4776 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ لُقْمَانَ - {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ؛ وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ فَقَطْ لِلنَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
2 - بَاب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
4777 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ، قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ، فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
4778 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، ثُمَّ قَرَأَ
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ:) هَكَذَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو عَاصِمٍ فَقَالَ: عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ فِيهِ شَيْخَانِ أَبُوهُ وَعَمُّ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} هَكَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} يَعْنِي الْآيَةَ كُلَّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، الْحَدِيثُ. هَذَا السِّيَاقُ فِي الْخَمْسِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ إِلَّا الْخَمْسَ ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ، وَأَظُنُّهُ دَخَلَ لَهُ مَتْنٌ فِي مَتْنٍ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: عَبَّرَ بِالْمَفَاتِحِ لِتَقْرِيبِ الْأَمْرِ عَلَى السَّامِعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جُعِلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فَقَدْ غُيِّبَ عَنْكَ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي الْعَادَةِ مِنَ ال بَابِ، فَإِذَا أُغْلِقَ الْبَابُ احْتِيجَ إِلَى الْمِفْتَاحِ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا بِتَوْصِيلِهِ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهُ فَكَيْفَ يَعْرِفُ الْمَغِيبَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانُ جِهَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ:(لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) وَيُرَادُ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنَ الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} فَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ الْمَنْفِيِّ فِيهَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي لُقْمَانَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الْآيَةَ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا فِي حَدِيثِ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ: إِنَّهُ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ، وَأَنَّ يُوسُفَ قَالَ: إِنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِتَأْوِيلِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَهَرَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ فَكُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اطِّلَاعَ الرَّسُولِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ وَالْوَلِيُّ التَّابِعُ لِلرَّسُولِ عَنِ الرَّسُولِ يَأْخُذُ وَبِهِ يُكَرَّمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْوَاعِ الْوَحْيِ كُلِّهَا، وَالْوَلِيُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِمَنَامٍ أَوْ إِلْهَامٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الطَّبَرِيِّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا مِنْ هِجْرَةِ الْمُصْطَفَى نِصْفُ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ قَالَ: وَتَقُومُ السَّاعَةُ وَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ غَيْرَ الْبَارِي تَعَالَى فَلَا يَبْقَى غَيْرُ وَجْهِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، فَالَّذِي قَالَهُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَوَهَّمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُنْكِرُ الْبَعْثَ فَأَقْدَمَ عَلَى تَفْكِيرِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مُرَادُ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَصِيرُ الْأَمْرُ أَيْ بَعْدَ فَنَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَقَعُ الْبَعْثُ وَالْحِسَابُ، هَذَا الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا
إِنْكَارُهُ عَلَيْهِ اسْتِخْرَاجَ وَقْتِ السَّاعَةِ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ بِخِلَافِ مَا قَالَ؛ فَقَدْ مَضَتْ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ ثَلَاثُمِائَةٍ وَزِيَادَةٌ، لَكِنَّ الطَّبَرِيَّ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ: لَنْ يَعْجِزَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا اللَّهُ نِصْفَ يَوْمٍ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّهَا لَا تُؤَخَّرُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
32 - سُورَةُ السَّجْدَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَهِينٌ: ضَعِيفٌ، نُطْفَةُ الرَّجُلِ. ضَلَلْنَا: هَلَكْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجُرُزُ: الَّتِي لَا تُمْطِرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا. نَهْدِ نُبَيِّنُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ السَّجْدَةِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلنَّسَفِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ حَسْبَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَهِينٌ ضَعِيفٌ نُطْفَةُ الرَّجُلِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضَعِيفٍ، وَلِلْفِرْيَابِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قَالَ: نُطْفَةُ الرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: (ضَلَلْنَا: هَلَكْنَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} قَالَ: هَلَكْنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجُرُزُ الَّتِي لَا تُمْطِرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ زَادَ إِبْرَاهِيمُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ أَرْضُ أَبْيَنَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْحَرْبِيُّ وَقَالَ: أَبْيَنُ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْيَمَنِ، فَلَعَلَّ مُجَاهِدًا قَالَ: ذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَمْ تَكُنْ أَبْيَنُ تُنْبِتُ فِيهِ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: هِيَ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَرْضُ الْجُرُزُ: الْيَابِسَةُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي لَمْ يُصِبْهَا مَطَرٌ.
قَوْلُهُ: (يَهْدِ: يُبَيِّنْ) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} قَالَ: أَوَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أَيْ: يُبَيِّنْ لَهُمْ، وَهُوَ مِنَ الْهُدَى.
1 - بَاب {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
4779 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: مِثْلَهُ، قِيلَ لِسُفْيَانَ رِوَايَةً؟ قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ؟
وقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُرَّاتِ أَعْيُنٍ.
4780 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْفِيَ بِالتَّحْرِيكِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالْإِسْكَانِ فِعْلًا مُضَارِعًا مُسْنَدًا لِلْمُتَكَلِّمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: نُخْفِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ؛ وَقَرَأَهَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَخْفَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ، وَنَحْوُهَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ: أُخْفِيَتْ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَرَأَيْتُهَا فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ (قُرَّةَ) بِالْهَاءِ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي) وَوَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام سَأَلَ رَبَّهُ مَنْ أَعْظَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنَ رَأَتْ وَلَا أُذُنَ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ هَذَا، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ: وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
قَوْلُهُ: (وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) زَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِهِ: وَلَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا قِيلَ الْبَشَرُ لِأَنَّهُ يَخْطِرُ بِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ.
قَوْلُهُ: (دُخْرًا) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ: مَنْصُوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْدَدْتُ، أَيْ: جَعَلْتُ ذَلِكَ لَهُمْ مَدْخُورًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ سَهْلٌ فِي جَنْبِ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ. قُلْتُ: وَهَذَا لَائِقٌ بِشَرْحِ بَلْهَ بِغَيْرِ تَقَدُّمِ مِنْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ مِنْ عَلَيْهَا فَقَدْ قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى كَيْفَ، وَيُقَالُ: بِمَعْنَى أَجَلْ، وَيُقَالُ: بِمَعْنَى غَيْرَ أَوْ سِوَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فَضَلَ، لَكِنْ قَالَ الصَّغَانِيُّ: اتَّفَقَتْ نُسَخُ الصَّحِيحِ عَلَى مِنْ بَلْهَ، وَالصَّوَابُ إِسْقَاطُ كَلِمَةِ مِنْ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ إِسْقَاطُهَا إِلَّا إِذَا فُسِّرَتْ بِمَعْنَى: دَعْ، وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَتْ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَوْ سِوَى فَلَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِدَّةِ مُصَنَّفَاتٍ خَارِجَ الصَّحِيحِ بِإِثْبَاتِ مِنْ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْمَعْرُوفُ بَلْهَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: اتْرُكْ نَاصِبًا لِمَا يَلِيهَا بِمُقْتَضَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْكِ مُضَافًا إِلَى مَا يَلِيهِ، وَالْفَتْحَةُ فِي الْأُولَى بِنَائِيَّةٌ وَفِي الثَّانِيَةِ إِعْرَابِيَّةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُهْمَلُ الْفِعْلِ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: بَلْهَ هُنَا مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبَ زَيْدٌ، وَنَدَرَ دُخُولُ مِنْ عَلَيْهَا زَائِدَةً.
وَوَقَعَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ بَلْهَ اسْتُعْمِلَتْ مُعْرَبَةً مَجْرُورَةً بِمِنْ وَأَنَّهَا بِمَعْنَى غَيْرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ التِّينِ حَكَى رِوَايَةَ: مِنْ بَلْهَ بِفَتْحِ الْهَاءِ مَعَ وُجُودِ مِنْ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الْمُتَقَدِّمُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِبَلْهَ كَيْفَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِبْعَادُ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَيْنَ اطِّلَاعُكُمْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الَّذِي تَقْصُرُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَدُخُولُ مِنْ عَلَى بَلْهَ إِذَا كَانَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى جَائِزٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ
الْحَاجِبِيَّةِ. قُلْتُ: وَأَصَحُّ التَّوْجِيهَاتِ لِخُصُوصِ سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ حَيْثُ وَقَعَ فِيهِ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ دُخْرًا مِنْ بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ أَنَّهَا بِمَعْنَى غَيْرَ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ قُرَّاتِ أَعْيُنٍ) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لَهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ سَوَاءٌ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ كُلَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ.
33 - سُورَةُ الْأَحْزَابِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَيَاصِيهِمْ} قُصُورِهِمْ
1 - بَاب
4781 -
حَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ، مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي وأَنَا مَوْلَاهُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْأَحْزَابِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ فَقَطْ لِلنَّسَفِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَيَاصِيهِمْ قُصُورِهِمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (مَعْرُوفًا فِي الْكِتَابِ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} فَقَالَ: هُوَ إِعْطَاءُ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ صِلَةً لَهُ.
قَوْلُهُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ. الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}
4782 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}
قَوْلُهُ: بَابُ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ: أَعْدَلُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْقِسْطِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاسِطِ وَالْمُقْسِطِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ الْكَلْبِيَّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي فِي النِّكَاحِ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِيرَاثَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - بَاب: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} نَحْبَهُ: عَهْدَهُ، {أَقْطَارِهَا} جَوَانِبُهَا، الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا: لَأَعْطَوْهَا
4783 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: نُرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .
4784 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
قَوْلُهُ: بَابُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} عَهْدَهُ) قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أَيْ نَذْرَهُ، وَالنَّحْبُ: النَّذْرُ، وَالنَّحْبُ أَيْضًا النَّفْسُ وَالنَّحْبُ أَيْضًا الْخَطَرُ الْعَظِيمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّحْبُ فِي الْأَصْلِ النَّذْرُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي آخِرِ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قَالَ: قَضَى أَجَلَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، بَلْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ طَلْحَةَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَنْتَ يَا طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بِحَمْلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى الْمَجَازِ، وَقَضَى بِمَعْنَى يَقْضِي. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: مِنْهُمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. وَفِي تَفْسِيرِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ: مِنْهُمْ حَمْزَةُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ. وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَقْطَارُهَا: جَوَانِبُهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا لَأَعْطَوْهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ آتَوْهَا بِالْمَدِّ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِالْقَصْرِ - وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ - فَمَعْنَاهُ جَاءُوهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ) تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ التَّوْبَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، لَكِنْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} وَفِي هَذِهِ أَنَّ الْآيَةَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ، وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْحَدِيثَيْنِ مَعًا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَعْتَمِدُ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ عَلَى عِلْمِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حِفْظِهِ. لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ اكْتَفَى مَعَ ذَلِكَ بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَنَّ فَقْدَهُ فَقْدُ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً، لَا فَقْدُ وُجُودِهَا مَحْفُوظَةً، بَلْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ فَأَخَذْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ خُزَيْمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْآتِيَةِ.
وَأَمَّا قِصَّتُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ فَأَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَوَقَعَتْ لَنَا بِعُلْوٍ فِي جُزْءِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ،
عَنْ عَمِّهِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا، فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ الْفَرَسِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ يُسَاوِمُونَهُ فِي الْفَرَسِ حَتَّى زَادُوهُ عَلَى ثَمَنِهِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - قَالَ: فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ. هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بِعْتُكَ، فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: وَيْلَكَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ إِلَّا الْحَقَّ، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَاسْتَمَعَ الْمُرَاجَعَةَ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَوَقَعَ لَنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ سَوَادُ بْنُ الْحَارِثِ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ شَاهِينَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى فَرَسًا مِنْ سَوَادِ بْنِ الْحَارِثِ فَجَحَدَهُ، فَشَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَهُ: بِمَ تَشْهَدُ وَلَمْ تَكُنْ حَاضِرًا؟ قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ وَأَنَّكَ لَا تَقُولُ إِلَّا حَقًّا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ عَلَيْهِ فَحَسْبُهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ، وَتَذَرَّعَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ادَّعَاهُ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ بِعِلْمِهِ وَجَرَتْ شَهَادَةُ خُزَيْمَةَ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ وَالِاسْتِظْهَارِ عَلَى خَصْمِهِ، فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَشَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقَضَايَا انْتَهَى. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْفِطْنَةِ فِي الْأُمُورِ، وَأَنَّهَا تَرْفَعُ مَنْزِلَةَ صَاحِبِهَا، لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَبَدَاهُ خُزَيْمَةُ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَمَّا اخْتَصَّ بِتَفَطُّنِهِ لِمَا غَفَلَ عَنْهُ غَيْرُهُ مَعَ وُضُوحِهِ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ خُصَّ بِفَضِيلَةِ: مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ عَلَيْهِ فَحَسْبُهُ
(تَنْبِيهٌ): زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِخُزَيْمَةَ لَمَّا جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَتَيْنِ: لَا تَعُدْ أَيْ: تَشْهَدْ عَلَى مَا لَمْ تُشَاهِدْهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا.
التَّبَرُّجُ: أَنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا، {سُنَّةَ اللَّهِ} اسْتَنَّهَا جَعَلَهَا
4785 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ، فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
[الحديث 4785 - طرفه في: 4786]
قَوْلُهُ: بَابُ {قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: أُمَتِّعْكُنَّ. الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مَعْمَرٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَسَقَطَ هَذَا الْعَزْوُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (التَّبَرُّجُ: أَنْ تُخْرِجَ زِينَتَهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْمُهُ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} هُوَ مِنَ التَّبَرُّجِ، وَهُوَ أَنْ يُبْرِزْنَ مَحَاسِنَهُنَّ. وَتَوَهَّمَ مُغْلَطَايُ وَمَنْ قَلَّدَهُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فَنُسِبَ هَذَا إِلَى تَخْرِيجِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ:. كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَتَمَشَّى بَيْنَ الرِّجَالِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ منْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وَتَغَنُّجٌ إِذَا خَرَجْنَ مِنَ الْبُيُوتِ فَنُهِينَ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا كَانَتْ إِلَّا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. هَلْ سَمِعْتَ بِأُولَى إِلَّا وَلَهَا آخِرَةٌ؟ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَكُونُ جَاهِلِيَّةٌ أُخْرَى. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى أَلْفَ سَنَةٍ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ - وَهُوَ الشَّعْبِيُّ - قَالَ: هِيَ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ. وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: الْأُولَى زَمَانُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأُخْرَى زَمَانُ مُحَمَّدٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (سُنَّةَ اللَّهِ: اسْتَنَّهَا: جَعَلَهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَزَادَ: جَعَلَهَا سُنَّةً. وَنَسَبَهُ مُغْلَطَايُ وَمَنْ تَبِعَهُ أَيْضًا إِلَى تَخْرِيجِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهَا حِينَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةُ.
4786 -
وقال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} - إِلَى - {أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَتْ: فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؛ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلْتُ، تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} سَاقُوا كُلُّهُمُ الْآيَةَ إِلَى (عَظِيمًا).
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ:{مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَوْرَدَهُ بِصُورَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، وَكَذَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ) وَرَدَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْيِيرِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: هن حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ، يَعْنِي نِسَاءَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} - حَتَّى بَلَغَ - {أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَظَالِمِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ،
وَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ: حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَقَدْ أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي الْحَدِيثَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي، الْحَدِيثَ. لَكِنْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَفَصَّلَهُ تَفْصِيلًا حَسَنًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ إِلَى آخِرِ قِصَّةِ عُمَرَ فِي الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى عَاتَبَهُ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ: الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَذَكَرَ مُرَاجَعَتَهَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. الْحَدِيثَ.
فَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ بِحَذْفِ الْوَاسِطَةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَنْ عَمْدٍ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَكَأَنَّ مَنْ أَدْرَجَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَشَى عَلَى ظَاهِرِ السِّيَاقِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لِلتَّفْصِيلِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ فَاتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ عَقِبَ فَرَاغِ الشَّهْرِ الَّذِي اعْتَزَلَهُنَّ فِيهِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى نِسَائِهِ أُمِرَ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَاخْتَلَفَ الْحَدِيثَانِ فِي سَبَبِ الِاعْتِزَالِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَضِيَّتَانِ جَمِيعًا سَبَبُ الِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّ قِصَّةَ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ خَاصَّةً بِهِمَا، وَقِصَّةُ سُؤَالِ النَّفَقَةِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسْوَةِ، وَمُنَاسَبَةُ آيَةِ التَّخْيِيرِ بِقِصَّةِ سُؤَالِ النَّفَقَةِ أَلْيَقُ مِنْهَا بِقِصَّةِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَنْ خَيَّرَهَا زَوْجُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ هَلْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَشْبَهَهُمَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَكَذَا قَالَ: الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي التَّخْيِيرِ هَلْ كَانَ فِي الْبَقَاءِ وَالطَّلَاقِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَلْزُومٌ لِلْآخَرِ، وَكَأَنَّهُنَّ خُيِّرْنَ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُطَلِّقُهُنَّ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَهُوَ مُقْتَضَى سِيَاقِ الْآيَةِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ مَحَلَّ الْقَوْلَيْنِ هَلْ فُوِّضَ إِلَيْهِنَّ الطَّلَاقَ أَمْ لَا؟ ولِهَذَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ إِلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي) أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكِ فِي التَّأَنِّي وَعَدَمِ الْعَجَلَةِ حَتَّى تُشَاوِرِي أَبَوَيْكِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ) أَيْ تَطْلُبِي مِنْهُمَا أَنْ يُبَيِّنَا لَكِ رَأْيَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكِ أَمْرًا فَلَا تَفْتَاتِي فِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَعْرِضِيهِ عَلَى أَبَوَيْكِ أَبِي بَكْرٍ وَأُمِّ رُومَانَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أُمَّ رُومَانَ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ مَوْجُودَةٌ، فَيُرَدُّ بِهِ
عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: فَقُلْتُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسَتَأْمِرُ أَبَوَيَّ)؟ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا أُؤَامِرُ أَبَوَيَّ أَبَا بَكْرٍ وَأُمَّ رُومَانَ، فَضَحِكَ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَفَرِحَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا فَعَلَتْ) فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ فِي رِوَايَتِهِ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا حِينَ قَالَهُ لَهُنَّ فَاخْتَرْنَهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ اسْتَقْرَى الْحُجَرَ - يَعْنِي حُجَرَ أَزْوَاجِهِ - فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَذَا، فَقُلْنَ: وَنَحْنُ نَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَتْ. وَقَوْلُهُ: اسْتَقْرَى الْحُجَرَ أَيْ تَتَبَّعَ، وَالْحُجَرُ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ - جَمْعُ حُجْرَةٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، وَالْمُرَادُ مَسَاكِنُ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا قَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلْتُ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا وَإِنَّمَا بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَيُّوبَ، وَعَائِشَةَ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ مُلَاطَفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ وَحِلْمُهُ عَنْهُنَّ وَصَبْرُهُ عَلَى مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ إِدْلَالٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَبْعَثُهُ عَلَيْهِنَّ الْغَيْرَةُ.
وَفِيهِ فَضْلُ عَائِشَةَ لِبُدَاءَتِهِ بِهَا، كَذَا قَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبًا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ: إمَا عِنْدَ اللَّهِ تُرِدْنَ أَمِ الدُّنْيَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا وَكَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِي التَّخْيِيرِ فَلَعَلَّ الْبُدَاءَةَ بِهَا لِذَلِكَ، لَكِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي أَنَّ النِّسْوَةَ كُنَّ يَسْأَلْنَهُ النَّفَقَةَ أَصَحُّ طَرِيقًا مِنْهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَّحِدْ فِيهَا وَقُدِّمَتْ فِي التَّخْيِيرِ دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقْدِيمِهِ لَهَا أَيْضًا فِي الْبُدَاءَةِ بِهَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهَا.
وَفِيهِ أَنَّ صِغَرَ السِّنِّ مَظِنَّةٌ لِنَقْصِ الرَّأْيِ، قَالَ: الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْمِرَ أَبَوَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ يَحْمِلَهَا صِغَرُ السِّنِّ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الْآخَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَلَكَةِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْعَارِضَ، فَإِذَا اسْتَشَارَتْ أَبَوَيْهَا أَوْضَحَا لَهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَمَا فِي مُقَابِلِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَطِنَتْ عَائِشَةُ لِذَلِكَ قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَخَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَاثَتِي، وَهَذَا شَاهِدٌ لِلتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَائِشَةَ وَبَيَانُ كَمَالِ عَقْلِهَا وَصِحَّةِ رَأْيِهَا مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا، وَأَنَّ الْغَيْرَةَ تَحْمِلُ الْمَرْأَةَ الْكَامِلَةَ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهَا لِسُؤَالِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُخْبِرَ أَحَدًا مِنْ أَزْوَاجِهِ بِفِعْلِهَا، وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنَ الْغَيْرَةِ وَمَحَبَّةِ الِاسْتِبْدَادِ دُونَ ضَرَائِرِهَا لَمْ يُسْعِفْهَا بِمَا طَلَبَتْ مِنْ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ وَالْوَسِيطِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ يَخْتَارَ نِسَاؤُهُ الْفِرَاقَ، فَإِنْ كَانَا ذَكَرَاهُ فِيمَا فَهِمَاهُ مِنَ السِّيَاقِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم تَخْيِيرُ أَزْوَاجِهِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ. نَعَمْ، ادَّعَى بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّخْيِيرَ طَلَاقٌ - أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَاخْتُصَّ هُوَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ تَعَالَى. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَا جَاءَ أَنَّ مِنَ الْأَزْوَاجِ حِينَئِذٍ مَنِ اخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ثُمَّ فَعَلَ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ) يَعْنِي عَنْ عَائِشَةَ،
وَصَلَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو سُفْيَانَ، الْمَعْمَرِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ) أَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَقَصَّرَ مَنْ قَصَرَ تَخْرِيجَهَا عَلَى ابْنِ مَاجَهْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيِّ فَأَخْرَجَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَتَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى عُرْوَةَ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ كَانَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا فَحَدَّثَ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَإِلَى هَذَا مَالَ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ رَوَاهُ عُقَيْلٌ، وَشُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
4787 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
[الحديث 4787 - طرفه في: 7420]
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) هُوَ الرَّازِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدْ قَالَ: فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ سَنَةَ عَشْرٍ. فَكَأَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ عَنْهُ، وَلِهَذَا حَدَّثَ عَنْهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ بِوَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ) كَذَا قَالَ مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادٍ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَعَارِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِهِمَا: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ فَلَعَلَّ لِحَمَّادٍ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا.
قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: وَكَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَجَاءَهُ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: {زَوَّجْنَاكَهَا} قَالَ: يَعْنِي زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فَسَاقَهَا سِيَاقًا وَاضِحًا حَسَنًا، وَلَفْظُهُ: بَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهَا رَضِيَتْ بِمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ اللَّهُ عز وجل نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ أَنَّهَا مِنْ أَزْوَاجِهِ فَكَانَ يَسْتَحِي أَنْ يَأْمُرَ بِطَلَاقِهَا، وَكَانَ لَا يَزَالُ يَكُونُ بَيْنَ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمْسِكَ عَلَيْهِ زَوْجَهُ وَأَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَكَانَ يَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَعِيبُوا عَلَيْهِ وَيَقُولُوا تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، وَكَانَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدًا. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا أَتَاهُ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ قَالَ اللَّهُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي مُزَوِّجُكَهَا، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}. وَقَدْ أَطْنَبَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي تَحْسِينِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ الَّذِي أَوْرَدْتُهُ، وَهُوَ أَوْضَحُ سِيَاقًا وَأَصَحُّ إِسْنَادًا إِلَيْهِ لِضَعْفِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَيْنَبَ اشْتَدَّ عَلَيَّ لِسَانُهَا، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهُ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، قَالَ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَيَخْشَى قَالَةَ النَّاسِ. وَوَرَدَتْ آثَارٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ وَنَقَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَنْبَغِي التَّشَاغُلُ بِهَا، وَالَّذِي أَوْرَدْتُهُ مِنْهَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخْفِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ إِخْبَارُ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ، وَالَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى إِخْفَاءِ ذَلِكَ خَشْيَةَ قَوْلِ النَّاسِ: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، وَأَرَادَ اللَّهُ إِبْطَالَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّبَنِّي بِأَمْرٍ لَا أَبْلَغُ فِي الْإِبْطَالِ مِنْهُ وَهُوَ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ الَّذِي يُدْعَى ابْنًا. وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمْ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخَبْطُ فِي تَأْوِيلِ مُتَعَلِّقِ الْخَشْيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} - يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ - {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} - بِالْعِتْقِ - {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدَرًا مَقْدُورًا} وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا: تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الْآيَةَ، وَكَانَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. قُلْتُ: حَتَّى صَارَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَمَوَالِيكُمْ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ إِلَى قَوْلِهِ: لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَدْرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَظُنُّ الزَّائِدَ بَعْدَهُ مُدْرَجًا فِي الْخَبَرِ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ لَهُ عَنْ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام لِزَيْدٍ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} اخْتِبَارًا لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا أَوْ عَنْهَا، فَلَمَّا أَطْلَعَهُ زَيْدٌ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا مِنَ النُّفْرَةِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْ تَعَاظُمِهَا عَلَيْهِ وَبَذَاءَةِ لِسَانِهَا أَذِنَ لَهُ فِي طَلَاقِهَا، وَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ الْآمْرَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: اذْكُرْهَا عَلَيَّ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَبْلَغِ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانَ زَوْجُهَا هُوَ الْخَاطِبُ، لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَهْرًا بِغَيْرِ رِضَاهُ. وَفِيهِ أَيْضًا اخْتِبَارُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا هَلْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ فِعْلِ الْمَرْأَةِ الِاسْتِخَارَةَ وَدُعَائِهَا عِنْدَ الْخِطْبَةِ قَبْلَ الْإِجَابَةِ، وَأَنَّ مَنْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ عز وجل يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا هُوَ الْأَحَظُّ لَهُ وَالْأَنْفَعُ دُنْيَا وَأُخْرَى.
7 - بَاب قَوْلِهِ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَرْجُو} تُؤَخِّرُ. أَرْجِئْهُ أَخِّرْهُ
4788 -
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقُولُ: أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ: مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ
[الحديث 4788 - طرفه في: 5113]
4789 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} فَقُلْتُ لَهَا مَا كُنْتِ تَقُولِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَقُولُ لَهُ إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِمًا"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَمَّا وَقَعَ أَشْفَقَ بَعْضُ الْأَزْوَاجِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ فَفَوَّضْنَ أَمْرَ الْقَسْمِ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَتْ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُرْجِي: تُؤَخِّرُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (أَرْجِهْ: أَخِّرْهُ) هَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ، ذَكَرَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} قَالَ: أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى) هُوَ الطَّائِيُّ وَقِيلَ: الْبَلْخِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْعِيدَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا) هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُخْبِرِ عَلَى الصِّيغَةِ وَهُوَ جَائِزٌ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَغَارُ) كَذَا وَقَعَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغَيْرَةِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِلَفْظِ كَانَتْ تُعَيَّرُ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدٍ.
قَوْلُهُ: (وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْوَاهِبَةَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي طَلَبَهَا قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِيَ ابْنَةً - فَذَكَرَتْ مِنْ جَمَالِهَا - فَآثَرْتُكَ بِهَا. فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُهَا. فَلَمْ تَزَلْ تَذْكُرُ حَتَّى قَالَتْ: لَمْ تُصْدَعْ قَطُّ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ابْنَتِكِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَهَذِهِ امْرَأَةٌ أُخْرَى بِلَا شَكٍّ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ مُعَلَّقًا. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مِنَ الْوَاهِبَاتِ أُمُّ شَرِيكٍ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ. وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّ مِنَ الْوَاهِبَاتِ فَاطِمَةُ بِنْتُ شُرَيْحٍ. وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَى بِنْتُ الْحَطِيمِ مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ. وَمِنْهُنَّ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، جَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ وَهُوَ فِي هَذَا الصَّحِيحِ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ
سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى إِرَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، وَقَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} وَأَشَارَتْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ
قَوْلُهُ: (مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ) أَيْ مَا أَرَى اللَّهَ إِلَّا مُوجِدًا لِمَا تُرِيدُ بِلَا تَأْخِيرٍ، مُنْزِلًا لِمَا تُحِبُّ وَتَخْتَارُ. وَقَوْلُهُ:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَيْ تُؤَخِّرْهُنَّ بِغَيْرِ قَسْمٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي رَزِينٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قَالَ: كُنَّ نِسَاءً وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَأَ بَعْضَهُنَّ لَمْ يَنْكِحْهُنَّ، وَهَذَا شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِأَحَدٍ مِنَ الْوَاهِبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أَنَّهُ كَانَ هَمَّ بِطَلَاقِ بَعْضِهِنَّ، فَقُلْنَ لَهُ لَا تُطَلِّقْنَا وَاقْسِمْ لَنَا مَا شِئْتَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِبَعْضِهِنَّ قَسْمًا مُسْتَوِيًا، وَهُنَّ اللَّاتِي آوَاهُنَّ، وَيَقْسِمُ لِلْبَاقِي مَا شَاءَ وَهُنَّ اللَّاتِي أَرْجَأَهُنَّ. فَحَاصِلُ مَا نُقِلَ فِي تَأْوِيلِ (تُرْجِي) أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: تُطَلِّقُ وَتُمْسِكُ، ثَانِيهَا: تَعْتَزِلُ مَنْ شِئْتَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَتَقْسِمُ لِغَيْرِهَا، ثَالِثُهَا: تَقْبَلُ مَنْ شِئْتَ مِنَ الْوَاهِبَاتِ وَتَرُدَّ مَنْ شِئْتَ. وَحَدِيثُ الْبَابِ يُؤَيِّدُ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. وَظَاهِرُ مَا حَكَتْهُ عَائِشَةُ مِنَ اسْتِئْذَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرْجِ أَحَدًا مِنْهُنَّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَزِلْ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْجَأَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَطْلَقَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ كَيْفَ شَاءَ فَلَمْ يَقْسِمْ إِلَّا بِالسَّوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (يَسْتَأْذِنُ الْمَرْأَةَ فِي الْيَوْمِ) أَيِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ نَوْبَتُهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِمًا) وَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى الْمَرْوَزِيِّ. (تَكْمِيلٌ): اخْتُلِفَ فِي الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} هَلِ الْمُرَادُ بَعْدَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فَكَانَ يَحِلُّ لَهُ صِنْفٌ دُونَ صِنْفٍ؟ أَوْ بَعْدَ النِّسَاءِ الْمَوْجُودَاتِ عِنْدَ التَّخْيِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ، وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُجَازَاةً لَهُنَّ عَلَى اخْتِيَارِهِنَّ إِيَّاهُ، نَعَمْ، الْوَاقِعُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها مِثْلُهُ.
8 - بَاب: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} يُقَالُ إِنَاهُ إِدْرَاكُهُ أَنَى يَأْنِي أَنَاةً
{لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ قُلْتَ: قَرِيبَةً، وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا وَلَمْ تُرِدْ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنْ الْمُؤَنَّثِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
4790 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عن يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ.
4791 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَع مُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا هُوَ يتأهب لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا، فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ.
[الحديث 4791 - أطرافه في: 4792، 4793، 4794، 5154، 5163، 5166، 5168، 5170، 5171، 5466، 6238، 6226، 6271، 7421]
4792 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ: لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الْقَوْمَ، فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ، وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَضُرِبَ الْحِجَابُ، وَقَامَ الْقَوْمُ
4793 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بُنِيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا، فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ، قَالَ: فارْفَعُوا طَعَامَكُمْ. وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَتُ اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ رَهْطٍ فِي الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ - وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ - فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا
نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَمَا أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا، فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ
4794 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُنَّ وَيَدْعُونَ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَاب"
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"
4795 -
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ؟ قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} - إِلَى قَوْلِهِ - {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَسَاقَ غَيْرُهُمَا الْآيَةَ كُلَّهَا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: إِنَاهُ إِدْرَاكَهُ، أَنَى يَأْنِي أَنَاةً فَهُوَ آنٍ) أَنَى بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مَقْصُورٌ، وَيَأْنِي بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَنَاةً بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ مُخَفَّفًا وَآخِرُهُ هَاءُ تَأْنِيثٍ بِغَيْرِ مَدٍّ مَصْدَرٌ، قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أَيْ: إِدْرَاكَهُ وَبُلُوغَهُ، وَيُقَالُ: أَنَى يَأْنِي أَنْيًا أَيْ بَلَغَ وَأَدْرَكَ، قَالَ: الشَّاعِرُ:
تَمَحَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِنَوْمٍ
…
أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
وَقَوْلُهُ: أَنْيًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ مَصْدَرٌ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحْدَهُ آنَاهُ بِمَدِّ أَوَّلِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مِثْلَ آنَاءِ اللَّيْلِ وَلَكِنْ بِغَيْرِ هَمْزٍ فِي آخِرِهِ.
قَوْلُهُ: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ قُلْتَ: قَرِيبَةٌ، وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا وَلَمْ تُرِدِ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ الْذَكَّرِ وَالْأُنْثَى) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِمَا وَهُوَ أَوْجَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنِ اتَّجَهَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّهُ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} مَجَازُهُ مَجَازُ
الظَّرْفِ هَاهُنَا، وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لِلسَّاعَةِ لَكَانَ قَرِيبَةٌ وَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا فَإِنَّ لَفْظَهَا فِي الْوَاحِدِ وَفِي الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَاحِدٌ بِغَيْرِ هَاءٍ وَبِغَيْرِ جَمْعٍ وَبِغَيْرِ تَثْنِيَةٍ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْيَوْمَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ أَوِ الْمُرَادُ شَيْئًا قَرِيبًا أَوْ زَمَانًا قَرِيبًا أَوِ التَّقْدِيرُ قِيَامُ السَّاعَةِ فَحُذِفَ قِيَامُ وَرُوعِيَتِ السَّاعَةُ فِي تَأْنِيثِ تَكُونُ وَرُوعِيَ الْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ فِي تَذْكِيرِ قَرِيبًا وَقِيلَ قَرِيبًا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالَ الظُّرُوفِ فَهُوَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا حَدِيثُ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوَّلُهُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَوَائِلِ الصَلَاةِ وَفِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ، أَوْرَدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ عَنْ أَنَسٍ بَعْضُهَا أَتَمُّ مِنْ بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ: لَمَّا أُهْدِيَتْ أَيْ لَمَّا زَيَّنَتْهَا الْمَاشِطَةُ وَزُفَّتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ الصَّغَانِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ هُدِيَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ، لَكِنَّ تَوَارُدَ النُّسَخِ عَلَى إِثْبَاتِهَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْهَدِيَّةِ فِي هَذَا اسْتِعَارَةً.
قَوْلُهُ: (لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ وَكَانَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ. لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ طَعَامًا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّعَامِ قَالَ: فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، قَالَ: فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ فَأَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ لَهُ أُمُّ سَلِيمٍ حَيْسًا، فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا، وَذَهَبْتُ فَدَعَوْتُهُمْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِشْبَاعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَيْهِ بِاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ سَلِيمٍ الْحَيْسَ.
وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَنَا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا، قَالَ: فَارْفَعُوا طَعَامَكُمْ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ فِيهِ قَالَ: وَزَيْنَبُ جَالِسَةٌ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةٌ قَدْ أُعْطِيَتْ جَمَالًا، وَبَقِيَ فِي الْبَيْتِ ثَلَاثَةٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ: فَجَعَلَ يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ، وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ وَوَافَقَهُ بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا قَامَ وَخَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ كَانُوا ثَلَاثَةً وَفِي آخِرِ مَا رَجَعَ تَوَجَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَصَارُوا اثْنَيْنِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْمِ ابْنِ التِّينِ بِأَنَّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّحْدِيثُ وَقَعَ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَقَطْ وَالثَّالِثُ كَانَ سَاكِتًا، فَمَنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ لَحَظَ الْأَشْخَاصَ وَمَنْ ذَكَرَ الِاثْنَيْنِ لَحَظَ سَبَبَ الْعُقُودِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرَت النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا) هَكَذَا وَقَعَ الْجَزْمُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِخُرُوجِهِمْ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْجَعْدِ الْمَذْكُورَةِ، وَاتَّفَقَتْ رِوَايَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحُمَيْدٍ عَلَى
أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، وَلَفْظُ حُمَيْدٍ فَلَا أَدْرِي أنا أَخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ فَمَا أَدْرِي أَخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَيْ أُخْبِرَ بِالْوَحْيِ، وَهَذَا الشَّكُّ قَرِيبٌ مِنْ شَكِّ أَنَسٍ فِي تَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَ الدُّعَاءَ بِالِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَنَسٍ جَزَمَ عَنْهُ بِأَنَّهُ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُهُ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فَكَانَ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَجَزَمَ.
قَوْلُهُ: (فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ) زَادَ أَبُو قِلَابَةَ فِي رِوَايَتِهِ {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَضُرِبَ الْحِجَابُ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَالْأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَلَمَّا أَرْخَى السِّتْرَ دُونِي ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَيَنْزِلَنَّ فِيهِ قُرْآنٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُنَّ وَيَدْعُونَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُنَّ قُلْنَ لَهُ: كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ.
قَوْلُهُ: (فَتَقَرَّى) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، أَيْ تَتَبَّعَ الْحُجُرَاتِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، يُقَالُ مِنْهُ قَرَيْتُ الْأَرْضَ إِذَا تَتَبَّعْتُهَا أَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ وَنَاسًا بَعْدَ نَاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ وَمُحَصِّلُ الْقِصَّةِ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا الْوَلِيمَةَ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَاسْتَحْيَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ فَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَفْطِنُوا لِمُرَادِهِ فَيَقُومُوا بِقِيَامِهِ، فَلَمَّا أَلْهَاهُمُ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَخَرَجَ فَخَرَجُوا بِخُرُوجِهِ، إِلَّا الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ لَمْ يَفْطِنُوا لِذَلِكَ لِشِدَّةِ شُغْلِ بَالِهِمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ لِشِدَّةِ حَيَائِهِ فَيُطِيلُ الْغَيْبَةَ عَنْهُمْ بِالتَّشَاغُلِ بِالسَّلَامِ عَلَى نِسَائِهِ، وَهُمْ فِي شُغْلِ بَالِهِمْ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ أَفَاقَ مِنْ غَفْلَتِهِ فَخَرَجَ وَبَقِيَ الِاثْنَانِ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ وَوَصَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَآهُمَا فَرَجَعَ فَرَأَيَاهُ لَمَّا رَجَعَ، فَحِينَئِذٍ فَطِنَا فَخَرَجَا، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأُنْزِلَتِ الْآيَةُ، فَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنَسٍ خَادِمِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ بِذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ قِيَامِ الْقَوْمِ. وَالْأُولَى وَغَيْرُهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدُ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ حَالَ قِيَامِهِمْ أَيْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَقَدْ قَامُوا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجَعْدِ: فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} - إِلَى قَوْلِهِ - {مِنَ الْحَقِّ} . وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الْحِجَابِ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ عِيَاضٌ: فَرْضُ الْحِجَابِ مِمَّا اخْتَصَصْنَ بِهِ فَهُوَ فُرِضَ عَلَيْهِنَّ بِلَا خِلَافٍ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ كَشْفُ ذَلِكَ فِي شَهَادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا إِظْهَارُ شُخُوصِهِنَّ وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ مِنْ بِرَازٍ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ حَفْصَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ سَتَرَهَا النِّسَاءُ عَنْ أَنْ يُرَى شَخْصُهَا؛ وَأَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ جُعِلَتْ لَهَا الْقُبَّةُ فَوْقَ نَعْشِهَا لِيُسْتَرَ شَخْصُهَا. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ، وَقَدْ كُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْجُجْنَ وَيَطُفْنَ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُنَّ الْحَدِيثَ وَهُنَّ مُسْتَتِرَاتِ الْأَبَدَانِ لَا الْأَشْخَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ قَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ، لِعَطَاءٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ طَوَافَ عَائِشَةَ: أَقَبْلَ الْحِجَابُ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ بَعْدَ
الْحِجَابِ. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا) مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّ عَنْعَنَةَ حُمَيْدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرِ مُؤَثِّرَةٍ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُ، وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ أَيُّوبَ الْغَافِقِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ تَغْيِيرٌ فَاحِشٌ، وَإِنَّمَا هُوَ سَعِيدٌ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ خَرَجَتْ سَوْدَةُ - أَيْ بِنْتُ زَمْعَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتُ: وَقَعَ هُنَا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ، فَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ. قُلْتُ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْحِجَابِ الثَّانِي. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَقَعَ فِي قَلْبِهِ نُفْرَةٌ مِنَ اطِّلَاعِ الْأَجَانِبِ عَلَى الْحَرِيمِ النَّبَوِيِّ، حَتَّى صَرَّحَ بِقَوْلِهُ لَهُ عليه الصلاة والسلام: احْجُبْ نِسَاءَكَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، ثُمَّ قَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُبْدِينَ أَشْخَاصَهُنَّ أَصْلًا وَلَوْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ، فَبَالَغَ فِي ذَلِكَ، فَمَنَعَ مِنْهُ، وَأَذِنَ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ لِحَاجَتِهِنَّ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ لَيْسَ مُطَابِقًا، بَلْ إِيرَادُهُ فِي عَدَمِ الْحِجَابِ أَوْلَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ لِنُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ سَبَبٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: كُنْتُ آكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا فِي قَعْبٍ، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ فَأَكَلَ، فَأَصَابَ إِصْبَعُهُ إِصْبَعِي فَقَالَ: حِسَّ - أَوْ أَوْهُ - لَوْ أُطَاعُ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ. فَنَزَلَ الْحِجَابُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ قِصَّةِ زَيْنَبَ، فَلِقُرْبِهِ مِنْهَا أَطْلَقْتُ نُزُولَ الْحِجَابِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِيَخْرُجَ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَدَخَلَ عُمَرُ فَرَأَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: لَعَلَّكَ آذَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ قُمْتُ ثَلَاثًا لِكَيْ يَتْبَعَنِي فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَالَ: لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ حِجَابًا، فَإِنَّ نِسَاءَكَ لَسْنَ كَسَائِرِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِنَّ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ.
9 - بَاب {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
* لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
4796 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ: لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم: وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِين؟ عَمُّكِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ. قَالَ عُرْوَةُ: فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ} - إِلَى قَوْلِهِ - شَهِيدًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي الرَّضَاعِ. وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ:{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إِلَخْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: الْعَمُّ صِنْوُ الْأَبِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُطَابَقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ أَصْلًا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا أَوْ خَالِهَا، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمَا: لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَا: لِأَنَّهُمَا يَنْعَتَاهَا لِأَبْنَائِهِمَا، وَكَرِهَا لِذَلِكَ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَ عَمِّهَا أَوْ خَالِهَا.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَفْلَحَ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ مَا فِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُصَلُّونَ} يُبَرِّكُونَ {لَنُغْرِيَنَّكَ} لَنُسَلِّطَنَّكَ
4797 -
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
4798 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ وَقَالَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيم"
[الحديث 4798 - طرفه في: 6358]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَهَا غَيْرُهُ إِلَى (تَسْلِيمًا).
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ هُوَ ابْنُ أَنَسٍ بِهَذَا وَزَادَ فِي آخِرِهِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُصَلُّونَ يُبَرِّكُونَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) قَالَ: يُبَرِّكُونَ عَلَى النَّبِيِّ، أَيْ يَدْعُونَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ، فَيُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي الْعَالِيَةِ، لَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ. وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ إِضَافَةِ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ دُونَ السَّلَامِ وَأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا وَبِالسَّلَامِ، فَقُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ لَهُ مَعْنَيَانِ التَّحِيَّةُ وَالِانْقِيَادُ، فَأُمِرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِصِحَّتِهِمَا مِنْهُمْ، وَاللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ الِانْقِيَادُ لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِمْ دَفْعًا لِلْإِيهَامِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (لَنُغْرِيَنَّكَ: لَنُسَلِّطَنَّكَ) كَذَا وَقَعَ هَذَا هُنَا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْآيَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ السُّورَةِ، فَلَعَلَّهُ مِنَ النَّاسِخِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.
قَوْلُهُ: (سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى) هُوَ الْأُمَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي بَعْدَ هَذَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالسَّلَامِ مَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ فِي التَّشَهُّدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالسَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ نَفْسُهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ. وَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَالِدِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الْآيَةَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟.
قَوْلُهُ: (فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ)؟ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ زَادَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي رِوَايَتِهِ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.
قَوْلُهُ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ.
قَوْلُهُ: (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) أَيْ تَقَدَّمَتْ مِنْكَ الصَّلَاةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فَنَسْأَلُ مِنْكَ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْفَاضِلِ يَثْبُتُ لِلْأَفْضَلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَنِ الْإِيرَادِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى، وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ التَّشْبِيهَ لَيْسَ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ الْكَامِلِ بِالْأَكْمَلِ بَلْ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ بَيَانِ حَالِ مَا لَا يُعْرَفُ بِمَا يُعْرَفُ، لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَالَّذِي يَحْصُلُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ أَقْوَى وَأَكْمَلُ. وَأَجَابُوا بِجَوَابٍ آخَرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِلْحَاقِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ لِلْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ آلِ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ آلِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْبِيَاءُ بِخِلَافِ آلِ مُحَمَّدٍ. وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ التَّفْصِيلُ الْوَاقِعُ فِي غَالِبِ طُرُقِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ أَيْضًا: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، قَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) كَذَا فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَسَأَذْكُرُ تَحْرِيرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ) يَعْنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يُوسُفَ لَمْ يَذْكُرْ آلَ إِبْرَاهِيمَ عَنِ اللَّيْثِ وَذَكَرَهَا أَبُو صَالِحٍ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (وَالدَّرَاوَرْدِيُّ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَزِيدَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ شَيْخُ اللَّيْثِ فِيهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُمَا رَوَيَاهُ بِإِسْنَادِ اللَّيْثِ، فَذَكَرَ آلَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ فِيهِ: وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا وَقَعَ تَبَعًا، وَالْمَنْعُ إِذَا وَقَعَ مُسْتَقِلًّا، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّهُ صَارَ شِعَارًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ، فَلَا يُقَالُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا، وَيُقَالُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى صِدِّيقِهِ أَوْ خَلِيفَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عز وجل وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا، لِأَنَّ هَذَا الثَّنَاءَ صَارَ شِعَارا للَّهِ سُبْحَانَهُ فلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا فِيمَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَلَا فِي قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى وَلَا فِي قَوْلِ امْرَأَةِ جَابِرٍ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَفَضَّلَ مِنْ حَقِّهِ بِمَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ إِذْنٌ فِي ذَلِكَ. وَيُقَوِّي الْمَنْعَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَارَ شِعَارًا لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ.
وَهَلِ الْمَنْعُ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى؟ حَكَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَصَحَّحَ الثَّانِي. وَقَدْ رَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ نَاسًا مِنَ النَّاسِ الْتَمَسُوا عَمَلَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ نَاسًا مِنَ الْقُصَّاصِ أَحْدَثُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْلَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ، وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدَعُوا مَا سِوَى ذَلِكَ ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: لَا تَصْلُحُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الِاسْتِغْفَارُ وَذَكَرَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.
11 - بَاب {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}
4799 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، وَخِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} .
قَوْلُهُ: بَابُ {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} : ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِسَنَدِهِ مُطَوَّلًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ الْجَبَلَ، فَمَاتَ هَارُونُ، فَقَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، كَانَ أَلْيَنَ لَنَا مِنْكَ وَأَشَدَّ حُبًّا فَآذَوْهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَحَمَلَتْهُ فَمَرَّتْ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُرَادَ بِالْأَذَى فِي قَوْلِهِ: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا
مُوسَى}. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ مِنْ هَذَا، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ سَبَبَانِ فَأَكْثَرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
34 - سُورَةُ سَبَأٍ
يُقَالُ {مُعَاجِزِينَ} مُسَابِقِينَ. بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ. مُعَاجِزِي: مُسَابِقِي. {سَبَقُوا} فَاتُوا. {لا يُعْجِزُونَ} لَا يُفَوِّتُونَ. {يَسْبِقُونَا} يُعْجِزُونَا. قَوْلُهُ {بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ. وَمَعْنَى {مُعَاجِزِينَ} مُغَالِبِينَ. يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ. {مِعْشَارَ} عُشْرَ. يُقَالُ: الْأُكُلُ الثَّمَرَةُ. بَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا يَعْزُبُ} لَا يَغِيبُ. سَيْلَ الْعَرِمِ: السَّدُّ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ فِي السَّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الْوَادِي فَارْتَفَعَتَا عَنِ الْجَنْبَتيْنِ وَغَابَ عَنْهُمَا الْمَاءُ فَيَبِسَتَا، وَلَمْ يَكُنِ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ مِنَ السَّدِّ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ عمرو بْنُ شُرَحْبِيلَ:{الْعَرِمِ} الْمُسْنَاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَرِمُ: الْوَادِي. السَّابِغَاتُ: الدُّرُوعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُجَازَى: يُعَاقَبُ. {أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} بِطَاعَةِ اللَّهِ. {مَثْنَى وَفُرَادَى} وَاحِدٌ وَاثْنَيْنِ. {التَّنَاوُشُ} الرَّدُّ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا. {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ. {بِأَشْيَاعِهِمْ} بِأَمْثَالِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَالْجَوَابِ} كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ. الْخَمْطُ: الْأَرَاكُ. وَالْأَثْلُ: الطَّرْفَاءُ. {الْعَرِمِ} الشَّدِيدِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ سَبَأٍ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَ لَفْظُ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَهَذِهِ السُّورَةُ سُمِّيَتْ بِقَوْلِهِ فِيهَا: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الْآيَةَ، قَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: هُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ قَالَ: أُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا سَبَأٌ، أَرْضٌ أَوِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ، فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَرْوَةَ صَحَّحَهُمَا الْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي حَدِيثِ فَرْوَةَ زِيَادَةً أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَبَأَ قَوْمٌ كَانَ لَهُمْ عِزٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَرْتَدُّوا فَأُقَاتِلَهُمْ، قَالَ: مَا أُمِرْتُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الْآيَاتِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا سَبَأٌ؟ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْأَنْسَابِ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ. وَأَصْلُهُ قِصَّةُ سَبَأٍ. وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَأَخْرَجَ بَعْضَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَخْرَجَهَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: {مُعَاجِزِينَ} مُسَابِقِينَ، بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ، مُعَاجِزِي مُسَابِقِي، سَبَقُوا فَاتُوا، لَا يَعْجِزُونَ لَا يَفُوتُونَ، يَسْبِقُونَا يُعْجِزُونَا.
قَوْلُهُ: بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ وَمَعْنَى مُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ) أَمَّا قَوْلُهُ مُعَاجِزِينَ مُسَابِقِينَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أَيْ مُسَابِقِينَ، يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمُعْجِزِي أَيْ: سَابِقِي. وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْ مُعَاجِزِينَ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى لِابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو مُعْجِزِينَ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا، وَقِيلَ: مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: مُعَانِدِينَ
وَمُغَالِبِينَ، وَمَعْنَى مُعْجِزِينَ: نَاسِبِينَ غَيْرَهُمْ إِلَى الْعَجْزِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِمُعْجِزِينَ فَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُعَاجِزِي: مُسَابِقِي فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ وَثَبَتَ عِنْدَهُمَا مُعَاجِزِينَ: مُغَالِبِينَ وَتَكَرَّرَ لَهُمَا بَعْدُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ بَقِيَّةُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ كَمَا قَدَّمْتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَبَقُوا إِلَخْ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} مَجَازُهُ فَاتُوا {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} أَيْ: لَا يَفُوتُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَسْبِقُونَا فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا أَيْ يُعْجِزُونَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِمُعْجِزِينَ بِفَائِتِينَ فَكَذَا وَقَعَ مُكَرَّرًا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُعَاجِزِينَ: مُغَالِبِينَ إِلَخْ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: مُعَانِدِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُعَاجِزِينَ قَالَ: مُرَاغِمِينَ. وَكُلُّهَا بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (مِعْشَارَ: عُشْرَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أَيْ عُشْرَ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَمَا بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مِعْشَارَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْجِسْمِ وَالْوَلَدِ وَالْعَدَدِ، وَالْمِعْشَارُ: الْعُشْرُ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ الْأُكُلُ الثَّمَرَةُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} قَالَ: الْخَمْطُ: هُوَ كُلُّ شَجَرٍ ذِي شَوْكٍ، وَالْأُكُلُ: الْجَنَى أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَقْصُورٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الثَّمَرَةِ.
قَوْلُهُ: (بَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} مَجَازُهُ مَجَازُ الدُّعَاءِ، وَقَرَأَهُ قَوْمٌ بَعِّدْ يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ. قُلْتُ: قِرَاءَةُ بَاعِدْ لِلْجُمْهُورِ، وَقَرَأَهُ بَعِّدْ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهِشَامٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا يَعْزُبُ} لَا يَغِيبُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (سَيْلَ الْعَرِمِ السُّدِّ) كَذَا لِلْأَك ثَرِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ الشَّدِيدُ بِمُعْجَمَةٍ وَزْنَ عَظِيمٍ.
قَوْلُهُ: (فَشَقَّهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُعْجَمَةٍ قَبْلَ الْقَافِ الثَّقِيلَةِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَبَثَقَهُ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ قَبْلَ الْقَافِ الْخَفِيفَةِ، قَالَ: وَهُوَ الْوَجْهُ، تَقُولُ: بَثَقْتَ النَّهْرَ إِذَا كَسَرْتَهُ لِتَصْرِفَهُ عَنْ مَجْرَاهُ.
قَوْلُهُ: (فَارْتَفَعَتَا عَنِ الْجَنَبَتَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ نُونٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةِ تَثْنِيَةُ جَنَّةٍ. وَاسْتُشْكِلَ هَذَا التَّرْتِيبُ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى الْجَنَّتَيْنِ، وَارْتَفَعَتِ الْجَنَّتَانِ عَنِ الْمَاءِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِارْتِفَاعِ الزَّوَالُ أَيِ: ارْتَفَعَ اسْمُ الْجَنَّةِ مِنْهُمَا، فَالتَّقْدِيرُ: فَارْتَفَعَتِ الْجَنَّتَانِ عَنْ كَوْنِهِمَا جَنَّتَيْنِ. وَتَسْمِيَةُ مَا بُدِّلُوا بِهِ جَنَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنِ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ مِنَ السُّدِّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ مِنَ السَّيْلِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ السُّيُولِ. وَهَذَا الْأَثَرُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا وَقَالَ: السُّدُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَقَالَ: فَشَقَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ الثَّقِيلَةِ، وَقَالَ: عَلَى الْجَنَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ جَنَّةٍ كَمَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ؛ الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ. الْعَرِمُ الْوَادِي) أَمَّا قَوْلُ عَمْرٍو فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ فَذَكَرَهُ سَوَاءً، وَاللَّحْنُ: اللُّغَةُ، وَالْمُسَنَّاةُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَضُبِطَ فِي أَصْلِ الْأَصِيلِيِّ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ بِهَا مَا يُبْنَى فِي عُرْضِ الْوَادِي لِيَرْتَفِعَ السَّيْلُ وَيَفِيضَ عَلَى الْأَرْضِ وَكَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ عَرَامَةِ الْمَاءِ وَهُوَ ذَهَابُهُ كُلَّ مَذْهَبٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ وَهِيَ مُسَنَّاةٌ كَانَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا، فَيُسَيِّبُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الْآخَرِ، وَلَا يَنْفُذُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ السَّنَةَ
الْمُقْبِلَةَ، وَكَانُوا أَنْعَمَ قَوْمٍ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بَثَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمُسَنَّاةِ، فَغَرِقَتْ أَرْضُهُمْ وَدَقَّتِ الرَّمْلُ بُيُوتَهُمْ وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، حَتَّى صَارَ تَمْزِيقُهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ مَثَلًا يَقُولُونَ: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ. وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الْعَرِمُ اسْمُ الْوَادِي، وَقِيلَ: الْعَرِمُ اسْمُ الْجُرَذِ الَّذِي خَرَّبَ السَّدَّ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةُ السَّيْلِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرَامَةِ، وَقِيلَ: اسْمُ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَيْلُ الْعَرِمِ وَاحِدَتُهَا عَرِمَةٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ يُحْبَسُ بِهِ الْمَاءُ يُبْنَى فَيُشْرَفُ بِهِ عَلَى الْمَاءِ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ، وَيُتْرَكُ فِيهِ سَبِيلٌ لِلسَّفِينَةِ، فَتِلْكَ الْعَرِمَاتُ وَاحِدَتُهَا عَرِمَةٌ.
قَوْلُهُ: (السَّابِغَاتُ الدُّرُوعُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أَيْ دُرُوعًا وَاسِعَةً طَوِيلَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازِي يُعَاقِبُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، وَهُوَ الْكَافِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ.
(تَنْبِيهٌ): قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْحَصْرِ فِي الْكُفْرِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْكُفْرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وَقِيلَ:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وَقِيلَ: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقِيلَ: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} وَقِيلَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ، وَقِيلَ: آيَةُ الدَّيْنِ، وَقِيلَ:{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} وَهَذَا الْأَخِيرُ نَقَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَقِبَ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَفِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قَوْلُهُ: (أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ: بِطَاعَةِ اللَّهِ، مَثْنَى وَفُرَادَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (التَّنَاوُشُ: الرَّدُّ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: (وَأَنَّى لَهُمَا التَّنَاوُشُ) قَالَ: رَدٌّ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا. وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ: يَسْأَلُونَ الرَّدَّ، وَلَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ.
قَوْلُهُ: (وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ: مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ. أَوْ زَهْرَةٍ.
قَوْلُهُ: (بِأَشْيَاعِهِمْ: بِأَمْثَالِهِمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ قَالَ: الْكُفَّارُ مِنْ قَبْلِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجَوَابِي كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ) تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، قِيلَ: الْجَوَابِي فِي اللُّغَةِ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهُوَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الشَّيْءُ أَيْ يُجْمَعُ، وَأَمَّا الْجَوْبَةُ مِنَ الْأَرْضِ فَهِيَ الْمَوْضِعُ الْمُطْمَئِنُ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ الْجَوَابِي بِهَا، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَسَّرَ الْجَابِيَةَ بِالْجَوْبَةِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ اشْتِقَاقَهُمَا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (الْخَمْطُ: الْأَرَاكُ، وَالْأَثْلُ: الطَّرْفَاءُ، الْعَرِمُ: الشَّدِيدُ) سَقَطَ الْكَلَامُ الْأَخِيرُ لِلنَّسَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا كُلِّهِ مُفَرَّقًا.
4800 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فَيَسْمَعُهَا
مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوْ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنْ السَّمَاءِ
قَوْلُهُ: بَابُ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ) فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَرْفُوعًا إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءَ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِذَلِكَ صُعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَنْتَهِي بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ أَهْلُهُ مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقَّ، فَيَنْتَهِي بِهِ حَيْثُ أُمِرَ.
قَوْلُهُ: (ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا) بِفَتْحَتَيْنِ مِنَ الْخُضُوعِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى خَاضِعِينَ.
قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُ) أَيِ الْقَوْلُ الْمَسْمُوعُ (سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ) هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: صَلْصَلَةٌ كَصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ صَوْتُ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ يَسْمَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَيَفْزَعُونَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ. وَقَرَأَ: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ الْآيَةَ وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَعَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ مَوْقُوفًا، وَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّلْصَلَةُ صَوْتُ الْحَدِيدِ إِذَا تَحَرَّكَ وَتَدَاخَلَ، وَكَأَنَّ الرِّوَايَةَ وَقَعَتْ لَهُ بِالصَّادِ، وَأَرَادَ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالَّذِي فِي بَدْءِ الْوَحْيِ هَذَا وَالَّذِي هُنَا جَرُّ السِّلْسِلَةِ مِنَ الْحَدِيدِ إِلَى الصَّفْوَانِ الَّذِي هُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ يَكُونُ الصَّوْتُ النَّاشِئُ عَنْهُمَا سَوَاءً.
قَوْلُهُ: (عَلَى صَفْوَانٍ) زَادَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَيْرُهُ: - يَعْنِي غَيْرَ سُفْيَانَ - يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ فَلَا يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ سَمَاءٍ إِلَّا صُعِقُوا وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ مَاتَ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ سَمَاءَ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقُولُونَ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِيهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ) فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَمُسْتَرِقٌ بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ فَصِيحٌ.
قَوْلُهُ: (هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَصَفَهُ سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ (بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْني أَصَابِعِهِ) أَيْ فَرَّقَ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ كَانَ لِكُلِّ قَبِيلٍ مِنَ الْجِنِّ مَقْعَدٌ مِنَ السَّمَاءِ يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْوَحْيَ يَعْنِي يُلْقِيهَا، زَادَ عَلِيٌّ، عَنْ سُفْيَانَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ فَيُلْقَى.
قَوْلُهُ: (عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ) فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ عَلَى لِسَانِ الْآخَرِ بَدَلَ السَّاحِرِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ السَّاحِرِ وَالْكَاهِنِ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ.
قَوْلُهُ: (فَرُبَّمَا
أَدْرَكَ الشِّهَابُ إِلَخْ) يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُدْرِكُهُ الشِّهَابُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَرْمِي هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى يُلْقَى عَلَى فَمِ سَاحِرٍ أَوْ كَاهِنٍ.
قَوْلُهُ: (فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ) زَادَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحِجْرِ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا. الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فَيَقُولُ يَكُونُ الْعَامُ كَذَا وَكَذَا فَيَسْمَعُهُ الْجِنُّ فَيُخْبِرُونَ بِهِ الْكَهَنَةَ فَتُخْبِرُ الْكَهَنَةُ النَّاسَ فَيَجِدُونَهُ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ هَذَا الْقَدْرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ - بِضَمِّ الْفَاءِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - فَقَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ - فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رُوِيَتْ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَمَعْنَاهُ بِالزَّايِ وَالْمُهْمَلَةِ أَدْهَشَ الْفَزَعُ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى الَّتِي بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ذَهَبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ مَا حَلَّ فِيهَا فَقَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ أَمْ لَا. قَالَ سُفْيَانُ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَتِ الْقِرَاءَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَسْمُوعَةً؟ فَالْجَوَابُ لَعَلَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ بِدُونِ السَّمَاعِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا. قُلْتُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنْ إِذَا وُجِدَ احْتِمَالٌ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى، وَذَلِكَ مَحْمَلُ قَوْلِ سُفْيَانَ: لَا أَدْرِي سَمِعَهُ أَمْ لَا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ سَمِعَهُ مِنْ عِكْرِمَةَ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ لَا أَنَّهُ شَكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ سَمِعَهُ مُطْلَقًا، فَالظَّنُّ بِهِ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالْأَخْذِ مِنَ الصُّحُفِ بِغَيْرِ سَمَاعٍ. وَأَمَّا قَوْلُ سُفْيَانَ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا وَافَقَتْ مَا كَانَ يَخْتَارُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ كَمَا نُسِبَ لِغَيْرِهِ.
2 - بَاب {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
4801 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِني؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} .
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
35 - سُورَةُ الْمَلَائِكَةِ
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِطْمِيرُ: لِفَافَةُ النَّوَاةِ. مُثْقَلَةٌ: مُثَقَّلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: الْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ. {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أَشَدُّ سَوَادًا الْغِرْبِيبُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمَلَائِكَةِ وَيَاسِينَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ لَفْظُ (سُورَةُ) وَ (يَاسِينُ) وَ (الْبَسْمَلَةُ)، وَالْأَوْلَى سُقُوطُ لَفْظِ يس لِأَنَّهُ مُكَرَّرٌ.
قَوْلُهُ: (الْقِطْمِيرُ: لِفَافَةُ النَّوَاةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ وَصَفهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقِطْمِيرُ: الْقِشْرُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى النَّوَاةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقِطْمِيرُ: الْفُوفةُ الَّتِي فِيهَا النَّوَاةُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَنْتَ لَنْ تُغْنِيَ عَنِّي فُوفا
وقَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أَشَدُّ سَوَادًا الْغِرْبِيبُ) زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: الشَّدِيدُ السَّوَادِ. وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: قَالَ: الْغِرْبِيبُ الْأَسْوَدُ الشَّدِيدُ السَّوَادِ.
قَوْلُهُ: (مُثْقَلَةٌ مُثَقَّلَةٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَيْ مُثَقَّلَةٌ بِذُنُوبِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ رُؤْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
36 - سُورَةُ يس
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَعَزَّزْنَا} شَدَّدْنَا. {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} وكَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ. {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لَا يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ. {سَابِقُ النَّهَارِ} يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ. {نَسْلَخُ} نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ، وَيَجْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا {مِنْ مِثْلِهِ} مِنْ الْأَنْعَامِ. فَكِهُونَ مُعْجَبُونَ. {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عِنْدَ الْحِسَابِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عِكْرِمَةَ {الْمَشْحُونِ} الْمُوقَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ. {يَنْسِلُونَ} يَخْرُجُونَ. {مَرْقَدِنَا} مَخْرَجِنَا. {أَحْصَيْنَاهُ} حَفِظْنَاهُ. مَكَانَتُكمْ وَمَكَانُكمْ وَاحِدٌ
قَوْلُهُ: (سُورَةُ يس سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: فَعَزَّزْنَا فشَدَّدْنَا) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ، وَكَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ بِالْإِضَافَةِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ سَابِقُ النَّهَارِ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: نَسْلَخُ: نُخْرِجُ إِلَخْ) سَقَطَ كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ مِثْلِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُنَا السُّفُنُ، وَرُجِّحَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إِذِ الْغَرَقُ لَا يَكُونُ فِي الْأَنْعَامِ.
قَوْلُهُ: (فَكِهُونَ: مُعْجَبُونَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَاكِهُونَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْأُولَى رُوِيَتْ عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: فَاكِهُونَ: مُعْجَبُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ قَرَأَهَا فَاكِهُونَ جَعَلَهُ كَثِيرَ الْفَاكِهَةِ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ
…
لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْ
أَيْ عِنْدَكَ لَبَنٌ كَثِيرٌ وَتَمْرٌ كَثِيرٌ، وَأَمَّا فَكِهُونَ فَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ وَهِيَ بِوَزْنِ فَرِحُونَ، وَمَعْنَاهُ
مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ التَّلَذُّذُ وَالتَّنَعُّمُ.
قَوْلُهُ: (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ: عِنْدَ الْحِسَابِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عِكْرِمَةَ الْمَشْحُونِ: الْمُوقَرِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ يس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَصَائِبُكُمْ) وَتَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَائِرُكُمْ أَعْمَالُكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَائِرُكُمْ أَيْ حَظُّكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (يَنْسِلُونَ يَخْرُجُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (مَرْقَدِنَا: مَخْرَجِنَا. وَقَوْلُهُ: أَحْصَيْنَاهُ حَفِظْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ) سَقَطَ هَذَا كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ أَحْصَيْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يَقُولُ: لَأَهْلَكْنَاهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} الْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ وَاحِدٌ.
1 - بَاب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
4802 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّما تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
4803 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أتدري أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ تَذْهَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ عِنْدَ رَبِّهَا وَزَادَ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا وَتَسْتَشْفِعُ وَتَطْلُبُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قِيلَ اطْلُعِي مِنْ مَكَانِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وَقَدْ ذُكِرَ نَحْوُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ) كَذَا رَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي اسْتَفْهَمَهُ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا
قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا. ثُمَّ قَرَأَ وَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا. قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا أَنْ تَطْلُعَ فَيَرُدُّهَا ذُنُوبُ بَنِي آدَمَ، فَإِذَا غَرَبَتْ سَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، فَتَقُولُ: إِنَّ السَّيْرَ بَعُدَ، وَإِنِّي إِنْ لَا يُؤْذَنُ لِي لَا أَبْلُغُ، فَتُحْبَسُ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يُقَالُ: اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ، قَالَ: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَقِيلَ هُوَ حِينَ مُحَاذَاتِهَا. وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلُهُ: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ مُدْرَكِ الْبَصَرِ إِلَيْهَا حَالَ الْغُرُوبِ، وَسُجُودُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا غَايَةُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ أَطْوَلُ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَقِيلَ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاسْتِقْرَارِهَا تَحْتَ الْعَرْشِ أَنَّهَا تَسْتَقِرُّ تَحْتَهُ اسْتِقْرَارًا لَا نُحِيطُ بِهِ نَحْنُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْ عِلْمُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فِي كِتَابٍ كُتِبَ فِيهِ ابْتِدَاءُ أُمُورِ الْعَالَمِ وَنِهَايَتُهَا فَيُقْطَعُ دَوْرَانُ الشَّمْسِ وَتَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَبْطُلُ فِعْلُهَا، وَلَيْسَ فِي سُجُودِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ مَا يُعِيقُ عَنْ دَوَرَانِهَا فِي سَيْرِهَا. قُلْتُ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِقْرَارِ وُقُوعُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ سُجُودِهَا وَمُقَابِلُ الِاسْتِقْرَارِ الْمَسِيرُ الدَّائِمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَرْيِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
37 - سُورَةُ الصَّافَّاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ: مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِ جَانِبٍ. دحورا يُرْمَوْنَ. وَاصِبٌ: دَائِمٌ. لَازِبٍ: لَازِمٍ. تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ يَعْنِي الْحَقَّ، الْكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلشَّياطينِ. غَوْلٌ وَجَعُ بَطْنٍ. يُنْزَفُونَ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ. قَرِينٌ: شَيْطَانٌ. يُهْرَعُونَ: كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَةِ. يَزِفُّونَ التَّسَلَانُ فِي الْمَشْيِ. وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَبًا، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سَيحْضُرُونَ لِلْحِسَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: الْمَلَائِكَةُ. صِرَاطِ الْجَحِيمِ: وَوَسَطَ الْجَحِيمِ. لَشَوْبًا: يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ. مَدْحُورًا: مَطْرُودًا. بَيْضٌ مَكْنُونٌ: اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ. وَيُقَالُ: يَسْتَسْخِرُونَ: يَسْخَرُونَ. بَعْلًا: رَبًّا. الْأَسْبَابُ: السماء.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الصَّافَّاتِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا} يُرْمَوْنَ. {وَاصِبٌ} دَائِمٌ. {لازِبٍ} لَازِمٌ) سَقَطَ هَذَا كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ} يَقُولُونَ هُوَ سَاحِرٌ هُوَ كَاهِنٌ هُوَ شَاعِرٌ وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} قَالَ: لَازِمٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أَيْ دَائِمٌ وَفِي قَوْلِهِ: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} هِيَ بِمَعْنَى اللَّازِمِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبٍ أَيْ: لَازِمٍ.
قَوْلُهُ: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، يَعْنِي الْحَقَّ، الْكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلشَّيَاطِينِ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَعْنِي الْجِنَّ بِجِيمٍ ثُمَّ نُونٍ، وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ لِلْأَكْثَرِ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ
الْيَمِينِ}، قَالَ: الْكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلشَّيَاطِينِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَرْحٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ. وَلِكُلٍّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَجْهٌ، فَمَنْ قَالَ: يَعْنِي الْجِنَّ أَرَادَ بَيَانَ الْمَقُولِ لَهُ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَمَنْ قَالَ: الْحَقَّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ أَرَادَ تَفْسِيرَ لَفْظِ الْيَمِينِ أَيْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ جِهَةِ الْحَقِّ فَتُلَبِّسُوهُ عَلَيْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ قَالَ: يَقُولُ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ، أَيْ مِنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ تَصُدُّونَنَا عَنْهَا.
قَوْلُهُ: {غَوْلٌ} وَجَعُ بَطْنٍ، {يُنْزَفُونَ} لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ، {قَرِينٌ} شَيْطَانٍ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {يُهْرَعُونَ} كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {يَزِفُّونَ} النَّسَلَانُ فِي الْمَشْيِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قَالَ: الْوَزِيفُ: النَّسَلَانُ انْتَهَى. وَالنَّسَلَانُ بِفَتْحَتَيْنِ الْإِسْرَاعُ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا، وَهُوَ دُونَ السَّعْيِ.
قَوْلُهُ: {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} إِلَخْ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الْمَلَائِكَةُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {صِرَاطِ الْجَحِيمِ} سَوَاءِ الْجَحِيمِ وَوَسَطِ الْجَحِيمِ، {لَشَوْبًا} يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ، {مَدْحُورًا} مَطْرُودًا) سَقَطَ هَذَا كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ: بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ {دُحُورًا} الَّتِي فِي الصَّافَّاتِ فَفَسَّرَ {مَدْحُورًا} الَّتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
قَوْلُهُ: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أَيْ مَصُونٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَضْمَرْتَهُ فِي نَفْسِكَ فَقَدْ أَكْنَنْتَهُ.
قَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} يُذْكَرُ بِخَيْرٍ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {الأَسْبَابِ} السَّمَاءُ) سَقَطَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَ لِلنَّسَفِيِّ بِلَفْظِ: وَيُقَالُ وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (ويُقَالُ {يَسْتَسْخِرُونَ} يَسْخَرُونَ) ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا لِلنَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ فَقَطْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَسْتَسْخِرُونَ وَيَسْخَرُونَ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: {بَعْلا} رَبًّا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يَسُوقُ بَقَرَةً فَقَالَ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ؟ قَالَ: فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، قَالَ: هِيَ لُغَةٌ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا أَيْ: رَبًّا، وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا إِلَخْ، وَلَمَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ قِصَّةِ إِلْيَاسَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ خَبَرَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ إِدْرِيسَ.
بَاب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
4804 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ ابْنِ مَتَّى
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى
4805 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
38 - سُورَةُ ص
4806 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ السَّجْدَةِ فِي ص قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ فِيهَا.
4807 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةٍ فِي ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ؟ فَقَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عليه السلام فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {عُجَابٌ} عَجِيبٌ. الْقِطُّ: الصَّحِيفَةُ. وهُوَ هَا هُنَا صَحِيفَةُ الْحِسَنات، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{فِي عِزَّةٍ} مُعَازِّينَ. {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} مِلَّةُ قُرَيْشٍ. الْاخْتِلَاقُ: الْكَذِبُ. الْأَسْبَابُ طُرُقُ السَّمَاءِ فِي أَبْوَابِهَا. {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} يَعْنِي قُرَيْشًا. {أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ. {فَوَاقٍ} رُجُوعٍ. {قِطَّنَا} عَذَابَنَا. {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} أَحَطْنَا بِهِمْ. {أَتْرَابٌ} أَمْثَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيْدُ الْقُوَّةُ فِي الْعِبَادَةِ. الْأَبْصَارُ: الْبَصَرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} مِنْ ذِكْرِ. طَفِقَ مَسْحًا: يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا. {الأَصْفَادِ} الْوَثَاقِ
قَوْلُهُ: سُورَةُ ص - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ فَقَطْ لِلنَّسَفِيِّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى ص، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَوَائِلَ السُّوَرِ، وَقَدْ قَرَأَهَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِ الدَّالِ فَقِيلَ الدَّرَجُ وَقِيلَ بَلْ هِيَ عِنْدَهُ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْمُصَادَاةِ وَهِيَ الْمُعَارَضَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ عَارِضِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِي أَسْمَاءِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ غَافِرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَوَّامِ) هُوَ ابْنُ حَوْشَبٍ، كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْهُ عَنْ مَنْصُورٍ، وَعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَأَبِي حُصَيْنٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ فَكَأَنَّ لِشُعْبَةَ فِيهِ مَشَايِخُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَدَلَ مُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. فَلَعَلَّ لِلْعَوَّامِ فِيهِ شَيْخَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَنْعَامِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي ص سَجْدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ، فَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِمُجَاهِدٍ، فَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ في الرواية الثانية (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ الْكَلَابَاذِيُّ، وَابْنُ طَاهِرٍ: هُوَ الذُّهْلِيُّ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَخْرَمِيِّ فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ.
قَوْلُهُ: (فَسَجَدَهَا دَاوُدُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ؛ وَهَذَا أَصْرَحُ فِي الرَّفْعِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّجُودِ فِي ص فِي كِتَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مُسْتَوْفًى، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ
قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُصُولِ وَقَدْ تَعَرَّضْنَا لَهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: {عُجَابٌ} عَجِيبٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَالْعَرَبُ تُحَوِّلُ فَعِيلًا إِلَى فُعَالٍ بِالضَّمِّ وَهُوَ مِثْلُ طَوِيلٍ وَطُوَالٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَعْدُو بِهِ سَلْهَبَةً سُرَاعَةً
أَيْ سَرِيعَةً، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَنُقِلَتْ عَنْ عَلِيٍّ عُجَّابٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ مِثْلُ كُبَّارٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كُبَارٍ بِالتَّخْفِيفِ وَكُبَارٌ الْمُخَفَّفُ أَبْلَغُ مِنْ كَبِيرٍ.
قَوْلُهُ: (الْقَطُّ: الصَّحِيفَةُ هُوَ هَاهُنَا صَحِيفَةُ الْحَسَنَاتِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْحِسَابُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِالْعَكْسِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقَطُّ: الْكِتَابُ وَالْجَمْعُ قُطُوطٌ وَقِطَطَةٌ كَقِرْدٍ وَقُرُودٍ وَقِرَدَةٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَطَّ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعَهُ وَالْمَعْنَى قِطْعَةٌ مِمَّا وَعَدْتَنَا بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الصَّحِيفَةِ قَطٌّ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ تُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ الصَّكُّ، وَيُقَالُ لِلْجَائِزَةِ أَيْضًا قَطٌّ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكِتَابِ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ قَرِيبًا. وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فِي عِزَّةٍ} أَيْ (مُعَازِّينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {فِي عِزَّةٍ} قَالَ: فِي حَمِيَّةٍ، وَنُقِلَ عَنِ الْكِسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي غُرَّةٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} مِلَّةُ قُرَيْشٍ. الِاخْتِلَاقُ الْكَذِبُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} قَالَ: مِلَّةُ قُرَيْشٍ {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} : كَذِبٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طلحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} قَالَ: النَّصْرَانِيَّةُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: دِينُهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} ، يَعْنِي قُرَيْشًا) سَقَطَ لَفْظُ: قَوْلُهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} قَالَ: قُرَيْشٌ، وَقَوْلُهُ جُنْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُمْ، وَمَا مَزِيدَةٌ أَوْ صِفَةٌ لِجُنْدٍ وَهُنَالِكَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى مَكَانِ الْمُرَاجَعَةِ، وَمَهْزُومٌ صِفَةٌ لِجُنْدٍ أَيْ سَيُهْزَمُونَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ هُزِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَعَدَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جُنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا بِبَدْرٍ، فَعَلَى هَذَا فَهُنَالِكَ ظَرْفٌ لِلْمُرَاجَعَةِ فَقَطْ وَمَكَانُ الْهَزِيمَةِ لَمْ يُذْكَرْ.
قَوْلُهُ: {الأَسْبَابِ} طُرُقُ السَّمَاءِ فِي أَبْوَابِهَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقٍ مجاهد بِلَفْظِ: طُرُقُ السَّمَاءِ أَبْوَابُهَا وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{الأَسْبَابِ} هِيَ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ ذَا دِينٍ ارْتَقَى فُلَانٌ فِي الْأَسْبَابِ.
قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: {فَوَاقٍ} رُجُوعٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: لَيْسَ لَهَا مَثْنَوِيَّةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} يَقُولُ لَيْسَ لَهُمْ إِفَاقَةٌ وَلَا رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ فَتَحَهَا أَيِ الْفَاءَ قَالَ: مَا لَهَا مِنْ رَاحَةٍ، وَمَنْ ضَمَّهَا جَعَلَهَا مِنْ فَوَاقِي نَاقَةٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَالَّذِي قَرَأَ بِضَمِّ الْفَاءِ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ وَاحِدٌ مِثْلَ قُصَاصِ الشَّعْرِ يُقَالُ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: {قِطَّنَا} عَذَابَنَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ:{قِطَّنَا} أَيْ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {قِطَّنَا} قَالَ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ شَبِيهُ قَوْلِهِمْ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُ الْآخَرِينَ:{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ
مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قَوْلُهُ {قِطَّنَا} أَيْ رِزْقَنَا، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا تَعْجِيلَ كَتْبِهِمْ بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَعِنَادًا.
قَوْلُهُ: {الصَّافِنَاتُ} صَفَنَ الْفَرَسُ إِلَخْ) وَقَوْلُهُ: {الْجِيَادُ} السِّرَاعُ. وَقَوْلُهُ: {جَسَدًا} شَيْطَانًا. وَقَوْلُهُ: {رُخَاءً} الرُّخَاءُ الطَّيِّبُ. وَقَوْلُهُ: {حَيْثُ أَصَابَ} حَيْثُ شَاءَ. وَقَوْلُهُ: {فَامْنُنْ} أَعْطِ وَقَوْلُهُ: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِغَيْرِ حَرَجٍ. ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ لِلنَّسَفِيِّ هُنَا وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُهُ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ ب نِ دَاوُدَ عليهما السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا: أَحَطْنَا بِهِمْ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي حَوَاشِيهِ: لَعَلَّهُ أَحَطْنَاهُمْ، وَتَلَقَّاهُ عَنْ عِيَاضٍ فَإِنَّهُ قَالَ: أَحَطْنَا بِهِمْ كَذَا وَقَعَ وَلَعَلَّهُ أَحَطْنَاهُمْ وَحُذِفَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي هَذَا تَفْسِيرُهُ وَهُوَ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ أَخْطَأْنَاهُمْ أَمْ هُمْ فِي النَّارِ لَا نَعْلَمُ مَكَانَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى لَيْسُوا مَعَنَا أَمْ هُمْ مَعَنَا لَكِنْ أَبْصَارُنَا تَمِيلُ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ قَرَأَهَا: أَتَّخَذْنَاهُمْ أَيْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامًا وَجَعَلَ أَمْ جَوَابًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَفْهِمْ فَتَحَهَا عَلَى الْقَطْعِ، وَمَعْنَى أَمْ مَعْنَى بَلْ وَمِثْلُهُ:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} انْتَهَى، وَالَّذِي قَرَأَهَا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: {أَتْرَابٌ} أَمْثَالٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَتْرَابُ جَمْعُ تِرْبٍ وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَنْ يُولَدُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{أَتْرَابٌ} مُسْتَوِيَانِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الأَيْدِ} الْقُوَّةُ فِي الْعِبَادَةِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} قَالَ: الْقُوَّةِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {ذَا الأَيْدِ} ذَا الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ.
قَوْلُهُ: (الْأَبْصَارُ الْبَصَرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} قَالَ: أُولِي الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَبْصَارُ: الْعُقُولُ.
(تَنْبِيهٌ): الْأَبْصَارُ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ الْأَيْدِي لَا عَقِبَ الْأَيْدِ لَكِنْ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أُولِي الْأَيْدِ وَالْأَبْصَارِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ فَسَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} إِلَى آخِرِهِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: {الأَصْفَادِ} الْوَثَاقُ) سَقَطَ هَذَا أَيْضًا لِأَبِي ذَرٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ أَيْضًا
2 - بَاب {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
4808 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ. وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي لَفْظِ التَّفَلُّتِ أَوْ فِي لَفْظِ الْبَارِحَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ
سُلَيْمَانَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: فِي قَوْلِهِ {لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لَا أَسْلُبُهُ كَمَا سَلَبْتُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ وَكَأَنَّ سَبَبَ تَأْوِيلِ قَتَادَةَ هَذَا هَكَذَا طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ عَلَى سُلَيْمَانَ وَنِسْبَتُهُ فِي هَذَا إِلَى الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِذْنٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ كَمَا اخْتُصَّ كُلُّ نَبِيٍّ بِمُعْجِزَةٍ دُونَ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: رُوحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا) رُوحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ أَحَدُ رُوَاتِهِ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَعَتْ فِي رِوَايَتِهِ دُونَ رِوَايَةِ رَفِيقِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَحْثِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَذَكَرْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْجِنِّ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ
3 - بَاب قَوْلُهُ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}
4809 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ الدُّخَانِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا قُرَيْشًا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا مِنْ الْجُوعِ. قَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ فَدَعَوْا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أَفَيُكْشَفُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَكُشِفَ ثُمَّ عَادُوا فِي كُفْرِهِمْ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الدُّخَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ وَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالِاسْتِسْقَاءِ فِي بَابِهِ
39 - سُورَةُ الزُّمَرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذِي عِوَجٍ: لَبْسٍ. وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ: صَالِحًا، مَثَلٌ لِآلِهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَالْإِلَهِ الْحَقِّ. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينِ مِنْ دُونِهِ: بِالْأَوْثَانِ. خَوَّلْنَا: أَعْطَيْنَا. وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: الْقُرْآنِ. وَصَدَّقَ بِهِ: الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ. مُتَشَاكِسُونَ:
الرَّجُلُ الشَّكِسُ الْعَسِرُ لَا يَرْضَى بِالْإِنْصَافِ. وَرَجُلًا سَلَمًا وَيُقَالُ: سَالِمًا: صَالِحًا. اشْمَأَزَّتْ: نَفَرَتْ بِمَفَازَتِهِمْ: مِنَ الْفَوْزِ. حَافِّينَ: أَطَافُوا بِهِ، مُطِيفِينَ (بِحِفَافِيهِ) بِجَوَانِبِهِ. مُتَشَابِهًا: لَيْسَ مِنَ الِاشْتِبَاهِ. وَلَكِنْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي التَّصْدِيقِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الزُّمَرِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ قَالَ: وَيَقُولُ هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يُلْقَى} إِلَخْ وَمُرَادُهُ بِالْمِثْلِيَّةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَحْذُوفًا، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ يُجَرُّ بِالْجِيمِ وَهُوَ الَّذِي فِي تَفْسِيرِ الْفِرْيَابِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَحْدَهُ يَخِرُّ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ تَمِيمٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} أَبُو جَهْلٍ {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عَمَّارٌ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ: يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى النَّارِ مَكْتُوفًا ثُمَّ يُرْمَى بِهِ فِيهَا، فَأَوَّلُ مَا يَمَسُّ وَجْهَهُ النَّارُ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ:(أَفَمَنْ) مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَهُوَ كَمَنْ أَمِنَ الْعَذَابَ.
قَوْلُهُ: {ذِي عِوَجٍ} لَبْسٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ. أَيْ لَيْسَ فِيهِ لَبْسٌ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ لَبْسٌ يَسْتَلْزِمُ الْعِوَجَ فِي الْمَعْنَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ضَعِيفَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قَالَ: لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ.
قَوْلُهُ: (خَوَّلْنَا أَعْطَيْنَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: وَإِذَا خَوَّلْنَاهُ قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَالٍ أَعْطَيْتَهُ فَقَدْ خَوَّلْتَهُ. قَالَ أَبُو النَّجْمِ كُؤمُ الدرَى مِنْ خَوَلِ الْمُخَوَّلِ وَقَالَ زُهَيْرٌ هُنَالِكَ إِنْ يَسْتَخْوِلُوا الْمَالَ يُخَوَّلُوا.
قَوْلُهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنِ، {وَصَدَّقَ بِهِ} الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَادَ النَّسَفِيُّ يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْقُرْآنِ فَيَقُولُ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُمُونَا قَدْ عَمِلْنَا بِمَا فِيهِ. وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِالْقُرْآنِ قَدِ اتَّبَعُوهُ، أَوْ قَالَ: اتَّبَعُوا مَا فِيهِ. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ النَّبِيُّ. وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {وَصَدَّقَ بِهِ} أَيْ صَدَّقَ بِالرَّسُولِ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، وَالصِّدْقُ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوَانٍ، عَنْ عَلِيٍّ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ، وَصَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: {وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ} صَالِحًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَالِصًا، وَسَقَطَتْ لِلنَّسَفِيِّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ. زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمُ الْبَاطِلِ وَالْإِلَهِ الْحَقِّ وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ رَجُلًا سَالِمًا لِرَجُلٍ قَالَ: مَثَلُ آلِهَةِ الْبَاطِلِ وَمَثَلُ إِلَهِ الْحَقِّ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرٌ آخَرُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : بِالْأَوْثَانِ سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ،. وَقَالَ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: قَالَ لِي رَجُلٌ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَأْمُرَنَّهَا فَلَتُخْبِلَنَّكَ، فَنَزَلَتْ:{وَيُخَوِّفُونَكَ} .
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: غَيْرُهُ {مُتَشَاكِسُونَ} الرَّجُلُ الشَّكِسُ الْعَسِرُ لَا يَرْضَى بِالْإِنْصَافِ. {وَرَجُلا سَلَمًا} وَيُقَالُ سَالِمًا: صَالِحًا) سَقَطَ وَقَالَ غَيْرُهُ لِأَبِي ذَرٍّ فَصَارَ كَأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا كَلَامِ مُجَاهِدٍ. وَلِلنَّسَفِيِّ وَقَالَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْفَاعِلِ، وَالصَّوَابُ مَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَلَامُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الشَّكِسُ: الْعَسِرُ لَا يَرْضَى بِالْإِنْصَافِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} هُوَ مِنَ الرَّجُلِ الشَّكِسِ، (وَرَجُلًا سَالِمًا) الرَّجُلُ سَالِمٌ وَسَلَمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنَ الصُّلَّحِ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو سَالِمًا وَالْبَاقُونَ سَلَمًا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفِي الشَّوَاذِّ بِكَسْرِهِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ وُصِفَ بِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ أَوْلَى لِيُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى، وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ أَيْ بِمَعْنًى. وَقَوْلُهُ الشَّكِسُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا هُوَ السَّيِّئُ الْخُلُقِ، وَقِيلَ: مَنْ كَسَرَ الْكَافَ فَتَحَ أَوَّلَهُ وَمَنْ سَكَّنَهَا كَسَرَ وَهُمَا بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: {اشْمَأَزَّتْ} نَفَرَتْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} : تَقُولُ الْعَرَبُ اشْمَأَزَّ قَلْبِي عَنْ فُلَانٍ أَيْ نَفَرَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ:{اشْمَأَزَّتْ} أَيْ نَفَرَتْ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: انْقَبَضَتْ.
قَوْلُهُ: {بِمَفَازَتِهِمْ} مِنَ الْفَوْزِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} أَيْ بِنَجَاتِهِمْ وَهُوَ مِنَ الْفَوْزِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} أَيْ: بِفَضَائِلِهِمْ.
قَوْلُهُ: {حَافِّينَ} أَطَافُوا بِهِ مُطِيفِينَ بِحِفَافِيهِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَاءَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ بِجَانِبَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْأَصِيلِيِّ بِجَوَانِبِهِ، وَلِلنَّسَفِيِّ بِحَافَّتِهِ بِجَوَانِبِهِ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} طَافُوا بِهِ بِحِفَافِيهِ، وَرِوَايَةُ الْمُسْتَمْلِيِّ بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: {مُتَشَابِهًا} لَيْسَ مِنَ الِاشْتِبَاهِ وَلَكِنْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي التَّصْدِيقِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {مُتَشَابِهًا} قَالَ: يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} قَالَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَدُلُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُهُ. وَقَوْلُهُ:{مَثَانِيَ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ مُتَشَابِهًا لِأَنَّ الْقِصَصَ الْمُتَكَرِّرَةَ تَكُونُ مُتَشَابِهَةٌ، وَالْمَثَانِي جَمْعُ مَثْنَى بِمَعْنَى مُكَرَّرٍ، لِمَا أُعِيدَ فِيهِ مِنْ قَصَصٍ وَغَيْرِهَا
4810 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ يَعْلَى: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً. فَنَزَلَ:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} وَنَزَلَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ يَعْلَى) أَيْ: قَالَ: قَالَ يَعْلَى - وَقَالَ: تَسْقُطُ خَطًا وَتَثْبُتُ لَفْظًا، وَيَعْلَى هَذَا هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ بِلَفْظِ أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَعْلَى وَأَخْرَجَهُ
(1)
أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجٍ هَذَا لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُمَا عَنْ يَعْلَى غَيْرُ مَنْسُوبٍ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٌ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِهِ، وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَعْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ سَكَنَ مَكَّةَ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَبِرِوَايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ قَاتِلُ حَمْزَةَ وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَزَلَتْ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ، فَنَزَلَتْ:{قُلْ يَا عِبَادِيَ} الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: اتَّعَدْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَنْ نُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّتِهِمْ وَرُجُوعِ رَفِيقِهِ فَنَزَلَتْ:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ قَالَ: فَكَتَبْتُ بِهَا إِلَى هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (وَنَزَلَ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصَبْنَا مَا أَصَابَ وَحْشِيٌّ، فَقَالَ: هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَذِهِ الْآيَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَنْ أَشْرَكَ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَشْرَكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَاسْتُدِلَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِحَقِّ الْآدَمِيِّينَ أَمْ لَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ، وَأَنَّهَا تُغْفَرُ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ، لَكِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ إِذَا تَابَ صَاحِبُهَا مِنَ الْعَوْدِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَنْفَعُهُ التَّوْبَةُ مِنَ الْعَوْدِ، وَأَمَّا خُصُوصُ مَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَدِّهِ لِصَاحِبِهِ أَوْ مُحَالَلَتِهِ مِنْهُ. نَعَمْ فِي سِعَةِ فَضْلِ اللَّهِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرِضَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ حَقِّهِ وَلَا يُعَذَّبَ الْعَاصِي بِذَلِكَ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ
2 - بَاب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
4811 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
(1)
لعله يعلى بن مسلم
قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
[الحديث 4811 - طرفه في: 7414، 7415، 7451، 7513]
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ (قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ الْحَدِيثَ) يَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَكَلَّفَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَأْوِيلِ الْإِصْبَعِ وَبَالَغَ حَتَّى جَعَلَ ضَحِكَهُ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا لِمَا قَالَ الْحَبْرُ، وَرَدَّ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَضَحِكَ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا بِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا فَهِمَ الرَّاوِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ ضَحِكَ تَصْدِيقًا لَهُ بِدَلِيلِ قِرَاءَتِهِ الْآيَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ الْحَبْرُ، وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْكَفُّ عَنِ التَّأْوِيلِ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ مِنْ ظَاهِرِهَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِصْبَعِ إِصْبَعَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: أَصَابِعُ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أَيْ أَنْيَابُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْأَحْقَافِ.
3 - بَاب {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
4812 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟
[الحديث 4812 - أطرافه في: 6519، 7382، 7413]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} لَمَّا وَقَعَ ذِكْرُ الْأَرْضِ مُفْرَدًا حَسُنَ تَأْكِيدُهُ، بِقَوْلِهِ جَمِيعًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْأَرَاضِي.
ثم ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ أَيْضًا مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4813 -
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ؟
4814 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ
يُرَكَّبُ الْخَلْقُ"
[الحديث 4814 - طرفه في: 4935]
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، وَقَدْ لَمَّحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، فَجَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ السَّرِيِّ الْحَافِظُ فِيمَا نَقَلَهُ الْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيُّ الْحَافِظُ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْبُخَارِيِّ لَكِنْ مَاتَ قَبْلَهُ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَوَقَعَ فِي الْمُصَافَحَةِ لِلْبُرْقَانِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُصَغَّرٌ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَبَّانِيُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ شَيْخُهُ مِنْ أَوْسَاطِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ وَاحِدٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَهُنَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي مِنْ أَوَّلِ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (أَمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ) نَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهْمٌ، وَاسْتَنَدَ إِلَى أَنَّ مُوسَى مَيِّتٌ مَقْبُورٌ فَيُبْعَثُ بَعْدَ النَّفْخَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَثْنًى؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي هَذَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَوْلُهُ: (مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أَرْبَعُ نَفَخَاتٍ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يُؤَيِّدُ الصَّوَابَ.
قَوْلُهُ: (أَرْبَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ.
قَوْلُهُ: (أَبَيْتُ) بِمُوَحَّدَةٍ أَيِ امْتَنَعْتُ عَنِ الْقَوْلِ بِتَعْيِينِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ تَوْقِيفٌ، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: أَعْيَيْتُ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَهُوَ التَّعَبُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ تَبْيِينِ ذَلِكَ فَلَا يُجِيبُهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ، نَعَمْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهُوَ شَاذٌّ. وَمِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَيْنَ النَّفْخَةِ وَالنَّفْخَةِ أَرْبَعُونَ سَنَةً ذَكَرَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ ص، وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا مُجْمَلَةً فَلِهَذَا قَالَ لِمَنْ عَيَّنَهَا لَهُ أَبَيْتُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالُوا: أَرْبَعُونَ مَاذَا؟ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ لَكِنْ سَكَتَ لِيُخْبِرَهُمْ فِي وَقْتٍ، أَوِ اشْتَغَلَ عَنِ الْإِعْلَامِ حِينَئِذٍ. وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَرْبَعِينَ جُمْعَةً، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ.
قَوْلُهُ: (وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا الْحَدِيثَ. وَأَفْرَدَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ؟ قَالَ: عَجْبُ الذَّنَبِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأَبِي يَعْلَى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَجْبُ الذَّنَبِ؟ قَالَ: مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ وَالْعَجْبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَيُقَالُ لَهُ عَجْمٌ بِالْمِيمِ أَيْضًا عِوَضَ الْبَاءِ. وَهُوَ عَظْمٌ لَطِيفٌ فِي أَصْلِ الصُّلْبِ، وَهُوَ رَأْسُ الْعُصْعُصِ، وَهُوَ مَكَانُ رَأْسِ الذَّنَبِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ مَرْفُوعًا: إِنَّهُ مِثْلُ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ ابْنُ عُقَيْلٍ: لِلَّهِ فِي هَذَا سِرٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ مَنْ يُظْهِرُ الْوُجُودَ مِنَ
الْعَدَمِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَيْهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جُعِلَ عَلَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى إِحْيَاءِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِجَوْهَرِهِ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ إِلَّا بِإِبْقَاءِ عَظْمِ كُلِّ شَخْصٍ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إِعَادَةَ الْأَرْوَاحِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْيَانِ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَلَوْلَا إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا لَجَوَّزَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ الْإِعَادَةَ إِلَى أَمْثَالِ الْأَجْسَادِ لَا إِلَى نَفْسِ الْأَجْسَادِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَفْنَى أَيْ تُعْدَمُ أَجْزَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَسْتَحِيلُ فَتَزُولُ صُورَتُهُ الْمَعْهُودَةُ فَيَصِيرُ عَلَى صِفَةِ جِسْمِ التُّرَابِ، ثُمَّ يُعَادُ إِذَا رُكِّبَتْ إِلَى مَا عُهِدَ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَبْلَى أَيْ يَطُولُ بَقَاؤُهُ، لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى أَصْلًا. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَاعِدَةُ بَدْءِ الْإِنْسَانِ وَأُسِّهِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ فَهُوَ أَصْلَبُ مِنَ الْجَمِيعِ كَقَاعِدَةِ الْجِدَارِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلَبَ كَانَ أَدْوَمَ بَقَاءً، وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا عَامٌّ يُخَصُّ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَهُمْ. وَأَلْحَقَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ وَالْقُرْطُبِيُّ الْمُؤَذِّنَ الْمُحْتَسِبَ. قَالَ عِيَاضٌ: فَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَهُوَ كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ أَيْ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ مِمَّا يَأْكُلُهُ التُّرَابُ وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ لَا يَأْكُلُ أَجْسَادًا كَثِيرَةً كَالْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا عَجْبُ ذَنَبِهِ) أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: لَا يَبْلَى عَجْبُ الذَّنَبِ وَلَا يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، وَخَالَفَ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: إِلَّا هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ وَعَجْبُ الذَّنَبِ أَيْضًا يَبْلَى. وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْمَعْنَى الْفَرَّاءُ، وَالْأَخْفَشُ فَقَالُوا: تَرِدُ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَيَرُدُّ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُهُ أَبَدًا كَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ مِنْهُ خُلِقَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ يُخْلَقُ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ أَنَّ أَوَّلَ مَا خُلِقَ مِنْ آدَمَ رَأْسُهُ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ آدَمَ وَذَاكَ فِي حَقِّ بَنِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِ سَلْمَانَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي آدَمَ لَا خَلْقَ جَسَدِهِ.
40 - سُورَةُ الْمُؤْمِنِ
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ اسْمٌ لِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
الطَّوْلِ: التَّفَضُّلِ. دَاخِرِينَ: خَاضِعِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَى النَّجَاةِ: الْإِيمَانِ. لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ: يَعْنِي الْوَثَنَ. يُسْجَرُونَ: تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ. تَمْرَحُونَ: تَبْطُرُونَ. وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يَذْكُرُ النَّارَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لِمَ تُقَنِّطِ النَّاسَ؟ قَالَ: وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ؟ وَاللَّهُ عز وجل يَقُولُ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَيَقُولُ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشِّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ. وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ لِمَنْ عَصَاهُ.
4815 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمُؤْمِنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حم} مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ) وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ اسْمٌ، لِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَيُقَالُ إِلَخْ وَهَذَا الْكَلَامُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ وَلَفْظُهُ: حم مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ اسْمٌ، وَهُوَ يُطْلِقُ الْمَجَازَ وَيُرِيدُ بِهِ التَّأْوِيلَ أَيْ تَأْوِيلُ حم تَأْوِيلُ أَوَائِلِ السُّوَرِ، أَيْ أَنَّ الْكُلَّ فِي الْحُكْمِ وَاحِدٌ، فَمَهْمَا قِيلَ مَثَلًا فِي الم يُقَالُ مِثْلُهُ فِي حم. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِينَ قَوْلًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الم وَحم وَ {المص} وَ {ص} فَوَاتِحٌ افْتُتِحَ بِهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا {ق} وَ {ص} وَ {طسم} وَغَيْرُهَا هِجَاءٌ مَقْطُوعٌ. وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيُقَالُ بَلْ هُوَ اسْمٌ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ الثَّانِيَةِ مِنْ مِيمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِيسَى فَتَحَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
قُلْتُ: وَالشَّاهِدُ الَّذِي أَنْشَدَ يُوَافِقُ قِرَاءَةَ عِيسَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ السُّكُونُ لِأَنَّهَا حُرُوفُ هِجَاءٍ لَا أَسْمَاءُ مُسَمَّيَاتٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{ص} وَأَشْبَاهُهَا قَسَمٌ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَشُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ خَطَأٌ. وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ اسْمٌ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ فَذَكَرَ الْبَيْتَ. وَرَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ الْجُمَلِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: كَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْجَمَلِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَقْتُلُوا صَاحِبَ الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، فَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ بِرُّهُ بِأَبِيهِ، فَلَقِيَهُ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَأَهْوَى لَهُ بِالرُّمْحِ فَتَلَاحَمَ فَقَتَلَهُ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الشِّعْرَ الْمَذْكُورَ لِلْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ. وَذَكَرَ أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّهُ لِمُدْلِجِ بْنِ كَعْبٍ السَّعْدِيِّ وَيُقَالُ كَعْبُ بْنُ مُدْلِجٍ، وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ عِصَامُ بْنُ مُقْشَعِرٍّ، قَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: هُوَ الثَّبْتُ. وَأَنْشَدَ لَهُ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ وَأَوَّلُهُ:
وَأَشْعَثُ قَوَّامٌ بِآيَاتِ رَبِّهِ
…
قَلِيلُ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ
…
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا
…
عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَنْدَمِ
يُذَكِّرُنِي حم الْبَيْتَ. وَيُقَالُ إِنَّ الشِّعْرَ لِشَدَّادِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعَبْسِيِّ، وَيُقَالُ اسْمُهُ حَدِيدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ حَكَاهُ
الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَكْبِرٍ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ الْمُظَفَّرِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ مَأْدُبَةِ الْأُدَبَاءِ قَالَ: كَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ حم، وَكَانَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا طَعَنَ شُرَيْحٌ، مُحَمَّدًا قَالَ: حم، فَأَنْشَدَ شُرَيْحٌ الشِّعْرَ. قَالَ: وَقِيلَ بَلْ قَالَ مُحَمَّدٌ لَمَّا طَعَنَهُ شُرَيْحٌ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يُذَكِّرُنِي حم أَيْ بِتِلَاوَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهَا مِنْ حم.
(تَكْمِلَةٌ): حم جُمِعَ عَلَى حَوَامِيمٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ هَذَا الْجَمْعُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ كَأَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بِقَوْلِهِ أُذَكِّرُكَ حم أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي {حم * عسق} {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} الْآيَةَ، كَأَنَّهُ يُذَكِّرُهُ بِقَرَابَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَافِعًا لَهُ عَنْ قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: {الطَّوْلِ} التَّفَضُّلُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ إِنَّهُ لَذُو طَوْلٍ عَلَى قَوْمِهِ أَيْ ذُو فَضْلٍ عَلَيْهِمْ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ذِي الطَّوْلِ قَالَ: ذِي السَّعَةِ وَالْغِنَى، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: ذِي الْمِنَنِ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذِي النَّعْمَاءِ.
قَوْلُهُ: {دَاخِرِينَ} خَاضِعِينَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِلَى النَّجَاةِ} إِلَى الْإِيمَانِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} يَعْنِي الْوَثَنَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ الْأَوْثَانِ.
قَوْلُهُ: {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: {تَمْرَحُونَ} تَبْطِرُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: يَبْطِرُونَ وَيَأْشِرُونَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ يُذَكِّرُ النَّاسَ النَّارَ أَيْ يُخَوِّفُهُمْ بِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (لِمَ) بِكَسْرِ اللَّامِ لِلِاسْتِفْهَامِ (تُقَنِّطُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَأَرَادَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْآيَةِ الْأُخْرَى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا} فَنَهَاهُمْ عَنِ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ اسْتِدْعَاءً مِنْهُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَأَبُو الْعَلَاءِ هَذَا هُوَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ تَابِعِيٌّ زَاهِدٌ قَلِيلُ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَاتَ قَدِيمًا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
ثم ذكر حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ
41 - سُورَةُ حم السَّجْدَةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَعْطِيَا. {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَعْطَيْنَا. وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} - {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} - إِلَى قَوْلِهِ - {دَحَاهَا} فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ:{أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَقَالَ تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} - {عَزِيزًا حَكِيمًا} - {سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ: {فَلا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ} فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ:{يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ.
وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{دَحَاهَا} وَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَجُعِلَتْ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ. فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: حَدَّثَنِيه يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بِهَذَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} مَحْسُوبٍ، {أَقْوَاتَهَا} أَرْزَاقَهَا. {فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} مِمَّا أَمَرَ بِهِ. {نَحِسَاتٍ} مَشَائِيمَ {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} ، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عِنْدَ الْمَوْتِ. {اهْتَزَّتْ} بِالنَّبَاتِ، {وَرَبَتْ} ارْتَفَعَتْ. وقال غيره:{مِنْ أَكْمَامِهَا} حِينَ تَطْلُعُ. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أَيْ بِعَمَلِي، أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا، {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قَدَّرَهَا سَوَاءً. {فَهَدَيْنَاهُمْ} دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَقَوْلِهِ:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وَكَقَوْلِهِ: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَسعَدْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، {يُوزَعُونَ} يُكَفُّونَ. {مِنْ أَكْمَامِهَا} قِشْرُ الْكُفُرَّى، هِيَ الْكُمُّ. {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} الْقَرِيبُ {مِنْ مَحِيصٍ} حَاصَ عَنْهُ، حَادَ عنه.
{مِرْيَةٍ} وَمُرْيَةٌ وَاحِدٌ أَيْ امْتِرَاءٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الوَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمَهُمْ اللَّهُ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ حم السَّجْدَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَعْطِيَا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فِي الصِّحَّةِ، وَلَفْظُ الطَّبَرِيِّ فِي قَوْلِهِ:{ائْتِيَا} قَالَ: أَعْطِيَا وَفِي قَوْلِهِ: {قَالَتَا أَتَيْنَا} قَالَتَا أَعْطَيْنَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَيْسَ أَتَى هُنَا بِمَعْنَى أَعْطَى، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْإِتْيَانِ وَهُوَ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْفِعَالِ لِلْوُجُودِ، بِدَلِيلِ الْآيَةِ نَفْسِهَا. وَبِهَذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ جِيئَا بِمَا خَلَقْتُ فِيكُمَا وَأَظْهِرَاهُ، قَالَتَا أَجَبْنَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى تَقْرِيبِ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا لَمَّا أُمِرَتَا بِإِخْرَاجِ
مَا فِيهِمَا مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ وَنَهْرٍ وَنَبَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَجَابَتَا إِلَى ذَلِكَ كَانَ كَالْإِعْطَاءِ، فَعَبَّرَ بِالْإِعْطَاءِ عَنَ الْمَجِيءِ بِمَا أُودِعَتَاهُ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ مُوَجَّهًا وَثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ فَأَيُّ مَعْنًى لِإِنْكَارِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْمَجِيءِ نَفَى أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهَذَا عَجِيبٌ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّيْءِ قَوْلَانِ بَلْ أَكْثَرُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل لِلسَّمَاوَاتِ أَطْلِعِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، قَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا آتَيْنَا بِالْمَدِّ فَفَسَّرَهَا عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقِرَاءَاتِ أَنَّهَا قِرَاءَتُهُ، وَبِهَا قَرَأَ صَاحِبَاهُ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ: قِيلَ إِنَّ الْبُخَارِيَّ وَقَعَ لَهُ فِي آيٍّ مِنَ الْقُرْآنِ وَهْمٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْهَا وَإِلَّا فَهِيَ قِرَاءَةٌ بِلُغَتِهِ، وَجْهُهُ أَعْطِيَا الطَّاعَةَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُعْطِي الطَّاعَةَ لِفُلَانٍ، قَالَ: وَقَدْ قُرِئَ: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْفِتْنَةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ. وَإِذَا جَازَ فِي إِحْدَاهُمَا جَازَ فِي الْأُخْرَى انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آتَيْنَا بِالْمَدِّ بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَفْعُولًا وَاحِدًا وَالتَّقْدِيرُ: لِتُوَافِقَ كُلٌّ مِنْكُمَا الْأُخْرَى، قَالَتَا تَوَافَقْنَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَفْعُولَانِ وَالتَّقْدِيرُ: أَعْطِيَا مَنْ أَمَرَكُمَا الطَّاعَةَ مِنْ أَنْفُسِكُمَا قَالَتَا أَعْطَيْنَاهُ الطَّاعَةَ. وَهُوَ أَرْجَحُ لِثُبُوتِهِ صَرِيحًا عَنْ تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: {قَالَتَا} قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ الْفِرْقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ جَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً وَالْأَرَضِينَ أَرْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ لِذَلِكَ شَاهِدًا. وَهِيَ غَفْلَةٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا لَفْظُ سَمَاءٍ مُفْرَدٍ وَلَفْظُ أَرْضٍ مُفْرَدٍ، نَعَمْ قَوْلُهُ طَائِعِينَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ مِنَ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ:{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْمِنْهَالُ) هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ صَدُوقٌ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَتَرَكَهُ شُعْبَةُ لِأَمْرٍ لَا يُوجِبُ فِيهِ قَدْحًا كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ قَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَكَذَا النَّسَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ) كَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الَّذِي صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأْسَ الْأَزَارِقَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَكَانَ يُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ وَيَسْأَلُهُ وَيُعَارِضُهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَقَعَ سُؤَالُهُ عَنْهُ صَرِيحًا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} - {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} وَقَوْلُهُ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} - وهَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ حَسْبُ، وَهِيَ إِحْدَى الْقِصَصِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: قَدِمَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَنَجْدَةُ بْنُ عُوَيْمِرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ مَكَّةَ فَإِذَا هُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ قَاعِدًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ وَالنَّاسُ قِيَامًا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ: أَتَيْتُكَ لِأَسْأَلَكَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ، سَاقَهَا فِي وَرَقَتَيْنِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَعْضَ الْقِصَّةِ وَلَفْظُهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَالَ: إِنِّي أَحْسِبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ فَقُلْتُ لَهُمْ أَيْنَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُلْقِي عَلَيْهِ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَنْ وَحَّدَهُ، فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
قَالَ: فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ انْتَهَى وَهَذِهِ الْقِصَّةُ إِحْدَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُبْهَمُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ) أَيْ تُشْكِلُ وَتَضْطَرِبُ، لِأَنَّ بَيْنَ ظَوَاهِرِهَا تَدَافُعًا. زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَته عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بِسَنَدِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هُوَ، أَشَكٌّ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَيْسَ بِشَكٍّ وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ، فَقَالَ: هَاتِ مَا اخْتُلِفَ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ. وَحَاصِلُ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ نَفْيُ الْمُسَاءَلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِثْبَاتُهَا، الثَّانِي كِتْمَانُ الْمُشْرِكِينَ حَالَهُمْ وَإِفْشَاؤُهُ، الثَّالِثُ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيُّهُمَا تَقَدَّمَ، الرَّابِعُ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ كَانَ الدَّالِّ عَلَى الْمَاضِي مَعَ أَنَّ الصِّفَةَ لَازِمَةٌ.
وَحَاصِلُ جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ فِيمَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ وَإِثْبَاتَهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحُهُمْ، وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ بَدَأَ خَلْقَ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ فَسَوَّاهَا فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَغَيْرَهَا فِي يَوْمَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِلْأَرْضِ، فَهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ:{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَشَقَّقَ الْأَنْهَارَ وَقَدَّرَ فِي كُلِّ أَرْضٍ قُوتَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وَتَلَا الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} قَالَ: فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ لِضَعْفِ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ الْبَقَّالُ، وَعَنِ الرَّابِعِ بِأَنَّ كَانَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الِانْقِطَاعَ؛ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ تَفْسِيرٌ آخَرُ أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عِنْدَ تَشَاغُلِهِمْ بِالصَّعْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَإِثْبَاتَهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَإِثْبَاتَهَا بَعْدَ النَّفْخَةِ
الثَّانِيَةِ، وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ نَفْيَ الْمُسَاءَلَةِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ طَلَبُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ الْعَفْوَ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَاذَانَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادَى: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ، قَالَ: فَتَوَدُّ الْمَرْأَةُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَبِيهَا أَوِ ابْنِهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى قَالَ: لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ بِنَسَبٍ شَيْئًا وَلَا يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَلَا يَمُتُّ بِرَحِمٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِيَ قَوْلُهُ:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَثْنَاءَ حَدِيثٍ وَفِيهِ ثُمَّ يُلْقَى الثَّالِثُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ وَيُثْنِي مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ، فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مَنَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُ. وَأَمَّا الثَّالث فَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أَيْضًا مِنْهَا أَنَّ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا إِيرَادَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ تَرْتِيبُ الْخَبَرِ لَا الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ، وَقِيلَ عَلَى بَابِهَا لَكِنْ ثُمَّ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْخِلْقَتَيْنِ لَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ، وَقِيلَ خَلَقَ بِمَعْنَى قَدَّرَ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ وَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَضَتْ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ انْقَضَى، وَأَمَّا الصِّفَتَانِ فَلَا يَزَالَانِ كَذَلِكَ لَا يَنْقَطِعَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ أَوِ الرَّحْمَةَ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ مُرَادُهُ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِجَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّسْمِيَةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ وَانْتَهَتْ وَالصِّفَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْآخَرُ: أَنَّ مَعْنَى
كَانَ الدَّوَامُ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ السُّؤَالُ عَلَى مَسْلَكَيْنِ وَالْجَوَابُ عَلَى رَفْعِهِمَا كَأَنْ يُقَالَ: هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَغْفِرُ لَهُ أَوْ يَرْحَمُ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَالِ كَذَلِكَ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ كَانَ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي يُسَمَّى بِهِ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ كَانَ تُعْطَى مَعْنَى الدَّوَامِ، وَقَدْ قَالَ النُّحَاةُ: كَانَ لِثُبُوتِ خَبَرِهَا مَاضِيًا دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَخْتَلِفُ) بِالْجَزْمِ لِلنَّهْيِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَفِي آخِرِهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ بَقِيَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا نَزَلَ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَجْهَهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي السِّيَاقِ وَالسَّمَاءِ بَنَاهَا وَالتِّلَاوَةُ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} كَذَا زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وَهُوَ عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ {دَحَاهَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} .
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ) أَيِ ابْنُ أَبِي زُرَيْقٍ التَّيْمِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ، وَهُوَ أَخُو زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ حَدَّثَنِيهِ عَنْ يُوسُفَ بِزِيَادَةِ عَنْ وَهِيَ غَلَطٌ. وَسَقَطَ قَوْلُهُ وَحَدَّثَنِيهِ إِلَخْ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، لَكِنْ ذَكَرَ الْبُرْقَانِيُّ فِي الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ فَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ قَالَ: وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأُرْدِسْتَانِيُّ قَالَ: شَاهَدْتُ نُسْخَةً مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ فِي هَامِشِهَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ الْبُرْقَانِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ صَنِيعِ مَنْ سَمِعَهُ مِنَ الْبُوشَنْجِيِّ فَإِنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِيُوسُفَ وَلَا لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا لِزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ حَدِيثًا مُسْنَدًا سِوَاهُ، وَفِي مُغَايَرَةِ الْبُخَارِيِّ سِيَاقَ الْإِسْنَادِ عَنْ تَرْتِيبِهِ الْمَعْهُودِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ وَإِنْ صَارَتْ صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَوْصُولِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا الِاصْطِلَاحُ وَأَنَّ مَا يُورِدُهُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ صَحِيحِهِ وَخَرَجَ عَلَى مَنْ يُغَيِّرُ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهَا إِذَا أَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ.
فَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَمِعَهُ أَوَّلًا مُرْسَلًا وَآخِرًا مُسْنَدًا فَنَقَلَهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَقَدْ وَجَدْتُ لِلْحَدِيثِ طَرِيقًا أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ مِنْ طَرِيقٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو بِتَمَامِهِ، فَشَيْخُ مَعْمَرٍ الْمُبْهَمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَرِّفًا أَوْ زَيْدَ بْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ أَوْ ثَالِثًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} مَحْسُوبٍ) سَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ مَحْسُوبٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُحْسَبُ فَيُحْصَى فَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: {أَقْوَاتَهَا} أَرْزَاقُهَا) أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بِلَفْظِ قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: جِبَالَهَا وَأَنْهَارَهَا وَدَوَابَّهَا وَثِمَارَهَا وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} قَالَ: مِنَ الْمَطَرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْوَاتُهَا وَاحِدُهَا قُوتٌ وَهِيَ الْأَرْزَاقُ.
قَوْلُهُ: {فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} مِمَّا أَمَرَ بِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ: مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَأَرَادَهُ أَيْ مِنْ خَلْقِ الرُّجُومِ وَالنَّيِّرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {نَحِسَاتٍ} مَشَائِيمَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: رِيحًا صَرْصَرًا: بَارِدَةً. {نَحِسَاتٍ} مَشْومَاتٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّرْصَرُ هِيَ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ الْعَاصِفَةُ، {نَحِسَاتٍ} ذَوَاتُ نُحُوسٍ أَيْ مَشَائِيمَ.
قَوْلُهُ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} ، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عِنْدَ الْمَوْتِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَطَائِفَةٍ، وَعِنْدَ
الْأَصِيلِيِّ {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَرَنَّاهُمْ بِهِمْ. {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عِنْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ وَصَوَابُهُ، وَلَيْسَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ تَفْسِيرًا لِقَيَّضْنَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَالَ: شَيَاطِينَ، وَفِي قَوْلِهِ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} قَالَ: عِنْدَ الْمَوْتِ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مُفَرَّقًا فِي مَوْضِعَيْهِ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عِنْدَ الْمَوْتِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ فَإِنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، وَالْحَاصِلُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: {اهْتَزَّتْ} بِالنَّبَاتِ، {وَرَبَتْ} ارْتَفَعَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا حِينَ تَطْلُعُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا إِلَى قَوْلِهِ ارْتَفَعَتْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ إِلَى قَوْلِهِ ارْتَفَعَتْ وَزَادَ: قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ.
قَوْلُهُ: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أَيْ بِعِلْمِي أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا وَلَكِنْ لَفْظُهُ بِعَمَلِي بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى اللَّامِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَقُولَنَّ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ فَمَحْذُوفٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: اللَّامُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ مَحْذُوفَةٌ مِنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ شَاذٌّ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ فِي الشِّعْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {هَذَا لِي} أَيْ لَا يَزُولُ عَنِّي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قَدَّرَهَا سَوَاءً) سَقَطَ وَقَالَ غَيْرُهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَهُوَ أَشْبَهُ، فَإِنَّهُ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} نَصَبَهَا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ سَوَاءً بِالنَّصْبِ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ وَيَعْقُوبُ بِالْجَرِّ، فَالنَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى نَعْتِ الْأَقْوَاتِ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى الْقَطْعِ، وَمَنْ خَفَضَ فَعَلَى نَعْتِ الْأَيَّامِ أَوِ الْأَرْبَعَةِ.
قَوْلُهُ: {فَهَدَيْنَاهُمْ} دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) كَقَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وكقَوْلُهُ: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَسْعَدْنَاهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} . كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَلِغَيْرِهِمَا أَصْعَدْنَاهُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ بِالصَّادِ أَقْرَبُ إِلَى تَفْسِيرِ أَرْشَدْنَاهُ مِنْ أَسْعَدْنَاهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالسِّينِ كَانَ مِنَ السَّعْدِ وَالسَّعَادَةِ، وَأَرْشَدْتُ الرَّجُلَ إِلَى الطَّرِيقِ وَهَدَيْتُهُ السَّبِيلَ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِذَا قُلْتُ أَصْعَدْنَاهُمْ بِالصَّادِ خَرَجَ اللَّفْظُ إِلَى مَعْنَى الصُّعُدَاتِ فِي قَوْلِهِ إِيَّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصُّعُدَاتِ وَهِيَ الطُّرُقُ، وَكَذَلِكَ أَصْعَدَ فِي الْأَرْضِ إِذَا سَارَ فِيهَا عَلَى قَصْدٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ قَصَدَ هَذَا وَكَتَبَهَا فِي نُسْخَتِهِ بِالصَّادِ الْتِفَاتًا إِلَى حَدِيثِ الصُّعُدَاتِ فَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ انْتَهَى. وَالَّذِي عِنْدَ الْبُخَارِيِّ إِنَّمَا هُوَ بِالسِّينِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يُقَالُ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْخَيْرِ وَمَذْهَبِ الشَّرِّ كَقَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثُمَّ سَاقَ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ: الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} قَالَ: وَالْهُدَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ الْإِرْشَادُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ أَسْعَدْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: {يُوزَعُونَ} يُكَفُّونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ يُدْفَعُونَ، وَهُوَ مِنْ وَزِعْتُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} قَالَ: عَلَيْهِمْ وَزَعَةٌ تَرُدُّ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ.
قَوْلُهُ: {مِنْ أَكْمَامِهَا} قِشْرُ الْكُفُرَّى الْكُمُّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ هِيَ الْكُمُّ، زَادَ الْأَصِيلِيُّ: وَاحِدُهَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{مِنْ أَكْمَامِهَا} أَيْ أَوْعِيَتِهَا وَاحِدُهَا كُمَّةٌ وَهُوَ مَا كَانَتْ فِيهِ، وَكُمٌّ وَكُمَّةٌ وَاحِدٌ، وَالْجَمْعُ أَكْمَامٌ، وَأَكِمَّةٌ.
(تَنْبِيهٌ): كَافُ الْكُمِّ مَضْمُومَةٌ كَكُمِّ الْقَمِيصِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَبِهِ جَزَمَ
الرَّاغِبُ، وَوَقَعَ فِي الْكَشَّافِ بِكَسْرِ الْكَافِ فَإِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهَا لُغَةٌ فِيهِ دُونَ كُمِّ الْقَمِيصِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: وَيُقَالُ لِلْعِنَبِ إِذَا خَرَجَ أَيْضًا: كَافُورٌ وَكُفُرَّى) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ، وَالْكُفُرَّى بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَبِضَمِّهَا أَيْضًا وَالرَّاءُ مُثَقَّلَةٌ مَقْصُورٌ، وَهُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ وَقِشْرُهُ الْأَعْلَى. قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: وَوِعَاءُ كُلِّ شَيْءٍ كَافُورُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ الْكُفُرَّى: الطَّلْعُ بِمَا فِيهِ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ الطَّلْعُ.
قَوْلُهُ: {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} الْقَرِيبُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ: وَقَالَ مَعْمَرٌ فَذَكَرَهُ، وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ الْمُثَنَّى أَبُو عُبَيْدَةَ وَهَذَا كَلَامُهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قَالَ: وَلِيٌّ قَرِيبٌ.
قَوْلُهُ: {مِنْ مَحِيصٍ} حَاصَ عَنْهُ حَادَ عَنْهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} يُقَالُ حَاصَ عَنْهُ أَيْ عَدَلَ وَحَادَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ مِنْ مَعْدِلٍ.
قَوْلُهُ: {مِرْيَةٍ} وَمُرْيَةٌ وَاحِدٌ) أَيْ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيِ امْتِرَاءٌ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالضَّمِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الْوَعِيدُ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُوَ وَعِيدٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} قَالَ: هَذَا وَعِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعَمَلِ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَعُّدٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) سَقَطَ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ إِلَخْ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} السَّلَامُ
4816 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآيَةَ قَالَ كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفَ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} الآيَةَ
[الحديث 4816 - طرفاه في: 4817، 7521]
قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} الْآيَةُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {تَسْتَتِرُونَ} ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: تَسْتَخْفُونَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَتَّقُونَ، وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أَيْ قَالَ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ}
قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ رَجُلَانِ
مِنْ ثَقِيفٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ) هَذَا الشَّكُّ مِنْ أَبِي مَعْمَرٍ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ ثَقَفِيٍّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ وَلَمْ يَشُكَّ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ هَذِهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَلَمْ يَنْسُبْهُمْ، وَذَكَرَ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُرَشِيُّ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالثَّقَفِيَّانِ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَالْآخَرُ لَمْ يُسَمَّ، وَرَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ فَوَجَدْتُهُ قَالَ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} قَالَ: جَلَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ وَهُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَالْآخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي تَنْزِيلِ هَذَا عَلَى هَذَا مَا لَا يَخْفَى. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَتَبِعَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّ الثَّقَفِيَّ عَبْدُ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ وَالْقُرَشِيَّانِ صَفْوَانُ، وَرَبِيعَةُ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْقُرَشِيَّ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَالثَّقَفِيَّانِ رَبِيعَةُ، وَحَبِيبٌ ابْنَا عَمْرٍو، فَاللَّهُ أَعْلَمُ
2 - بَاب: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
4817 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الْآيَةَ. وَكَانَ سُفْيَانُ يُحَدِّثُنَا بِهَذَا فَيَقُولُ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَوْ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوْ حُمَيْدٌ، أَحَدُهُمْ أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ .. بِنَحْوِهِ
قَوْلُهُ: بَابُ {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَذَلِكُمْ} لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَنِيعِ الِاسْتِتَارِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَخْفَى عَمَلُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ أَرْدَاكُمْ، وَظَنَّكُمْ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ) أَيْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ.
قَوْلُهُ: (كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِإِضَافَةِ بُطُونٍ لِشَحْمٍ وَإِضَافَةِ قُلُوبٍ لِفِقْهٍ وَتَنْوِينِ كَثِيرَةٍ وَقَلِيلَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ وَذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِلَفْظِ إِضَافَةِ شَحْمٍ إِلَى كَثِيرَةٍ وَبُطُونُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْمُبْتَدَأُ أَيْ بُطُونُهُمْ كَثِيرَةُ الشَّحْمِ وَالْآخَرُ مِثْلُهُ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: عَظِيمَةٌ بُطُونُهُمْ قَلِيلٌ فِقْهُهُمْ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْفِطْنَةَ قَلَّمَا تَكُونُ مَعَ الْبِطْنَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْتُ سَمِينًا عَاقِلًا إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ.
قَوْلُهُ: (لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ
لَقَدْ سَمِعَ كُلَّهُ) أَيْ لِأَنَّ نِسْبَةَ جَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ إِلَيْهِ وَاحِدَةٌ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ أَفْطَنَ أَصْحَابِهِ، وَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ سُفْيَانُ يُحَدِّثُنَا بِهَذَا فَيَقُولُ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَوِ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوْ حُمَيْدٌ أَحَدُهُمْ أَوِ اثْنَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا غَيْرَ وَاحِدَةٍ) هَذَا كَلَامُ الْحُمَيْدِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ مَنْصُورٍ أَحَدًا. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ وَحْدَهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) لِسُفْيَانَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ تَرَكَ طَرِيقَ الْأَعْمَشِ لِلِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ قِيلَ عَنْهُ هَكَذَا، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ.
42 - سُورَةُ حم عسق
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَقِيمًا لَا تَلِدُ. رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا: الْقُرْآنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ: نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ. لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا: لَا خُصُومَةَ بيننا وبينكم. طَرْفٍ خَفِيٍّ: ذَلِيلٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ يَتَحَرَّكْنَ وَلَا يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ. شَرَعُوا: ابْتَدَعُوا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {حم * عسق}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَقِيمًا} الَّتِي لَا تَلِدُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ:{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} قَالَ: لَا يُلَقَّحُ. وَذَكَرَهُ بِاللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ بِلَفْظِ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْقُرْآنُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قَالَ: وَحْيًا. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قَالَ: رَحْمَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قَالَ: نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{يَذْرَؤُكُمْ} قَالَ: يَخْلُقُكُمْ.
قَوْلُهُ: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ.
قَوْلُهُ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذَلِيلٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ:{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ، وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ هُوَ بِلَازِمِ هَذَا.
قَوْلُهُ: {شَرَعُوا} ابْتَدَعُوا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} : يَتَحَرَّكْنَ وَلَا يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ) وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُفُنُ هَذَا الْبَحْرِ تَجْرِي بِالرِّيحِ فَإِذَا أُمْسِكَتْ عَنْهَا الرِّيحُ رَكَدَتْ، وَقَوْلُهُ يَتَحَرَّكْنَ أَيْ يَضْرِبْنَ بِالْأَمْوَاجِ، وَلَا يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ بِسُكُونِ الرِّيحِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَا سَقَطَتْ فِي قَوْلِهِ يَتَحَرَّكْنَ
قَالَ: لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوا رَوَاكِدَ بِسَوَاكِنَ، وَتَفْسِيرُ رَوَاكِدَ بِسَوَاكِنَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَكِنَّ السُّكُونَ وَالْحَرَكَةَ فِي هَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ
1 - باب: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
4818 -
حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ
قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتُ أَيْ أَسْرَعْتُ فِي التَّفْسِيرِ. وَهَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَدْ جَاءَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَرَابَتُكَ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَوَدَّتُهُمْ؟ الْحَدِيثَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ سَاقِطٌ لِمُخَالَفَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي فَتَحْفَظُونِي، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ خَاصَّةً، وَالْقُرْبَى قَرَابَةُ الْعُصُوبَةِ وَالرَّحِمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: احْفَظُونِي لِلْقَرَابَةِ إِنْ لَمْ تَتَّبِعُونِي لِلنُّبُوَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ
(1)
وَقَدْ جَزَمَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَاسْتَنَدُوا إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ فِيهِ ضَعِيفٌ وَرَافِضِيٌّ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا أَحَادِيثَ ظَاهِرٌ وَضْعُهَا، وَرَدَّهُ الزَّجَّاجُ بِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَبِمَا نَقَلَهُ الشَّعْبِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَجَزَمَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ.
وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ كَانَتْ تَنُوبُهُ نَوَائِبُ وَلَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ، فَجَمَعَ لَهُ الْأَنْصَارُ مَالًا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ ابْنُ أُخْتِنَا، وَقَدْ هَدَانَا اللَّهُ بِكَ، وَتَنُوبُكَ النَّوَائِبُ وَحُقُوقٌ وَلَيْسَ لَكَ سَعَةٌ، فَجَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ. وَهَذِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الضُّعَفَاءِ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا أَنْفُسُنَا وَأَمْوَالُنَا لَكَ. فَنَزَلَتْ. وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَيُبْطِلُهُ أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْأَقْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَعَلَّ مُحَمَّدًا يَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ فَنَزَلَتْ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَرَدَّهُ الثَّعْلَبِيُّ بِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّوَدُّدِ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ أَوْ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ أَوْ صِلَةِ رَحِمِهِ بِتَرْكِ أَذِيَّتِهِ أَوْ صِلَةِ أَقَارِبِهِ مِنْ أَجْلِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَمِرُّ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى أَمْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يُوَادِدُوا أَقَارِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
بياض بأصله.
وَابْنُ عَبَّاسٍ حَمَلَهَا عَلَى أَنْ يُوَادِدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَلَى الثَّانِي الْخِطَابُ خَاصٌّ بِقُرَيْشٍ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَامًّا خُصَّ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْبَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصِلُ أَرْحَامَهَا، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطَعُوهُ فَقَالَ: صِلُونِي كَمَا تَصِلُونَ غَيْرِي مِنْ أَقَارِبِكُمْ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَكْثَرُوا عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ عَنْهَا فَكَتَبَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَاسِطَ النَّسَبِ فِي قُرَيْشٍ، لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلَدُهُ، فَقَالَ اللَّهُ:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} تَوَدُّونِي بِقَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَحْفَظُونِي فِي ذَلِكَ.
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إِلَّا أَنْ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَثَبَتَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُهُ، وَالْأَجْرُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ. وَقَوْلُهُ الْقُرْبَى هُوَ مَصْدَرٌ كَالزُّلْفَى وَالْبُشْرَى بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَالْمُرَادُ فِي أَهْلِ الْقُرْبَى، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ فِي دُونَ اللَّامِ كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ مَكَانًا لِلْمَوَدَّةِ وَمَقَرًّا لَهَا، كَمَا يُقَالُ: لِي فِي آلِ فُلَانٍ هَوًى، أَيْ هُمْ مَكَانُ هَوَايَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِي سَبَبِيَّةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَالْمَعْنَى لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا قَطُّ، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمْ أَنْ تَوَدُّونِي بِسَبَبِ قَرَابَتِي فِيكُمْ.
43 - سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى أُمَّةٍ: عَلَى إِمَامٍ. {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وَلَا نَسْمَعُ قِيلَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لَوْلَا أَنْ جُعِلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا، لَجُعِلَتْ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ. وَهِيَ دَرَجٌ. وَسُرُرٌ فِضَّةٌ. مُقْرِنِينَ: مُطِيقِينَ. آسَفُونَا: أَسْخَطُونَا. يَعِشُ: يَعْمَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ} أَيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؟ وَمَضَى مِثْلُ الْأَوَّلِينَ: سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. مُقْرِنِينَ: يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ. {يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} الْجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ. {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنُونَ الْأَوْثَانَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الْأَوْثَانُ، إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فِي عَقِبِهِ: وَلَدَهُ. مُقْتَرِنِينَ: يَمْشُونَ مَعَا. سَلَفًا قَوْمُ فِرْعَوْنَ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَمَثَلًا: عِبْرَةً. يَصُدُّونَ: يَضِجُّونَ. مُبْرِمُونَ: مُجْمِعُونَ. أَوَّلُ الْعَابِدِينَ: أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الْعَرَبُ تَقُولُ: نَحْنُ مِنْكَ الْبَرَاءُ وَالْخَلَاءُ، والْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ بَرِيئَانِ وَفِي الْجَمِيعِ بَرِيئُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّنِي بَرِيءٌ بِالْيَاءِ. وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ. مَلَائِكَةً يَخْلُفُونَ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
قَوْلُهُ: {عَلَى أُمَّةٍ} عَلَى إِمَامٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي
ذَرٍّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرَهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى أُمَّةٍ} قَالَ: عَلَى مِلَّةٍ: وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى أُمَّةٍ} أَيْ عَلَى دِينٍ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وَلَا نَسْمَعُ قِيلَهُمْ قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ وَقِيلِهِمْ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَقِيلَهُ مَنْصُوبٌ فِي قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَلَى نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَقِيلِهِ، قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ فِي مَوْضِعِ الْفِعْلِ، أَيْ وَيَقُولُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَسْمَعُ قِيلَهُ، فَحُذِفَ الْعَامِلَ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ: وَقِيلَهُ فَنَصَبَ تَجُوزُ مِنْ قَوْلِهِ {نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وَنَسْمَعُ قِيلَهُمْ؛ وَقَدِ ارْتَضَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَهُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وَالتَّقْدِيرُ وَنَسْمَعُ قِيلَهُ يَا رَبِّ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ ابْنُ التِّينِ وَإِلْزَامُهُ بَلْ يَصِحُّ وَالْقِرَاءَةُ وَقِيلَهُ بِالْإِفْرَادِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ {وَقِيلِهِ} بِالْجَرِّ عَلَى مَعْنَى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ، قَالَ: وَهُمَا قِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي أَوَاخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} - فِي مَوْضِعِ {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْمَعْنَى إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَقَالَ: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} ؛ وَفِيهِ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِهِ مُقَطَّعًا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ كُفَّارًا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: كُفَّارًا يَمِيلُونَ إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ: وَقَدْ مَالَتِ الدُّنْيَا بِأَكْثَرِ أَهْلِهَا وَمَا فُعِلَ، فَكَيْفَ لَوْ فُعِلَ.
قَوْلُهُ: {مُقْرِنِينَ} مُطِيقِينَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قَالَ: مُطِيقِينَ. وَهُوَ بِالْقَافِ. وَمِنْ طَرِيقٍ لِلسُّدِّيِّ مِثْلُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} لَا فِي الْأَيْدِي وَلَا فِي الْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ: {آسَفُونَا} أَسْخَطُونَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{فَلَمَّا آسَفُونَا} قَالَ: أَسْخَطُونَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يَقُولُ: {آسَفُونَا} أَغْضَبُونَا. وَعَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ وَأَوْرَدَهُ فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيِّ عَامِلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْيَمَنِ.
قَوْلُهُ: {يَعْشُ} يَعْمَى) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قَالَ: يَعْمَى. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: {وَمَنْ يَعْشُ} أَيْ: يُعْرِضْ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنْ فَسَّرَ يَعْشُ بِمَعْنَى يَعْمَى فَقِرَاءَتُهُ بِفَتْحِ الشِّينِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْشُ بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ: تُظْلَمُ عَيْنُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُعْرِضُ عَنْهُ، قَالَ: وَمَنْ قَرَأَ يَعْشَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَرَادَ تَعْمَى عَيْنُهُ، قَالَ: وَلَا أَرَى الْقَوْلَ إِلَّا قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُجِيزُ عَشَوْتُ عَنِ الشَّيْءِ أَعْرَضْتُ عَنْهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: تَعَاشَيْتُ عَنْ كَذَا تَغَافَلْتُ عَنْهُ وَمِثْلُهُ تَعَامَيْتُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَشِيَ إِذَا مَشَى بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ مِثْلُ عَرِجَ مَشَى مِشْيَةَ الْأَعْرَجِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أَيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ)؟ ! وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ.
قَوْلُهُ: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ
فِي قَوْلِهِ: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} قَالَ: سُنَّتُهُمْ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: {مُقْرِنِينَ} يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ وَزَادَ: وَالْحَمِيرَ. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَهُ، وَأَمَّا لَفْظُ مُقْرِنِينَ فَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} الْجَوَارِي، يَقُولُ جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَقَالَ:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وَأَنْتُمْ تَمْقُتُونَ الْبَنَاتَ وَتَنْفِرُونَ مِنْهُنَّ حَتَّى بَالَغْتُمْ فِي ذَلِكَ فَوَأَدْتُمُوهُنَّ، فَكَيْفَ تُؤْثِرُونَ أَنْفُسَكُمْ بِأَعْلَى الْجُزْأَيْنِ وَتَدَّعُونَ لَهُ الْجُزْءَ الْأَدْنَى مَعَ أَنَّ صِفَةَ هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي هُوَ الْبَنَاتُ أَنَّهَا تُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَالزِّينَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى نَقْصِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قَالَ: الْبَنَاتُ {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: فَمَا تَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَكَلَّمَ بِحُجَّةٍ لَهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا. (تَنْبِيهٌ): قَرَأَ يَنْشَأُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا الْجُمْهُورُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُثَقَّلًا، وَالْجَحْدَرِيُّ مِثْلَهُ مُخَفَّفًا.
قَوْلُهُ: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، يَعْنُونَ الْأَوْثَانَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الْأَوْثَانُ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ، مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} قَالَ: الْأَوْثَانُ. قَالَ اللَّهُ: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} مَا تَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمِ لِلْكُفَّارِ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَشِيئَةِ وَلَا بُرْهَانَ مَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَقُولُونَهُ ظَنًّا وَحُسْبَانًا، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْأَوْثَانِ وَنَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وَنَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ مَا يَصْنَعُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ.
قَوْلُهُ: {فِي عَقِبِهِ} وَلَدِهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَلَدِ الْجِنْسُ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي عَقِبِهِ لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ عز وجل.
قَوْلُهُ: {مُقْتَرِنِينَ} يَمْشُونَ مَعًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يَمْشُونَ مَعًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: يَعْنِي مُتَتَابِعِينَ.
قَوْلُهُ: (سَلَفًا قَوْمُ فِرْعَوْنَ. سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ كُفَّارُهُمْ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: {وَمَثَلا} عِبْرَةً) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ وَزَادَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
قَوْلُهُ: {يَصِدُّونَ} يَضِجُّونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: وَمَنْ ضَمَّهَا فَمَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{يَصِدُّونَ} قَالَ: يَضِجُّونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ:، أَخْبَرَنِي زِرُّ هُوَ ابْنُ حُبَيْشٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا يَصِدُّونَ يَعْنِي بِكَسْرِ الصَّادِ يَقُولُ: يَضِجُّونَ. قَالَ عَاصِمٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقْرَؤُهَا بِضَمِّ الصَّادِ، فَبِالْكَسْرِ مَعْنَاهُ يَضِجُّ وَبِالضَّمِّ مَعْنَاهُ يُعْرِضُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الضَّمِّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ كَذَاكَ لَكَانَتْ عَنْهُ لَا مِنْهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْهُ أَيْ مِنْ أَجْلِهِ فَيَصِحُّ الضَّمُّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قِرَاءَتَهُ يَصُدُّونَ بِالضَّمِّ.
قَوْلُهُ: {مُبْرِمُونَ} مُجْمِعُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ وَزَادَ إِنْ كَادُوا شَرًّا كِدْنَاهُمْ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ: بِاللَّهِ فَقُولُوا مَا شِئْتُمْ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَوْلُهُ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يَقُولُ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَكَفَرَ بِمَا تَقُولُونَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ بِسَنَدِهِ قَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ
وَكَذَّبَكُمْ وَسَيَأْتِي لَهُ بَعْدَ هَذَا تَفْسِيرٌ آخَرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الْعَرَبُ تَقُولُ: نَحْنُ مِنْكَ الْبَرَاءُ وَالْخَلَاءُ، الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ سَوَاءٌ يُقَالُ فِيهِ بَرَاءٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَلَوْ قِيلَ بَرِيءٌ لَقِيلَ فِي الِاثْنَيْنِ بَرِيئَانِ وَفِي الْجَمِيعِ بَرِيئُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مَجَازُهَا لُغَةٌ عَالِيَةٌ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: أَنَا بَرِيءٌ وَهِيَ بَرِيئَةٌ وَنَحْنُ بَرَاءٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّنِي بَرِيءٌ بِالْيَاءِ) وَصَلَهُ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ:، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأَيْتُهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَزُخْرُفًا} قَالَ: الذَّهَبُ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: {مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مَكَانَ ابْنِ آدَمَ.
1 - بَاب: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} الآية
4819 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} عِظَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {مُقْرِنِينَ} ضَابِطِينَ. يُقَالُ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ: ضَابِطٌ لَهُ. وَالْأَكْوَابُ: الْأَبَارِيقُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ جُمْلَةِ الْكِتَابِ، أَصْلِ الْكِتَابِ. {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ مَا كَانَ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، وَهُمَا لُغَتَانِ: رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ، وَيُقَالُ {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْجَاحِدِينَ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ بَعْدَ مَا طَالَ إِبْلَاسُهُمْ تَكَلَّمُوا، وَالْمُبْلِسُ السَّاكِتُ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْفَرَجِ، فَكَانَ فَائِدَةُ الْكَلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ حُصُولُ بَعْضِ فَرَجٍ لِطُولِ الْعَهْدِ، أَوِ النِّدَاءُ يَقَعُ قَبْلَ الْإِبْلَاسِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَسْتَلْزِمُ تَرْتِيبًا.
قَوْلُهُ: (عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ) هُوَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُنْيَةَ.
قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} كَذَا لِلْجَمِيعِ بِإِثْبَاتِ الْكَافِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَنَادَوْا يَا مَالِ بِالتَّرْخِيمِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَادَوْا يَا مَالِ يَعْنِي بِالتَّرْخِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَيُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: مَا أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ؟ وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ الِاسْمِ لِضَعْفِهِمْ وَشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ {وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} عِظَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَلَمَّا آسَفُونَا} قَالَ: أَغْضَبُونَا، {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} قَالَ: إِلَى النَّارِ، {وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} قَالَ: عِظَةً لِلْآخِرِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {مُقْرِنِينَ} ضَابِطِينَ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ ضَابِطٌ لَهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْكُمَيْتِ:
وَلَسْتُمْ
لِلصِّعَابِ مُقْرِنِينَا.
قَوْلُهُ: (وَالْأَكْوَابُ: الْأَبَارِيقُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْأَكْوَابُ: الْأَبَارِيقُ الَّتِي لَا آذَانَ لَهَا.
قَوْلُهُ وَقَالَ قَتَادَةُ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةُ الْكِتَابِ، أَصْلُ الْكِتَابِ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} قَالَ: فِي أَصْلِ الْكِتَابِ وَجُمْلَتِهِ.
قَوْلُهُ: {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ مَا كَانَ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ) وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ. وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ قَطُّ. أَيْ مَا كَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ إِنْ بِمَعْنَى لَوْ أَيْ لَوْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنْ بِمَعْنَى مَا فِي قَوْلٍ، وَالْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ وَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ. إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ فِي قَوْلِكُمْ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَيِ الْكَافِرِينَ بِذَلِكَ وَالْجَاحِدِينَ لِمَا قُلْتُمْ، وَالْعَابِدِينَ مِنْ عَبِدَ بِكَسْرِ الْبَاءِ يَعْبَدُ بِفَتْحِهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ
…
وَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْبًا بِدَارِمِ
أَيْ أَمْتَنِعُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: عَبِدَ مَعْنَاهُ اسْتَنْكَفَ، ثُمَّ سَاقَ قِصَّةً عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: عَبَدَ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى عَابِدٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَبَدُ بِالتَّحْرِيكِ الْغَضَبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى إِسْنَادِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ: أَوَّلُ الْجَاحِدِينَ، مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ) وَقَالَ ابْنُ التِّينِ كَذَا ضَبَطُوهُ وَلَمْ أَرَ فِي اللُّغَةِ عَبِدَ بِمَعْنَى جَحَدَ انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَهَا الْفَرَبْرِيُّ.
(تَنْبِيهٌ): ضُبِطَتْ عَبِدَ يَعْبَدُ هُنَا بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ
2 - باب: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} مُشْرِكِينَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ. {جُزْءًا} عِدْلًا.
قَوْلُهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} : مُشْرِكِينَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِهِ وَزَادَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: {جُزْءًا} عِدْلًا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ، وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالَ: جُزْءًا أَيْ نَصِيبًا، وَقِيلَ جُزْءًا إِنَاثًا، تَقُولُ جَزَّأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتْ بِأُنْثَى
44 - سُورَةُ حم الدُّخَانِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {رَهْوًا} طَرِيقًا يَابِسًا، وَيُقَالُ {رَهْوًا} سَاكِنًا. {عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} عَلَى مَنْ بَيْنَ
ظَهْرَيْهِ. فَاعْتُلُوهُ: ادْفَعُوهُ. {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أَنْكَحْنَاهُمْ حُورًا عِينًا يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ. وَيُقَالُ {أَنْ تَرْجُمُونِ} الْقَتْلُ. ورهوا: ساكنا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَالْمُهْلِ} أَسْوَدُ كَمُهْلِ الزَّيْتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ {تُبَّعٍ} مُلُوكُ الْيَمَنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ، وَالظِّلُّ يُسَمَّى تُبَّعًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ حم الدُّخَانِ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سَقَطَتْ (سُورَةُ) وَ (الْبَسْمَلَةُ) لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {رَهْوًا} طَرِيقًا يَابِسًا، وَيُقَالُ رَهْوًا سَاكِنًا) أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِهِ وَزَادَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ ضُرِبَ يَقُولُ لَا تَأْمُرْهُ أَنْ يَرْجِعَ بَلِ اتْرُكْهُ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {رَهْوًا} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عُطِفَ مُوسَى لِيَضْرِبَ الْبَحْرَ لِيَلْتَئِمَ وَخَافَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَقِيلَ لَهُ {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} يَقُولُ: كَمَا هُوَ طَرِيقًا يَابِسًا {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: فِي قَوْلِهِ {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} أَيْ سَاكِنًا، يُقَالُ: جَاءَتِ الْخَيْلُ رَهْوًا أَيْ: سَاكِنَةً، وَأَرِهْ عَلَى نَفْسِكَ أَيِ ارْفُقْ بِهَا، وَيُقَالُ عَيْشٌ رَاهٍ. وَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَإِثْبَاتُهُ هُوَ الصَّوَابُ.
قَوْلُهُ: {عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} عَلَى مَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ أَيْ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أَنْكَحْنَاهُمْ حُورًا عِينًا يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: أَنْكَحْنَاهُمُ الْحُورَ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ، بَيَانُ مُخِّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهِنَّ، وَيَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ فِي كَبِدِ إِحْدَاهُنَّ كَالْمِرْآةِ مِنْ رِقَّةِ الْجِلْدِ وَصَفَاءِ اللَّوْنِ.
قَوْلُهُ: {فَاعْتِلُوهُ} ادْفَعُوهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} قَالَ: ادْفَعُوهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ أَنْ تَرْجُمُونَ: الْقَتْلُ) سَقَطَ وَيُقَالُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَصَارَ كَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ قَالَهُ، وَأَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى الشَّتْمِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {تَرْجُمُونِ} قَالَ: بِالْحِجَارَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ حَمْلَ الرَّجْمَ هُنَا عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَهْوًا: سَاكِنًا) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ {كَالْمُهْلِ} أَسْوَدَ كَمُهْلِ الزَّيْتِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُهْلِ، قَالَ: شَيْءٌ غَلِيظٌ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْمُهْلُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ، إِلَّا أَنَّهُ رَقِيقٌ شَبِيهٌ بِالزَّيْتِ يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: الْمَهْلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ هُوَ الصَّدِيدُ وَمَا يَسِيلُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَبِالضَّمِّ هُوَ عَكَرُ الزَّيْتِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَحَاتُّ عَنِ الْجَمْرِ مِنَ الرَّمَادِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ خَبَثُ الْجَوَاهِرِ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُهْلِ أَقْوَالٌ أُخْرَى: فَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هُوَ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ، وَقِيلَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ أَوِ الْحَدِيدُ أَوِ الْفِضَّةُ، وَقِيلَ السُّمُّ، وَقِيلَ خُشَارُ الزَّيْتِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَالْمُهْلِ} قَالَ: كَعَكَرِ الزَّيْتِ إِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {تُبَّعٍ} مُلُوكُ الْيَمَنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ، وَالظِّلُّ يُسَمَّى تُبَّعًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ وَزَادَ: وَمَوْضِعُ تُبَّعٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضِعُ الْخَلِيفَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مُلُوكُ الْعَرَبِ الْأَعَاظِمِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ تُبَّعٌ رَجُلًا صَالِحًا. قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّهُ كَسَا الْبَيْتَ، وَنَهَى عَنْ سَبِّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ وَهُوَ
تُبَّعٌ. قَالَ وَهْبٌ: وَكَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ وَإِسْنَادُهُ أَصْلَحُ مِنْ إِسْنَادِ سَهْلٍ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا أَدْرِي تُبَّعًا كَانَ لَعِينًا أَمْ لَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُعْلِمَ بِحَالِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَعْلَمُهَا، فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ سَبِّهِ خَشْيَةَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى سَبِّهِ مَنْ سَمِعَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ
1 - بَاب: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} فَارْتَقِبْ: فَانْتَظِرْ
4820 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَضَى خَمْسٌ: الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ) هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ بِالتَّصْغِيرِ أَبُو الضُّحَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَبْوَابِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَقَدْ تَرْجَمَ لِهَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَ تَرَاجِمَ بَعْدَ هَذَا وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْفُرْقَانِ مُخْتَصَرًا وَفِي تَفْسِيرِ الرُّومِ وَتَفْسِيرِ ص مُطَوَّلًا، وَيَحْيَى الرَّاوِي فِيهِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ وَكِيعٍ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيِّ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَالْمَيْتَةُ وَفِي الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهَا حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَقَعَ فِي جُمْهُورِ الرِّوَايَاتِ الْمَيْتَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِنُونٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ وَهُوَ الْجِلْدُ أَوَّلَ مَا يُدْبَغُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ
2 - بَاب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
4821 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. قَالَ: لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، فَاسْتَسْقَى، فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ:{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فَلَمَّا أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ) كَذَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ،
وَالْآتِي الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ) إِنَّمَا قَالَ: لِمُضَرَ لِأَنَّ غَالِبَهُمْ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ مِيَاهِ الْحِجَازِ، وَكَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَحْطِ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ سُكَّانُ مَكَّةَ فَسَرَى الْقَحْطُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُمْ فَحَسُنَ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَلَعَلَّ السَّائِلَ عَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِقُرَيْشٍ لِئَلَّا يَذْكُرَهُمْ فَيُذَكِّرُ بِجُرْمِهِمْ، فَقَالَ: لِمُضَرَ لِيَنْدَرِجُوا فِيهِمْ، وَيُشِيرُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ قَدْ هَلَكُوا بِجَرِيرَتِهِمْ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مُضَرَ أَيْضًا قَوْمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ مُضَرَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ) أَيْ أَتَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَسْقِيَ لِمُضَرَ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ؟ وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْكِرْمَانِيِّ قَوْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُضَرَ أَيْ لِأَبِي سُفْيَانَ فَإِنَّهُ كَانَ كَبِيرُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ كَانَ الْآتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَدْعِي مِنْهُ الِاسْتِسْقَاءَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلَتْ قُرَيْشٌ فُلَانًا وَيُرِيدُونَ شَخْصًا مِنْهُمْ، وَكَذَا يُضِيفُونَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَبِيلَةِ وَالْأَمْرُ فِي الْوَاقِعِ مُضَافٌ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمُ انْتَهَى. وَجَعْلُهُ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةً بِقَالَ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْذُوفِ كَمَا قَرَّرْتُهُ أَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الرَّفَاهِيَةُ) بِتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَ الْهَاءِ أَيِ التَّوَسُّعُ وَالرَّاحَةُ.
3 - بَاب: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}
4822 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنْ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجُوعِ، قَالُوا:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَعَادُوا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} - إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ - {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي (عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ) تَقَدَّمَ سَبَبُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا فِي سُورَةِ الرُّومِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَفْظُهُ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَفَزِعْنَا، فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَغَضِبَ فَجَلَسَ فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْخَفِيِّ عَلَى الْوَاضِحِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَادِ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ سُورَةِ الرُّومِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذِكْرِ الدُّخَانِ، لَكِنْ هَذِهِ طَرِيقَتُهُ يَذْكُرُ الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ يَذْكُرُهُ فِي الْمَوْضِعِ اللَّائِقِ بِهِ عَارِيًا عَنِ الزِّيَادَةِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهَا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، شَحْذًا لِلْأَذْهَانِ وَبَعْثًا عَلَى مَزِيدِ الِاسْتِحْضَارِ، وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ، فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: آيَةُ الدُّخَانِ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَيُنْفَخُ الْكَافِرُ حَتَّى يَنْفَدَ.
ثُمَّ أَخْرَجَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمًا فَقَالَ لِي: لَمْ أَنَمِ الْبَارِحَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ، قَالُوا طَلَعَ الْكَوْكَبُ ذُو الذَّنَبِ فَخَشِينَا الدُّخَانُ قَدْ خَرَجَ وَهَذَا أَخْشَى أَنْ يَكُونَ تَصْحِيفًا وَإِنَّمَا هُوَ الدَّجَّالُ بِالْجِيمِ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ آيَةِ الدُّخَانِ لَمْ تَمْضِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحَةَ رَفَعَهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانَ، وَالدَّابَّةَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا فِي خُرُوجِ الْآيَاتِ وَالدُّخَانِ قَالَ، حُذَيْفَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّخَانُ؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَخْرُجُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ أَصْلَحَ مِنْهُ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَفَعَهُ إِنَّ رَبَّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَالزَّكْمَةِ الْحَدِيثَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، لَكِنَّ تَضَافُرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَلَوْ ثَبَتَ طَرِيقُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاصُّ الْمُرَادُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
4 - بَاب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} الذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ
4823 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وكَانَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، ثُمَّ قَرَأَ:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} - حَتَّى بَلَغَ - {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ: {الذِّكْرَى} هُوَ وَالذِّكْرُ سَوَاءٌ.
5 - بَاب {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
4824 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، عن شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ السَّنَةُ حَتَّى حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ، وقَالَ أَحَدُهُمْ: حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ. فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَيْ مُحَمَّدُ، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ: تَعُودُوا بَعْدَ هَذَا. فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ: ثُمَّ قَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} - إِلَى - عَائِدُونَ أَيكْشِفُ عَنْهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ؟ فَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ، وَقَالَ
أَحَدُهُمْ: الْقَمَرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الرُّومُ.
6 - بَاب {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
4825 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ وَالدُّخَانُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى حَصَّتْ) بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ جَرَّدَتْ وَأَذْهَبَتْ، يُقَالُ سَنَةٌ حَصَّاءُ أَيْ جَرْدَاءُ لَا غَيْثَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَحَدُهُمْ) كَذَا قَالَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَيْ أَحَدُ الرُّوَاةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي سِيَاقِ السَّدُوسِيِّ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِيهِ اثْنَانِ سُلَيْمَانُ، وَمَنْصُورٌ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ قَالَ أَحَدُهُمَا لَكِنْ تُحْمَلُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ.
قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرَضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ) وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ وَلَا تَدَافُعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمُنْتَهَاهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَا مُعَارَضَةَ أَيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْأَرْضِ بُخَارٌ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَةِ الْأَرْضِ وَوَهَجِهَا مِنْ عَدَمِ الْغَيْثِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنْ فَرْطِ حَرَارَةِ الْجُوعِ، وَالَّذِي كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ بِحَسَبِ تَخَيُّلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ غِشَاوَةِ أَبْصَارِهِمْ مِنْ فَرْطِ الْجُوعِ، أَوْ لَفْظُ مِنْ - الْجُوعِ صِفَةُ الدُّخَانِ أَيْ يَرَوْنَ مِثْلَ الدُّخَانِ الْكَائِنِ مِنَ الْجُوعِ.
45 - حم الْجَاثِيَةِ
جاثية: مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{نَسْتَنْسِخُ} نَكْتُبُ. {نَنْسَاكُمْ} نَتْرُكُكُمْ
4826 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ عز وجل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
[الحديث 4826 - طرفاه في: 6181، 7491]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ حم الْجَاثِيَةِ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ الْجَاثِيَةُ حَسْبُ.
قَوْلُهُ: {جَاثِيَةً} مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى الرُّكَبِ) كَذَا لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ جَاثِيَةٌ قَالَ: عَلَى الرُّكَبِ. وَيُقَالُ: اسْتَوْفَزَ فِي قِعْدَتِهِ إِذَا قَعَدَ مُنْتَصِبًا قُعُودًا غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ.
قَوْلُهُ: {نَسْتَنْسِخُ} نَكْتُبُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: {نَنْسَاكُمْ} نَتْرُكُكُمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} قَالَ: الْيَوْمَ نَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكْتُمْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، لِأَنَّ مَنْ نَسِيَ فَقَدْ تَرَكَ بِغَيْرِ عَكْسٍ.
قَوْلُهُ: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ،
عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، هُوَ الَّذِي يُمِيتُنَا وَيُحْيِينَا، فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الْآيَةَ، قَالَ: فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ فَذَكَرَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ يُخَاطِبُنِي مِنَ الْقَوْلِ بِمَا يَتَأَذَّى مَنْ يَجُوزُ فِي حَقِّهِ التَّأَذِّي، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا الدَّهْرُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَا صَاحِبُ الدَّهْرِ وَمُدَبِّرُ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إِلَى الدَّهْرِ، فَمَنْ سَبَّ الدَّهْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فَاعِلُ هَذِهِ الْأُمُورَ عَادَ سَبُّهُ إِلَى رَبِّهِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهَا، وَإِنَّمَا الدَّهْرُ زَمَانٌ جُعِلَ ظَرْفًا لِمَوَاقِعِ الْأُمُورِ. وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ مَكْرُوهٌ أَضَافُوهُ إِلَى الدَّهْرِ فَقَالُوا: بُؤْسًا لِلدَّهْرِ، وَتَبًّا لِلدَّهْرِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ أَنَا الدَّهْرُ بِالرَّفْعِ فِي ضَبْطِ الْأَكْثَرِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ، وَيُقَالُ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ أَنَا بَاقٍ أَبَدًا، وَالْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ الرَّفعُ وَهُوَ مَجَازٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ عِنْدَ الْحَوَادِثِ فَقَالَ: لَا تَسُبُّوهُ فَإِنَّ فَاعِلَهَا هُوَ اللَّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَسُبُّوا الْفَاعِلَ فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمُوهُ سَبَبْتُمُونِي. أَوِ الدَّهْرُ هُنَا بِمَعْنَى الدَّاهِرُ، فَقَدْ حَكَى الرَّاغِبُ أَنَّ الدَّهْرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ غَيْرُ الدَّهْرِ فِي قَوْلِهِ يَسُبُّ الدَّهْرَ قَالَ: وَالدَّهْرُ الْأَوَّلُ الزَّمَانُ وَالثَّانِي الْمُدَبِّرُ الْمُصَرِّفُ لِمَا يَحْدُثُ، ثُمَّ اسْتُضْعِفَ هَذَا الْقَوْلُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعُدَّ الدَّهْرُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ مُحْتَجًّا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ بِضَمِّهَا لَكَانَ الدَّهْرُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ رِوَايَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: يُصَوَّبُ ضَمُّ الرَّاءِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَضْبُوطَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ بِالضَّمِّ.
ثَانِيهَا: لَوْ كَانَ بِالنَّصْبِ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ فَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُهُ، فَلَا تَكُونُ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّهِ مَذْكُورَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُقَلِّبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَنْعُ الذَّمِّ. ثَالِثُهَا: الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ لَا تُعَيِّنُ الرَّفْعَ لِأَنَّ لِلْمُخَالِفَ أَنْ يَقُولَ: التَّقْدِيرُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ يُقَلِّبُ، فَتَرْجِعُ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَذَا تَرْكُ ذِكْرِ عِلَّةِ النَّهْيِ لَا يُعَيِّنُ الرَّفْعَ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ لَا ذَنْبَ لَهُ فَلَا تَسُبُّوهُ.
46 - سُورَةُ الْأَحْقَافِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُفِيضُونَ: تَقُولُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَثَرَةٌ وَأَثْرَةٌ وَأَثَارَةٌ: بَقِيَّةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ (أَرَأَيْتُمْ) هَذِهِ الْأَلِفَ إِنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ، إِنْ صَحَّ مَا تَدَّعُونَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. وَلَيْسَ قَوْلُهُم (أَرَأَيْتُمْ) بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ: أَتَعْلَمُونَ أَبَلَغَكُمْ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ خَلَقُوا شَيْئًا؟ !.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ حم الْأَحْقَافِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَثَرَةٌ وَأَثْرَةٌ وَأَثَارَةٌ: بقية مِنْ عِلْمٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ: بَقِيَّةٌ مِنْ عِلْمٍ، وَمَنْ قَالَ: أَثَرَةً أَيْ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ مَصْدَرُ أَثَرَهُ يَأْثِرُهُ فَذَكَرَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أَوْ أَثَارَةٍ} بِالْأَلِفِ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَوْ أَثَرَةٌ بِمَعْنَى أَوْ خَاصَّةٌ مِنْ عِلْمٍ أُوتِيتُمُوهُ وَأُوثِرْتُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِكُمْ.
قُلْتُ: وَبِهَذَا فَسَّرَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ،
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَثَرَةٌ مِنْ عِلْمٍ قَالَ: أَثَرَةٌ شَيْءٌ يَسْتَخْرِجُهُ فَيُثِيرُهُ. قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: أَوْ خَاصَّةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قَالَ: خَطٌّ كَانَتْ تَخُطُّهُ الْعَرَبُ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَوْدَةُ الْخَطِّ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْخَطَّ هُنَا عَلَى الْمَكْتُوبِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي تَجْوِيدِ الْخَطِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ لَيْسَ هُوَ لِإِبَاحَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} مَا كُنْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلُهُ قَالَ: وَيُقَالُ مَا هَذَا مِنِّي بِبِدْعٍ أَيْ بِبَدِيعٍ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَانَتْ قَبْلِي.
قَوْلُهُ: {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: (أَرَأَيْتُمْ) هَذِهِ الْأَلِفَ إِنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ إِنْ صَحَّ مَا تَدَّعُونَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَرَأَيْتُمْ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ إِنَّمَا هُوَ أَتَعْلَمُونَ، أَبَلَغَكُمْ أَنَّ مَا تَدَّعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ خَلَقُوا شَيْئًا) هَذَا كُلُّهُ سَقْطٌ لِأَبِي ذَرٍّ.
4827 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ، فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا، فَقَالَ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عليه، فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي
قَوْلُهُ: بَابُ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَأُفٍّ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْكَسْرِ، لَكِنْ نَوَّنَهَا نَافِعٌ، وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ عَاصِمٍ - بِفَتْحِ الْفَاءِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا وَمَعْنَاهُ الْقُمَيْرُ تَصْغِيرُ الْقَمَرِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ وَعَدَمُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ) أَيْ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ هُوَ الْجُمَحِيُّ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ عَامِلًا عَلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ، فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ فَأَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ يَزِيدَ - يَعْنِي ابْنَهُ - فَكَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ بِذَلِكَ، فَجَمَعَ مَرْوَانُ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ، فَذَكَرَ يَزِيدَ، وَدَعَا إِلَى بَيْعَتِهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيدَ رَأْيًا حَسَنًا، وَإِنْ يَسْتَخْلِفْهُ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا) قِيلَ: قَالَ لَهُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ثَلَاثٌ، مَاتَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَلَمْ يَعْهَدُوا. كَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ فَأَفْسَدَهُ، وَالَّذِي فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا هِيَ إِلَّا هِرَقْلِيَّةٌ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: فَقَالَ مَرْوَانُ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سُنَّةُ هِرَقْلَ، وَقَيْصَرَ. وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَجِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةً تُبَايِعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ؟ وَلِأَبِي يَعْلَى، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ خَطَبَ مَرْوَانُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأْيًا حَسَنًا فِي يَزِيدَ، وَإِنْ يَسْتَخْلِفْهُ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هِرَقْلِيَّةٌ. إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا جَعَلَهَا فِي أَحَدٍ مِنْ وَلَدِهِ وَلَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَا جَعَلَهَا مُعَاوِيَةُ إِلَّا كَرَامَةً لِوَلَدِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا) أَيِ: امْتَنَعُوا مِنَ الدُّخُولِ خَلْفَهُ إِعْظَامًا لِعَائِشَةَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى فَنَزَلَ مَرْوَانُ عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى أَتَى بَابَ عَائِشَةَ فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا وَتُكَلِّمُهُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَرْوَانُ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى فقَالَ مَرْوَانُ: اسْكُتْ، أَلَسْتَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ. . . فَذَكَرَ الْآيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَلَسْتَ ابْنَ اللَّعِينِ الَّذِي لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: فَقَالَتْ: كَذَبَ مَرْوَانُ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي) أَيِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَبَرَاءَتِهَا مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَذَبَ وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَوْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ، وَمَرْوَانُ فِي صُلْبِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ مِينَاءَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ سَمَّتْ رَجُلًا. وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} لَيْسَ هُوَ أَبَا بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَمَا فَهِمَ هَذَا الرَّافِضِيُّ، بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ فِينَا أَيْ فِي بَنِي أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ النَّفْيِ وَإِلَّا فَالْمَقَامُ يُخَصَّصُ، وَالْآيَاتُ الَّتِي فِي عُذْرِهَا فِي غَايَةِ الْمَدْحِ لَهَا، وَالْمُرَادُ نَفْيُ إِنْزَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الذَّمُّ كَمَا فِي قِصَّةِ قَوْلِهِ:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} إِلَى آخِرِهِ. وَالْعَجَبُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِ الْعَاقِّ، وَإِلَّا فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَصَارَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَأَجَابَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِأُولَئِكَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ:{وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ ثُمَّ يُسْلِمُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ آخَرُونَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.
قُلْتُ: وَالْقَوْلُ فِي عَبْدِ اللَّهِ كَالْقَوْلِ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ أَيْضًا أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطَ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ لِأَبَوَيْهِ - وَهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّ رُومَانَ - وَكَانَا قَدْ أَسْلَمَا وَأَبَى هُوَ أَنْ يُسْلِمَ، فَكَانَا يَأْمُرَانِهِ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا وَيُكَذِّبُهُمَا وَيَقُولُ: فَأَيْنَ فُلَانٌ وَأَيْنَ فُلَانٌ يَعْنِي مَشَايِخَ قُرَيْشٍ مِمَّنْ قَدْ مَاتَ، فَأَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَنَزَلَتْ تَوْبَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}
قُلْتُ: لَكِنَّ نَفْيَ عَائِشَةَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَآلِ بَيْتِهِ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَجَزَمَ مُقَاتِلٌ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {عَارِضٌ} السَّحَابُ
4828 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ.
[الحديث 4828 - طرفه في: 6092]
4829 -
قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}
قَوْلُهُ: (بَابُ {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الْآيَةَ) سَاقَهَا غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَارِضٌ: السَّحَابُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرِّيحُ إِذَا أَثَارَتْ سَحَابًا قَالُوا هَذَا عَارِضٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو النَّضْرِ هُوَ سَالِمٌ الْمَدَنِيُّ، وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ وَالْأَدْنَى مِصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتَهُ) بِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ لَهَاةٍ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ فِي أَعْلَى الْحَنَكِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى لَهًى بِفَتْحِ اللَّامِ مَقْصُورٌ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ) لَا يُنَافِي هَذَا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ لِأَنَّ ظُهُورَ النَّوَاجِذِ - وَهِيَ الْأَسْنَانُ الَّتِي فِي مُقَدِّمَةِ الْفَمِ أَوِ الْأَنْيَابُ - لَا يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَ اللَّهَاةِ.
قَوْلُهُ: (عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْههِ) عَبَّرَتْ عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ فِي الْوَجْهِ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ ثَمَرَتُهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِطُولِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الدُّعَاءِ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ فِي أَوَاخِرِ الِاسْتِسْقَاءِ.
قَوْلُهُ: (عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِالرِّيحِ غَيْرَ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ آيَةِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِالرِّيحِ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ، فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} الْآيَاتِ. وَفِيهَا: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَدْ أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ عَنِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا تَطَّرِدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السِّيَاقِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَيْنُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} فَلَا. ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَادًا قَوْمَانِ قَوْمٌ بِالْأَحْقَافِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعَارِضِ وَقَوْمٌ غَيْرُهُمْ، قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ثَمَّ عَادًا أُخْرَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ عَادٍ الثَّانِيَةِ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ - وَفِيهِ - فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطْعِمُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا، فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عَنْزٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ بِمَكَّةَ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَمَكَثَ شَهْرًا فِي ضِيَافَتِهِ تُغَنِّيهِ الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ شَهْرٍ خَرَجَ لَهُمْ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ، فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَاتٌ فَاخْتَارَ السَّوْدَاءَ مِنْهَا، فَنُودِيَ: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدا، لَا تُبْقِ مِنْ عَادٍ أَحَدًا وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بَعْضَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ الْأَخِيرَةِ لِذِكْرِ مَكَّةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَسْكَنَ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَالَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ هُمْ عَادٌ الْأَخِيرَةُ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَخَا عَادٍ} نَبِيٌّ آخَرُ غَيْرُ هُودٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
47 - سُورَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
-
أَوْزَارُهَا: آثَامُهَا. حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ. عَرَفَهَا: بَيَّنَهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وَلِيُّهُمْ. عَزَمَ الْأَمْرُ: جَدَّ الْأَمْرُ. فَلَا تَهِنُوا: لَا تَضْعُفُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَضْغَانَهُمْ: حَسَدَهُمْ. آسِنٍ: مُتَغَيِّرٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا، حَسْبُ.
قَوْلُهُ: {أَوْزَارَهَا} آثَامَهَا حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ، قَالَ: وَالْحَرْبُ مَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُ، سَمَّاهُمْ حَرْبًا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ غَيْرَ الْبُخَارِيِّ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوْزَارِهَا السِّلَاحُ، وَقِيلَ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ انْتَهَى. وَمَا نَفَاهُ قَدْ عَلِمَهُ غَيْرُهُ؛ قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: هَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْبَ لَا آثَامَ لَهَا، فَلَعَلَّهُ كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: آثَامُ أَهْلِهَا، ثُمَّ حَذَفَ وَأَبْقَى الْمُضَافَ إِلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ: حَتَّى تَضَعَ أَهْلَ الْآثَامِ فَلَا يَبْقَى مُشْرِكٌ انْتَهَى. وَلَفْظُ الْفَرَّاءِ: الْهَاءُ فِي أَوْزَارِهَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ أَيْ آثَامَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْحَرْبِ وَالْمُرَادُ بِأَوْزَارِهَا سِلَاحُهَا انْتَهَى. فَجَعَلَ مَا ادَّعَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ احْتِمَالًا.
قَوْلُهُ: (عَرَّفَهَا: بَيَّنَهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} بَيَّنَهَا لَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ مَنَازِلَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وَلِيُّهُمْ) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الْأَمْرُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: {فَلا تَهِنُوا} فَلَا تَضْعُفُوا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَضْغَانَهُمْ: حَسَدَهُمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قَالَ: أَعْمَالَهُمْ، خَبَثَهُمْ وَالْحَسَدَ.
قَوْلُهُ: (آسِنٌ: مُتَغَيِّرٌ) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (آسِنٌ مُتَغَيِّرٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ غَيْرُ مُنْتِنٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاذٍ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا مَرْفُوعًا فِيهِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ قَالَ: - {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قَالَ: صَافٍ لَا كَدَرَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 - بَاب {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
4830 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ
مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَذَاكِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
[الحديث 4830 - أطرافه في: 4831، 4832، 7502]
4831 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ}
4832 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي الْمُزَرَّدِ بِهَذَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ}
قَوْلُهُ: بَابُ {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} : قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ وَيَعْقُوبُ بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: (خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ) أَيْ قَضَاهُ وَأَتَمَّهُ.
قَوْلُهُ: (قَامَتِ الرَّحِمُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَعْرَاضُ يَجُوزُ أَنْ تَتَجَسَّدَ وَتَتَكَلَّمُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفٍ أَيْ قَامَ مَلَكٌ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِهَا وَفَضْلُ وَاصِلِهَا وَإِثْمُ قَاطِعِهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَتْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ مَفْعُولِ أَخَذَتْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ بِالتَّثْنِيَةِ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: أَبَى أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ يَقْرَأَ لَنَا هَذَا الْحَرْفَ لِإِشْكَالِهِ، وَمَشَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الْحَذْفِ فَقَالَ: أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْحَقْوُ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَجَارُ بِهِ وَيُحْتَزَمُ بِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحَقِّ مَا يُحَامَى عَنْهُ وَيُدْفَعُ، كَمَا قَالُوا نَمْنَعُهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ مَجَازًا لِلرَّحِمِ فِي اسْتِعَاذَتِهَا بِاللَّهِ مِنَ الْقَطِيعَةِ انْتَهَى. . وَقَدْ يُطْلَقُ الْحَقْوُ عَلَى الْإِزَارِ نَفْسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فَأَعْطَاهَا حَقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ يَعْنِي إِزَارَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ عِنْدَ الْإِلْحَاحِ فِي الِاسْتِجَارَةِ وَالطَّلَبِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا صَحِيحٌ مَعَ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْجَارِحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ كَأَنَّهُ شَبَّهَ حَالَةَ الرَّحِمِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الصِّلَةِ وَالذَّبِّ عَنْهَا بِحَالِ مُسْتَجِيرٍ يَأْخُذُ بِحَقْوِ الْمُسْتَجَارِ بِهِ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ فَيَكُونُ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ رُشِّحَتْ الِاسْتِعَارَةُ بِالْقَوْلِ وَالْأَخْذِ وَبِلَفْظِ الْحَقْوِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى، وَالتَّثْنِيَةُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْيَدَيْنِ آكَدُ فِي الِاسْتِجَارَةِ مِنَ الْأَخْذِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ مَهْ) هُوَ اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ أَيِ اكْفُفْ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هِيَ هُنَا مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ حُذِفَتْ أَلِفُهَا وَوُقِفَ عَلَيْهَا بِهَاءِ السَّكْتِ، وَالشَّائِعُ أَنْ لَا يُفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا وَهِيَ مَجْرُورَةٌ، لَكِنْ قَدْ سُمِعَ مِثْلُ ذَلِكَ فَجَاءَ عَنْ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَلِأَهْلِهَا ضَجِيجٌ بِالْبُكَاءِ كَضَجِيجِ الْحَجِيجِ، فَقُلْتُ: مَهْ؟ فَقَالُوا. قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ.
قَوْلُهُ: (هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ) هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَقَامِ أَيْ قِيَامِي فِي هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ هَذَا مَقَامُ عَائِذٍ مِنَ الْقَطِيعَةِ وَالْعَائِذُ الْمُسْتَعِيذُ، وَهُوَ الْمُعْتَصِمُ بِالشَّيْءِ الْمُسْتَجِيرُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ مَوْقُوفٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ رَفَعَهُ
وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَاتِمٌ) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ، وَمُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ الْمَذْكُورُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بِهَذَا) يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ. وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي وَقَفَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
قَوْلُهُ (بِهَذَا) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، وَوَافَقَ حَاتِمًا عَلَى رَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ الْأَخِيرِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ.
(تَنْبِيهٌ): اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْوِلَايَةِ وَالْمَعْنَى إِنْ وُلِّيتُمُ الْحُكْمَ، وَقِيلَ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، وَالْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ قَبُولِ الْحق أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا ذُكِرَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} قَالَ: هُمْ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ، أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِنْ وُلُّوا النَّاسَ أَنْ لَا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا يُقَطِّعُوا أَرْحَامَهُمْ.
48 - سُورَةُ الْفَتْحِ
وقَالَ مُجَاهِدٌ: بُورًا هَالِكِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السَّحْنَةُ. وَقَالَ مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: التَّوَاضُعُ. شَطْأَهُ: فِرَاخَهُ. فَاسْتَغْلَظَ: غَلُظَ. سُوقِهِ: السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ. وَيُقَالُ دَائِرَةُ السَّوْءِ كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ. دَائِرَةُ السَّوْءِ: الْعَذَابُ. يُعَزِّرُوهُ: يَنْصُرُوهُ. شَطْأَهُ: شَطْءُ السُّنْبُلِ. تُنْبِتُ الْحَبَّةُ عَشْرًا أَوْ ثَمَانِيًا وَسَبْعًا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآزَرَهُ: قَوَّاهُ، وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَوَّاهُ بِأَصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الْحَبَّةَ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْفَتْحِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بُورًا} هَالِكِينَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَسَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَيُقَالُ بَارَ الطَّعَامُ أَيْ هَلَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي
…
رَائقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
أَيْ هَالِكٌ.
قَوْلُهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} : السَّحْنَةُ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ السَّجْدَةُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَالسَّحْنَةُ بِالسِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَقَيَّدَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وَالْأَصِيلِيُّ بِفَتْحِهِمَا قَالَ عِيَاضٌ وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهُوَ لِينُ الْبَشَرَةِ وَالنَّعْمَةُ، وَقِيلَ الْهَيْئَةُ،
وَقِيلَ الْحَالُ انْتَهَى. وَجَزَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا وَأَنْكَرَ السُّكُونَ وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْعُكْبَرِيُّ: السَّحْنَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيَهِ لَوْنُ الْوَجْهِ. وَلِرِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ تَوْجِيهٌ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّجْدَةِ أَثَرَهَا فِي الْوَجْهِ يُقَالُ لِأَثَرِ السُّجُودِ فِي الْوَجْهِ سَجْدَةٌ وَسَجَّادَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ الْمَسْحَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: التَّوَاضُعُ) وَصَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ، وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ وَزَائِدَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ الْخُشُوعُ، زَادَ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ قُلْتُ مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا هَذَا الْأَثَرَ الَّذِي فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْ مَنْ هُوَ أَقْسَى قَلْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ.
قَوْلُهُ: (شَطْأَهُ: فِرَاخَهُ، فَاسْتَغْلَظَ: غَلُظَ، سُوقُهُ: السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَخْرَجَ فِرَاخَهُ، يُقَالُ: قَدْ أَشْطَأَهُ الزَّرْعُ فَآزَرَهُ سَاوَاهُ صَارَ مِثْلَ الْأُمِّ، فَاسْتَغْلَظَ: غَلُظَ، فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ: السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} قَالَ: مَا يَخْرُجُ بِجَنْبِ الْحَقْلَةِ فَيَتِمُّ وَيَنْمَى، وَبِهِ فِي قَوْلِهِ:{عَلَى سُوقِهِ} قَالَ: عَلَى أُصُولِهِ.
قَوْلُهُ: (شَطْأَهُ شَطْءُ السُّنْبُلِ تُنْبِتُ الْحَبَّةُ عَشْرًا أَوْ ثَمَانِيًا وَسَبْعًا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآزَرَهُ} قَوَّاهُ، وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ خَرَجَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَوَّاهُ بِأَصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الْحَبَّةَ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا)
(1)
.
قَوْلُهُ: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ، وَدَائِرَةُ السَّوْءِ: الْعَذَابُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: الْمَعْنَى تَدُورُ عَلَيْهِمْ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ السَّوْءِ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَضَمَّهَا أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (يُعَزِّرُوهُ: يَنْصُرُوهُ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَزِّرُوهُ قَالَ: يَنْصُرُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} وَهَذِهِ يَنْبَغِي تَفْسِيرُهَا بِالتَّوْقِيرِ فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَالتَّعْزِيرُ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِعَانَةِ وَالْمَنْعِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ هُنَا يَجِيءُ التَّعْزِيرُ بِمَعْنَى التَّأْدِيبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْجَانِي مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْجِنَايَةِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَجَاءَ فِي الشَّوَاذِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُعَزِّزُوهُ بِزَاءَيْنِ مِنَ الْعِزَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
1 - بَاب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
4833 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ. قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا
(1)
كذا بالنسخ ولم يذكر المؤلف هنا شيئا ولعله كان بيض له فتركه النساخ
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
4834 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ الْحُدَيْبِيَة"
4835 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفَعَلْت"
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ) هَذَا السِّيَاقُ صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ، لِأَنَّ أَسْلَمَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي أَثْنَائِهِ قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي إِلَخْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَابِسِيُّ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى سَمِعْتُ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ هَكَذَا إِلَّا ابْنُ عَثْمَةَ، وَابْنُ غَزْوَانَ انْتَهَى.
وَرِوَايَةُ ابْنُ غَزْوَانَ - وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَبُو نُوحٍ الْمَعْرُوفُ بِقُرَادٍ - قَدْ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ، وَاسْتَدْرَكَهَا مُغْلَطَايْ عَلَى الْبَزَّارِ ظَانًّا أَنَّهُ غَيْرُ ابْنِ غَزْوَانَ، وَأَوْرَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِك مِنْ طَرِيقِ هَذَيْنِ وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقَ الْحُنَيْنِيِّ أَيْضًا، فَهَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ رَوَوْهُ عَنْ مَالِكٍ بِصَرِيحِ الِاتِّصَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَيْضًا أَخْرَجَ طَرِيقَ ابْنَ عَثْمَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا التِّرْمِذِيُّ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ السَّفَرَ الْمَذْكُورَ هُوَ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعْنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ فَنَزَلَتْ وَسَيَأْتِي حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ: فَوَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بِضَجْنَانَ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَنُونٍ خَفِيفَةٍ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ، وَعَنْ أَبِي مَعْشَرٍ بِالْجُحْفَةِ، وَالْأَمَاكِنُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ) يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ كَلَامٍ جَوَابٌ، بَلِ السُّكُوتُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا لِبَعْضِ الْكَلَامِ. وَتَكْرِيرُ عُمَرَ السُّؤَالَ إِمَّا لِكَوْنِهِ خَشِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ كَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَرَكَ إِجَابَتَهُ أَوَّلًا لِشُغْلِهِ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (ثَكِلَتْ) بِكَسْرِ الْكَافِ (أُمُّ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثَكِلَتْكَ أُمُّ عُمَرَ وَالثُّكْلُ فِقْدَانُ الْمَرْأَةِ وَلَدَهَا، دَعَا عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُرِدِ الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُقَالُ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهَا.
قَوْلُهُ: (نَزَرْتُ) بِزَايٍ ثُمَّ رَاءٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفُ أَشْهَرُ، أَيْ أَلْحَحْتُ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى الْمُثْقَلِ أَقْلَلْتُ كَلَامَهُ إِذَا سَأَلْتُهُ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَ نَزَرْتُ بِرَاجَعْتُ.
قَوْلُهُ: (فَمَا نَشِبْتُ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، أَيْ لَمْ أَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) أَيْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَتْحِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ الْمُفَاضَلَةَ
بَيْنَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أُعْطِيَهَا وَبَيْنَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُفَاضَلَةِ اسْتِوَاءُ الشَّيْئَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا اسْتِوَاءَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ وَالدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ بِذِكْرِ الدُّنْيَا؛ إِذْ لَا شَيْءَ سِوَاهَا إِلَّا الْآخِرَةَ. وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْمُفَاضَلَةَ كَقَوْلِهِ: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} وَلَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوِ الْخِطَابُ وَقَعَ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِ أَكْثَرِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ مِثْلَهَا أَوْ أَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ فَأَخْبَرَ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَيْرٌ مِمَّا يَظُنُّونَ أَنْ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْهُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ الْمُفَاضَلَةَ
بَيْنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَرَجَّحَهَا، وَجَمِيعُ الْآيَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَدَخَلَتْ كُلُّهَا فِيمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
الْحَدِيثُ الْثَّانِي: قَوْلُهُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْمَغَازِي بِأَتَمِّ مِنْ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ مَوْصُولٍ وَبَعْضَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ، وَسُمِّيَ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَتْحًا لِأَنَّهُ كَانَ مُقَدِّمَةُ الْفَتْحِ وَأَوَّلُ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.
الحديث الثالث: قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَزْنَ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَجَّعَ فِيهَا) أَيْ رَدَّدَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِلَفْظِ كَيْفَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: إإإ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ رَاكِبًا فَحَصَلَ التَّرْجِيعُ مِنْ تَحْرِيكِ النَّاقَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً لَيِّنَةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَقَرَأْتُ ذَلِكَ اللَّحْنَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَسَأَذْكُرُ تَحْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ.
4836 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا
4837 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ سَمِعَ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا. فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
الحديث الرابع: حَدِيِثُ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا حَيْوَةُ) هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيُّ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّوْفَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِيَتِيمِ عُرْوَةَ، وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ مِصْرِيُّونَ وَنِصْفُهُ مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ) أَنْكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ وَقَالَ: الْمَحْفُوظُ فَلَمَّا بَدَّنَ أَيْ كَبُرَ فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ
تَأَوَّلَهُ عَلَى كَثْرَةِ اللَّحْمِ انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ أَيْضًا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ: لَمْ يَصِفْهُ أَحَدٌ بِالسِّمَنِ أَصْلًا، وَلَقَدْ مَاتَ صلى الله عليه وسلم وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَأَحْسَبُ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمَّا رَأَى بَدَّنَ ظَنَّهُ كَثُرَ لَحْمُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ بَدَّنَ تَبْدِينَا أَيْ أَسَنَّ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. قُلْتُ: وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِي اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ. كَمَا فِي كَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَطَوَافِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى تِسْعٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ مَعَ عَدَمِ الشِّبَعِ وَضِيقِ الْعَيْشِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَكْثِيرِ الْمَنِيِّ مَعَ الْجُوعِ وَبَيْنَ وُجُودِ كَثْرَةِ اللَّحْمِ فِي الْبَدَنِ مَعَ قِلَّةِ الْأَكْلِ؟ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا، لَكِنْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ثَقُلَ أَيْ ثَقُلَ عَلَيْهِ حَمْلُ لَحْمِهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لِدُخُولِهِ فِي السِّنِّ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ أَخْرَجَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ أَبْوَابِ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ رَكَعَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ إِنْسَانٌ أَرْبَعِينَ آيَةً، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي صِفَةِ تَطَوُّعِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَتِهِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي السِّنِّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَالْبَحْثُ فِيهِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَكَثِيرٌ مِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا فِي آخِرِ أَبْوَابِ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.
3 - بَاب {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
4838 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.
قَوْلُهُ: بَابُ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) أَيِ الْقَعْنَبِيُّ، كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ.
وَوَقَعَ عِنْدَ غَيْرِهِمَا عَبْدُ اللَّهِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، فَتَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو مَسْعُودٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ: عِنْدِي أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ. وَرَجَّحَ هَذَا الْمِزِّيُّ وَحَدَّهُ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قُلْتُ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْجَزْمُ بِهِ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ شَيْخَانِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ؟ وَلَيْسَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأَدَبِ بِأَرْجَحَ مِمَّا وَقَعَ الْجَزْمُ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي ذَرٍّ وَهُمَا حَافِظَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا عَلَا شَرَفًا مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ حَدِيثًا قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ - غَيْرُ مَنْسُوبٍ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ أَبِي سَلَمَةَ. كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَتَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو مَسْعُودٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَرَدَّدَ فِيهِمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ فِي الرِّوَايَةِ فَتُقَدَّمُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهُ بِالظَّنِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فِي الْبُيُوعِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ سَبَبُ تَحْدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَلِلدَّارِمِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: فِي السَّطْرِ الْأَوَّلِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَبْدِيَ الْمُخْتَارُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا} أَيْ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَّةِ وَمُبَشِّرًا لِلْمُطِيعِينَ بِالْجَنَّةِ وَلِلْعُصَاةِ بِالنَّارِ، أَوْ شَاهِدًا لِلرُّسُلِ قَبْلَهُ بِالْإِبْلَاغِ.
قَوْلُهُ: (وَحِرْزًا) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ أَيْ حِصْنًا، وَالْأُمِّيِّينَ: هُمُ الْعَرَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ.
قَوْلُهُ: (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ) أَيْ عَلَى اللَّهِ لِقَنَاعَتِهِ بِالْيَسِيرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا كَانَ يَكْرَهُ.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ) كَذَا وَقَعَ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَلَوْ جَرَى عَلَى النَّسَقِ الْأَوَّلِ لَقَالَ: لَسْتُ.
قَوْلُهُ: (بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ) هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وَلَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} لِأَنَّ النَّفْيَ مَحْمُولٌ عَلَى طَبْعِهِ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَالَجَةِ، أَوِ النَّفْيُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي نَفْسِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا سَخَّابٍ) كَذَا فِيهِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ لُغَةٌ أَثْبَتَهَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، وَبِالصَّادِ أَشْهَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ) هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، زَادَ فِي رِوَايَةِ كَعْبٍ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ طَيْبَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ.
قَوْلُهُ: (وَلَنْ يَقْبِضَهُ) أَيْ يُمِيتَهُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يُقِيمَ بِهِ) أَيْ حَتَّى يَنْفِيَ الشِّرْكَ وَيُثْبِتَ التَّوْحِيدَ. وَالْمِلَّةُ الْعَوْجَاءُ: مِلَّةُ الْكُفْرِ.
قَوْلُهُ: (فَيَفْتَحَ بِهَا) أَيْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (أَعْيُنًا عُمْيًا) أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ أَعْيُنَ عُمْيٍ بِالْإِضَافَةِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْآذَانِ وَالْقُلُوبِ. وَفِي مُرْسَلِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ لَيْسَ بِوَهِنٍ وَلَا كَسِلٍ، لِيَخْتِنَ قُلُوبًا غُلْفًا، وَيَفْتَحَ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَيُسْمِعُ آذَانًا صُمًّا، وَيُقِيمَ أَلْسِنَةً عَوْجَاءَ حَتَّى يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
(تَنْبِيهٌ): قِيلَ أَتَى بِجَمْعِ الْقِلَّةِ فِي قَوْلِهِ: (أَعْيُنَ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَقَلُّ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: بَلْ جَمْعُ الْقِلَّةِ قَدْ يَأْتِي فِي مَوْضِعِ الْكَثْرَةِ، وَبِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ:{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ نُكْتَةُ الْعُدُولِ إِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ لِلْمُؤَاخَاةِ فِي قَوْلِهِ: (آذَانًا) وَقَدْ تَرِدُ الْقُلُوبُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ لِلْقُلُوبِ جَمْعُ قِلَّةٍ كَمَا لَمْ يُسْمَعْ لِلْآذَانِ جَمْعُ كَثْرَةٍ.
4 - بَاب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}
4839 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ، وَفَرَسٌ لَهُ مَرْبُوطٌ فِي الدَّارِ، فَجَعَلَ يَنْفِرُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا وَجَعَلَ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: تلك السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ.
قوله (باب هو الذي أنزل السكينة) ذكر فيه حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي نُزُولِ السَّكِينَةِ، وسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، مَعَ شَرْحِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
5 - بَاب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
4840 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
4841 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ إِنِّي مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَذْفِ "
[الحديث 4841 - طرفاه في: 5479، 6220]
4842 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَل"
يَأْخُذُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ
4843 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ "
4844 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} فَقَالَ عَلِيٌّ نَعَمْ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكِينَ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ: بَلَى قَالَ فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا" فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْح"
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.
أَحَدُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ (كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ (عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ) وَهُوَ اللَّبَقِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ قَافٍ خَفِيفَةٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيِّ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَذْفِ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ أَيِ الرَّمْيِ بِالْحَصَى بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ
(يَأْخُذُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ) وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ الْمَرْفُوعُ وَالْمَوْقُوفُ الَّذِي عَقَّبَهُ بِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ وَلَا هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْأَوَّلَ لِقَوْلِ الرَّاوِي فِيهِ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ فَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، وَذَكَرَ الْمَتْنَ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لَا الْقَصْدِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَأَوْرَدَهُ لِبَيَانِ التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِهِ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ .. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: نَهَى - أَوْ زَجَرَ - أَنْ يُبَالَ فِي الْمُغْتَسَلِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ ذِكْرِ الْوَسْوَاسِ الَّتِي عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ وَهْمٌ. نَعَمْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَفَعَهُ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الطَّبَرَيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَهَذَا التَّعَقُّبُ وَارِدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَإِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ.
الْحَدِيثُ الْثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ) هَكَذَا ذَكَرَ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فِي إِيرَادِ الْأَشْيَاءِ التَّبَعِيَّةِ، بَلْ تَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَتَارَةً يَسُوقُهُ بِتَمَامِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقْصِدُ التَّفَنُّنَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِحَدِيثِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورِ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْلَى) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ) بِمُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ وَآخِرُهُ هَاءٌ مُنَوَّنَةٌ، تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ.
قَوْلُهُ: (أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ) لَمْ يَذْكُرِ الْمَسْئُولَ عَنْهُ، وَبَيَّنَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، وَلَفْظُهُ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ - يَعْنِي الْخَوَارِجَ - قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ .. فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ) هِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بَيْنَ الرَّقَّةِ وَمَنْبِجَ كَانَتْ بِهَا الْوَاقِعَةُ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) سَاقَ أَحْمَدُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. هَذَا الرَّجُلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّاءِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ لَمَّا كَادَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَغْلِبُونَهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِرَفْعِ الْمَصَاحِفِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْمُطَاوَلَةُ فَيَسْتَرِيحُوا مِنَ الشِّدَّةِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا فَكَانَ كَمَا ظَنَّ، فَلَمَّا رَفَعُوهَا وَقَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَسَمِعَ مَنْ بِعَسْكَرِ عَلِيٍّ وَغَالِبُهُمْ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ، قَالَ قَائِلُهُمْ مَا ذُكِرَ؛ فَأَذْعَنَ عَلِيٌّ إِلَى التَّحْكِيمِ مُوَافَقَةً لَهُمْ وَاثِقًا بِأَنَّ الْحَقَّ بِيَدِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَذَكَرَ الزِّيَادَةَ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كُنَّا بِصِفِّينَ: قَالَ: فَلَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الشَّامِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، لِمُعَاوِيَةَ: أَرْسِلِ الْمُصْحَفَ إِلَى عَلِيٍّ فَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ، فَأَتَى بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ، بَيْنَنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَجَاءَتْهُ الْخَوَارِجُ - وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءُ - وَسُيُوفُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا نَنْتَظِرُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، أَلَا نَمْشِيَ إِلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ) زَادَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ أَيْ بِالْإِجَابَةِ إِذَا دُعِيتُ إِلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّنِي وَاثِقٌ بِأَنَّ الْحَقَّ بِيَدِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ) أَيْ فِي هَذَا الرَّأْيِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَنْكَرُوا التَّحْكِيمَ، وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ
بِهَا بَاطِلٌ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ كِبَارُ الصَّحَابَةِ بِمُطَاوَعَةِ عَلِيٍّ وَأَنْ لَا يُخَالَفَ مَا يُشِيرُ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ بِالْمَصْلَحَةِ، وَذَكَرَ لهُمْ سَهْلَ بْنُ حُنَيْفٍ مَا وَقَعَ لَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهُمْ رَأَوْا يَوْمَئِذٍ أَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْقِتَالِ وَيُخَالِفُوا مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الصُّلْحِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْأَصْلَحَ هُوَ الَّذِي كَانَ شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُدَيْبِيَةِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ.
49 - سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا تُقَدِّمُوا} لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ. امْتَحَنَ: أَخْلَصَ. ولَا تَنَابَزُوا: يُدْعَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. يَلِتْكُمْ: يُنْقِصْكُمْ. أَلَتْنَا: نَقَصْنَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْحُجُرَاتِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ غَيْرُهُ عَلَى الْحُجُرَاتِ حَسْبُ. وَالْحُجُرَاتُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حُجْرَةٍ، بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَالْمُرَادُ بُيُوتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا تُقَدِّمُوا} لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(تَنْبِيهٌ): ضَبَطَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْبَنَاسِيُّ تَقَدَّمُوا بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ وَهِيَ الَّتِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا هَذَا التَّفْسِيرُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ، قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ.
قَوْلُهُ: (امْتَحَنَ: أَخْلَصَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ بِلَفْظِهِ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَخْلَصَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فِيمَا أَحَبَّ.
قَوْلُهُ: {وَلا تَنَابَزُوا} يُدْعَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ لَا يَدْعُو الرَّجُلُ بِالْكُفْرِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: لَا يَطْعَنُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.
{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قَالَ: لَا تَقُلْ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقُ يَا مُنَافِقُ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الْيَهُودِيُّ يُسْلِمُ فَيُقَالُ لَهُ يَا يَهُودِيُّ. فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو جُبَيْرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ لَقَبَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ إِذَا دَعَا أَحَدًا مِنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَالُوا: إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْهُ، فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: {يَلِتْكُمْ} يُنْقِصُكُمْ، أَلَتْنَا: نَقَصْنَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَبِهِ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قَالَ: مَا نَقَصْنَا الْآبَاءَ لِلْأَبْنَاءِ.
(تَنْبِيهٌ): هَذَا الثَّانِي مِنْ سُورَةِ الطُّورِ ذَكَرَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا، وَإِنَّمَا يَتَنَاسَبُ أَلَتْنَا مَعَ الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو هُنَا، فَإِنَّهُ قَرَأَ لَا يَأْلِتْكُمْ بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا، وَهُوَ مِنْ لَاتَ يَلِيتُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: وَقَالَ رُؤْبَةُ:
وَلَيْلَةٌ ذَاتُ نَدًى سَرَيْتُ
…
وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَلَاتَنِي حَقِّي، وَأَلَاتَنِي عَنْ حَاجَتِي أَيْ صَرَفَنِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} فَهُوَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ أَيْ نَقَصَ.
1 - بَاب {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .. الْآيَةَ. تَشْعُرُونَ: تَعْلَمُونَ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ.
4845 -
حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .. الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ. يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ.
4846 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: "إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة"
قَوْلُهُ: بَابُ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .. الْآيَةَ. كَذَا لِلْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: {تَشْعُرُونَ} تَعْلَمُونَ وَمِنْهُ الشَّاعِرُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَسَرَةَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَجَدُّهُ جَمِيلٌ بِالْجِيمِ وَزْنَ عَظِيمٍ وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ، وَلَيْسَ هُوَ نَافِعُ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَنَبَّهَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَتَخَيَّلُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَامٌ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُلَاثِيًّا لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ تَابِعِيٌّ.
قَوْلُهُ: (كَادَ الْخَيِّرَانِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِالْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ، وَحَكَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ رِوَايَةً بِالْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ.
(يَهْلِكَانِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ يَهْلِكَا بِحَذْفِ النُّونِ؛ قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ نُونٍ وَكَأَنَّهُ نُصِبَ بِتَقْدِيرِ أَنْ. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ أَنْ يَهْلِكَا وَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَنَسَبَهَا ابْنُ التِّينِ لِرِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، ثُمَّ هَذَا السِّيَاقُ صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ لَكِنْ ظَهَرَ فِي آخِرِهِ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ حَمَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ فَذَكَرَهُ بِكَمَالِهِ.
قَوْلُهُ: (رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ وَكَانَ قُدُومُهُمْ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ بِبَنِي الْعَنْبَرِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ
قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا) هُوَ عُمَرُ، بَيَّنَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ إِنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَعْمِلْهُ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ .. الْحَدِيثَ. وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرِوَايَتُهُ أَثْبَتُ مِنْ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ) الْأَقْرَعُ لَقَبٌ وَاسْمُهُ فِيمَا نُقِلَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِرَاسُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ التَّمِيمِيُّ الدَّارِمِيُّ، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ الْآخَرُ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ، بَيَّنَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا أَحْفَظُ اسْمُهُ، سَيَأَتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، أَيِ ابْنِ عُدُسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ التَّمِيمِيُّ الدَّارِمِيُّ. قَالَ الْكَلْبِيُّ فِي الْجَامِعِ: كَانَ يُقَالُ لَهُ تَيَّارُ الْفُرَاتِ لِجُودِهِ، قُلْتُ: وَلَهُ ذِكْرٌ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُ: (مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي) أَيْ لَيْسَ مَقْصُودُكَ إِلَّا مُخَالَفَةُ قَوْلِي، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا مَا أَرَدْتَ إِلَى خِلَافِي بِلَفْظِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَمَا فِي هَذَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَإِلَى بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ قَصَدْتَ مُنْتَهِيًا إِلَى مُخَالَفَتِي. وَقَدْ وَجَدْتُ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ التِّينِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .. الْآيَةَ، زَادَ وَكِيعٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ إِلَى قَوْلِهِ: عَظِيمٌ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامُ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ.
قُلْتُ: لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ الشَّيْخَيْنِ فِي تَخَالُفِهِمَا فِي التَّأْمِيرِ هُوَ أَوَّلُ السُّورَةِ {لا تُقَدِّمُوا} وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِهَا قَوْلُهُ:{لا تَرْفَعُوا} تَمَسَّكَ عُمَرُ مِنْهَا بِخَفْضِ صَوْتِهِ، وَجُفَاةُ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِمْ قَوْلُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} . قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ مَدْحِي زَيْنٌ وَإِنَّ شَتْمِي شَيْنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ اللَّهُ عز وجل، وَنَزَلَتْ.
قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ لِأَسْبَابٍ تَتَقَدَّمُهَا، فَلَا يُعْدَلُ لِلتَّرْجِيحِ مَعَ ظُهُورِ الْجَمْعِ وَصِحَّةِ الطُّرُقِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَأَوْرَدَ قِصَّةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَقِبَ هَذَا لِيُبَيِّنَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْجَمْعِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَرْجَمَةِ بَابِ قَوْلِهِ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي التَّرْجَمَةِ حَدِيثًا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ قَرِيبًا، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْخَطِيبُ لَمَّا وَقَعَ الْكَلَامُ فِي الْمُفَاخَرَةِ بَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ الْمَذْكُورِينَ كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ فِي الِاعْتِصَامِ فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .. الْآيَةَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتُ أَنْ لَا أُكَلِّمَكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ) قَالَ مُغْلَطَايْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَوْ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَإِنَّ أَبَا مُلَيْكَةَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الصَّحَابَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ، بَلْ قَرِينَةُ ذِكْرِ عُمَرَ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَدَّهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ فِي آخِرِهِ وَمَا ذَكَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَدَّهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ عَدَّ فِي الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ أَوْلَادَ بِنْتِهِ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْقَفَّالُ عَلَى ابْنِ الْقَاصِّ وَعَدَّهُ الْقُضَاعِيُّ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدِ احْتَجَّ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ بِأَنَّ عِيسَى نُسِبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ بِنْتِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ، وَإِطْلَاقُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ مَشْهُورٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ: (افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) هُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، بَيَّنَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقِيلَ: أَبُو مَسْعُودٍ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمُهُ) أَيْ: أَعْلَمُ لِأَجْلِكَ عِلْمًا مُتَعَلِّقًا بِهِ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ: مُوسَى) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ.
2 - بَاب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
4847 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَى - أَوْ إِلَّا - خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .. حَتَّى انْقَضَتْ الْآيَةُ.
قَوْلُهُ: بَابُ {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُمْ أَعْرَابُ بَنِي تَمِيمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقَالَ: ذَاكَ اللَّهُ تبارك وتعالى.
وَرُوِي مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ مُرْسَلًا. وَزَادَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} .. الْآيَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) كَذَا قَالَ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِالْعَنْعَنَةِ، وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَزَادَ فِيهِ رَجُلًا قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ أَخْبَرَهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ حَمَلَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِوَاسِطَةٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَسَمِعَهُ مِنْهُ.
بَاب {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} - هَكَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ التَّرْجَمَةُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كُتُبِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} .. الْحَدِيثَ وَسِيَاقُهُ لِابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ الْأَقْرَعَ مُرْسَلٌ،
وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ فِي ذَلِكَ مُطَوَّلَةً بِانْقِطَاعٍ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَنْدَهْ فِي تَرْجَمَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَوْصُولَةٍ.
50 - سُورَةُ ق
{رَجْعٌ بَعِيدٌ} رَدٌّ. {فُرُوجٍ} فُتُوقٍ. وَاحِدُهَا فَرْجٌ. {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَرِيدَاهُ فِي حَلْقِهِ. وَالْحَبْلُ: حَبْلُ الْعَاتِقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ} مِنْ عِظَامِهِمْ. {تَبْصِرَةً} بَصِيرَةً. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الْحِنْطَةُ. {بَاسِقَاتٍ} الطِّوَالُ. {أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا. {وَقَالَ قَرِينُهُ} الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ. {فَنَقَّبُوا} ضَرَبُوا. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ. حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ. {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} رَصَدٌ. {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} الْمَلَكَانِ. كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ: {وَشَهِيدٌ} شَاهِدٌ بِالْغَيْبِ. {لُغُوبٍ} النَّصَبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {نَضِيدٌ} الْكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أَكْمَامِهِ. وَمَعْنَاهُ: مَنْضُودٌ، بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ. في أدْبَارِ النُّجُومِ، وَأَدْبَارِ السُّجُودِ: كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي ق، وَيَكْسِرُ الَّتِي فِي الطُّورِ، وَيُكْسَرَانِ جَمِيعًا وَيُنْصَبَانِ. وَق الَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمَ الْخُرُوجِ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْبَعْثِ مِنْ الْقُبُورِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ ق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: ق اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ: هِيَ الْقَافُ مِنْ قَوْلِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ، دَلَّتْ عَلَى بَقِيَّةِ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافُ
قَوْلُهُ: {رَجْعٌ بَعِيدٌ} رَدٌّ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقَالُوا: مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُرْجِعَنَا وَيُحْيِينَا.
قَوْلُهُ: {فُرُوجٍ} فُتُوقٌ وَاحِدُهَا فَرْجٌ) أَيْ بِسُكُونِ الرَّاءِ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْفَرْجُ الشَّقُّ.
قَوْلُهُ: {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَرِيدَاهُ فِي حَلْقِهِ، وَالْحَبْلُ حَبْلُ الْعَاتِقِ) سَقَطَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ. وَزَادَ: فَأَضَافَهُ إِلَى الْوَرِيدِ كَمَا يُضَافُ الْحَبْلُ إِلَى الْعَاتِقِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قَالَ: مِنْ عِرْقِ الْعُنُقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مُجَاهِدٌ: {مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} مِنْ عِظَامِهِمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِهَذَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ: مِنْ لُحُومِهِمْ وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: يَعْنِي الْمَوْتَى تَأْكُلُهُمُ الْأَرْضُ إِذَا مَاتُوا. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَيْ مِنْ أَبْدَانِهِمْ.
(تَنْبِيهٌ): زَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ مِنْ أَعْظَامِهِمْ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ وَقَالَ: الصَّوَابُ مِنْ عِظَامِهِمْ. وَفَعْلٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ إِلَّا نَادِرًا.
قَوْلُهُ: {تَبْصِرَةً} بَصِيرَةً) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ هَكَذَا، وَقَالَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {تَبْصِرَةً} ، قَالَ: نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل.
قَوْلُهُ: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الْحِنْطَةَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: هُوَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ.
قَوْلُهُ: {بَاسِقَاتٍ} الطِّوَالُ) وَصَلَهُ
الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: بُسُوقُهَا: طُولُهَا فِي قَامَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: يَعْنِي طُولَهَا.
قَوْلُهُ: {أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} رَصَدٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
قَوْلُهُ: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} الْمَلَكَانِ كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا وَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا. وَرَوَى نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ عَنْ عُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: {وَقَالَ قَرِينُهُ} الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا؛ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: {فَنَقَّبُوا} ضَرَبُوا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} قَالَ: أَثَّرُوا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {فَنَقَّبُوا} : طَافُوا وَتَبَاعَدُوا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى
…
رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
قَوْلُهُ: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلْقَى السَّمْعَ أَيِ اسْتَمَعَ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ يَجِدُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مَكْتُوبًا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مُنَافِقٌ اسْتَمَعَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ.
قَوْلُهُ: (حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَهُوَ بَقِيَّةُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَفَعَيِينَا، وَحَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ عِنْدَهَا.
قَوْلُهُ: {وَشَهِيدٌ} شَاهِدٌ بِالْغَيْبِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْقَلْبِ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ الْأَكْثَرِ.
قَوْلُهُ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} مِنْ نَصَبٍ - وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ كَذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَفَرَغَ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُمْ: {نَضِيدٌ} الْكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أَكْمَامِهِ، وَمَعْنَاهُ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} وَأَدْبَارِ السُّجُودِ (كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي ق وَيَكْسِرُ الَّتِي فِي الطُّورِ، وَيُكْسَرَانِ جَمِيعًا وَيُنْصَبَانِ) هُوَ كَمَا قَالَ، وَوَافَقَ عَاصِمًا، أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ عَلَى الْفَتْحِ هُنَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ هُنَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ فِي الطُّورِ وَقَرَأَهَا بِالْكَسْرِ عَاصِمٌ عَلَى مَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ؛ وَنَقَلَهَا غَيْرُهُ فِي الشَّوَاذِّ، فَالْفَتْحُ جَمْعُ دُبُرٍ وَالْكَسْرُ مَصْدَرُ أَدْبَرَ يُدْبِرُ إِدْبَارًا، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْفَتْحَ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَوْمُ الْخُرُوجِ} يَوْمَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ نَحْوُهُ.
1 - بَاب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
4848 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ
[الحديث 4848 - طرفاه في: 6661، 1384]
4849 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ "يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تبارك وتعالى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَط"
[الحديث 4849 - طرفاه في: 4850، 7449]
4850 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عز وجل مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ قَوْلِ جَهَنَّمَ {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، فَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهَا لِطَلَبِ الْمَزِيدِ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، كَأَنَّهَا تَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي مَوْضِعٍ لِلزِّيَادَةِ، فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أَيْ: هَلْ مِنْ مَدْخَلٍ قَدِ امْتَلَأَتْ؟ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ مُوَجَّهٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُزَادُ، وَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهَا لَا مَوْضِعَ فِيهَا لِلْمَزِيدِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (يُلْقَى فِي النَّارِ {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ.
قَوْلُهُ: (فَتَقُولُ قَطْ قَطْ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ فَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ فَتَقُولُ قَدْ قَدْ بِالدَّالِ بَدَلَ الطَّاءِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَضَعُ الرَّبُّ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ فَهُنَاكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَجَهَنَّمُ تَسْأَلُ الْمَزِيدَ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فَيُلْقَى فِي النَّارِ أَهْلُهَا فَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَأْتِيَهَا عز وجل فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَنْزَوِي فَتَقُولُ قَدْنِي قَدْنِي.
وَقَوْلُهُ قَطْ قَطْ أَيْ حَسْبِي حَسْبِي، وَثَبَتَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَطْ بِالتَّخْفِيفِ سَاكِنًا، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَطِي قَطِي بِالْإِشْبَاعِ وَقَطْنِي بِزِيَادَةِ نُونٍ مُشْبَعَةٍ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِالدَّالِ بَدَلَ الطَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ أَيْضًا، وكُلُّهَا بِمَعْنَى يَكْفِي. وَقِيلَ: قَطْ صَوْتُ جَهَنَّمَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي
تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ مَا يُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَفْظُهُ: فَيَضَعُهَا عَلَيْهَا فَتُقَطْقِطُ كَمَا يُقَطْقِطُ السِّقَاءُ إِذَا امْتَلَأَ انْتَهَى.
فَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَدَمِ، فَطَرِيقُ السَّلَفِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ، وَهُوَ أَنْ تَمُرَّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُتَعَرَّضُ لِتَأْوِيلِهِ بَلْ نَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ مَا يُوهِمُ النَّقْصَ عَلَى اللَّهِ،
(1)
وَخَاضَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ: الْمُرَادُ إِذْلَالُ جَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا إِذَا بَالَغَتْ فِي الطُّغْيَانِ وَطَلَبِ الْمَزِيدِ أَذَلَّهَا اللَّهُ فَوَضَعَهَا تَحْتَ الْقَدَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْقَدَمِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ أَلْفَاظَ الْأَعْضَاءِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَلَا تُرِيدُ أَعْيَانَهَا، كَقَوْلِهِمْ رَغِمَ أَنْفُهُ وَسُقِطَ فِي يَدِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الْفَرَطُ السَّابِقُ أَيْ يَضَعُ اللَّهُ فِيهَا مَا قَدَّمَهُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْقَدَمُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَا قُدِّمَ كَمَا يُسَمَّى مَا خُبِطَ مِنْ وَرَقٍ خَبَطًا، فَالْمَعْنَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ، فَالضَّمِيرُ لِلْمَخْلُوقِ مَعْلُومٌ، أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ اسْمُهُ قَدَمٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ آخِرُ الْأَعْضَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ فِي النَّارِ آخِرَ أَهْلِهَا فِيهَا، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلْمَزِيدِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أُطْلِقَتْ بِتَمْثِيلِ الْمُجَاوَرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي عُصِيَ اللَّهُ فِيهَا فَلَا تَزَالُ تَسْتَزِيدُ حَتَّى يَضَعَ الرَّبُّ فِيهَا مَوْضِعًا مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَمْتَلِئُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْقَدَمَ عَلَى الْمَوْضِعِ، قَالَ تَعَالَى:{أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} يُرِيدُ مَوْضِعَ صِدْقٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ صِدْقٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى شَفَاعَتِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا مُنَابِذٌ لِنَصِّ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ: يَضَعُ قَدَمَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَتْ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَالَّذِي قَالَهُ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَنْقُصُ مِنْهَا، وَصَرِيحُ الْخَبَرِ أَنَّهَا تَنْزَوِي بِمَا يُجْعَلُ فِيهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا يُبَدَّلُ عِوَضَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيُقَالُ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ إِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِدًا مِنَ الْكُفَّارِ بِأَنْ يَعْظُمَ حَتَّى يَسُدَّ مَكَانَهُ وَمَكَانَ الَّذِي خَرَجَ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَدَمُ سَبَبٌ لِلْعِظَمِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا وَقَعَ الْعِظَمُ حَصَلَ الْمِلْءُ الَّذِي تَطْلُبُهُ.
وَمِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ قَدَمُ إِبْلِيسَ، وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ وَإِبْلِيسُ أَوَّلُ مَنْ تَكَبَّرَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى مُتَجَبِّرًا وَجَبَّارًا، وَظُهُورُ بُعْدِ هَذَا يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي جَاءَتْ بِلَفْظِ الرِّجْلِ تَحْرِيفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَمِ الْجَارِحَةَ فَرَوَاهَا بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرِّجْلِ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً الْجَمَاعَةُ، كَمَا تَقُولُ: رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَالتَّقْدِيرُ يَضَعُ فِيهَا جَمَاعَةً، وَأَضَافَهُمْ إِلَيْهِ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ. وَبَالَغَ ابْنُ فُورَكٍ، فَجَزَمَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ الرِّجْلِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أَوَّلَهَا غَيْرُهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَدَمِ، فَقِيلَ: رِجْلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْمُ مَخْلُوقٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّجْلَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّجْرِ كَمَا تَقُولُ: وَضَعْتُهُ تَحْتَ رِجْلِي، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّجْلَ تُسْتَعْمَلُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، كَمَا تَقُولُ: قَامَ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى رِجْلٍ.
وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عُقَيْلٍ: تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَمْرُهُ فِي
(1)
وهذا هو الصواب الذي كان عليه سلف الأمة من الصحابة إلى أئمة المتبوعين، وباب التأويل هو الذي دخل منه جميع أصحاب مذاهب الضلال إلى ضلالاتهم، والغيب قد استأثر الله بعلمه، وكما قال الإمام مالك في الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
النَّارِ حَتَّى يَسْتَعِينَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ لِلنَّارِ:{كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} فَمَنْ يَأْمُرُ نَارًا أَجَّجَهَا غَيْرُهُ أَنْ تَنْقَلِبَ عَنْ طَبْعِهَا وَهُوَ الْإِحْرَاقُ، فَتَنْقَلِبُ، كَيْفَ يَحْتَاجُ فِي نَارٍ يُؤَجِّجُهَا هُوَ إِلَى اسْتِعَانَةٍ. انْتَهَى.
وَيُفْهَمُ جَوَابُهُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْوَاقِعِ ثَالِثَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ يَقَعُ امْتِلَاؤُهَا بِمَنْ يُنْشِؤُهُمُ اللَّهُ لِأَجْلِ مَلْئِهَا، وَأَمَّا لنَّارُ فَلَا يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا بَلْ يَفْعَلُ فِيهَا شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ يَقْتَضِي لَهَا أَنْ يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَصِيرُ مَلْأَى وَلَا تَحْتَمِلُ مَزِيدًا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ كَمَا فِي الْأَطْفَالِ.
قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ الثَّانِي (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ وَلَمْ يَلْقَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَوْفٌ) لِأَبِي سُفْيَانَ فِيهِ سَنَدٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْجَزَائِرِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا.
وَقَوْلُهُ: (رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ) الْقَائِلُ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَالَ: يُوقِفُهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَهُوَ لُغَةٌ وَالْفَصِيحُ يَقِفُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَرْوِيهِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ مَوْقُوفًا وَيَرْفَعُهُ أَحْيَانًا، وَقَدْ رَفَعَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَقَعَ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي آخِرِهِ قَالَ مَعْمَرٌ وَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (تَحَاجَّتْ) أَيْ تَخَاصَمَتْ.
قَوْلُهُ: (بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ) قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ: الْمُتَكَبِّرُ الْمُتَعَاظِمُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَالْمُتَجَبِّرُ الْمَمْنُوعُ الَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَكْتَرِثُ بِأَمْرٍ.
قَوْلُهُ: (ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطِهِمْ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْمُحْتَقَرُونَ بَيْنَهُمُ السَّاقِطُونَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ هُمْ عُظَمَاءٌ رُفَعَاءُ الدَّرَجَاتِ، لَكِنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ لِعَظَمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ وَخُضُوعِهِمْ لَهُ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَالذِّلَّةِ فِي عِبَادِهِ، فَوَصْفُهُمْ بِالضَّعْفِ وَالسَّقَطِ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ الْأَغْلَبُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَمْيِيزًا يُدْرِكَانِ بِهِ وَيَقْدِرَانِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدًا لِهَذَا فِي بَابِ قَوْلِهِ:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
4851 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
4852 -
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا يَعْنِي قَوْلَهُ {وَأدْبَارَ السُّجُودِ} "
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِغَيْرِهِ (وَسَبِّحْ) بِالْوَاوِ فِيهِمَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتِّلَاوَةِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِآيَةِ السُّورَةِ.
ثم أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ .. الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي طه، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُنَاسِبُ لِهَذِهِ السُّورَةِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ لَا غُرُوبِهَا.
قُلْتُ: لَا سَبِيلَ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ هُنَا لِاتِّحَادِ دَلَالَةِ الْآيَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَا وَقَعَ هُنَا فِي نُسْخَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَضَى مِنْهُ شَيْءٌ فِي فَضْلِ وَقْتِ الْعَصْرِ مِنَ الْمَوَاقِيتِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ) يَعْنِي أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قَالَ: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ، كَذَا لَهُمْ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَرَأَ أَدْبَارَ النُّجُومِ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ، أَيْ بِهِمَا.
51 - سُورَةُ والذَّارِيَاتِ
قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: الذَّارِيَاتُ: الرِّيَاحُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، فَرَاغَ: فَرَجَعَ، فَصَكَّتْ: فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا، فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا، وَالرَّمِيمُ: نَبَاتُ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدَبَّسَ، لَمُوسِعُونَ: أَيْ لَذُو سِعَةٍ، وَكَذَلِكَ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} يَعْنِي الْقَوِيَّ، زَوْجَيْنِ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ: حُلْوٌ وَحَامِضٌ، فَهُمَا زَوْجَانِ، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ. {إِلا لِيَعْبُدُونِ} مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا، فَفَعَلَ بَعْضٌ، وَتَرَكَ بَعْضٌ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ. وَالذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَنُوبًا: سَبِيلًا. صَرَّةٍ: صَيْحَةٍ، الْعَقِيمُ: الَّتِي لَا تَلِدُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْحُبُكُ: اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا. {فِي غَمْرَةٍ} فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَوَاصَوْا تَوَاطَئُوا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مُسَوَّمَةً: مُعَلَّمَةً، مِنَ السِّيمَا. {قُتِلَ الإِنْسَانُ} لُعِنَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالذَّارِيَاتِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَت (سُورَةُ) وَ (الْبَسْمَلَةُ) لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ،
وَالْفَاءَاتُ بَعْدَهَا عَاطِفَاتٌ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، وَأَنَّ الْحَامِلَاتِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ صِفَاتِ الرِّيحِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ: الرِّيَاحُ) كَذَا لَهُمْ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ عَلِيٌّ: الذَّارِيَاتُ الرِّيَاحُ، وَهُوَ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ أَتَمَّ مِنْ هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْكَوَّاءِ يَسْأَلُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنِ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا قَالَ: الرِّيَاحُ، وَعَنِ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا، قَالَ: السَّحَابُ، وَعَنِ الْجَارِيَاتِ يُسْرًا، قَالَ: السُّفُنُ، وَعَنِ الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا قَالَ: الْمَلَائِكَةُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. وَابْنِ الْكَوَّاءِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَشْهُورٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَطْنَبَ الطَّبَرِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: سَلُونِي، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَسَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَبِلَيْلٍ أُنْزِلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ أَمْ فِي سَهْلٍ أَمْ فِي جَبَلٍ. فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ خَلْفِي، فَقَالَ: مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْوًا؟ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَقَالَ فِيهِ: وَيْلَكَ سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا وَفِيهِ سُؤَالُهُ عَنْ أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا، وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ عَنْ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ:{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ تُفَرِّقُهُ، ذَرَوْتُهُ وَأَذْرَيْتُهُ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الذَّارِيَاتِ: الرِّيَاحُ، وَنَاسٌ يَقُولُونَ الْمُذَرَّيَاتُ ذَرَتْ وَأَذْرَتْ.
قَوْلُهُ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ) أَيِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي أَيْضًا آيَاتٍ، إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ عَنَّفَهُمْ فَقَالَ:{أَفَلا تُبْصِرُونَ} وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} قَالَ: فِيمَا يَدْخُلُ مِنْ طَعَامِكُمْ وَمَا يَخْرُجُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُرَيْفِعِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: سَبِيلُ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ.
قَوْلُهُ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أَيْ لُعِنُوا، كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قَالَ: لُعِنَ الْكَذَّابُونَ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قَالَ: الْكَذَّابُونَ.
قَوْلُهُ: {فَرَاغَ} فَرَجَعَ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَزَادَ: وَالرَّوْغُ وَإِنْ جَاءَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُنْطَقُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُهُ لِذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (فَرَاغَ) أَيْ: عَدَلَ.
قَوْلُهُ: {فَصَكَّتْ} فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ جَمَعَتْ بِغَيْرِ فَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قَالَ: ضَرَبَتْ بِيَدِهَا عَلَى جَبْهَتِهَا وَقَالَتْ يَا وَيْلَتَاهُ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: ضَرَبَتْ وَجْهَهَا عَجَبًا. وَمِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ: وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى جَبْهَتِهَا تَعَجُّبًا.
قَوْلُهُ: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} مَنْ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ) هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَالرَّمِيمُ نَبَاتُ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَدِيسَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مِنَ الدَّوْسِ وَهُوَ وَطْءُ الشَّيْءِ بِالْقَدَمِ حَتَّى يُفَتَّتَ، وَمِنْهُ دِيَاسُ الْأَرْضِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الرَّمِيمُ الشَّجَرُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرَّمِيمُ الْهَالِكُ.
قَوْلُهُ: {لَمُوسِعُونَ} أَيْ لَذُو سَعَةٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} أَيْ مَنْ يَكُونُ ذَا سَعَةٍ،
قَالَ الْفَرَّاءُ: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أَيْ لَذُو سَعَةٍ لِخَلْقِنَا، وَكَذَا قَوْلُهُ:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} يَعْنِي الْقَوِيَّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قَالَ: أَنْ نَخْلُقَ سَمَاءً مِثْلَهَا.
قَوْلُهُ: {زَوْجَيْنِ} الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: الزَّوْجَانِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَمِنْ سِوَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ النَّبَاتِ وَطُعُومِ الثِّمَارِ بَعْضٌ حُلْوٌ وَبَعْضٌ حَامِضٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قَالَ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ، وَالشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
قَوْلُهُ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ) أَيْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ أَوْ مِنْ عَذَابِهِ إِلَى رَحْمَتِهِ، هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَنَصَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُشْكِلِ الْقُرْآنِ لَهُ. وَسَبَبُ الْحَمْلِ عَلَى التَّخْصِيصِ وُجُودُ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ، فَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَقَعَ التَّنَافِي بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا، فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَحَاصِلُ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ السَّعَادَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالثَّانِي بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، لَكِنْ بِمَعْنَى الِاسْتِعْدَادِ، أَيْ خَلَقَهُمْ مُعَدِّينَ لِذَلِكَ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَطَاعَ وَمِنْهُمْ مَنْ عَصَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِمُ: الْإِبِلُ مَخْلُوقَةٌ لِلْحَرْثِ، أَيْ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَحْرُثُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ فَيُرِيدُ الْمُعْتَزِلَةَ، لِأَنَّ مُحَصَّلَ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْقِ خَلْقُ التَّكْلِيفِ لَا خَلْقُ الْجِبِلَّةِ، فَمَنْ وَفَّقَهُ عَمِلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَمَنْ خَذَلَهُ خَالَفَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُعَلَّلًا بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُرَادًا وَأَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُ مُرَادًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْقَدَرِ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُولَةً، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ التَّعْلِيلِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ التَّعْلِيلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِجَوَازِ التَّعْلِيلِ لَا بِوُجُوبِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ لِإِسْنَادِ الْعِبَادَةِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ مِنْ جِهَةِ الْكَسْبِ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ، فَمِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَنْفَعُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْفَعُ.
قَوْلُهُ: (وَالذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لَكِنْ قَالَ: الْعَظِيمَةُ وَزَادَ: وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذَّنُوبُ: النَّصِيبُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّلْوِ، وَالذَّنُوبُ وَالسَّجْلُ وَاحِدٌ، وَالسَّجْلُ أَقَلُّ مِلْأً مِنَ الدَّلْوِ
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَنُوبًا سَبِيلًا) وَقَعَ هَذَا مُؤَخَّرًا عَنِ الَّذِي بَعْدَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالَّذِي عِنْدَهُ أَوْلَى، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} قَالَ: سَجْلًا مِنَ الْعَذَابِ مِثْلَ عَذَابِ أَصْحَابِهِمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} قَالَ: سَبِيلًا. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَجْلًا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ، وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ شَاهِدًا.
قَوْلُهُ: {صَرَّةٍ} صَيْحَةٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:(صَرَّةٌ) شِدَّةُ صَوْتٍ، يُقَالُ: أَقْبَلَ فُلَانٌ يَصْطَرُّ، أَيْ يُصَوِّتُ صَوْتًا شَدِيدًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَقْبَلَتْ تَرِنُّ.
قَوْلُهُ: (الْعَقِيمُ الَّتِي لَا
تَلِدُ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ وَلَا تُلَقَّحُ شَيْئًا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْعَقِيمُ الَّتِي لَا تَلِدُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْعَقِيمُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرِّيحُ الْعَقِيمُ الَّتِي لَا تُلْقِحُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْحُبُكُ اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَأَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ سَمَاعَ الثَّوْرِيِّ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ: ذَاتُ الْخَلْقِ الْحَسَنِ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ: سُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ قَوْلِهِ: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ: ذَاتُ الْخَلْقِ الْحَسَنِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبُ، قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا حَبَكَهُ.
قَوْلُهُ: {فِي غَمْرَةٍ} فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادُونَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ فِي غَمْرَتِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُقُوعِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي ضَلَالَتِهِمْ يُؤَيِّدُ الثَّانِي، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ كَذَلِكَ هُنَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْكَلِمَةِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قَالَ: فِي ضَلَالَتِهِمْ يَتَمَادُونَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ فِي صَلَاتِهِمْ أَوْ ضَلَالَتِهِمْ بِالشَّكِّ، وَالْأَوَّلُ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: تَوَاصَوْا بِهِ تَوَاطَئُوا) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ:{أَتَوَاصَوْا بِهِ} تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَتْ شِيمَةٌ غَالِبَةٌ عَلَى قَوْمٍ قِيلَ: كَأَنَّمَا تَوَاصَوْا بِهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هَلْ أَوْصَى الْأَوَّلُ الْآخِرَ مِنْهُمْ بِالتَّكْذِيبِ؟ قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {مُسَوَّمَةً} مُعَلَّمَةً مِنَ السِّيمَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مُسَوَّمَةً} قَالَ: مُعَلَّمَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مُسَوَّمَةً} قَالَ: مَخْتُومَةً بِلَوْنٍ أَبْيَضَ وَفِيهِ نُقْطَةٌ سَوْدَاءُ وَبِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ: {قُتِلَ الإِنْسَانُ} لُعِنَ) سَقَطَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قُتِلَ بِلُعِنَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قَالَ: هِيَ مِثْلُ الَّتِي فِي عَبَسَ: {قُتِلَ الإِنْسَانُ}
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا عَلَى شَرْطِهِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
52 - سُورَةُ وَالطُّورِ
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَسْطُورٍ} مَكْتُوبٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّورُ: الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. {رَقٍّ مَنْشُورٍ} صَحِيفَةٍ. {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} سَمَاءٌ. {الْمَسْجُورِ} الْمُوقَدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَلَتْنَاهُمْ} نَقَصْنَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: {تَمُورُ} تَدُورُ. {أَحْلامُهُمْ} الْعُقُولُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْبَرُّ} اللَّطِيفُ. {كِسْفًا} قِطْعًا. الْمَنُونُ: الْمَوْتُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَتَنَازَعُونَ} يَتَعَاطَوْنَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الطُّورِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى {وَالطُّورِ} ، وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ
وَمَا بَعْدَهَا عَاطِفَاتٌ أَوْ لِلْقَسَمِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَسْطُورٍ} مَكْتُوبٍ) سَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَثَبَتَ لَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّورُ الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا؛ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلُهُ: {وَالطُّورِ} قَالَ: جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ الطُّورُ. وَعَمَّنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطُّورُ الْجَبَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَفِي الْمُحْكَمِ: الطُّورُ: الْجَبَلُ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى طُورِ سَيْنَاءَ جَبَلٌ بِالشَّامِ، وَهُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ طُورَى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ طُورِيٌّ وَطُورَانِيٌّ.
قَوْلُهُ: {رَقٍّ مَنْشُورٍ} صَحِيفَةٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} قَالَ: صُحُفٌ وَرَقٌّ.
قَوْلُهُ: {مَنْشُورٍ} قَالَ: صَحِيفَةٍ.
قَوْلُهُ: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} سَمَاءٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَسْجُورُ: الْمُوقَدُ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ الْمُوقَرُ بِالرَّاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ: الْمُوقَدُ بِالدَّالِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ: أَيْنَ جَهَنَّمُ؟ قَالَ: الْبَحْرُ. قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا صَادِقًا. ثُمَّ تَلَا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} - {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: الْمُوقَدِ، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أُوقِدَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ، قَالَ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسْجُورُ الْمَمْلُوءُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} فَذَكَرَهُ، فَبَيَّنَ الْحَسَنُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَالْمُرَادُ بِالْمَسْجُورِ الْمُمْتَلِئُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَتْنَاهُمْ نَقَصْنَاهُمْ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحُجُرَاتِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا ظَلَمْنَاهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ تَمُورُ تَدُورُ) وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} قَالَ: مَوْرُهَا تَحَرُّكُهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} قَالَ: تَدُورُ دَوْرًا.
قَوْلُهُ: (أَحْلَامُهُمْ: الْعُقُولُ) هُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَحْلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعُقُولُ وَالْأَلْبَابُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْبَرُّ} اللَّطِيفُ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا وَثَبَتَ لَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: {كِسْفًا} قِطَعًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ مِثْلُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: عَذَابًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {كِسْفًا} الْكِسَفُ جَمْعُ كِسْفَةٍ، مِثْلُ السِّدْرِ جَمْعُ سِدْرَةٍ. وَهَذَا يُضَعِّفُ قَوْلَ مَنْ رَوَاهُ بِالتَّحْرِيكِ فِيهِمَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَأَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَأَثْبَتَهَا أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: {الْمَنُونِ} الْمَوْتُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{رَيْبَ الْمَنُونِ} قَالَ: الْمَوْتُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَنُونُ حَوَادِثُ الدَّهْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي وَثَاقٍ، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، فَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَصْمَعِيِّ: إِنَّ الْمَنُونَ وَاحِدٌ لَا جَمْعَ لَهُ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ إنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ: إِنَّ الْمَنُونَ جَمْعُ مَنِيَّةٍ فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ، مَعَ بُعْدِهِ مِنَ الِاشْتِقَاقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَنَازَعُونَ: يَتَعَاطَوْنَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَزَادَ: أَيْ يَتَدَاوَلُونَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
نَازَعَتْهُ الرَّاحُ حَتَّى وَقَفَهُ السَّارِي.
1 - باب
4853 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.
4854 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثُونِي، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} - كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي) أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ ضَعِيفَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّوَافِ مَاشِيَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
قَالَ سُفْيَانُ: فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (قَالَ: حَدَّثُونِي عَنِ الزُّهْرِيِّ) اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: فَصَرَّحَا عَنْهُ بِالسَّمَاعِ، وَهُمَا ثِقَتَانِ.
قُلْتُ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ سَاقِطٌ؛ فَإِنَّهُمَا مَا أَوْرَدَا مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الَّتِي صَرَّحَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَإِنَّمَا بَلَغَتْهُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَأَنَّهُ انْزَعَجَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ لِفَهْمِهِ مَعْنَاهَا وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفَهِمَ الْحُجَّةَ فَاسْتَدْرَكَهَا بِلَطِيفِ طَبْعِهِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسُوا أَشَدَّ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَتَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ هَلْ خُلِقُوا بَاطِلًا لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ؟ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ خَالِقٍ، وَإِذَا أَنْكَرُوا الْخَالِقَ فَهُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ فِي الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَا لَا وُجُودَ لَهُ كَيْفَ يَخْلُقُ، وَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ خَالِقًا. ثُمَّ قَالَ:{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أَيْ إِنْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ فَلْيَدَّعُوا خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُمْ، فَقَامَتِ الْحُجَّةُ. ثُمَّ قَالَ:{بَلْ لا يُوقِنُونَ} فَذَكَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي عَاقَتْهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَهُوَ عَدَمُ الْيَقِينِ الَّذِي هُوَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، فَلِهَذَا انْزَعَجَ جُبَيْرٌ حَتَّى كَادَ قَلْبُهُ يَطِيرُ، وَمَالَ إِلَى الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا بَلَغَ
هَذِهِ الْآيَةَ، أَنَّهُ اسْتَفْتَحَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ قَرَأَ إِلَى آخِرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
53 - سُورَةُ وَالنَّجْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذُو مِرَّةٍ} قُوَّةٍ. {قَابَ قَوْسَيْنِ} حَيْثُ الْوَتَرُ مِنَ الْقَوْسِ. ضِيزَى: عَوْجَاءُ. وَأَكْدَى: قَطَعَ عَطَاءَهُ. {رَبُّ الشِّعْرَى} هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ. {الَّذِي وَفَّى} وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ. {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. سَامِدُونَ: الْبَرْطَمَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَفَتُمَارُونَهُ: أَفَتُجَادِلُونَهُ؟ وَمَنْ قَرَأَ: أَفَتَمْرُونَهُ، يَعْنِي: أَفَتُجْحَدُونَهُ؟ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} بَصَرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. {وَمَا طَغَى} وَمَا جَاوَزَ مَا رَأَى. فَتَمَارَوْا: كَذَّبُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِذَا هَوَى} غَابَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَغْنَى وَأَقْنَى} أَعْطَى فَأَرْضَى.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالنَّجْمِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ وَالنَّجْمِ حَسْبُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّجْمُ وَالنُّجُومُ، ذَهَبَ إِلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَجَرِّهِ
قَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِنْ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالَهُ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. ثُمَّ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ إِذَا نَزَلَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ: النَّجْمُ: نُجُومُ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُو مِرَّةٍ ذُو قُوَّةٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ قُوَّةُ جِبْرِيلَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُو مِرَّةٍ أَيْ شِدَّةٍ وَإِحْكَامٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{ذُو مِرَّةٍ} قَالَ: ذُو خَلْقٍ حَسَنٍ.
قَوْلُهُ: {قَابَ قَوْسَيْنِ} حَيْثُ الْوَتَرُ مِنَ الْقَوْسِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَابَ قَوْسَيْنِ أَيْ: قَدْرَ قَوْسَيْنِ، أَوْ أَدْنَى، أَوْ أَقْرَبَ.
قَوْلُهُ: {ضِيزَى} عَوْجَاءُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ضِيزَى جَائِرَةٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَاقِصَةٌ، تَقُولُ: ضَأَزْتُهُ حَقَّهُ: نَقَصْتُهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَكْدَى: قَطَعَ عَطَاءَهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ اقْتَطَعَ عَطَاءَهُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُنْقَطِعَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَأَعْطَى قَلِيلا} أَيْ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ انْقَطَعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لَيِّنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{وَأَعْطَى قَلِيلا} ثُمَّ قَطَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُدْيَةِ بِالضَّمِّ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَ حَتَّى يَيْأَسَ مِنَ الْمَاءِ.
قَوْلُهُ: {رَبُّ الشِّعْرَى} هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:{الشِّعْرَى} الْكَوْكَبُ الَّذِي خَلْفَ الْجَوْزَاءِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الشِّعْرَى، وَهُوَ الْكَوْكَبُ الَّذِي يَتْبَعُ الْجَوْزَاءَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ هَذَا النَّجْمَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الشِّعْرَى. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: النَّجْمُ الَّذِي يَتْبَعُ الْجَوْزَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَنْوَاءِ: الْعُذْرَةُ وَالشِّعْرَى الْعَبُورُ وَالْجَوْزَاءُ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ وَهُنَّ نُجُومٌ مَشْهُورَةٌ، قَالَ: وَلِلشِّعْرَى
ثَلَاثَةُ أَزْمَانٍ إِذَا رُئِيَتْ غُدْوَةً طَالِعَةً فَذَاكَ صَمِيمُ الْحَرِّ، وَإِذَا رُئيَتْ عِشَاءً طَالِعَةً فَذَاكَ صَمِيمُ الْبَرْدِ، وَلَهَا زَمَانٌ ثَالِثٌ وَهُوَ وَقْتُ نَوْئِهَا. وَأَحَدُ كَوْكَبَيِ الذِّرَاعِ الْمَقْبُوضَةِ هِيَ الشِّعْرَى الْغُمَيْصَاءُ، وَهِيَ تُقَابِلُ الشِّعْرَى الْعَبُورَ وَالْمَجَرَّةُ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ لِكَوْكَبِهَا الْآخَرِ الشَّمَالِيُّ، الْمِرْزَمُ مِرْزَمُ الذِّرَاعِ، وَهُمَا مِرْزَمَانِ هَذَا وَآخَرُ فِي الْجَوْزَاءِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ انْحَدَرَ سُهَيْلٌ فَصَارَ يَمَانِيًّا فَتَبِعَتْهُ الشِّعْرَى فَعَبَرَتْ إِلَيْهِ الْمَجَرَّةَ وَأَقَامَتِ الْغُمَيْصَاءُ فَبَكَتْ عَلَيْهِ حَتَّى غَمَصَتْ عَيْنُهَا وَالشِّعْرَيَانِ الْغُمَيْصَاءُ وَالْعَبُورُ يَطْلُعَانِ مَعًا.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمِرْزَمُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ نَجْمٌ يُقَابِلُ الشِّعْرَى مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَا يُفَارِقُهَا وَهُوَ الْهَنْعَةُ.
قَوْلُهُ: {الَّذِي وَفَّى} وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ:{وَفَّى} أَيْ بَلَّغَ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُؤْخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَمِنْ طَرِيقِ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ نَحْوُهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} . وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: وَفَّى عَمَلِ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا وَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: دَنَتِ الْقِيَامَةُ.
قَوْلُهُ: (سَامِدُونَ: الْبَرْطَمَةُ) كَذَا لَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ: الْبَرْطَنَةُ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمِيمِ. (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قَالَ: مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قَالَ: الْبَرْطَمَةُ. قَالَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّامِدُونَ يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانُوا يَمُرُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غِضَابًا مُبَرْطِمِينَ. قَالَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ الْغِنَاءُ بِالْحِمْيَرِيَّةِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} هُوَ الْغِنَاءُ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، يَقُولُونَ: اسْمُدْ لَنَا أَيْ غَنِّ لَنَا. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قَالَ: الْغِنَاءُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَهِيَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، إِذَا أَرَادَ الْيَمَانِيُّ أَنْ يَقُولَ تَغَنَّ، قَالَ: اسْمُدْ. لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَاهُونَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: غَافِلُونَ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُعْرِضُونَ.
(تَنْبِيهٌ): الْبَرْطَمَةُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْإِعْرَاضُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْبَرْطَمَةُ هَكَذَا، وَوَضَعَ ذَقَنَهُ فِي صَدْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَفَتُمَارُونَهُ: أَفَتُجَادِلُونَهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِهِ، وَجَاءَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِيهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي: أَفَتَجْحَدُونَهُ) كَذَا لَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ أَفَتَجْحَدُونَ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {أَفَتُمَارُونَهُ} يَقُولُ: أَفَتَجْحَدُونَهُ، فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَرَأَ بِهِمَا مَعًا وَفَسَّرَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ {أَفَتُمَارُونَهُ} أَيْ تُجَادِلُونَهُ.
قُلْتُ: قَرَأَهَا مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَاصِمٌ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ شُرَيْحٌ يَقْرَأُ {أَفَتُمَارُونَهُ} وَمَسْرُوقٌ يَقْرَأُ أَفَتَمْرُونَهُ، وَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ لَكِنْ بِضَمِّ التَّاءِ.
قَوْلُهُ: (مَا زَاغَ
الْبَصَرُ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ: مَا زَاغَ .. إِلَخْ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْقَائِلَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} بَصَرُ مُحَمَّدٍ يُقَلِّبُهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ الْمَلَكِ. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ مَشْهُورَةٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا طَغَى: وَمَا جَاوَزَ مَا رَأَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَا بَدَّلَ وَمَا هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا وَلَفْظُهُ وَمَا جَاوَزَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} مَا ذَهَبَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا {وَمَا طَغَى} مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَتَمَارَوْا: كَذَّبُوا) كَذَا لَهُمْ، وَلَمْ أَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَتَمَارَوْا وَإِنَّمَا فِيهَا {أَفَتُمَارُونَهُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهَا، وَفِي آخِرِهَا تَتَمَارَى، وَلَعَلَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ بَعْضِ النُّسَّاخِ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ:{فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا تَتَمَارَى تُكَذِّبُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ اخْتَصَرَ كَلَامَ الْفَرَّاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} قَالَ: فَبِأَيِّ نِعْمَةِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} كَذَّبُوا بِالنُّذُرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا هَوَى: غَابَ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْنَى وَأَقْنَى: أَعْطَى فَأَرْضَى) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْنَى قَنَعَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَخْدَمَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْنَى جَعَلَ لَهُ قِنْيَةً أَيْ أُصُولَ مَالٍ، قَالَ: وَقَالُوا: أَقْنَى أَرْضَى، يُشِيرُ إِلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ قِنْيَةٌ مِنَ الرِّضَا.
1 - باب
4855 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ .. وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَسْرُوقٍ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ زِيَادَةُ قِصَّةٍ فِي سِيَاقِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ، كَعْبًا بِعَرَفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ هَكَذَا فِي سِيَاقِ التِّرْمِذِيِّ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ نَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ، فَكَبَّرَ كَعْبٌ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ. قَالَ مَسْرُوقٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ كَعْبٍ مِثْلَهُ، قَالَ: - يَعْنِي الشَّعْبِيَّ - فَأَتَى مَسْرُوقٌ عَائِشَةَ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ سَبَبُ سُؤَالِ مَسْرُوقٍ، لِعَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَا أُمَّتَاهُ) أَصْلُهُ يَا أُمَّ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، فَأُضِيفَ إِلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِغَاثَةِ، فَأُبْدِلَتْ تَاءً، وَزِيدَتْ هَاءُ السَّكْتِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ: إِذَا نَادَوْا قَالُوا: يَا أُمَّهْ عِنْدَ السَّكْتِ، وَعِنْدَ الْوَصْلِ: يَا أُمَّتُ بِالْمُثَنَّاةِ، فَإِذَا فَتَحُوا لِلنُّدْبَةِ قَالُوا: يَا أُمَّتَاهُ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ قَوْلَ مَسْرُوقٍ يَا أُمَّتَاهُ لَيْسَ لِلنُّدْبَةِ إِذْ لَيْسَ هُوَ تَفَجُّعًا عَلَيْهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ؟ قَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي) أَيْ قَامَ مِنَ الْفَزَعِ، لِمَا حَصَلَ عِنْدَهَا مِنْ هَيْبَةِ اللَّهِ وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ، قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْقَفُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ كَالْقُشَعْرِيرَةِ، وَأَصْلُهُ التَّقَبُّضُ وَالِاجْتِمَاعُ، لِأَنَّ الْجِلْدَ يَنْقَبِضُ عِنْدَ الْفَزَعِ فَيَقُومُ الشَّعْرُ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ)؟ أَيْ كَيْفَ يَغِيبُ فَهْمُكَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ؟ وَكَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحْضِرَهَا وَمُعْتَقِدًا كَذِبَ مَنْ يَدَّعِي وُقُوعَهَا.
قَوْلُهُ: (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَرَأَتْ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: لَمْ تَنْفِ عَائِشَةُ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ الِاسْتِنْبَاطَ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ قَوْلًا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حُجَّةً اتِّفَاقًا، وَالْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ فِي الْآيَةِ الْإِحَاطَةُ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرُّؤْيَةَ. انْتَهَى. وَجَزْمُهُ بِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ تَبِعَ فِيهِ ابْنَ خُزَيْمَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ: النَّفْيُ لَا يُوجِبُ عِلْمًا، وَلَمْ تَحْكِ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلَتِ الْآيَةَ. انْتَهَى.
وَهُوَ عَجِيبٌ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ الَّذِي شَرَحَهُ الشَّيْخُ، فَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ مَسْرُوقٌ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مُنْهَبِطًا نَعَمْ، احْتِجَاجُ عَائِشَةَ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ خَالَفَهَا فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ؟ قَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ نَفْيُ الْإِحَاطَةِ بِهِ عِنْدَ رُؤْيَاهُ لَا نَفْيَ أَصْلِ رُؤْيَاهُ. وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُنَافِي الرُّؤْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَصْحَابِ مُوسَى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا} وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَجِيبٌ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِدْرَاكِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الْبَصَرُ، فَلَمَّا نُفِيَ كَانَ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ، بِخِلَافِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَلَوْلَا وُجُودُ الْأَخْبَارِ بِثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ مَا سَاغَ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَبْصَارُ فِي الْآيَةِ جَمْعٌ مُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَقَدْ ثَبَتَ دَلِيلُ ذَلِكَ سَمْعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْكُفَّارَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ: وَإِذَا جَازَتْ فِي الْآخِرَةِ جَازَتْ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَسَاوِي الْوَقْتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْئِيِّ انْتَهَى. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: رُؤْيَةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى جَائِزَةٌ
عَقْلًا، وَثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ بِوُقُوعِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا لَمْ يُرَ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ، وَالْبَاقِي لَا يُرَى بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رَأَوُا الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اسْتِحَالَةُ الرُّؤْيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا قَدَّرَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَمْتَنِعْ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَإِنْ جَازَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الدُّنْيَا عَقْلًا فَقَدِ امْتَنَعَتْ سَمْعًا، لَكِنْ مَنْ أَثْبَتَهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ فَذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى إِنْكَارِهَا، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ إِثْبَاتَهَا، وَكَانَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ إِذَا ذُكِرَ لَهُ إِنْكَارُ عَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَزَمَ بِهِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَالزُّهْرِيُّ وَصَاحِبُهُ مَعْمَرٌ وَآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَالِبِ أَتْبَاعِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ رَآهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ؟ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ.
قُلْتُ: جَاءَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَارٌ مُطْلَقَةٌ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ نَعَمْ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.
وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِهِ. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْفُؤَادِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ لَا مُجَرَّدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ عَلَى الدَّوَامِ. بَلْ مُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ فِي قَلْبِهِ، كَمَا يَخْلُقُ الرُّؤْيَةَ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا، وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ.
وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ. وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ نُورًا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْهُ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُرَادُ أَبِي ذَرٍّ بِذِكْرِهِ النُّورَ أَيِ النُّورُ حَالَ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ لَهُ بِبَصَرِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَوْلَ الْوَقْفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَزَاهُ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَوَّاهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَغَايَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلطَّائِفَتَيْنِ ظَوَاهِرُ مُتَعَارِضَةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ، قَالَ: وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَجَنَحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِلَى تَرْجِيحِ الْإِثْبَاتِ وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَحَمَلَ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِعَيْنِهِ وَمَرَّةً بِقَلْبِهِ، وَفِيمَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ ذَلِكَ مُقْنِعٌ. وَمِمَّنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَرَوَى الْخِلَال فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنِ الْمَرْوَزِيِّ، قُلْتُ لِأَحْمَدَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ قَوْلُهَا؟ قَالَ: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُ رَبِّي،
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهَا.
وَقَدْ أَنْكَرَ صَاحِبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ مَرَّةً: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، وَقَالَ مَرَّةً: بِفُؤَادِهِ. وَحَكَى عَنْهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْحَاكِي، فَإِنَّ نُصُوصَهُ مَوْجُودَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، فَإِنَّ الَّذِي يَرَاهُ النَّائِمُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً بِأَنْ تَصْعَدَ الرُّوحُ مَثَلًا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ أَنْ يَرَى النَّائِمُ ذَلِكَ وَرُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ أَصْلًا، فَيَحْتَمِلُ مَنْ قَالَ: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يَصْعَدْ جَسَدُهُ، أَرَادَ أَنَّ رُوحَهُ عُرِجَ بِهَا حَقِيقَةً فَصَعِدَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ وَجَسَدُهُ بَاقٍ فِي مَكَانِهِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ شُقَّ صَدْرُهُ وَالْتَأَمَ وَهُوَ حَيٌّ يَقْظَانُ لَا يَجِدُ بِذَلِكَ أَلَمًا. انْتَهَى. وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِسْرَاءِ تَأْبَى الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ وَعُرِجَ بِهِمَا حَقِيقَةً فِي الْيَقَظَةِ لَا مَنَامًا وَلَا اسْتِغْرَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْهَدْيِ أَيْضًا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ تَعَدَّدَ، وَاسْتَنَدَ إِلَى اسْتِبْعَادِ أَنْ يَتَكَرَّرَ قَوْلُهُ فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً وَطَلَبَ التَّخْفِيفَ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَإِنَّ دَعْوَى التَّعَدُّدِ تَسْتَلْزِمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِينَ وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ التَّخْفِيفُ، ثُمَّ وَقَعَ سُؤَالُ التَّخْفِيفِ وَالْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، وَأُعِيدَ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي إِلَى آخِرِهِ، انْتَهَى. وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا مِمَّنْ قَالَ بِالتَّعَدُّدِ يَلْتَزِمُ إِعَادَةَ مِثْلِ ذَلِكَ يَقَظَةً، بَلْ يَجُوزُ وُقُوعُ مِثْلِ ذَلِكَ مَنَامًا ثُمَّ وُجُودُهُ يَقَظَةً كَمَا فِي قِصَّةِ الْمَبْعَثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا. وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ إِنْشَاءِ الرُّؤْيَةِ وَلَا تُبْعِدُ الْعَادَةُ تَكْرِيرَ وُقُوعِهِ كَاسْتِفْتَاحِ السَّمَاءِ وَقَوْلِ كُلِّ نَبِيٍّ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، بَلِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفِي فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ فَقَعَدْتُ فِي أَحَدِهِمَا وَقَعَدَ جِبْرِيلُ فِي الْأُخْرَى فَسَمَتْ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمَسَّ السَّمَاءَ لَمَسِسْتُ، فَالْتَفَتُّ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ جَلَسَ لِأَجْلِي وَفَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، فَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، وَإِذَا دُونَهُ الْحِجَابُ وَفَوْقَهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ بَصْرِيًّا مَشْهُورًا.
قُلْتُ: وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} هُوَ دَلِيلٌ ثَانٍ اسْتَدَلَّتْ بِهِ عَائِشَةُ عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ سبحانه وتعالى حَصَرَ تَكْلِيمَهُ لِغَيْرِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَهِيَ الْوَحْيُ بِأَنْ يُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ مَا يَشَاءُ، أَوْ يُكَلِّمَهُ بِوَاسِطَةٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فَيُبَلِّغَهُ عَنْهُ، فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْتِفَاءَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ حَالَةَ التَّكَلُّمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَعَامَّةُ مَا يَقْتَضِي نَفْيَ تَكْلِيمِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَيَجُوزُ أَنَّ التَّكْلِيمَ لَمْ يَقَعْ حَالَةَ الرُّؤْيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} الْآيَةَ) يَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَكِنَّهُ وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ مَسْرُوقٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ. وَلَهُ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ: رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَبْصَرَ جِبْرِيلَ وَلَمْ يُبْصِرْ رَبَّهُ.
بَاب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ
4856 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ زِرًّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى حَيْثُ الْوَتَرُ مِنَ الْقَوْسِ) تَقَدَّمَ هَذَا التَّفْسِيرُ قَرِيبًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا. وَالْقَابُ مَا بَيْنَ الْقَبْضَةِ وَالسِّيَةِ مِنَ الْقَوْسِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوْسُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا. قَالَ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الذِّرَاعُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ بِهَا الشَّيْءُ.
قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَابُ الْقَدْرُ، وَالْقَوْسَيْنِ الذِّرَاعَانِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَوْسُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا لَمْ يُمَثَّلْ بِذَلِكَ لِيُحْتَاجَ إِلَى التَّثْنِيَةِ، فَكَانَ يُقَالُ مَثَلًا: قَابَ رُمْحٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْمُرَادُ: فَكَانَ قَابَيْ قَوْسٍ، لِأَنَّ الْقَابَ مَا بَيْنَ الْمِقْبَضِ إِلَى السِّيَةِ، فَلِكُلِّ قَوْسٍ قَابَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَالِفَتِهِ. وَقَوْلُهُ أَوْ أَدْنَى أَيْ أَقْرَبَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: خَاطَبَ اللَّهُ الْعَرَبَ بِمَا أَلِفُوا، وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا تَرَدُّدَ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، وَالتَّقْرِيرُ: بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فَتَدَلَّى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ، وَزِرٌّ هُوَ ابْنُ حُبَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا سَأَذْكُرُهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَ عَبْدَ اللَّهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، بَلْ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ فَقَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ، فَذَكَرَهُ. وَلَا إِشْكَالَ فِي سِيَاقِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .. فَذَكَرَهُ.
بَاب {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
4857 -
حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ مُحَمَّدٌ) الضَّمِيرُ لِلْعَبْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَى عَبْدِهِ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى جِبْرِيلَ، وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَذْهَبُ
فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا ذَهَبَتْ إِلَى ذَلِكَ عَائِشَةُ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى رَأْيِهِ: فَأَوْحَى: أَيْ جِبْرِيلُ، إِلَى عَبْدِهِ: أَيْ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى هُوَ جِبْرِيلُ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ. وَكَلَامُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَوْحَى هُوَ اللَّهُ، أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِلَى جِبْرِيلَ.
قَوْلُهُ: (لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ) زَادَ عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاثَرُ مِنْ رِيشِهِ التَهَاوِيلُ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ يَتَنَاثَرُ مِنْهَا تَهَاوِيلُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ.
بَاب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
4858 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ.
قَوْلُهُ: بَابُ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ مَا رَأَى صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صِفَةُ جِبْرِيلَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَى) أَيْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ) هَذَا ظَاهِرُهُ يُغَايِرُ التَّفْسِيرَ السَّابِقَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، وَلَكِنْ يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَبْصَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَيَجْتَمِعُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ جِبْرِيلُ وَالصِّفَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي سَدَّ الْأُفُقَ الرَّفْرَفُ الَّذِي فِيهِ جِبْرِيلُ، فَنَسَبَ جِبْرِيلَ إِلَى سَدِّ الْأُفُقِ مَجَازًا.
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِالرَّفْرَفِ وَأَنَّهُ حُلَّةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} وَأَصْلُ الرَّفْرَفِ مَا كَانَ مِنَ الدِّيبَاجِ رَقِيقًا حَسَنَ الصَّنْعَةِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي السِّتْرِ، وَكُلُّ مَا فَضَلَ مِنْ شَيْءٍ فَعُطِفَ وَثُنِّيَ فَهُوَ رَفْرَفٌ، وَيُقَالُ: رَفْرَفَ الطَّائِرُ بِجَنَاحَيْهِ؛ إِذَا بَسَطَهُمَا، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ بَسَطَ أَجْنِحَتَهُ فَصَارَتْ تُشْبِهُ الرَّفْرَفَ، كَذَا قَالَ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا تُوَضِّحُ الْمُرَادَ.
2 - بَاب {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى}
4859 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ {اللاتَ وَالْعُزَّى}: كَانَ اللَّاتُ رَجُلًا يَلُتُّ سَوِيقَ الْحَاجِّ.
4860 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّق"
[الحديث 4860 - أرافه في: 6107، 6301، 6650]
قَوْلُهُ: بَابُ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ هُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فِي قَوْلِهِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى كَانَ اللَّاتُ رَجُلًا يَلُتُّ سَوِيقَ الْحَاجِّ) سَقَطَ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ اللَّاتِّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلُهُ وَخُفِّفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَدْ رُوِيَ التَّشْدِيدُ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ التَّخْفِيفُ كَالْجُمْهُورِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ فِيهِ زِيَادَةٌ كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى الْحَجَرِ فَلَا يَشْرَبُ مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا سَمِنَ، فَعَبَدُوهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، فَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى صَخْرَةٍ بِالطَّائِفِ وَعَلَيْهَا لَهُ غَنَمٌ، فَكَانَ يَسْلُو مِنْ رَسَلِهَا وَيَأْخُذُ مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ وَالْأَقِطِ فَيَجْعَلُ مِنْهُ حَيْسًا وَيُطْعِمُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقْرَأُ: اللَّاتَّ مُشَدَّدَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ، قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ انْتَهَى. وَهُوَ بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ الْعُدْوَانِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَكَانَ حَكَمَ الْعَرَبَ فِي زَمَانِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
وَمِنَّا حَكَمٌ يَقْضِي
…
وَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ: أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، قَالَ: وَيُقَالُ هُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ حَارِثَةَ وَهُوَ وَالِدُ خُزَاعَةَ انْتَهَى.
وَحَرَّفَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ كَلَامَ السُّهَيْلِيِّ، وَظَنَّ أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ حَارِثَةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي اسْمِ اللَّاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَبِيعَةُ بْنُ حَارِثَةَ اسْمُ لُحَيٍّ فِيمَا قِيلَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّاتَ غَيْرُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّاتَ لَمَّا مَاتَ، قَالَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّهُ دَخَلَ الصَّخْرَةَ فَعَبَدُوهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا بَيْتًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْعَرَبَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَحَكَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ اسْمَهُ صِرْمَةُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَانَتِ اللَّاتُ بِالطَّائِفِ، وَقِيلَ: بِنَخْلَةَ، وَقِيلَ: بِعُكَاظٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ مَنَاةٌ أَقْدَمُ مِنَ اللَّاتِ فَهَدَمَهَا عَلِيٌّ عَامَ الْفَتْحِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتِ اللَّاتُ أَحْدَثُ مِنْ مَنَاةَ فَهَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، وَكَانَتِ الْعُزَّى أَحْدَثُ مِنَ اللَّاتِ، وَكَانَ الَّذِي اتَّخَذَهَا ظَالِمُ بْنُ سَعْدٍ بِوَادِي نَخْلَةَ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ، فَهَدَمَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ.
الْحَدِيثُ الْثَّانِي.: قَوْلُهُ: (فَقَالَ فِي حَلِفِهِ) أَيْ فِي يَمِينِهِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحَدِيثِ الْبَابِ، فَأَخْرَجُوا مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابِي: بِئْسَ مَا قُلْتَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .. الْحَدِيثَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْيَمِينُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَعْبُودِ الْمُعَظَّمِ، فَإِذَا حَلَفَ بِاللَّاتِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ ضَاهَى الْكُفَّارَ، فَأُمِرَ أَنْ يَتَدَارَكَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَنْ حَلَفَ بِهَا جَادًّا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَهَا جَاهِلًا أَوْ ذَاهِلًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ وَيَرُدُّ قَلْبَهُ عَنِ السَّهْوِ إِلَى الذِّكْرِ وَلِسَانَهُ إِلَى الْحَقِّ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا جَرَى بِهِ مِنَ اللَّغْوِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ، وَقِيلَ: بِصَدَقَةٍ مَا لِتُكَفِّرَ عَنْهُ الْقَوْلَ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. قَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ كَانَ ذَنْبًا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْخَاطِرِ الَّذِي لَا يَسْتَمِرُّ.
قُلْتُ: وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُخِذَ ذَلِكَ مَعَ التَّصْرِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِصُدُورِ الْقَوْلِ حَيْثُ نَطَقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَدَعَاهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْقِمَارُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، فَالدُّعَاءُ إِلَى فِعْلِهِ حَرَامٌ، فَلَيْسَ هُنَا عَزْمٌ مُجَرَّدٌ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ. وَوَقَعَ الْإِلْمَامُ بِمَسْأَلَةِ الْعَزْمِ فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ.
3 - بَاب {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
4861 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، سَمِعْتُ عُرْوَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: فَقَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ.
قَالَ سُفْيَانُ: مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَّانُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ .. مِثْلَهُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ، وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ .. نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَنَاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مَنَاءَةَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَا قَالَ، وَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، وَجَوَابُ عَائِشَةَ لَهُ، وَفِيهِ قَوْلُهَا إِلَى آخِرِهِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ) أَيْ لِأَجْلِ مَنَاةَ، فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِمَنَاةَ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ اللَّامِ، أَيْ أَهَلَّ عِنْدَهَا أَوْ أَهَلَّ بِاسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: مَنَاةَ بِالْمُشَلَّلِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ الثَّقِيلَةِ ثُمَّ لَامٍ ثَانِيَةٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ قُدَيْدٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُهْبَطُ مِنْهُ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (مِنْ قُدَيْدٍ) بِالْقَافِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، هُوَ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ) أَيِ ابْنِ مُسَافِرٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِطُولِهِ.
قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَّانُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ. مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: نَصَبَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ مَنَاةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِمَّا يَلِي قُدَيْدٍ يَحُجُّونَهَا وَيُعَظِّمُونَهَا إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَأَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَفَرَغُوا مِنْ مِنًى أَتَوْا مَنَاةَ فَأَهَلُّوا لَهَا، فَمَنْ أَهَلَّ لَهَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ .. إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مُطَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَكَانِهِ، وَهُوَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ نَحْوَهُ) بَقِيَّتُهُ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِهِمَا .. الْحَدِيثَ،
وَفِيهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي آخِرِهِ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: مَنْ طَافَ وَمَنْ لَمْ يَطُفْ.
4 - بَاب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
4862 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
تَابَعَهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُلَيَّةَ ابْنَ عَبَّاسٍ.
4863 -
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ، يعني الزبيري، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ، قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَاسْجُدُوا وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ: (سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، تَابَعَهُ ابْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُلَيَّةَ ابْنَ عَبَّاسٍ) أَمَّا مُتَابَعَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّهُ قَالَ حِينَ نَزَلَتِ السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النَّجْمُ سَجَدَ لَهَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنُ عُلَيَّةَ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَيُّوبَ فَأَرْسَلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِحٍ لِاتِّفَاقِ ثِقَتَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ عَلَى وَصْلِهِ وَهُمَا عَبْدُ الْوَارِثِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ) إِنَّمَا أَعَادَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مَعَ دُخُولِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْإِنْسِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: سَجَدَ الْمُشْرِكُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سَجْدَةٍ نَزَلَتْ فَأَرَادُوا مُعَارَضَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّجُودِ لِمَعْبُودِهِمْ، أَوْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِلَا قَصْدٍ، أَوْ خَافُوا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ. قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ فِيهَا نَظَرٌ، وَالْأَوَّلُ مِنْهَا لِعِيَاضٍ، وَالثَّانِي يُخَالِفُهُ سِيَاقُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ زَادَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنْهُمْ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى فَوَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْقَصْدِ، وَالثَّالِثُ أَبْعَدُ إِذِ الْمُسْلِمُونَ حِينَئِذٍ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا الْعَكْسُ، قَالَ: وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا صِحَّةَ لَهُ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا، انْتَهَى. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ عَرَفَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ: وَالنَّجْمِ، قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي تَفْسِيرِ الْحَجِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانَ ذَلِكَ وَالسَّبَبَ فِيهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ اسْتَعْانَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ النَّجْمَ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَوَّلُ سُورَةٍ قَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ: النَّجْمُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا رَجُلًا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى وَهَذَا ظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ سُجُودِهِمْ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ: وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَنْ عِنْدَهُ، وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَسْلَمَ قَالَ الْمُطَّلِبُ: فَلَا أَدَعُ السُّجُودَ فِيهَا أَبَدًا فَيُحْمَلُ تَعْمِيمُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (كَفًّا مِنْ تُرَابٍ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَسَجَدَ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَقَدْ وَافَقَ إِسْرَائِيلُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ زَكَرِيَّا بْنَ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ: وَقِيلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِلَاهُمَا جَمِيعًا، وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ الْوَلِيدُ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَلَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ كَافِرًا مِنَ الَّذِينَ سُمُّوا عِنْدَهُ غَيْرَهُ. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ أَبُو لَهَبٍ، وَفِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ بَزِيزَةَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ وَلَمْ يَكُنِ النِّفَاقُ ظَهَرَ بَعْدُ، وَقَدْ جَزَمَ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَتِ الْمُهَاجَرَةُ الْأَوْلَى إِلَى الْحَبَشَةِ خَرَجَتْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ رَجَعُوا فَوَجَدُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ فَهَاجَرُوا الثَّانِيَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَرْبَعَةُ لَمْ يَسْجُدُوا، وَالتَّعْمِيمُ فِي كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ كَمَا قُلْتُهُ فِي الْمَطْلَبِ، لَكِنْ لَا يُفَسَّرُ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَّا بِأُمَيَّةَ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
54 - سُورَةُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَمِرٌّ: ذَاهِبٌ. مُزْدَجَرٌ: مُتَنَاهٍ. وَازْدُجِرَ: فَاسْتُطِيرَ جُنُونًا. دُسُرٍ: أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ. {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يَقُولُ: كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ. مُحْتَضَرٌ: يَحْضُرُونَ الْمَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مُهْطِعِينَ: النَّسَلَانُ. الْخَبَبُ: السِّرَاعُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَتَعَاطَى: فَعَاطَى بِيَدِهِ فَعَقَرَهَا. الْمُحْتَظِرِ: كَحِظَارٍ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ. وَازْدُجِرَ: افْتُعِلَ مَنْ زَجَرْتُ. كُفِرَ: فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءً لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ. مُسْتَقَرٌّ: عَذَابٌ حَقٌّ. يُقَالُ: الْأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ.
(سُورَةُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} حَسْبُ، وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ الْقَمَرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُسْتَمِرٌّ: ذَاهِبٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قَالَ: رَأَوْهُ مُنْشَقًّا فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ ذَاهِبٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ، وَفِي آخِرِهِ تَلَا الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قَالَ: يَقُولُ: ذَاهِبٌ، وَمَعْنَى ذَاهِبٌ أَيْ سَيَذْهَبُ وَيَبْطُلُ، وَقِيلَ: سَائِرٌ.
قَوْلُهُ: (مُزْدَجَرٌ: مُتَنَاهٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ. وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: أُحِلَّ فِيهِ الْحَلَالُ وَحُرِّمَ فِيهِ
الْحَرَامُ، وَقَوْلُهُ مُتَنَاهٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ غَايَةٌ فِي الزَّجْرِ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَازْدُجِرَ: اسْتُطِيرَ جُنُونًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِهِمْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِمْ مَجْنُونٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِمْ أَنَّهُمْ زَجَرُوهُ.
قَوْلُهُ: (دُسُرٍ: أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي الْغَرِيبِ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَلْوَاحُ: أَلْوَاحُ السَّفِينَةِ، وَالدُّسُرُ: مَعَارِيضُهَا الَّتِي تُشَدُّ بِهَا السَّفِينَةُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَدُسُرٍ، قَالَ: الْمَسَامِيرُ. وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْأَلْوَاحُ: مَقَاذِيفُ السَّفِينَةِ، وَالدُّسُرُ: دُسِرَتْ بِمَسَامِيرَ.
قَوْلُهُ: {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يَقُولُ كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ اللَّهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ: لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَرَأَهَا كَفَرَ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: {مُحْتَضَرٌ} يَحْضُرُونَ الْمَاءَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: يَحْضُرُونَ الْمَاءَ إِذَا غَابَتِ النَّاقَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مُهْطِعِينَ: النَّسَلَانُ الْخَبَبُ السِّرَاعُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} قَالَ: هُوَ النَّسَلَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ النَّسَلَانِ فِي تَفْسِيرِ الصَّافَّاتِ. وَقَوْلُهُ الْخَبَبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا أُخْرَى تَفْسِيرُ النَّسَلَانِ، وَالسِّرَاعُ تَأْكِيدٌ لَهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {مُهْطِعِينَ} قَالَ: نَاظِرِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُهْطِعُ: الْمُسْرِعُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَتَعَاطَى} فَعَاطَى بِيَدِهِ فَعَقَرَهَا) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَعَاطَهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا أَعْلَمُ لِقَوْلِهِ فَعَاطَهَا وَجْهًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَقْلُوبِ لِأَنَّ الْعَطْوَ التَّنَاوُلُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} : تَنَاوَلَ فَعَقَرَ.
قَوْلُهُ: {الْمُحْتَظِرِ} كَحِظَارٍ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: التُّرَابُ يَسْقُطُ مِنَ الْحَائِطِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ، قَالَ: كَرَمَادٍ مُحْتَرِقٍ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَجْعَلُ حِظَارًا عَلَى الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي مِنْ يَبَسِ الشَّوْكِ. فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ التُّرَابُ الْمُتَنَاثِرُ مِنَ الْحَائِطِ.
(تَنْبِيهٌ): حِظَارٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا وَالظَّاءُ الْمُشَالَةُ خَفِيفَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَازْدُجِرَ: افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَزَادَ بَعْدَهُ: صَارَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالًا.
قَوْلُهُ: (كُفِرَ: فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءً لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: يَقُولُ: أَغْرِقُوا لِنُوحٍ، أَيْ لِأَجْلِ نُوحٍ، وَكُفِرَ أَيْ أُجْحِدَ. وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ كَانَ جَزَاءً لِنُوحٍ، وَهُوَ الَّذِي كُفِرَ أَيْ جُحِدَ، وَكُذِّبَ فَجُوزِيَ بِذَلِكَ لِصَبْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَرَأَ حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِفَتْحَتَيْنِ، فَاللَّامُ فِي لِمَنْ عَلَى هَذَا لِقَوْمِ نُوحٍ.
قَوْلُهُ: {مُسْتَقِرٌّ} عَذَابُ حَقٌّ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِمَعْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} اسْتَقَرَّ بِهِمْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الْأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ) قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} قَالَ: الْأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ. وَرُبَّمَا كَانَ مِنَ النَّشَاطِ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الشَّرِّ، وَفِي الشَّوَاذِّ قِرَاءَةٌ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ غَدًا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
1 - بَاب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا}
4864 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا.
4865 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا اشْهَدُوا.
4866 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
4867 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ.
4868 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عن شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ فِرْقَتَيْنِ.
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَكْرٌ فِيهِ هُوَ ابْنُ مُضَرَ، وَجَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
4869 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
بَاب {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ.
4870 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّه كَانَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
بَاب {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
4871 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا سَأَلَ الْأَسْوَدَ:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَوْ مُذَّكِرٍ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} دَالًا.
4872 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} الْآيَةَ.
4 - بَاب {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}
4873 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَرَأَ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . مستوى 4 بَاب وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4874 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} . زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ قَوْلَ قَتَادَةَ الْمَذْكُورِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: عَلَى الْجُودِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ فِي أَرْضِ الْجَزِيرَةِ عِبْرَةً وَآيَةً حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَظَرًا، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ بَعْدَهَا فَصَارَتْ رَمَادًا.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَسْوَدِ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَيْ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَسَبَبُ ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَرَأَهَا بِالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ خَمْسَ تَرَاجِمَ فِي كُلِّ تَرْجَمَةٍ آيَةٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَدَارُ الْجَمِيعِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَاقَ فِي الْجَمِيعِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَ مُدَّكِرٍ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} بِحَسَبِ تَكَرُّرِ الْقَصَصِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ اسْتِدْعَاءً لِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ لِيَعْتَبِرُوا، وَقَالَ فِي الْأُولَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا سَأَلَ الْأَسْوَدَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَوْ مُذَّكِرٍ؟ أَيْ بِمُعْجَمَةٍ أَوْ مُهْمَلَةٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ دَالًا أَيْ مُهْمَلَةً. وَلَفْظُ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ كَالْأَوَّلِ، وَلَفْظُ الْخَامِسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فهل مِنْ مُذَّكِرٍ - أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ - فَقَالَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ بِالْمُهْمَلَةِ.
وَأَثَرُ مُجَاهِدٍ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ مُدَّكِرٍ أَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ بِمُثَنَّاةٍ بَعْدَ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا مُهْمَلَةً ثُمَّ أُهْمِلَتِ الْمُعْجَمَةُ لِمُقَارَبَتِهَا ثُمَّ أُدْغِمَتْ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الرَّابِعِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدُرٌ كَذَا وَقَعَ مُحَمَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ وَهُوَ ابْنُ الْمُثَنَّى أَوِ ابْنُ بَشَّارٍ أَوِ ابْنُ الْوَلِيدِ الْبُسْرِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، وَقَوْلُهُ
فِي الْخَامِسَةِ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ مُوسَى.
5 - بَاب قَوْلُهُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
4875 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الْآيَةَ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَغَازِي.
وَقَوْلُهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَوْشَبٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
وَقَوْلُهُ ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ الذُّهْلِيُّ وَسَقَطَ لِابْنِ السَّكَنِ فَصَارَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ.
(تَنْبِيهٌ): هَذَا مِنْ مُرْسَلَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْقِصَّةَ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جَعَلْتُ أَقُولُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الْآيَةَ، فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَمَلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَكَأَنَّ عِكْرِمَةَ حَمَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بِبَعْضِهِ.
6 - بَاب قَوْلِهِ {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يَعْنِي مِنْ الْمَرَارَةِ.
4876 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ:{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
[الحديث 4876 - طرفه في: 4993]
4877 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: "أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا" فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
قَوْلُهُ: باب قوله: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يَعْنِي مِنَ الْمَرَارَةِ. هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَعْنَاهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَمَرُّ مِنَ الْمَرَارَةِ.
قَوْلُهُ: (يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا في
سُورَةِ الْأَحْقَافِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَقَدْ نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) كَذَا ذَكَرَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ قِصَّةٌ حَذَفَهَا، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثم ذكر فيه حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِسْحَاقُ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَخَالِدٌ الْأَوَّلُ هُوَ الطَّحَّانُ، وَالَّذِي فَوْقَهُ هُوَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ.
55 - سُورَةُ الرَّحْمَنِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِحُسْبَانٍ: كَحُسْبَانِ الرَّحَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ: يُرِيدُ لِسَانَ الْمِيزَانِ. {الْعَصْفِ} بَقْلُ الزَّرْعِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَذَلِكَ الْعَصْفُ، وَالرَّيْحَانُ: رِزْقُهُ. وَالْحَبُّ: الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ. وَالرَّيْحَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الرِّزْقُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: والْعَصْفِ: يُرِيدُ الْمَأْكُولُ مِنَ الْحَبِّ، وَالرَّيْحَانِ: النَّضِيجِ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: الْعَصْفُ: التِّبْنُ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: الْعَصْفُ: أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ تُسَمِّيهِ النَّبَطُ هَبُورًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ، وَالْمَارِجُ: اللَّهَبُ الْأَصْفَرُ وَالْأَخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} لِلشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ مَشْرِقٌ، وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ. {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. لَا يَبْغِيَانِ: لَا يَخْتَلِطَانِ. الْمُنْشَآتُ: مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قِلْعُهُ فَلَيْسَ بِمُنْشَآتٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَالْفَخَّارِ: كَمَا يُصْنَعُ الْفَخَّارُ. الشُّوَاظُ: لَهَبٌ مِنْ نَارٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَنحَاسٍ: النُّحَاسُ الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ يُعَذَّبُونَ بِهِ. {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل فَيَتْرُكُهَا. {مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ. صَلْصَالٍ: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ، وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ، يُقَالُ: صَلْصَالٌ كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ، وَصَرْصَرَ مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ: يَعْنِي كَبَبْتُهُ.
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالْفَاكِهَةِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهَا تَعُدُّهُمَا فَاكِهَةً، كَقَوْلِهِ عز وجل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَعَادَ الْعَصْرَ تَشْدِيدًا لَهَا كَمَا أُعِيدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ، وَمِثْلُهَا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} وَقَالَ غَيْرُهُ: أَفْنَانٍ: أَغْصَانٍ. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ: نِعَمِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يَغْفِرُ ذَنْبًا، وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَرْزَخٌ: حَاجِزٌ. الْأَنَامُ: الْخَلْقُ. نَضَّاخَتَانِ: فَيَّاضَتَانِ. ذُو الْجَلَالِ: ذُو الْعَظَمَةِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: مَارِجٌ: خَالِصٌ مِنَ النَّارِ، ويُقَالُ: مَرَجَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ، إِذَا خَلَّاهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ. مَرِيجٍ: مُلْتَبِسٍ. مَرَجَ: اخْتَلَطَ الْبَحْرَانِ مِنْ مَرَجْتَ دَابَّتَكَ: تَرَكْتَهَا. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سَنُحَاسِبُكُمْ، لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: لَأَتَفْرَّغَنَّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ، يَقُولُ: لَآخُذَنَّكَ عَلَى غِرَّتِكَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الرَّحْمَنِ) كَذَا لَهُمْ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ الْبَسْمَلَةَ، وَالْأَكْثَرُ عَدُّوا {الرَّحْمَنُ} آيَةً، وَقَالُوا: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَقِيلَ: تَمَامُ الْآيَةِ {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ، وَهُوَ الْخَبَرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بِحُسْبَانٍ} كَحُسْبَانِ الرَّحَى) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِأَبْسَطَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} يُرِيدُ لِسَانَ الْمِيزَانِ) سَقَطَ وَقَالَ غَيْرُهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمُغِيرَةِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَزِنُ قَدْ أَرْجَحَ، فَقَالَ: أَقِمِ اللِّسَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قَالَ: اللِّسَانَ.
قَوْلُهُ: {الْعَصْفِ} بَقْلُ الزَّرْعِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَذَلِكَ الْعَصْفُ، {وَالرَّيْحَانُ} رِزْقُهُ، وَالْحَبُّ: الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ، وَالرَّيْحَانُ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرِّزْقُ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا لَكِنْ مُلَخَّصًا، وَلَفْظُهُ: الْعَصْفُ فِيمَا ذَكَرُوا: بَقْلُ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَعْصِفُ الزَّرْعَ إِذَا قَطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: وَالرَّيْحَانُ رِزْقُهُ وَهُوَ الْحَبُّ .. إِلَخْ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ: وَيَقُولُونَ: خَرَجْنَا نَطْلُبُ رَيْحَانَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ الَّذِي قَطَعُوا رُءُوسَهُ فَهُوَ يُسَمَّى الْعَصْفُ إِذَا يَبِسَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصْفُ أَوَّلُ مَا يُخْرِجُ الزَّرْعُ بَقْلًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَصْفُ يُرِيدُ الْمَأْكُولَ مِنَ الْحَبِّ، وَالرَّيْحَانُ: النَّضِيجُ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ) هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْعَصْفُ: الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّيْحَانُ: حِينَ يَسْتَوِي الزَّرْعُ عَلَى سُوقِهِ وَلَمْ يُسَنْبِلْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ مُفَرِّقًا، قَالَ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ، وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَصْفُ التِّبْنُ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: الْعَصْفُ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ، تُسَمِّيهِ النَّبَطُ هَبُورًا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ بِهَذَا، وَأَبُو مَالِكٍ هُوَ الْغِفَارِيُّ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْمُهُ غَزْوَانُ بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَالنَّبَطُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ هُمْ أَهْلُ الْفِلَاحَةِ مِنَ الْأَعَاجِمِ؛ وَكَانَتْ أَمَاكِنُهُمْ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ وَالْبَطَائِحِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى أَهْلِ الْفِلَاحَةِ، وَلَهُمْ فِيهَا مَعَارِفُ اخْتُصُّوا بِهَا، وَقَدْ جَمَعَ أَحْمَدُ بْنُ وَحْشِيَّةَ فِي كِتَابِ الْفِلَاحَةِ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ عَجِيبَةً. وَقَوْلُهُ هَبُورًا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا رَاءٌ هُوَ دُقَاقُ الزَّرْعِ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قَالَ: هُوَ الْهَبُورُ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالرَّيْحَانُ بِالضَّمِّ عَطْفًا عَلَى الْحَبِّ، وَقَرَأَ
حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْحَبُّ ذَا الْعَصْفِ بَعْدَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَلِفٌ، قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، بَلِ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ نَصْبُ الثَّلَاثَةِ: الْحَبَّ وَذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ، فَقِيلَ: عَطْفٌ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ مَعْنَى وَضَعَهَا: جَعَلَهَا، فَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ الْحَبَّ .. إِلَخْ أَوْ نَصَبَهُ بِخَلَقَ مُضْمَرَةً، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَنَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا وَقَعَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْجَارَ ذَا الْقُرْبَى وَالْجَارَ الْجُنُبِ قَالَ: وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَيْضًا أَحَدٌ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ نَفَى الْمَشْهُورَ، وَإِلَّا فَقَدْ قُرِئَ بِهَا أَيْضًا فِي الشَّوَاذِّ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَارِجُ: اللَّهَبُ الْأَصْفَرُ وَالْأَخْصَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ظَبْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِلشَّمْسِ مَطْلَعٌ فِي الشِّتَاءِ وَمَغْرِبٌ، وَمَطْلَعٌ فِي الصَّيْفِ وَمَغْرِبٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ قَوْلُهُ: وَرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ: لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَشْرِقَيْنِ: مَشْرِقُ الْفَجْرِ وَمَشْرِقُ الشَّفَقِ، وَالْمَغْرِبَيْنِ: مَغْرِبُ الشَّمْسِ وَمَغْرِبُ الشَّفَقِ.
قَوْلُهُ: {لا يَبْغِيَانِ} لَا يَخْتَلِطَانِ. وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَهُمَا مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا يَبْغِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ عَلَى هَذَا: يَلْتَقِيَانِ، أَيْ أَنْ يَلْتَقِيَا، وَحَذْفُ أَنْ سَائِغٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرُ فَارِسَ وَبَحْرُ الرُّومِ؛ لِأَنَّ مَسَافَةَ مَا بَيْنَهُمَا مُمْتَدَّةٌ، وَالْحُلْوُ - وَهُوَ بَحْرُ النِّيلِ أَوِ الْفُرَاتِ مَثَلًا - يَصُبُّ فِي الْمِلْحُ، فَكَيْفَ يَسُوغُ نَفْيُ اخْتِلَاطِهِمَا أَوْ يُقَالُ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ؟ لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يَرُدُّ عَلَى هَذَا، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، فَإِنَّ اللُّؤْلُؤَ يَخْرُجُ مِنْ بَحْرِ فَارِسَ وَالْمَرْجَانُ يَخْرُجُ مِنْ بَحْرِ الرُّومِ، وَأَمَّا النِّيلُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَأَجَابَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدٌ، وَالْبَحْرَانِ هُنَا الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} وَحَذْفُ الْمُضَافِ سَائِغٌ، وَقِيلَ: بَلْ قَوْلُهُ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ مِنَ الْمِلْحِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَذْبُ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْغَوَّاصِينَ، فَكَأَنَّهُمَا لَمَّا الْتَقَيَا وَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ قِيلَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمَرْجَانِ فَقِيلَ: هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ الْآنَ، وَقِيلَ: اللُّؤْلُؤُ كِبَارُ الْجَوْهَرِ وَالْمَرْجَانُ صِغَارُهُ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بَحْرُ فَارِسَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللُّؤْلُؤُ، وَالصَّدَفُ يَأْوِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ الْعَذْبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {الْمُنْشَآتُ} مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قِلْعُهُ فَلَيْسَ بِمُنْشَآتٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِهِ، لَكِنْ قَالَ: مُنْشَأَةٌ بِالْإِفْرَادِ، وَالْقِلْعُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَمُنْشَآتٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِكَسْرِهَا أَيِ الْمُنْشَأَةُ هِيَ لِلسَّيْرِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهَا مَجَازِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {كَالْفَخَّارِ} كَمَا يُصْنَعُ الْفَخَّارُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (الشُّوَاظُ لَهَبٌ مِنْ نَارٍ) تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَكَذَا تَفْسِيرُ النُّحَاسِ.
قَوْلُهُ: {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل فَيَتْرُكُهَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: إِذَا هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ يَذْكُرُ مَقَامَ اللَّهِ
عَلَيْهِ فَيَتْرُكَهَا.
قَوْلُهُ: (مُدْهَامَّتَانِ: سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (صَلْصَالٍ: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ .. إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا.
قَوْلُهُ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالْفَاكِهَةِ، وَأَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهَا تَعُدُّهُمَا فَاكِهَةً كَقَوْلِهِ عز وجل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} إِلَخْ) قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ: الْبَعْضُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ.
قُلْتُ: بَلْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ كَلَامِ الْفَرَّاءِ مُلَخَّصًا وَلَفْظُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ الرُّمَّانُ وَلَا النَّخْلُ مِنَ الْفَاكِهَةِ، قَالَ: وَقَدْ ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذْهَبًا.
قُلْتُ: فَنَسَبَهُ الْفَرَّاءُ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَشَارَ إِلَى تَوْجِيهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ ذَلِكَ فَاكِهَةً، وَإِنَّمَا ذُكِرَا بَعْدَ الْفَاكِهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ} إِلَخْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي الْمِثَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا فَاكِهَةٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا سِيقَتْ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ فَتَعُمُّ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَامِّ هُنَا مَا كَانَ شَامِلًا لِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ. وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْبُخَارِيِّ فَنَسَبَ الْبُخَارِيَّ لِلْوَهْمِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ كَلَامَ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ وَقَعَ لِصَاحِبِ الْكَشَّافِ نَحْوَ مَا وَقَعَ لِلْفَرَّاءِ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَنِّ الْبَلَاغِيِّ، فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَطَفَ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ عَلَى الْفَاكِهَةِ وَهُمَا مِنْهَا؟ قُلْتُ: اخْتِصَاصًا وَبَيَانًا لِفَضْلِهِمَا كَأَنَّهُمَا - لَمَّا كَانَ لَهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ - جِنْسَانِ آخَرَانِ كَقَوْلِهِ: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: أَفْنَانٍ أَغْصَانٍ، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ: نِعَمِهِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَهْلٍ السَّرَّاجِ، عَنِ الْحَسَنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الصَّحِيحِ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا، وَلِلْمَرْفُوعِ شَاهِدٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَآخَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ، أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَرْزَخٌ حَاجِزٌ، الْأَنَامُ الْخَلْقُ، نَضَّاخَتَانِ فَيَّاضَتَانِ) تَقَدَّمَ كُلُّهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (ذُو الْجَلَالِ: الْعَظَمَةِ) هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ذُو الْجَلَالِ الْأُولَى بِالْوَاوِ صِفَةً لِلْوَجْهِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِي الْجَلَالِ بِالْيَاءِ صِفَةً لِلرَّبِّ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الثَّانِيَةَ كَذَلِكَ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ فَقَرَأَهَا أَيْضًا بِالْوَاوِ وَهِيَ فِي مُصْحَفِ الشَّامِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {مَارِجٍ} خَالِصٍ مِنَ النَّارِ، يُقَالُ: مَرَجَ الْأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ؛ إِذَا خَلَّاهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. إِلَخْ) سَقَطَ قَوْلُهُ مَرِيجٍ: مُخْتَلِطٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَوْلُهُ مَرَجَ اخْتَلَطَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} اخْتَلَطَ الْبَحْرَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سَنُحَاسِبُكُمْ، لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَلَيْسَ بِاللَّهِ شُغْلٌ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: لَأَتَفَرَّغَنَ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَآخُذَنَّكَ عَلَى غِرَّةٍ.
1 - بَاب {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}
4878 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.
[الحديث 4878 - طرفاه في: 4880، 7444]
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} . سَقَطَ بَابُ قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: الْمُرَادُ بِالدُّونِ هُنَا الْقُرْبُ، أَيْ وَقُرْبُهُمَا جَنَّتَانِ أَيْ: هُمَا أَدْنَى إِلَى الْعَرْشِ وَأَقْرَبُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى دُونِهِمَا بِقُرْبِهِمَا، وَلَيْسَ فِيهِ تَفْضِيلٌ. وَذَهَبَ الْحَلِيمِيُّ إِلَى أَنَّ الْأُولَيَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ اللَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ وَمِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ وَمِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ (الْعَمِّيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا نُونٌ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: جِنَانُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ .. إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ .. إِلَخْ) يَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْقَوْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَائِنِينَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.
2 - بَاب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُورُ سُّودُ الْحَدَقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْصُورَاتٌ مَحْبُوسَاتٌ، قُصِرَ طَرْفُهُنَّ وَأَنْفُسُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، قَاصِرَاتٌ لَا يَبْغِينَ غَيْرَ أَزْوَاجِهِنَّ.
4879 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُونَ.
4880 -
وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ كَذَا آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ.
قَوْلُهُ (بَابُ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أَيْ مَحْبُوسَاتٌ، وَمِنْ ثَمَّ سَمُّوا الْبَيْتَ الْكَبِيرَ قَصْرًا لِأَنَّهُ يُحْبَسُ مَنْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُورٌ سُودُ الْحِدَقِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَوَرُ سَوَادُ الْحَدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْصُورَاتٌ: مَحْبُوسَاتٌ، قُصِرن طَرْفُهُنَّ وَأَنْفُسُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، قَاصِرَاتٌ: لَا يَبْغِينَ غَيْرَ أَزْوَاجِهِنَّ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ) أَيِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ {فِي الْخِيَامِ} ، وَالْخِيَامُ جَمْعُ خَيْمَةٍ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ صِفَتُهَا.
قَوْلُهُ: (مُجَوَّفَةٌ) أَيْ وَاسِعَةُ الْجَوْفِ.
قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَهْلٌ
لِلْمُؤْمِنِ.
قَوْلُهُ: (سِتُّونَ مِيلًا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَيْمَةُ مِيلٌ فِي مِيلٍ، وَالْمِيلُ ثُلُثُ الْفَرْسَخِ.
قَوْلُهُ: (يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: صَوَابُهُ الْمُؤْمِنُ بِالْإِفْرَادِ وَأُجِيبَ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ.
قَوْلُهُ: (وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا لِلْمُؤْمِنِ، أَوْ هُوَ مِنْ صَنِيعِ الرَّاوِي. وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَنَّتَانِ .. إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
56 - سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رُجَّتْ: زُلْزِلَتْ. بُسَّتْ: فَتَّتْ وَلُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ. الْمَخْضُودِ: لَا شَوْكَ لَهُ. مَنْضُودٍ: الْمَوْزُ. وَالْعُرُبُ: الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ. ثُلَّةٌ: أُمَّةٌ. يَحْمُومٍ: دُخَانٌ أَسْوَدُ. يُصِرُّونَ: يُدِيمُونَ. الْهِيمُ: الْإِبِلُ الظِّمَاءُ. لَمُغْرَمُونَ: لَمُلْزَمُونَ. مَدِينِينَ: مُحَاسَبِينَ. رَوْحٌ: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ. وَرَيْحَانٌ: الرِّزْقُ. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَفَكَّهُونَ: تَعْجَبُونَ. عُرُبًا: مُثْقَلَةً، وَاحِدُهَا عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةَ الْعَرِبَةَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الْغَنِجَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ الشَّكِلَةَ، وَقَالَ فِي خَافِضَةٌ: لِقَوْمٍ إِلَى النَّارِ، وَرَافِعَةٌ: إِلَى الْجَنَّةِ. مَوْضُونَةٍ: مَنْسُوجَةٍ، وَمِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ. وَالْكُوبُ: لَا آذَانَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ، وَالْأَبَارِيقُ: ذَوَاتُ الْآذَانِ وَالْعُرَى. مَسْكُوبٌ: جَارٍ. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. مُتْرَفِينَ: مُتمَتِّعِينَ. {مَا تُمْنُونَ} هِيَ النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. لِلْمُقْوِينَ: لِلْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيُّ: الْقَفْرُ. {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ، وَيُقَالُ: بِمَسْقَطِ النُّجُومِ إِذَا سَقَطْنَ، وَمَوَاقِعُ وَمَوْقِعُ وَاحِدٌ. مُدْهِنُونَ: مُكَذِّبُونَ، مِثْلُ:{لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} {فَسَلامٌ لَكَ} أَيْ: مُسَلَّمٌ لَكَ. إِنَّكَ {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ، وَأُلْغِيَتْ (إِنَّ وَهُوَ مَعْنَاهَا، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ مُصَدِّقٌ وَمُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، إِذَا كَانَ قَدْ قَالَ إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَقَدْ يَكُونُ كَالدُّعَاءِ لَهُ، كَقَوْلِكَ: فَسَقْيًا مِنَ الرِّجَالِ إِنْ رَفَعْتَ السَّلَامَ، فَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ أَوْقَدْتُ. لَغْوًا: بَاطِلًا. تَأْثِيمًا: كَذِبًا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْوَاقِعَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْوَاقِعَةِ الْقِيَامَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رُجَّتْ: زُلْزِلَتْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ: (بُسَّتْ: فُتَّتْ وَلُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ، وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ بُسَّتْ كَالسَّوِيقِ الْمَبْسُوسِ بِالْمَاءِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لُتَّتْ لَتًّا، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُتَّتْ فَتًّا.
قَوْلُهُ: (الْمَخْضُودُ: لَا شَوْكَ لَهُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: الْمَخْضُودُ: الْمُوقَرُ حَمْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا .. إِلَخْ. تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (مَنْضُودٍ: الْمَوْزُ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَالْعُرُبُ: الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ) تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{عُرُبًا أَتْرَابًا} قَالَ: هِيَ الْمُحَبَّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا.
قَوْلُهُ: (ثُلَّةٌ: أُمَّةٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الثُّلَّةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالثُّلَّةُ: الْبَقِيَّةُ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي قَوْلِهِ: (ثُلَّةٌ) قَالَ: كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: (يَحْمُومٍ: دُخَانٌ أَسْوَدُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ: مِنْ شِدَّةِ سَوَادِهِ، يُقَالُ: أَسْوَدُ يَحْمُومٌ فَهُوَ وَزْنُ يَفْعُولٍ مِنَ الْحَمَمِ.
قَوْلُهُ: (يُصِرُّونَ يُدِيمُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا لَكِنْ لَفْظُهُ يُدْمِنُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا مِيمٌ ثُمَّ نُونٌ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: يُقِيمُونَ.
قَوْلُهُ: (الْهِيمُ: الْإِبِلُ الظِّمَاءُ) سَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ.
قَوْلُهُ: (لَمُغْرَمُونَ لَمُلْزَمُونَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: مُلْقُونَ لِلشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ: (رَوْحٌ: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ) سَقَطَ هنا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَرَيْحَانٌ: الرِّزْقُ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَنِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: تَفَكَّهُونَ: تَعْجَبُونَ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أَيْ: تَتَعَجَّبُونَ. مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ فِي زَرْعِكُمْ، قَالَ: وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ تَنْدَمُونَ.
قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: هُوَ شِبْهُ الْمُتَنَدِّمِ.
قُلْتُ: تَفَكَّهَ بِوَزْنِ تَفَعَّلَ وَهُوَ كَتَأَثَّمَ أَيْ أَلْقَى الْإِثْمَ، فَمَعْنَى تَفَكَّهَ أَيْ أَلْقَى عَنْهُ الْفَاكِهَةَ، وَهُوَ حَالٌ مَنْ دَخَلَ فِي النَّدَمِ وَالْحُزْنِ.
قَوْلُهُ: (عُرُبًا: مُثْقَلَةً وَاحِدُهَا عَرُوبٌ إِلَى قَوْلِهِ الشَّكِلَةُ) سَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أَيْ فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَسَقَطَ {فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَالْكُوبُ .. إِلَخْ. وَكَذَا قَوْلُهُ: مَسْكُوبٍ: جَارٍ) سَقَطَ كُلُّهُ لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (مَوْضُونَةٍ: مَنْسُوجَةٍ، وَمِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ) سَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ فِي خَافِضَةٌ لِقَوْمٍ إِلَى النَّارِ وَرَافِعَةٌ لِقَوْمٍ إِلَى الْجَنَّةِ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قَالَ: خَافِضَةٌ لِقَوْمٍ إِلَى النَّارِ، رَافِعَةٌ لِقَوْمٍ إِلَى الْجَنَّةِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: خَفَضَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُنْخَفِضِينَ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قَالَ: شَمِلَتِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، حَتَّى خَفَضَتْ أَقْوَامًا فِي عَذَابِ اللَّهِ وَرَفَعَتْ أَقْوَامًا فِي كَرَامَةِ اللَّهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ سُرَاقَةَ عَنْ خَالِهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: خَفَضَتِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَرَفَعَتِ الْمُتَوَاضِعِينَ.
قَوْلُهُ: (مُتْرَفِينَ: مُتَنَعِّمِينَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ قَبْلَ النُّونِ وَبَعْدَ الْعَيْنِ مِيمٌ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مُتَمَتِّعِينَ بِمِيمٍ قَبْلَ الْمُثَنَّاةِ مِنَ التَّمَتُّعِ، كَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لِلْفَرَّاءِ وَمِنْهُ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنَعَّمِينَ.
قَوْلُهُ: (مَا تُمْنُونَ: هِيَ النُّطَفُ يَعْنِي فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} يَعْنِي: النُّطَفَ إِذَا قُذِفَتْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَ تِلْكَ النُّطَفَ أَمْ نَحْنُ؟!
قَوْلُهُ: (لِلْمُقْوِينَ: لِلْمُسَافِرِينَ. وَالْقِيُّ: الْقَفْرُ) سَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ) قَالَ الْفَرَّاءُ:
حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ قَالَ: بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُجُومًا. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قَالَ: بِمَنَازِلِ النُّجُومِ. قَالَ: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ أُنْزِلَ نُجُومًا. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جَمِيعًا لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ فُصِّلَ فَنَزَلَ فِي السِّنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ بِمَسْقَطِ النُّجُومِ إِذَا سَقَطْنَ، وَمَوَاقِعُ وَمَوْقِعٌ وَاحِدٌ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا بِلَفْظِهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ مُفَادَهُمَا وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَمْعًا وَالْآخَرُ مُفْرَدًا، لَكِنِ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ كَالْجَمْعِ فِي إِفَادَةِ التَّعَدُّدِ، وَقَرَأَهَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَوَاقِعُ النُّجُومِ: مَسَاقِطُهَا حَيْثُ تَغِيبُ.
قَوْلُهُ: (مُدْهِنُونَ: مُكَذِّبُونَ، مِثْلُ:{لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أَيْ مُكَذِّبُونَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أَيْ لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ، كُلٌّ قَدْ سَمِعْتُهُ قَدْ أَدْهَنَ أَيْ كَفَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مُدْهِنُونَ وَاحِدُهَا مُدْهِنٌ، وَهُوَ الْمُدَاهِنُ.
قَوْلُهُ: (فَسَلَامٌ لَكَ: أَيْ مُسَلَّمٌ لَكَ. إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأُلْغِيَتْ إِنَّ وَهُوَ مَعْنَاهَا، كَمَا تَقُولُ أَنْتَ مُصَدَّقٌ وَمُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، إِذَا كَانَ قَدْ قَالَ: إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، لَكِنْ قَالَ: أَنْتَ مُصَدَّقٌ مُسَافِرٌ بِغَيْرِ وَاوٍ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتَ مُصَدَّقٌ أَنَّكَ مُسَافِرٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ الْفَرَّاءُ مَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَأْتِيهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، سَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: تُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ يَكُونُ كَالدُّعَاءِ لَهُ كَقَوْلِكَ فَسَقْيًا مِنَ الرِّجَالِ، إِنْ رَفَعْتَ السَّلَامَ فَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا بِلَفْظِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ رَفَعْتَ السَّلَامَ فَهُوَ دُعَاءٌ.
قَوْلُهُ: (تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتَ: أَوْقَدْتَ) سَقَطَ هُنَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (لَغْوًا: بَاطِلًا، تَأْثِيمًا: كَذِبًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَغْوًا: بَاطِلًا، وَفِي قَوْلِهِ:{وَلا تَأْثِيمًا} قَالَ: كَذِبًا.
1 - بَاب {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
4881 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
قوله (باب قوله: وظل ممدود) ذكر فيه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.
57 - سُورَةُ الْحَدِيدِ
قَالَ مُجَاهِدٌ: {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ} : مُعَمِّرِينَ فِيهِ. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ. مَوْلَاكُمْ: أَوْلَى بِكُمْ، {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ. يُقَالُ: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. انْظُرُونَا: انْتَظِرُونَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ الْحَدِيدِ حَسْبُ، وَهُوَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ: مُعَمِّرِينَ فِيهِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:{مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يُرِيدُ مُمَلَّكِينَ فِيهِ، وَهُوَ رِزْقُهُ وَعَطِيَّتُهُ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ: مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى) سَقَطَ هَذَا أَيْضًا لِأَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ بِهَذَا، وَجُنَّةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: سِتْرٌ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَاكُمْ: أَوْلَى بِكُمْ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} يَعْنِي أَوْلَى بِكُمْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ (هُوَ أَوْلَى بِكُمْ) وَكَذَا هُوَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَتُعُقِّبَ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَكَانِ.
قَوْلُهُ: (انْظُرُونَا: انْتَظِرُونَا) قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ أَنْظِرُونَا بِقَطْعِ الْأَلِفِ مِنْ أَنْظَرْتُ، وَالْبَاقُونَ عَلَى الْوَصْلِ، وَمَعْنَى انْظُرُونَا: انْتَظِرُونَا، وَمَعْنَى أَنْظِرُونَا - يَعْنِي بِالْقَطْعِ - أَخِّرُونَا، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ أَنْظِرْنِي - يَعْنِي بِالْقَطْعِ - يُرِيدُ انْتَظِرْنِي قَلِيلًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا
…
وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا
قَوْلُهُ: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَجْعَلُ لَا صِلَةً فِي الْكَلَامِ إِذَا دَخَلَ فِي أَوَّلِهِ جَحْدٌ أَوْ فِي آخِرِهِ جَحْدٌ، كَهَذِهِ الْآيَةِ، وكَقَوْلِهِ:{مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} انْتَهَى. وَحَكَى عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ لِيَعْلَمَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ كَوْنَهَا مَزِيدَةً، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ لِكَيْلَا فَهِيَ مِثْلُ لِئَلَّا.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .. إِلَخْ) يَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ كَلَامُ يَحْيَى الْفَرَّاءِ.
58 - سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُحَادُّونَ} : يُشَاقُّونَ اللَّهَ. {كُبِتُوا} : أُخْزِيُوا، مِنْ الْخِزْيِ. {اسْتَحْوَذَ}: غَلَبَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ) كَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَلِلنَّسَفِيِّ الْمُجَادَلَةِ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: (يُحَادُّونَ: يُشَاقُّونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{يُحَادُّونَ اللَّهَ} قَالَ: يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَوْلُهُ: (كُبِتُوا: أُخْزِيُوا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ أُحْزِنُوا، وَكَأَنَّهَا بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: خُزُوا كَمَا خُزِيَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: أُخْزُوا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُبِتُوا: أُهْلِكُوا.
قَوْلُهُ: (اسْتَحْوَذَ: غَلَبَ) أَيْ غَلَبَهُمُ الشَّيْطَانُ، هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَحُكِيَ عَنْ قِرَاءَةِ عُمَرَ رضي الله عنه: اسْتَحَاذَ، بِوَزْنِ اسْتَقَامَ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيدِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} - إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ، وَكَذَا سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْ فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا حَدِيثُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَوْرَدَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ طَرَفًا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مُعَلَّقًا.
59 - سورة الحشر
{الْجَلاءَ} الْإِخْرَاجُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ.
1 - باب
4882 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: التَّوْبَةُ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَم تُبْقِ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا. قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الْأَنْفَالِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ.
4883 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ: سُورَةُ بني النَّضِيرِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْحَشْرِ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (الْجَلَاءُ: الْإِخْرَاجُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ) هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ الْجَلَاءُ وَالْإِجْلَاءُ، جَلَّاهُ: أَخْرَجَهُ، وَأَجْلَيْتُهُ: أَخْرَجْتُهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجَلَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ الْجَلَاءَ مَا كَانَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَالْإِخْرَاجُ أَعَمُّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مُقْتَصَرًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: التَّوْبَةُ؟) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ هِيَ الْفَاضِحَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هُشَيْمٍ سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: بَلْ سُورَةُ الْفَاضِحَةِ.
قَوْلُهُ: (مَا زَالَتْ تَنْزِلُ وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ) أَيْ كَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} - {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}
قَوْلُهُ: (لَمْ تُبْقِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَنْ تُبْقِي وَهِيَ أَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى تَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُمْ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ أَبْلَغُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ لَا يَبْقَى.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ) كَأَنَّهُ كَرِهَ تَسْمِيَتَهَا بِالْحَشْرِ لِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ.
2 - بَاب {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نَخْلَةٍ، مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً.
4884 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} : أَيْ مِنْ نَخْلَةٍ، وَهِيَ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ ذَهَبَتْ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: اللِّينَةُ: مَا دُونَ الْعَجْوَةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ تَنْشَقُّ عَنِ النَّوَى.
3 - بَاب قَوْلُهُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}
4885 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفْ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْءِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَنِيمَةِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ بِغَيْرِ ذِكْرِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَثَبَتَ لِبَاقِي الرُّوَاةِ بِذِكْرِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مَبْسُوطًا فِي فَرْضِ الْخُمُسِ.
4 - بَاب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
4886 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا.
[الحديث 4886 - أطرافه في: 4887، 5931، 5939، 5943، 5948]
4887 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رسول اللَّهُ صلى الله عليه وسلم الْوَاصِلَةَ، فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أَيْ وَمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ، لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ. سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.
قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ) لَا يُعْرَفُ اسْمُهَا، وَقَدْ أَدْرَكَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (أَمَا قَرَأْتَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ) أَيِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (قَدْ نَهَى) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِنَّمَا ضَبَطْتُ هَذَا خَشْيَةَ أَنْ يُقْرَأَ بِضَمِّ النُّونٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، عَلَى أَنَّ الْهَاءَ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى مَا قَرَّرْتُهُ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّهَا اسْتَشْكَلَتِ اللَّعْنَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ النَّهْيِ لَعْنُ مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ وُجُوبُ امْتِثَالِ قَوْلِ الرَّسُولِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ هَذَا الْفِعْلِ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَفِي الْقُرْآنِ لَعْنُ الظَّالِمِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَسْعُودٍ سَمِعَ اللَّعْنَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ.
قَوْلُهُ:
(أَهْلُكَ يَفْعَلُونَهُ) هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا) أَيْ مِنَ الَّذِي ظَنَّتْ أَنَّ زَوْجَ ابْنِ مَسْعُودٍ تَفْعَلْهُ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ رَأَتْ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ عَلَيْهَا فَأَزَالَتْهُ، فَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تَرَ مَا كَانَتْ رَأَتْ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مَا جَامَعْتُهَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجِمَاعِ الْوَطْءُ، أَوْ الِاجْتِمَاعُ وَهُوَ أَبْلَغُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا جَامَعَتْنَا، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا جَامَعَتْنِي.
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اتَّصَفَ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يُطْلِقُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ قَيَّدَ فِيهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَيْ عِنْدَكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَعَنَهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً وَعَلَى الثَّانِي فَيَكُونُ لَعَنَهُ زِيَادَةً فِي شِقْوَتِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُشَارِكُ فَاعِلَهَا فِي الْإِثْمِ.
5 - بَاب {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}
4888 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أَيِ اسْتَوْطَنُوا الْمَدِينَةَ، وَقِيلَ: نَزَلُوا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ بِالْأَنْصَارِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ عُمَرَ، وَعَلَى الثَّانِي يَشْمَلُهُمْ وَيَشْمَلُ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ. ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ عِنْدَ مَقْتَلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ.
6 - بَاب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .. الْآيَةَ.
الْخَصَاصَةُ: الْفَاقَةُ. {الْمُفْلِحُونَ} الْفَائِزُونَ بِالْخُلُودِ. الْفَلَاحُ: الْبَقَاءُ. حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ: عَجِّلْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {حَاجَةً} حَسَدًا.
4889 -
حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي الْجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ، فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ، فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عز وجل أَوْ ضَحِكَ - مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .. الْآيَةَ. الْخَصَاصَةُ الْفَاقَةُ) وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ الْفَاقَةُ، وَهُوَ قَوْلُ
مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِالْخُلُودِ، وَالْفَلَاحُ الْبَقَاءُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ لَبِيدٌ:
نَحُلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا
…
وَنَرْجُو فَلَاحًا بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرَ
وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى إِدْرَاكِ الطَّلَبِ، قَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا:
وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ
أَيْ: أَدْرَكَ مَا طَلَبَ.
قَوْلُهُ: (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ: عَجِّلْ) هُوَ تَفْسِيرُ حَيَّ، أَيْ مَعْنَى حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَيْ: عَجِّلْ إِلَى الْفَلَاحِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا مَعْنَاهُ هَلُمَّ وَأَقْبِلْ.
قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِطَلَبِ الْإِعْجَالِ، فَالْمَعْنَى أَقْبِلْ مُسْرِعًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: حَاجَةً حَسَدًا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ بِهَذَا، وَرَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنْ أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ بِعُلُوٍّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} قَالَ: الْحَسَدُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَقَدْ نَسَبْتُهُ فِي الْمَنَاقِبِ إِلَى تَخْرِيجِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَا يُوثَقُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُضَيِّفُ هَذَا رَحْمَةً بِالتَّنْوِينِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَتَرَدَّدَ الْخَطِيبُ هَلْ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْمَشْهُورُ أَوْ صَحَابِيٌّ آخَرُ يُكَنَّى أَبَا طَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ. وَلَكِنْ أَرَدْتُ التَّنْبِيهَ هُنَا عَلَى شَيْءٍ وَقَعَ لِلْقُرْطُبِيِّ الْمُفَسِّرِ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَسْكَرٍ فِي ذَيْلِهِ عَلَى تَعْرِيفِ السُّهَيْلِيِّ، فَإِنَّهُمَا نَقَلَا عَنِ النَّحَّاسِ، وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، زَادَ ابْنُ عَسْكَرٍ: النَّاجِيِّ، وَأَنَّ الضَّيْفَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَهَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ انْتَهَى، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيَّ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقِصَّةِ ذِكْرٌ، إِلَّا أَنَّهُ رَوَاهَا مُرْسَلَةً أَخْرَجَهَا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ. وَكَذَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ قِرَى الضَّيْفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهُمْ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ شَيْئًا يُفْطِرُ عَلَيْهِ، حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَبِعَ ابْنَ عَسْكَرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّارِحِينَ سَاكِتِينَ عَنْ وَهْمِهِ، فَلِهَذَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ، وَتَفَطَّنَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ لِقَوْلِ ابْنِ عَسْكَرٍ إِنَّهُ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ فَقَالَ: هَذَا وَهْمٌ، لِأَنَّ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيَّ تَابِعِيٌّ إِجْمَاعًا انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ يُكَنَّى أَبَا الْمُتَوَكِّلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُ وَتَتَلَمَّظُ هِيَ حَتَّى رَأَى الضَّيْفُ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَصَلَّى مَعَهُ الصُّبْحَ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عز وجل، أَوْ ضَحِكَ) كَذَا هُنَا بِالشَّكِّ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ بِلَفْظِ عَجِبَ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ضَحِكَ بِغَيْرِ شَكٍّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِطْلَاقُ الْعَجَبِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَمَعْنَاهُ الرِّضَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الصَّنِيعَ حَلَّ مِنَ الرِّضَا عِنْدَ اللَّهِ حُلُولُ الْعَجَبِ عِنْدَكُمْ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَجَبِ هُنَا أَنَّ اللَّهَ يُعْجِبُ مَلَائِكَتَهُ مِنْ صَنِيعِهِمَا لِنُدُورِ مَا وَقَعَ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَعْنَى الضَّحِكِ هُنَا الرَّحْمَةُ.
قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَتَأْوِيلُ الضَّحِكِ بِالرِّضَا أَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِهِ بِالرَّحْمَةِ،
لِأَنَّ الضَّحِكَ مِنَ الْكِرَامِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْبِشْرِ عِنْدَ السُّؤَالِ.
قُلْتُ: الرِّضَا مِنَ اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرَّحْمَةَ وَهُوَ لَازِمُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ سَائِرُ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ.
60 - سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ. فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا. بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ: أُمِرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِ نِسَائِهِمْ. كُنَّ كَوَافِرَ بِمَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِجَمِيعِهِمْ، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَتْحُ الْحَاءِ، وَقَدْ تُكْسَرُ وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَزَلَتِ السُّورَةُ بِسَبَبِهَا، وَالْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَقِيلَ: سَعِيدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ: أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهَا صِفَةً لِلسُّورَةِ كَمَا قِيلَ لِبَرَاءَةٌ: الْفَاضِحَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ .. إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَزَادَ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مَا أَصَابَهُمْ مِثْلُ هَذَا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ كَذَلِكَ، فَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِثْلَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، فَزَادَ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَمَا أَظُنُّ زِيَادَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ إِلَّا وَهْمًا لِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ وَرْقَاءَ عَلَى عَدَمِ ذِكْرِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا وَهَذَا بِخِلَافِ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا قُلْتُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا بِحَقِّهِمْ، وَهَذَا يُشْبِهُ تَأْوِيلَ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ: أُمِرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِ نِسَائِهِمْ كُنَّ كَوَافِرَ بِمَكَّةَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ أُمِرَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِطَلَاقِ نِسَائِهِمْ كَوَافِرَ بِمَكَّةَ قَعَدْنَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَلْحَقُ بِالْمُشْرِكِينَ فَتَكْفُرُ فَلَا يُمْسِكُ زَوْجُهَا بِعِصْمَتِهَا قَدْ بَرِئَ مِنْهَا. انْتَهَى. وَالْكَوَافِرُ: جَمْعُ كَافِرَةٍ، وَالْعِصَمُ: جَمْعُ عِصْمَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيِّ: قَالَ لِي الْكَرْخِيُّ: الْكَوَافِرُ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: النُّحَاةُ لَا يُجِيزُونَ هَذَا إِلَّا فِي الْنِّسَاءِ جَمْعُ كَافِرَةٍ، قَالَ: أَلَيْسَ يُقَالُ طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ انْتَهَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَافِرَةٌ وَصْفًا لِلرِّجَالِ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 - بَاب {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
4890 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا، فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ
الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .. مِمَّنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عز وجل اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
قَالَ عَمْرٌو: وَنَزَلَتْ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} قَالَ: لَا أَدْرِي الْآيَةَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ قَوْلُ عَمْرٍو.
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: قِيلَ لِسُفْيَانَ: فِي هَذَا فَنَزَلَتْ {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} .. الْآيَةَ؟ قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا فِي حَدِيثِ النَّاسِ، حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، مَا تَرَكْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَمَا أُرَى أَحَدًا حَفِظَهُ غَيْرِي.
قَوْلُهُ: بَابُ: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْعَدُوُّ لَمَّا كَانَ بِزِنَةِ الْمَصَادِرِ وَقَعَ عَلَى الْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ. وَقَوْلُهُ:{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} - تَفْسِيرٌ لِلْمُوَالَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَوْ صِفَةً، وَفِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مُطْلَقًا، وَالتَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ أَوِ الْحَالِ يُوهِمُ الْجَوَازَ عِنْدَ انْتِفَائِهِمَا، لَكِنْ عُلِمَ بِالْقَوَاعِدِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا فَلَا مَفْهُومَ لَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوِلَايَةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَوَدَّةَ، فَلَا تَتِمُّ الْوِلَايَةُ بِدُونِ الْمَوَدَّةِ فَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ) بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَهَا بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ فَقَدْ صَحَّفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْجَاسُوسِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ وَفِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (لَنلْقِيَنَّ) كَذَا فِيهِ، وَالْوَجْهُ حَذْفُ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أُثْبِتَتْ لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ) أَيْ: بِالْحِلْفِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لَيْسَ هَذَا تَنَاقُضًا، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَلِيفُهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ: حَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِإِثْبَاتِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: قَالَ الصِّدْقُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ) إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ مَعَ تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاطِبٍ فِيمَا اعْتَذَرَ بِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَ عُمَرَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ وَبُغْضِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى النِّفَاقِ، وَظَنَّ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَ فِي قَتْلِهِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا لِكَوْنِهِ أَبْطَنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرَ، وَعُذْرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَنْ لَا ضَرَرَ فِيهِ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُ نَكَثَ وَظَاهَرَ أَعْدَاءَكَ عَلَيْكَ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ) أَرْشَدَ أَنَّ عِلَّةَ تَرْكِ قَتْلِهِ بِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَلْ يُسْقِطُ عَنْهُ شُهُودُهُ بَدْرًا هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ وَمَا يُدْرِيكَ .. إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (لَعَلَّ اللَّهَ عز وجل اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ
الرِّوَايَاتِ بِصِيغَةِ التَّرَجِّي، وَهُوَ مِنَ اللَّهِ وَاقِعٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ فَإِنِّي غَافِرٌ لَكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ غَفَرْتُ أَيْ أَغْفِرُ، عَلَى طَرِيقِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْآتِي بِالْوَاقِعِ مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِهِ. وَفِي مَغَازِي ابْنِ عَائِذٍ مِنْ مُرْسَلِ عُرْوَةَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ، وَالْمُرَادُ غُفْرَانُ ذُنُوبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِلَّا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدٌّ مَثَلًا لَمْ يَسْقُطْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَيْسَ هَذَا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَاضِي، تَقْدِيرُهُ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ أَيَّ عَمَلٍ كَانَ لَكُمْ فَقَدْ غُفِرَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ كَانَ جَوَابُهُ فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِطْلَاقًا فِي الذُّنُوبِ وَلَا يَصِحُّ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّ الْقَوْمَ خَافُوا مِنَ الْعُقُوبَةِ بَعْدُ حَتَّى كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: يَا حُذَيْفَةُ، بِاللَّهِ هَلْ أَنَا مِنْهُمْ؟
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ اعْمَلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَمْ تَضَعِ الْعَرَبُ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِلْمَاضِي لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالِابْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ يُحْمَلُ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِيجَابِ فَتَعَيَّنَ لِلْإِبَاحَةِ. قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ خِطَابُ إِكْرَامٍ وَتَشْرِيفٍ، تَضَمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَةٌ غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبُهُمُ السَّالِفَةُ، وَتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ مَا يُسْتَأْنَفُ مِنَ الذُّنُوبِ اللَّاحِقَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الصَّلَاحِيَّةِ لِلشَّيْءِ وُقُوعُهُ. وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ صِدْقَ رَسُولِهِ فِي كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُورُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِهِمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ وَلَازَمَ الطَّرِيقَ الْمُثْلَى. وَيَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِالْقَطْعِ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِيَرِهِمُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ أَيْ: ذُنُوبُكُمْ تَقَعُ مَغْفُورَةً، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ. وَقَدْ شَهِدَ مِسْطَحٌ بَدْرًا وَوَقَعَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ بَشَّرَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: وَنَزَلَتْ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} سَقَطَ أَوْلِيَاءَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا أَدْرِي .. الْآيَةُ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ قَوْلُ عَمْرٍو) هَذَا الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا سَأُوَضِّحُهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ (قَالَ: قِيلَ لِسُفْيَانَ: فِي هَذَا فَنَزَلَتْ: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ؟ قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا فِي حَدِيثِ النَّاسِ) يَعْنِي هَذِهِ الزِّيَادَةَ، يُرِيدُ الْجَزْمَ بِرَفْعِ هَذَا الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: (حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، مَا تَرَكْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَمَا أَرَى أَحَدًا حَفِظَهُ غَيْرِي) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ يَجْزِمُ بِرَفْعِهَا وَقَدْ أَدْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، فَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَعَمْرٍو النَّاقِدِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَالْفَضْلِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، وَاسْتُدِلَّ بِاسْتِئْذَانِ عُمَرَ عَلَى قَتْلِ حَاطِبٍ لِمَشْرُوعِيَّةِ قَتْلِ الْجَاسُوسِ وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى إِرَادَةِ الْقَتْلِ لَوْلَا الْمَانِعُ، وَبَيَّنَ الْمَانِعَ هُوَ كَوْنُ حَاطِبٍ شَهِدَ بَدْرًا، وَهَذَا مُنْتَفٍ في غَيْرِ حَاطِبٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِ لَمَا عَلَّلَ بِأَخَصَّ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَ سِيَاقُ عَلِيٌّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ،
وَبَيَّنَ أَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ مِنْ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ أَحَدِ التَّابِعِينَ، وَبِهِ جَزَمَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسِيرَ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَتَبَ إِلَيْهِمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ يُحَذِّرُهُمْ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْقُرْآنَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَيْضًا: قَالَ عَمْرٌو، أَيِ ابْنُ دِينَارٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي رَافِعٍ، وَكَانَ كَاتِبًا لِعَلِيٍّ.
2 - بَاب {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}
4891 -
حَدَّثَنَي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ بَايَعْتُكِ. كَلَامًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ، مَا يُبَايِعُهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكِ.
تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ: عَنْ زُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ.
قَوْلُهُ: بَابُ: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} اتَّفَقُوا عَلَى نُزُولِهَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ سَبَبَهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاء مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ يَرُدُّونَهُ إِلَى قُرَيْشٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ النِّسَاءَ بِشَرْطِ الِامْتِحَانِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ فَأَمَّا إِسْحَاقُ فَهُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِهِ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَدْ بَايَعْتُكِ كَلَامًا) أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ كَلَامًا فَقَطْ، لَا مُصَافَحَةً بِالْيَدِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُصَافَحَةِ الرِّجَالِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا وَاللَّهِ) فِيهِ الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، وَكَأَنَّ عَائِشَةَ أَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَا جَاءَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ. فَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارِ، وَالطَّبَرِيِّ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي قِصَّةِ الْمُبَايَعَةِ قَالَ: فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ وَمَدَدْنَا أَيْدِينَا مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ قَبَضَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ يَدَهَا فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُنَّ كُنَّ يُبَايِعْنَهُ بِأَيْدِيهِنَّ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَدَّ الْأَيْدِي مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ الْمُبَايَعَةِ وَإِنْ لَمْ تَقَعْ مُصَافَحَةٌ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَبْضِ الْيَدِ التَّأَخُّرَ عَنِ الْقَبُولِ، أَوْ كَانَتِ الْمُبَايَعَةُ تَقَعُ بِحَائِلٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَايَعَ النِّسَاءَ أَتَى بِبُرْدٍ قِطْرِيٍّ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ وَقَالَ: لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مُرْسَلًا نَحْوُهُ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي
حَازِمٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي إِنَاءٍ، وَتَغْمِسُ الْمَرْأَةُ يَدَهَا فِيهِ وَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِوَاسِطَةِ عُمَرَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ أُمَيْمَةَ بِنْتَ رُقَيْقَةَ - بِقَافَيْنِ مُصَغَّرٌ - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي نِسْوَةٍ تُبَايِعُ، فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَدَكَ نُصَافِحْكَ، قَالَ: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَلَكِنْ سَآخُذُ عَلَيْكُنَّ، فَأَخَذَ عَلَيْنَا حَتَّى بَلَغَ:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فَقَالَ: فِيمَا طُقْتُنَّ وَاسْتَطَعْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا.
وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: مَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ إِلَّا كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي أَخْبَارٍ أُخْرَى أَنَّهُنَّ كُنَّ يَأْخُذْنَ بِيَدِهِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ أَخْرَجَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَفِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي إِنَاءٍ فَيَغْمِسْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَمَّا مُتَابَعَةُ يُونُسَ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ مَعْمَرٍ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَحْكَامِ، أَمَّا مُتَابَعَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَصَلَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيِّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ) يَعْنِي عَنْ عَائِشَةَ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَصَلَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ بِهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمِحْنَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ فَامْتَحِنُوهُنَّ هِيَ أَنْ يُبَايِعَهُنَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ: بِاللَّهِ مَا خَرَجَتْ إِلَّا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَحُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَلَا خَرَجَ بِكِ عِشْقُ رَجُلٍ مِنَّا، وَلَا فِرَارٌ مِنْ زَوْجِكِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّحْلِيفِ وَالْمُبَايَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ إِذَا غَضِبَتْ عَلَى زَوْجِهَا قَالَتْ: وَاللَّهِ لَأُهَاجِرَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
3 - بَاب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
4892 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ف قَرَأَ عَلَيْنَا:{أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ يَدَهَا، فَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا.
4893 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاء"
4894 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا
تَسْرِقُوا وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَأَكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ قَرَأَ الآيَةَ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي الآيَةِ
4895 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمٍ أَخْبَرَهُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: "أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ" فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ قَالَ: "فَتَصَدَّقْنَ" وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَال"
قَوْلُهُ: بَابُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.
الأول: قَوْلُهُ: (عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) كَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، فَكَأَنَّ أَيُّوبَ سَمِعَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا * وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ.
قَوْلُهُ: (فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا) فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا آلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ لَمْ أَعْرِفْ آلَ فُلَانٍ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قُلْتُ: إِنَّ امْرَأَةً أَسْعَدَتْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ أَبْهَمَتْ نَفْسَهَا.
قَوْلُهُ: (أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ فَأُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا) وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فَأَذْهَبُ فَأُسْعِدُهَا ثُمَّ أَجِيئُكَ فَأُبَايِعُكَ وَالْإِسْعَادُ قِيَامُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْأُخْرَى فِي النِّيَاحَةِ تُرَاسِلُهَا، وَهُوَ خَاصٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْبُكَاءِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَ الْمُسَاعَدَةِ وَضْعُ الرَّجُلِ يَدَهُ عَلَى سَاعِدِ الرَّجُلِ صَاحِبِهِ عِنْدَ التَّعَاوُنِ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ، فَبَايَعَهَا) فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ فَقَالَ: إِلَّا آلَ فُلَانٍ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَسْعِدِيهَا، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ فَسَاعَدْتُهَا ثُمَّ جِئْتُ فَبَايَعْتُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ فِي آلِ فُلَانٍ خَاصَّةً، وَلَا تَحِلُّ النِّيَاحَةُ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا فِي غَيْرِ آلِ فُلَانٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَلِلشَّارِعِ أَنْ يَخُصَّ مِنَ الْعُمُومِ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، فَهَذَا صَوَابُ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ الَّذِينَ سَاعَدَتْهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَفِيهِ بُعْدٌ،
وَإِلَّا فَلْيَدَّعِ مُشَارَكَتَهُمْ لَهَا فِي الْخُصُوصِيَّةِ، وَسَأُبَيِّنُ مَا يَقْدَحُ فِي خُصُوصِيَّةِ أُمِّ عَطِيَّةَ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاسْتَشْكَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالُوا فِيهِ أَقْوَالًا عَجِيبَةً، وَمَقْصُودِي التَّحْذِيرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ: النِّيَاحَةُ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ شَقِّ جَيْبٍ وَخَمْشِ خَدٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَأَنَّ النِّيَاحَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ النَّقْلُ عَنْ غَيْرِ هَذَا الْمَالِكِيِّ أَيْضًا أَنَّ النِّيَاحَةَ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَقَدْ أَبْدَاهُ الْقُرْطُبِيُّ احْتِمَالًا، وَرَدَّهُ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْوَعِيدِ عَلَى النِّيَاحَةِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ التَّحْرِيمِ، لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ أَوَّلًا وَرَدَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، ثُمَّ لَمَّا تَمَّتْ مُبَايَعَةُ النِّسَاءِ وَقَعَ التَّحْرِيمُ فَيَكُونُ الْإِذْنُ لِمَنْ ذُكِرَ وَقَعَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى لِبَيَانِ الْجَوَازِ ثُمَّ وَقَعَ التَّحْرِيمُ فَوَرَدَ حِينَئِذٍ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ.
وَقَدْ لَخَّصَ الْقُرْطُبِيُّ بَقِيَّةَ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّوَوِيُّ، مِنْهَا دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ، قَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَسَاقِ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ هَذَا، وَلَوْلَا أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ فَهِمَتِ التَّحْرِيمَ لَمَا اسْتَثْنَتْ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مِنَ الْعِصْيَانِ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذَا وَصْفُ الْمُحَرَّمِ. وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا آلَ فُلَانٍ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهَا تُسَاعِدُهُمْ بِالنِّيَاحَةِ، فَيُمْكِنُ أَنَّهَا تُسَاعِدُهُمْ بِاللِّقَاءِ وَالْبُكَاءِ الَّذِي لَا نِيَاحَةَ مَعَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ مِمَّا قَبْلَهُ.
قُلْتُ: بَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ وُرُودُ التَّصْرِيحِ بِالنِّيَاحَةِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللِّقَاءَ وَالْبُكَاءَ الْمُجَرَّدَ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ تَقْرِيرُهُ، فَلَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْخِيرِ الْمُبَايَعَةِ حَتَّى تَفْعَلَهُ. وَمِنْهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعَادَ إِلَّا آلَ فُلَانٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَمَا قَالَ لِمَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنَا أَنَا. فَأَعَادَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ. وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِتَحْلِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. انْتَهَى.
وَيَقْدَحُ فِي دَعْوَى تَخْصِيصِهَا أَيْضًا ثُبُوتُ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا، وَيُعْرَفُ مِنْهُ أَيْضًا الْخَدْشُ فِي الْأَجْوِبَةِ الْمَاضِيَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ فَبَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا .. الْآيَةَ - قَالَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ أَبِي وَأَخِي مَاتَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ فُلَانَةَ أَسْعَدَتْنِي وَقَدْ مَاتَ أَخُوهَا .. الْحَدِيثَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي فُلَانٍ أَسْعَدُونِي عَلَى عَمِّي وَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهِنَّ، فَأَبَى، قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مِرَارًا فَأَذِنَ لِي، ثُمَّ لَمْ أَنُحْ بَعْدُ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ نُوحٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ عَجُوزًا لَنَا كَانَتْ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَلَا يَنُحْنَ، فَقَالَتْ عَجُوزٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ نَاسًا كَانُوا أَسْعَدُونَا عَلَى مَصَائِبَ أَصَابَتْنَا، وَإِنَّهُمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُسْعِدَهُمْ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَكَافِئِيهِمْ. قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَكَافَأْتُهُمْ. ثُمَّ إِنَّهَا أَتَتْ فَبَايَعَتْهُ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَقْرَبَ الْأَجْوِبَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ كُرِهَتْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ثُمَّ تَحْرِيمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الزُّبَيْرُ بْنُ خِرِّيتٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ.
قَوْلُهُ: (فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ) أَيْ عَلَى النِّسَاءِ. وَقَوْلُهُ فَبَايِعْهُنَّ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ بَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ فَإِنِ اشْتَرَطْنَ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ فَبَايِعْهُنَّ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّرْطِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ النِّيَاحَةُ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} لَا يَخْلُو الرَّجُلُ
بِامْرَأَةٍ. وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَتَادَةُ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ وَلَا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنَّ لَنَا أَضْيَافًا وَإِنَّا نَغِيبُ عَنْ نِسَائِنَا، فَقَالَ: لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ: إِنَّمَا أُنَبِّئُكُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا تعْصِينَنِي فِيهِ، لَا تَخْلُوُنَّ بِالرِّجَالِ وُحْدَانًا، وَلَا تَنُحْنَ نَوْحَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي أَسِيدٍ الْبَرَّادِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَا نَخْمُشُ وَجْهًا، وَلَا نَنْشُرُ شَعَرًا، وَلَا نَشُقُّ جَيْبًا، وَلَا نَدْعُو وَيْلًا.
تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: فِي الْآيَةِ.
الْحَدِيثُ الْثَّالِثُ: قَوْلُهُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَاهُ. هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الِاسْمِ عَلَى الصِّيغَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَذْكُرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ) أَيْ آيَةَ بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بَيَانَ وَقْتِ هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ: قَرَأَ الْآيَةَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ قَرَأَ فِي الْآيَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوجِبُ الْحَدَّ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ) زَادَ الْمُسْتَمْلِيُّ فِي الْآيَةِ، وَوَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَقِبَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَزَادَ في الْحَدِيثَ: فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَمَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُسْتَوْفًى.
وَقَوْلُهُ {بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي مَا يُكْتَسَبُ بِهَا وَكَذَا الْأَرْجُلُ، الثَّانِي: هُمَا كِنَايَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَنِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْأَيْدِي كَسْبُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ، وَبِالْأَرْجُلِ كَسْبُهُ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ) قُلْتُ: نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنَّهُ يَرْوِي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِوَاسِطَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَأَبِي عَاصِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَمَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ، ونَزَلَ فِيهِ دَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ وَهْبٍ فَإِنَّهُ يَرْوِي عَنْ جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَغَيْرِهما، وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ تَصْرِيحُ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ النَّازِلَةِ بِالْإِخْبَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِالْعُلُوِّ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَصَرَّحَ فِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ بِالْخَبَرِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ بِطُولِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَلَا عِنْدَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ عَلَاهُ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَوَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ بِعُلُوٍّ فِي الْعِيدَيْنِ، لَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، وَقَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ.
61 - سُورَةُ الصَّفِّ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مَنْ يَتْبَعُنِي إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْصُوصٌ: مُلْصَقٌ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ. وَقَالَ يَحْيَى: بِالرَّصَاصِ.
1 - بَاب {يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
4896 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ
رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الصَّفِّ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا سُورَةُ الْحَوَارِيِّينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّى الْعَشَرَةَ الْمَشْهُورِينَ إِلَّا سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ وَحْدَهُ وَحَمْزَةَ، وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا سَمَاعُ هَذِهِ السُّورَةِ مُسَلْسَلًا فِي حَدِيثٍ ذُكِرَ فِي أَوَّلِهِ سَبَبُ نُزُولِهَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَلَّ أَنْ وَقَعَ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ مِثْلُهُ مَعَ مَزِيدِ عُلُوِّهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مَنْ يَتْبَعْنِي إِلَى اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَنْ تَبِعَنِي إِلَى اللَّهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ مَنْ يَتْبَعْنِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَى بِمَعْنَى فِي، أَيْ مَنْ أَنْصَارِي فِي اللَّهِ؟
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْصُوصٌ: مُلْصَقٌ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِبَعْضٍ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}: مُثْبَتٌ لَا يَزُولُ مُلْصَقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَعَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مِنَ التَّرَاصِّ أَيِ التَّضَامِّ، مِثْلُ تَرَاصِّ الْأَسْنَانِ أَوْ مِنَ الْمُلَائِمِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَوِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى: بِالرَّصَاصِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ وَلِغَيْرِهِمَا وَقَالَ غَيْرُهُ، وَجَزَمَ أَبُو ذَرٍّ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الْفَرَّاءُ وَهُوَ كَلَامُهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَلَفْظُهُ فِي قَوْلِهِ:{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} يُرِيدُ بِالرَّصَاصِ حَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ. وَالرَّصَاصُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا.
قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَابُ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي.
وذكر فيه حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى في أَوَائِلَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
62 - سُورَةُ الْجُمُعَةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - بَاب قَوْلُهُ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، وَقَرَأَ عُمَرُ: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
4897 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْه سُورَةُ الْجُمُعَةِ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ - أَوْ رَجُلٌ - مِنْ هَؤُلَاءِ.
[الحديث 4897 - طرفه في: 4868]
4898 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْجُمُعَةِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَتَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أَيْ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، وَيَجُوزُ فِي آخَرِينَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُعَلِّمُهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الْأُمِّيِّينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عُمَرُ: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَيَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقْرَؤُهَا قَطُّ: فَامْضُوا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقْرَؤُهَا: فَاسْعَوْا، قَالَ: أَمَا أَنَّهُ أَعْلَمُنَا وَأَقْرَؤُنَا لِلْمَنْسُوخِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَامْضُوا. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فَبَيَّنَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَعُمَرَ وَأَنَّهُ خَرَشَةُ بْنُ الْحَرِّ فَصَحَّ الْإِسْنَادُ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فَامْضُوا، وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ.
وَلِلطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَامْضُوا قَالَ: وَهِيَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى فَاسْعَوْا أَجِيبُوا وَلَيْسَ مِنَ الْعَدْوِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) كَذَا لَهُمْ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَكَلَامُ الْكَلَابَاذِيُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرٍ.
قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، وَجَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ كَذَا فِيهِ، وَتَبِعَهُ الْمِزِّيُّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ نَسَبَهُ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ، وَلَكِنْ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ لِلدَّرَاوَرْدِيِّ إِلَّا مُتَابَعَةً أَوْ مَقْرُونًا، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَدَّرَهُ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ ثُمَّ تَلَاهُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ ثَوْرٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ، وَأَبُو الْغَيْثِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، اسْمُهُ سَالِمٌ.
قَوْلُهُ: (فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} كَأَنَّهُ يُرِيدُ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَزَلَ مِنْهَا قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} .
قَوْلُهُ: (قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ قِيلَ: مَنْ هُمْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ ثَوْرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِنَا؟ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُرَاجِعُوهُ) كَذَا فِي نُسْخَتِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي غَيْرِهَا فَلَمْ يُرَاجِعْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ، أَيْ لَمْ يُرَاجِعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّائِلَ، أَيْ لَمْ يُعِدْ عَلَيْهِ جَوَابَهُ حَتَّى سَأَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ: فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَأَلَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ حَتَّى سَأَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالْجَزْمِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: (وَضَعَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ) فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ.
قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا) هِيَ نَجْمٌ مَعْرُوفٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.
قَوْلُهُ (لَنَالَهُ رِجَالٌ - أَوْ رَجُلٌ - مِنْ هَؤُلَاءِ) هَذَا الشَّكُّ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ. بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بِلَفْظِ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا بِغَيْرِ شَكٍّ. وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورِ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْجَيَّانِيُّ ثُمَّ الْمِزِّيُّ،
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيِّ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُتَابَعَاتِ غَيْرَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ) قِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ هِدْرَامَ بْنِ أَرْفَخْشَد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَأَنَّهُ وَلَدَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ كَانَ فَارِسًا شُجَاعًا فَسُمُّوا الْفُرْسَ لِلْفُرُوسِيَّةِ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَقَالَ صَاعِدٌ فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ أَوَّلُهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ، ثُمَّ دَخَلُوا فِي دِينِ الصَّابِئَةِ فِي زَمَنِ طَمْهُورِثَ فَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ، ثُمَّ تَمَجَّسُوا عَلَى يَدِ زَرَادِشْتَ. وَقَدْ أَطْنَبَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي أَوَّلِ تَارِيخِ أَصْبَهَانَ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَعْنِي حَدِيثَ لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ كان عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مُجَرَّدًا عَنِ السَّبَبِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلُوهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ بِرِقَّةِ قُلُوبِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ بِالزِّيَادَةِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَزَادَ فِيهِ يَتَّبِعُونَ سُنَّتِي، وَيُكْثِرُونَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم عِيَانًا، فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ مِنْ حُفَّاظِ الْآثَارِ وَالْعِنَايَةِ بِهَا مَا لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ النَّسَبِ فِي أَصْلِ فَارِسَ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَنْتَهِي نَسَبُهُمْ إِلَى جِيُومَرْتَ وَهُوَ آدَمُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: مِنْ ذُرِّيَّةِ لَاوِي بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ فَارِسُ بْنُ يَاسُورَ بْنِ سَامٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَلَدِ هِدْرَامِ بْنِ أَرْفَخْشَد بْنِ سَامٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَالَّذِي يَلِيهِ أَرْجَحُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
2 - بَاب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}
4899 -
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَثَارَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
قَوْلُهُ: بَابُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} حَسْبُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا اهْتِمَامًا بِالْأَهَمِّ، إِذْ كَانَتْ هِيَ سَبَبُ اللَّهْوِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِـ أَوْ لَا يُثَنَّى مَعَهُ الضَّمِيرُ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَوْ عَلَى بَابِهَا، فَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ جِيءَ بِضَمِيرِ التِّجَارَةِ دُونَ ضَمِيرِ اللَّهْوِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اخْتِلَافِ النَّقَلَةِ فِي سَبَبِ انْفِضَاضِهِمْ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) هُوَ الْحَوْضِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حُصَيْنُ) بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ) يَعْنِي كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ وَحْدَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى سَالِمٍ، وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ وَاسْمُهُ
طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ فَلَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ مَقْرُونًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ حَدِيثٌ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَرَنَهُ بِسَالِمٍ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ لَهُ حَدِيثَيْنِ آخَرِينَ فِي الْأَشْرِبَةِ مَقْرُونَيْنِ بِأَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَهَذَا جَمِيعُ مَا لَهُ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (أَقْبَلَتْ عِيرٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدِ.
قَوْلُهُ: (فَثَارَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا) وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ. وَوَقَعَ فِي الْكَشَّافِ: أَنَّ الَّذِينَ بَقُوا ثَمَانِيَةُ أَنْفُسٍ، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ لَا أَصْلَ لَهُمَا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَضَى اسْتِيفَاءُ الْقَوْلِ فِي هَذَا أَيْضًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
63 - سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - بَاب قَوْلُهُ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إِلَى {لَكَاذِبُونَ}
4900 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ.
[الحديث 4900 - أطرافه في: 4901، 4902، 4903، 4904]
قَوْلُهُ (سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). بَابُ قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَسَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ لَكَاذِبُونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَلِإِسْرَائِيلَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) سَيَأْتِي بَعْدُ بَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ تَصْرِيحُهُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ فِي غَزَاةٍ) زَادَ بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْرَائِيلَ مَعَ عَمِّي، وَهَذِهِ الْغَزَاةُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ كَعْبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ الْمَذْكُورَةِ: فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا لَمْ يَرْتَحِلْ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّهَا غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ طَرِيقِهِ ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآتِي ذِكْرُهُ صَدَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ أَنْ قَفَلُوا.
قَوْلُهُ: (فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ) هُوَ ابْنُ سَلُولٍ رَأْسُ النِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ) هُوَ كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَلَمْ يَقْصِدِ الرَّاوِي بِسِيَاقِهِ التِّلَاوَةَ، وَغَلِطَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَقَالَ: هَذَا وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قَالَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِحِكَايَةِ جَمِيعِ كَلَامِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَئِنْ رَجَعْنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَوْ رَجَعْنَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبَعْدَ الْوَاوِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُهُ يَقُولُ، وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ: وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ زَيْدٍ بَعْدَ بَابِ: وَقَالَ أَيْضًا: لَئِنْ رَجَعْنَا، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ سَبَبُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَفِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْآتِيَةِ لِعَمِّي بِلَا شَكٍّ، وَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ زَيْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَمِّهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَلَيْسَ عَمَّهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ سَيِّدُ قَوْمِهِ الْخَزْرَجِ، وَعَمُّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْحَقِيقِيُّ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَهُ صُحْبَةٌ، وَعَمُّهُ زَوْجُ أُمِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ خَزْرَجِيٌّ أَيْضًا. وَوَقَعَ فِي مَغَازِي أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ لِأَوْسِ بْنِ أَرْقَمَ فَذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَبَبُ الشَّكِّ فِي ذِكْرِ عُمَرَ، وَجَزَمَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ.
قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، إِلَّا أَنَّ الْقِصَّةَ مَشْهُورَةٌ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَرِيبًا مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ ذَكَرَهُ عَمِّي، وَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زَيْدٍ: فَأَخْبَرْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ، فَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِخْبَارَ مَجَازًا، لَكِنْ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّكَ أَخْطَأَ سَمْعُكَ، لَعَلَّكَ شُبِّهَ عَلَيْكَ، فَعَلَى هَذَا لَعَلَّهُ رَاسَلَ بِذَلِكَ أَوَّلًا عَلَى لِسَانِ عَمِّهِ ثُمَّ حَضَرَ هُوَ فَأَخْبَرَ.
قَوْلُهُ: (فَحَلَفُوا مَا قَالُوا) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: فَأَجْهَدَ يَمِينَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَجُمِعَ بِاعْتِبَارِ مَنْ مَعَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (فَكَذَّبَنِي) بِالتَّشْدِيدِ، فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: فَقَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا بِالتَّخْفِيفِ، وَرَسُولَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زَيْدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: أَتَى زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْكَذِبِ.
قَوْلُهُ: (وَصَدَّقَهُ) وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا: فَصَدَّقَهُمْ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَصَابَنِي هَمٌّ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي شِدَّةٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ زَيْدٍ: فَوَقَعَ عَلَيَّ من الهم ما لم يقع على أحد، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَنِمْتُ زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: فَنِمْتُ كَئِيبًا حَزِينًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: حَتَّى جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ مَخَافَةَ إِذَا رَآنِي النَّاسُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبْتَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ: فَقَالَ لِي عُمَرُ. قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَالصَّوَابُ عَمِّي كَمَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرْتُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي احْتِمَالَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَمَقَتَكَ) فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: فَلَامَنِي الْأَنْصَارُ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ: وَلَامَنِي قَوْمِي.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ أَبْصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوحَى إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ أَتَانِي فَعَرَكَ بِأُذُنِي
وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَلَحِقَنِي أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلَنِي فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: أَبْشِرْ. ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ.
قَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} زَادَ آدَمُ إِلَى قَوْلِهِ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مُخْتَصَرَةٌ حَيْثُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَنَزَلَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا} الْآيَةَ لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ: فَنَزَلَتْ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} حَتَّى بَلَغَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} .
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ) وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنِ الْغُلَامِ فَقَالَ: وَفَتْ أُذُنُكَ يَا غُلَامُ مَرَّتَيْنِ. زَادَ زُهَيْرٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ تَرْكُ مُؤَاخَذَةِ كُبَرَاءِ الْقَوْمِ بِالْهَفَوَاتِ لِئَلَّا يَنْفِرَ أَتْبَاعُهُمْ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مُعَاتَبَاتِهِمْ وَقَبُولِ أَعْذَارِهِمْ وَتَصْدِيقِ أَيْمَانِهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الْقَرَائِنُ تُرْشِدُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْنِيسِ وَالتَّأْلِيفِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَبْلِيغِ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمَقُولِ فِيهِ، وَلَا يُعَدُّ نَمِيمَةً مَذْمُومَةً إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِفْسَادَ الْمُطْلَقَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تُرَجَّحُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فَلَا.
2 - بَاب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا
4901 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا. وَقَالَ أَيْضًا: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا) قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنِي شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} قَالَ: يَجْتَنُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
ثم ساق حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ مُسْتَوْفًى.
3 - بَاب قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}
4902 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} وَقَالَ أَيْضًا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} أَخْبَرْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَامَنِي الْأَنْصَارُ، وَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ
فَنِمْتُ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ، وَنَزَلَ:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا} الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عبد الرحمن بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زَيْدٍ بن أرقم، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} سَاقَ إِلَى قَوْلِهِ: {لا يَفْقَهُونَ} .
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ عَلَى لِسَانِ عَمِّي جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَيْضًا أَخْبَرَ حَقِيقَةً بَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
بِضَمِّ هَمْزَةِ أُتِيَ؛ أَيْ بِالْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ قَبْلُ.
قَوْلُهُ فِيهِ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) كَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فَقَالَ: عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَكَأَنَّ لِعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فِيهِ شَيْخَيْنِ.
4903 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ. قَالُوا: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل تَصْدِيقِي فِي:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قَالَ: كَانُوا رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الْآيَةَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى يُؤْفَكُونَ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل تَصْدِيقِي في: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ، فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءوسَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ: خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، قَالَ: كَانُوا رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وَخُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ تَمْثِيلٌ لِأَجْسَامِهِمْ، وَوَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مُدْرَجًا، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زُهَيْرٍ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ خُشُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ الشِّينِ.
(1)
كذا بالنسخ
4 - بَاب قَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}
حَرَّكُوا: اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ
4904 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَه عَمِّي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وصدقهم، فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، وَكَذَّبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَصَابَنِي غَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، وَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهَا وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - مُسْتَكْبِرُونَ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ كُلَّهَا. فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تُبْ. فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: (حَرَّكُوا: اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ) يَعْنِي لَوَوْا، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا مَضَى بَيَانُهُ، وَوَقَعَ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ مُخْتَصَرًا مِنْ أَثْنَائِهِ، وَسَاقَهُ أَبُو ذَرٍّ تَامًّا إِلَّا قَوْلَهُ: وَصَدَّقَهُمْ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ الَّذِي أَوْرَدَهُ خُصُوصُ مَا تَرْجَمَ بِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ: فَقَالَ قَوْمٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَغْفَرَ لَكَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، فَنَزَلَتْ. وَكَذَا أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَمنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
5 - بَاب قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
4905 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ - قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ - فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ. قَالَ سُفْيَانُ: فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . .
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ} لَهُمْ. . . الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ الَّتِي فِي التَّوْبَةِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) وَقَعَ فِي آخِرِ الْبَابِ: قَالَ سُفْيَانُ: فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، قَالَ: فَذَكَرَهُ، وَوَقَعَ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ الْآتِيَةُ بَعْدَ بَابِ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو.
قَوْلُهُ: (كُنَّا فِي غَزَاةٍ - قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ) وَسَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْغَزَاةَ غَزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَذَا فِي مُرْسَلِ عُرْوَةَ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَسَعَ رَجُلٌ) الْكَسْعُ يَأْتِي تَفْسِيرُهُ بَعْدَ بَابٍ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ أَنَّهُ ضَرْبُ الدُّبُرِ بِالْيَدِ أَوْ بِالرِّجْلِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بِرِجْلِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْيَمَنِ شَدِيدٌ، وَالرَّجُلُ الْمُهَاجِرِيُّ هُوَ جَهْجَاهُ بْنُ قَيْسٍ - وَيُقَالُ: ابْنُ سَعِيدٍ - الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُودُ لَهُ فَرَسَهُ، وَالرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ هُوَ سِنَانُ بْنُ وَبَرَةَ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ كَانَ مِنْ غِفَارٍ، وَسَمَّاهُمَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنْ شُيُوخِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ وَهِيَ الَّتِي هَدَمَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَاةَ الطَّاغِيَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قَفَا الْمُشَلَّلِ وَبَيْنَ الْبَحْرِ فَاقْتَتَلَ رَجُلَانِ فَاسْتَعْلَى الْمُهَاجِرِيُّ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، فَتَدَاعَوْا إِلَى أَنْ حُجِزَ بَيْنَهُمْ، فَانْكَفَأَ كُلُّ مُنَافِقٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالُوا: كُنْتَ تُرْجَى وَتَدْفَعُ، فَصِرْتَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ! فَقَالَ:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.
وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الطُّرُقُ عَلَى أَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ وَاحِدٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَنَادَى الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هَذَا؟ أَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ! قَالُوا: لَا، إِنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرَنَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا الْحَدِيثَ. وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بَيَانٌ لِأَحَدِ الْغُلَامَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ؛ غُلَامٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَحَذَفَ لَفْظَ غُلَامٍ مِنَ الْأَوَّلِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ: فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ فَأَفْرَدَهُ، فَتَتَوَافَقُ الرِّوَايَاتُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا بَأْسَ جَوَازُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ بِالْقَصْدِ الْمَذْكُورِ وَالتَّفْصِيلِ الْمُبَيَّنِ، لَا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نُصْرَةِ مَنْ يَكُونُ مِنَ الْقَبِيلَةِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا مُسْتَوْفًى فِي بَابِ أَعِنْ أَخَاكَ مِنْ كِتَابِ الْمَظَالِمِ.
قَوْلُهُ: (يَا لَلْأَنْصَارِ!) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهِيَ لِلِاسْتِغَاثَةِ؛ أَيْ: أَغِيثُونِي. وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!
قَوْلُهُ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)؛ أَيْ: دَعْوَةُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْكَسْعَةُ. وَمُنْتِنَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ مِنَ النَّتْنِ؛ أَيْ أَنَّهَا كَلِمَةٌ قَبِيحَةٌ خَبِيثَةٌ، وَكَذَا ثَبَتَتْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَعَلُوهَا؟) هُوَ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ؛ أَيْ:
أَفَعَلُوهَا؟ أَيِ الْأَثَرَةَ؛ أَيْ شَرِكْنَاهُمْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَأَرَادُوا الِاسْتِبْدَادَ بِهِ عَلَيْنَا. وَفِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَظِيمُ النِّفَاقِ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَقَدْ فَعَلُوهَا؟ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا، وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ) فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: فَقَالَ عُمَرُ: مُرْ مُعَاذًا أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مُعَاذًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَوْمِهِ.
قَوْلُهُ: (دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)؛ أَيْ أَتْبَاعَهُ، وَيَجُوزُ فِي يَتَحَدَّثَ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْكَسْرِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَفِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ: مُرْ بِهِ مُعَاذَ بْنَ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ. فَرَاحَ فِي سَاعَةٍ مَا كَانَ يَرْحَلُ فِيهَا، فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ. قَالَ: وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ أَبِي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلْ إِلَيْكَ رَأْسَهُ. فَقَالَ: بَلْ تُرْفِقُ بِهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ. قَالَ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: كَيْفَ تَرَى؟ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ وَالِدِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَذَرْنِي حَتَّى أَقْتُلَهُ. قَالَ: لَا تَقْتُلْ أَبَاكَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ) هَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ تَقَدُّمَ الْقِصَّةِ، وَيُوَضِّحُ وَهْمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَبُوكَ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ حِينَئِذٍ كَانُوا كَثِيرًا جِدًّا، وَقَدِ انْضَافَتْ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانُوا حِينَئِذٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب قَوْلُهُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَنْفَضُّوا: يَتَفَرَّقُوا
باب: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}
4906 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي - يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَسَأَلَ أَنَسًا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} كَذَا لَهُمْ، وَزَادَ أَبُو ذَرٍّ: الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (يَنْفَضُّوا: يَتَفَرَّقُوا) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَنْفَضُّوا: حَتَّى يَتَفَرَّقُوا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ سَبَبُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: لَا تُنْفِقُوا. . . الْآيَةَ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُنْفِقُوا كَانَ سَبَبُهُ الشِّدَّةُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ، وَقَوْلُهُ:{لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} سَبَبُهُ مُخَاصَمَةُ الْمُهَاجِرِيِّ وَالْأَنْصَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (الْكَسْعُ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ بِرِجْلِكَ، وَيَكُونُ أَيْضًا إِذَا رَمَيْتَهُ بِسُوءٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَحَقُّ هَذَا أَنْ يُذْكَرَ قَبْلَ
الْبَابِ أَوْ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، لِأَنَّ الْكَسْعَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْكَسْعُ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ عَلَى دُبُرِ شَيْءٍ أَوْ بِرِجْلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنْ تَضْرِبَ عَجُزَ إِنْسَانٍ بِقَدَمِكَ، وَقِيلَ: الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْمُؤَخَّرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: كَسَعَ الْقَوْمَ ضَرَبَ أَدْبَارَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَكَسَعَ الرَّجُلَ ضَرَبَ دُبُرَهُ بِظَهْرِ قَدَمِهِ، وَكَذَا إِذَا تَكَلَّمَ فَأَثَّرَ كَلَامُهُ بِمَا سَاءَهُ، وَنَحْوُهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ)؛ أَيِ ابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الرَّاوِي عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ) هُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ مِنَ الْحُزْنِ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: مِنْ قَوْمِي، وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَسَبَبُهَا أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَلَعُوا بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا يَتَعَمَّدُهُ مِنَ الْفَسَادِ
(1)
، فَأَمَّرَ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَأَمَّرَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ الْعَدَوِيَّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فَهَزَمَهُمْ وَاسْتَبَاحُوا الْمَدِينَةَ وَقَتَلُوا ابْنَ حَنْظَلَةَ، وَقُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا. وَكَانَ أَنَسٌ يَوْمَئِذٍ بِالْبَصْرَةِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَحَزِنَ عَلَى مَنْ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - وَكَانَ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ - يُسَلِّيهِ، وَمُحَصَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَصِيرُ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَا يَشْتَدُّ الْحُزْنُ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأَنَسٍ فِيهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ أُصِيبَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَنِي عَمِّهِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبُشْرَى مِنَ اللَّهِ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ الْأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ ذَرَارِيِّهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَسَأَلَ أَنَسًا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ) هَذَا السَّائِلُ لَمْ أَعْرِفِ اسْمَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ؛ فَإِنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ كَمَا تَرَى، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ: فَسَأَلَ أَنَسٌ بَعْضَ، بِالنَّصْبِ، وَأَنَسٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْئُولَ أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ)؛ أَيْ بِسَمْعِهِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا، أَيْ أَظْهَرَ صِدْقَهُ فِيمَا أَعْلَمَ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَوْفَى صِدْقَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ: وَفَّى اللَّهُ بِأُذُنِكَ يَا غُلَامُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ أُذُنَهُ ضَامِنَةً بِتَصْدِيقِ مَا ذَكَرَتْ أَنَّهَا سَمِعَتْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ صَارَتْ كَأَنَّهَا وَافِيَةٌ بِضَمَانِهَا.
(تَكْمِيلٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ. وَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَحَدَهُ الْقَائِلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الْآيَةَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْدِيقًا لِزَيْدٍ، انْتَهَى. وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ فِي الْقِصَّتَيْنِ فِي تَصْدِيقِ زَيْدٍ.
(1)
بلغهم ذلك من الدعاة الذين بثهم عبدالله بن مطيع داعية عبدالله بن الزبير، وهذه الدعابات كانت مفرضة ولاجل المزاحة على الملك، كما صارحهم بذلك عبدالله بن عمر ومحمد بن على بن أبي طالب وزين العابدين على بن الحسين، ونصحوهم بالكف عن ذلك لما يترتب عليه من سوء العواقب، وأخذهم أن ذلك مخالف لآداب الاسلام وسنته.
4907 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ، ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوا؟ وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ إِلَى (يَعْلَمُونَ).
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَاضِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ بِبَابٍ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمَّا أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: وَاللَّهِ لَا يَنْقَلِبُ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى تَقُولَ إِنَّكَ أَنْتَ الذَّلِيلَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَزِيزُ، فَفَعَلَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَخْرَجَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنْ شُيُوخِهِ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ.
64 - سُورَةُ التَّغَابُنِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ بِهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ. إِنِ ارْتَبْتُمْ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَتَحِيضُ أَمْ لَا تَحِيضُ، فَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الْمَحِيضِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فَعِدَّتُهُم ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ التَّغَابُنِ وَالطَّلَاقِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ: وَالطَّلَاقِ بَلِ اقْتَصَرُوا عَلَى التَّغَابُنِ وَأَفْرَدُوا الطَّلَاقَ بِتَرْجَمَةٍ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ.
قوله: (وَقَالَ عَلْقَمَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إِلَخْ)؛ أَيْ يَهْتَدِي إِلَى التَّسْلِيمِ فَيَصْبِرُ وَيَشْكُرُ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ مِثْلَهُ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ الْبَرْقَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: شَهِدْنَا عِنْدَهُ - يَعْنِي عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ - عَرْضَ الْمَصَاحِفِ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قَالَ: هِيَ الْمُصِيبَاتُ تُصِيبُ الرَّجُلَ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُسَلِّمْ وَيَرْضَى. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعْنَى يَهْدِي قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ
النَّارِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَغَبَنَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: يَوْمُ التَّغَابُنِ يَوْمُ غَبْنِ أَهْلِ النَّارِ؛ أَيْ لِكَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَايَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْجَنَّةِ فَرَبِحُوا وَأَهْلِ النَّارِ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ فَخَسِرُوا، فَشُبِّهُوا بِالْمُتَبَايِعَيْنِ يَغْبِنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي بَيْعِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ النَّارَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً.
65 - سورة الطلاق،
وقال مجاهد {وبال أمرها} : جزاء أمرها
1 - باب
4908 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَه اللَّهُ.
[الحديث 4908 - أطرافه في: 5251، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 7160]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الطَّلَاقِ) كَذَا لَهُمْ، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَبَالَ أَمْرِهَا} جَزَاءَ أَمْرِهَا) كَذَا لَهُمْ، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ أَيْضًا، وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَتَحِيضُ أَمْ لَا تَحِيضُ، فَاللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الْمحَيْضِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ عَقِبَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي التَّغَابُنِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ: الَّتِي كَبِرَتْ وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغْ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قوله: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) كذا للجميع، وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ: وَاحِدُهَا ذَاتُ حَمْلٍ
4909 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ. قُلْتُ أَنَا: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي؛ يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا.
[الحديث 4909 - طرفه في: 5318]
4910 -
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ فَذَكَرُوا لَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الأَجَلَيْنِ فَحَدَّثْتُ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ فَضَمَّزَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ فَفَطِنْتُ لَهُ فَقُلْتُ إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ لَكِنْ عَمُّهُ لَمْ يَقُلْ ذَاكَ فَلَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ فَسَأَلْتُهُ فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي حَدِيثَ سُبَيْعَةَ فَقُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى {وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
قَوْلُهُ: (وَأُولَاتُ: وَاحِدُهَا ذَاتُ حَمْلٍ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (آخِرُ الْأَجَلَيْنِ)؛ أَيْ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَوْ وَضَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ تَضَعْ تَتَرَبَّصْ إِلَى أَنْ تَضَعَ. وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَنُقِلَ عَنْ سَحْنُونٍ أَيْضًا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي امْرَأَةٍ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِعِشْرِينَ لَيْلَةً: أَيَصْلُحُ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ قَالَ: لَا، إِلَى آخِرِ الْأَجَلَيْنِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الطَّلَاقِ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَوْضَحُ لِمَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْأَخْفَى عَلَى الْأَجْلَى، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ قَالَ: هِيَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَهَذَا الْمَرْفُوعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَسَانِيدِهِ عَنْ مَقَالٍ لَكِنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهِ تُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَيُعَضِّدُهُ قِصَّةُ سُبَيْعَةَ الْمَذْكُورَةُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي؛ يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ)؛ أَيْ وَافَقَهُ فِيمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ كُرَيْبًا) هَذَا السِّيَاقُ ظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجُمَعِ أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ ذَكَرَهُ فِي الْأَطْرَافِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي عِنْدَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ: فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا فَسَأَلَهَا لَمْ يَذْكُرْ لَهَا اسْمًا، كَذَا قَالَ. وَالَّذِي وَقَعَ لَنَا وَوَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَقَدْ سَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ اجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ الْمَرْأَةَ تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِدَّتُهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَدْ حَلَّتْ، فَجَعَلَا يَتَنَازَعَانِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، فَبَعَثُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ لِأُمِّ سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ) كَذَا هُنَا، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَ يَةِ أَنَّهُ مَاتَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَاسْتَغْنَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بِسِيَاقِ قِصَّةِ سُبَيْعَةَ عَنِ الْجَوَابِ بِلَا أَوْ نَعَمْ، لَكِنَّهُ اقْتَضَى تَصْوِيبَ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ قِصَّةِ سُبَيْعَةَ فِي كِتَابِ الْعِدَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ) وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِعَارِمٍ، كِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي التَّعْلِيقِ،
وَأَغْفَلَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ ثُبُوتِهِ هُنَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ بِلَفْظِهِ، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: جَلَسْتُ إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِيهِ عَظِمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرُوا لَهُ، فَذَكَرَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ)؛ أَيْ ذَكَرُوا لَهُ الْحَامِلَ تَضَعُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا.
قَوْلُهُ: (فَحَدَّثْتُ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ)؛ أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ بِتَمَامِهَا، وَكَذَا صَنَعَ أَبُو نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (فَضَمَّزَ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَمِيمٍ ثَقِيلَةٍ وَزَايٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَمَعْنَاهُ: أَشَارَ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ، ضَمَّزَ الرَّجُلُ إِذَا عَضَّ عَلَى شَفَتَيْهِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهَا بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيِ انْقَبَضَ. وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ شُيُوخِ أَبِي ذَرٍّ وَكَذَا عِنْدَ الْقَابِسِيِّ بِنُونٍ بَدَلَ الزَّايِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ: وَرِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَصْوَبُ، يُقَالُ ضَمَّزَنِي أَسْكَتَنِي، وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ: فَغَمَّضَ لِي؛ أَيْ أَشَارَ بِتَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ أَنِ اسْكُتْ.
قُلْتُ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَجِّهَهُ بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَفَطِنْتُ لَهُ وَقَوْلُهُ: فَاسْتَحْيَا فَلَعَلَّهَا: فَغَمَزَ؛ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ بَدَلَ الضَّادِ، أَوْ: فَغَمَصَ؛ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ فِي آخِرِهِ، أَيْ عَابَهُ. وَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ الْمَنْسُوبَةَ لِابْنِ السَّكَنِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: إِنِّي لَحَرِيصٌ عَلَى الْكَذِبِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كَذَبْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ حَيٌّ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَحْيَا)؛ أَيْ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (لَكِنَّ عَمَّهُ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ (لَمْ يَقُلْ ذَاكَ) كَذَا نَقَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ خِلَافَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ، أَوْ وَهِمَ النَّاقِلُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ) فِي رِوَايَةٍ ابْنَ عَوْفٍ: مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ أَوْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بِالشَّكِّ، وَالْمَحْفُوظُ مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اسْمِهِ، وَالْقَائِلُ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ كَأَنَّهُ اسْتَغْرَبَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَثْبَتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: فَلَمْ أَدْرِ مَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ فَسَكَتَ، فَلَمَّا قُمْتُ لَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي حَدِيثَ سُبَيْعَةَ)؛ أَيْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ عَنْهَا.
قَوْلُهُ: (هَلْ سَمِعْتَ) أَرَادَ اسْتِخْرَاجَ مَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنَ التَّوَقُّفِ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ) ابْنِ مَسْعُودٍ (فَقَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَيُّوبَ: فَقَالَ أَبُو عَطِيَّةَ: ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ) فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ: وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا وَهِيَ أَوْجَهُ، وَتُحْمَلُ الْأُولَى عَلَى الْمُشَاكَلَةِ؛ أَيْ مِنَ الْأَخْذِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ: (لَنَزَلَتْ) هُوَ تَأْكِيدٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ بَيَانُهُ، وَلَفْظُهُ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى)؛ أَيْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادُ بَعْضَ كُلٍّ، فَمِنَ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَمِنَ الطَّلَاقِ قَوْلُهُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَمُرَادُ ابْنُ مَسْعُودٍ إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَسْخٌ
فَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ، وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَا نَسْخَ هُنَاكَ، بَلْ عُمُومُ آيَةِ الْبَقَرَةِ مَخْصُوصٌ بِآيَةِ الطَّلَاقِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عَلِيًّا يَقُولُ: تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ أَنَّ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى أُنْزِلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَعُرِفَ بِهَذَا مُرَادُهُ بِسُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، وَفِيهِ جَوَازُ وَصْفِ السُّورَةِ بِذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: لَا أَرَى قَوْلَهُ الْقُصْرَى مَحْفُوظًا، وَلَا يُقَالُ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ قُصْرَى وَلَا صُغْرَى، انْتَهَى. وَهُوَ رَدٌّ لِلْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَالْقِصَرُ وَالطُّولُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: طُولَى الطُّولَيَيْنِ وَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ.
66 - سُورَةُ التَّحْرِيمِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4911 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ ابْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ فِي الْحَرَامِ يُكَفَّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الحديث 4911 - طرفه في: 5266]
4912 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ قَالَ: "لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"
[الحديث 4912 - أطرافه في: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 5682، 6691، 6972]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ التَّحْرِيمِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: التَّحْرِيمُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْبَسْمَلَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَةَ) سَقَطَ بَابُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَاقُوا الْآيَةَ إِلَى رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ) هُوَ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِأَنَّ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيَّ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيِّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ مُسَمًّى؛ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ يَحْيَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ: هِشَامٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ الْجَيَّانِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ. قُلْتُ: سَقَطَ عَلَيْهِ لَفْظَةُ عَنْ بَيْنَ يَحْيَى، وَابْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: وَرِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ رَافِعَةٌ لِلنِّزَاعِ.
قُلْتُ: وَسَمَّاهُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (فِي الْحَرَامِ يُكَفِّرُ)؛ أَيْ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، لَا تُطَلَّقُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَفِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَةِ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ يُكَفِّرُ ضُبِطَ بِكَسْرِ الْفَاءِ؛ أَيْ يُكَفِّرُ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ وَحْدَهُ: يَمِينٌ تُكَفَّرُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ. وَالْغَرَضُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ فِيهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَإِلَى قَوْلِهِ فِيهَا:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي الْقِصَّةِ الْآتِيَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: فَعَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ لَهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِتَحْرِيمِهِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ شُرْبِهِ صلى الله عليه وسلم الْعَسَلَ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ. وَوَقَعَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مَسْرُوقٍ قَالَ: حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَفْصَةَ لَا يَقْرَبُ أَمَتَهُ، وَقَالَ: هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ. فَنَزَلَتِ الْكَفَّارَةُ لِيَمِينِهِ، وَأُمِرَ أَنْ لَا يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُدْرَجَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. وَأَخْرَجَ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ مُسْنَدِ الْهَيْثَمِ بْنِ كُلَيْبٍ ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَفْصَةَ: لَا تُخْبِرِي أَحَدًا أَنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيَّ حَرَامٌ.
قَالَ: فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَارِيَةَ بَيْتَ حَفْصَةَ، فَجَاءَتْ فَوَجَدَتْهَا مَعَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي بَيْتِي تَفْعَلُ هَذَا مَعِي دُونَ نِسَائِكَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بَيْتَهَا فَوَجَدَتْهُ يَطَأُ مَارِيَةَ، فَعَاتَبَتْهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّبَبَيْنِ مَعًا، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الْآيَةَ.
4912 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَوَاطَأتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَن أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا.
سَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ عَائِشَةَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - باب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
4913 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ. قَالَ: فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي، فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا، فِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ. فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ.
فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ. فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا ك سَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا. وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ. فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؛ اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ. فَقُلْتُ: رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ. فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَأَذِنَ لِي.
قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُورا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ قَوْلُهُ: (بَابُ: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) كَذَا لَهُمْ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ الْآيَةِ الْأُولَى وَحَذْفِ بَقِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَكَمَّلَهَا أَبُو ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي قِصَّةِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي النِّكَاحِ مُخْتَصَرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمُطَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقِ هُنَا مِنَ الزِّيَادَةِ مُرَاجَعَةُ امْرَأَةِ عُمَرَ لَهُ وَدُخُولُهُ عَلَى حَفْصَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِطُولِهِ، وَدُخُولُ عُمَرَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ. وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْأُخْرَى قِصَّةَ اعْتِزَالِهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَفِي آخِرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي التَّخْيِيرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَاللَّهِ أنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ ; قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ: قِيلَ لَا بُدَّ مِنَ اللَّامِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِرَفْعِ حُبُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ أَعْجَبَ، وَيَجُوزُ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ؛ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لَهَا. وَقَوْلُهُ فِيهِ: قَرَظًا مَصْبُورًا؛ أَيْ مَجْمُوعًا مِثْلَ الصُّبْرَةِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مَصْبُوبًا بِمُوَحَّدَتَيْنِ.
فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
4914 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلَامِي حَتَّى قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ * إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - إِلَى - الْخَبِيرُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ غَيْرُهُ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهَا الْمَذْكُورِ قَبْلُ بِبَابٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ.
4 - بَاب: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
صَغَوْتُ وَأَصْغَيْتُ: مِلْتُ، لِتَصْغَى: لِتَمِيلَ. {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عَوْنٌ؛ تَظَاهَرُونَ: تَعَاوَنُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} أَوْصُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَدِّبُوهُمْ
4915 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أردت أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَكَثْتُ سَنَةً فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَوْضِعًا، حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ حَاجًّا، فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرَانَ ذَهَبَ عُمَرُ لِحَاجَتِهِ، فَقَالَ: أَدْرِكْنِي بِالْوَضُوءِ. فَأَدْرَكْتُهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَجَعَلْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ مَوْضِعًا فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا أَتْمَمْتُ كَلَامِي حَتَّى قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صَغَوْتُ وَأَصْغَيْتُ: مِلْتُ، لِتَصْغَى: لِتَمِيلَ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} لِتَمِيلَ، مِنْ صَغَوْتُ إِلَيْهِ مِلْتُ إِلَيْهِ، وَأَصْغَوْتُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَيْ عَدَلَتْ وَمَالَتْ.
قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عَوْنٌ كَذَا لَهُمْ، وَاقْتَصَرَ أَبُو ذَرٍّ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ: ظَهِيرٌ: عَوْنٌ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْفَرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (تَظَاهَرُونَ تَعَاوَنُونَ) كَذَا لَهُمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: تَظَاهَرَا تَعَاوَنَا، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} تَعَاوَنَا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} أَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَدِّبُوهُمْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: أَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: مُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَانْهَوْهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ، وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ: عَلِّمُوا أَهْلِيكُمْ خَيْرًا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا: أَوْصُوا؛ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ، مِنَ الْإِيصَاءِ. وَسَقَطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلنَّسَفِيِّ، وَذَكَرَهَا ابْنُ التِّينِ بِلَفْظِ: قُوا أَهْلِيكُمْ أَوْ قِفُوا أَهْلِيكُمْ، وَنَسَبَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هَكَذَا لِلْقَابِسِيِّ، وَابْنِ السَّكَنِ، قَالَ: وَعِنْدَ الْأَصِيلِيِّ أَوْصُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ الْقَابِسِيُّ: صَوَابُهُ أَوْفِقُوا قَالَ: وَنَحْوُ ذَلِكَ ذَكَرَ النَّحَّاسُ، وَلَا أَعْرِفُ لِلْأَلِفِ مِنْ أَوْ
وَلَا لِلْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فِقُوا وَجْهًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَلَعَلَّ الْمَعْنَى أَوْقِفُوا بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ؛ أَيْ أَوْقِفُوهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ: لَكِنَّ الصَّوَابَ عَلَى هَذَا حَذْفُ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ مِنْ وَقَفَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْفَقُوا - يَعْنِي بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْقَافِ - لَا تَعْصُوا فَيَعْصُ ا، مِثْلَ لَا تَزِنُ فَيَزِنُ أَهْلُكَ، وَتَكُونُ أَوْ عَلَى هَذَا لِلتَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى: إِمَّا أَنْ تَأْمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالتَّقْوَى أَوْ فَاتَّقُوا أَنْتُمْ فَيَتَّقُوا هُمْ تَبَعًا لَكُمُ، انْتَهَى. وَكُلُّ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ نَشَأَتْ عَنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْصُوا بِالصَّادِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَيْضًا طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمْرَ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ.
4916 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الْآيَةَ، ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي مُوَافَقَاتِهِ، وَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى قِصَّةِ الْغَيْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ تَامًّا، وَذَكَرْنَا كُلَّ مُوَافَقَةٍ مِنْهَا فِي بَابِهَا، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
67 - سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
التَّفَاوُتُ: الِاخْتِلَافُ. وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ. تَمَيَّزُ: تَقَطَّعُ. مَنَاكِبِهَا: جَوَانِبِهَا. تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ واحد، مِثْلُ تَذَكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ. وَيَقْبِضْنَ: يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَافَّاتٍ: بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ. وَنُفُورٍ: الْكُفُورُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (التَّفَاوُتُ الِاخْتِلَافُ، وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ تَعَهَّدْتُهُ وَتَعَاهَدْتُهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: مِنْ تَفَوُّتٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ. وَالتَّفَاوُتُ الِاخْتِلَافُ؛ يَقُولُ: هَلْ تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اخْتِلَافٍ؟ وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيَاسٌ مُتَفَاوِتٌ فَلَيْسَ مُتَبَايِنًا، وَتَفَوَّتَ فَاتَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (تَمَيَّزُ: تَقَطَّعُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أَيْ: تَقَطَّعُ عَلَيْهِمْ غَيْظًا.
قَوْلُهُ: (مَنَاكِبِهَا: جَوَانِبِهَا) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَيْ جَوَانِبِهَا، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ.
قَوْلُهُ: (تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ وَاحِدٌ، مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يُرِيدُ تَدْعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ، قَالَ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أَيْ تَدَّعُونَ بِهِ وَتُكَذِّبُونَ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ غَوْرًا غَائِرًا، يُقَالُ لَا تَنَالُهُ
الدِّلَاءُ، كُلُّ شَيْءٍ غِرْتَ فِيهِ فَهِيَ مَغَارَةٌ، مَاءٌ غَوْرٌ وَبِئْرٌ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْرِ، وَهَؤُلَاءِ زَوْرٌ وَهَؤُلَاءِ ضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافٌ وَزُوَّارٌ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ قَوْمٍ عَدْلٍ وَقَوْمٍ رِضًا وَمَقْنَعٌ) ثَبَتَ هَذَا عِنْدَ النَّسَفِيِّ هُنَا، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَوَقَعَ أَكْثَرُهُ لِلْبَاقِينَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَهُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ مَاءٌ غَوْرٌ إِلَى وَمَقْنَعٌ، لَكِنْ قَالَ بَدَلَ بِئْرٍ غَوْرٍ مَاءٌ غَوْرٌ، وَزَادَ: وَلَا يَجْمَعُونَ غَوْرٌ وَلَا يُثَنُّونَهُ، وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَأَمَّا أَوَّلُ الْكَلَامِ فَهُوَ مِنْ
…
(1)
وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} فِي بِئْرِ زَمْزَمَ وَبِئْرِ مَيْمُونِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَكَانَتْ جَاهِلِيَّةٌ، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: وَكَانَتْ آبَارُ مَكَّةَ تَغُورُ سِرَاعًا.
قَوْلُهُ: {وَيَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ هُنَا وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَافَّاتٍ؛ بَسْطُ أَجْنِحَتِهُنَّ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَنُفُورٍ الْكُفُورُ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} قَالَ: كُفُورٍ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ: وَنُفُورٍ تَفُورُ كَقِدْرٍ؛ أَيْ: بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} قَالَ: وَهِيَ أَوْجَهُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هَذَا أَوْلَى، وَمَا عَدَاهُ تَصْحِيفٌ، فإِنَّ تَفْسِيرَ نُفُورٍ بِالنُّونِ بِكُفُورٍ بَعِيدٌ. قُلْتُ: اسْتَبْعَدَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَعْنًى فَلَا يُفَسَّرُ بِالذَّاتِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي يَلِجُّ فِي عُتُوِّهِ وَنُفُورِهِ هُوَ الْكَفُورُ.
68 - سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ قَتَادَةُ: حَرْدٍ جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَافَتُونَ؛ يَنْتَجُونَ السِّرَارَ وَالْكَلَامَ الْخَفِيَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنا لَضَالُّونَ؛ أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَالصَّرِيمِ؛ كالصُّبْحُ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ انْصَرَمَ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ. وَالصَّرِيمُ أَيْضًا الْمَصْرُومُ، مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {ن * وَالْقَلَمِ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتْ سُورَةُ وَالْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْمَشْهُورُ فِي ن أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي الْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ، وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْحُوتُ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ وَالْحُوتَ، قَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: ن وَالْقَلَمِ. فَالنُّونُ: الْحُوتُ، وَالْقَلَمُ: الْقَلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: حَرْدٍ؛ جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ) هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الِاجْتِهَادُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَضُبِطَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: كَانَتِ الْجَنَّةُ لِشَيْخٍ، وَكَانَ يُمْسِكُ قُوتَهُ سَنَةً وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَكَانَ بَنُوهُ يَنْهَوْنَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُمْ غَدَوْا عَلَيْهَا فَقَالُوا: لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يَقُولُ: عَلَى جِدٍّ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى فَاقَةٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ لِأَبِيهِمْ جَنَّةٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَى أَنْ قَالَ:{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} قَالَ: أَمْرٌ مُجْتَمِعٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي حَرْدٍ إِنَّهَا اسْمُ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ فِيهِ أَقْوَالًا أُخْرَى: الْقَصْدُ وَالْمَنْعُ وَالْغَضَبُ وَالْحِقْدُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَافَتُونَ؛ يَنْتَجُونَ السِّرَارَ وَالْكَلَامَ الْخَفِيِّ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ هُنَا، وَثَبَتَ
(1)
بياض بأصله
لِلْبَاقِينَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِنَّا لَضَالُّونَ}؛ أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}: أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ، مَا هَذِهِ جَنَّتُنَا.
(تَنْبِيهٌ):
زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ: ضَلَلْنَا؛ بِغَيْرِ أَلِفٍ، تَقُولُ: ضَلَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلْتَهُ فِي مَكَانٍ ثُمَّ لَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا ضَيَّعْتَهُ، انْتَهَى. وَالَّذِي وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ صَحِيحُ الْمَعْنَى، عَمِلْنَا عَمَلَ مَنْ ضَيَّعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ أَوَّلِ أَضْلَلْنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: كَالصَّرِيمِ؛ كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ انْصَرَمَ مِنَ النَّهَارِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} النَّهَارُ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ انْصَرَمَ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الصَّرِيمُ اللَّيْلُ الْمُسْوَدُّ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الرَّمْلَةُ تَنْصَرِمُ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ فَيُقَالُ: صَرِيمَةٌ، وَصَرِيمَةُ أَمْرِكَ قَطْعُهُ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّرِيمُ أَيْضًا الْمَصْرُومُ، مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ) هُوَ مَحْصُلُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ؛ كَأَنَّهَا قَدْ صُرِمَتْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّرِيمَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَعَانٍ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى انْفِصَالِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْفِعْلِ فَيُقَالُ: صَرِيمٌ؛ بِمَعْنَى مَصْرُومٌ.
(تَكْمِيلٌ): قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: أَخْبَرَنِي تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: هِيَ - يَعْنِي الْجَنَّةَ الْمَذْكُورَةَ - أَرْضٌ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا: صِرْفَانُ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ سِتَّةُ أَمْيَالٍ.
قَوْلُهُ: {تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} تُرَخِّصُ فَيُرَخِّصُونَ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ أَيْضًا فِي الْمُسْتَخْرَجِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى تَلِينُ فَيَلِينُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مِنَ الْمُدَاهَنَةِ.
قَوْلُهُ: (مَكْظُومٌ وَكَظِيمٌ: مَغْمُومٌ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ، وَرَأَيْتُهُ أَيْضًا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مِنَ الْغَمِّ مِثْلُ كَظِيمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {مَكْظُومٌ} قَالَ: مَغْمُومٌ.
1 - باب: (عتل بعد ذلك زنيم)
4917 -
حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة.
4918 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَابَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر"
[الحديث 4918 - طرفاه في: 6071، 6657]
قَوْلُهُ: (بَابُ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} اخْتُلِفَ فِي الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقِيلَ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ ذَكَرَهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقِيلَ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، عَنِ الْقُتَيْبِيِّ، وَحَكَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: يُقَالُ: هُوَ الْأَخْنَسُ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ الْأَسْوَدُ وَلَيْسَ بِهِ، وَأَبْعَدَ
مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ؛ فَإِنَّهُ يَصْغُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ: مُحَمَّدٌ، وَكَأَنَّهُ الذُّهْلِيَّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْمُصَنِّفِ، وَرُبَّمَا حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَالَّذِي هُنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ) لِإِسْرَائِيلَ فِيهِ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى أَيْضًا وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ: الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاةِ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ فِي آخِرِهِ: يُعْرَفُ بِهَا، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْمَذْكُورَةِ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُعِتَ فَلَمْ يُعْرَفْ، حَتَّى قِيلَ: زَنِيمٌ؛ فَعُرِفَ، وَكَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ يُعْرَفُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الزَّنِيمُ؛ الْمُعَلَّقُ فِي الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
زَنِيمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ أَبُوهُ
وَقَالَ حَسَّانُ:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ
قَالَ: وَيُقَالُ لِلتَّيْسِ زَنِيمٌ لَهُ زَنَمَتَانِ.
4918 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ) هُوَ الْجُدُلِيُّ؛ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَثَالِثٍ يَأْتِي فِي الطِّبِّ.
قَوْلُهُ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبِفَتْحِهَا وَهُوَ أَضْعَفُ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مُسْتَضْعَفٌ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْحَاكِمِ: الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ: الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ، ذُو الطِّمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ مَنْ نَفْسُهُ ضَعِيفَةٌ لِتَوَاضُعِهِ وَضَعْفِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُسْتَضْعَفُ الْمُحْتَقَرُ لِخُمُولِهِ فِي الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (عُتُلٍّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا لَامٌ ثَقِيلَةٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: الْجَافِي عَنِ الْمَوْعِظَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعُتُلُّ الْفَظُّ الشَّدِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا الْكَافِرُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: الْعُتُلُّ الْفَاحِشُ الْآثِمُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعُتُلُّ الْغَلِيظُ الْعَنِيفُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: السَّمِينُ الْعَظِيمُ الْعُنُقِ وَالْبَطْنِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ. وَقِيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِنُ. قُلْتُ: وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعُتُلِّ الزَّنِيمِ، قَالَ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الْمُصَحَّحِ، الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْوَاجِدُ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، الظَّلُومُ لِلنَّاسِ، الرَّحِيبُ الْجَوْفِ.
قَوْلُهُ: (جَوَّاظٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ؛ الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الْمُخْتَالُ فِي مَشْيِهِ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: قِيلَ هُوَ الْأَكُولُ، وَقِيلَ الْفَاجِرُ. وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُخْتَصَرًا: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلَا جَعْظَرِيٌّ، قَالَ: وَالْجَوَّاظُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ، انْتَهَى. وَتَفْسِيرُ الْجَوَّاظِ لَعَلَّهُ مِنْ سُفْيَانَ، وَالْجَعْظَرِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ قِيلَ: هُوَ الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَمْرَضُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَتَمَدَّحُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} - إِلَى - زَنِيمٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَهْلُ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ.
2 - بَاب: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}
4919 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، ويَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِئاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: عَنْ شِدَّةِ أَمْرٍ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَكْشِفُ عَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تَنْكَشِفُ عَنِ الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ، وَذُكِرَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَأَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: فِي قَوْلِهِ عَنْ سَاقِهِ نَكِرَةٌ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِلَفْظِ:{يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذِهِ أَصَحُّ لِمُوَافَقَتِهَا لَفْظَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ ذُو أَعْضَاءٍ وَجَوَارِحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
69 - سُورَةُ الْحَاقَّةِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا. الْقَاضِيَةَ: الْمَوْتَةُ الْأُولَى الَّتِي مُتُّهَا ثُمَّ أَحْيَا بَعْدَهَا. {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَتِينَ؛ نِيَاطُ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَغَى؛ كَثُرَ. وَيُقَالُ: بِالطَّاغِيَةِ؛ بِطُغْيَانِهِمْ، وَيُقَالُ: طَغَتْ عَلَى الْخَزَّانِ كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْحَاقَّةِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْحَاقَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا حَقَّتْ لِكُلِّ قَوْمٍ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: ({حُسُومًا} مُتَتَابِعَةً) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)؛ يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مَرْضِيَّةٌ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ لَيْلٍ نَائِمٍ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَرْجَائِهَا مَا لَمْ يَنْشَقُّ مِنْهَا، فَهُمْ عَلَى حَافَّتَيْهِ، كَقَوْلِكَ: عَلَى أَرْجَاءِ الْبِئْرِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَاهِيَةٌ؛ وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَالْقَاضِيَةُ الْمَوْتَةُ الْأُولَى الَّتِي مُتُّهَا لَمْ أَحْيَ بَعْدَهَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: ثُمَّ أَحْيَي بَعْدَهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يَقُولُ: لَيْتَ الْمَوْتَةَ الْأُولَى الَّتِي مُتُّهَا لَمْ أَحْيَ بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمِيعِ وَالْوَاحِدِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} جَمَعَ صِفَتَهُ عَلَى صِفَةِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ أَحَدًا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَاسٍ: {الْوَتِينَ} نِيَاطُ الْقَلْبِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ حَبْلُ الْوَرِيدِ، وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَالْأَشْجَعِيُّ، وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ وَسَمِعَهُ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْوَتِينُ
حَبْلُ الْقَلْبِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَغَى؛ كَثُرَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ طَغَى فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: بِالطَّاغِيَةِ؛ بِطُغْيَانِهِمْ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: وكُفْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ؛ بِالذُّنُوبِ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: طَغَتْ عَلَى الْخَزَّانِ كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ) لَمْ يَظْهَرْ لِي فَاعِلُ طَغَتْ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي حَقِّ ثَمُودَ وَهُمْ قَدْ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَادًا لَكَانَ الْفَاعِلُ الرِّيحُ وَهِيَ لَهَا الْخَزَّانُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ. وَأَمَّا الصَّيْحَةُ فَلَا خَزَّانَ لَهَا، فَلَعَلَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ عَتَتْ إِلَى طَغَتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:{لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} قَالَ: طَغَى عَلَى خَزَّانِهِ فَنَزَلَ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ.
قَوْلُهُ: (وَغِسْلِينُ: مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ) كَذَا ثَبَتَ لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ عَقِبَ قَوْلِهِ: الْقَاضِيَةَ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَهُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} يُقَالُ: إِنَّهُ مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ (مِنْ غِسْلِينٍ): كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينٌ، فِعْلِينٌ مِنَ الْغَسْلِ مِثْلَ الْجُرْحِ وَالدَّبَرِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. أَعْجَازُ نَخْلٍ: أُصُولُهَا، كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (بَاقِيَةً: بَقِيَّةً) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُذْكَرْ فِي تَفْسِيرِ الْحَاقَّةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
70 - سُورَةُ (سَأَلَ سَائِلٌ)
الْفَصِيلَةُ أَصْغَرُ آبَائِهِ الْقُرْبَى إِلَيْهِ يَنْتَمِي مَنِ انْتَمَى. لِلشَّوَى: الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْأَطْرَافُ، وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا: شَوَاةٌ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوَى. عِزِينُ وَالْعُزُونُ الْحَلْقُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَاحِدُهَا عِزَةٌ.
قَوْلُهُ (سُورَةُ سَأَلَ سَائِلٌ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (الْفَصِيلَةُ أَصْغَرُ آبَائِهِ الْقُرْبَى إِلَيْهِ يَنْتَمِي) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَصِيلَةُ دُونَ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ الْفَصِيلَةُ فَخِذُهُ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ فَصِيلَتَهُ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَحَكَى أَنَّ الْفَصِيلَةَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ.
قَوْلُهُ: (لِلشَّوَى: الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْأَطْرَافُ، وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا: شَوَاةٌ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوًى) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّوَى وَاحِدَتُهَا شَوَاةٌ، وَهِيَ الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالرَّأْسُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، قَالَ: وَسَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَقُولُ: اقْشَعَرَّتْ شَوَاتِي، قُلْتُ لَهُ: مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: جِلْدَةُ رَأْسِي. وَالشَّوَى قَوَائِمُ الْفَرَسِ، يُقَالُ: عَبْلُ الشَّوَى، وَلَا يُرَادُ فِي هَذَا الرَّأْسُ لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا الْخَيْلَ بِأَسَالَةِ الْخَدَّيْنِ وَرِقَّةِ الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: (عِزِينَ وَالْعِزُونَ الْحَلَقُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَاحِدُهَا عِزَةٌ)؛ أَيْ بِالتَّخْفِيفِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لَفْظُ الْحَلَقِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ وَهُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَالْحَلَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عِزِينَ؛ جَمَاعَةٌ عِزَةٌ، مِثْلُ ثِبَةٍ وَثِبِينَ، وَهِيَ جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ.
قَوْلُهُ: (يُوفِضُونَ: الْإِيفَاضُ الْإِسْرَاعُ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ هُنَا وَحْدَهُ وَهُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ: إِلَى نَصْبٍ)؛ أَيْ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَقِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إِلَى نُصْبٍ وَكَأَنَّ النُّصْبَ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ، وَكُلٌّ صَوَابٌ. وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ، ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ، وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي الْجَنَائِزِ. وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: فِي قِرَاءَةِ زيد بْنِ ثَابِتٍ بِرَفْعِ النُّونِ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنَ الْأَحْجَارِ قَالَ: النُّصُبُ وَالنَّصْبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، انْتَهَى؛ يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي بِضَمَّتَيْنِ وَاحِدٌ لَا جَمْعٌ، مِثْلُ حُقُبٍ وَاحِدُ الْأَحْقَابِ.
71 - سُورَةُ نُوحٍ
أَطْوَارًا: طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا، يُقَالُ: عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ. وَالْكُبَّارُ: أَشَدُّ مِنَ الْكِبَارِ، وَكَذَلِكَ جَمَالٌ وَجَمِيلٌ لِأَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً، وَكَذَلِكَ كُبَّارٌ الْكَبِيرُ، وَكُبَارٌ أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ، وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وَجُمَالٌ مُخَفَّفٌ. دَيَّارًا: مِنْ دَوْرٍ، وَلَكِنَّهُ فَيْعَالٌ مِنَ الدَّوَرَانِ كَمَا قَرَأَ عُمَرُ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ، وَهِيَ مِنْ قُمْتُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دَيَّارًا أَحَدًا، تَبَارًا هَلَاكًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِدْرَارًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَارًا عَظَمَةً.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ نُوحٍ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (أَطْوَارًا: طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}: نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ خَلْقًا آخَرَ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَالْكُبَّارُ أَشَدُّ مِنَ الْكِبَارِ، وَكَذَلِكَ جُمَّالٌ وَجَمِيلٌ لِأَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً؛ وَكَذَلِكَ كُبَّارٌ الْكَبِيرُ، وَكُبَارٌ أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} قَالَ: مَجَازُهَا كَبِيرٌ، وَالْعَرَبُ تُحَوِّلُ لَفْظَةَ كَبِيرٍ إِلَى فُعَالٍ مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ يُثَقِّلُونَ لِيَكُونَ أَشَدَّ مُبَالَغَةً، فَالْكُبَّارُ أَشَدُّ مِنَ الْكُبَارِ، وَكَذَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْجَمِيلِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً.
قَوْلُهُ: (وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ، وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وَجُمَالٌ مُخَفَّفٌ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} الْكُبَّارُ الْكَبِيرُ، وَكُبَارٌ أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ عَجَبٌ وَعُجَابٌ، وَرَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ بِالتَّثْقِيلِ، وَحُسَانٌ وَجُمَالٌ بِالتَّخْفِيفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْبَاهِهِ.
قَوْلُهُ: (دَيَّارًا: مِنْ دَوْرٍ، وَلَكِنَّهُ فَيْعَالٌ مِنَ الدَّوَرَانِ)؛ أَيْ أَصْلُهُ دَيْوَارٌ فَأُدْغِمَ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ فَعَّالًا لَكَانَ دَوَّارًا، وَهَذَا كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُ دَيَّارٍ دَوَّارٌ، وَالْوَاوُ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا فَتْحَةٌ قُلِبَتْ يَاءً مِثْلَ أَيَّامٍ وَقِيَامٍ.
قَوْلُهُ: (كَمَا قَرَأَ عُمَرُ: الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَهِيَ مِنْ قُمْتُ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَاسْتَفْتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَ:(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّامُ). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: دَيَّارًا أَحَدًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: يَقُولُونَ لَيْسَ بِهَا دَيَّارٌ وَلَا عَرِيبٌ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ مَنْ يُعْطَفُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقَالَ غَيْرُهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَنْسُوبًا لِقَائِلٍ فَحُذِفَ اخْتِصَارًا مِنْ بَعْضِ النَّقَلَةِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ الْفَرَّاءُ.
قَوْلُهُ: (تَبَارًا: هَلَاكًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِدْرَارًا؛ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَارًا: عَظَمَةً) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، الْبُطَيْنِ عنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} قَالَ: مَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقَّ عَظَمَتِهِ.
1 - بَاب: وَدًّا وَلَا سُواعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
4920 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا وَدٌّ فكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ. أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (عن ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ) كَذَا فِيهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَدًّا وَلا سُوَاعًا} الْآيَةَ، قَالَ: أَوْثَانٌ كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَعْبُدُونَهُمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ. . . إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) قِيلَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عَطَاءً الْمَذْكُورَ هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعِ التَّفْسِيرَ مِنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنَ ابْنِهِ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ فَنَظَرَ فِيهِ. وَذَكَرَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى الْقَطَّانَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فَقَالَ: ضَعِيفٌ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ أَخْبَرَنَا. قَالَ: لَا شَيْءَ، إِنَّمَا هُوَ كِتَابٌ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَسْتَجِيزُ إِطْلَاقَ أَخْبَرَنَا فِي الْمُنَاوَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أُخْبِرْتُ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَطَالَ عَلَى الْوَرَّاقِ أَنْ يَكْتُبَ الْخُرَاسَانِيَّ في كُلَّ حَدِيثٍ فَتَرَكَهُ، فَرَوَاهُ مَنْ رَوَى عَلَى أَنَّهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، انْتَهَى. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ: قَالَ لِيَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ التَّفْسِيرِ مِنَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَالَ: اعْفِنِي مِنْ هَذَا.
قَالَ: قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ بَعْدُ إِذَا قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. قَالَ هِشَامٌ: فَكَتَبْنَا ثُمَّ مَلِلْنَا؛ يَعْنِي: كَتَبْنَا الْخُرَاسَانِيَّ. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثَوْرٍ كَانَ يَجْعَلُهَا - يَعْنِي فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ - عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَقُلِ الْخُرَاسَانِيَّ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: الْخُرَاسَانِيُّ. وَهَذَا مِمَّا اسْتُعْظِمَ عَلَى الْبُخَارِيِّ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، لَكِنَّ الَّذِي قَوِيَ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ جَمِيعًا؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ امْتِنَاعِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ التَّحْدِيثِ بِالتَّفْسِيرِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي
بَابٍ آخَرَ مِنَ الْأَبْوَابِ أَوْ فِي الْمُذَاكَرَةِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى الْبُخَارِيِّ ذَلِكَ مَعَ تَشَدُّدِهِ فِي شَرْطِ الِاتِّصَالِ وَاعْتِمَادِهِ غَالِبًا فِي الْعِلَلِ عَلَى عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِهِ وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ مِنْ تَخْرِيجِ هَذِهِ النُّسْخَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْضِعَيْنِ هَذَا وَآخَرَ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ لَاسْتَكْثَرَ مِنْ إِخْرَاجِهَا لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا عَلَى شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كَانَتْ آلِهَةٌ تَعْبُدُهَا قَوْمُ نُوحٍ ثُمَّ عَبَدَتْهَا الْعَرَبُ بَعْدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مَجُوسًا وَأَنَّهَا غَرِقَتْ فِي الطُّوفَانِ، فَلَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا أَخْرَجَهَا إِبْلِيسُ فَبَثَّهَا فِي الْأَرْضِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: كَانُوا مَجُوسًا؛ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ كَلِمَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْفُرْسُ يَدَّعُونَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ يَغُوثَ هُوَ ابْنُ شِيثَ بْنِ آدَمَ فِيمَا قِيلَ، وَكَذَلِكَ سُوَاعٌ وَمَا بَعْدَهُ، وَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مَثَّلُوا صُورَتَهُ وتَمَسَّحُوا بِهَا إِلَى زَمَنِ مَهْلَائِيلَ فَعَبَدُوهَا بِتَدْرِيجِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً فِي الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ سَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ؟ مِنْ قِبَلِ الْهِنْدِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا الْمَبْدَأَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ نُوحٍ؟ أَمِ الشَّيْطَانُ أَلْهَمَ الْعَرَبَ ذَلِكَ؟ انْتَهَى.
وَمَا ذُكِرَه مِمَّا نَقَلَهُ تَلَقَّاهُ مِنْ تَفْسِيرِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ
(1)
، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي ذَيْلِهِ، وَفِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَقَعَتْ إِلَى الْهِنْدِ فَسَمَّوْا بِهَا أَصْنَامَهُمْ ثُمَّ أَدْخَلَهَا إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوْلَادَ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ لِآدَمَ خَمْسُ بَنِينَ فَسَمَّاهُمْ، قَالَ: وَكَانُوا عُبَّادًا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَزِنُوا عَلَيْهِ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فَصَوَّرَهُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَفِيهَا: فَعَبَدُوهَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الَّذِي صَوَّرَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ لِعَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَجِبْ أَبَا ثُمَامَةَ، وَادْخُلْ بِلَا مَلَامَةَ، ثُمَّ ائْتِ سَيْفَ جُدَّةٍ، تَجِدْ بِهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً، ثُمَّ أَوْرِدْهَا تِهَامَةَ وَلَا تَهَبْ، ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَبْ. قَالَ: فَأَتَى عَمْرٌو سَاحِلَ جُدَّةَ فَوَجَدَ بِهَا وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي عُبِدَتْ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ ثُمَّ إِنَّ الطُّوفَانَ طَرَحَهَا هُنَاكَ فَسَفَى عَلَيْهَا الرَّمْلُ، فَاسْتَثَارَهَا عَمْرٌو وَخَرَجَ بِهَا إِلَى تِهَامَةَ، وَحَضَرَ الْمَوْسِمَ فَدَعَا إِلَى عِبَادَتِهَا فَأُجِيبَ، وَعَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ هُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لِكَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ قُضَاعَةَ.
قُلْتُ: وَبَرَةُ هُوَ ابْنُ تَغْلِبَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَدُومَةُ بِضَمِّ الدَّالِ، والْجَنْدَلِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ مَدِينَةٌ مِنْ الشَّامِ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، وَوَدٌّ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَحْدَهُ بِضَمِّهَا. (وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ) زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ، بْنُ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ؛ وَكَانُوا بِقُرْبِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُوَاعٌ بِمَكَانٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رُهَاطٌ؛ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ، مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ مِنْ جِهَةِ السَّاحِلِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ) فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: فَكَانَتْ لِبَنِي غُطَيْفِ بْنِ مُرَادٍ، وَهُوَ غُطَيْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ مُرَادٍ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ أَنْعَمَ مِنْ طَيِّئٍ وَجُرَشُ بْنُ مَذْحِجٍ اتَّخَذُوا يَغُوثَ لِجُرَشٍ.
قَوْلُهُ: (بِالْجُرُفِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْجُرُفَ؛ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَكَذَا فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ. وَلِلنَّسَفِيِّ: بِالْجَوْنِ؛ بِجِيمٍ ثُمَّ وَاوٍ ثُمَّ نُونٍ، زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: عِنْدَ سَبَأٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا
(1)
كذا في نسخة، وفي أخرى:"ابن خالد".
يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدانَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ هَمْدَانَ وَلِمُرَادِ بْنِ مَذْحِجٍ، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ خَيْوَانُ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ اتَّخَذُوا يَعُوقَ بِأَرْضِهِمْ
(1)
.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ) فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: لِذِي الْكَلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ، زَادَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ: اتَّخَذُوهُ بِأَرْضِ حِمْيَرَ.
قَوْلُهُ: (وَنَسْرٌ، أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ) كَذَا لَهُمْ، وَسَقَطَ لَفْظُ وَنَسْرٌ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ أَوْلَى، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ وَنَسْرٌ غَلَطٌ، وَكَذَا قَرَأْتُ بِخَطِّ الصَّدَفِيِّ فِي هَامِشِ نُسْخَتِهِ. ثُمَّ قَالَ هَذَا الشَّارِحُ: وَالصَّوَابُ وَهِيَ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ قَالَ: وَيُقَالُ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ وَهَذَا أَوْجَهُ الْكَلَامِ وَصَوَابُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مُحَصَّلُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَالثَّانِي أَنَّهَا كَانَتْ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قُلْتُ: بَلْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَقِصَّةُ الصَّالِحِينَ كَانَتْ مُبْتَدَأُ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ هَذِهِ الْأَصْنَامَ ثُمَّ تَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ) كَذَا لَهُمْ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: وَنُسِخَ الْعِلْمُ؛ أَيْ عِلْمُ تِلْكَ الصُّوَرِ بِخُصُوصِهَا. وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا حَدَثَتِ الْأَصْنَامُ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ، وَكَانَتِ الْأَبْنَاءُ تَبَرُّ الْآبَاءَ، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَزِعَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ؛ فَاتَّخَذَ مِثَالًا عَلَى صُورَتِهِ فَكُلَّمَا اشْتَاقَ إِلَيْهِ نَظَرَهُ، ثُمَّ مَاتَ فَفُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ حَتَّى تَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَاتَ الْآبَاءُ، فَقَالَ الْأَبْنَاءُ: مَا اتَّخَذَ آبَاؤُنَا هَذِهِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ آلِهَتَهُمْ، فَعَبَدُوهَا. وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ قَالَ: كَانَ وَدٌّ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ، وَسُوَاعٌ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَيَغُوثُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ، وَيَعُوقُ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَنَسْرٌ عَلَى صُورَةِ طَائِرٍ، وَهَذَا شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآثَارِ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
72 - سُورَةُ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لُبَدًا أَعْوَانًا
1 - باب
4921 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالَ: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا مَا حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ؟ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَخْلَةَ وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ،
(1)
انظر الكتاب العاشر من (الإكليل لهمداني) ص 56 فقيه آل خيوان بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد من همدان وعبادتهم للصنم يعوق، وكان في قرية ببلاد همدا باليمن.
فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {قُلْ أُوحِيَ} كَذَا لَهُمْ. وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِبَدًا أَعْوَانًا) هُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَهِشَامٍ وَحْدَهُ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، فَالْأُولَى جَمْعُ لِبْدَةٍ بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ نَحْوِ قِرْبَةٍ وَقِرَبٍ، وَاللِّبْدَةُ وَاللِّبَدُ الشَّيْءُ الْمُلَبَّدُ أَيِ الْمُتَرَاكِبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَبِهِ سُمِّيَ اللِّبَدُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَعْنَى: كَادَتِ الْجِنُّ يَكُونُونَ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٍ مُتَرَاكِبَةٍ مُزْدَحِمِينَ عَلَيْهِ كَاللِّبْدَةِ. وَأَمَّا الَّتِي بِضَمِّ اللَّامِ فَهِيَ جَمْعُ لُبْدَةٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ مِثْلِ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَالًا لُبَدًا؛ أَيْ كَثِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا بِضَمَّتَيْنِ فَقِيلَ: هِيَ جَمْعُ لَبُودٍ، مِثْلُ صُبُرٍ وَصَبُورٍ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمٍّ ثُمَّ سُكُونٍ، فَكَأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ بِضَمَّةٍ ثُمَّ فَتْحَةٍ مُشَدَّدَةٍ جَمْعُ لَابِدٍ كَسُجَّدٍ وَسَاجِدٍ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْجِنَّ تَزَاحَمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يُطْفِئُوا هَذَا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِي اللَّفْظِ وَاضِحٌ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ لَكِنَّهُ فِي الْمَعْنَى مُخَالِفٌ.
قَوْلُهُ: (بَخْسًا: نَقْصًا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ.
قَوْلُهُ: (انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَفِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمُ، انْطَلَقَ. . . إِلَخْ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبُخَارِيُّ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَمْدًا لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فَأَخْرَجَ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَانِي دَاعِيَ الْجِنِّ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالتَّعَدُّدِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ، وَابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ في ذي الْقِعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْمَبْعَثِ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّ الْجِنَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ عَلَى الرَّاجِحِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَتَكُونُ الْقِصَّةُ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ. لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ مُحَصَّلَ مَا فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهُنَا قَالَ أنَّهُ انْطَلَقَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وُجْهَةً أُخْرَى. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ لَاقَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَرَافَقُوهُ.
قَوْلُهُ: (عَامِدِينَ)؛ أَيْ قَاصِدِينَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الصَّرْفُ لِأَهْلِ
الْحِجَازِ وَعَدَمُهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ مَوْسِمٌ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. بَلْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَوَاسِمِهِمْ، وَهُوَ نَخْلٌ فِي وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَهُوَ إِلَى الطَّائِفِ أَقْرَبُ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ، وَهُوَ وَرَاءَ قَرْنِ الْمَنَازِلِ بِمَرْحَلَةٍ مِنْ طَرِيقِ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ. وَقَالَ الْبَكْرِيُّ: أَوَّلُ مَا أُحْدِثَتْ قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ تَزَلْ سُوقًا إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَخَرَجَ الْخَوَارِجُ الْحَرُورِيَّةُ فَنَهَبُوهَا فَتُرِكَتْ إِلَى الْآنِ، كَانُوا يُقِيمُونَ بِهِ جَمِيعَ شَوَّالٍ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَفَاخَرُونَ وَتُنْشِدُ الشُّعَرَاءُ مَا تَجَدَّدَ لَهُمْ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، كَقَوْلِ حَسَّانَ:
سَأَنْشُرُ إِنْ حَيِيتُ لَكُمْ كَلَامًا
…
يُنْشَرُ فِي الْمَجَامِعِ مِنْ عُكَاظٍ
وَكَانَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ بِهِ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ: الِابْتِدَاءُ، وَكَانَتْ هُنَاكَ صُخُورٌ يَطُوفُونَ حَوْلَهَا، ثُمَّ يَأْتُونَ مَجَنَّةَ فَيُقِيمُونَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ. ثُمَّ يَأْتُونَ ذَا الْمَجَازِ - وَهُوَ خَلْفَ عَرَفَةَ - فَيُقِيمُونَ بِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: سُوقُ عُكَاظٍ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، كَذَا قَالَ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السُّوقَ كَانَتْ تُقَامُ بِمَكَانٍ مِنْ عُكَاظٍ يُقَالُ لَهُ الِابْتِدَاءُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ حِيلَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ؛ أَيْ حُجِزَ وَمُنِعَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبَ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ شِهَابٍ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَيْلُولَةَ وَإِرْسَالَ الشُّهُبِ وَقَعَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ تَغَايُرَ زَمَنِ الْقِصَّتَيْنِ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْجِنِّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ بِسَنَتَيْنِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِنَّهُمْ رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ يُصَلِّي قَطْعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، لَكِنِ اخْتُلِفَ هَلِ افْتُرِضَ قَبْلَ الْخَمْسِ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَرْضَ أَوَّلًا كَانَ صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ لَا لِكَوْنِهَا إِحْدَى الْخَمْسِ الْمُفْتَرَضَةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَتَكُونُ قِصَّةُ الْجِنِّ مُتَقَدِّمَةً مِنْ أَوَّلِ الْمَبْعَثِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِمْ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ بِسِيَاقٍ سَالِمٍ مِنَ الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْجِنُّ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا أَضْعَافًا، فَالْكَلِمَةُ تَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُطَوَّلًا، وَأَوَّلُهُ: كَانَ لِلْجِنِّ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ الْحَدِيثَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدُحِرَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ السَّمَاءِ، وَرُمُوا بِالْكَوَاكِبِ، فَجَعَلَ لَا يَصْعَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا احْتَرَقَ، وَفَزِعَ أَهْلُ الْأَرْضَ لِمَا رَأَوْا مِنَ الْكَوَاكِبِ وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ أَوَّلُ مَنْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى أَمْوَالِهِمْ فَسَيَّبُوهَا وَإِلَى عَبِيدِهِمْ فَعَتَقُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ: وَيْلَكُمْ! لَا تُهْلِكُوا أَمْوَالَكُمْ، فَإِنَّ مَعَالِمَكُمْ مِنَ الْكَوَاكِبِ الَّتِي تَهْتَدُونَ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَقْلَعُوا. وَقَالَ إِبْلِيسُ: حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، فَأَتَى مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِتُرْبَةٍ فَشَمَّهَا، فَقَالَ لِتُرْبَةِ تِهَامَةَ: هَاهُنَا حَدَثَ الْحَدَثُ، فَصَرَفَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَهُمُ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ
الْمَبْعَثِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الَّذِي قَالَ لِأَهْلِ الطَّائِفِ مَا قَالَ هُوَ عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَعْجَلُوا وَانْظُرُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا هِيَ الَّتِي تُعْرَفُ فَهُوَ عِنْدَ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ مِنْ حَدَثٍ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ نُجُومٌ لَا تُعْرَفُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ سَمِعُوا بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ مُطَوَّلًا، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ نَحْوَهُ مُطَوَّلًا بِغَيْرِ إِسْنَادٍ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ هِشَامٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ فَسَاقَ سَنَدَهُ بِذَلِكَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ كَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ فَزِعَ لَمَّا رُمِيَ بِالنُّجُومِ مِنَ النَّاسِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: أَوَّلُ الْعَرَبِ فَزِعَ مِنْ رَمْيِ النُّجُومِ ثَقِيفٌ، فَأَتَوْا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ نَحْوَهُ بِغَيْرِ سِيَاقِهِ، وَنُسِبَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِعَبْدِ يَالَيْلَ، لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَلَعَلَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ أَوَّلَ الْبَعْثَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عِيَاضٌ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مَوْضِعًا آخَرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا ذَكَرْتُهُ، فَقَالَ عِيَاضٌ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّمْيَ بِالشُّهُبِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِإِنْكَارِ الشَّيَاطِينِ لَهُ وَطَلَبِهِمْ سَبَبَهُ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْكَهَانَةُ فَاشِيَةً فِي الْعَرَبِ وَمَرْجُوعًا إِلَيْهَا فِي حُكْمِهِمْ، حَتَّى قُطِعَ سَبَبُهَا بِأَنْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وَقَدْ. جَاءَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِاسْتِغْرَابِ رَمْيِهَا وَإِنْكَارِهِ إِذْ لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدُ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، ويُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ إِنْكَارِ الشَّيَاطِينِ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ تَزَلِ الشُّهُبُ يُرْمَى بِهَا مُذْ كَانَتِ الدُّنْيَا، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَفَعَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لِمَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} قَالَ: غُلِّظَ أَمْرُهَا وَشُدِّدَ، انْتَهَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنِ النُّجُومِ أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ إِذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ غُلِّظَ وَشُدِّدَ. وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ. وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رُمِيَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَيْ جَاهِلِيَّةِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ، وَكَانُوا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ فِي جَاهِلِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْلِمُوا إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ بثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ يَزَلِ الْقَذْفُ بِالنُّجُومِ قَدِيمًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي أَشْعَارِ قُدَمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ كَأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ، وَبِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجْمَعُ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ الْمَبْعَثِ رَمْيًا يَقْطَعُ الشَّيَاطِينَ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَلَكِنْ كَانَتْ تُرْمَى تَارَةً وَلَا تُرْمَى أُخْرَى، وَتُرْمَى مِنْ جَانِبٍ وَلَا تُرْمَى مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا} انْتَهَى.
ثُمَّ وَجَدْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَخْبَارِ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ كُلِّهِنَّ يَتَقَلَّبُ فِيهِنَّ كَيْفَ شَاءَ لَا يُمْنَعُ مُنْذُ أُخْرِجَ آدَمُ إِلَى أَنْ رُفِعَ عِيسَى، فَحُجِبَ حِينَئِذٍ مِنْ أَرْبَعِ سَمَاوَاتٍ، فَلَمَّا بُعِثَ نَبِيُّنَا حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ، فَصَارَ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ هُوَ وَجُنُودُهُ وَيُقْذَفُونَ بِالْكَوَاكِبِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تَكُنِ
السَّمَاءُ تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ حُرِسَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَرُجِمَتِ الشَّيَاطِينُ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ السَّمَاءَ لَمْ تَكُنْ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ ظَاهِرٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَقَاعِدَ يَسْمَعُونَ فِيهَا مَا يَحْدُثُ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ رُجِمُوا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ يُرْمَى بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشُّهُبَ كَانَتْ تُرْمَى فَتُصِيبُ تَارَةً وَلَا تُصِيبُ أُخْرَى، وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ أَصَابَتْهُمْ إِصَابَةً مُسْتَمِرَّةً فَوَصَفُوهَا لِذَلِكَ بِالرَّصَدِ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْصُدُ الشَّيْءَ لَا يُخْطِئُهُ، فَيَكُونُ الْمُتَجَدِّدُ دَوَامَ الْإِصَابَةِ لَا أَصْلَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ السُّهَيْلِيِّ: لَوْلَا أَنَّ الشِّهَابَ قَدْ يُخْطِئُ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّعَرُّضُ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِصَابَةِ لِرَجَاءِ اخْتِطَافِ الْكَلِمَةِ وَإِلْقَائِهَا قَبْلَ إِصَابَةِ الشِّهَابِ، ثُمَّ لَا يُبَالِي الْمُخْتَطِفُ بِالْإِصَابَةِ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُمَا - وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بِغَيْرِ سَنَدٍ - مِنْ طَرِيقِ لَهَبِ - بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُقَالُ بِالتَّصْغِيرِ - ابْنِ مَالِكٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْكَهَانَةَ فَقُلْتُ: نَحْنُ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ وَرَجْمَ الشَّيَاطِينِ وَمَنْعَهُمْ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ قَذْفِ النُّجُومِ، وَذَلِكَ أَنَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ كَاهِنٍ لَنَا يُقَالُ لَهُ خُطْرُ بْنُ مَالِكٍ - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَسِتَّةً وَثَمَانُونَ سَنَةً - فَقُلْنَا: يَا خُطْرُ، هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، فَإِنَّا فَزِعْنَا مِنْهَا وَخِفْنَا سُوءَ عَاقِبَتِهَا؟ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَانْقَضَّ نَجْمٌ عَظِيمٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَصَرَخَ الْكَاهِنُ رَافِعًا صَوْتَهُ:
أَصَابَهُ أَصَابَهُ
خَامَرَهُ عَذَابَهُ
أَحْرَقَهُ شِهَابُهُ
الْأَبْيَاتِ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا:
قَدْ مُنِعَ السَّمْعَ عُتَاةُ الْجَانِ
بِثَاقِبٍ يُتْلِفُ ذِي سُلْطَانٍ
مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشَّانِ
وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ:
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي
…
أَنْ يَتْبَعُوا خَيْرَ نَبِيِّ الْإِنْسِ
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: سَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْلَا فِيهِ حُكْمٌ لَمَا ذَكَرْتُهُ لِكَوْنِهِ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بِهَا غُلِّظَ وَشُدِّدَ بِسَبَبِ نُزُولِ الْوَحْيِ، فَهَلَّا انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُشَاهِدُهَا الْآنَ يُرْمَى بِهَا؟ فَالْجَوَابُ يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، فَفِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا أَخْبَرَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّغْلِيظِ وَالْحِفْظِ لَمْ يَنْقَطِعْ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُلْقَى بِأَمْرِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مَعَ شِدَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَنْقَطِعْ طَمَعُهُمْ فِي اسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ، لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ: إِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ فِيمَا تَسْتَرِقُ السَّمْعَ سَمِعَتْ بِأَنَّكَ سَتَمُوتُ فَأَلْقَتْ إِلَيْكَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ.
فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اسْتِرَاقَهُمُ السَّمْعَ اسْتَمَرَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانُوا يَقْصِدُونَ اسْتِمَاعَ الشَّيْءِ مِمَّا يَحْدُثُ فَلَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا إِنِ اخْتَطَفَ أَحَدُهُمْ بِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ خَطْفَةً فَيَتْبَعُهُ الشِّهَابُ، فَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا لِأَصْحَابِهِ فَاتَتْ، وَإِلَّا سَمِعُوهَا وَتَدَاوَلُوهَا؛ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ السُّهَيْلِيِّ
الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا مَا حَدَثَ) الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ إِبْلِيسُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمَةِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)؛ أَيْ سِيرُوا فِيهَا كُلِّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يبتغون من فضل الله. وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَبَثَّ جُنُودَهُ، فَإِذَا هُمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِرَحْبَةٍ فِي نَخْلَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا) قِيلَ: كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنَ الْجِنِّ عَلَى دِينِ الْيَهُودِ، وَلِهَذَا قَالُوا:{أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَةً، وَمِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَةً مِنْ نَصِيبِينَ وَثَلَاثَةً مِنْ حَرَّانَ، وَهُمْ حِسًّا وَنَسَا وَشَاصِرٌ وَمَاضِرٌ وَالْأَدْرَسُ وَوَرْدَانُ وَالْأَحْقَبُ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ ذَكَرَ مِنْهُمْ خَمْسَةً: شَاصِرَ وَمَاضِرَ وَمُنَشَّى وَنَاشِي وَالْأَحْقَبَ. قَالَ: وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ وَقِصَّةَ سُرَّقٍ وَقِصَّةَ زَوْبَعَةَ قَالَ: فَإِنْ كَانُوا سَبْعَةً فَالْأَحْقَبُ لَقَبُ أَحَدِهِمْ لَا اسْمُهُ. وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَسْكَرٍ مَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو وَزَوْبَعَةُ وَسُرَّقٌ وَكَانَ الْأَحْقَبُ لَقَبًا كَانُوا تِسْعَةً.
قُلْتُ: هُوَ مُطَابِقٌ لِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ جَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى آتِيكَ. وَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، الْحَدِيثَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا أَوَّلًا كَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِمْ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ إِرْسَالِ الشُّهُبِ، وَسَبَبُ مَجِيءِ الَّذِينَ فِي قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ جَاءُوا لِقَصْدِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالْقِصَّةُ الْأُولَى كَانَتْ عَقِبَ الْمَبْعَثِ، وَلَعَلَّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَصِ الْمُفَرَّقَةِ كَانُوا مِمَّنْ وَفَدَ بَعْدُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ وَفَدَ، وَقَدْ ثَبَتَ تَعَدُّدُ وُفُودِهِمْ. وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ كَثِيرٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْجِنِّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (نَحْوَ تِهَامَةَ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ؛ اسْمٌ لِكُلِّ مَكَانٍ غَيْرِ عَالٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ حَرِّهَا اشْتِقَاقًا مِنَ التَّهَمِ - بِفَتْحَتَيْنِ - وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَقِيلَ: مِنْ تَهِمَ الشَّيْءُ إِذَا تَغَيَّرَ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِتَغَيُّرِ هَوَائِهَا. قَالَ الْبَكْرِيُّ: حَدُّهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ ذَاتُ عِرْقٍ، وَمِنْ قِبَلِ الْحِجَازِ السَّرْجُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ قَرْيَةٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلًا.
قَوْلُهُ: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ: فَانْطَلَقُوا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ عَامِدٌ) كَذَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ عَامِدِينَ وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، أَوْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِمُنَاسَبَةِ الرِّوَايَةِ الَّتِي هُنَا.
قَوْلُهُ: (بِنَخْلَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ؛ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: عَلَى لَيْلَةٍ مِنْ مَكَّةَ. وَهِيَ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا بَطْنُ نَخْلٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِنَخْلٍ بِلَا هَاءٍ، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا.
قَوْلُهُ: (يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ) لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ - أَوِ ابْنُ الزُّبَيْرِ - كَانَ ذَلِكَ بِنَخْلَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ. وَأخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: فَقَرَأَ: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (تَسَمَّعُوا لَهُ)؛ أَيْ قَصَدُوا لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَصْغَوْا إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَهُنَالِكَ) هُوَ
ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: قَالُوا. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا، وَالْعَامِلُ فِيهِ: رَجَعُوا.
قَوْلُهُ: (رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ آمَنُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَالْإِيمَانُ يَقَعُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ وَشُرُوطَ الْمُعْجِزَةِ فَيَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكُتُبِ الْأُولَى فِيهَا دَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْجِنِّ مُحْتَمَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} زَادَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابَهُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ يَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، قَالَ: فَتَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ) هَذَا كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمُ اسْتَمَعُوا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الْآيَةَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ اجْتِمَاعِهِ بِهِمْ حِينَ اسْتَمَعُوا أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَمَعَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ وُجُودِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ وَأَنَّهُمَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا صَارَا صِنْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا يُقَالُ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إِنَّهُ شَيْطَانٌ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ شُرِعَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّتُهَا فِي السَّفَرِ، وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا قَضَى اللَّهُ لِلْعَبْدِ مِنْ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ لَا بِمَا يظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الشَّرِّ وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ لَوْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ إِبْلِيسَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الشَّرِّ مَا اخْتَارَهُمْ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَدَثَ الْحَادِثَ مِنْ جِهَتِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا قُضِي لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قِصَّةُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
73 - سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَتَبَتَّلْ؛ أَخْلِصْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنْكَالًا؛ قُيُودًا. مُنْفَطِرٌ بِهِ: مُثْقَلَةٌ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَثِيبًا مَهِيلًا؛ الرَّمْلُ السَّائِلُ. وَبِيلًا: شَدِيدًا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى الْمُزَّمِّلِ وَهُوَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَفْرَدَ الْمُدَّثِّرَ بَعْدُ بِالتَّرْجَمَةِ. وَالْمُزَّمِّلُ بِالتَّشْدِيدِ أَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَقَدْ جَاءَتْ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَتَبَتَّلْ؛ أَخْلِصْ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنْكَالًا؛ قُيُودًا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَنْكَالُ وَاحِدُهَا نِكْلٌ بِكَسْرِ النُّونِ؛ وَهُوَ الْقَيْدُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيلَ: النِّكْلُ؛ الْغُلُّ.
قَوْلُهُ: (مُنْفَطِرٌ بِهِ: مُثْقَلَةٌ بِهِ) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قَالَ: مُثْقَلَةٌ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: مُثْقَلَةٌ: مُوقَرَةٌ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ: مُنْفَطِرٌ بِهِ؛ تَنْفَطِرُ مِنْ ثِقَلِ رَبِّهَا تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَيحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا لِأَنَّ مَجَازَ السَّمَاءِ مَجَازُ السَّقْفِ، يُرِيدُ قَوْلَهُ مُنْفَطِرٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَثِيبًا مَهِيلا} الرَّمْلُ السَّائِلُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ
الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: الْمَهِيلُ؛ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا يَتْبَعُكَ آخِرُهُ، وَالْكَثِيبُ: الرَّمْلُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَثِيبُ؛ الرَّمْلُ، وَالْمَهِيلُ: الَّذِي تُحَرِكُ أَسْفَلَهُ فَيَنْهَالُ عَلَيْكَ أَعْلَاهُ.
قَوْلُهُ: (وَبِيلًا شَدِيدًا) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُورِدِ الْمُصَنِّفُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَقَوْلُهَا فِيهِ: فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِهَا:{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ.
74 - سُورَةُ الْمُدَّثِّرُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَسِيرٌ؛ شَدِيدٌ. قَسْوَرَةٌ: رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ، وَكُلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَسْوَرَةُ؛ قَسْوَرَ الْأَسَدُ، الرِّكْزُ: الصَّوْتُ. مُسْتَنْفِرَةٌ: نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِإِثْبَاتِ الْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَزَمِّلِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فِيهِمَا بِتَخَفِيفِ الزَّايِ وَالدَّالِ اسْمُ فَاعِلٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَسِيرٌ شَدِيدٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (قَسْوَرَةُ: رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قَالَ: هُوَ رِكْزُ النَّاسِ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي حِسَّهُمْ وَأَصْوَاتَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَكُلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ) زَادَ النَّسَفِيُّ: وَقَسْوَرٌ. وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ مَبْسُوطًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْقَسْوَرُة؛ قَسْوَرُ الْأَسَدِ، الرِّكْزُ: الصَّوْتُ) سَقَطَ قَوْلُهُ: الرِّكْزُ: الصَّوْتُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا قَرَأَ: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قَالَ: الْأَسَدُ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ زَيْدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ سِيلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِالْحَبَشِيَّةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْهُ قَالَ: الْقَسْوَرَةُ: الْأَسَدُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ: شير، وَبِالْحَبَشِيَّةِ: قَسْوَرَةٌ. وَأَخْرَجَ الْفَرَّاءُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الْقَسْوَرَةُ بِالْحَبَشِيَّةِ الْأَسَدُ، فَقَالَ: الْقَسْوَرَةُ الرُّمَاةُ، وَالْأَسَدُ بِالْحَبَشِيَّةِ عَنْبَسَةُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَتَفْسِيرُهُ بِالرُّمَاةِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَلِسَعِيدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَسْوَرَةُ الْأَسَدُ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ بِلُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، هُمْ عَصَبُ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ: (مُسْتَنْفِرَةٌ: نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أَيْ مَذْعُورَةٌ، وَمُسْتَنْفِرَةٌ: نَافِرَةٌ، يُرِيدُ أَنَّ لَهَا مَعْنَيَيْنِ وَهُمَا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، فَقَدْ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ، وَالْأَعْمَشُ بِكَسْرِهَا.
1 - باب
4922 -
حَدَّثَني يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُلْتُ: يَقُولُونَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ
جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ: فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ: فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى) هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ أَوِ ابْنُ جَعْفَرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ) هُوَ الْهُنَائِيُّ بِضَمٍّ ثُمَّ نُونٍ خَفِيفَةٍ وَمَدٍّ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَشْهُورِ قَرَابَةٌ.
2 - بَاب: {قُمْ فَأَنْذِرْ}
4923 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ؛ قَالَا: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ. مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ) هُوَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو دَاوُدَ؛ قَالَا: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَالَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ شَيْبَانَ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ آدَمَ، وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ شَيْبَانَ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ) لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الَّتِي أَحَالَ رِوَايَةَ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ عَلَيْهَا، وَهِيَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَرُوبَةَ فِي كِتَابِ الْأَوَائِلِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ.
3 - بَاب: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
4924 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ؟ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ: أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ؟ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ: أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ: لَا أُخْبِرُكَ إِلَّا بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا
هُوَ جَالِسٌ عَلَى عرش بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ)؛ أَيِ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَرْبٍ: قُلْتُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَلَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ مَنْ أَنْبَأَهُ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، كَمَا لَمْ يُبَيِّنْ أَبُو سَلَمَةَ مَنْ أَنْبَأَهُ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ مُطَوَّلًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ أَوَّلِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، أَوْ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، فَكَأَنَّ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ اقْرَأْ أَرَادَ أَوَّلِيَّةً مُطْلَقَةً، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الْمُدَّثِّرُ أَرَادَ بِقَيْدِ التَّصْرِيحِ بِالْإِرْسَالِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اسْتَخْرَجَ جَابِرٌ أَوَّلُ مَا نَزَلَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بِاجْتِهَادٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ رِوَاي تِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَرَأَيْتُ شَيْئًا - أَيْ جِبْرِيلَ - بِحِرَاءَ، فَقَالَ لِيَ: اقْرَأْ. فَخِفْتُ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي. فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ فِي نُزُولِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بِقَيْدِ السَّبَبِ؛ أَيْ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّدَثُّرِ النَّاشِئِ عَنِ الرُّعْبِ، وَأَمَّا اقْرَأْ فَنَزَلَتِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَفِي أَوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلٌ آخَرُ نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: الْمُزَّمِّلُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُدَّثِّرِ. وَعَطَاءٌ ضَعِيفٌ، وَرِوَايَتُهُ مُعْضِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِقَاؤُهُ لِصَحَابِيٍّ مُعَيَّنٍ، وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَأَخُّرُ الْمُزَّمِّلِ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَرَاخَى عَنِ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْوَحْيِ، بِخِلَافِ الْمُدَّثِّرِ فَإِنَّ فِيهَا: قُمْ فَأَنْذِرْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: ن وَالْقَلَمِ، وَأَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. وَالْمُشْكِلُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَوْلُهُ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ، فَنُودِيتُ - إِلَى أَنْ قَالَ: - فَرَفَعْتُ رَأْسِيَ فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي.
وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَقَطَ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَشَيْخِهِ مِنَ الْقِصَّةِ مَجِيءُ جِبْرِيلَ بِحِرَاءَ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَسَائِرُ مَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاوَرَ صلى الله عليه وسلم بِحِرَاءَ شَهْرًا آخَرَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا وَهُوَ رَمَضَانُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَعَادَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ جِوَارِهِ.
قَوْلُهُ: (فَجُئِثْتُ) يَأْتِي ضَبْطُهُ فِي سُورَةِ اقْرَأْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4 - بَاب: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
4925 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. ح، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيُّ، فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} - إِلَى - {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. وَهِيَ الْأَوْثَانُ.
قَوْلُهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ، لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَوْرَدَهُ بِإِسْنَادَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَمَعْمَرٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَسَاقَ لَفْظَ عُقَيْلٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَوَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ الثِّيَابِ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: فَطَهِّرْ مِنَ الْإِثْمِ.
وَمِنْ طَرِيقٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا نَحْوُهُ، وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرَةٍ وَلَا فَجْرَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: شَمِّرْ. وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ - قَالَ: وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ - قَالَ: أَصْلِحْ عَمَلَكَ. وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا منْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلْقَكَ فَحَسِّنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: قِيلَ فِي قَوْلِهِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} صَلِّ فِي ثِيَابٍ طَاهِرَةٍ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ مَا أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ مَرْثَدٍ قَالَ: أُلْقِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سلى جَزُورٌ، فَنَزَلَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ.
5 - بَاب: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يُقَالُ: الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ؛ الْعَذَابُ
4926 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إذ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فَاهْجُرْ} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِّجْزَ الْأَوْثَانَ. ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ.
قَوْلُهُ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يُقَالُ: الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ؛ الْعَذَابُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الرُّجْزَ الْأَوْثَانُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى؛ أَيِ اهْجُرْ أَسْبَابَ الرُّجْزِ، أَيِ: الْعَذَابِ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فُسِّرَ الْمُفْرَدُ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمَ جِنْسٍ، وَبَيَّنَ مَا فِي سِيَاقِ رِوَايَةِ الْبَابِ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِالْأَوْثَانِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَالرُّجْزَ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا بِمَعْنًى. وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ بِالضَّمِّ اسْمُ الصَّنَمِ، وَبِالْكَسْرِ اسْمُ الْعَذَابِ.
75 - سُورَةُ الْقِيَامَةِ
1 - بَاب: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ؛ سَوْفَ أَتُوبُ، سَوْفَ أَعْمَلُ. {لا وَزَرَ} لَا حِصْنَ. {سُدًى} هَمَلًا
4927 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ - وَكَانَ ثِقَةً - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْقِيَامَةِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (لَا أُقْسِمُ) فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ. وَقِيلَ: هِيَ حَرْفُ تَنْبِيهٍ مِثْلُ أَلَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ
…
لَا يَدَّعِي الْقَوْمَ أَنِّي أَفِرُّ
وَقَوْلُهُ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ نُزُولِ الْوَحْيِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَحَكَى الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ الْقَفَّالَ جَوَّزَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ، قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} قَالَ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ: اقْرَأْ {كِتَابَكَ} فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ خَوْفًا فَأَسْرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَيُقَالُ:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} ؛ أَيْ أَنْ يُجْمَعَ عَمَلُكَ وَأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْكَ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} عَلَيْكَ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِ الْإِنْسَانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعُقُوبَتِهِ. قَالَ: وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرُ وَارِدَةٍ فِيهِ. وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ عُسْرُ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ السُّورَ شَيْءٌ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ دَعَاوِيهِمُ الْبَاطِلَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ لَهَا مُنَاسَبَاتٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَةَ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يُقَصِّرُ عَنِ الْعَمَلِ لَهَا حُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَكَانَ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى أَفْعَالِ الْخَيْرِ مَطْلُوبَةٌ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِصْغَاءُ إِلَى الْوَحْيِ وَتَفَهُّمِ مَا يُردُ مِنْهُ، وَالتَّشَاغُلُ بِالْحِفْظِ قَدْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ، فَأُمِرَ أَنْ لَا يُبَادِرَ إِلَى التَّحَفُّظِ لِأَنَّ تَحْفِيظَهُ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّهِ، وَلْيُصْغِ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ فَيَتَّبِعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتِ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ الْمُبْدَأِ بِذِكْرِهِ وَمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَقَالَ: كَلَّا، وَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِكَوْنِكُمْ خُلِقْتُمْ مِنْ عَجَلٍ تَعْجَلُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ ثَمَّ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ (تُحِبُّونَ) بِالْمُثَنَّاةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغِيبَةِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ.
وَمِنْهَا أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ إِذَا ذُكِرَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ حَيْثُ يُعْرَضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْمُحَاسَبَةُ عَمَلًا وَتَرْكًا، كَمَا قَالَ فِي الْكَهْفِ:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} - إِلَى أَنْ قَالَ: - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُبْحَانَ: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} - إِلَى أَنْ قَالَ: - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي طه:: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} - إِلَى أَنْ قَالَ: - {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وَمِنْهَا أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ لَمَّا نَزَلَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} صَادَفَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَادَرَ إِلَى تَحَفُّظِ الَّذِي نَزَلَ، وَحَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ مِنْ عَجَلَتِهِ خَشْيَةً مِنْ تَفَلُّتِهِ، فَنَزَلَتْ:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} - إِلَى قَوْلِهِ: - {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَكْمِلَةِ مَا ابْتُدِأَ بِهِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَنَحْوُهُ مَا لَوْ أَلْقَى الْمُدَرِّسُ
عَلَى الطَّالِبِ مَثَلًا مَسْأَلَةً فَتَشَاغَلَ الطَّالِبُ بِشَيْءٍ عَرَضَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلْقِ بَالَكَ وَتَفَهَّمْ مَا أَقُولُ، ثُمَّ كَمِّلِ الْمَسْأَلَةَ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُنَاسِبًا لِلْمَسْأَلَةِ، بِخِلَافِ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ نَفْسِ الْمُصْطَفَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ نَفْسُكَ أَشْرَفُ النُّفُوسِ فَلْتَأْخُذْ بِأَكْمَلِ الْأَحْوَالِ. وَمِنْهَا مُنَاسَبَاتٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ لَا طَائِلَ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ تَعَسُّفٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}؛ سَوْفَ أَتُوبُ، سَوْفَ أَعْمَلُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يَعْنِي الْأَمَلَ، يَقُولُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ. وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِالْحِسَابِ وَيَفْجُرُ أَمَامَهُ؛ أَيْ يَدُومُ عَلَى فُجُورِهِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ.
قَوْلُهُ: (لَا وَزَرَ لَا حِصْنَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ قَالَ: حِرْزٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا حِصْنَ وَلَا مَلْجَأَ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:{لا وَزَرَ} قَالَ: لَا حِصْنَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ فِي مَاشِيَتِهِ فَتَأْتِيهِ الْخَيْلُ بَغْتَةً، فَيَقُولُ لَهُ صَاحِبُهُ: الْوَزَرَ الْوَزَرَ؛ أَيِ اقْصِدِ الْجَبَلَ فَتَحَصَّنْ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَزَرُ الْمَلْجَأُ.
قَوْلُهُ: (سُدًى: هَمَلًا) وَقَعَ هَذَا مُقَدَّمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ (سُدًى): أَيْ لَا يُنْهَى وَلَا يُؤْمَرُ، قَالُوا: أَسْدَيْتُ حَاجَتِي أَيْ أَهْمَلْتُهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ وَكَانَ ثِقَةً) هُوَ مَقُولُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ كُوفِيٌّ مِنْ مَوَالِي آلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَاسْمُ أَبِيهِ لَا يُعْرَفُ، وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْهُ، فَمِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَنْ وَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مِنْهُمْ أَبُو كُرَيْبٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: (حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ، وَوَصَفَ سُفْيَانُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: وَحَرَّكَ سُفْيَانُ شَفَتَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: تَعَجَّلَ يُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَزَلَتْ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} إِلَى هُنَا رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَزَادَ غَيْرُهُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَتِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ لَا يَعْرِفُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
2 - بَاب: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
4928 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} - يَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ - {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} - أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ - وَقُرْآنَهُ؛ أَنْ تَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} - يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ - {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَتَمَّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدِ اسْتَغْرَبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: كَذَا أَخْرَجَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، ثُمَّ أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: كَانَ يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْفَلِتَ
عَنْهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} إِلَى آخِرِهِ مُعَلَّقًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِغَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَتَمُّ سِيَاقًا.
3 - بَاب: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {قَرَأْنَاهُ} بَيَّنَّاهُ، {فَاتَّبِعْ} اعْمَلْ بِهِ
4929 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ. {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تَوَعُّدٌ.
قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَرَأْنَاهُ بَيَّنَّاهُ، فَاتَّبِعْ: اعْمَلْ بِهِ) هَذَا التَّفْسِيرُ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُهُ بِشَيْءٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: كَانَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْطِئَةٌ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي النُّزُولِ، وَكَانَتِ الشِّدَّةُ تَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ لِثِقَلِ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، وَفِي حَدِيثِهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَيْضًا: وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الشِّدَّةَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَكِنَّ إِحْدَاهُمَا أَشَدُّ مِنَ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ) اقْتَصَرَ أَبُو عَوَانَةَ عَلَى ذِكْرِ الشَّفَتَيْنِ وَكَذَلِكَ إِسْرَائِيلُ، وَاقْتَصَرَ سُفْيَانُ عَلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ، وَالْجَمِيعُ مُرَادٌ إِمَّا لِأَنَّ التَّحْرِيكَيْنِ مُتَلَازِمَانِ غَالِبًا، أَوِ الْمُرَادُ يُحَرِّكُ فَمَهُ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ وَاللِّسَانِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللِّسَانُ هُوَ الْأَصْلُ فِي النُّطْقِ اقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ) ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ السَّبَبَ فِي الْمُبَادَرَةِ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يَجِدُهَا عِنْدَ النُّزُولِ، فَكَانَ يَتَعَجَّلُ بِأَخْذِهِ لِتَزُولَ الْمَشَقَّةُ سَرِيعًا. وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَاهُ حَيْثُ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} تَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ يَتَذَكَّرُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّا سَنَحْفَظُهُ عَلَيْكَ. وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عَجَّلَ يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّاهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ إِيَّاهُ، فَأُمِرَ أَنْ يَتَأَنَّى إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ النُّزُولُ. وَلَا بُعْدَ فِي تَعَدُّدِ السَّبَبِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكْهُمَا، فَأُطْلِقَ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُيِّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي خَبَرِ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَبْدَأِ الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وُلِدَ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ بَعْدُ فَيَرَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَئِذٍ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِسَنَدِهِ بِلَفْظِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُ لَكَ شَفَتَيَّ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِبْرَازَ الضَّمِيرِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلشَّفَتَيْنِ ذِكْرٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ)؛ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِهَذَا مَنْ جَوَّزَ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَوَّزَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنْ يَكُونَ أُذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِعْجَالِ إِلَى وَقْتِ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ) كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُهُ بِالْحِفْظِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكِ، وَرِوَايَةُ جَرِيرٍ أَوْضَحُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ مَعْنَى جَمْعَهُ: تَأْلِيفَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقُرْآنَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: أَنْ تَقْرَأَهُ؛ أَيْ أَنْتَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: وَتَقْرَأَهُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} ؛ أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ) هَذَا تَأْوِيلٌ آخَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلُ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَخَصُّ مِنَ الْإِنْصَاتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ الْإِصْغَاءُ وَالْإِنْصَاتُ السُّكُوتُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ السُّكُوتِ الْإِصْغَاءُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْزَلْنَاهُ} وَفِي قَوْلِهِ {فَاسْتَمِعْ} قَوْلَيْنِ. وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ (اسْتَمِعْ): اتَّبِعْ حَلَالَهُ وَاجْتَنِبْ حَرَامَهُ. وَيُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:{فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لِجِبْرِيلَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا انْتَهَتْ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ فَاقْرَأْ أَنْتَ.
قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: عَلَى لِسَانِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: أَنْ تَقْرَأَهُ وَهِيَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِمَا تَقْتَضِيهِ ثُمَّ مِنَ التَّرَاخِي. وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَتَبِعُوهُ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْبَيَانِ بِتَبْيِينِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ حِفْظِهِ لَهُ وَظُهُورِهِ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا. قَالَ الْآمِدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَيَانِ الْإِظْهَارُ لَا بَيَانُ الْمُجْمَلِ، يُقَالُ: بَانَ الْكَوْكَبُ؛ إِذَا ظَهَرَ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجْمَلُ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُهُ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِبَعْضِهِ بِالْأَمْرِ الْمَذْكُورِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْإِظْهَارُ وَالتَّفْصِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَيَانَهُ جِنْسٌ مُضَافٌ، فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَصْنَافِهِ مِنْ إِظْهَارِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ وَنَسْخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَأُعِيدَ بَعْضُهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا.
76 - سُورَةُ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ: مَعْنَاهُ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهَلْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا، وَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، يَقُولُ: كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، أَمْشَاجٌ: الْأَخْلَاطُ؛ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ، وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ، كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ، وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ. وَيُقَالُ:{سَلاسِلَ وَأَغْلالا} وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ. مُسْتَطِيرًا: مُمْتَدَّ الْبَلَاءَ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ، يُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قَمَاطِرٌ، وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ فِي الْبَلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي
الْوَجْهِ، وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَرَائِكُ؛ السُّرُرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: السُّرُرُ؛ الْحِجَالُ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. وَقَالَ الْبَرَاءُ: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} ؛ يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَلْسَبِيلًا؛ حَدِيدُ الْجَرْيَةِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَسْرَهُمْ؛ شِدَّةُ الْخَلْقِ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ وَغَبِيطٍ فَهُوَ مَأْسُورٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: مَعْنَاهُ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهَلْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا، وَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَالَ يَحْيَى وَهُوَ صَوَابٌ لِأَنَّهُ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: لِأَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ وَعَظْتُكَ؟ هَلْ أَعْطَيْتُكَ؟ تُقَرِّرُهُ بِأَنَّكَ وَعَظْتَهُ وَأَعْطَيْتَهُ. وَالْجَحْدُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ هَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ، لَكِنْ تَكُونُ تَارَةً لِلتَّقْرِيرِ وَتَارَةً لِلْإِنْكَارِ، فَدَعْوَى زِيَادَتِهَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{هَلْ أَتَى} مَعْنَاهُ: قَدْ أَتَى، وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: فَالَّذِي أَنْشَأَهُ - بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ. وَنَحْوُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} ؛ أَيْ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَحَاصِلُهُ انْتِفَاءُ الْمَوْصُوفِ بِانْتِفَاءِ صِفَتِهِ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (أَمْشَاجٍ: الْأَخْلَاطُ، مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ: الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ، وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ، كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ، وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} وَهُوَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، وَالدَّمُ وَالْعَلَقَةُ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ مِنْ هَذَا إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ، كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ، وَمَمْشُوجٌ كَقَوْلِكَ: مَخْلُوطٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: مِنَ الرَّجُلِ الْجِلْدُ وَالْعَظْمُ، وَمِنَ الْمَرْأَةِ الشَّعْرُ وَالدَّمُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ: مِنْ نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بِدَمٍ وَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْشَاجٍ قَالَ: مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَحْمَرُ وَأَسْوَدُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: الْأَمْشَاجُ إِذَا اخْتَلَطَ الْمَاءُ وَالدَّمُ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ثُمَّ كَانَ مُضْغَةً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْأَمْشَاجُ الْعُرُوقُ.
قَوْلُهُ: {سَلاسِلَ وَأَغْلالا} فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَيُقَالُ: سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ) هُوَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ عَلَامَةً لِلْجَزْمِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِالزَّايِ بَدَلَ الرَّاءِ وَرَجَّحَ الرَّاءَ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ أَجْرَى سَلَاسِلًا وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُجْرِهَا؛ أَيْ لَمْ يَصْرِفْهَا، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ قَدِيمٌ، يَقُولُونَ لِلِاسْمِ الْمَصْرُوفِ مُجْرًى. وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ لِلْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا} كُتِبَتْ (سَلَاسِلَ) بِالْأَلِفِ وَأَجْرَاهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ مَكَانَ الْأَلِفِ الَّتِي فِي آخِرِهَا، وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ، وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُثْبِتُ الْأَلِفَ فِي النَّصْبِ وَتَحْذِفُهَا عِنْدَ الْوَصْلِ، قَالَ: وَكُلٌّ صَوَابٌ. انْتَهَى، وَمُحَصَّلُ مَا جَاءَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي سَلَاسِلَ التَّنْوِينُ وَعَدَمُهُ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ بِأَلِفٍ وَبِغَيْرِهَا، فَنَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَرَءُوا بِالتَّنْوِينِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو بِالْأَلِفِ وَوَقَفَ حَمْزَةُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَجَاءَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَنْ حَفْصٍ، وَابْنِ ذَكْوَانَ الْوَجْهَانِ، أَمَّا مَنْ نَوَّنَ فَعَلَى لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ جَمِيعَ مَا لَا يَنْصَرِفُ حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ، وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ عَلَى مُشَاكَلَةِ أَغْلَالًا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ رَآهَا فِي إِمَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ سَلَاسِلَا بِالْأَلِفِ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ وَقَفَ بِالْأَلِفِ اتباعًا لِلرَّسْمِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مُسْتَطِيرًا: مُمْتَدّ الْبَلَاءَ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَزَادَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الْقَارُورَةِ وَشِبْهِهَا وَاسْتَطَالَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اسْتَطَارَ وَاللَّهِ شَرُّهُ حَتَّى مَلَأَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مُسْتَطِيرًا} قَالَ: فَاشِيًا.
قَوْلُهُ: (وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ، يُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ، وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ فِي الْبَلَاءِ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَمْطَرِيرٌ أَيْ شَدِيدٌ، وَيُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: الْقَمْطَرِيرُ تَقْبِيضُ الْوَجْهِ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ: يَوْمُ الشَّدِيدُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الْوَجْهِ، وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ) سَقَطَ هَذَا هُنَا لِغَيْرِ النَّسَفِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَرَائِكُ السُّرُرُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْبَرَاءُ: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا}؛ يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ أَيْضًا، وَقَدْ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ:{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ وَعَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءُوا. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: إِنْ قَامَ ارْتَفَعَتْ وَإِنْ قَعَدَ تَدَلَّتْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ شَوْكٌ وَلَا بُعْدٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَلْسَبِيلَا؛ حَدِيدُ الْجِرْيَةِ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَسْرَهُمْ شِدَّةُ الْخَلْقِ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ وَغَبِيطٍ فَهُوَ مَأْسُورٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ، وَمَعْمَرٌ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ ابْنُ رَاشِدٍ فَزُعِمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ أَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَسْرَهُمْ شِدَّةُ خَلْقِهِمْ، وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ: شَدِيدُ الْأَسْرِ؛ أَيْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَأَمَّا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَإِنَّمَا أَخْرَجَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قَالَ: خَلْقَهُمْ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُورِدْ فِي تَفْسِيرِ {هَلْ أَتَى} حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَتِهَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ.
77 - سُورَةُ وَالْمُرْسَلَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جِمَالَتٌ؛ حِبَالٌ. ارْكَعُوا: صَلُّوا. لَا يَرْكَعُونَ: لَا يُصَلُّونَ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَنْطِقُونَ، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وَالْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّهُ ذُو أَلْوَانٍ؛ مَرَّةً يَنْطِقُونَ، وَمَرَّةً يُخْتَمُ عَلَيْهِمْ.
1 - باب
4930 -
حَدَّثَنا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلاتِ} ، وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا.
4931 -
حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا. وَعَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. وَتَابَعَهُ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ. وقَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلاتِ} ، فَتَلَقَّيْنَاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ، اقْتُلُوهَا. قَالَ: فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا، قَالَ: فَقَالَ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالْمُرْسَلَاتِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ وَالْمُرْسَلَاتِ حَسْبُ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا: الْمَلَائِكَةُ أُرْسِلَتْ بِالْمَعْرُوفِ.
قَوْلُهُ: (جِمَالَتٌ: حِبَالٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:(جِمَالَتٌ) حِبَالٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (كِفَاتًا) أَحْيَاءً يَكُونُونَ فِيهَا وَأَمْوَاتًا يُدْفَنُونَ فِيهَا. فُرَاتًا: عَذْبًا. جِمَالَتٌ: حِبَالُ الْجُسُورِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: جِمَالَتٌ جِمَالٌ؛ يُرِيدُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا: إِبِلٌ سُودٌ وَاحِدُهَا جِمَالَةٌ، وَجِمَالَةٌ جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلُ حِجَارَةٍ وَحَجَرٍ، وَمَنْ قَرَأَ جِمَالَتٌ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْحِبَالِ الْغِلَاظِ. وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَولِهِ {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} هُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: الْجِمَالَاتُ مَا جُمِعَ مِنَ الْحِبَالِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَعَلَى هَذَا يُقْرَأُ فِي الْأَصْلِ بِضَمِّ الْجِيمِ.
قُلْتُ: هِيَ قِرَاءَةٌ نُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا جُمَالَةٌ بِالْإِفْرَادِ مَضْمُومُ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِ مَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ (كِفَاتًا) فَتَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ، وَقَوْلُهُ:{فُرَاتًا} عَذْبًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ارْكَعُوا صَلُّوا، لَا يَرْكَعُونَ: لَا يُصَلُّونَ) سَقَطَ {لا يَرْكَعُونَ} لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} ، قَالَ: صَلُّوا.
قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لا يَنْطِقُونَ}، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فَقَالَ: إِنَّهُ ذُو أَلْوَانٍ؛ مَرَّةً يَنْطِقُونَ، وَمَرَّةً يَخْتِمُ عَلَيْهِمْ) سَقَطَ لَفْظُ {عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ فُصِّلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، وَعَطِيَّةَ أَتَيَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ! إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةٌ لَا يَنْطِقُونَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَا صَنَعُوا ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ؟ فَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ؛ فِي حَالٍ لَا يَنْطِقُونَ، وَفِي حَالٍ يَنْطِقُونَ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: إِنَّهُ يَوْمٌ ذُو أَلْوَانٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ لَكِنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ هَذَا بِوَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فِي غَارٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ كَمَا سَيَأْتِي: بِمِنًى، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِرَاءَ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَتْ) فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ الْآتِيَةِ: إِذْ وَثَبَتْ.
قَوْلُهُ: (فَابْتَدَرْنَاهَا) فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْتُلُوهَا. فَابْتَدَرْنَاهَا.
قَوْلُهُ: (فَسَبَقَتْنَا)؛ أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَسْبِقُوهَا فَسَبَقَتْهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَابْتَدَرْنَاهَا؛ أَيْ: تَسَابَقْنَا أَيُّنَا يُدْرِكُهَا، فَسَبَقَتْنَا كُلَّنَا. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ، وَالْأَوَّلُ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا، وَعَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ) يُرِيدُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ آدَمَ زَادَ لِإِسْرَائِيلَ فِيهِ شَيْخًا وَهُوَ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ) وَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَافَقَ إِسْرَائِيلَ عَلَى هَذَا شَيْبَانُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَوَرْقَاءُ، وَشَرِيكٌ، ثُمَّ وَصَلَهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ) يُرِيدُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ خَالَفُوا رِوَايَةَ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي شَيْخِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِسْرَائِيلُ يَقُولُ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْأَسْوَدُ. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَافَقَهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ. فَأَمَّا رِوَايَةُ حَفْصٍ - وَهُوَ ابْنُ غِيَاثٍ - فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ، وَسَتَأْتِي بَعْدَ بَابٍ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ وَصَلَهَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَكَذَا رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَصْرِيٌّ ضَعِيفُ الْحِفْظِ، وَتَفَرَّدَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِتَسْمِيَةِ أَبِيهِ مُعَاذًا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُعَلَّقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ:، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ) يَعْنِي ابْنَ مِقْسَمٍ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ) يُرِيدُ أَنَّ مُغِيرَةَ وَافَقَ إِسْرَائِيلَ فِي شَيْخِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ عَلْقَمَةُ، وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ بِهِ، وَلَفْظُهُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: وَالْمُرْسَلَاتِ الْحَدِيثَ. وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَالَ حَمَّادٌ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) يُرِيدُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنِ الْأَسْوَدِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَلَفْظُهُ: نَزَلَتْ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا بِحِرَاءَ لَيْلَةَ الْحَيَّةِ. قَالُوا: وَمَا لَيْلَةُ الْحَيَّةِ؟ قَالَ: خَرَجَتْ حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْتُلُوهَا. فَتَغَيَّبَتْ فِي جُحْرٍ، فَقَالَ: دَعُوهَا الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ: ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمَغَازِي.
ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بِتَمَامِهِ.
2 - بَاب قَوْلُهُ: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ
4932 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يقول: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ، قَالَ: كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلَاثَةَ أَذْرُعِ أَوْ أَقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ.
[الحديث 4932 - طرفه في: 4933]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ؛ أَيْ: قَدْرَ الْقَصْرِ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقِصَرٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَنْوِينِ الرَّاءِ وَبِالْإِضَافَةِ أَيْضًا، وَهُوَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ وَالْقَدْرِ، تَقُولُ: قِصَرُكَ وَقِصَارَاكَ مِنْ كَذَا؛ مَا اقْتَصَرْتَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ أَوْ أَقَلُّ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُسْتَمْلِيِّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصْرَ) بِسُكُونِ الصَّادِ وَبِفَتْحِهَا، وَهُوَ عَلَى الثَّانِي جَمْعُ قَصَرَةٍ؛ أَيْ كَأَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَالْقَصَرِ؛ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ أُصُولُ الشَّجَرِ، وَقِيلَ: أَعْنَاقُ النَّخْلِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْقَصْرُ الْبَيْتُ، وَمَنْ فَتَحَ أَرَادَ أُصُولَ النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ، شَبَّهَهَا بِقَصَرِ النَّاسِ أَيْ أَعْنَاقِهِمْ، فَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ قِرَاءَتَهُ بِالْفَتْحِ بِمَا ذُكِرَ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْأَعْرَجِ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ، قَالَ هَارُونُ: وَأَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو أَنَّ سَعِيدًا وَابْنَ عَبَّاسٍ قَرَآ كَذَلِكَ، وَأَسْنَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا بِفَتْحَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: اقْصُرُوا لَنَا الْحَطَبَ، فَيُقْطَعُ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ وَالذِّرَاعَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قَالَ: لَيْسَتْ كَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ، وَلَكِنَّهَا مِثْلُ الْمَدَائِنِ وَالْحُصُونِ.
3 - بَاب: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}
4933 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ؛ كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وفَوْقَ ذَلِكَ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ؛ حِبَالُ السُّفُنِ، تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ) زَادَ الْمُسْتَمْلِيُّ في رِوَايَتَهُ: أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ؛ حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ)؛ أَيْ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ لِيَقْوَى (حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ) قُلْتُ: هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ، قَالَ: حِبَالُ السُّفُنِ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ، وَفِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْقُلُوصُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْجُسُورِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ.
4 - بَاب قَوْلُهُ: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ}
4934 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ (وَالْمُرْسَلَاتِ)، فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْتُلُوهَا. فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا. قَالَ عُمَرُ: حَفِظْتُهُ مِنْ أَبِي: فِي غَارٍ بِمِنًى.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْحَيَّةِ.
قَوْلُهُ فِيهِ: (إِذْ وَثَبَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِذْ وَثَبَ بِالتَّذْكِيرِ، وَكَذَا قَالَ: اقْتُلُوهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُمَرُ) هُوَ ابْنُ حَفْصٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَفِظْتُهُ مِنْ أَبِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَفِظْتُهُ.
قَوْلُهُ: (فِي غَارٍ بِمِنًى) يُرِيدُ أَنَّ أَبَاهُ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ بِمِنًى، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ.
78 - سُورَةُ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)
قَالَ مُجَاهِدٌ: {لا يَرْجُونَ حِسَابًا} ؛ لَا يَخَافُونَهُ. {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لَا يُكَلِّمُونَهُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ. صَوَابًا: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَّاجًا؛ مُضِيئًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: غَسَّاقًا؛ غَسَقَتْ عَيْنُهُ، وَيَغْسَقُ الْجُرْحُ: يَسِيلُ، كَأَنَّ الْغَسَّاقَ وَالْغَسِيقَ وَاحِدٌ. {عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا، أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي: أَيْ كَفَانِي.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ (عَمَّ) بِمِيمٍ فَقَطْ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ رِوَايَةٌ بِالْهَاءِ وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ عَلَى الْأَصْلِ وَهِيَ لُغَةٌ نَادِرَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ النَّبَأِ.
قَوْلُهُ: {لا يَرْجُونَ حِسَابًا} لَا يَخَافُونَهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لَا يُكَلِّمُونَهُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ: لَا يَمْلِكُونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَسَأُبَيِّنُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: {صَوَابًا} حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ) وَوَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَالَّذِي بَعْدَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْفِرْيَابِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا قَالَ: كَلَامًا (إِلَّا مَنْ قَالَ صَوَابًا) قَالَ: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ثَجَّاجًا} مُنْصَبًّا ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: {أَلْفَافًا} : مُلْتَفَّةً) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَهَّاجًا}؛ مُضِيئًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: ({دِهَاقًا} مُمْتَلِئًا، {وَكَوَاعِبَ} نَوَاهِدَ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَغَسَّاقًا}؛ غَسَقَتْ عَيْنُهُ) سَقَطَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: تَغْسِقُ عَيْنُهُ؛ أَيْ تَسِيلُ. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ: وَقَالَ مَعْمَرٌ، فَذَكَرَهُ، وَمَعْمَرٌ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْمُثَنَّى الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (وَيَغْسِقُ الْجُرْحَ يَسِيلُ، كَأَنَّ الْغَسَّاقَ وَالْغَسْيقَ وَاحِدٌ) تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَسَقَطَ هُنَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا، أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي: أَيْ كَفَانِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَطَاءً حِسَابًا} ؛ أَيْ: جَزَاءً، وَيَجِيءُ حِسَابًا كَافِيًا، وَتَقُولُ: أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي؛ أَيْ كَفَانِي. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{عَطَاءً حِسَابًا} قَالَ: كَثِيرًا.
1 - بَاب: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)؛ زُمَرًا
4935 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟
وقَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ، لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}؛ زُمَرًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} قَالَ: زُمَرًا زُمَرًا.
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ الزُّمَرِ، وَقَوْلُهُ أَبَيْتُ بِضَمٍّ؛ أَيْ أَنْ أَقُولَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، وَبِالْفَتْحِ؛ أَيْ أَنْ أَعْرِفَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْبٌ.
79 - سُورَةُ (وَالنَّازِعَاتِ)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الآيَةَ الْكُبْرَى} عَصَاهُ وَيَدَهُ. يُقَالُ: النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرَةُ سَوَاءٌ، مِثْلُ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: والنَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ، وَالنَّاخِرَةُ: الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخُرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَافِرَةُ إِلَى أَمْرِنَا الْأَوَّلِ إِلَى الْحَيَاةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؛ مَتَى مُنْتَهَاهَا، وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالنَّازِعَاتِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: {زَجْرَةٌ} صَيْحَةٌ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}؛ هِيَ الزَّلْزَلَةُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ:{تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} ، وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ الْكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: {سَمْكَهَا} : بِنَاءَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: {طَغَى} : عَصَى) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهِ.
قَوْلُهُ: (النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرَةُ سَوَاءٌ، مِثْلُ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عِظَامًا نَخِرَةً} : نَاخِرَةٌ وَنَخِرَةٌ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ مِثْلَهُ، قَالَ: وَهُمَا قِرَاءَتَانِ أَجْوَدُهُمَا نَاخِرَةٌ. ثُمَّ أُسْنِدَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا بَالُ صِبْيَانٍ يَقْرَءُونَ {نَخِرَةً} ؟ إِنَّمَا هِيَ نَاخِرَةً.
قُلْتُ: قَرَأَهَا {نَخِرَةً} بِغَيْرِ أَلِفٍ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَبِالْأَلِفِ الْكُوفِيُّونَ لَكِنْ بِخُلْفٍ عَنْ عَاصِمٍ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: وَالْبَاخِلُ وَالْبَخِيلُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالنُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَلِغَيْرِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ قَالَ: هُوَ بِمَعْنَى الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ. وَقَوْلُهُ: سَوَاءٌ؛ أَيْ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَفِي نَخِرَةً مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي نَاخِرَةً.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ، وَالنَّاخِرَةُ: الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخُرُ) قَالَ الْفَرَّاءُ: فَرَّقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَيْنَ النَّاخِرَةِ وَالنَّخِرَةِ فَقَالَ: النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ، وَالنَّاخِرَةُ: الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخُرُ. وَالْمُفَسِّرُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْكَلْبِيِّ يَقُولُ: نَخِرَةٌ يَنْخُرُ فِيهَا الرِّيحُ، وَنَاخِرَةٌ بَالِيَةٌ. وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ فَهْمٍ يُخَاطِبُ فَرَسَهُ فِي يَوْمِ ذِي قَارٍ حِينَ تَحَارَبَتِ الْعَرَبُ وَالْفُرْسُ:
أَقْدِمْ نَجَاحُ إِنَّهَا الْأَسَاوِرَهْ
…
فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ
ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ
…
مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ
أَيْ: بَالِيَةً.
قَوْلُهُ: {بِالسَّاهِرَةِ} : وَجْهُ الْأَرْضِ) كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ فِيهَا الْحَيَوَانُ نَوْمَهُمْ وَسَهَرَهُمْ. ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْحَافِرَةِ} إِلَى أَمْرِنَا الْأَوَّلِ، إِلَى الْحَيَاةِ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْحَافِرَةِ} يَقُولُ: الْحَيَاةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَافِرَةُ، يَقُولُ: إِلَى أَمْرِنَا الْأَوَّلِ، إِلَى الْحَيَاةِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَتَيْتُ فُلَانًا ثُمَّ رَجَعْتُ عَلى حَافِرِي؛ أَيْ: مِنْ حَيْثُ جِئْتُ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَافِرَةُ الْأَرْضُ الَّتِي تُحْفَرُ فِيهَا قُبُورُهُمْ، فَسَمَّاهَا الْحَافِرَةَ؛ أَيِ: الْمَحْفُورَةُ، كَمَاءٍ دَافِقٍ؛ أَيْ: مَدْفُوقٍ.
قَوْلُهُ: {الرَّاجِفَةُ} النَّفْخَةُ الْأُولَى، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَوْلُهُ:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} النَّفْخَةُ الْأُولَى {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؛ مَتَى مُنْتَهَاهَا؟ وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَتَى مُنْتَهَاهَا. قَالَ: وَمُرْسَاهَا مُنْتَهَاهَا. . . إِلَخْ. ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - كَهَاتَيْنِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَأَغْطَشَ}؛ أَظْلَمَ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
1 - باب
4936 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا - بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ: بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ. الطامة: تطم على كل شيء.
قَوْلُهُ: (الطَّامَّةُ تَطِمُّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وَوَقَعَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ مُقَدَّمًا قَبْلَ بَابٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} هِيَ الْقِيَامَةُ تَطُمُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: الطَّامَّةُ هِيَ السَّاعَةُ، طَمَّتْ كُلَّ دَاهِيَةٍ.
80 - سُورَةُ (عَبَسَ).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} كَلَحَ وَأَعْرَضَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مُطَهَّرَةٌ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} جَعْلَ الْمَلَائِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لِأَنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ، فَجَعَلَ التَّطْهِيرَ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا. سَفَرَةٍ: الْمَلَائِكَةُ، وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ، سَفَرْتُ: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، وَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَصَدَّى؛ تَغَافَلُ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (لَمَّا يَقْضِ)؛ لَا يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ؛ تَغْشَاهَا شِدَّةٌ. مُسْفِرَةٌ: مُشْرِقَةٌ. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَةٍ. أَسْفَارًا: كُتُبًا. تَلَهَّى: تَشَاغَلُ. يُقَالُ: وَاحِدُ الْأَسْفَارِ سِفْرٌ.
4937 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القرآن وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ عَبَسَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} كَلَحَ وَأَعْرَضَ) أَمَّا تَفْسِيرُ {عَبَسَ} فَهُوَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ تَوَلَّى فَهُوَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ فِي أَنَّ فَاعِلَ عَبَسَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هُوَ الْكَافِرُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْشِدْنِي - وَعِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ - فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ فَيَقُولُ لَهُ: أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ فَيَقُولُ: لَا. فَنَزَلَتْ: عَبَسَ وَتَوَلَّى. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عُرْوَةَ لَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يُخَاطِبُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عُتْبَةُ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَعَيَّاشٌ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ نَاسٌ مِنْ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، فَهَذَا يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ.
قَوْلُهُ: {مُطَهَّرَةٍ} لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُطَهَّرَةٌ. . . إِلَخْ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَكَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ. فَذَكَرَ الْأَثَرَ الْآتِيَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} .
قَوْلُهُ: (جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لِأَنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ، فَجَعَلَ التَّطْهِيرَ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْغُلْبُ الْمُلْتَفَّةُ، وَالْأَبُّ: مَا يَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَحْدَهُ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: {سَفَرَةٍ} : الْمَلَائِكَةُ، وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ، سَفَرْتُ: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، وَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ: قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي
…
وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشِيتُ
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلُ اللَّهِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، الصَّحِيحُ أَنَّ فِيهِمُ الرُّسُلَ وَغَيْرَ الرُّسُلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْهُمُ السَّاجِدَ فَلَا يَقُومُ وَالرَّاكِعَ فَلَا يَعْتَدِلُ، الْحَدِيثَ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} وَأُجِيبَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ}
قَوْلُهُ: {تَصَدَّى} تَغَافَلُ عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ: وَقَالَ غَيْرُهُ. . . إِلَخْ وَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالَّذِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أَيْ: تَتَعَرَّضُ لَهُ، تَلَهَّى: تَغَافَلُ عَنْهُ، فَالسَّاقِطُ لَفْظُ تَتَعَرَّضُ لَهُ وَلَفْظُ تَلَهَّى، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ تَلَهَّى عَلَى الصَّوَابِ، وَهُوَ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي اللَّفْظَتَيْنِ، وَالْأَصْلُ تَتَصَدَّى وَتَتَلَهَّى، وَقَدْ تَعَقَّبَ أَبُو ذَرٍّ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: إِنَّمَا يُقَالُ تَصَدَّى لِلْأَمْرِ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا تَغَافَلُ فَهُوَ تَفْسِيرُ تَلَهَّى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ: تَصَدَّى؛ تَعَرَّضُ. وَهُوَ اللَّائِقُ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَافَلْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّمَا تَغَافَلَ عَنِ الْأَعْمَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَمَّا يَقْضِ}؛ لَا يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ أَبَدًا مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}؛ تَغْشَاهَا شِدَّةٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}
قَالَ: يَصِيرَانِ غَبَرَةً عَلَى وُجُوهِ الْكُفَّارِ لَا عَلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} قَوْلُهُ: {مُسْفِرَةٌ} : مُشْرِقَةٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَةٍ، أَسْفَارًا: كُتُبًا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قَالَ: كَتَبَةٍ، وَاحِدُهَا سَافِرٌ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قَالَ: كُتُبًا، وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قَالَ: كَتَبَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أَيْ كَتَبَةٍ، وَاحِدُهَا سَافِرٌ.
قَوْلُهُ: (تَلَهَّى تَشَاغَلُ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: وَاحِدُ الْأَسْفَارِ سِفْرٌ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الْأَسْفَارُ وَاحِدُهَا سِفْرٌ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْعِظَامُ.
قَوْلُهُ: {فَأَقْبَرَهُ} ، يُقَالُ: أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ؛ جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} جَعَلَهُ مَقْبُورًا، وَلَمْ يَقُلْ: قَبَرَهُ؛ لِأَنَّ الْقَابِرَ هُوَ الدَّافِنُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {فَأَقْبَرَهُ} : أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ، جَعَلَ لَهُ قَبْرًا، وَالَّذِي يَدْفِنُ بِيَدِهِ هُوَ الْقَابِرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ)؛ أَيِ ابْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، لِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَآخَرَ مُعَلَّقٍ فِي الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ: (مَثَلُ) بِفَتْحَتَيْنِ؛ أَيْ صِفَتُهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ}
قَوْلُهُ: (وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَةِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ.
قُلْتُ: أَرَادَ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ التَّرْكِيبِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا رَبْطَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَثَلُ وَالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ مَعَ السَّفَرَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمَثَلُ بِمَعْنَى الشَّبِيهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: شَبِيهُ الَّذِي يَحْفَظُ كَائِنٌ مَعَ السَّفَرَةِ، فَكَيْفَ بِهِ! وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَأَنَّهُ قَالَ: صِفَتُهُ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ كَأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَةِ، وَصِفَتُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَجْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ هَلْ لَهُ ضِعْفُ أَجْرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ حَافِظًا أَوْ يُضَاعَفُ لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْأَوَّلِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ، وَلِمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ أَنْ يَقُولَ: الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ.
81 - باب سُورَةُ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)
انْكَدَرَتْ: انْتَثَرَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُجِّرَتْ؛ ذَهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى قَطْرَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَسْجُورُ؛ الْمَمْلُوءُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُجِّرَتْ؛ أَفْضَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا. وَالْخُنَّسُ تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا: تَرْجِعُ. وَتَكْنِسُ: تَسْتَتِرُ في بيوتها كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ. تَنَفَّسَ: ارْتَفَعَ النَّهَارُ. وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالضَّنِينُ: يَضِنُّ بِهِ. وَقَالَ عُمَرُ: النُّفُوسُ زُوِّجَتْ؛ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ رضي الله عنه:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} عَسْعَسَ: أَدْبَرَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ التَّكْوِيرِ.
قَوْلُهُ: {سُجِّرَتْ} : يَذْهَبُ مَاؤُهَا فَلَا يَبْقَى قَطْرَةٌ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَسْجُورُ؛ الْمَمْلُوءُ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {سُجِّرَتْ}؛ أَفْضَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا) هُوَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أَيْ: فُتِحَتْ وَسُيِّرَتْ.
قَوْلُهُ: {انْكَدَرَتْ} انْتَثَرَتْ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} : يُرِيدُ انْتَثَرَتْ، وَقَعَتْ فِي وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قَالَ: تَنَاثَرَتْ.
قَوْلُهُ: {كُشِطَتْ} أَيْ: غُيِّرَتْ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قُشِطَتْ، مِثْلَ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ، وَالْقُسْطِ وَالْكُسْطِ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِي الطِّبِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} يَعْنِي نُزِعَتْ وَطُوِيَتْ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - قُشِطَتْ بِالْقَافِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ الْقَافُورُ وَالْكَافُورُ وَالْقُسْطُ وَالْكُسْطُ، إِذَا تَقَارَبَ الْحَرْفَانِ فِي الْمَخْرَجِ تَعَاقَبَا فِي اللُّغَةِ، كَمَا يُقَالُ حَدَّثَ وَحَدَّتَ وَالْأَتَانِيُّ وَالْأَثَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَالْخُنَّسُ تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا: تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ: تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} : وَهِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَايِرِ وَهِيَ الْكُنَّاسُ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ الْخَمْسَةِ بَهْرَامُ وَزُحَلُ وَعُطَارِدُ وَالزَّهْرَةُ وَالْمُشْتَرِي، وَأَسْنَدَ هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا الْخُنَّسُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَظُنُّهُ بَقَرَ الْوَحْشِ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ، وَالْكُنَّسُ تَسْتُرُهُنَّ إِذَا غِبْنَ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكُنَّسُ الظِّبَاءُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُنَّ الْكَوَاكِبُ تَكْنِسُ بِاللَّيْلِ وَتَخْنِسُ بِالنَّهَارِ فَلَا تُرَى. وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ قَالَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لِمَ لَا تَدْرِي؟ قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَهَؤُلَاءِ يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا النُّجُومُ. قَالَ: إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى عَلِيٍّ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ إِنَّ عَلِيًّا قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ الْأَعْلَى ضَمِنَ الْأَسْفَلُ.
قَوْلُهُ: {تَنَفَّسَ} : ارْتَفَعَ النَّهَارُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالضَّنِينُ: يَضِنُّ بِهِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَشَارَ إِلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَهَا بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ فَمَعْنَاهَا لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالسَّاقِطَةِ فَمَعْنَاهَا الْبَخِيلُ. وَرَوَى الْفَرَّاءُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ وَرْقَاءَ قَالَ: أَنْتُمْ تَقْرَءُونَ {بِضَنِينٍ} : بِبَخِيلٍ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ بِظَنِينٍ: بِمُتَّهَمٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ، وَالضَّنِينُ: الْبَخِيلُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {بِضَنِينٍ} قَالَ: وَالضَّنِينُ وَالظَّنِينُ سَوَاءٌ، يَقُولُ: مَا هُوَ بِكَاذِبٍ، وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ، وَالضَّنِينُ الْبَخِيلُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: النُّفُوسُ زُوِّجَتْ؛ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. ثُمَّ قَرَأَ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَشَرِيكٍ، كُلِّهِمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}: هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ قَرَأَ:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَعْمَلَانِ الْعَمَلَ يَدْخُلَانِ بِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ: الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ وَالصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَرَ بِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عُمَرَ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ النُّعْمَانِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَأَخْرَجَ الْفَرَّاءُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: يُقْرَنُ الرَّجُلُ بِقَرِينِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، وَيُقْرَنُ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ السُّوءَ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينِهِ الَّذِي كَانَ يُعِينُهُ فِي النَّارِ.
قَوْلُهُ: {عَسْعَسَ} : أَدْبَرَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: {عَسْعَسَ} ؛ أَقْبَلَتْ
ظَلْمَاؤُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ وَلَّى، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وَرَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ شَهْرَنَا قَدْ عَسْعَسَ؛ أَيْ أَدْبَرَ. وَتَمَسَّكَ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَقْبَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قَالَ الْخَلِيلُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُورِدْ فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَفِيهَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيَ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} لَفْظُ أَحْمَدَ.
82 - سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}
بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: فُجِّرَتْ؛ فَاضَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ (فَعَدَلَكَ) بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ. وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ: إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ، أَوْ طَوِيلٌ أَوَ قَصِيرٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الِانْفِطَارِ.
قَوْلُهُ: (انْفِطَارُهَا انْشِقَاقُهَا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {بُعْثِرَتْ} يَخْرُجُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى) ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بُعْثِرَتْ؛ أَيْ بُحِثَتْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {انْتَثَرَتْ}. بَعْثَرْتُ حَوْضِيَ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ أَيْضًا وَحْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: {فُجِّرَتْ}؛ فَاضَتْ) قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ:، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَى - هُوَ مُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ -، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ بِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ مِثْلَهُ وَأَتَمَّ مِنْهُ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الرَّبِيعِ فُجِرَتْ بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَهُوَ اللَّائِقُ بِتَفْسِيرِهِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ {فَعَدَلَكَ} بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ) قُلْتُ: قَرَأَ أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَرَأَ أَيْضًا بِالتَّثْقِيلِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ قَرَاءة الْأَمْصَارِ.
قَوْلُهُ: (وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ: إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ، أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ إِلَى قَوْلِهِ بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يَصْرِفُكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ. . . إِلَخْ، وَمَنْ شَدَّدَ فَإِنَّهُ أَرَادَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - جَعَلَكَ مُعْتَدِلًا مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ. قَالَ: وَهُوَ أَجْوَدُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَحَبُّهُمَا إِلَيَّ. وَحَاصِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الَّتِي بِالتَّثْقِيلِ مِنَ التَّعْدِيلِ، وَالْمُرَادُ التَّنَاسُبُ، وَبِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْعَدْلِ وَهُوَ الصَّرْفُ إِلَى أَيْ صِفَةٍ أَرَادَ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُورِدْ فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
83 - سُورَةُ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)،
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَانَ؛ ثَبْتُ الْخَطَايَا. ثُوِّبَ: جُوزِيَ. الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ. {خِتَامُهُ مِسْكٌ} طِينُهُ. التَّسْنِيمُ: يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُطَفِّفُ لَا يُوَفِّي غَيْرَهُ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بَلْ رَانَ}؛ ثَبْتُ الْخَطَايَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَرُوِّينَا فِي فَوَائِدِ الدِّيبَاجِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ: ثَبَتَتْ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَطَايَا حَتَّى غَمَرَتْهَا، انْتَهَى. وَالرَّانُ وَالرَّيْنُ: الْغِشَاوَةُ، وَهُوَ كَالصَّدَى عَلَى الشَّيْءِ الصَّقِيلِ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ هُوَ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى:{كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وَرُوِّينَا فِي الْمَحَامِلِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ الرَّيْنَ هُوَ الطَّبْعُ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا ثَبَتَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُ ثَانِيهِ.
قَوْلُهُ: {ثُوِّبَ} جُوزِيَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (الرَّحِيقُ: الْخَمْرُ، {خِتَامُهُ مِسْكٌ} طِينُهُ. التَّسْنِيمُ: يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُطَفِّفُ لَا يُوَفِّي غَيْرَهُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَعْنٌ) هُوَ ابْنُ عِيسَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَرَائِبِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ تَابَعَ مَعْنَ بْنَ عِيسَى عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَإِسْحَاقُ الْقَرَوِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ؛ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ.
بَاب: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
4938 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (فِي رَشَحِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ؛ أَيْ عَرَقِهِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا يَرْشَحُ الْإِنَاءُ الْمُتَحَلِّلُ الْأَجْزَاءَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ دَاوُدَ: حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ يُلْجِمُ أَحَدَهُمْ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْجَمِيعِ إِلَى الْجَمِيعِ حَقِيقَةً وَمَعْنًى، لِأَنَّ لِكُلٍ وَاحِدٍ أُذُنَيْنِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا.
84 - سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: {كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ؛ يَأْخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَسَقْ: جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ. {ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} لَا يَرْجِعُ إِلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الِانْشِقَاقِ، وَسُورَةُ الشَّفَقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَذِنْتَ}؛ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ لِرَبِّهَا، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ) وَقَعَ هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَتَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: {كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} يُعْطَى كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} قَالَ: تُجْعَلُ يَدُهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَيَأْخُذُ بِهَا كِتَابَهُ.
قَوْلُهُ: {وَسَقَ} جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِثْلُهُ وَأَتَمُّ مِنْهُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} قَالَ: وَمَا دَخَلَ فِيهِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: {ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} : أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَيْنَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، وَأَصْلُ يَحُورُ الْحَوْرُ بِالْفَتْحِ؛ وَهُوَ الرُّجُوعُ، وَحَاوَرْتُ فُلَانًا أَيْ رَاجَعْتُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُوعُونَ} يُسِرُّونَ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {يُوعُونَ} قَالَ: فِي صُدُورِهِمْ.
1 - بَاب: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا
4939 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. ح
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ح
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ. قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قَالَ: ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَيِ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْمَكِّيِّ مَوْلَى بَنِي جُمَحٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ عُثْمَانُ الْأَسْوَدُ صِفَةٌ لِعُثْمَانَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَاشْتَمَلَ مَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ: عُثْمَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَتَابَعَهُ أَيُّوبُ، عَنْ عُثْمَانَ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو يُونُسَ فَأَدْخَلَ بَيْنَ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَائِشَةَ رَجُلًا وَهُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ حَمَلَهُ عَنِ الْقَاسِمِ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ أَوْ سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ عَائِشَةَ ثُمَّ اسْتَثْبَتَ الْقَاسِمُ إِذْ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَهُ. وَقَدِ اسْتَدْرَكَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، وَأُجِيبَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَنَبَّهَ الْجَيَّانِيُّ عَلَى خَبْطٍ لِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي هَذِهِ الْأَسَانِيدِ قَالَ: سَقَطَ عِنْدَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَزِيدَ عِنْدَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُونُسَ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَ الْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ وَمُتُونُهَا مُخْتَلِفَةٌ.
قُلْتُ: وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأُوَضِّحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَتْ بَعْضُ مَبَاحِثِهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ.
2 - بَاب: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}
4940 -
حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ؛ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ؛ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم؛ أَيِ الْخِطَابُ لَهُ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هُشَيْمٍ بِلَفْظِ أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْرَأُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ؛ يَعْنِي: نَبِيَّكُمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ عَنْ هُشَيْمٍ، وَزَادَ: يَعْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ بِالْفَتْحِ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ، وَرَجَّحَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا:{طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ؛ يَعْنِي: حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمَسْرُوقٍ قَالَ: السَّمَاوَاتُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى قَوْلِهِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: السَّمَاءُ. وَفِي لَفْظٍ لِلطَّبَرِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ السَّمَاءَ تَصِيرُ مَرَّةً كَالدِّهَانِ، وَمَرَّةً تُشَقَّقُ ثُمَّ تَحْمَرُّ ثُمَّ تَنْفَطِرُ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ، وَأَصْلُ الطَّبَقِ الشِّدَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا يَقَعُ مِنَ الشَّدَائِدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالطَّبَقُ مَا طَابَقَ غَيْرَهُ، يُقَالُ: مَا هَذَا بِطَبَقِ كَذَا؛ أَيْ: لَا يُطَابِقُهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ؛ أَيْ حَالَ مُطَابَقَةٍ لِلَّتِي قَبْلَهَا فِي الشِّدَّةِ، أَوْ هُوَ جَمْعُ طَبَقَةٍ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ، أَيْ هِيَ طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْمَوْلُودِ مُنْذُ يَكُونُ جَنِينًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ إِلَى أَقْصَى الْعُمُرِ، فَهُوَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ جَنِينٌ، ثُمَّ إِذَا وُلِدَ صَبِيٌّ، فَإِذَا فُطِمَ غُلَامٌ، فَإِذَا بَلَغَ سَبْعًا يَافِعٌ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرًا حَزَوَّرٌ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ قُمُدٌّ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ عَنَطْنَطٌ، فَإِذَا بَلَغَ ثَلَاثِينَ صُمُلٌّ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ كَهْلٌ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ شَيْخٌ، فَإِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ هِمٌّ، فَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ فَانٍ.
85 - سُورَةُ (الْبُرُوجِ)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأُخْدُودُ؛ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ. فَتَنُوا: عَذَّبُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَدُودُ؛ الْحَبِيبُ. الْمَجِيدُ: الْكَرِيمُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْبُرُوجِ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرَ الْفُرْقَانِ تَفْسِيرُ الْبُرُوجِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الأُخْدُودِ}؛ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِلَفْظِ: شَقٌّ بِنَجْرَانَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ مُطَوَّلَةً، وَفِيهِ قِصَّةُ الْغُلَامِ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنَ السَّاحِرِ، فَمَرَّ بِالرَّاهِبِ فَتَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ، فَأَرَادَ الْمَلِكُ قَتْلَ الْغُلَامِ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تَقُولَ إِذَا رَمَيْتَنِي: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ. فَفَعَلَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَخَدَّ لَهُمُ الْمَلِكُ الْأَخَادِيدَ فِي السِّكَكِ وَأَضْرَمَ فِيهَا النِّيرَانَ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِ. وَفِيهِ قِصَّةُ الصَّبِيِّ الَّذِي قَالَ لِأُمِّهِ: اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. صَرَّحَ بِرَفْعِ الْقِصَّةِ بِطُولِهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ. وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ. وَوَقَفَهَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهَا التِّرْمِذِيُّ، وَعِنْدَهُ فِي آخِرِهِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} - إِلَى - {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
قَوْلُهُ: {فَتَنُوا} عَذَّبُوا)
وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي الْفِتْنَةِ، وَمِثْلُهُ:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ؛ أَيْ: يُعَذَّبُونَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْوَدُودُ}؛ الْحَبِيبُ، {الْمَجِيدُ} الْكَرِيمُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:{الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قَالَ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ. وَفِي قَوْلِهِ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} يَقُولُ: الْكَرِيمُ.
86 - سُورَةُ (الطَّارِقِ)
هُوَ النَّجْمُ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ: الْمُضِيءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ؛ سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ. {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} الْأَرْضُ تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ؛ لَحَقٌّ. لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ: إِلَّا عَلَيْهَا حَافَظٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الطَّارِقِ: هُوَ النَّجْمُ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ) ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} الْمُضِيءُ، يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ؛ لِلْمُوقِدِ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَسَيَأْتِي لِلْبَاقِينَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ. وَهُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} إِلَخْ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الثَّاقِبُ الْمُضِيءُ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الثَّاقِبُ} الَّذِي يَتَوَهَّجُ) ثَبَتَ هَذَا لِأَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهَذَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ:{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ؛ الثُّرَيَّا.
قَوْلُهُ: {ذَاتِ الرَّجْعِ} : سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ، وَذَاتِ الصَّدْعِ: الْأَرْضُ تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قَالَ: يَعْنِي ذَاتِ السَّحَابِ تُمْطِرُ ثُمَّ تَرْجِعُ بِالْمَطَرِ، وَفِي قَوْلِهِ {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} ذَاتِ النَّبَاتِ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {ذَاتِ الرَّجْعِ} الْمَطَرُ بَعْدَ الْمَطَرِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَوْلٌ فَصْلٌ}؛ لَحَقٌّ) وَقَعَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ بِزِيَادَةٍ.
قَوْلُهُ: ({لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ أَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَالَ: لَمْ نَسْمَعْ لِقَوْلِ لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا شَاهِدًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقُرِئَتْ لَمَّا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ: فَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ أَنْكَرَ التَّشْدِيدَ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِهِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُورِدْ فِي الطَّارِقِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَقَدْ وَقَعَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ؟ يَكْفِيكَ أَنْ تَقْرَأَ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا، وَوَصَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
87 - سُورَةُ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {قَدَّرَ فَهَدَى} ؛ قَدَّرَ لِلْإِنْسَانِ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، (وَهَدَى) الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا.
4941 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ
وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَ. فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْأَعْلَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْرَأُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {قَدَّرَ فَهَدَى}؛ قَدَّرَ لِلْإِنْسَانِ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {غُثَاءً أَحْوَى}؛ هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا) ثَبَتَ أَيْضًا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي أَوَّلِ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا: يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَذَفَ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِنَّمَا شُرِعَتْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ نُزُولُهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى مُعْظَمِ السُّورَةِ. ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ لَفْظَ صلى الله عليه وسلم مِنْ صُلْبِ الرِّوَايَةِ مِنْ لَفْظِ الصَّحَابِيِّ؟ وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ مِمَّنْ دُونَهُ؟ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يُتَرَضَّى عَنِ الصَّحَابِيِّ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ.
88 - سُورَةُ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)،
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ؛ النَّصَارَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَيْنٍ آنِيَةٍ} ؛ بَلَغَ إِنَاهَا وَحَانَ شُرْبُهَا. {حَمِيمٍ آنٍ} بَلَغَ إِنَاهُ. لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً: شَتْمًا. وَيُقَالُ الضَّرِيعُ؛ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ: الشِّبْرِقُ، يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ، وَهُوَ سُمٌّ. بِمُسيْطِرٍ: بِمُسَلَّطٍ، وَيُقْرَأُ بِالصَّادِّ وَالسِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِيَابَهُمْ؛ مَرْجِعَهُمْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ هَلْ أَتَاكَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِلْبَاقِينَ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْغَاشِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغَاشِيَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ: الْيَهُودَ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرُّهْبَانُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَيْنٍ آنِيَةٍ}؛ بَلَغَ إِنَاهَا وَحَانَ شُرْبُهَا. {حَمِيمٍ آنٍ} بَلَغَ إِنَاهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مُفَرَّقًا فِي مَوَاضِعِهِ.
قَوْلُهُ: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} ؛ شَتْمًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: لَا تَسْمَعُ فِيهَا بَاطِلًا وَلَا مَأْثَمًا، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ تَسْمَعُ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ، وَقَرَأَهَا الْجَحْدَرِيُّ بِتَحْتَانِيَّةٍ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ فَضَمَّا التَّحْتَانِيَّةَ، وَضَمَّ نَافِعٌ أَيْضًا لَكِنْ بِفَوْقَانِيَّةٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الضَّرِيعُ؛ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ، تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ الضَّرِيعُ إِذَا يَبِسَ، وَهُوَ سُمٌّ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَالشِّبْرِقُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ
بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: هُوَ نَبْتٌ أَخْضَرُ مُنْتِنُ الرِّيحِ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ قَالَ: الضَّرِيعُ؛ الشِّبْرِقُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الضَّرِيعُ شَجَرٌ مِنْ نَارٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْحِجَارَةُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: كَأَنَّ الضَّرِيعَ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّارِعِ وَهُوَ الذَّلِيلُ، وَقِيلَ: هُوَ السُّلَّا؛ بِضَمِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهُوَ شَوْكُ النَّخْلِ.
قَوْلُهُ: {بِمُصَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ، قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا إِلَّا مُبَيْطِرٍ؛ أَيْ بِالْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: لَمْ نَجِدْ لَهُمَا ثَالِثًا. كَذَا قَالَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ زِيَادَاتٍ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَصْلُهُ السَّطْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ مَا هُوَ فِيهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَيُؤْذَنُ لَهُ فِي الْقِتَالِ.
قَوْلُهُ: (وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ) قُلْتُ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالصَّادِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالسِّينِ وَهِيَ قِرَاءَةُ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِيَابَهُمْ}؛ مَرْجِعَهُمْ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ بِهِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلْ فِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ رَفَعَهُ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
89 - سُورَةُ (الْفَجْرِ)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} ؛ يَعْنِي الْقَدِيمَةَ. وَالْعِمَادُ: أَهْلُ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ. {سَوْطَ عَذَابٍ} الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ. {أَكْلا لَمًّا} السَّفُّ. وَجَمًّا: الْكَثِيرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ، السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوَتْرُ: اللَّهُ تبارك وتعالى. وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَوْطَ عَذَابٍ} ؛ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ. {لَبِالْمِرْصَادِ} إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. {تَحَاضُّونَ} تُحَافِظُونَ، وَتَحُضُّونَ: تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ. الْمُطَمْئِنَةُ: الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ؛ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَه اللَّهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَابُوا؛ نَقَبُوا، مِنْ جَيْبِ الْقَمِيصِ قُطِعُ لَهُ جَيْبٌ، يَجُوبُ الْفَلَاةَ: يَقْطَعُهَا. لَمًّا: لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ؛ أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالْفَجْرِ - وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} يَعْنِي: الْقَدِيمَة، وَالْعِمَادُ: أَهْلُ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: إِرَمَ الْقَدِيمَةِ، وَذَاتُ الْعِمَادِ: أَهْلُ عِمَادٍ لَا يُقِيمُونَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: إِرَمُ؛ قَبِيلَةٌ مِنْ عَادٍ، قَالَ: وَالْعِمَادُ؛ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ أَيْ خِيَامٍ، انْتَهَى. وَإِرَمُ هُوَ ابْنُ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَعَادُ ابْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ. وَقِيلَ: إِرَمُ اسْمُ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِمَادِ شِدَّةُ أَبْدَانِهِمْ وَإِفْرَاطُ طُولِهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الصَّخْرَةَ فَيَحْمِلُهَا عَلَى كَاهِلِهِ فَيُلْقِيهَا عَلَى أَيِّ حَيٍّ أَرَادَ فَيُهْلِكُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِرَمُ اسْمُ أَبِيهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِرَمُ أُمُّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ إِرَمَ قَبِيلَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِرَمُ هِيَ دِمَشْقُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: إِرَمُ الْأَرْضُ. وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْأرَمُ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: أَرَمَ بَنُو فُلَانٍ؛ أَيْ: هَلَكُوا. وَمِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ نَحْوَهُ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ قُرِئَتْ بِعَادٍ أَرَّمَ بِفَتْحَتَيْنِ وَالرَّاءُ ثَقِيلَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَذَاتَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ؛ أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ ذَاتَ الْعِمَادِ، وَهُوَ تَرْكِيبٌ قَلِقٌ.
وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ أَنَّ إِرَمَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ وَهُمْ إِرَمُ بْنُ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَعَادٌ هُمْ بَنُو عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ، وَمُيِّزَتْ عَادٌ بِالْإِضَافَةِ لِإِرَمَ عَنْ عَادٍ الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأَحْقَافِ أَنَّ عَادًا قَبِيلَتَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} فَقَدْ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهَا صِفَةُ الْقَبِيلَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ أَيْ خِيَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ:{ذَاتِ الْعِمَادِ} الْقُوَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابًا قَدِيمًا: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، أَنَا الَّذِي رَفَعْتُ ذَاتَ الْعِمَادِ، أَنَا الَّذِي شَدَدْتُ بِذِرَاعِي بَطْنَ وَادٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلَابَةَ قِصَّةً مُطَوَّلَةً جِدًّا أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي صَحَارِي عَدَنَ، وَأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَدِينَةٍ فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ فَذَكَرَ عَجَائِبَ مَا رَأَى فِيهَا، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُهُ أَحْضَرَهُ إِلَى دِمَشْقَ وَسَأَلَ كَعْبًا عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ بَنَاهَا وَكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ مُطَوَّلًا جِدًّا، وَفِيهَا أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، وَرَاوِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ لَا يُعْرَفُ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ.
قَوْلُهُ: {سَوْطَ عَذَابٍ} : الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: مَا عُذِّبُوا بِهِ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: كُلُّ شَيْءٍ عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ سَوْطُ عَذَابٍ. وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ.
قَوْلُهُ: {أَكْلا لَمًّا} : السَّفُّ، وَجَمًّا: الْكَثِيرُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: السَّفُّ لَفُّ كُلِّ شَيْءٍ. وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا قَالَ: الْكَثِيرُ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى السَّفِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فِي النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ، السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوَتْرُ اللَّهُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِأَتَمِّ مِنْ هَذَا. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ؛ بَعْضُهَا شَفْعٌ، وَبَعْضُهَا وَتْرٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا مُبْهَمًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ الْمُبْهَمُ فَاغْتَرَّ فَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ قَالَ: الْعَشْرُ: عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالشَّفْعُ: يَوْمُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ: يَوْمُ عَرَفَةَ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَجْرُ؛ فَجْرُ النَّهَارِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ: عَشْرُ الْأَضْحَى. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الشَّفْعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْوَتْرَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَهَا الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: سَوْطَ عَذَابٍ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: جَرَى بِهِ الْكَلَامُ. لِأَنَّ السَّوْطَ أَصْلُ مَا كَانُوا يُعَذِّبُونَ بِهِ، فَجَرَى لِكُلِ عَذَابٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْغَايَةُ.
قَوْلُهُ: {لَبِالْمِرْصَادِ} : إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَالْمِرْصَادُ مِفْعَالٌ مِنَ الْمَرْصَدِ وَهُوَ مَكَانُ الرَّصْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ؛ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمِرْصَادُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيِ الرَّاصِدِ، لَكِنْ أُتِيَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَإِنْ سُمِعَ ذَلِكَ نَادِرًا فِي الشِّعْرِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَاضِحٌ فَلَا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِمِرْصَادِ؛ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ.
قَوْلُهُ: {تَحَاضُّونَ} : تُحَافِظُونَ، وَتَحُضُّونَ: تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ) قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ بِالْأَلِفِ وَبِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَهُ، وَمِثْلُهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ لَكِنْ بِغَيْرِ
أَلِفٍ، وَبَعْضُهُمْ يَحَاضُّونَ بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّلَهُ، وَالْكُلُّ صَوَابٌ. كَانُوا يَحَاضُّونَ: يُحَافِظُونَ، وَيَحُضُّونَ: يَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ، انْتَهَى. وَأَصْلُ تَحَاضُّونَ تَتَحَاضُّونَ؛ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتَانِيَّةِ فِي يُكْرِمُونَ وَيَحُضُّونَ وَمَا بَعْدَهُمَا، وَبِمِثْلِ قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِالْمُثَنَّاةِ فِيهَا وَفِي يُكْرِمُونَ فَقَطْ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْمُثَنَّاةِ فِيهِمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ وَشَيْبَةُ، لَكِنْ بِغَيْرِ أَلِفِ في يَحُضُّونَ.
قَوْلُهُ: (الْمُطْمَئِنَّةُ الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ) قَالَ الْفَرَّاءُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} بِالْإِيمَانِ، الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ وَالْبَعْثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُطْمَئِنَّةُ الْمُؤْمِنَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}؛ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْه، وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَدْخَلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِالتَّأْنِيثِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَوْجَهُ. وَلِلْآخَرِ وَجْهٌ وَهُوَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الشَّخْصِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ قَبْضَ رُوحِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَاطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهَا، أَمَرَ بِقَبْضِهَا فَأَدْخَلَهَا الْجَنَّةَ وَجَعَلَهَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. أَخْرَجَهُ مُفَرَّقًا، وَإِسْنَادُ الِاطْمِئْنَانِ إِلَى اللَّهِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ مِنْ إِيصَالِ الْخَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ، وَالْمُصَدِّقَةُ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {جَابُوا}؛ نَقَبُوا، مِنْ جَيْبِ الْقَمِيصِ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ. يَجُوبُ الْفَلَاةَ)؛ أَيْ: (يَقْطَعُهَا) ثَبَتَ هَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {جَابُوا} الْبِلَادَ: نَقَبُوهَا، وَيَجُوبُ الْبِلَادَ يَدْخُلُ فِيهَا وَيَقْطَعُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:{جَابُوا الصَّخْرَ} فَرَّقُوهُ فَاتَّخَذُوهُ بُيُوتًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ:{جَابُوا الصَّخْرَ} نَقَبُوا الصَّخْرَ.
قَوْلُهُ: (لَمًّا: لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ؛ أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ:{حُبًّا جَمًّا} ؛ كَثِيرًا شَدِيدًا.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي الْفَجْرِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قَالَ: يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
90 - سُورَةُ (لَا أُقْسِمُ)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مَكَّةَ، لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ. وَوَالِدٍ: آدَمَ وَمَا وَلَدَ. لُبَدًا: كَثِيرًا. وَالنَّجْدَيْنِ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. مَسْغَبَةٍ: مَجَاعَةٍ. مَتْرَبَةٍ: السَّاقِطُ مِنَ التُّرَابِ. يُقَالُ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ؛ فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَةَ فَقَالَ:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، {فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ لَا أُقْسِمُ) وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْبَلَدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مَكَّةَ، لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: يَقُولُ: لَا تُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْتَ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ مَا عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فَزَادَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ فِيهِ مَا شَاءَ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُقَاتِلَ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَالصِّيغَةُ لِلْوَقْتِ الْحَاضِر وَالْمُرَادُ الْآتِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْفَتْحُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِثَمَانِ سِنِينَ.
قَوْلُهُ: {وَوَالِدٍ} آدَمُ وَمَا وَلَدَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَزَادَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: {فِي كَبَدٍ} : فِي شِدَّةِ خَلْقٍ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا، وَمَعِيشَةٌ فِي نَكَدٍ وَهُوَ يُكَابِدُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: فِي وِلَادَتِهِ وَنَبْتِ أَسْنَانِهِ وَسَرَرِهِ وَخِتَانِهِ وَمَعِيشَتِهِ.
قَوْلُهُ: {لُبَدًا} : كَثِيرًا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِهَذَا، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَشَدَّدَهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنِّ. وَالنَّجْدَيْنِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: سَبِيلُ الْخَيْرِ وَسَبِيلُ الشَّرِّ، يَقُولُ: عَرَفْنَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النَّجْدَيْنِ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ.
قَوْلُهُ: {مَسْغَبَةٍ} : مَجَاعَةٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ جُوعٍ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذِي مَجَاعَةٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ الطَّعَامُ.
قَوْلُهُ: {مَتْرَبَةٍ} : السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: الْمَطْرُوحُ فِي التُّرَابِ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَطْرُوحُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ. وَفِي لَفْظٍ: الْمَتْرَبَةُ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ وَهُوَ كَذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَلِابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ؛ فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَةَ فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لِلنَّارِ عَقَبَةٌ دُونَ الْجَنَّةِ، {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ اقْتِحَامِهَا فَقَالَ: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إِلَخْ) بِلَفْظِ الْأَصْلِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَسْغَبَةٍ: مَجَاعَةٍ، {ذَا مَتْرَبَةٍ} قَدْ لَزِقَ بِالتُّرَابِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمُوجِبَاتِ إِطْعَامُ الْمُؤْمِنِ السَّغْبَانِ.
(تَنْبِيهٌ): قَرَأَ فَكَّ وَأَطْعَمَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِيهِمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ فَكُ بِضَمِ الْكَافِ وَالْإِضَافَةِ وَإِطْعَامٌ عَطْفًا عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِ الْهَمْزَةِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ أَوْ فُكَّ الرَّقَبَةَ. قَالَ: أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
91 - سُورَةُ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ضُحَاهَا؛ ضَوْءُهَا. إِذَا تَلَاهَا: تَبِعَهَا. وَطَحَاهَا: دَحَاهَا. وَدَسَّاهَا: أَغْوَاهَا. فَأَلْهَمَهَا: عَرَّفَهَا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِطَغْوَاهَا؛ بِمَعَاصِيهَا. {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} عُقْبَى أَحَدٍ.
4942 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا؛ انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ. وَذَكَرَ النِّسَاءَ فَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ. ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ، وَقَالَ: لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ضُحَاهَا}؛ ضَوْءُهَا. {إِذَا تَلاهَا} تَبِعَهَا. وَطَحَاهَا: دَحَاهَا. وَدَسَّاهَا: أَغْوَاهَا) ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مُفَرَّقًا إِلَّا قَوْلَهُ: دَسَّاهَا، فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمِيعَ ذَلِكَ
قَوْلُهُ: {فَأَلْهَمَهَا} : عَرَّفَهَا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ.
قَوْلُهُ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} عُقْبَى أَحَدٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ؛ اللَّهُ لَا يَخَافُ عُقْبَى أَحَدٍ، وَهُوَ مَضْبُوطٌ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ بِالْوَاوِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْفَاءِ: فَلَا يَخَافُ، فَالْوَاوُ صِفَةُ الْعَاقِرِ؛ أَيْ عَقَرَ وَلَمْ يَخَفْ عَاقِبَةَ عَقْرِهَا، أَوِ الْمُرَادُ لَا يَخَافُ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ إِهْلَاكِهَا، فَالْفَاءُ عَلَى هَذَا أَجْوَدُ، وَالضَّمِيرُ فِي عُقْبَاهَا لِلدَّمْدَمَةِ أَوْ لِثَمُودَ أَوْ لِلنَّفْسِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا، وَالدَّمْدَمَةُ: الْهَلَاكُ الْعَامُّ.
قَوْلُهُ: {بِطَغْوَاهَا} : مَعَاصِيهَا) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: مَعْصِيَتِهَا وَهُوَ الْوَجْهُ. وَالطَّغْوَى - بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْقَصْرِ: الطُّغْيَانُ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْبَاءِ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ وَلِلسَّبَبِ، أَوِ الْمَعْنَى كَذَّبَتْ بِالْعَذَابِ النَّاشِئِ عَنْ طُغْيَانِهَا.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ)؛ أَيِ ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَأُمُّهُ قَرِيبَةُ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ تَحْتَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ النَّاقَةَ)؛ أَيْ نَاقَةَ صَالِحٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَخَطَبَ فَذَكَرَ كَذَا، وَذَكَرَ النَّاقَةَ.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي عَقَرَ) كَذَا هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِ: عَقَرَهَا؛ أَيِ النَّاقَةَ.
قَوْلُهُ: (إِذِ انْبَعَثَ) تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَفْظِ: انْتَدَبَ، تَقُولُ: نَدَبْتُهُ إِلَى كَذَا فَانْتَدَبَ لَهُ؛ أَيْ: أَمَرْتُهُ فَامْتَثَلَ.
قَوْلُهُ: (عَزِيزٌ)؛ أَيْ قَلِيلُ الْمِثْلِ.
قَوْلُهُ: (عَارِمٌ) بِمُهْمَلَتَيْنِ؛ أَيْ صَعْبٌ عَلَى مَنْ يَرُومُهُ، كَثِيرُ الشَّهَامَةِ وَالشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (مَنِيعٌ)؛ أَيْ: قَوِيٌّ ذُو مَنَعَةٍ، أَيْ رَهْطٍ يَمْنَعُونَهُ مِنَ الضَّيْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَفْظِ: ذُو مَنَعَةٍ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهِ وَسَبَبُ عَقْرِهِ النَّاقَةَ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ) يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ النِّسَاءَ)؛ أَيْ وَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ النِّسَاءَ اسْتِطْرَادًا إِلَى مَا يَقَعُ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ.
قَوْلُهُ: (يَعْمِدُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي ضَحِكٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَالَ: لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ،
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ سَوَاءً. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِهِ: عَمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ.
قَوْلُهُ: (عَمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ) هُوَ عَمُّ الزُّبَيْرِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْعَوَّامُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ. فَنَزَلَ ابْنُ الْعَمِّ مَنْزِلَةَ الْأَخِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ عَمًّا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَذَا جَزَمَ الدِّمْيَاطِيُّ بِاسْمِ أَبِي زَمْعَةَ هُنَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَبِي زَمْعَةَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ يَعْنِي وَهُوَ عُبَيْدٌ الْبَلَوِيُّ، قَالَ: وَوَجْهُ تَشْبِيهِهِ بِهِ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي عِزَّةٍ وَمَنْعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ الْكَافِرُ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُكَنَّى أَبَا زَمْعَةَ مِنَ الْكُفَّارِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْغَيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ، لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْبَلَوِيِّ وَبَيْنَ الزُّبَيْرِ نَسَبٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَزَادَ: قَالَ: فَتَحَدَّثَ بِهَا عُرْوَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ جَالِسٌ، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَنِيهَا أَبُوكَ إِلَّا وَهُوَ يَفْخَرُ بِهَا، وَكَانَ الْأَسْوَدُ أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِمَكَّةَ، وَقُتِلَ ابْنُهُ زَمْعَةُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا أَيْضا.
92 - سُورَةُ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بِالْخَلَفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَدَّى مَاتَ. تَلَظَّى: تَوَهَّجَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تَتَلَظَّى.
قَوْلُهُ: (سُورَةِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بِالْخَلَفِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَدَّى مَاتَ. وَتَلَظَّى تَوَهَّجَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا تَرَدَّى} إِذَا مَاتَ، وَفِي قَوْلِهِ:{نَارًا تَلَظَّى} تَوَهَّجَ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَتَلَظَّى) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَدَاوُدَ الْعَطَّارِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ نَارًا تَتَلَظَّى وَقَالَ: الْفَرَّاءُ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: فَاتَتْ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ رَكْعَةٌ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا السَّنَدِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ أَيْضًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ قَرَأَهَا بِالْإِدْغَامِ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ كَثِيرٍ.
1 - بَاب {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}
4943 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامَ، فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ: أَفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: فَأَيُّكُمْ أَقْرَأُ؟ فَأَشَارُوا إِلَيَّ فَقَالَ: اقْرَأْ فَقَرَأْتُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ: آنْتَ سَمِعْتَهَا مِنْ فِي صَاحِبِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهَا مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَؤُلَاءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ.
2 - بَاب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}
4994 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّنَا. قَالَ: فَأَيُّكُمْ يَحْفَظُ وَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ عَلْقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ هَكَذَا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. حَدَّثَنَا عُمَرُ) هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ.
قَوْلُهُ: (قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ (عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَيَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالُوا: كُلُّنَا. قَالَ: فَأَيُّكُمْ أَحْفَظُ؟ وَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ) هَذَا صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَهُ مِنْ عَلْقَمَةَ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَزُولَ عَمَّا أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ لِيَ: اقْرَأْ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُطِيعُهُمْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ قَرَأَ وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهَذَا الْإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ يَرْوِي بِهِ الْأَحَادِيثَ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ سَمِعْتَهُ) أَيِ ابْنَ مَسْعُودٍ (يَقْرَأُ وَاللَّيْلِ إِذْ يَغْشَى؟ قَالَ عَلْقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ (فَقَرَأْتُ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُغِيرَةَ فِي الْمَنَاقِبِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِحَذْفِ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَثْبَتَهَا الْبَاقُونَ.
قَوْلُهُ: (وَهَؤُلَاءِ) أَيْ أَهْلُ الشَّامِ (يُرِيدُونَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ) هَذَا أَبْيَنُ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَيْثُ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ يَأْبَوْنَ عَلَيَّ ثُمَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَمْ تُنْقَلْ إِلَّا عَمَّنْ ذُكِرَ هُنَا، وَمَنْ عَدَاهُمْ قَرَءُوا وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَعَلَيْهَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ مَعَ قُوَّةِ إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَلَمْ يَبْلُغِ النَّسْخُ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. وَالْعَجَبُ مِنْ نَقْلِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَيْهِمَا تَنْتَهِي الْقِرَاءَةُ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَذَا أَهْلُ الشَّامِ حَمَلُوا الْقِرَاءَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا، فَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ التِّلَاوَةَ بِهَا نُسِخَتْ.
3 - بَاب {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
4945 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ. ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إِلَى قَوْلِهِ {لِلْعُسْرَى}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} ذُكِرَ فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَكُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ فِي خَمْسَةِ تَرَاجِمَ أُخْرَى لَا يَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ إِلَّا الْخَامِسَ، فَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَصَرَّحَ فِي التَّرْجَمَةِ الْأَخِيرَةِ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ لَهُ مِنْ سَعْدٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بَابُ {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنَ التَّرَاجِمِ كُلِّهَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
4 - بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
4946 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ عُودًا يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ، أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الْآيَةَ. قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.
5 - بَاب {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
4947 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ
مِنْ النَّارِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إِلَى قَوْلِهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى.
6 - بَاب {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
4948 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الْآيَةَ.
7 - بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
4949 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الْآيَةَ.
93 - سُورَةُ (وَالضُّحَى)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِذَا سَجَى} اسْتَوَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَجَى} أَظْلَمَ وَسَكَنَ، {عَائِلا} ذُو عِيَالٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالضُّحَى - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا سَجَى اسْتَوَى) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: سَجَى أَظْلَمَ وَسَكَنَ) قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قَالَ: الضُّحَى النَّهَارُ كُلُّهُ. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى: إِذَا أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ، تَقُولُ: بَحْرٌ سَاجٍ وَلَيْلٌ سَاجٍ إِذَا سَكَنَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا سَجَى قَالَ: إِذَا سَكَنَ بِالْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (عَائِلًا ذُو عِيَالٍ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ فَقِيرًا، وَقَدْ وَجَدْتُهَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَدِيمًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَغْنَاهُ بِمَا أَرْضَاهُ، لَا بِكَثْرَةِ الْمَالِ.
1 - بَاب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
4950 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَذَكَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا حَدِيثَ جُنْدَبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ شَكْوَاهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ أَنَّ الشَّكْوَى الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَرِدْ بِعَيْنِهَا، وَأَنَّ مَنْ فَسَّرَهَا بِأُصْبُعِهِ الَّتِي دَمِيَتْ لَمْ يُصِبْ. وَوَجَدْتُ الْآنَ فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ س بَبَ نُزُولِهَا وُجُودُ جَرْوِ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ لِذَلِكَ، وَقِصَّةُ إِبْطَاءِ جِبْرِيلَ بِسَبَبِ كَوْنِ الْكَلْبِ تَحْتَ سَرِيرِهِ مَشْهُورَةٌ، لَكِنْ كَوْنُهَا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبٌ، بَلْ شَاذٌّ، مَرْدُودٌ بِمَا فِي الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَرَدَ لِذَلِكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ أَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ أَيَّامًا فَتَغَيَّرَ بِذَلِكَ فَقَالُوا: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَتَرَ الْوَحْيُ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْزَنَهُ فَقَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبِي قَلَانِي، فَجَاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ وَالضُّحَى.
وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا وَرَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَالضُّحَى، وَأَلَمْ نَشْرَحْ بِكَمَالِهِمَا وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا تَثْبُتُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَتْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ وَالضُّحَى غَيْرُ الْفَتْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ تِلْكَ دَامَتْ أَيَّامًا وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاخْتَلَطَتَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَتَحْرِيرُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنْتُهُ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي التَّعْبِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدِ. وَوَقَعَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سَبَبِ نُزُولِ وَالضُّحَى شَيْءٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَالرُّوحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَوَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَوْ أَكْثَرَ فَضَاقَ صَدْرُهُ، وَتَكَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ وَالضُّحَى، وَبِجَوَابِ مَا سَأَلُوا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} انْتَهَى. وَذِكْرُ سُورَةِ الضُّحَى هُنَا بَعِيدٌ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ فِي الْقِصَّتَيْنِ مُتَقَارِبًا، فَضَمَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ إِحْدَى الْقِصَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ) هُوَ الْبَجْلِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُوُ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ تَرَكَكَ) هِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِلَفْظِ: فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِلَفْظِ: حَتَّى قَالَ الْمُشْرِكُونَ وَلَا مُخَالَفَةَ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْجَمْعِ وَيَكُونُ الْقَائِلُ أَوِ الْفَاعِلُ وَاحِدًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْبَاقِينَ رَاضُونَ بِمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (قَرِبَكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، يُقَالُ: يَقْرَبُهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُتَعَدِّيًا، وَمِنْهُ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} وَأَمَّا
قَرُبَ بِالضَّمِّ فَهُوَ لَازِمٌ. تَقُولُ: قَرُبَ الشَّيْءُ أَيْ دَنَا. وَقَدْ بَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَاكِمِ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: وَلَا أَرَى رَبَّكَ وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لِمَا تَرَى مِنْ جَزَعِهِ وَهَذَانَ طَرِيقَانِ مُرْسَلَانِ وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ أُمِّ جَمِيلٍ وَخَدِيجَةَ قَالَتْ ذَلِكَ، لَكِنَّ أُمَّ جَمِيلٍ عَبَّرَتْ - لِكَوْنِهَا كَافِرَةً - بِلَفْظِ: شَيْطَانَكَ، وَخَدِيجَةُ عَبَّرَتْ - لِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً - بِلَفْظِ: رَبَّكَ أَوْ صَاحِبَكَ، وَقَالَتْ أُمُّ جَمِيلٍ شَمَاتَةً وَخَدِيجَةُ تَوَجُّعًا.
2 - بَابُ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} كَذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ، وَهُوَ تَكْرَارٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَاقِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فِي الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ) أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ عُرْوَةُ وَابْنُهُ هِشَامٌ، وَابْنُ أَبِي عُلَيَّةَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا وَدَّعَكَ يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّوْدِيعِ وَمَا وَدَعَكَ يَعْنِي بِالتَّخْفِيفِ مِنْ وَدَعْتُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ كَوْنِهِمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى أَنَّ التَّوْدِيعَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدْعِ لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا.
4951 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْبَجَلِيَّ قَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرَى صَاحِبَكَ إِلَّا أَبْطَأَكَ. فَنَزَلَتْ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قَوْلُهُ: (فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ: (قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى صَاحِبَكَ إِلَّا أَبْطَأَكَ) هَذَا السِّيَاقُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خِطَابَ خَدِيجَةَ، دُونَ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خِطَابَ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ لِتَعْبِيرِهَا بِالشَّيْطَانِ وَالتَّرْكِ وَمُخَاطَبَتِهَا بِمُحَمَّدٍ، بِخِلَافِ هَذِهِ فَقَالَتْ: صَاحِبُكَ، وَقَالَتْ: أَبْطَأَ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ مُوَجَّهٌ لِأَنَّ مَخْرَجَ الطَّرِيقَيْنِ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ أَبْطَأَكَ أَيْ صَيَّرَكَ بَطِيئًا فِي الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ بُطْأَهُ فِي الْإِقْرَاءِ يَسْتَلْزِمُ بُطْءَ الْآخَرِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ إِلَّا أَبْطَأَ عَنْكَ.
94 - سُورَةُ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وِزْرَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَنْقَضَ: أَثْقَلَ، {مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ إِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ، كَقَوْلِهِ:{هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَانْصَبْ: فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرْحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ أَلَمْ نَشْرَحْ حَسْبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وِزْرَكَ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْوِزْرِ، أَيِ الْكَائِنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِوَضَعَ.
قَوْلُهُ: (أَنْقَضَ: أَتْقَنَ) قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ أَتْقَنَ بِمُثَنَّاةٍ وَقَافٍ وَنُونٍ، وَهُوَ وَهْمٌ
وَالصَّوَابُ أَثْقَلَ بِمُثَلَّثَةٍ وَآخِرُهَا لَامٌ، وَقَالَ الْأَصِيلِيُّ: هَذَا وَهْمٌ فِي رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّمَّاكِ أَثْقَلَ بِالْمُثَلَّثَةِ هُوَ أَصَحُّ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ وَيُرْوَى أَثْقَلَ وَهُوَ الصَّوَابُ.
قَوْلُهُ: (وَيُرْوَى أَثْقَلَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ أَتْقَنَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا مَعْشَرٍ يَقُولُ: {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أَثْقَلَ. وَوَقَعَ فِي الْكِتَابِ خَطَأٌ، قُلْتُ: أَبُو مَعْشَرٍ هُوَ حَمْدَوَيْهِ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبُخَارِيُّ، كَانَ يَسْتَمْلِي عَلَى الْبُخَارِيِّ وَيُشَارِكُهُ فِي بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَأُضِرَّ بِأُخْرَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، قَالَ: أَثْقَلَ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، تَقُولُ الْعَرَبُ أَنْقَضَ الْحِمْلُ ظَهْرَ النَّاقَةِ إِذَا أَثْقَلَهَا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّقِيضِ وَهُوَ الصَّوْتُ، وَمِنْهُ سَمِعْتُ نَقِيضَ الرَّحْلِ أَيْ صَرِيرَهُ.
قَوْلُهُ: {مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ إِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ، كَقَوْلِهِ:{هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِلَى اتِّبَاعِ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَعَدُّدُ الْحُسْنَى كَذَا ثَبَتَ لَهُمْ تَعَدُّدُ الْيُسْرِ، أَوْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَحَدِ الْيُسْرَيْنِ الظَّفَرُ، وَبِالْآخَرِ الثَّوَابُ، فَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ أَحَدِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا، وَرُوِيَ أَيْضًا مَوْقُوفًا، أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَلَفْظُهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ مَعَ الْيُسْرِ يُسْرًا أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَدَخَلَ عَلَيْهِ الْيُسْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْيُسْرِ يُسْرًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَقُولُ: مَهْمَا يَنْزِلُ بِامْرِئٍ مِنْ شِدَّةٍ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ لَكِنْ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَأَخْرَجَهُ الْفَرَّاءُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَانْصَبْ: فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} فِي صَلَاتِكَ. {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى رَبِّكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْجِهَادِ فَتَعَبَّدْ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) وَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي سُورَةِ (أَلَمْ نَشْرَحْ) حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَقُولُ رَبُّكَ أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي. وَهَذَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِهِمَا قِصَّةَ شَرْحِ صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
95 - (سُورَةُ وَالتِّينِ)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ. يُقَالُ: فَمَا يُكَذِّبُكَ؟ فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأَنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأَعْمَالِهِمْ؟ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؟
1 - بَابُ
4952 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.
تَقْوِيمٍ: الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالتِّينِ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} قَالَ: الْفَاكِهَةُ الَّتِي تَأْكُلُ النَّاسُ. {وَطُورِ سِينِينَ} الطُّورُ: الْجَبَلُ، وَسِينِينَ: الْمُبَارَكُ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التِّينُ: مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي بُنِيَ عَلَى الْجُودِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: التِّينُ: جَبَلٌ عَلَيْهِ التِّينُ، وَالزَّيْتُونِ: جَبَلٌ عَلَيْهِ الزَّيْتُونُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَالزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: جَبَلٌ عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ.
قَوْلُهُ: (تَقْوِيمٍ: خَلْقٍ) كَذَا ثَبَتَ لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قَالَ: أَحْسَنِ خَلْقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: أَعْدَلِ خَلْقٍ.
قَوْلُهُ: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إِلَّا مَنْ آمَنَ) كَذَا ثَبَتَ لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ فَمَا يُكَذِّبُكَ فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأَنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُدَالُونَ بِلَامٍ بَدَلَ النُّونِ الْأُولَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، كَذَا هُوَ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: بَعْدَمَا تَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةُ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ، قِيلَ: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَهَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، أَيْ مَا الَّذِي جَعَلَكَ كَاذِبًا؟ لِأَنَّكَ إِذَا كَذَّبْتَ بِالْجَزَاءِ صِرْتَ كَاذِبًا، لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ بِالْحَقِّ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَأَمَّا تَعَقُّبُ ابْنِ التِّينِ قَوْلَ الْفَرَّاءِ جَعْلَ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ فِيمَنْ أُبْهِمَ أَمْرُهُ، وَمِنْهُ {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَدِيُّ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ الْكُوفِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ كَثُرَ سُؤَالُ بَعْضِ النَّاسِ: هَلْ قَرَأَ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؟ أَوْ قَرَأَ فِيهِمَا مَعًا كَأَنْ يَقُولَ أَعَادَهَا فِي الثَّانِيَةِ؟ وَعَلَى أَنْ يَكُونَ قَرَأَ غَيْرَهَا فَهَلْ عُرِفَ؟ وَمَا كُنْتُ أَسْتَحْضِرُ لِذَلِكَ جَوَابًا، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ فِي تَرْجَمَةِ زُرْعَةَ بْنِ خَلِيفَةَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْنَا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْنَاهُ فَعَرَضَ عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَا وَأَسْهَمَ لَنَا، وَقَرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَإنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيُمْكِنُ إِنْ
كَانَتْ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي عَيَّنَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّهَا الْعِشَاءُ أَنْ يُقَالَ: قَرَأَ فِي الْأُولَى بِالتِّينِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْقَدْرِ، وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ جَوَابُ السُّؤَالِ.
وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْرِفُ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَرَأَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ إِلَّا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، ثُمَّ حَدِيثِ زُرْعَةَ هَذَا.
96 - سُورَةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: اكْتُبْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ الْإِمَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطًّا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَادِيَهُ: عَشِيرَتَهُ، الزَّبَانِيَةَ: الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: الرُّجْعَى: الْمَرْجِعَ، لَنَسْفَعَنْ قَالَ: لِنَأْخُذَنَّ، وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الْخَفِيفَةُ، سَفَعْتُ بِيَدِهِ أَخَذْتُ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. كَذَا قَالَ. وَالَّذِي ذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ إِلَيْهِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قُتَيْبَةُ:، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: اكْتُبْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ الْإِمَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطًّا) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بِهَذَا، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَشَيْخُهُ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مِنْ طَبَقَةِ أَيُّوبَ مَاتَ قَبْلَهُ، وَلَمْ أَرَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ. وَقَوْلُهُ: فِي أَوَّلِ الْإِمَامِ أَيْ أُمِّ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ: خَطًّا قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنْ أَرَادَ خَطًّا فَقَطْ بِغَيْرِ بَسْمَلَةٍ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ إِلَّا بَرَاءَةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْإِمَامِ إِمَامَ كُلِّ سُورَةٍ فَيَجْعَلُ الْخَطَّ مَعَ الْبَسْمَلَةِ فَحَسَنٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَرَاءَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ اجْعَلِ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهِ فَقَطْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ عَلَامَةً لِلْفَاصِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ حَمْزَةَ مِنَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ.
قُلْتُ: الْمَنْقُولُ ذَلِكَ عَنْ حَمْزَةَ فِي الْقِرَاءَةِ لَا فِي الْكِتَابَةِ، قَالَ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَمَّا كَانَ أَوَّلُهَا مُبْتَدَأٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. بَلْ مَنْ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ كَفَاهُ فِي امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ. نَعَمْ اسْتَنْبَطَ السُّهَيْلِيُّ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ثُبُوتَ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ هُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى مَوَاضِعِ امْتِثَالِهِ أَوَّلُ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَادِيَهُ: عَشِيرَتَهُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ أَهْلُ النَّادِي وَالنَّادِي الْمَجْلِسُ الْمُتَّخَذُ لِلْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (الزَّبَانِيَةَ الْمَلَائِكَةَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَعْمَرٌ الرُّجْعَى: الْمَرْجِعُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ وَقَالَ مَعْمَرٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَلَفْظُهُ {إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} قَالَ: الْمَرْجِعُ وَالرُّجُوعُ.
قَوْلُهُ: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} لَنَأْخُذَنْ، وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الْخَفِيفَةُ، سَفَعْتُ بِيَدِهِ أَخَذْتُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: وَ (لَنَسْفَعَنْ) إِنَّمَا يُكْتَبُ بِالنُّونِ لِأَنَّهَا نُونٌ خَفِيفَةٌ انْتَهَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَالْمَوْجُودُ فِي مَرْسُومِ الْمُصْحَفِ بِالْأَلِفِ، وَالسَّفْعُ الْقَبْضُ عَلَى الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْأَخْذُ بِسَفْعَةِ الْفَرَسِ أَيْ سَوَادِ نَاصِيَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بِهِ سَفْعَةٌ مِنْ غَضَبٍ، لِمَا يَعْلُو لَوْنَ الْغَضْبَانِ مِنَ التَّغَيُّرِ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ.
1 - بَاب
4953 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ. قَالَ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا ذَكَرَ حَرْفًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
4954 -
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَفَرِقْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْي"
قَوْلُهُ: (بَابُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ) الْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ قَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ الْمَتْنُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَسَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَتْنَ بِالْإِسْنَادِ الثَّانِي، وَسَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ هَذَا هُوَ أَبُو عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ نَزِيلُ نَيْسَابُورَ مِنْ طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ، شَارَكَهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَسُلَيْمَانِ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي رِزْمَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَفَرَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَغْدَادِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ وَآخِرُهُمْ الْكِرْمَانِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ. وَاسْمُ أَبِي رِزْمَةَ غَزْوَانُ، وَهُوَ مَرْوَزِيٌّ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَحَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَشَيْخُهُ أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ اللَّيْثِيُّ الْمَرْوَزِيُّ يُلَقَّبُ سَلْمَوَيْهِ، وَيُقَالُ: اسْمُ أَبِيهِ دَاوُدُ، وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ الرَّاوِي عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ، وَكَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْمُكْثِرِينَ عَنْهُ. وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ، وَمَا لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِهِ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَسَأَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَوَائِدِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَتَكُونُ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ. وَتَعَقَّبَهُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ فَقَالَ: إِذَا كَانَ يَجُوزُ أَنَّهَا سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يُجْزَمُ بِأَنَّهَا مِنَ الْمَرَاسِيلِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ مَا يَرْوِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَهَا، بِخِلَافِ الْأُمُورِ الَّتِي يُدْرِكُ زَمَانَهَا فَإِنَّهَا لَا يُقَالُ: إِنَّهَا مُرْسَلَةٌ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهَا أَوْ حَضَرَهَا وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِمُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ بَلْ مُرْسَلِ التَّابِعِيِّ إِذَا ذَكَرَ قِصَّةً لَمْ يَحْضُرْهَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةٌ، وَلَوْ جَازَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ الْقِصَّةُ.
وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي يُدْرِكُهَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهَا أَوْ حَضَرَهَا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُ أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي إِلَى آخِرِهِ. فَقَوْلُهُ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَتُحْمَلُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنَ الْوَحْيِ أَيْ فِي أَوَّلِ الْمُبْتَدَآتِ مِنْ إِيجَادِ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا، وَأَمَّا مُطْلَقُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَتَقَدَّمَتْ لَهُ أَشْيَاءُ مِثْلُ تَسْلِيمِ الْحَجَرِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِي الْحَدِيثِ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَيْ أَوَّلُ شَيْءٍ. وَوَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ. وَوَقَعَ فِي مَرَاسِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عِنْدَ الدُّولَابِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ جِبْرِيلُ وَلَفْظُهُ أَنَّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ بَعْدَ أَنْ أَقْرَأَهُ جِبْرِيلُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أَرَأَيْتَكِ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْوَحْيِ) يَعْنِي: إِلَيْهِ وَهُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا رَآهُ مِنْ دَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحَى بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَهُوَ أَوَّلُ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَا سَمِعَهُ مِنْ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي مُوسَى، ثُمَّ مَا سَمِعَهُ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حَيْثُ قِيلَ لَهُ اشْدُدْ عَلَيْكَ إِزَارَكَ
وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الْحَجَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
قَوْلُهُ: (الصَّالِحَةُ) قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: هِيَ الَّتِي لَيْسَتْ ضِغْثًا وَلَا مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ وَلَا فِيهَا ضَرْبُ مَثَلٍ مُشْكِلٍ، وَتُعُقِّبَ الْأَخِيرُ بِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالْمُشْكِلِ مَا لَا يُوقَفُ عَلَى تَأْوِيلِهِ فَمُسَلَّمٌ وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: (فَلَقِ الصُّبْحِ) يَأْتِي فِي سُورَةِ الْفَلَقِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُحَبَّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، فَيَكُونُ تَحْبِيبُ الْخَلْوَةِ سَابِقًا عَلَى الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: (الْخَلَاءُ) بِالْمَدِّ الْمَكَانُ الْخَالِي، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَلْوَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءَ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: فَكَانَ يَخْلُو وَهِيَ أَوْجَهُ. وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَكَانَ يُجَاوِرُ.
قَوْلُهُ: (اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ شَهْرَ رَمَضَانَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِدْرَاجِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ عَائِشَةَ لَجَاءَ فِيهِ قَالَتْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَلَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ بِصِفَةِ تَعَبُّدِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ بِالتَّفَكُّرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ أَطْلَقَتْ عَلَى الْخَلْوَةِ بِمُجَرَّدِهَا تَعَبُّدًا، فَإِنَّ الِانْعِزَالَ عَنِ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ كَمَا وَقَعَ لِلْخَلِيلِ عليه السلام حَيْثُ قَالَ:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} وَهَذَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَابِعًا لَاسْتُبْعِدَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنَقَلَ مَنْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: نَعَمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا آدَمُ حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ، الثَّانِي نُوحٌ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ، الثَّالِثُ إِبْرَاهِيمُ ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الرَّابِعُ مُوسَى، الْخَامِسُ عِيسَى، السَّادِسُ بِكُلِ شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْ شَرْعِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحُجَّتِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} السَّابِعُ الْوَقْفُ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَلَا يَخْفَى قُوَّةُ الثَّالِثِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا نُقِلَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ لِلْحَجِّ وَالطَّوَافِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى أَهْلِهِ) يَعْنِي خَدِيجَةَ وَأَوْلَادَهُ مِنْهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْإِفْكِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجَةِ أَهْلًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَقَارِبَهُ أَوْ أَعَمُّ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ) خَصَّ خَدِيجَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ عَبَّرَ بِالْأَهْلِ إِمَّا تَفْسِيرًا بَعْدَ إِبْهَامٍ، وَإِمَّا إِشَارَةً إِلَى اخْتِصَاصِ التَّزَوُّدِ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهَا دُونَ غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِمِثْلِهَا بِالْمُوَحَّدَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلَّيَالِيِ أَوْ لِلْخَلْوَةِ أَوْ لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِلْمَرَّاتِ. أَيِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَزَوَّدُ وَيَخْلُو أَيَّامًا، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَتَزَوَّدُ وَيَخْلُو أَيَّامًا، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَتَزَوَّدُ وَيَخْلُو أَيَّامًا إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا إِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَجَاءَ ذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَخْلُوَ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدِي أَظْهَرُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِعْدَادُ الزَّادِ لِلْمُخْتَلِي إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ لِبُعْدِ مَكَانِ اخْتِلَائِهِ مِنَ الْبَلَدِ مَثَلًا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَذَلِكَ لِوُقُوعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ حُصُولِ النُّبُوَّةِ لَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ فِي الْيَقَظَةِ قَدْ تَرَاخَى عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا جَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ وَرَقَةَ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، أَيْ فِي غَارِ حِرَاءَ، كَذَا عَزَاهُ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ لِلدَّلَائِلِ فَتَبِعْتُهُ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ فَعَزْوُهُ لَهُ أَوْلَى.
(تَنْبِيهٌ): إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ
كَانَ يُجَاوِرُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَحْيِ جَاءَهُ وَهُوَ فِي الْغَارِ الْمَذْكُورِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ نُبِّئَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ مَعَ قَوْلِهِ إِنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وُلِدَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَجِيءُ فِي الْغَارِ كَانَ أَوَّلًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِينَئِذٍ نُبِّئَ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ثُمَّ كَانَ الْمَجِيءُ الثَّانِي فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِالْإِنْذَارِ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} فَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ أَيْ عِنْدَ الْمَجِيءِ بِالرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (اقْرَأْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ وَالتَّيَقُّظِ لِمَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ مِنَ الطَّلَبِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فِي الْحَالِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةً أَيْ قُلِ اقْرَأْ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَعَلَى مَا فُهِمَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي حَذْفِهَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لَفْظَ قُلْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْفَوْرَ فُهِمَ مِنَ الْقَرِينَةِ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بِنِ عُمَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ قَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ حَيْثُ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ.
قَوْلُهُ: (فَغَطَّنِي) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَوَقَعَ فِي السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ فَغَتَّنِي بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الطَّاءِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَالْمُرَادُ غَمَّنِي، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ رَوَى سَأَبِي
(1)
بِمُهْمَلَةٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَوْ مُثَنَّاةٍ وَهُمَا جَمِيعًا بِمَعْنَى الْخَنْقِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى فَغَطَّنِي صَنَعَ بِي شَيْئًا حَتَّى أَلْقَانِي إِلَى الْأَرْضِ كَمَنْ تَأْخُذُهُ الْغَشْيَةُ.
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ لِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ لِإِظْهَارِ الشِّدَّةِ وَالْجِدِّ فِي الْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي سَيُلْقَى إِلَيْهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ أُلْقِيَ إِلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ حَاصِلٌ لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ إِبْرَازُهُ لِلظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: لِيُخْتَبَرَ هَلْ يَقُولُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ التَّخَيُّلَ وَالْوَهْمَ وَالْوَسْوَسَةَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ؛ فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ لِجِسْمِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ جَرَى لَهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ التَّأْكِيدَ فِي أَمْرٍ وَإِيضَاحِ الْبَيَانِ فِيهِ أَنْ يُكَرِّرَهُ ثَلَاثًا، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَكْرِيرِ الْإِقْرَاءِ الْإِشَارَةُ إِلَى انْحِصَارِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَنْشَأُ الْوَح يُ بِسَبَبِهِ فِي ثَلَاثٍ: الْقَوْلُ، وَالْعَمَلُ، وَالنِّيَّةُ. وَأَنَّ الْوَحْيَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثٍ: التَّوْحِيدُ، وَالْأَحْكَامُ وَالْقَصَصُ. وَفِي تَكْرِيرِ الْغَطِّ الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّدَائِدِ الثَّلَاثِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ وَهِيَ: الْحَصْرُ فِي الشِّعْبِ، وَخُرُوجُهُ فِي الْهِجْرَةِ وَمَا وَقَعَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَفِي الْإِرْسَالَاتِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ التَّيْسِيرِ لَهُ عَقِبَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ: فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - مَا لَمْ يَعْلَمْ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ الَّذِي نَزَلَ أَوَّلًا، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ السُّورَةِ فَإِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ. وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْخَمْسَ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: فَفِيهَا بَرَاعَةُ الِاسْتِهْلَالِ، وَهِيَ جَدِيرَةٌ أَنْ تُسَمَّى عِنْوَانُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ عِنْوَانَ الْكِتَابِ يَجْمَعُ مَقَاصِدَهُ بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفَنِّ الْبَدِيعِيِّ الْمُسَمَّى الْعُنْوَانُ فَإِنَّهُمْ عَرَّفُوهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُتَكَلِّمُ فِي فَنٍّ فَيُؤَكِّدُهُ بِذِكْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَقَاصِدِ
(1)
كذا في طبعة بولاق، ولعله "دأني" أو غير ذلك.
الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْبُدَاءَةِ فِيهَا بِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَحْكَامِ، وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ وَإِثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ:{عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
قَولُهُ: {بِاسْمِ رَبِّكَ} اسْتَدَلَّ بِهِ السُّهَيْلِيُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهَا أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، كَذَا قَالَ: وَقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قَدَّمَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْبَاءِ لِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ أَهَمَّ، وَقَوْلُهُ:(اقْرَأْ) أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَقَوْلُهُ بِاسْمِ رَبِّكَ حَالٌ، أَيِ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ: وَأَصَحُّ تَقَادِيرِهِ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ، قَالَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ بِهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ انْتَهَى.
لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، فَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَ لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ آيَةً قَبْلَ كُلِّ آيَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ رَدٌّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، قَالَ: لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ وَلَيْسَ فِي أَوَّلِهَا الْبَسْمَلَةُ، فَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِهَا وَإِنْ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَرْتِيبُ آيِ السُّوَرِ فِي النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، وَقَدْ كَانَتِ الْآيَةُ تَنْزِلُ فَتُوضَعُ فِي مَكَانٍ قَبْلَ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا، ثُمَّ تَنْزِلُ الْأُخْرَى فَتُوضَعُ قَبْلَهَا، إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَلَوْ صَحَّ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ قَبْلَ قَوْلِهِ اقْرَأْ لَكَانَ أَوْلَى فِي الِاحْتِجَاجِ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي مَيْسَرَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَا أَمَرَ بِهِ جِبْرِيلُ قَالَ لَهُ: قُلْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هُوَ مُرْسَلٌ وَإِنْ كَانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وَأَنَّ نُزُولَ الْفَاتِحَةِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فُؤَادُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَتَرْجُفُ عِنْدَهُمْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، وَلَعَلَّهَا فِي رِوَايَةٍ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ هُنَا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالتَّزْمِيلُ التَّلْفِيفُ، وَقَالَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا لَحِقَهُ مِنْ هَوْلِ الْأَمْرِ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِسُكُونِ الرِّعْدَةِ بِالتَّلْفِيفِ. وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي فِي نَاحِيَةِ آفَاقِ السَّمَاءِ فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ عِنْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ إِعْلَامَهُ بِالْإِرْسَالِ وَقَعَ بِقَوْلِهِ:{قُمْ فَأَنْذِرْ}
قَوْلُهُ: (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ الْفَزَعُ، وَأَمَّا الَّذِي بِضَمِ الرَّاءِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفَزَعِ مِنَ الْقَلْبِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَدْ خَشِيتُ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ: فَقَالَهُ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ وَقَوْلُهُ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْمَقُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مَا قَالُوهُ فِي مُتَعَلَّقِ الْخَشْيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا وَقَعَ لَهُ أَوَّلَ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ ثُمَّ فِي الْيَقَظَةِ، وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ، فَأَمَّا بَعْدَ مَجِيءِ الْمَلَكِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ وَلَا يُخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ صَرِيحِ الشِّفَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ غَطَّهُ الْمَلَكُ وَأَقْرَأَهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي وَقَعَ مِنْهُ إِخْبَارًا عَمَّا حَصَلَ لَهُ أَوَّلًا لَا أَنَّهُ حَالَةُ إِخْبَارِهَا بِذَلِكَ جَازَتْ فَيَتَّجِهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ:
(كَلَّا أَبْشِرْ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَيَجُوزُ الْوَصْلُ، وَأَصْلُ الْبِشَارَةِ فِي الْخَيْرِ. وَفِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمٍّ وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَوْلُهُ: (لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِي التَّعْبِيرِ يُحْزِنُكَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا، قَالَ الْيَزِيدِيُّ: أَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَحَزَّنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الضَّبْطِ مُسْلِمٌ. وَالْخِزْيُ الْوُقُوعُ فِي بَلِيَّةٍ وَشُهْرَةٍ بِذِلَّةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ مُرْسَلًا أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ: أَيِ ابْنَ عَمِّ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ إِذَا جَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَتْ: قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ إِلَى الْيُمْنَى كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي كَذَلِكَ، ثُمَّ أَلْقَتْ خِمَارَهَا وَتَحَسَّرَتْ وَهُوَ فِي حِجْرِهَا وَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا قَالَتْ: اثْبُتْ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى عَدَّاسٍ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَذَكَرَتْ لَهُ خَبَرَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: هُوَ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى وَرَقَةَ.
قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ) فِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهَا أَمَرَتْ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ مَعَهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَوْجِيهِهَا أَوْ مَرَّةً أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (مَاذَا تَرَى)؟ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ، قَالَ: يَأْتِينِي مِنَ السَّمَاءِ جَنَاحَاهُ لُؤْلُؤٌ وَبَاطِنُ قَدَمَيْهِ أَخْضَرُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا وَفِي التَّعْبِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَا لِأَنِّي نَسِيتُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هُنَاكَ لِمُسْلِمٍ فَقَطْ تَبَعًا لِلْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْعِبَارَتَانِ صَحِيحَتَانِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ حَتَّى صَارَ يَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَتَبَ مِنَ الْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ بِالْعَرَبِي.
قَوْلُهُ: (اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ) أَيِ الَّذِي يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى) كَذَا هُنَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنْزَلَ اللَّهُ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ أَبِي مَيْسَرَةَ أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّكَ سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ، وَهَذَا أَصْرَحُ مَا جَاءَ فِي إِسْلَامِ وَرَقَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ: كَانَ وَرَقَةُ صَدَّقَكَ. وَلَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ لِبَاسُهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ مَا وَرَدَ فِيهِ فِي تَرْجَمَتِهِ تَرْجَمَةٍ مِنْ كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ، وَتَقَدَّمَ بَعْضُ خَبَرِهِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِ وَرَقَةَ نَامُوسِ مُوسَى وَلَمْ يَقُلْ عِيسَى مَعَ أَنَّهُ كَانَ تَنَصَّرَ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ بِلَفْظِ عِيسَى وَلَمْ يَقِفْ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى النَّوَوِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ نَامُوسِ عِيسَى وَذَكَرَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِذِكْرِ مُوسَى دُونَ عِيسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِوَرَقَةَ مِمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اقْرَأْ وَيَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَيَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ فَهِمَ وَرَقَةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلِّفَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ فَنَاسَبَ ذِكْرَ مُوسَى لِذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى إِنَّمَا كَانَ مَوَاعِظَ. كَذَا قَالَ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فَإِنَّ نُزُولَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وَيَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ إِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ، وَالِاجْتِمَاعُ بِوَرَقَةَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ. وَزَعْمُ أَنَّ الْإِنْجِيلَ كُلَّهُ مَوَاعِظُ مُتَعَقَّبٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ مُنَزَّلٌ أَيْضًا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ
مُعْظَمُهَا مُوَافِقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، لَكِنَّهُ نَسَخَ مِنْهَا أَشْيَاءَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
قَوْلُهُ: (فِيهَا) أَيْ أَيَّامِ الدَّعْوَةِ، قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلنُّبُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ لِلْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا ذَكَرَ حَرْفًا) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِلَفْظِ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ حِينَ يُخْرِجُكَ وَأَبْهَمَ مَوْضِعَ الْإِخْرَاجِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ فِي السُّنَنِ وَلَوْلَا أَنِّي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ يُخَاطِبُ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (يَوْمُكَ) أَيْ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ، أَوْ وَقْتُ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، أَوْ وَقْتُ الْجِهَادِ. وَتَمَسَّكَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْحَنْبَلِيُّ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِ الْوَحْيِ ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ يَرُدُّ مَا وَقَعَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ يَمُرُّ بِبِلَالٍ وَالْمُشْرِكُونَ يُعَذِّبُونَهُ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فَيَقُولُ: أَحَدٌ وَاللَّهِ يَا بِلَالُ، لَئِنْ قَتَلُوكَ لَاتَّخَذْتُ قَبْرَكَ حَنَانًا، هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهْمٌ، لِأَنَّ وَرَقَةَ قَالَ: وَإِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ حَيًّا لَأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا فَلَوْ كَانَ حَيًّا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ لَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَجَابَ وَقَامَ بِنَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقِيَامِ عُمَرَ، وَحَمْزَةَ.
قُلْتُ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ سَاقِطٌ، فَإِنَّ وَرَقَةَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ الْيَوْمَ الَّذِي يُخْرِجُوكَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! وَتَعْذِيبُ بِلَالٍ كَانَ بَعْدَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَبَشَةِ، ثُمَّ لِلْمَدِينَةِ مُدَّةٌ مُتَطَاوِلَةٌ.
(تَنْبِيهٌ): زَادَ مَعْمَرٌ بَعْدَ هَذَا كَلَامًا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا بِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي) هُوَ عَطْفٌ عَلَى شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بِمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ أَشْيَاءُ غَيْرُ هَذَا الْمَذْكُورِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّ جَابِرًا لَمْ يُدْرِكْهُ زَمَانُ الْقِصَّةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ حَضَرَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي) يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ وُجُودِ حَادِثٍ مِنْ قِبَلِهَا، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ لَا نُتْبِعَ أَبْصَارَنَا الْكَوَاكِبَ إِذَا انْقَضَّتْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ شَيْئًا: ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ) كَذَا لَهُ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ فَإِذَا صَاحِبُ الصَّوْتِ هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ جَالِسًا بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَلَى الْحَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: (فَفَزِعْتُ مِنْهُ)
(1)
(1)
الذي في المتن "ففرقت منه"
كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَجُئِثْتُ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فَرُعِبْتُ، وَفِي رِوَايَتِهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ فَجُئِثْتُ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَزَادَ فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فِيهِ فَجُئِثْتُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْقَابِسِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ قَالَ: وَفَسَّرَهُ بِأَسْرَعْتُ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ مَعَ قَوْلِهِ حَتَّى هَوَيْتُ أَيْ سَقَطْتُ مِنَ الْفَزَعِ.
قُلْتُ: ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَلَكِنَّهَا بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً سَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي حَتَّى صِرْتُ كَمَنْ حُثِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبَعْدَ الْجِيمِ مُثَلَّثَتَانِ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَمَعْمَرٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وَهِيَ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: جُئِثَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَجْئُوثٌ إِذَا فَزِعَ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ جَئِثَ وَجُثِثَ فَهُوَ مَجْئُوثٌ وَمَجْثُوثٌ أَيْ مَذْعُورٌ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا وَكَأَنَّهُ رَوَاهَا بِالْمَعْنَى، وَالتَّزْمِيلُ وَالتَّدْثِيرُ يَشْتَرِكَانِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ فِي الْهَيْئَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ فَامْتَثَلُوا. وَأَغْفَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالصَّبِّ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَنْ ضَبَطَ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الصَّبِّ بَعْدَ التَّدَثُّرِ طَلَبُ حُصُولِ السُّكُونِ لِمَا وَقَعَ فِي الْبَاطِنِ مِنَ الِانْزِعَاجِ، أَوْ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرِّعْدَةَ تَعْقُبُهَا الْحُمَّى، وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ مُعَالَجَتُهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يُعْرَفُ مِنَ اتِّحَادِ الْحَدِيثَيْنِ فِي نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ عَقِبَ قَوْلِهِ: دَثِّرُونِي وَزَمِّلُونِي أَنَّ الْمُرَادَ بِزَمِّلُونِي دَثِّرُونِي، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ نُزُولُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ حِينَئِذٍ لِأَنَّ نُزُولَهَا تَأَخَّرَ عَنْ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ أَوَّلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا بُعِثَ، وَأَوَّلَ الْمُزَّمِّلِ الْأَمْرُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فَيَقْتَضِي تَقَدُّمَ نُزُولِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَفِيهَا مُحَصَّلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى الْمُؤَانَسَةُ بِالْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مِنَ التَّدَثُّرِ إِعْلَامًا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ قَائِمًا وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ تَفْخِيمًا، وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِمَّا حَقِيقَتُهُ أَيْ قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أَوْ مَجَازُهُ أَيْ قُمْ مَقَامَ تَصْمِيمٍ، وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ هُنَا فَإِنَّهُ أَيْضًا بُعِثَ مُبَشِّرًا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، فَمُتَعَلَّقُ الْإِنْذَارِ مُحَقَّقٌ؛ فَلَمَّا أَطَاعَ مَنْ أَطَاعَ نَزَلَتْ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَفِي الثَّانِيَةِ تَكْبِيرُ الرَّبِّ تَمْجِيدًا وَتَعْظِيمًا، وَيُحْتَمَلُ الْحَمْلُ عَلَى تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ كَمَا حُمِلَ الْأَمْرُ بِالتَّطْهِيرِ عَلَى طَهَارَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ فَهِجْرَانُ مَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَمَا يَئُولُ إِلَى الْعَذَابِ، وَحَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ الْمُبْتَدَأِ
بِهِمَا النُّزُولُ فِيمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِاللَّفْظِ الْوَجِيزِ وَفِي عِدَّةِ مَا نَزَلَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَثِيرُ مِنْ شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَبَقِيَتْ مِنْهُمَا فَوَائِدُ أَخَّرْتُهَا إِلَى كِتَابِ التَّعْبِيرِ لِيَأْخُذَ كُلُّ مَوْضِعٍ سَاقَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِيهِ مُطَوَّلًا بِقِسْطٍ مِنَ الْفَائِدَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ) أَيِ اسْتَمَرَّ نُزُولُهُ.
2 - بَاب قَوْلُهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
4955 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ بِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَاخْتَصَرَهُ جدًّا قَالَ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ (الصَّادِقَةُ) قَالَ: (فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِجْحَافِ، وَلَا أَظُنُّ يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ حَدَّثَ الْبُخَارِيَّ بِهِ هَكَذَا، وَلَا كَانَ لَهُ هَذَا التَّصَرُّفُ، وَإِنَّمَا هَذَا صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ الِاخْتِصَارَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.
3 - بَاب قَوْلُهُ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
4956 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، جَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح. وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ:، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) أَمَّا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ فَسَيَأْتِي بِتَمَامِهَا فِي أَوَّلِ التَّعْبِيرِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، ثُمَّ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ فِي التَّعْبِيرِ، أَخْرَجَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ. فَأَمَّا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فَأَفْرَدَهُ، وَأَمَّا فِي الَّذِي قَبْلَهُ فَاخْتَصَرَهُ جِدًّا، وَسَاقَهُ قَبْلَهُ بِتَمَامِهِ لَكِنْ قَرَنَهُ بِرِوَايَةِ يُونُسَ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ يُونُسَ، وَأَمَّا التَّعْبِيرُ فَقَرَنَهُ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنَّمَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَذَكَرَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْهُ، عَنِ اللَّيْثِ بِلَفْظِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مُتَابَعَةَ أَبِي صَالِحٍ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
بَابُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
4957 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ لِغَيْرِهِ، وَأَوْرَدَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ مُقْتَصِرًا مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ فَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَذَا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَدِيثَ جَابِرٍ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ.
4 - بَاب {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}
4958 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} سَقَطَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بَابُ وَمِنْ نَاصِيَةٍ إِلَى آخِرِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَفِي طَبَقَتِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو جَهْلٍ) هَذَا مِمَّا أَرْسَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْلِدَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا سَاجِدًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (لَوْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) وَقَعَ عِنْدَ الْبَلَاذُرِيِّ نَزَلَ اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ رُءُوسُهُمْ فِي السَّمَاءِ وَأَرْجُلُهُمْ فِي الْأَرْضِ وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي آخِرِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ لَمَاتُوا، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَلَمْ يَفْجَأْهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ - أَيْ أَبُو جَهْلٍ - يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدِهِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ دَنَا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا وَإِنَّمَا شُدِّدَ الْأَمْرُ فِي حَقِّ أَبِي جَهْلٍ، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ ذَلِكَ لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ حَيْثُ طَرَحَ سَلَى الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي مُطْلَقِ الْأَذِيَّةِ حَالَةَ صَلَاتِهِ، لَكِنْ زَادَ أَبُو جَهْلٍ بِالتَّهْدِيدِ، وَبِدَعْوَى أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَبِإِرَادَةِ وَطْءِ الْعُنُقِ الشَّرِيفِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا اقْتَضَى تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ سَلَى الْجَزُورِ لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، وَقَدْ عُوقِبَ عُقْبَةُ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ شَارَكَهُ فِي فِعْلِهِ فَقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ) أَمَّا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ فَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْحَرَّانِيُّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ الْجَزَرِيُّ الْمَذْكُورُ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي مُنْتَخَبِ الْمُسْنَدِ لَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ بِهَذَا؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ إِلَى آخِرِ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا مِنْ عِنْدِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ.
97 - سُورَةُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}
يُقَالُ: الْمَطْلَعُ: هُوَ الطُّلُوعُ، وَالْمَطْلِعُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ. {أَنْزَلْنَاهُ}: الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ، وَالْمُنَزِّلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَرَبُ تُؤَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ.
قَوْلُهُ: سُورَةُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ سُورَةُ الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ الْمَطْلَعُ: هُوَ الطُّلُوعُ، وَالْمَطْلِعُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَطْلَعُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا، قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَطْلَعَ بِالْفَتْحِ هُوَ الطُّلُوعُ وَبِالْكَسْرِ الْمَوْضِعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ انْتَهَى. وَقَرَأَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا الْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ وَخَلَفٌ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ مَطْلَعًا وَمَطْلِعًا أَيْ بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: {أَنْزَلْنَاهُ} الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ) أَيِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ.
قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ، وَالْمُنَزِّلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْعَرَبُ تُؤَكِّدُ فِعْلَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ، وَهُوَ اسْمُ أَبِي عُبَيْدَةَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ: لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: النُّحَاةُ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ بِقَوْلِهِ الْمُعَظَّمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُقَالُ عَنْهُ، انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا جَمْعُ التَّعْظِيمِ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا حَدِيثُ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ.
98 - سُورَةُ (لَمْ يَكُنْ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُنْفَكِّينَ: زَائِلِينَ. قَيِّمَةٌ: الْقَائِمَةُ، دِينُ الْقَيِّمَةِ أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ لَمْ يَكُنْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْقَيِّمَةِ، وَسُورَةُ الْبَيِّنَةِ.
قَوْلُهُ: {مُنْفَكِّينَ} زَائِلِينَ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: {قَيِّمَةٌ} الْقَائِمَةُ، دِينُ الْقَيِّمَةِ أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: الْقَيِّمَةُ الْحِسَابُ الْمُبِينُ.
1 - بَابٌ
4959 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ: نَعَمْ فَبَكَى.
2 - بَابٌ
4960 -
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. قَالَ أُبَيٌّ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لِي، فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي. قَالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ أَنَّ تَسْمِيَةَ السُّورَةِ لَمْ يَحْمِلْهُ قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ قَتَادَةُ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَسَقَطَ بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، هَذَا مَا فِي هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَفْسِهِ مُطَوَّلًا، وَلَفْظُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُنْ دُونَ غَيْرِهَا، فَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ فِيهَا {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} وَفِي تَخْصِيصِ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ التَّنْوِيهُ بِهِ فِي أَنَّهُ أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ كَانَ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ مَزِيدُ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ.
3 - بَابٌ
4961 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَالَّذِي وَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي حَسْبُ، فَكَأَنَّ تَسْمِيَتَهُ مِنْ قِبَلِ الْفَرَبْرِيِّ. فَعَلَى هَذَا لَمْ يُصِبْ مَنْ وَهَّمَ الْبُخَارِيَّ فِيهِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطِيبُ عَنِ اللَّالَكَائِيِّ احْتِمَالًا، قَالَ: وَاشْتَبَهَ عَلَى الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَقِيلَ: كَانَ لِأَبِي جَعْفَرٍ أَخٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ، قَالَ: وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ اسْمَ أَبِي جَعْفَرٍ هَذَا مُحَمَّدٌ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبُو دَاوُدَ كُنْيَةُ أَبِيهِ، وَلَيْسَ لِأَبِي جَعْفَرٍ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا، وَلَكِنَّهُ عَمَّرَ وَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْبُخَارِيَّ وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنِ السَّمَّاكِ فَشَارَكَ الْبُخَارِيَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ الْمُنَادِي هَذَا الْحَدِيثَ، وَبَيْنَهُمَا فِي الْوَفَاةِ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ لَطِيفِ مَا وَقَعَ مِنْ نَوْعِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ أُقْرِئَكَ) أَيْ أُعَلِّمَكَ بِقِرَاءَتِي عَلَيْكَ كَيْفَ تَقْرَأُ حَتَّى لَا تَتَخَالَفُ الرِّوَايَتَانِ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ لِتَحَقُّقِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}
قَوْلُهُ: (فَذَرَفَتْ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَبْلَهَا الذَّالُ مُعْجَمَةٌ، أَيْ تَسَاقَطَتْ بِالدُّمُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي مَنَاقِبَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
99 - سُورَةُ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 - بَابُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
يُقَالُ: {أَوْحَى لَهَا} وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ
4962 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ. وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ. فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
2 - بَاب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
4963 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ إِذَا زُلْزِلَتْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): (بَابُ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إِلَخْ) سَقَطَ بَابُ قَوْلِهِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: {أَوْحَى لَهَا} يُقَالُ: أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قَالَ الْعَجَّاجُ: أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ وَالْمُوحَى إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْحَى لَهَا أَوْحَى إِلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ وَفِي آخِرِهِ فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْقِصَّةِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
100 - سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ، وَالْقَارِعَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَنُودُ الْكَفُورُ. يُقَالُ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} رَفَعْنَا بِهِ غُبَارًا. {لِحُبِّ الْخَيْرِ} مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْخَيْرِ. {لَشَدِيدٌ} لَبَخِيلٌ، وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ، {يَصِلُ} مُيِّزَ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَادِيَاتِ وَالْقَارِعَةُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَالْعَادِيَاتِ حَسْبُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَادِيَاتِ الْخَيْلُ، وَقِيلَ: الْإِبِلُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَنُودُ: الْكَفُورُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ الْكَفُورُ وَبِلِسَانِ كِنَانَةَ الْبَخِيلُ وَبِلِسَانِ كِنْدَةَ الْعَاصِي، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ الْكَنُودُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} رَفَعْنَ بِهِ غُبَارًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَيْلَ الَّتِي أَغَارَتْ صَبَاحًا أَثَرْنَ بِهِ غُبَارًا، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ لِلصُّبْحِ، أَيْ أَثَرْنَ بِهِ وَقْتَ الصُّبْحِ. وَقِيلَ لِلْمَكَانِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لَكِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِثَارَةُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَدْوِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعَادِيَاتُ. وَعِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا فَلَبِثَتْ شَهْرًا لَا يَأْتِيهِ خَبَرُهَا، فَنَزَلَتْ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} قَدَحَتِ الْحِجَارَةَ فَأَوْرَتْ بِحَوَافِرِهَا {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} صَبَّحَتِ الْقَوْمَ بِغَارَةٍ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} التُّرَابَ {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} صَبَّحَتِ الْقَوْمَ جَمِيعًا وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ أَحْسَنَ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ عَنِ الْعَادِيَاتِ فَقُلْتُ: الْخَيْلُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى عَلِيٍّ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قُلْتُ، فَدَعَانِي فَقَالَ لِي: إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ الْإِبِلُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ:
كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: هِيَ الْإِبِلُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هِيَ الْخَيْلُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُمَا نَحْوَهُ بِلَفْظِ: الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ وَالْخَيْلُ فِي الْجِهَادِ وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هِيَ الْإِبِلُ. وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا ضَبَحَتْ دَابَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَلْبٌ أَوْ فَرَسٌ.
قَوْلُهُ: {لِحُبِّ الْخَيْرِ} : مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْخَيْرِ، لَشَدِيدٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا فَسَّرَ اللَّامَ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ، أَيْ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى إِنَّهُ لَقَوِيٌّ مُطِيقٌ لِحُبِّ الْخَيْرِ.
قَوْلُهُ: {يَصِلُ} : مُيِّزَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أَيْ: مُيِّزَ، وَقِيلَ: جُمِعَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ:{يَصِلُ} أَيْ أُخْرِجَ.
101 - سُورَةُ الْقَارِعَةِ
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كَغَوْغَاءَ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. كَالْعِهْنِ: كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: كَالصُّوفِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ الْقَارِعَةِ) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} : كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ {كَالْفَرَاشِ} يُرِيدُ كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَرَاشُ طَيْرٌ لَا ذُبَابَ وَلَا بَعُوضَ، وَالْمَبْثُوثُ الْمُتَفَرِّقُ، وَحَمْلُ الْفَرَاشِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْلَى، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ بِالْفَرَاشِ كَثِيرًا كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْفَرَزْدَقَ مَا عَلِمْتُ وَقَوْمَهُ
…
مِثْلَ الْفَرَاشِ غَشِينَ نَارَ الْمُصْطَلِي
وَصَفَهُمْ بِالْحِرْصِ وَالتَّهَافُتِ، وَفِي تَشْبِيهِ النَّاسِ يَوْمَ الْبَعْثِ بِالْفَرَاشِ مُنَاسَبَاتٌ كَثِيرَةٌ بَلِيغَةٌ، كَالطَّيْشِ وَالِانْتِشَارِ وَالْكَثْرَةِ، وَالضَّعْفِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَجِيءِ بِغَيْرِ رُجُوعٍ، وَالْقَصْدِ إِلَى الدَّاعِي وَالْإِسْرَاعِ، وَرُكُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَالتَّطَايُرِ إِلَى النَّارِ.
قَوْلُهُ: {كَالْعِهْنِ} كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: كَالْعِهْنِ لِأَنَّ أَلْوَانَهَا مُخْتَلِفَةٌ كَالْعِهْنِ وَهُوَ الصُّوفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَالْعِهْنِ كَالصُّوفِ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَالصُّوفِ) سَقَطَ هَذَا لِأَبِي ذَرٍّ. وَهُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ.
102 - سُورَةُ أَلْهَاكُمْ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّكَاثُرُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
قَوْلُهُ: (سُورَةُ أَلْهَاكُمْ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ التَّكَاثُرِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمُّونَهَا الْمَقْبَرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّكَاثُرُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا يَدْخُلُ فِيهَا.
103 - سُورَةُ وَالْعَصْرِ
وَقَالَ يَحْيَى: الْعَصْرُ الدَّهْرُ أَقْسَمَ بِهِ
قَوْلُهُ: (سُورَةُ وَالْعَصْرِ) الْعَصْرُ: الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمًا وَلَيْلَةً
…
إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ الْحَسَنُ: الْعَصْرُ: الْعَشِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَاعَةٌ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى الْعَصْرُ: الدَّهْرُ أَقْسَمَ بِهِ) سَقَطَ يَحْيَى لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ، فَهَذَا كَلَامُهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرٌ ضَلَالٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا مَنْ آمَنَ) ثَبَتَ هَذَا هُنَا لِلنَّسَفِيِّ وَحْدَهُ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ الْمُسْنَدَةِ إِلَّا هَكَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، قَالَ: إِلَّا مَنْ آمَنَ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ أَرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا صَحِيحًا، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ مَشْرُوحًا.
104 - سُورَةُ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحُطَمَةُ اسْمُ النَّارِ، مِثْلُ سَقَرَ وَلَظَى قَوْلُهُ:(سُورَةُ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْهُمَزَةِ، وَالْمُرَادُ الْكَثِيرُ الْهَمْزِ، وَكَذَا اللَّمْزُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْهُمَزَةِ قَالَ: الْمَشَّاءُ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِخْوَانِ.
قَوْلُهُ: (الْحُطَمَةُ: اسْمُ النَّارِ، مِثْلُ سَقَرَ وَلَظَى) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: لَيُنْبَذَنَّ أَيِ: الرَّجُلُ وَمَالُهُ، فِي الْحُطَمَةِ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، كَقَوْلِهِ جَهَنَّمُ وَسَقَرُ وَلَظَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْأَكُولِ حُطَمَةٌ أَيِ: الْكَثِيرُ الْحَطْمِ.
105 - سُورَةُ أَلَمْ تَرَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ تَعْلَمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَبَابِيلَ} مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مِنْ سِجِّيلٍ} هِيَ سَنْكِ وَكِلْ
قَوْلُهُ: (سُورَةُ أَلَمْ تَرَ) كَذَا لَهُمْ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْفِيلِ.
قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَرَ: أَلَمْ تَعْلَمْ) كَذَا لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَلِلْمُسْتَمْلِيِّ أَلَمْ تَرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَمْ تَرَ: أَلَمْ تَعْلَمْ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَلَمْ تُخْبَرْ عَنِ الْحَبَشَةِ وَالْفِيلِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُدْرِكْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْفِيلِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
قَوْلُهُ: (أَبَابِيلَ: مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَبَابِيلَ قَالَ: شَتَّى مُتَتَابِعَةً، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهَا. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا أَبَالَةٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَقِيلَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ: أُبُولٌ كَعُجُولٍ وَعَجَاجِيلٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سِجِّيلٍ هِيَ سَنْك وَكِل) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَنْك وَكِل: طِينٌ وَحِجَارَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: هِيَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ سَنْك وَكِل. وَمِنْ طَرِيقِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مَعَهَا نَارٌ، قَالَ: فَإِذَا أَصَابَتْ أَحَدَهُمْ خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ رُئِيَ فِيهِ الْجُدَرِيُّ.
106 - سُورَةُ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لإِيلافِ} أَلِفُوا ذَلِكَ، فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، {وَآمَنَهُمْ} مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ لِإِيلَافِ) قِيلَ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقِصَّةِ الَّتِي فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِشَيْءٍ مُقَدَّرٍ أَيْ أَعْجَبُ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِإِيلَافِ أَلِفُوا ذَلِكَ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قَالَ: مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ فِي حَرَمِهِمْ) وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَالصَّيْفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لِإِيلَافِ: لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ) هُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِإِيلَافِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ إِلَّا ابْنَ عَامِرٍ فَحَذَفَهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِيلَافِهِمْ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فَكَالْأَوَّلِ، وَفِي أُخْرَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِحَذْفِ الْأُولَى الَّتِي بَعْدَ اللَّامِ أَيْضًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَعْبُدُوا لِمَا فِي السِّيَاقِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِنِعْمَتِهِ السَّالِفَةِ فَلْيَعْبُدُوهُ لِلِائْتِلَافِ الْمَذْكُورِ. الثَّانِي لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا الَّتِي قَبْلَهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، فَأَمَّا سُورَةُ الْهُمَزَةِ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} يَعْنِي بِفَتْحِ السِّينِ وَأَمَّا سُورَةُ الْفِيلِ فَفِيهَا مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ الطَّوِيلِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
قَوْلُهُ: (حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الشُّرُوطِ، وَفِيهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَلَمْ أَرَ فِيهَا حَدِيثًا مَرْفُوعًا صَحِيحًا.
107 - سُورَةُ أَرَأَيْتَ
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لِإِيلَافِ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَدُعُّ} يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ، يُقَالُ: هُوَ مِنْ دَعَعْتُ {يُدْعَوْنَ} يُدْفَعُونَ، {سَاهُونَ} لَاهُونَ، وَالْمَاعُونَ الْمَعْرُوفَ كُلُّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: الْمَاعُونُ الْمَاءُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ أَرَأَيْتَ) كَذَا لَهُمْ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: سُورَةُ الْمَاعُونِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَرَأَيْتُكَ الَّذِي يُكَذِّبُ قَالَ: وَالْكَافُ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى فِي إِثْبَاتِهَا وَحَذْفِهَا لَا يَخْتَلِفُ، كَذَا قَالَ، لَكِنِ الَّتِي بِإِثْبَاتِ الْكَافِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي، وَالَّتِي بِحَذْفِهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَدُعُّ يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ، يُقَالُ: هُوَ مِنْ دَعَعْتُ، يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ أَيْ يُدْفَعُونَ، يُقَالُ: دَعَعْتُ فِي قَفَاهُ أَيْ دَفَعْتُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يَدُعُّ الْيَتِيمَ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُعُ الْيَتِيمَ مُخَفَّفَةٌ، قُلْتُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَأَبِي رَجَاءٍ وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَدُعُّ: يَدْفَعُ الْيَتِيمَ عَنْ حَقِّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} قَالَ: يُدْفَعُونَ.
قَوْلُهُ: {سَاهُونَ} لَاهُونَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ: لَاهُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَذَلِكَ فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ
عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَوَلَيْسَ كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ؟ السَّاهِي: هُوَ الَّذِي يُصَلِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَالْمَاعُونُ: الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: الْمَاعُونُ: الْمَاءُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَةُ الْمَتَاعِ) أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَاعُونَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، حَتَّى ذَكَرَ الْقَصْعَةَ وَالدَّلْوَ وَالْفَأْسَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّ الطَّبَرِيَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْمَاعُونِ، قَالَ: الْمَالُ الَّذِي لَا يُؤَدَّى حَقُّهُ. قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: هُوَ الْمَتَاعُ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، قَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: هُوَ الدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَالْفَأْسُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا صَرِيحًا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: الْمَاعُونُ: هُوَ الْمَاءُ، وَأَنْشَدَ:
يَصُبُّ صَبِيرَةَ الْمَاعُونِ صَبًّا
قُلْتُ: وَهَذَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ وَصَبِيرَةُ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ رَاءٌ، وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ إِلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ.
108 - سُورَةُ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {شَانِئَكَ} عَدُوَّكَ
1 -
بَاب
4964 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ.
4965 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ: هُوَ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ. رَوَاهُ زَكَرِيَّا وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
4966 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
[الحديث 4966 - طرفه في: 6578]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هِيَ سُورَةُ الْكَوْثَرِ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ إِنَّا أَنْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ بِالنُّونِ، وَكَذَا قَرَأَهَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. وَالْكَوْثَرُ فَوْعَلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، سُمِّيَ بِهَا النَّهَرُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَآنِيَتِهِ وَعِظَمِ قَدْرِهِ وَخَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: {شَانِئَكَ} عَدُوَّكَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ النَّاقِلُونَ فِي تَعْيِينِ الشَّانِئِ الْمَذْكُورِ، فَقِيلَ: هُوَ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ: أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ الْمَبْعَثِ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ فِي أَوَاخِرِهَا، وَيَأْتِي بِأَوْضَحِ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَقَوْلُهُ لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ. هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ. وَسَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ آدَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ الْكَوْثَرُ وَالَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَأَهْوَى الْمَلَكُ بِيَدِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْ طِينِهِ مِسْكًا أَذْفَرَ وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ رِوَايَةً عَنْهَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: سَأَلْتُهَا) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قُلْتُ لِعَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مَاءُ الْكَوْثَرِ.
قَوْلُهُ: (هُوَ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ.
قُلْتُ: مَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَتْ: وَسَطُهَا انْتَهَى. وَبُطْنَانٌ: بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَوَسَطُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَعْلَاهَا أَيْ أَرْفَعُهَا قَدْرًا، أَوِ الْمُرَادُ أَعْدَلُهَا.
قَوْلُهُ: (شَاطِئَاهُ) أَيْ حَافَّتَاهُ.
قَوْلُهُ: (دُرٌّ مُجَوَّفٌ) أَيِ: الْقِبَابُ الَّتِي عَلَى جَوَانِبِهِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ زَكَرِيَّا، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَمُطَرِّفٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) أَمَّا زَكَرِيَّا فَهُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِيهِ، وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي الْأَحْوَصِ وَهُوَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ فَوَصَلَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ الْكَوْثَرُ: نَهَرٌ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ شَاطِئَاهُ دُرٌّ مُجَوَّفٌ؛ وَفِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ عَدَدُ النُّجُومِ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَهُوَ ابْنُ طَرِيفٍ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ.
قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ: إِنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. هَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ جَمَعَ بِهِ بَيْنَ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو بِشْرٍ، أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ صَرِيحًا أَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ النَّهَرُ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ الْكَوْثَرُ: نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْحَدِيثَ قَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ غَفَا إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ. فَقَرَأَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ نَهَرَ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ.
وَحَاصِلُ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَا يُخَالِفُ قَوْلَ غَيْرِهِ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّ النَّهَرَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَلَعَلَّ سَعِيدًا أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِعُمُومِهِ، لَكِنْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّهَرِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ.
وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْكَوْثَرِ أَقْوَالًا أُخْرَى غَيْرَ هَذَيْنَ تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ، مِنْهَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: الْكَوْثَرُ النُّبُوَّةُ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ: الْكَوْثَرُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: تَفْسِيرُهُ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ التَّوْحِيدُ، وَقِيلَ: كَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ، وَقِيلَ: الْإِيثَارُ، وَقِيلَ: رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: نُورُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ،
وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ؛ وَقِيلَ: إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَقِيلَ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِي أَمْرِ الْكَوْثَرِ، وَهَلِ الْحَوْضُ النَّبَوِيُّ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
109 - سُورَةُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
يُقَالُ: {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكُفْرُ {وَلِيَ دِينِ} الْإِسْلَامُ. وَلَمْ يَقُلْ: دِينِي لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَتْ الْيَاءُ كَمَا قَالَ: {يَهْدِينِ} وَ {يَشْفِينِ} وَقَالَ غَيْرُهُ: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ وَلَا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
قَوْلُهُ: (سُورَةُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَهِيَ سُورَةُ الْكَافِرِينَ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: الْمُقَشْقِشَةُ أَيِ الْمُبَرِّئَةُ مِنَ النِّفَاقِ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَكُمْ دِينُكُمُ: الْكُفْرُ، وَلِيَ دِينِ: الْإِسْلَامُ. وَلَمْ يَقُلْ دِينِي لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا قَالَ: يَهْدِينِ وَيَشْفِينِ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إِلَخْ) سَقَطَ وَقَالَ غَيْرُهُ لِأَبِي ذَرٍّ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْفَرَّاءِ بَلْ هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} كَأَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ وَيَعْبُدُونَ إِلَهَهُ فَقَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} الْآنَ، أَيْ لَا أَعْبُدُ الْآنَ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ وَتَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُفَّ عَنْ آلِهَتِنَا فَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَاعْبُدْ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَنَزَلَتْ وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يُورِدْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيَدْخُلْ فِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ أَلْزَمَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ لَمَّا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بِهَا فِي الْعِشَاءِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ لِإِيرَادِ هَذَا مَعْنًى هُنَا، وَإِلَّا لَلَزِمَهُ أَنْ يُورِدَ كُلَّ حَدِيثٍ وَرَدَتْ فِيهِ قِرَاءَتُهُ لِسُورَةٍ مُسَمَّاةٍ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ السُّورَةِ.
110 - سُورَةُ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 - بَاب
4967 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
2 - بَاب
4968 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وَهِيَ سُورَةُ النَّصْرِ. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آخِرِيَّةَ سُورَةِ النَّصْرِ نُزُولُهَا كَامِلَةً، بِخِلَافِ بَرَاءَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} نَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقِيلَ: عَاشَ بَعْدَهَا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَلَيْسَ مُنَافِيًا لِلَّذِي قَبْلَهُ بِنَاءً عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَاشَ بَعْدَهَا تِسْعَ لَيَالٍ وَعَنْ مُقَاتِلٍ: سَبْعًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ ثَلَاثًا، وَقِيلَ: ثَلَاثَ سَاعَاتٍ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ إِذَا جَاءَ فَتْحُ اللَّهِ وَالنَّصْرُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ. أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَفِي الْأُولَى التَّصْرِيحُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَفِي الثَّانِيَةِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَجْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي أَشْرَفِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ فَزَادَ فِيهِ عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي أَمَرَنِي رَبِّي إِذَا رَأَيْتُهَا أُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَالْفَتْحُ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} لِأَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِمِ الْأُمُورِ، فَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ثَلَاثًا. وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ. وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} الْآيَةَ.
قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَدْ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْوُضُوءِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ.
3 - بَاب قَوْلُهُ: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}
4969 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالُوا: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: أَجَلٌ أَوْ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وَسَأَذْكُرُ شَرْحَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
4 - بَاب قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ، وَالتَّوَّابُ مِنْ النَّاسِ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ
4970 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ. قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ. وَالتَّوَّابُ مِنَ النَّاسِ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ فِي مَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ) أَيْ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ عَادَةُ عُمَرَ إِذَا جَلَسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ فِي السَّابِقَةِ، وَكَانَ رُبَّمَا أَدْخَلَ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ مَزِيَّةً تَجْبُرُ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ) أَيْ غَضِبَ وَلَفْظُ وَجَدَ الْمَاضِي يُسْتَعْمَلُ بِالِاشْتِرَاكِ بِمَعْنَى الْغَضَبِ وَالْحُبِّ وَالْغِنَى وَاللِّقَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي يُلْقَى ضَالَّةً أَوْ مَطْلُوبًا أَوْ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ)؟ وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَانَ أُنَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَجَدُوا عَلَى عُمَرَ فِي إِدْنَائِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَفِي تَارِيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ نَحْوُهُ، وَزَادَ وَكَانَ عُمَرُ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِيبُوا. وَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْغُلَامِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فَتَكَلَّمِ الْآنَ مَعَهُمْ.
وَهَذَا الْقَائِلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِقَوْلِهِ بَعْضُهُمْ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ الْعَشَرَةِ كَمَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ كَانَ عُمَرُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِثْلَهُ أَيْ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، لَا فِي مِثْلِ فَضْلِهِ وَقَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ لَا أَعْرِفُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَلَدًا فِي مِثْلِ سِنِّ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ مُحَمَّدٌ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، لَكِنَّهُ مَاتَ صَغِيرًا وَأَدْرَكَ عُمَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَّا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ. لِأَنَّ أَبَاهُ تَزَوَّجَ أُمَّهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْمِثْلِيَّةِ غَيْرَ السِّنِّ، أَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَنَا مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فِي مِثْلِ سِنِّ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ) فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ مِمَّنْ عَلِمْتُمْ وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ لِعُمَرَ: أَلَا تَدْعُو أَبْنَاءَنَا كَمَا تَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: ذَاكُمْ فَتَى الْكُهُولِ، إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَئُولًا وَقَلْبًا عَقُولًا وَأَخْرَجَ الْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَا: قَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِهِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي عُمَرَ - يُدْنِيكَ، فَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يَسْمَعُ مِنْكَ كَذِبًا وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ بَدَلَ الثَّالِثَةِ، وَلَا تَبْتَدِئْهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلَكَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ) فِي رِوَايَةٍ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَدَعَاهُ وَفِي
غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَمَا رُئِيَتُ) بِضَمِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ فَمَا أَرَيْتُهُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا لِيُرِيَهُمْ) زَادَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مِنِّي أَيْ مِثْلَ مَا رَآهُ هُوَ مِنِّي مِنَ الْعِلْمِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَأُرِيكُمُ الْيَوْمَ مِنْهُ مَا تَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَهُ.
قَوْلُهُ: (مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا جَاءَ نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا) فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ قَالُوا فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ.
قَوْلُهُ: (وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِي أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَا تَقُولُ)؟ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: أَعْلَمَهُ مَتَى يَمُوتُ، قَالَ: إِذَا جَاءَ.
قَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} زَادَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَهُوَ آيَتُكَ فِي الْمَوْتِ وَفِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَجَلٌ أَوْ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ، نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَوَهِمَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ نُعِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسُهُ، فَأَخَذَ بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلِمَ أَنْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ الْوَدَاعُ.
وَسُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ الْكَشَّافِ: إِنَّ سُورَةَ النَّصْرِ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَكَيْفَ صُدِّرَتْ بِإِذَا الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ؟ فَأَجَبْتُ بِضَعْفِ مَا نَقَلَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالشَّرْطُ لَمْ يَتَكَمَّلْ بِالْفَتْحِ، لِأَنَّ مَجِيءَ النَّاسِ أَفْوَاجًا لَمْ يَكُنْ كَمُلَ، فَبَقِيَّةُ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ. وَقَدْ أَوْرَدَ الطِّيبِيُّ السُّؤَالَ وَأَجَابَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِذَا قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى إِذْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الْآيَةَ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَا تَقُولُ) فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ إِلَّا مَا تَعْلَمُ زَادَ أَحْمَدُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَتِهِمَا، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخِرِهِ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَى حُبِّ مَا تَرَوْنَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَأَلَهُمْ حِينَئِذٍ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَذَكَرَ جَوَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتِنْبَاطَهُ وَتَصْوِيبَ عُمَرَ قَوْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عُمَرَ قِصَّةٌ أُخْرَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَكِنْ أَجَابُوا فِيهَا بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ، الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَتَأْثِيرٌ لِإِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ وَيُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَحْدِيثِ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا لِإِظْهَارِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ لِيُنْزِلَهُ مَنْزِلَتَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ، لَا لِلْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا يُفْهَمُ مِنَ الْإِشَارَاتِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ فِي الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ.
111 - سُورَةُ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَبَابٌ: خُسْرَانٌ، تَتْبِيبٌ: تَدْمِيرٌ
1 - بَاب
4971 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهْ. فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَقَدْ تَبَّ هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ يَوْمَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ. وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى. وَأُمُّهُ خُزَاعِيَّةٌ. وَكُنِّيَ أَبَا لَهَبٍ إِمَّا بِابْنِهِ لَهَبٍ، وَإِمَّا بِشِدَّةِ حُمْرَةِ وَجْنَتِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ أَبَا لَهَبٍ لِأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ يَتَلَهَّبُ مِنْ حُسْنِهِ انْتَهَى.
وَوَافَقَ ذَلِكَ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ مِنْ أَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، وَلِكَوْنِهِ بِهَا أَشْهَرُ، وَلِأَنَّ فِي اسْمِهِ إِضَافَةً إِلَى الصَّنَمِ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ تَكْنِيَةِ الْمُشْرِكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ مَحَلُّ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ لَهُ أَوْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَاحَى أَبَا لَهَبٍ فَقَعَدَ أَبُو لَهَبٍ عَلَى صَدْرِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِضَبْعَيْ أَبِي لَهَبٍ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: كِلَانَا عَمُّكَ، فَلِمَ فَعَلْتَ بِي هَذَا؟ وَاللَّهِ لَا يُحِبُّكَ قَلْبِي أَبَدًا. وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ: لَوْ عَضَّدْتَ ابْنَ أَخِيكَ لَكُنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ. وَلَقِيَهُ فَسَأَلَهُ عَمَّنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ دِينٍ، فَغَضِبَ، وَتَمَادَى عَلَى عَدَاوَتِهِ. وَمَاتَ أَبُو لَهَبٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا بَلْ أَرْسَلَ عَنْهُ بَدِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى لِقُرَيْشٍ مَاتَ غَمًّا.
قَوْلُهُ: (وَتَبَّ: خَسِرَ. تَبَابٌ: خُسْرَانٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قَالَ: يَقُولُ: خَسِرَ وَتَبَّ أَيْ خَسِرَ وَمَا كَسَبَ يَعْنِي وَلَدَهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} قَالَ: فِي هَلَكَةٍ.
قَوْلُهُ: (تَتْبِيبٍ: تَدْمِيرٍ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أَيْ: تَدْمِيرٍ وَإِهْلَاكٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَعَ بَقِيَّةِ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفَوَائِدِهِ.
2 - بَاب {وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4972 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَنَادَى: يَا صَبَاحَاهْ. فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا تَبًّا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} إِلَى آخِرِهَا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ذَكَرَ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَوْلُهُ فِيهِ فَهَتَفَ أَيْ: صَاحَ. وَقَوْلُهُ: يَا صَبَاحَاهُ أَيْ: هَجَمُوا عَلَيْكُمْ صَبَاحًا.
3 - بَاب {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}
4973 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ مُخْتَصَرًا، مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟، فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ عَادَةَ الْمُصَنِّفِ غَالِبًا إِذَا كَانَ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أَنْ لَا يَجْمَعَهَا فِي بَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَجْعَلُ لِكُلِ طَرِيقٍ تَرْجَمَةً تَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ يُتَرْجِمُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ اكْتِفَاءً بِالْإِشَارَةِ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ.
4 - بَاب {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَمَّالَةُ الْحَطَبِ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يُقَالُ: مِنْ مَسَدٍ لِيفِ الْمُقْلِ، وَهِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ.
قَوْلُهُ: بَابُ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَقْرَأُ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بِالنَّصْبِ وَيَقُولُ: هُوَ ذَمٌّ لَهَا.
قُلْتُ: وَقَرَأَهَا بِالنَّصْبِ أَيْضًا مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَاصِمٌ. وَاسْمُ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ الْعَوْرَاءُ وَتُكَنَّى أُمَّ جَمِيلٍ، وَهِيَ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِدِ مُعَاوِيَةَ، وَتَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ فِي تَفْسِيرِ وَالضُّحَى، يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا أَرْوَى وَالْعَوْرَاءُ لَقَبٌ، وَيُقَالُ: لَمْ تَكُنْ عَوْرَاءَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِجَمَالِهَا.
وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} جَاءَتْ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَنَحَّيْتَ، قَالَ: إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَأَقْبَلَتْ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ هَجَانِي صَاحِبُكَ، قَالَ: لَا وَرَبَّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، مَا يَنْطِقُ بِالشِّعْرِ وَلَا يَفُوهُ بِهِ. قَالَتْ: إِنَّكَ لَمُصَدَّقٌ. فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَتْكَ. قَالَ: مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى وَلَّتْ. وَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِنَحْوِهِ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قِيلَ لِامْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا هَجَاكِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَنِي أَحْمِلُ حَطَبًا، أَوْ رَأَيْتَ فِي جِيدِي حَبْلًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَتْ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ تَنِمُّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتْ تَنِمُّ فَتُحَرِّشُ فَتُوقِدُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، فَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا الْحَطَبَ.
قَوْلُهُ: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يُقَالُ مِنْ مَسَدٍ: لِيفِ الْمُقْلِ، وَهِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ) قُلْتُ: هُمَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قَالَ: هِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ، وَيُقَالُ: الْمَسَدُ لِيفُ الْمُقْلِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قَالَ: مِنْ حَدِيدٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فِي عُنُقِهَا حَبْلٌ مِنْ نَارٍ، وَالْمَسَدُ عِنْدَ الْعَرَبِ حِبَالٌ مِنْ ضُرُوبٍ.
112 - سُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ: لَا يُنَوَّنُ. {أَحَدٌ} أَيْ وَاحِدٌ
1 - بَاب
4974 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَيُقَالُ لَهَا: أَيْضًا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَجَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ وَلَا شَيْءَ يَمُوتُ إِلَّا يُورَثُ، وَرَبُّنَا لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} شِبْهٌ وَلَا عِدْلٌ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مُرْسَلًا وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ، وَصَحَّحَ الْمَوْصُولَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَالطَّبَرِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: لَا يُنَوَّنُ أَحَدٌ أَيْ وَاحِدٌ) كَذَا اخْتَصَرَهُ، وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: اللَّهُ أَحَدٌ لَا يُنَوَّنُ، كُفُوًا أَحَدٌ أَيْ: وَاحِدٌ انْتَهَى. وَهَمْزَةُ أَحَدٍ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدٍ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فَإِنَّ هَمْزَتَهُ أَصْلِيَّةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الَّذِي قَرَأَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ يَقُولُ: النُّونُ نُونُ إِعْرَابٍ إِذَا اسْتَقْبَلَتْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ حُذِفَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ انْتَهَى. وَقَرَأَهَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ أَيْضًا نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَمْرُو الْعُلَى هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
الْأَبْيَاتَ. وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ إِذَا اسْتَقْبَلَتْهَا أَيْ إِذَا أَتَتْ بَعْدَهَا. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا حُذِفَ التَّنْوِينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ. كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) لِشُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرَاهُ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا أَحْسَبُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ) سَأَذْكُرُ شَرْحَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب قَوْلُهُ {اللَّهُ الصَّمَدُ} وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا الصَّمَدَ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدَدُهُ
4975 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} كُفُوًا وَكَفِيئًا وَكِفَاءً وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ اللَّهُ الصَّمَدُ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا الصَّمَدُ). وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، فَعَلَى هَذَا هُوَ فَعَلٌ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ
…
بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ) ثَبَتَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ هُنَا، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، فَوَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قُلْتُ: وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ مِمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
قَوْلُهُ: (كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَذَّبَنِي عَبْدِي.
قَوْلُهُ: (وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) ثَبَتَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَسَقَطَ بَقِيَّةُ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَكَذَا النَّسَفِيُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ بَنِي آدَمَ، وَهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالدَّهْرِيَّةِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا مِنَ الْعَرَبِ أَيْضًا وَمِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
قَوْلُهُ: (أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ) كَذَا لَهُمْ بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ أَمَّا وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَنْ يَقُولَ: فَلْيُعِيدُنَا كَمَا بَدَأَنَا وَهِيَ مِنْ شَوَاهِدِ وُرُودِ صِيغَةِ أَفْعَلَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَلَيْسَ بِأَوَّلِ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ مِنْ إِعَادَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ أَهْوَنَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى هَيِّنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْجُهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدُ) فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ وِزَانُ مَا قَبْلَهُ. وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَلَمْ يَكُنْ لِي بَعْدَ قَوْلِهِ لَمْ يَلِدْ وَهُوَ الْتِفَاتٌ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ قَدِيمًا مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، وَكَانَ كُلُّ مَوْلُودٍ مُحْدَثًا انْتَفَتْ عَنْهُ الْوَالِدِيَّةُ، وَلَمَّا كَانَ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يُجَانِسُهُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ صَاحِبَةٌ فَتَتَوَالَدُ انْتَفَتْ عَنْهُ الْوَالِدِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا بَدَلَ قَوْلِهِ: وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ إِلَخْ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّحَابِيَّيْنِ حَفِظَ فِي آخِرِهِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ نَسَبَ غَيْرَهُ إِلَى أَمْرٍ لَا يَلِيقُ بِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَتَمَهُ، وَسَبَقَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ تَقْرِيرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (كُفُوًا وَكَفِيئًا وَكِفَاءً وَاحِدٌ) أَيْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْأَوَّلُ بِضَمَّتَيْنِ، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ الْهَمْزَةُ، وَالثَّالِثُ بِكَسْرِ الْكَافِ ثُمَّ الْمَدِّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كُفُوًا يُثَقَّلُ وَيُخَفَّفُ، أَيْ يُضَمُّ وَيُسَكَّنُ.
قُلْتُ: وَبِالضَّمِّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَفَتَحَ حَفْصٌ الْوَاوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَبِالسُّكُونِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَبِهَمْزٍ فِي الْوَصْلِ وَيُبَدِّلُهَا وَاوًا فِي الْوَقْفِ، وَمُرَادُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهَا لُغَاتٌ لَا قِرَاءَاتٌ نَعَمْ رُوِيَ فِي الشَّوَاذِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِكَسْرٍ ثُمَّ مَدٍّ، وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِثْلُهُ لَكِنْ بِغَيْرِ مَدٍّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُمَاثِلْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يُشَاكِلْهُ، أَوِ الْمُرَادُ نَفْيُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ نَفْيًا لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِنَفْيِ الْمُكَافَأَةِ عَنْ ذَاتِهِ تَعَالَى.
113 - سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَلَقُ الصُّبْحُ. وَ {غَاسِقٍ} اللَّيْلُ. {إِذَا وَقَبَ} غُرُوبُ الشَّمْسِ
يُقَالُ: أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ. {وَقَبَ} إِذَا دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ
4976 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، وَعَبْدَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 4976 - طرفه في: 4977]
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ الْفَلَقِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَلَقُ الصُّبْحُ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَغَاسِقٍ: اللَّيْلِ، إِذَا وَقَبَ: غُرُوبُ الشَّمْسِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ: اللَّيْلُ إِذَا دَخَلَ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ) هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَلَفْظُهُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الْفَلَقُ الصُّبْحُ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَفَرَقَ الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَبَ: إِذَا دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ) هُوَ كَلَامُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّ الْغَاسِقَ: الْقَمَرُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، قَالَ: هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَاصِمٌ) هُوَ ابْنُ بَهْدَلَةَ. الْقَارِئُ وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ.
قَوْلُهُ: (وَعَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ أَبِي لُبَابَةَ بِمُوَحَّدَتَيْنِ الثَّانِيَةُ خَفِيفَةٌ وَضُمَّ أَوَّلُهُ.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ) سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَيُشْرَحُ ثَمَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
114 - سُورَةُ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْوَسْوَاسِ} إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عز وجل ذَهَبَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهَ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ.
4977 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ح. وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. قَالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وَتُسَمَّى سُورَةُ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوَسْوَاسُ إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عز وجل ذَهَبَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهُ أَوْلَى لِأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَفِي إِسْنَادِهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَفْظُهُ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا عَمِلَ فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ وَرَوَيْنَاهُ فِي الذِّكْرِ لِجَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَلَفْظُهُ: يَحُطُّ الشَّيْطَانُ فَاهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ.
وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَالشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِهِ، فَإِذَا عَقَلَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ وَجَاثِمٌ بِجِيمٍ وَمُثَلَّثَةٍ، وَعَقَلَ الْأُولَى بِمُهْمَلَةٍ وَقَافٍ وَالثَّانِيَةُ بِمُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ. وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: سَأَلَ عِيسَى عليه السلام رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنَ ابْنِ آدَمَ فَأَرَاهُ، فَإِذَا رَأْسُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْحَيَّةِ، وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى ثَمَرَةِ الْقَلْبِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ. وَإِذَا تَرَكَ مَنَّاهُ وَحَدَّثَهُ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُنْظَرُ فِي قَوْلِهِ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ خَنَسَ إِذَا رَجَعَ وَانْقَبَضَ. وَقَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَتَغْيِيرٌ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ نَخَسَهُ أَيْ بِنُونٍ، ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَاتٌ، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي الْمَاضِيَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى عليه السلام قَالَ: لَكِنِ اللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ نَخَسَ، فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، كَذَا قَالَ: وَادَّعَى فِيهِ التَّصْحِيفَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ أَنَّهُ نَخَسَ، وَالتَّفْرِيعُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَخُصَّ الْحَدِيثَ بِابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ، وَمَعْنَى يَخْنِسُهُ يَقْبِضُهُ أَيْ يَقْبِضُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْوَسْوَاسُ هُوَ الشَّيْطَانُ، يُولَدُ الْمَوْلُودُ وَالْوَسْوَاسُ عَلَى قَلْبِهِ فَهُوَ يَصْرِفُهُ حَيْثُ شَاءَ، فَإِذَا ذُكِر اللَّهُ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ جَثَمَ عَلَى قَلْبِهِ فَوَسْوَسَ.
وَقَالَ الصَّغَانِيُّ: الْأُولَى خَنَسَهُ مَكَانَ يَخْنِسُهُ قَالَ: فَإِنْ سَلِمَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ التَّصْحِيفِ فَالْمَعْنَى أَخَّرَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَكَانِهِ لِشِدَّةِ نَخْسِهِ وَطَعْنِهِ بِإِصْبَعِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ) الْقَائِلُ وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ هُوَ سُفْيَانُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُمَا تَارَةً وَيُفْرِدُهُمَا أُخْرَى، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَبْدَةَ، وَعَاصِمٍ لَهُ مِنْ زِرٍّ.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ) هِيَ كُنْيَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى أَبُو الطُّفَيْلِ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ كَذَا وَكَذَا) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ مُبْهَمًا، وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَبْهَمَهُ اسْتِعْظَامًا لَهُ. وَأَظُنُّ ذَلِكَ مِنْ سُفْيَانَ فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ كَذَلِكَ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَوَّلًا أَنَّ الَّذِي أَبْهَمَهُ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّنِي رَأَيْتُ التَّصْرِيحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ أَخَاكَ يَحُكُّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَكَأَنَّ سُفْيَانَ كَانَ تَارَةً يُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَتَارَةً يُبْهِمُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ بِلَفْظِ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِلَفْظِ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِبْهَامٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ الْأَعْمَشُ: وَقَدْ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ الَّذِي فِي الْبَابِ الْمَاضِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَفِي آخِرِهِ يَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا قَالَ الْبَزَّارُ. وَلَمْ يُتَابِعِ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَهُمَا فِي الصَّلَاةِ.
قُلْتُ: هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَزَادَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَفُوتَكَ قِرَاءَتُهُمَا فِي صَلَاةٍ فَافْعَلْ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَاقْرَأْ بِهِمَا. وَإِسْنَادُهُ
صَحِيحٌ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَمْ يُنْكِرِ ابْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ لَا يَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ شَيْئًا إِلَّا إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ فِي كِتَابَتِهِ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَدْفَعُ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. نَعَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى الْمُصْحَفِ فَيَتَمَشَّى التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ. وَقَالَ غَيْرُ الْقَاضِي: لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ غَيْرِهِ فِي قُرْآنِيَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِمَا انْتَهَى.
وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ أَبْهَمَ مَا بَيَّنَهُ الْقَاضِي. وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الطُّرُقِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا لِلْحَدِيثِ اسْتَبْعَدَ هَذَا الْجَمْعَ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهُمَا شَيْئًا كَفَرَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ سَبَقَهُ لِنَحْوِ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ فِي أَوَائِلِ الْمُحَلَّى: مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ إِنْكَارِ قُرْآنِيَّةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَهُوَ كَذِبٌ بَاطِلٌ. وَكَذَا قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِهِ: الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذِبٌ بَاطِلٌ.
وَالطَّعْنُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَا يُقْبَلُ، بَلِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ وَالتَّأْوِيلُ مُحْتَمَلٌ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ إِنْ أَرَادَ شُمُولَهُ لِكُلِّ عَصْرٍ فَهُوَ مَخْدُوشٌ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِقْرَارَهُ فَهُوَ مَقْبُولٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ: وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُوا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِرُّ. قَالَ: وَنَحْنُ الْآنَ نُكَفِّرُ مَنْ جَحَدَهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، ثُمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَوْضِعَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فَقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَوْنَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ مُتَوَاتِرًا فِي عَصْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَزِمَ تَكْفِيرُ مَنْ أَنْكَرَهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَوْنَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَمْ يَتَوَاتَرْ فِي عَصْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَزِمَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَوَاتَرْ. قَالَ: وَهَذِهِ عُقْدَةٌ صَعْبَةٌ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاتِرًا فِي عَصْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَانْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قِيلَ لِي قُلْ، فَقُلْتُ. قَالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الْقَائِلُ فَنَحْنُ نَقُولُ إِلَخْ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَيْضًا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، لَكِنِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَعَلَّهُ انْقَلَبَ عَلَى رَاوِيهِ. وَلَيْسَ فِي جَوَابِ أُبَيٍّ تَصْرِيحٌ بِالْمُرَادِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنَ الْقُرْآنِ غُنْيَةً عَنْ تَكَلُّفِ الْأَسَانِيدِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ التَّفْسِيرِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا، الْمَوْصُولُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ حَدِيثٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، الْمُكَرَّرُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ مِنْهَا مِائَةُ حَدِيثٍ وَحَدِيثٍ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِ بَعْضِهَا وَلَمْ يُخَرِّجْ أَكْثَرَهَا لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَةً فِي الرَّفْعِ، وَالْكَثِيرُ مِنْهَا مِنْ تَفَاسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهِيَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي الْفَاتِحَةِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وَحَدِيثُ ابْنِ
عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ لَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي تَفْسِيرِ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وَحَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي نُزُولِ {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} وَحَدِيثُ عُثْمَانَ فِي نُزُولِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَسْبُنَا اللَّهُ، وَحَدِيثُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَحَدِيثُهُ كَانَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ.
وَحَدِيثُهُ فِي {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وَحَدِيثُهُ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَحَدِيثُهُ فِي نُزُولِ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وَحَدِيثُهُ فِي نُزُولِ {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي النِّفَاقِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ، وَحَدِيثُهَا عَنْ أَبِيهَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي نُزُولِ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وَحَدِيثُ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ مَعَ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ:{خُذِ الْعَفْوَ} وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي تَفْسِيرِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الصُّمُّ الْبُكْمُ، وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَفِيهِ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ، وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي {هَيْتَ لَكَ} وَ {بَلْ عَجِبْتَ} ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ عِضِينَ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْكَهْفِ وَمَرْيَمَ مِنْ تِلَادِي، وَحَدِيثُهُ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي {الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي نُزُولِ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَابِ إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ أَدْبَارِ السُّجُودِ، وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ (اللَّاتِ).
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي نُزُولِ {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} وَحَدِيثُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي فَضْلِ الْأَنْصَارِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وَحَدِيثُهُ فِي ذِكْرِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} وَحَدِيثُهُ فِي تَفْسِيرِ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِ ذِكْرِ الْكَوْثَرِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ خَمْسُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ أَثَرًا تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.